المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان - مجلة المنار - جـ ١١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (11)

- ‌المحرم - 1326ه

- ‌فاتحة السنة الحادية عشرة

- ‌الدعوة إلى انتقاد المنار

- ‌شرط الاشتراك

- ‌ما هي اللغة

- ‌الدين الإسلامي والمدنية

- ‌كلمات عن العراق وأهله

- ‌أسئلة من الحجاز

- ‌إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانيةوفي سائر البلاد [*]

- ‌فقيد الصحافة والوطنيةمصطفى باشا كامل

- ‌تاريخ العرب والإسلامفي سلك القصص والروايات

- ‌29 صفر - 1326ه

- ‌احتفال السوريين بحافظ أفندي

- ‌إنجيل برنابا.. مقدمتنا له

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تنبيه للمستفتين

- ‌خديجة أم المؤمنين(1)

- ‌ربيع الأول - 1326ه

- ‌صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام

- ‌اليمنسبب فتنتها وإمام الزيدية فيها

- ‌المؤتمر الإسلامي

- ‌الرد على اللورد كرومر

- ‌القرآن والعلم(1)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌الجامعة المصرية

- ‌مصاب مصر بقاسم بك أمين

- ‌مصافحة السوريين للمصريين

- ‌تصحيح غلط

- ‌خديجة أم المؤمنين(2)

- ‌ربيع الآخر - 1326ه

- ‌ترجمة القرآن

- ‌سد يأجوج ومأجوج

- ‌حكم صور اليد والصور الشمسية

- ‌الوقف على المساجد والمدارس

- ‌السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر

- ‌القرآن والعلم(2)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌خديجة أم المؤمنين(3)

- ‌جمادى الأولى - 1326ه

- ‌المسلمون والقبط

- ‌النقوط

- ‌حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة

- ‌زيارة الحرم النبويواستئذان ملك الموت على النبي

- ‌الرد على كتاب لورد كرومر

- ‌القرآن والعلم(3)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌شكر المنار على تأبين ذكاء الملك

- ‌البرهان الصريحفي بشائر النبي والمسيح

- ‌نادي دار العلوم

- ‌القبور المشرفة والتماثيل للموتى

- ‌خديجة أم المؤمنين(4)

- ‌جمادى الآخر - 1326ه

- ‌عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية

- ‌القانون الأساسي والخط السلطاني به

- ‌مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية

- ‌القرآن والعلم(4)

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌ الأخبار والآراء

- ‌خديجة أم المؤمنين(5)

- ‌رجب - 1326ه

- ‌الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه

- ‌وجه المرأة الحرة

- ‌احترام المسلم لشعائر غَيْرِه الوطنية والدينية

- ‌حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأمة العثمانية والدستور

- ‌المجلس النيابي لمصر

- ‌كيف نستعمل الحرية [*]

- ‌خديجة أم المؤمنين(6)

- ‌شعبان - 1326ه

- ‌أسئلة من روسيا

- ‌التعبير عن الملائكة والجن بالقوىومعرفة حقيقتهم

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌أبو حامد الغزالي [*](5)

- ‌رسالة التوحيد

- ‌كتاب أبي معشر

- ‌سَفر صاحب المجلة

- ‌مكاشفة في أول ولاية السلطان عبد الحميد ومدتها

- ‌الاحتفالات بالدستور العثماني

- ‌احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين

- ‌الصحف في البلاد العثمانية

- ‌البرنامج السياسي لجمعية الاتحاد والترقي

- ‌رمضان - 1326ه

- ‌من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](1)

- ‌العمل [

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*]

- ‌تسامح الدين الإسلامي

- ‌جريدة النظام

- ‌تصحيح وبيان

- ‌شوال - 1326ه

- ‌ترجمة الخنساء [*]

- ‌إعجاز القرآن

- ‌من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](2)

- ‌البلاد العربية والسكة الحجازية [*]

- ‌السنن والأحاديث النبوية

- ‌حادثة صاحب المجلة بطرابلس الشام

- ‌الدولة العلية وبلغاريا والنمسا

- ‌ذو القعدة - 1326ه

- ‌الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان

- ‌الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*](3)

- ‌افتتاح مجلس المبعوثان

- ‌إصلاح التعليم الديني في الآستانة

- ‌رحلة صاحب المنار في سوريا(2)

- ‌خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان

- ‌ذو الحجة - 1326ه

- ‌خطب ودروس صاحب المنار في هذه الديار [*]

- ‌من بحث الكرامات

- ‌صدى حادثة الشام

- ‌الانقلاب العثماني

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌جواب مجلس المبعوثانعن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان [*]

- ‌رحلة صاحب المنار في سوريا(3)

- ‌تصحيحوقعت أغلاط في الجزأين 11 و12 وهذا بيانهافتصحح بالقلم

- ‌خاتمة السنة الحادية عشرة

الفصل: ‌الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان

الكاتب: موسيو رينيه ميليه

‌الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان

؟ [*]

إني اخترت موضوع البحث في الإسلام لأول مرة في مؤتمر إفريقية الشمالية

لسببين: الأول أن المسألة الإسلامية هي مركز دائرة جميع المسائل في إفريقية

الشمالية؛ وذلك لأن هذه المسألة مهمة في إفريقية أكثر منها في البلاد الإسلامية

الأخرى؛ إذ كان بين الإسلام والنصرانية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط

نضال قديم، ومازال أثره باقيًا في القلوب. والثاني لأننا نحن الفرنسيين نعيش

مع المسلمين في تونس والجزائر ونحن مضطرون إلى الاختلاط بأهلهما لارتباطنا

معهم بمصالح دائمة.

إن الهند الإنكليزية فيها زهاء أربعين مليونًا من المسلمين؛ ولكن الإنجليز لا

يختلطون بهم اختلاطًا دائمًا، وفي مصر، وهي أكثر بلاد الإسلام مدنية، لا يختلط

الإنكليز كذلك بأهلها اختلاطًا يفضي إلى الاستعمار الحقيقي، والأوربيون لا يقطنون

سوى المدن الكبيرة، وليس لهم من العلاقات مع سكان القرى ما للمستعمرين منا مع

العنصر الوطني في مستعمراتنا الإفريقية على أن المسألة الإسلامية يجب أن تتقدم

على غيرها من المسائل الأخرى التي يبحث فيها المؤتمر بقطع النظر عما تقدم.

لا يكون الاستعمار موطد الأركان قائم البنيان إلا إذا أمكننا الوصول إلى طريقة

تجعلنا على صفاء ووداد مع أهل الدين الإسلامي، الذي يربط الأمم المختلفة

الأجناس والمشارب المنتشرة بين المحيط الأطلانطيقي وخليج قابس.

ويجب أن نضيف إلى هذا الاعتبار اعتبارًا آخر أكبر منه شأنًا وأعمَّ فائدةً،

وهو أن ظنون الغربيين بالأمم الأخرى قد بدأت تتغير تمامًا، وأذكر أنني كنت أسمع

وأنا يافع أن الأمم الآسيوية لا تقوم لها قائمة، وأنها ستبقى رازحة تحت أعباء

الانحطاط والجمود، وفي الغالب كانوا يلصقون التهمتين معًا بها على ما فيهما من

التناقض، إذ حينما توجد حركة تأخر لا بُدَّ وأن تتبعها حركة تقدم. وقد كان من

الأمور التي لا نزاع فيها أن الصين أمة جامدة، وأن اليابان أمة ليس لها إلا مدنية

سطحية، وأن الهند لا يمكن أن تصلح شئونها، وكانوا يتهمون الإسلام بهذه التهم

نفسها، وإن الذين هم في سن موافقة يذكرون أن الغربيين كانوا يرددون نظرية

مؤداها أن المسلمين في جمود تام بسبب اعتقادهم في التوكل والقضاء والقَدَر،

ولست في حاجة إلى القول بأن هذه التهم التي كانت تجسمها كبرياء الغربيين قد تبين

فسادها، فإن المدافع التي أطلقت في موكدن دوت في أقاصي آسيا، وأصبحت الأمم

التي كنا حكمنا عليها بالموت والجمود يقظة نامية، سواءٌ كانت في الصين أو الهند

الصينية أو الهند الإنكليزية أو في إيران، التي أخذ أهلها يطلبون دستورًا، وها هي

الآستانة ظهرت فيها حركة أهلية أدهشت العالم بأجمعه، وما كان يخطر ببال طلبة

مدرسة العلوم السياسية أنه سيطرأ تغيير على برنامج دراستهم، وهو الأمر الذي

أصبح لا بُدَّ منه الآن بعد أن تغيرت المسألة الشرقية ودخلت في طور جديد.

وإننا إزاء هذا الانقلاب الذي حصل لا نجد بُدًّا من التساؤل عن الجمود الذي

وصفوا به الإسلام، إذ قد يكون شبيهًا بتهمة الخمول التي ألصقوها باليابان، وما

لبثت أن اضمحلّتْ وظهر بطلانها! !

وإني لا أريد أن أذكر انتشار الإسلام، لأنه هو الدين الوحيد الذي ينتشر

ويزداد أهله بسرعة في آسيا وإفريقية، على حين أن الأديان الأخرى بقيت واقفة

عند حد محدود لا تتجاوزه ألبتة، وقد أصبحت هذه المسألة لا نزاع فيها، ولكن ماذا

تقولون إذا أَثْبَتُّ لكم أن الإسلام شرع يطبق العلوم الحديثة ويستفيد منها؟ ومن ذلك

أنه أنشأ بقوته الذاتية وبالمهندسين المسلمين ذلك الخط الحديدي العظيم الممتد بين

دمشق والمدينة المنورة، الذي يبلغ طوله 1300 كيلو متر! ! وماذا يقول اليوم

فطاحل الفلاسفة الذين قالوا: إن أهل الإسلام مصابون بنوع مخصوص من أنواع

مرض النوم؟ ماذا يقولون الآن إذا علموا أن المسلمين تبرعوا بمقدار ثمانين مليونًا

من الفرنكات مما أنفق عليه؟

وإن لفرنسا فائدة كبرى بالاشتراك في هذا البحث العظيم.

فإذا كانت مدنية الإسلام هي تلك المدنية الجامدة المزعومة، فيجب علينا إذ

ذاك أن نعامل هؤلاء المسلمين الذين نحن مرتبطون بهم بسياسة الضغط والشدة خلافًا

لما جبلنا عليه من انعطافنا لجميع الناس إزاء ما يبدو من حركاتهم أو يظهر فيهم من

روح الحروب الصليبية التي بقيت بكيفية غربية كامنة في صدور المسلمين حتى

البعيدين عن الدين منهم (؟) ومن الأمور المدهشة أن الإنسان قد يلاقي في فرنسا

أناسًا مازالوا محافظين على بقية مِن أوهام الحروب الصليبية ضد المسلمين.

وأما إذا اعتقدنا في الحركات التي تجلت في كل مكان عكس ذلك، فمن

الواجب أن نمد أيدينا بحرية إلى شعوبنا الإسلامية ونَقُودها معنا في طريق المدنية،

وهذه النقطة هي التي أريد أن أبحث فيها اليوم أمامكم.

إن أمامنا طرقًا لحل هذه المسألة الكبرى.

فمنها الطريقة التي يمكنني أن أسميها الطريقة المباشرة، وهي أن نفتح القرآن

وكُتُب السنة، ونستخلص منهما النصوص التي تثبت أن المؤمنين الصادقين في كل

عصر يهشون للعلوم ويقبلون عليها. منذ عهد غير بعيد جاءني كتاب من أحد

المسلمين الجزائريين، وهو السيد عبد السلام بن شعيب، فرأيت فيه بعض تلك

النصوص، مثل:(الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها) و (اطلبوا العلم ولو

بالصين) وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار.

هذه الطريقة تصلح لإقناع قومنا بأن الإسلام يحث على العلم، ولكن هناك

عقبتين تقفان في سبيل نجاحها (الأولى) أنني وزملائي الذين يدافعون عن الإسلام

لسنا بِحُجَّةٍ في تفسير الآيات والأحاديث واستخلاص المبادئ الإسلامية الصحيحة

منها. (والثانية) أن المتدينين لا يتبعون دائمًا ما ترمي إليه نصوص دينهم، بل

كثيرًا ما يحيدون عنها، ويأخذون بأقوال الفقهاء والشراح الذين يذهبون في أقوالهم

كل مذهب، فلا يكفي أن ينص الدين على شرف العلم، ليكون أبناء ذلك الدين

راغبين فيه مقبلين على تحصيله.

وهناك طريقة أخرى، وهي الطريقة التاريخية:

في اعتقادي أن خطأ المشتغلين منا بالإسلام هو درس هذا الدين مستقلاًّ عن

الظروف التي كانت محيطة بظهوره، فلو عرفنا كيف كانت حال العالم حين ظهر،

لوقفنا على أسباب انتشاره المدهش.

إن الذي ساعد الإسلام على الانتشار هو ما قرره الإمبراطور بيزانطين في

القرن الثالث للمسيح، من جعل المسيحية دين الحكومة، وقد جر هذا القرار على

الدولة البيزنطية من المشاكل أعقدها.

ولقد كان الدين الروماني القديم دين حكومة أيضًا، ولكنه كان دينًا يبتلع

الديانات الأخرى، بمعنى أن روما كانت كلما تغلبت على أمة، جعلت آلهتها آلهة

لروما. وبخلاف ذلك كانت الحال في بيزنطية، ومنذ اليوم الذي استخدم فيه

الإمبراطور السيف لنشر الدين انفتح في وجه الدولة البيزنطية باب الآلام والهموم،

ولو أعدتم النظر في تاريخ القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح لوجدتم

الإمبراطرة متوفرين على توحيد الدين وموجهين إليه كل قوى الدولة، وفي ذلك

كان تضعضع ملكهم وانقراضه. فكم أهرقت دماء في سبيل كل عقيدة من عقائد

المسيحية، وكم من مقاطعة ضيعها الإمبراطور على إثر كل قرار كان يصدر من

مجمع (نيقة) .

وإن مسألة طبيعة المسيح عليه السلام أو مسألة الأقانيم التي نعتقدها الآن بكل

سكينة واطمئنان قد سالت من أجلها دماء غزيرة، ونشأت من الجدال فيها حروب

هائلة - هذا وإنه قد بلغ من عناية الحكومة بنشر الدين أنها غفلت عن احتياجاتها

الأولية، فاحترمت الصوامع ورفعت عن أهلها الخدمة العسكرية وعافتهم من دفع

الضرائب.

فلم يكد يدخل القرن السادس حتى كانت الدولة في غاية الضعف وملئت

جوانبها بالخلافات الدينية.

إذًا فما هو الإسلام؟ الإسلام دين جاء بخلاف كل ذلك، فقد اعتاض عن تعدد

درجات الإدارة بسلطة واحدة يرجع إليها الحل والعقد في كل الأمور، ولم يقرر شيئًا

من وساطة القسيسين بين الآلهة والشعب، ولم يسن نظام الصوامع، وقضى على

عادة العزوبة التي كانت متبعة مستفيضة بين المسيحيين في ذلك العصر، وقضى

أيضًا على عادة التنسك والخروج من الدنيا، فقرر الاشتغال بالدنيا والآخرة معًا،

وبالجملة فقد أتى الإسلام بنظام مضاد للنظام المسيحي في ذلك العهد، ملائم لحاجات

الناس، وهذا هو سر غلبته على الدين المسيحي.

ثم إن الإسلام أرجع الدين إلى حاله الطبيعية، ولم يَأْتِ بشيء من تلك العقائد

المسيحية الفلسفية، بل قال بكل وضوح:(لا إله إلا الله) ، وبذلك خلا الإسلام من

ذلك الاعتقاد الذي قسم الدول الأوربية، والذي جعل أهل مصر وآسيا الصغرى في

حالة استياء من تسلط الدولة البيزنطية.

وكيف لا تميل هذه الشعوب الساخطة إلى أهل الإسلام وهم يعلنون أنهم أهل

التسامح مع مخالفيهم في الدين، لا يطلبون منهم إلا ضريبة يستعينون بها على

إصلاح شئونهم وشئون الدولة الإسلامية، ولقد بلغ الأمر بأحد الولاة إلى تثبيط

دخول الذِّمِّيِّين في الإسلام بدلاً من أن يرغبهم فيه أو يكرههم عليه؛ لأن إسلامهم

يقلل من دخل بيت المال.

ومن هذا الوصف التاريخي الموجز يمكنكم أن تتصوروا كيف نضبت ينابيع

الحياة في الدولة البيزنطية، وأنتم تعرفون كيف انتشرت عادة التنسك والتقشف مع

أنها لم تقلل من فساد الأخلاق - ويمكنكم أن تدركوا كيف أن التبعة الآسيوية اعتبرت

ظهور الإسلام إيذانًا بنجاتهم وسعادتهم.

وأذكر أني أيام كنت أدرس تاريخ الإسلام كان الأساتذة يقررون سرعة انتشاره

من دون إيقافنا على أسبابه، وغاية ما كانوا يذكرونه هو أن طبيعة العرب طبيعة

حربية، وأن خيولهم جيدة، تكاد تسبق ظلالها! ! مع أن الحقيقة أن الفتوحات

العربية كانت على البغال، إلا أن العرب أتوا بعقيدة سهلة التناول، لا تثقل الجندي

المجاهد، ثم إنهم فوق ذلك أَتَوْا متشبعين برُّوح التسامح، وذلك هو سر الانقلاب

العظيم الذي أعطاهم ملك آسيا وإفريقية ونصف إسبانيا:

وإذا كان ذلك كذلك أدركتم ما تبع هذه النهضة من الأعمال الجليلة.

أتى العرب بعقائد سهلة ملائمة للفطرة وأعطوا الحياة الدنيا قسطها من الاعتبار،

فترقت العلوم والفنون والآداب باجتهادهم الذي عجز عنه المسيحيون الذين

عاصروهم، وإني لَيُخَيَّلُ إِلَيّ أنه كانت على أبصار مَسيحيِّي القرون الوسطى غشاوة

من تنسك منعتهم من إدراك الأشياء على حقائقها.

وقد جاء العرب في الوقت نفسه بمبدأ في البحث جديد، مبدأ يتفرع عن الدين

نفسه، وهو مبدأ التأمل والبحث.

ثم هل تعرفون بأي كتاب من كتب العهد العتيق كان يتعلق المسلمون؟

كان اهتمامهم بكتاب أرسطو أكثر منه بخيالات أفلاطون، نعم كان كل

اهتمامهم بكتاب ذلك الحكيم المدقق، وواضع أساس العلم في الحقيقة، ثم إنهم مالوا

إلى الاشتغال بعلوم الطبيعة وبرعوا فيها، وهم الذين وضعوا أساس علم الكيمياء،

وقد وجد فيهم كبار الأطباء - ولفرط تقديرهم للحياة الدنيا نبغ فيهم الشعراء

المجيدون الذين قالوا شعرًا إذا وصفناه بأنه أرضي؛ فذلك لأنه قريب من العقول،

يغذيها وينعمها، وإنه أفضل من خيالات شعراء القرون الوسطى بألف مرة، فأين

هذه الحياة من تخبط الغرب المسيحي في تماثيله وأوهامه وانزوائه! !

هذا؛ وإني لا أطيل القول في الشيء المشهور من أن الحضارة العربية بلغت

شَأْوًا عظيمًا في بغداد وقرطبة، وإنما يسرني أن أبحث في أسباب هذه المدنية

الراقية وحدودها.

وإليكم أول ما يتبادر إلى ذهن الباحث النزيه، وهو أن الإسلام أعطى أشهى

ثمرة لما سرت إليه روح المدنية القديمة خالصة من الشوائب.

ففي بغداد استفاد الإسلام قوته السياسية من تلك المدنية الفارسية التي قاومت

عوادي الزمان، والتي نشأ فيها من الفلاسفة والعلماء عدد عظيم، وكذلك في إسبانيا،

حصل تمازج بين الروح الإسلامية والروح اللاتينية، وسأبين لكم الآن أن افتراق

هاتين الروحين كان وبالاً عليهما معًا.

كان الباحثون في الإسلام يعتقدون أن الدين نظام كامل لا يتبدل ولا يتغير،

فيكفي أن يدرس مستقلاً عن كل عامل أجنبي عنه للوقوف على قيمته، ولكن الحقيقة

أن كل دين يستمدّ جُلّ قوّته من العوامل الأجنبية التي كان له معها شأن، ومن مقدار

قبول الدين نفسه لتأثير هذه العوامل. وإن لي كلمة على دولة الإسلام في الأندلس

التي فتحها مسلمو إفريقية الشمالية: انظروا إلى قرطبة، تلك المدينة التي سقطت

الآن إلى حضيض الهوان والفقر، وانظروا إليها لما كانت في عهد الدولة العربية،

عامرة آهلة يبلغ عدد سكانها زهاء خمس مائة ألف نسمة، وعدد مساجدها ثلاثة

آلاف، وعدد منازلها مائة وثلاثة عشر ألفًا عدا ثلاث مائة من الحمامات العامة، ثم

إذا أردتم أن تقفوا على أخلاق أمراء المسلمين في تلك الدولة، ودرجة آدابهم ورُقِيِّهم

، فإليكم صورة الوصية التي تركها عبد الرحمن الأول، أحد خلفاء قرطبة لابنه،

وقد اخترتها عفوًا من بين المستندات الكثيرة التي تتعلق بتاريخ الإسلام في إسبانيا:

(اعلم يا بُنَيّ أن المُلْك بِيَدِ الله يؤتيه مَن يشاء، وينزعه مِمَّنْ يشاء، فاحْمَدِ

اللهَ على أن وهبنا مُلْكَ الأندلس، فعليك بتقوى الله وطاعته، واعمل خيرًا مع الناس

كافّة ، وخصوصًا أولئك الذين وكل الله شئونهم إليك، وسَاوِ في حُكْمِكَ وقَضَائِكَ بين

الفقراء والأغنياء، ولا تُوَلِّ أًُمُورَ الناس إلَاّ مَن عَرَفْتَ فيهم الحكمةَ والخبرة،

وعامِلْ جُنْدَكَ بِالشّدّة واللِّين معًا، ليكونوا حماة الدولة لا عونًا للظلمة مِن الحكام.

وواجب عليك أن تظل الزراع بحمايتك، وأن تودهم بمعونتك؛ لأنهم مورد حياتنا،

واحرص على محبة الرعية لك وتعلقهم بك) ، إلخ.

إني أود أيها السادةُ أنْ أسمع مثل هذه الوصية من رئيس وزارتنا في زمننا هذا،

ولا أفكر في وصف ما كان يجري في بلادنا في القرن العاشر، أي العصر الذي

قال فيه الخليفة عبد الرحمن هذا القول، لأني أخشى أن تتهموني بعمل مقارنة تشوه

سمعة العالم المسيحي، وتظهره بمظهر مخجل.

لبثت هذه المدنية التي أتت بالمدهشات، والتي لا يزال الناس في حيرة من

أمرها زاهية زاهرة ثَمَانِ مِائَة سنةٍ. فتح العرب الأندلس في سنة أو سنتين، ثم لم

تنتزع من أيديهم إلا بعد ثمانية قرون من حكمهم. أليس ذلك مما يدعو إلى العجب،

وإذا أضفنا إلى هذه المدة المائتين أو الثلاث مائة سنة التي اتسعت فيها دولة الأتراك

وبلغت شأوًا بعيدًا من العظمة الحربية، علمنا أن الدول الإسلامية ظلت صاحبة

السيادة على العالم مدة ألف سنة تقريبًا، وهي مدة تناهز عمر الدولتين اليونانية

والرومانية.

ولكن ثَمَّة أمرًا يرتبط بالموضوع الذي نبحث فيه الآن (موضوع التوفيق بين

المسلمين) وهو نتائج ما جرى في القسطنطينية وما جاورها من شواطئ البحر

الأبيض وفي الأندلس من تعارف الإسلام والمسيحية وتآلفهما.

ابتدأ هذا التعارف في الأندلس بعد فترة قصيرة من الفتح الإسلامي، ولا

يفوتنكم أن ما يرويه القصاصون من الجهاد بين النصارى والمسلمين في إسبانيا لا

يطابق الحقيقة في جملته، لأنهم يمثلون (السيد) في قصة ألفها (كورنيل) بطلاً

مقدامًا أعده قومه لمجاهدة الكفار (يريد المسلمين) ، في حين أن الحقيقة هي أن هذا

البطل إنما قدم نفسه لخدمة المسلمين وحارب في صفوفهم، ومات وهو بين

المسلمين يحارب أعداءهم. إن المستقرئ لأطوار العلاقات بين النصارى وأمراء

الإسلام في الأندلس يعلم أن الأمراء المسيحيين كانوا يستشيرون أطباء المسلمين إذا

أصابهم أو أصاب أبناءهم مرض، وكثيرًا ما كانوا يفدون إلى قصور الخلفاء

ويقيمون بها حتى يتمَّ شفاؤهم، فترون أيها السادة أن هذه العادات تناقض بتة ما

يرجف به القصاصون من خرافة الحرب الصليبية الخالدة بين النصارى والمسلمين.

لقد لزم مسلمو الأندلس التسامح مع النصارى ومودّتهم حتى في الدور الذي

اضمحلت فيه دولتهم، وأخذ أمراء المسيحيين ينقصونها من أطرافها، فإذا أتيح

لأحدكم أن يتجول في أنحاء إسبانيا الآن، يمكنه أن يقف على آثار العرب هناك،

وعلى بقايا ما شيدوه في دور اضمحلالهم، ليستخلص من دراسة تلك الآثار أن

الأندلس كانت بلاد غنى ورفاهة، حتى في دور تضعضع سلطان المسلمين،

ويدهش من أنها كانت في ذلك العهد أيضًا بلاد تسامح وتساهل.

في هذا العهد كانت دولة غرناطة زهرة أوربا، وكان كل من يريدون أن

يستنشقوا نسيم الحرية المدنية يذهبون إلى تلك البلاد فارّين من البلاد التي كان

يحكمها الأمراء المسيحيون، وهي مهد القسوة والظلم، هنالك يعاقب الأمراء من

يأسرونهم في ساحة الحرب بإلقائهم إلى كلاب مفترسة تمزق أجسامهم إرْبًا إرْبًا.

لم يكن ذلك مقصورًا على الأندلس، بل كان بين المسلمين والمسيحيين

علاقات متينة محكمة، لبثت من انتهاء الحروب الصليبية إلى فتح القسطنطينية.

فإنكم تعلمون أيها السادة أن عظمة البندقية وجنوه في العصور الوسطى راجعة إلى

تجارتها مع الشرق، وتعلمون ما استفدناه من احتكاكنا بالمسلمين إذ ذاك، فقد كان

لنا كثير من البيوت التجارية في فلسطين وسوريا واليونان، ولا يخفاكم أن من

أسعدهم الحظ من الغربيين بازدياد احتكاكهم بالمسلمين كان يسري إليهم كثير من

عاداتهم وأخلاقهم الشريفة، حتى قلقت الكنيسة الكاثولكية على أبنائها من سريان

روح الإسلام إليهم ونظرت بعين الخوف إلى تنازع المبادئ الإسلامية والمسيحية،

وخصوصًا إلى مبدأ التسامح الذي كان آفتهم وعدوهم اللدود! !

هذا؛ وإن هناك حقيقة يجب أن نبينها، وهو أنه في هذه الفترة التي تعارف

فيها المسلمون والمسيحيون، أي من انتهاء الحرب الصليبية إلى فتح القسطنطينية،

في هذه الفترة التي تعارفت فيها المدنيتان المسيحية والإسلامية - كان الإسلام هو

العنصر المؤثر والعالم الأوربي هو العنصر المتأثر، فكانت أوربا تجلب من

المشرق كل ما كانت تحتاج إليه من المصنوعات والمنسوجات وضروب الرفاهة،

حتى لم يعد في إمكانها أن تدفع ثمن كل ما تشتريه، ومن ذلك تعلمون أن سبب اندفاع

أمراء أوربا في سبيل اقتناء الذهب بأية وسيلة، راجع في الأكثر إلى فقر أوربا

وإعوازها من الحاصلات التي تتبادلها مع تجار المشرق.

هذا من جهة الماديات، وأما من جهة العلوم والآداب، فإن أوربا لبثت ثلاث

مائة سنة تقتبسها من الإسلام، وكانت المدنية الغربية تجني ثمارهما اليانعة.

ولكن حادثين عظيمين أوقفا سير ذلك التيار الكهربائي الذي كان يحيط بالبحر

الأبيض المتوسط وهما: استيلاء الأتراك على القسطنطينية سنة 1453؛ واستيلاء

الإسبانيين على غرناطة سنة 1492.

فمن ذلك اليوم قامت حرب الأحقاد الدينية، حتى إنك ترى آثار التعصب

الإسباني في تاريخ عرب الأندلس كالنقطة السوداء في الصحيفة البيضاء الناصعة،

ولا سيما في ذلك الوقت الذي حالف فيه الأمير يوسف جماعة القسيسين. وفي رأيي

أن تعصب الإسبانيين كان أفظع وأقل عذرًا، لأنه جاء في زمن كانت القوة والعدد

لهم. وأن الاستيلاء على غرناطة، الذي يفتخر به الإسبانيون، والذي يحسبونه

يجمل عصر فرديناند وإيزابلا، لم يكن في الحقيقة إلا عملاً وحشيًّا بربريًّا لم أعهد

في التاريخ أقبح منه، خصوصًا وإن إمارة غرناطة لم تكن لتهدد إسبانيا في شيء

لاستيلائها على ما حواليها من الأراضي والمدن، وإنما كانت غرناطة عروس

إسبانيا وزينتها - ولا بُدَّ أن يكون الأكليروس الإسباني أو الطليطلي رأى أن يمحق

هذا الجمال ويزيل المدنية البديعة خدمة للمسيحية، والمسيحية بريئة منه.

والأدهى من ذلك أن المسيحيين كانوا أعطوا وعودًا قبل الدخول ولكنهم

أخلفوها، وجمعوا الكتب الجليلة وأحرقوها فتلذذوا بمنظرها، وظنوا أنهم بعملهم هذا

قد قضوا على دين المسلمين وآدابهم. ثم إنهم أمروا المسلمين أن يدخلوا في

المسيحية كافة، ولما لم يجابوا إلى طلبهم جمعوهم زمرًا زمرًا وحبسوهم في غرف

واسعة ورشوهم بالماء، إشارةً إلى تعميدهم وتنصيرهم! ثم لما رأوا أن هؤلاء

المسلمين المتنصرين لا يزالون يغتنون طمعوا في أموالهم وصاروا يظلمونهم مِن آنٍ

لآخر. ومن ذلك ما وصل إلينا من أوامر فيليب الثاني التي يحرم عليهم فيها لبس

الثياب العربية واستعمال اللغة العربية، والاستحمام في الحمامات العامة، والسبب

في هذا الأمر الأخير أن الكنيسة الإسبانية كانت ترى الاستحمام جُرْمًا لا يُغْفَرُ! ! !

ولقد زرت غرناطة ورأيت آثار تلك الحمامات المحكمة البناء البديعة النقوش

التي أمر فيليب الثاني بتهديمها حقدًا منه على المسلمين ومطاوعة لاعتقاد الكنيسة

الإسبانية أنها مأوى الشياطين! ! في هذه الحمامات كان العرب يتنظفون وبها

يتطيبون، مع أننا نلاقي مصاعب عظيمة في تعويد بني وطننا على عادة الاستحمام

النافع، وإنكم تعلمون كيف طرد المسلمون المجبرون على التنصر من وطنهم سنة

1610 ، ثم كيف خانهم أصحاب السفن فألقوا متاعهم في البحر وأنزلوهم في أرض

لا أنيس بها.

وبذلك انقلب الإسلام المتمدن بربريًّا، نعم لما انفرد الإسلام بنفسه، بينما

كانت أوربا تخطو خطوات واسعة وتَرْقَى درجات عالية، أصبح كشجرات الزيتون

المشوهة التي نراها في جبال تونس، فهي غليظة الجزع ولكنها تثمر ثمارًا غير

جيدة.

هذا؛ ولا تظنوا أن أوربا لم تتأثر من مفارقة المدنية الإسلامية، فإنها بدأت

تشعر اليوم بالنقص - ثم هل نحن في حاجة إلى بيان ما وصلت إليه أوربا من

الرقي، وما انعكس من تقدمها على البلاد الأجنبية؟

إلا أنها في علاقاتها مع الأجانب عنها كانت فظّة غليظة القلب، ويكفي أن

أذكركم بفظائع دخول الإسبانيين أمريكا لتتبينوا بأنفسكم قيمة المسيحي أيام طرد

العرب من إسبانيا، ولقد ضاع رشد الإسباني حتى لم يعد يدرك معنى الحياة فيقود

الأمم الأجنبية.

ولو أنكم تطالعون تاريخ الاستعمار في القرنين الأخيرين لتمثلت لكم روح

الظلم والعدوان، ولرأيتم أن اتساع سلطة أوربا وانتشار نفوذها إنما كان باسترقاق

السود وتعذيبهم، ولرأيتم أن غرضها إنما كان جمع المال، لا تتحرج من إتيان الشر

والاعتساف، كل ذلك جاءها من مغادرة الإسلام لها وافتراقه عنها - ولقد بلغ من

غلوها في الظلم والاعتساف أنها رأت في بعض الأحايين أنه لا يستقيم لها بلد إلا إذا

استأصلت أهله وأهلكتهم، وهكذا فعلت إنكلترا في أمريكا.

نعم إن براعة الأوربيين قد ظهرت في المسائل المادية، فترقت العلوم والفنون

والصناعات بين أيديهم. ثم إنهم تحملوا المشاق وقاموا بالأعمال الجسام، ولكنهم

عجزوا في كل وقت عن أن يفقهوا مدنية أجنبية عن مدنيتهم، وأن يقفوا على كُنْه

عقول ليست من عقول إخوانهم في الجنس، وقد أدركوا اليوم ضلالهم في خطتهم

الأولى وشرعوا يتلمسون خطة جديدة غايتها تقدير نفوس الأهلين الأصليين ومعرفتها

معرفة صادقة.

فهذا التفسير التاريخي كافٍ لإيقافكم على أسباب ارتقاء الإسلام تارة، وأسباب

أفول نجمه تارة.

إني أيها السادة أتبع في بحثي هذا الطريقة التاريخية، فلا أقصره على

الوجهتين الدينية والفلسفية؛ لأننا إذا قصرنا أبحاثنا على ذلك انسدَّ أمامنا مجال

البحث وعجزنا عن الوصول إلى حقائق الأشياء، فجدير بنا إذن أن نتتبع الأدوار

التاريخية التي مر بها الدين لنعرف طبيعته واستعداده للارتقاء.

آن لنا أن نحكم على بعض الأجناس من البشر بأنها تقبل الارتقاء والمدنية،

ولكن إذا رأينا أمة كان لها في خلال العصور مدنية زاهية زاهرة، فمن الظلم أن

نحكم على تلك الأمة بالسقوط الأبدي وباستحالة يقظتها وارتقائها؛ لأن الأمة التي

أمكنها أن تنهض في وقت ما يمكنها أن تعيد عهد نهضتها في المستقبل.

يقولون: إن عقيدة القضاء والقدر هي السبب في استحالة ارتقاء المسلمين،

ويهمني أن أتناول في بحثي هذه المسألة التي طال عليها القدم، والتي قال العلماء

وكتبوا فيها كثيرًا. أليس فيما يقولونه عن هذه العقيدة شيء صحيح؟ وما هو تأثير

تلك العقيدة التي يفهم الناس منها أنها تحمل صاحبها على الاستسلام للحوادث من

غير أن يبدي مقاومة لها؟

إلا أن مبدأ القضاء والقدر لم يختص به الإسلام، بل قررته المسيحية بصفة

أوضح وأجلى، فإذا قلنا: إن سبب انحطاط المسلمين تقرير دينهم لهذا المبدأ، فماذا

نقول عنه في المسيحية؟

إن لكم أن تسألوني لماذا لم يؤثر هذا المبدأ في أبناء المسيحية؟ وإني أبدأ

الجواب بقولي: إن هذا المبدأ مبدأ الاستسلام للحوادث قد كان له أثر فعال في حياة

المسيحيين فترة من الزمن، ولكني أجيب عن هذا السؤال متبعًا الطريقة التاريخية

التي توخيتها في هذا البحث، وهي أن كل دين لا يثمر ولا تبدو نتائجه من نفسه،

بل لا تظهر قيمته إلا بعد أن ينتحله شعب من الشعوب.

فالمسيحية ظهرت في ربوع الشام، تلك البلاد الغنية الجميلة، ولكن انتحلها

أقوام أشداء بعيدون عن طور الحضارة في بلاد ذات هواء قاس، تحدو بأهلها إلى

إجهاد أنفسهم، فلم يأخذوا من المسيحية إلا ما يلائم طبائعهم ويتفق مع أخلاقهم

الشديدة، وكذلك كان الأمر في الإسلام، إذ لم يعرف المسلمون الأولون الاستسلام

للحوادث، بل كانوا لا يتركون من يعتدي عليهم من غير أن يثأروا منه لأنفسهم،

وتلك كانت حالهم في زمن الفتوحات، فلما سرى إليهم الضعف والانحلال أصبحوا

قومًا جبريين، يتركون المصائب تنزل بهم وتعمل فيهم ولا يقدرون على الخلاص

منها، مكتفين بالتسلي، وقولهم:(كل ذلك كان في الكتاب مسطورًا) فالمبادئ

الدينية تفسرها الأمم بحَسَب ما توحيه إليها طبائعها وأخلاقها، فتأخذ أشكالاً متباينة،

ولذلك تكون في عصر ما سببًا في ارتفاع الأمة وفي عصر آخر عاملاً من عوامل

انحطاطها.

أفل نجم المدنية الإسلامية بعدما أثمرت وأينعت فترة طويلة من الزمن، ولكن

هذه المدنية تكفيها نفحةٌ من نسيم الحياة الجديدة لتسترجع جمالها وعظمتها وجدتها.

أيها السادةُ: إذا كان الإسلام قد أخطأ فخطؤه في تلك السذاجة التي اختص بها

من دون الأديان، والتي لم تأت على ما كان يقصد منها. لست أدري إن كان لنا أن

نقول عن تلك الميزة: إنها خطأ، فقد كانت في العصور الوسطى نعمة على

المسلمين، إلا أنها انقلبت ضررًا فيما بعد.

إن الإسلام لم يتوسع في مبادئه وقواعده ولم يحللها تحليلاً يتناول أصول

الأشياء وفروعها، سواء كان ذلك في دائرة الفكر أو في دائرة العمل، انظروا مثلاً

إلى نظام الخلافة في صدر الإسلام: كان الخلفاء يقومون بأعباء الخلافة كلها أو

يسندونها كلها إلى عمالهم في الولايات، فلم يكونوا متبعين قاعدة تقسيم العمل في

إدارة شئون الدولة كما هي الحال في الممالك الحديثة، بل كان الأمير أو القائد البعيد

عن رئيسه ينوب عنه في جميع مظاهر سلطته، وهو نظام كامل في عهد الفتوحات

والحروب، ولكنه مستحيل إذا جاء طور الحضارة وتشعبت الأعمال، فلا يعود في

إمكان فرد واحد أن يمثل السلطة العليا التي أنابته في فروعها كافة.

وإذا أردتم أن تقفوا على أضرار هذا النظام، فانظروا إلى الطريقة المتبعة

الآن في مراكش لجباية الأموال والضرائب، تجدوا أن وظيفة الجباية أشق الوظائف

وأصعبها، فإن قائد الجند هو الموكل بالجباية، ولا يمثل السلطان إلا بقيادته للجيش

؛ ولذلك لا يمكنه أن يجبي الأموال إلا إذا سار بجيشه نحو القبائل، فيصادف كثيرًا

من المشاق والمتاعب في سبيل القيام بوظيفة نقوم بها نحن على أسهل الطرق، لِمَا

لدينا من مصالح منتظمة نقيد فيها الحسابات، فلا يحدث في الجباية ارتباك وتعقيد

ألبتة.

إني أذكر أن سلطان مراكش السابق قضى حياته في الحروب الداخلية،

قضاها على ظهر جواده متنقلاً من قبيلة إلى أخرى، كل ذلك ليصل إلى جباية

الضرائب، في حين أن الذين يقومون بهذه الوظيفة في بلادنا مثلاً هم جباة من آحاد

الناس يؤدونها وهم بمنجاة من التعب والنصب.

فبالطرق النظامية التي نتبعها لا نحتاج في جباية الضرائب إلى إزهاق

الأرواح، بل يكفينا أن نتبع الوسائل النظامية التي تتكفل القوة العامة بحمايتها

وتحقيق غايتها.

هذا هو خطأ الإسلام في دائرة العمل، على أن هذا الخطأ - إن صح أن

نُسَمِّيَهُ كذلك - ليس مما لا يمكن تداركه، فإن تلك الصِّبْغَة العامة اللينة التي اتصفت

بها مبادئ الإسلام هي التي جعلته يقبل ضروب المدنية ولا ينافيها، بل يقابلها

بصدر رحيب؛ ولذلك ترون المسلمين المستنيرين لا ينفرون من النظامات التي

أنبتتها مدنيتنا، بل ترونهم يقبلون عليها ولا يجدون من دينهم حرجًا في اتباعها.

أما في دائرة الفكر فينقص الإسلام أمر واحد لم يحرم منه في عهد عزه، بل

في العصور الأخيرة، وهي طريقة التحليل العلمي، طريقة توزيع العلوم حتى

يسهل على كل فريق أن ينبغ فيما انتدب له، وإنه يحضرني الآن مثال على ذلك:

كنت منذ عهد بعيد مشتغلاً بالبحث عن حال المسلمين الفكرية، وأدى بي

البحث مرة إلى محادثة بعض علماء المسجد الأكبر في تونس. اجتمعت معهم خُفْيَةً؛

لأن المسلمين والفرنسيين كانوا لا ينظرون بعين الارتياح إلى التقرب بين زعماء

كل من المدنيتين، فقلت لأحد أولئك العلماء:

(كيف تفسرون أن كلياتكم كانت زاهية زاهرة في العصور الوسطى، وأنها

أمدت أهل أوربا إذ ذاك بالعلوم والمعارف، ثم أصبحنا الآن أعلى منكم كعبًا في

العلوم كافَّة - حاشا الدين - وسبقناكم في هذا الميدان بمراحل؟

إن السبب الذي أُرَاهُ هو أنكم متبعون الآن نفس الطريقة التي كنا نتبعها في

القرون الوسطى، إنكم لا تتبعون نظام التقسيم في العلوم، وتخصيص كل فريق

بفرع منها، بل يعمل كل منكم معتقدًا أن في إمكانه تحصيل العلوم كلها، أما نحن

فقد وصلنا إلى درجة راقية في العلوم باتباعنا طريقة تحليل العلوم وتوزيعها، وكما

أننا أمكننا أن نخرج من حالنا السابقة، فيمكنكم أنتم أيضًا أن تخرجوا من حالكم

الحاضرة إلى حال أرقى منها باتباعكم هذه الطريقة نفسها) .

لقد شاهدت بنفسي أيها السادة أهل تونس يقبلون على العلوم الحديثة وآنست

فيهم صفات ومواهب ساعدتهم على الارتقاء في هذا المضمار. وكأن محادثتي مع

علماء تونس وترغيبي إياهم في اتباع الطرق الحديثة لتحصيل العلوم، دينية كانت

أو غير دينية، قد أثمرت وأتت بالنتيجة المبتغاة؛ لأنها حركة إصلاحية ابتدأت في

تونس، وسيكون لها مستقبل كبير.

أسست في حاضرة تلك البلاد جمعية بمساعي بعض التونسيين النيرين دعوها

الجمعية الخلدونية، نسبة إلى المؤرخ المغربي الشهير عبد الرحمن بن خلدون، وقد

وجهت اهتمامي إلى تأسيسها، وأخذت أساعدها ورغبت رؤساءها في أن يقصروها

على الأعضاء المسلمين، وكان غرضي من ذلك أن أثبت درجة استعداد الإسلام

لتلقي العلوم الحديثة، وكفاءة المسلمين لتلقين إخوانهم ثمار هذه العلوم.

ولقد سبقني إلى هذا الموضوع الذي أخطب فيه الآن أحد علماء المسجد الأكبر،

وأحد أعضاء هذه الجمعية، فطفق يسرد الأدلة على اتفاق الإسلام مع المدنية

الحديثة، وعلى مقتضى آرائه في هذا الموضوع رسمت الجمعية خطتها ولا تزال

تسير بمقتضاها إلى الآن.

ولا يفوتني أن أذكر لكم الصعوبات التي يلاقيها القائمون بالحركة الإصلاحية

من أنصار القديم، فإنه وإن كان أهل الرأي والبصيرة من المسلمين يرون اتفاق

الإسلام مع فضائل التمدن الغربي سهلاً، فإن هناك فريقًا كبيرًا يطعن على هذه

الحركة ويحاربها. فكر أعضاء هذه الجمعية في تجنب الاندفاع في قلب نظام التعليم

القديم، فلم ينشئوا دار الجمعية في مسجد الزيتونة، بل تركوا المسجد على نظامه،

وأقاموا بجواره هذه الدار. وإنما تركوا المسجد حتى لا يثيروا عليهم سخط الجمهور.

حييت الجمعية وانتشر مبدؤها بالرغم من المعاكسات التي اعترضتها في مبدأ

أمرها؛ لأن كل إصلاح لا بُدَّ وأن يلاقي في طوره الأول معارضة، ولقد كثر

أعضاء هذه الجمعية، وصار طلبة مسجد الزيتونة بعد أن يتلقنوا العلوم فيه على

الطرق التقليدية، يفدون إلى دار هذه الجمعية فيستنيرون بما يُلْقَى فيها من العلوم

الحديثة، وإن هذه الجمعية لا تزال في مهدها، ولكن من المحقق أن سيكون لها في

نهضة الإسلام يَدٌ طُولَى، فيتحقق مبدأ القائلين: إن الإسلام لا ينافي المدنية.

بقيت مسألة جديرة بأن نبحث فيها، وهي ما يتخوفه بعضنا من قرب إحداق

خطر تيقظ المسلمين بنا. وإني معبر لكم عن آرائي في هذه المسألة بالصراحة التي

سمعتموها في جميع النقط التي تناولها بحثي اليوم.

إن هناك أمرًا يجب أن نقف على حقيقته، وهو هل نقدر على إيقاف تيار هذه

النهضة الإسلامية؟ وهل في وسعنا أن نقضي عليها؟

اعلموا أيها السادة أن هذه النهضة إذا قويت وكملت، بعد أن كنا محاربين لها،

فلا بُدَّ أن تنقلب علينا وتتجه ضدنا، وتتم على ما لا نرضاه وما لا يتفق مع

صالحنا ألبتة.

ليست نهضة الإسلام بالأمر الهيّن، وليست الجزائر وتونس هما البلدين اللذين

ينهض فيهما الإسلام، بل هناك مصر التي حدثتكم عنها، والتي خطت خطوة كبرى

في نهضتها، وهناك كثير من البلاد الأخرى التي حيي فيها الإسلام حياة جديدة.

على أن هناك اعتبارًا أشرف من هذا الذي ذكرته لكم يدعونا إلى أن لا ننظر

بعين الكره والسخط إلى يقظة المسلمين، وهو أن هذه الحياة الجديدة التي ابتدأ

يسري روحها في العالم الإسلامي من شأنها أن تقرب بين العالمين المسيحي

والإسلامي، وتوفق بين المدنيتين الغربية والشرقية.

يقول بعضهم: إذا كنا نفرض أن المسلمين يسيرون في طريق المدنية الغربية

سيرًا حثيثًا، فلماذا نعتبر أن ستكون هناك مدنيتان؟ ولماذا لا تفنى المدنية الإسلامية

في جسم المدنية الغربية، مادام المسلمون يأخذون العلوم عنا، ولأن العلوم هي

أساس كل مدنية؟ على أني لا أشارك أصحاب هذا الرأي في رأيهم؛ لأن العلم له

دائرة محدودة لا يتعداها، وما وراء هذه الدائرة توجد أفكار ومعتقدات لها تأثير كبير

في أحوال الشعوب، وهذه المعتقدات هي دائرة الدين.

إن الذين يقفون على الحركة العلمية في بلادنا يعتقدون أن العلم يعترف بوجود

دائرة مجهولة لا تزال بعيدة عن مداركه، فقد ابتدأ الفلاسفة والعلماء يوضحون تلك

الحقيقة الثابتة، وهي أن العلم مهما اتسعت دائرته فلا يزال أمامه عالَم غامض،

ومهما استجلى العلم من حقائق ذلك العالم فستظل دائرة المجهول أوسع بكثير من

دائرة المعلوم.

إنه لا يمكن للعلم أن يمحوَ سلطان الأديان على النفوس مادام عالم ما وراء

المادة مكتنفًا بالمدهشات، وعلى ذلك فلا أرى حدًّا لبقاء الدين الإسلامي، ذلك الدين

الذي أتى بأحسن العقائد وأكثرها ملائمة للفطرة، والذي سعد حظه بأن امتد ظله

على ضفاف البحر الأبيض تحت سماء صافية الأديم لم تتلبد بالغيوم، كما تلبدت

سماء بلادنا في الزمن السالف، فظل نوره متلألئًا في تلك البلاد المتنائية الأطراف

ولم تقدر الحوادث على إطفاء ذلك النور الرباني الساطع.

أيها السادة: إن مبدأ التفريق بين عالم المادة وعالم ما وراء المادة قد تبينه

المسلمون، فجعلهم يقبلون على علومنا ولا يرون فيها ما يناقض دينهم المشهور

بالتسامح، ولا أريد أن أتخذ من التونسيين برهانًا على ذلك، خشيةَ أن يُقال فيهم:

إنهم إنما يتبعون الخطة التي نوحيها إليهم، والتي نقصد منها إفراغهم في قالب

فرنسي يتفق مع أغراضنا الاستعمارية. بل أقول لكم: انظروا إلى الأتراك، وكيف

وفقوا بين الدين وجنسيتهم العثمانية، فأظهروا بذلك أن الحكومة الإسلامية قابلة لمبدأ

الجنسية، وأن مبدأ الدين فيها لا يمنعها من أن تصطحب مبادئ حكوماتنا الحديثة.

إن الحكومات الإسلامية، لِسَعَةِ مَبَادِئِهَا، قابلة للتشكل بأشكال مختلفة، وهذا

التشكل هو الكفيل بارتقائها. أتذكرون أيها السادة ما قاله الأقدمون في المسيحية؟

قالوا: إنها إذا ارتبطت بشكل الحكومة الملكية، ولم تتحول عنه كان في ذلك القضاء

عليها، وكذلك الحال في كل دين من الأديان، فلو أن الإسلام اتخذ شكلاً من أشكال

الحكومات وظل باقيًا عليه لا يعدل فيه ولا يغيره لَمَاتَ مَوْتَةً أبدية وأفضى ذلك إلى

ضرره وضررنا.

واسمحوا لي أيها السادة أن أختم كلامي بتذكيركم بتلك الكلمة التي قالها مسيو

جونار، حاكم الجزائر العام، تلك الكلمة التي أملتها الحكمة والدّرْبَة، وهي: (ليس

المقصود من الفتوحات مجرد الاحتفاظ بالبلاد، بل هناك ما هو أسمى غرضًا من

ذلك، وهو الاحتفاظ بالقلوب والأرواح) .

_________

(*) خطبة لموسيو رينيه ميليه، ألقاها في مؤتمر إفريقية الشمالية، المنعقد في باريس من عهد قريب، ونشرت في المجلة الاستعمارية الفرنسية، وترجمتها بعض الجرائد المصرية بالعربية، فآثرنا تلخيصها لقراء المنار، لِمَا فيها من الحقائق والإنصاف.

ص: 818

الكاتب: محمد رشيد رضا

الخطبة الثانية

من خطبنا في الديار السورية [*]

وهي من الخطب السياسية

أيها الإخوان الكرام:

اقترحتم علي أن أقول شيئًا في الدستور والاجتماع، وماذا عسى أن أقول في

موضوع قد تبارى فيه الخطباء الكثيرون مِن قَبْلُ، فلم يَدَعُوا لمن بعدهم مقالاً، ولم

يغادروا لمن تأخر عنهم متردَّما، فرب فكر فيه أريد أن ألقيه عليكم، فيخطر في

بالي أنه قد ورد على مسامعكم، وجال في مجامعكم، فيقف الفكر، ويتلعثم اللسان،

ولكنني لم أحضر تلك المجامع، ولم أسمع شيئًا من تلك الأقوال، فإذا قلت شيئًا مما

قيل من قَبْلُ، فلي فيه شيء من العذر، ورب مكرر يحلو، ورب إعادة فيها إفادة.

المراد من الدستور أن يكون حكم الأمة لها، تديره بيد من تختار من أفرادها،

لا بيد رئيس يستبد فيه برأيه، ويتصرف فيها بهواه وإرادته، وإن استبداد شخص

واحد بأمة كبيرة لَمِنْ أعجب أمور البشر في طور الجهل والانحطاط.

أتدرون ما هي القاعدة النظرية التي يبني عليها المستبدون هياكل سلطتهم

الجائرة؟ هي أن الأمة كالمجنون أو السفيه أو الولد القاصر الذي لا يحسن التصرف

في ملكه، فلا بُدَّ له من وصي يقوم بمصالحه، وولي يتولى تدبير أموره! ! !

هذه النظرية باطلة من عدة وجوه، ولكنهم يُحِقّونها بالقوة: هل يمكن أن تكون

الأمة كلها جاهلة أو سفيهة كالطفل أو المجنون، فلا يوجد في سوادها الكثيرِ أفرادٌ

يصلحون لتدبير أمرها، وإقامة العدل والنظام فيها بالشورى دون هوى الرئيس،

ويكون ذلك الرئيس الذي يدعي حق الوصاية عليها، والولاية على جميع مصالحها،

هو الحكم العدل، والعاقل الرشيد، يأخذه عن آبائه بحق الإرْث، كما يرث عنهم

الولاية والملك؟

كلاّ، إن ذلك أمر غير معقول، وحكم استبدادي غير مقبول، المشاهدة تنقضه،

والتاريخ يفنده، فقد قرأنا في سير الغابرين، ورأينا في حال الحاضرين، أن أكثر

الملوك والأمراء المستبدين، هم أعرق أفراد أممهم في الجهل، وأَوْغَلهم في أفن

الرأي، وأشدهم فسادًا في الأرض.

أي قاضٍ مِن قُضاة العدل حكم بجنون الأمة أو سفهها، ووجوب نصب فرد

من الأفراد وصيًّا عليها؟ أي شرع يبيح للوصي أن يتصرف في مال السفيه أو

القاصر تصرف المالك في ملكه، ولمن كان في وصايته كثيرون أن يتبع في

معاملتهم هواه، فيمنع بعضهم من حقه، ويعطي الآخر ما لا يستحقه، كما هو شأن

الملوك والأمراء المستبدين! !

ألا إن هؤلاء الأدعياء في وصايتهم، المعتدين في ولايتهم، ليسيئون التصرف

في ملك الأمة وفي سياستها، فهم قد جعلوا أنفسهم أوصياءَ عليها بالقوة القاهرة،

وبالقوة القاهرة يمنعونها من التصرف معهم ومشاركتهم بالرأي، بل يحولون بينها

وبين معرفة ما تملك، وما لها من حق الرأي والتصرف، لتبقى عالةً عليهم،

راضيةً ببقاء الأمر فيهم، ولهذا يمقت المستبدون العلم ويقاومونه أشد المقاومة، وقد

رأيتم ذلك في أنفسكم، فقد كنتم منذ أشهر تحرقون كتب العلم، أو تدفنونها في

حنادس الليل تحت الأرض، خوفًا من زبانية الاستبداد أن تدمر على بيوتكم فتراها،

فتنزل العقاب الشديد بمن اقتناها، على أنهم كانوا يعاونون الذين يهربون السلاح،

ويساعدون الأشقياء على إفساد الأمن وهضم الحقوق، فقد كان كل ذنب مباحًا أو

متساهلاً فيه عند حكومتنا الماضية، إلا ذنب العلم واقتناء الكتب والصحف الحرة،

التي كانوا يعبرون عنها بالأوراق المضرة.

لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الأمة إذا عرفت حقوقها، يوشك أن تجتمع فتطلبها من

طريقها، وإذًا يحرمون من التمتع بذلك السلطان المطلق، والتصرف بتلك القناطير

المقنطرة، فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: العاقل لا يُظْلَم، ولا سيما إذا

كان أمة.

ما هو الطريق الذي تسلكه الأمم لاسترجاع حقوقها المغصوبة من الملوك

المستبدين؟ ألا إنه لَهُوَ الاجتماع والتعاون: الاجتماع الذي تسوق إليه المعرفة،

والتعاون الذي يدعو إليه الشعور بالحاجة، ومن هنا ننتقل إلى الكلام على الاجتماع

والجمعيات.

الاجتماع على الحق قوة لا تعلوها قوة، بهذا قد جرت سنة الله في خلقه، وقد

ورد في الحديث الشريف: (يد الله على الجماعة) وهذا أبلغ تمثيل لعظمة هذه

القوة، وأي شيء أعظم قوة ممن كانت كلاءة الله ظلاًّ ممدودًا فوقهم، وسنته في

النجاح صراطًا مستقيمًا أمامهم، ألا ترون أن الحكام المستبدين يطاردون الجمعيات،

ويخافون منها ما لا يخافون من الجيوش المنظمة، والأساطيل المدرعة، لعلمهم أن

الحق لا يغالب إذا وجد نصيرًا. قال الأستاذ الإمام (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق

عنه) .

ماذا أقول في بيان قوة الجمعيات؟ هي التي قوضت حصون الظلم، ودمرت

هياكل الاستبداد، وحررت الأمم والشعوب من العبودية، وشيدت فيها صروح العلم

والمدنية، وليس الشاهد والدليل على هذا ببعيد عنكم، وأنتم الآن في نادي شعبة

للجمعية التي أسقطت سلطة الاستبداد في المملكة العثمانية، وأدالت منها سلطة

دستورية شورية.

أرأيتم لو أن أحدًا همس في آذانكم قبل ثلاثة أشهر وأنتم تئنون من ذلك الظلم

الفاحش قائلاً: إن نفرًا من إخوانكم العثمانيين لا يتجاوزون عدد الأنامل، يجتمعون

في حجرة لهم نوافذها مغلقة، وستورها مسبلة، يتخافتون بينهم في تدبير الحيل،

واتخاذ الوسائل، لتقويض هيكل تلك السلطة الاستبدادية، التي أوشكت أن تقضي

على الدولة العلية، وإعادة الدستور العثماني، وإحياء القانون الأساسي، فما هو

رأيكم في هؤلاء المجتمعين، ألا يقول أكثركم: إنهم مجانين (مجانين مجانين) بلى،

ولكن قد علمتم الآن علم اليقين أن هؤلاء النفر هم الذين قوضوا تلك السلطة

الظالمة، وقضوا عليها قبل أن تقضي هي القضاء الأخير على الدولة العلية، فما

الذي أقدر ذلك العدد القليل على إسقاط حكومة مؤيدة بجيش عظيم، ومال كثير،

وألوف كثيرة من الأعوان والأنصار، القابضين على زمام الأحكام، كانت ترتعد من

ظلمهم الفرائص، وتضطرب لتصور استبدادهم القلوب؟ أليس هو الاجتماع

للمطالبة، والتعاون على استبدال العدل بالظلم؟ بلى، ولو كان أولئك الأنصار

الأخيار من اليائسين، كما كان أكثر العثمانيين، لَمَا نالت الأمة العثمانية هذا النصر

المبين، الذي كان موضع إعجاب الناس أجمعين، حتى قال كثير من ساسة أوربا

وكُتّابها: إنه لم يسبق له نظير في تاريخ البشر؛ لأن المعهود في التاريخ أن هذه

الغاية لا تنال إلا بعد ثورات داخلية، وحروب أهلية، بين أنصار الاستبداد والظلم،

وطلاب الدستور والعدل.

الآن قد خطر في بال كثير منكم أننا قد نلنا هذا النصر بسيوف جيوشنا، لا

بتدبير أفراد من جمعياتنا، نعم، إننا لولا جيشُنا الباسل لَمَا عملنا الآن شيئًا، ولكن

لا ننسى أن جيشنا قد كان منذ كان حامي السلطة الاستبدادية ونصيرها، وعونها

على قهر الأمة وظهيرها، فما عدا مما بَدَا؟ أليس قد اتحد بعض ضباطه أهل

العرفان والحمية، بأولئك المجاهدين في سبيل العدل والحرية، فكان العلم والرأي،

هما القائدين للجيش؟ بلى.

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

نلنا الحرية والدستور، وأصدر قاضي محكمة الاجتماع العليا حكمه ببطلان

تلك الوصاية الاستبدادية، والولاية القهرية، وإثبات رشد الأمة وأهليتها للقيام

بشئونها، والتصرف في ملكها، ولكن هل رشدت الأمة حقيقة، وصارت أهلاً

للتصرف النافع، الذي تحفظ به المصالح؟ إن الحكم الصحيح في شأن الأمة

العثمانية عسير جدًّا. فإنها على اختلاف شعوبها في الأجناس واللغات والأديان

والمذاهب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في التربية والتعليم اللذين يؤهلان الأمم للحرية

والحكم الدستوري، فتكون دستورية بطبيعتها لا مقودة إلى الدستور بالسلاسل.

إن مجموع الترك أرقى في هذه التربية من مجموع العرب، والأرمن أرقى

من الأكراد، والآستانة والولايات الأوربية، أرقى من الولايات الآسيوية،

وولايات سورية وسط بين ولايات أوربا وبين العراق والحجاز واليمن، وإننا

نرى الاستعداد في سورية ضعيفًا، فماذا نقول فيما دونها، فكرنا كثيرًا ونحن في

مصر لنختار من كل مدينة في سورية أفرادًا من الأحرار الشجعان ليؤلفوا لنا شعبًا

لجمعية الشورى العثمانية، فلم نعثر في أكثر المدن على من نثق بقبوله لدعوتنا،

ودخوله في جمعيتنا، ودخل في الجمعية رجلان من أهل بيروت، كل منهما صديق

للآخر، ولم يكاشف أحدهما الآخر بذلك إلا بعد إعلان الدستور، وناهيكم بجرأة أهل

بيروت.

إن العاقل الراشد إذا منع التصرف في ماله بالقوة القاهرة، وطال عليه الزمن

وهو لا يعمل ثم أبيح له العمل وهو غير متمرن عليه يحار في كيفية التصرف، ولا

يسهل عليه أن يجري فيه على طريق السداد. وقد اهتدى إلى هذا المعنى أحد أغنياء

بلادنا العقلاء (المرحوم محمد باشا المحمد) ، فقسم ثروته الواسعة في حال حياته

بينه وبين أولاده؛ ليتمرنوا تحت مراقبته على إدارة تلك المزارع والضياع، لئلا

تفاجئهم الثروة فيعوزهم حسن إدارتها وحفظها، وغفل عن ذلك كثير من الأغنياء،

فلم يأذنوا لأولادهم بالتصرف في إدارة ثروتهم، ولا بالتمتع بما تستشرف له نفوسهم

منها، فلم يلبث أولئك الأولاد بعد موت والديهم إلا قليلاً، حتى أضاعوا جميع ما

تركوه لهم إسرافًا وتبذيرًا، كما رأينا وشاهدنا في مصر كثيرًا، وإذا كانت إدارة

الثروة الشخصية لا تصلح إلا بالعلم والتمرن معًا، فكيف تكون إدارة الممالك

وسياسة الأمم؟

لا يعجلن أحد بالاعتراض على هذا الكلام فيقول: إنه مؤيد للحكومة المطلقة

التي أراحنا الله من شرها، ومعارض للحكومة الدستورية التي امتلأت القلوب رجاءً

في خيرها، معاذَ الله أن أحتج لتلك الحكومة الظالمة بكلمة، وأنا أعلم أنها لو بقيت

سنة أو سنتين ولم ينجح الأحرار بالوسيلة التي أخذوا بها في هذا العام، لوقعت

الأمة والدولة في خطر لا تؤمن عاقبته، وإنما قلت ما قلت آنفًا لأنبه الأفكار إلى

حقيقة حالنا، وما يجب علينا في هذا الطور الجديد.

الأمة العثمانية في مجموعها مستعدة للحكم الدستوري، فإن فيها من الأحرار

المرتقين في المعارف والأخلاق من جميع الشعوب من يرجى أن يقوم بهم هذا الحكم

خير قيام، ويؤمن عليه من عدوان الاستبداد، ولكن ضعف استعداد الأمة في كثير

من البلاد يحملهم مشاقَّ كثيرة في إقامة العدل، وإصلاح حال الملك، ومقاومة كيد

المتقهقرين، أعوان المستبدين الظالمين.

لا تظنوا أن الأحرار الكرام الذين نلنا الدستور بسعيهم، كانوا غافلين عن هذا،

كلاّ إنهم قد أعدوا له عدته، فأخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها أن تكفل

الدستور الذي كانت قابلة ولادته وأمه ومرضعه إلى أن يبلغ أشده ويستوي، فأنشأت

لها شعبًا ولجانًا في كل مركز من مراكز الولايات والألوية والأقضية في المملكة،

وجعلت لها أندية سياسية اجتماعية، ولها في ذلك مقصدان:

المقصد الأول: مراقبة الحكومة في سيرها لأجل أن تنفذ الشريعة والقوانين

في دائرة الدستور، ويحفظ الأمن ويقام العدل بقدر الاستطاعة والإمكان.

والمقصد الثاني: نفخ روح الحياة الدستورية في الأمة وتحبيب الحرية إليها

بِبَثِّ الآراء والأفكار النافعة فيها بالخطب والمحاورات، وحثها على التربية الملية

والتعليم العصري الذي يجعلها أمة دستورية بالطبع، تأبى الاستبداد وتنفر منه، كما

تنفر من الأسقام والأدواء، فحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وإنه يجب على الأمة

كلها أن تساعدها في سعيها، فإنه لا حياة لنا إلا بالتربية الملية، وتعلم الفنون

العصرية

_________

(*) بعد وصولنا إلى طرابلس، جاء أمير الألاي عبد الحميد بك، وكيل قومندان موقع طرابلس العسكري، مع وفد من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وَدَعْوَنا لزيارة نادي الجمعية، فذهبنا معهم، وهناك اقترحوا أن نلقي عليهم خطابًا في الدستور والاجتماع، فارتجلنا خطابًا، نثبت هنا ما نتذكر من مسائله، ولعله معظم كلياتها، ولا نزيد شيئًا إلا أن يكون في العبارة كزيادة السجع دون جوهر المعنى.

ص: 836