المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (12)

- ‌المحرم - 1327ه

- ‌فاتحة السنة الثانية عشرة

- ‌خطاب صاحب المنارعلى طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

- ‌المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

- ‌الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

- ‌تنبيهُ الجرائد السوريةإلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةوما قيل فيه

- ‌الحجاز بعد الدستور [*]

- ‌العام الهجري الجديد

- ‌خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]

- ‌جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

- ‌نهضة الأزهريين

- ‌ندوة العلماء الهندية

- ‌لقب حاكم المسلمين

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌ذيل لكشف الظنون

- ‌صفر - 1327ه

- ‌أوراق اليانصيب وسندات المصارف

- ‌دين المستقبلوهل يكفر من له رأي فيه

- ‌تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد

- ‌منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

- ‌فتاوى المنار

- ‌تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [

- ‌خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

- ‌الحرية واستقلال الفكر

- ‌خوارق العادات في الإسلام [*]

- ‌التربية والأمهات

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر

- ‌ربيع أول - 1327ه

- ‌مسألة خلق القرآن وقدمه

- ‌جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

- ‌القضاء والقدر

- ‌الدولة العثمانية بعد الدستوروجمعية الاتحاد والترقي

- ‌الدستوروجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

- ‌ربيع الآخر - 1327ه

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌أسئلة من الجبل الأسود

- ‌الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر

- ‌إحدى الكبر وكبرى العبر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الأولى - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الانقلاب الميمونوأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

- ‌الذكر ورابطة النقشبندية

- ‌النساء والحجاب والتعليم

- ‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الآخر - 1327ه

- ‌الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها

- ‌خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

- ‌أم كلثومبنت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌عهدٌ موضوعٌزعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى

- ‌رسم المصحف

- ‌بحث في خطبة العقيلة المصرية

- ‌الجزية وتجنيد أهل الذمة

- ‌التعصب الديني في أوربا

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌رجب - 1327ه

- ‌التعصب الديني عند الإفرنج

- ‌الجنسيات العثمانيةواللغتين العربية والتركية

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌خطبة في عيد الدستور

- ‌عيد الدستور بمصر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1327ه

- ‌البلاغ المبين

- ‌اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين

- ‌الدستور والحرية والدين الإسلامي

- ‌استشارة غير المسلمينوالاستعانة بهم في الحرب

- ‌أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

- ‌نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

- ‌المدرسة الكليةالأمريكانية في بيروت

- ‌رمضان - 1327ه

- ‌النسخ وأخبار الآحاد

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌الأخبار والآراء

- ‌كتاب التوسل والوسيلة

- ‌فتن رمضان في دمشق الشام

- ‌شوال - 1327ه

- ‌الصوفية والفقراء [*]

- ‌الشيعة والمسلمون

- ‌مكة المكرمة والجرائد العربية [*]

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

- ‌ذو القعدة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أبو حامد الغزالي [*](7)

- ‌تعصب أوربا الديني والحج

- ‌الشيعة وتعدد الزوجات

- ‌الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]

- ‌حركة الإصلاح في جاوة

- ‌مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو الحجة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أسباب سقوط الدولة الأموية [*]

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

- ‌خاتمة السنة الثانية عشرة

الفصل: ‌صفر - 1327ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثانية عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، ولا جعل علينا

فيما شرعه لنا من الدين حرجًا، بل جعل مع العسر يسرًا، ومع الشدة فرجًا، ومن

يتق الله بإقامة سنته يجعل له مخرجًا إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.

والصلاة والسلام على من بعث إلى الأبيض والأحمر، وقام بأمر ربه

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ، فمكر به قومه؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو

يخرجوه، فهاجر من وطنه ووطنهم فتتبعوه وحاربوه، حتى شجوا رأسه، وكسروا

سنه، وعذبوا من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فصبر وصبروا حتى كانت العاقبة

للمتقين، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ} (الصافات: 116) .

وبعد؛ فإنا نَقُصّ في فاتحة منار هذه السنة وهي الثانية عشرة له، نبأ من

تاريخه الصريح، الذي كنا نشير إليه بالتلويح؛ تذكيرًا وتفصيلاً للقراء السابقين،

وعبرة للقراء اللاحقين، وأخص العثمانيين الذين طالما ارتعدت فرائصهم عند ذكر

المنار، حتى ربما كنى عنه محبوه بلفظ النار.

أنشئ المنار في أواخر شوال سنه 1315، وكان صحيفة ذات ثمانِ صفحات،

وقد بينت في العدد الأول منه الغرض من إنشائه، ومذهبه في الإصلاح الديني

والاجتماعي، وسكتُّ عن بيان مناهجه في الإصلاح السياسي، مع التصريح

بنزعته العثمانية، وخدمته للدولة العلية. وإنما أسكتني عن ذلك الأستاذ الإمام

(الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى) فقد كنت استشرته في إنشائه، وقرأت له تلك

الفاتحة قبل طبعها، وكان فيها أن من مقاصده بيان حقوق الأمة على الإمام،

وحقوق الإمام على الأمة، فاستحسن كل ما أودعته تلك الفاتحة إلا هذه الكلمة،

فاقترح عليَّ أن أحذفها، ولم يراجعني في شيء غيرها، وكان مما قاله في ذلك:

(إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن) وإن الخوض في السياسة

العثمانية فتنة يخشى ضررها ولا يرجى نفعها، وإن الناس ها هنا لا يحبون أن

يسمعوا في السلطان والدولة إلا ما يشتهون، ومصر ليس فيها سياسة، والمسلمون

لا ينهضون إلا بالتربية والتعليم، فلا تخلط السياسة بمقاصدك الإصلاحية؛ لئلا

تفسدها عليك، فإنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته. هذا معنى ما قاله، وقد حذفت

تلك الكلمة استجابة له، وليت السياسة تركتني، أو سالمتني كما سالمتها؛ ولكن أَبَى

عليها الخرق والعتوّ، إلا أن تجاهد مني غير عدو، فآذنتني بالحرب وآذتني في

الأهل والصحب، حتى ألجأني اعتداؤها على حقيقتي إلى التقصي في استعراف

ظلمها لأمتي، ثم إلى الدخول في زمر المجاهدين لرؤسائها وأعوانها الظالمين،

{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) جئت مصر وأنا

أحسن الظن بالسلطان، دون من يحيط به من الوزراء والقرناء والخصيان، وأسيء

الظن بطلاب الإصلاح من الأحرار، وأعتقد أنهم إنما يطلبون الرتب والأوسمة

والدينار، وقد كنت أصرح بهذا وذاك في السنة الأولى مع المطالبة بالإصلاح،

والشكوى من عاقبة الظلم والإفساد، وما كنت لأقول إلا ما أعتقد، وأبث إلا ما أعلم

وأجد.

منع رشيد بك والي بيروت (أحد أركان الإفساد في حكومة الاستبداد)

توزيع العدد الثاني من السنة الأولى، وأرسل البرقيات إلى جميع أنحاء الولاية

بوجوب جمع ما وزِّع منه وإحراقه، ولم يكن فيه شيء مما كانت تنكره الحكومة في

ذلك الوقت، وإنما فعل ذلك مرضاة للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الذي كان يعلم

أني من حزب السيد جمال الدين الأفغاني، فهو الذي أوعز إلى الوالي بأن يصادر

المنار، كما أوعز بذلك إلى بدري باشا متصرف طرابلس الشام، فصار كل منهما

يمنع بعض الأعداد التي يؤذن بتوزيعها في الآستانة وغيرها من البلاد، حتى

هبطت الإرادة السنية، وصدرت الأوامر العليا، بمنعه من جميع الولايات العثمانية،

وذلك قبل أن يتم له نصف سنة!

لم يشف هذا غيظ أبي الهدى أفندي، فأوعز إلى بدري باشا وأعوانه بأن

يؤذوا والدي وإخوتي، وينذروا عشيرتي وذوي مودتي، ولما رأى بدري باشا أن

مجلس إدارة اللواء لا يوافقه على ما يقصد من الإيذاء، وأن الإيذاء بغير يد

الحكومة لا يشبع تلك النفس الضارية المنهومة، أبدى هو وشيعته للسيد الوالد

(رحمه الله تعالى) نواجز الشر، ثم أشخصوه إلى مصر؛ ليحملني على مشايعة أبي

الهدى، وعدم المبالاة بمن دونه من الورى. وبعد طول المذاكرة رضي مني بأن

أكتب إليه كتابًا مني أبين له فيه أنه ليس من مقصدي الطعن فيه، وأنني لا أريد إلا

الإصلاح ما استطعت، وكتب هو إليه كتابًا آخر، فما عتم أن جاءنا منه الجواب،

وهذا نص ما كتبه إليَّ بخطه:

الحمد لله وحده.

من الفقير إليه محمد أبو الهدى الصياد الرفاعي عُفِيَ عنه، إلى جناب

الأديب الكاتب الشيخ رشيد رضا أفندي كان الله لنا وله وللمسلمين. وصلني قُبل

كتابكم، وفي هذه المرة أخذت كتابًا من والدكم وكتبت له الجواب في بريد اليوم،

فكن ريض الخاطر طيب البال، نعم إني أرى جريدتكم طافحة بشقاشق المتأفغن

جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورًا، وقد

ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه مازندراني من أجلاف الشيعة بعد المخابرة مع سفارة

إيران بدار السعادة والسفارة السنية في إيران، وهو حي وما قدر على الدفاع، وهو

مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وأراك تملأ جريدتك كل يوم بانتقاد

الصوفية بأبحاث جلها ما هي من طريقهم وكذا أولتها، وفي بعضها أنت محق بلا

شبهة، إلا أنك تعلم أن العلماء الآن ما هم كالشافعي وأبي حنيفة وعظماء السلف

تمسكًا بالشرع، ولا عامة الأمة كالعامة الأول، فلو أنصفت وخدمت دينك بغير هذه

المواضيع، وإذا ألزمك طورك وقلمك بالتطرف، فهنالك تنتقد أعمال الأمم السائرة

من غير الإسلام انتقادًا عقليًّا يستميل لك القلوب ويرضي عنك ربك - لكان أولى،

ولما طاب قلبنا لك نصحناك، والموعد الله في كل غاية، والسلام 19 رجب سنة

1316.

ومن هذا الكتاب يعلم أن ما كان يؤلمه من المنار محصور في أمرين،

أحدهما: التنويه بالسيد جمال الدين الأفغاني وذكره بلقب (السيد) . ولم أكن أمنح

أبا الهدى هذا اللقب؛ لأنني لا أعتقد شرفه.

وثانيهما: انتقاد خرافات أهل الطريق التي جعلها أساس مجده. ولكنه كان

يوهم السلطان أن المنار لم ينشأ إلا لأجل الطعن فيه، كما يعلم مما يأتي. فكتبت

إليه كتابًا بيَّنت فيه أنني لم أكتب ولا أكتب إلا ما أعتقد أنه نافع، وذكرت له رأيي

في السيد جمال الدين الأفغاني، فلم يلبث أن أجابني بهذا الكتاب بخطه:

ولدنا الروحاني الأديب الأريب الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي آل رضا

المحترم:

أدعو لكم ولوالدكم بالخير والعافية ودوام التوفيق، وجدًّا صرت ممنونًا

من تحريراتكم المرسلة، والمأمول من عناية الله وفضله أن يديم لكم التوفيقات فيما

يرضيه، وقد حصل الآن قيد رؤوس أدرنه من مراتب العلمية الشريفة لك، فهي إن

شاء الله أول الفيوضات، ولا يجنحن لبالك أن ذلك لغوائش هذه الدنيا، بل إني

أعجبني قولك واطمأن قلبي لصدقك ولبراءتك، وأرجو الله إصلاح شأنك في الله كما

هو مطوي في كل من له للجناب الرفيع نسبة. وأوصي رفيقك بالثبات والاستقامة

على ما يبيض الوجه حالة القدوم على الله ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم [1]

وبحوله تعالى عند مجيئكم إلينا وانفكاكم عن هذه العوارض الحاضرة الزائدة التي لا

تنطبق على مجد النسبة نوعًا ما، وإن كان قصدكم حسنًا، فهنالك تنبلج فيكم أنوار

نسبتكم بالتحقق في الطريق الأقوم وتحت نظر سر الوجود صلى الله عليه وسلم، إذن

خدمتكم للدين وللمسلمين على النهج الشرعي الصحيح الأمين، ومني لكم الدعاء وهو

المطلوب منكم والسلام.

...

...

...

... 16 شعبان سنة 1316

...

...

...

...

كتبه محمد أبو الهدى

...

...

...

...

... عفي عنه

قرأت هذا فبادرت إلى إرسال كتاب إليه جزمت فيه بأنني لا أقبل الرتبة

العلمية التي طلبها لي، وإنني من الذين يرغبون عن الرتب والأوسمة، فيجب

الرجوع عن طلبها، وإنني لا أستبدل بخدمة المنار للملة خدمة أخرى مهما كان

مظهرها وفائدتها، وإنني لا أطلب من الآستانة إلا الإذن بدخول المنار لسوريا

وغيرها من ولايات الدولة. واعدته في هذا الكتاب أو فيما قبله بترك التنويه بالسيد

جمال الدين؛ مادام المنار مأذونًا له بدخول بلاد الدولة، وسكت على ذلك وسكتنا.

وبعد ثلاثة أشهر وأيام من هذه المكاتبة، كتب ناظر خارجية إنكلترا إلى

لورد كرومر عميد دولته في مصر يقول: إن سفيرها في الآستانة كتب إليه يخبره

أن رئيس كتاب السلطان جاءه، وقال له: إن في مصر جريدتين معاديتين لشخص

السلطان، وهما: المنار والقانون الأساسي، وإن الخديوي ومختار باشا الغازي

يساعدانهما، وإن السلطان يرغب إليه بأن يسعى لدى حكومته بإبطال هاتين

الجريدتين، ويتخذ ذلك يدًا يكافئه السلطان عليها! ! فأخبر اللورد الأمير بذلك،

فعجب أشد العجب؛ لأنه لم يكن هو ولا مختار باشا بمساعد للمنار ولا للقانون

الأساسي، بل لم يكن يعرف من مشرب المنار إلا ما أخبره الأستاذ الإمام من أنه

جريدة دينية أدبية.

سألني الأمير عن ذلك سرًّا في يوم عيد الأضحى (سنة 1316) عندما

أردت الخروج مع العلماء من مقابلة التهنئة له بالعيد، وأمرني بأن أذهب إلى مقابلة

أحمد شفيق بك وكان رئيس القلم التركي (وهو اليوم أحمد شفيق باشا رئيس

الديوان الخديوي) ، فذهبت من حضرة الأمير إلى غرفته، وكان يقرأ المنار ويعلم

أنه ليس فيه تحامل على السلطان، بل لا يخلو من مدح له، ورأيته جازمًا بأن أبا

الهدى هو الذي سعى عند السلطان هذه السعاية، وضرب سهامًا فيها إلى عدوين من

أعدائه: الأمير ومختار باشا الغازي. فأخبرته بأن بيني وبين أبي الهدى سلمًا،

وذكرت له هذين الكتابين فطلبهما مني؛ لأجل أن يحتج بهما، فقلت له: إن

المراسلة بالأمانة، وإنني لا أجيز لنفسي أن أظهرهما مادمت أعلم أن إظهارهما

يؤذيه بتغيير السلطان عليه، واستدلاله بهما على خيانته له إذ يجعله ترسًا يدافع به

عن نفسه ، وأما اللورد فقد جرى في المسألة على ما تعود من المحافظة على حرية

الصحافة ، ولكن بعد البحث ومعرفة الحقيقة.

كرَّ أعوان أبي الهدى على أهلي كرة ثانية، وكانت الدولة دولتهم فضربوا

أحد إخوتي وهو خارج من طرابلس إلى القلمون ليلاً، وسرقوا فرسًا لنا، وحاولوا

أخذ مسجدنا منا، وأغروا جريدة طرابلس الشام بالطعن في المنار، والتمسوا لها

المساعدة من كل من يكتب في طرابلس حتى أصدقائي، فاضطررت إلى كتابة مقال

عنوانه (مؤاخذة العلماء)(39ص و51 م2) أسكتها به عن التمادي في الطعن.

ولكن ألسنتهم لم تسكت عن السب واللعن، إلا بعد أن أديل منهم، وخضدت

شوكتهم وذهبت ريحهم، وخرج بدري باشا من طرابلس مذءومًا مذمومًا، وبدلنا به

عبد الغني باشا العابد وكان لنا وليًّا حميمًا، بل غلب نفوذ عزت باشا العابد على

نفوذ الشيخ أبي الهدى في جميع البلاد السورية، فازداد انتشار المنار فيها وإن لم

يرسل إلا في البرد الأجنبية، وأمن الأهل والقراء على أنفسهم طائفة من الزمان

حتى كان منذ أربع سنين ما كان.

ذلك ما كان في السنة الأولى والثانية من سني المنار. وفي أواخر الثانية

وأول الثالثة صار يتردد علينا بعض جواسيس ممدوح باشا ناظر الداخلية في

الآستانة، ويعرض علينا الرتب والوظائف اللائقة إذا نحن تركنا المنار، وغادرنا

هذه الديار، فلو شئت أن أكون يومئذ قاضيًا أو مفتيًا في الشام أو بيروت، أو آخذ

مرتبًا شهريًّا عظيمًا من الدولة لفعلت، وقد قبل عبد الحليم أفندي حلمي أن يترك

مصر، ويكون معاونًا لناظر النفوس في بيروت بمرتب كمرتب الناظر، فنال ذلك

على أنه لم يكن كاتبًا ولا سياسيًّا ولا ذا شأن في المنار، وقد بلغني وقتئذ أن ذلك

الجاسوس أخذ من ممدوح باشا 800 ليرة عثمانية سماها ثمنًا لمطبعة المنار، ولم

يكن للمنار يومئذ مطبعة تساوي 800 قرش! .

وفي أثناء السنة الرابعة غضب عليَّ أمير هذه البلاد، وآذنني صديقي حسن

باشا عاصم (وكان رحمه الله يومئذ رئيس التشريفات) بأنه لا يرضى أن أقابله بعد

وكان يقول لي قبل ذلك: إن لك أن تجيء إليَّ في قصر عابدين أو قصر القبة

متى شئت. وكان غضب أيضًا على الأستاذ الإمام، وكلما اشتد غضبه على أحدنا

يشتد على الآخر، ولا أحب أن أذكر الآن شيئًا مما سمعته أو علمته من آثار هذا

الغضب إلا ما قيل من عزمه على إخراجي من مصر، فقد قال مصطفى كامل باشا

للأستاذ الإمام مرة: إن أفندينا يريد أن ينفي صاحب المنار من مصر ويطلب منك

أن تسكت على ذلك، ولا تحمل لورد كرومر على المعارضة فيه

وسمعت مثل هذا

الخبر بعد وفاة الأستاذ الإمام. وقال لي أحد معارفي في 22 من المحرم سنة 1326

إن السر غورست على وفاق مع الخديوي وهو لا يعارضه في الانتقام ممن

يغضب عليه، ولا سيما إذا كان عثمانيًّا، ليس كلورد كرومر في المحافظة على

الحرية الشخصية، وقد علمت أن الخديوي غضبان عليك، فيجب أن تسعى في

استرضائه؛ لئلا ينفيك من هذه الديار، وأنه ربما يفعل ذلك. فقلت له: إنني لا

أكتب في هذه السنين شيئًا عنه، ولا أعلم أن في المنار شيئًا يسوءه، فماذا ينقم مني؟

قال: دوام الثناء على الشيخ محمد عبده. قلت: ليس في المنار ثناء، وإنما هي

أقوال عنه وآراء، ولا يمكن أن تخلو المنار من ذكره، وإن مصر لا مزية لها

عندي إلا لحرية العلم والصحافة والحرية الشخصية، فإذا كان الخديوي ينفي منها

من كره وجوده فيها، فلماذا أحرص أنا على الإقامة بها، أو آسى على البعد عنها؟

إنني إذًا أظعن إلى الهند، وإني لأعلم أنه يكون لي فيها مقام كريم لا أجد مثله في

مصر، هذا وإن مثل هذا الخبر ليس برهانًا يقينيًّا على صحة ما قيل عن الأمير -

برأه الله وحماه مما لا يليق به - وإن كان عند بعض الكبراء ونظار الحكومة نبأ منه.

وفي السنة الخامسة نشرت (سجل جمعية أم القرى) في المنار ومقالات

(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) فتضاعف قراء المنار في القطر المصري،

واشتدت الحكومة العثمانية في المراقبة عليه والبحث عن قرائه ولا سيما في القطر

السوري.

وفي السنة السادسة شرعت في نشر رسالة في مالية الدولة العثمانية، فرغَّب

إليَّ الأستاذ الإمام أن لا أتمها فوافيت رغبته. ولكني ضقت ذرعًا بسوء حالنا

السياسية، فصرت أكثر في تفسير القرآن الحكيم من السياسة وهو يجيز ذلك؛ لأنه

إنما ينهى عن التصريح بسياسة حكوماتنا وحكامنا؛ لئلا يصدونا عن خدمة الدين

والعلم.

وفي السنة السابعة كثر دبيب عقارب الساعة من جواسيس المابين

بمصر، وتواترت التقارير في الأستاذ الإمام وفي صاحب المنار، وكان الذي

يبلغها السلطان هو عزت باشا العابد الذي كان بينه وبين الأستاذ مودة سابقة منذ كانا

في سورية، ولم يحدث بينهما ما يوجب هذا الانقلاب إلا صنعة عزت

الجديدة في المابين وعلاقته بمصر، وكان حزب الشيطان الذي يدبر هذه السعايات

والمفاسد قد زور رسائل بتوقيع (محمد عبده) ، وأرسلها إلى الحجاز واليمن

وغيرهما من البلاد العربية تشتمل على الدعوة إلى الخلافة العربية، وهو يعلم

أنها تقع في الأيدي التي توصلها إلى المابين، فاشتد خوف السلطان من الشيخ

محمد عبده. والشيخ محمد عبده لا علم له بما يكتب في شأنه، ولا ما يكتب عن

لسانه مما هو مخالف لرأيه واعتقاده، حتى إنه هو الذي أرجع بعض المستشرقين

عن السعي لإنشاء دولة عربية؛ لاعتقاده أن التفريق بين الترك والعرب يضعف

الفريقين، ويسهل على الدول الطامعة محو الدولة الإسلامية من الأرض، وإنني

ما وقفت على أكثر ما أشرت إليه هنا إلا بعد موته.

وما دخلت السنة الثامنة إلا وقد صار النفور والخلاف بين الأمير والأستاذ

على أشدهما، كما أن السعاية السلطانية فيه قد بلغت غايتها، وقد اشتد المرض

على الأستاذ حتى كان يجود بنفسه في الإسكندرية، والحكومة العثمانية تبحث عنه

في سواحل بيروت؛ لأن الجواسيس قد بلغوا المابين أنه سافر إلى بيروت متنكرًا؛

ليؤسس الخلافة العربية في سورية! ! ألا قاتل الله أولئك التحوت الأشرار، ما كان

أشد عبثهم بالسلطان وخيانتهم له وللدولة والأمة. وفي هاتين السنتين كان الاستبداد

قد شد الخناق على محبي العلم، والاضطهاد لمقتني الكتب. ومنيت بيروت بخليل

باشا واليًا، وطرابلس بحسني بك متصرفًا! وكانا من شر أعوان الاستبداد

والمخلصين له فيما يحاول من الظلم والإفساد، فأسرفا في تفتيش البيوت! وأخذ

الكتب والأوراق منها! والمؤاخذة على اقتنائها! حتى صار الناس يحرقون كتبهم

وأوراقهم بالنار! ومنهم من كان يدفنها بل يئدها كما تئد الجاهلية البنات! حتى

أحرق في سنة واحدة عشرات الألوف من المجلدات!

كيف لا وقد كانت الكتب والجرائد تعد من الجرائر، منها الصغائر ومنها

الكبائر، وكان اقتناء المنار أو ما طبع بمطبعة المنار، هو أعظم الذنوب وأثقل

الأوزار، وكان الحكم على مجرمي الكتب بالهوى لا بالشرع ولا القانون، ولا تأخذ

الحاكم فيهم رأفة، ولا تقبل منهم شفاعة ولا عدل ولا هم ينصرون، على أن أولئك

الولاة ومن دونهم من المستبدين، لم يستعملوا بأس الحكومة إلا في منع كتب العلم

واضطهاد المتعلمين، دون سفك الدم وإفساد الأمن، وإهلاك الحرث والنسل، فماذا

كان حظنا من حكمهم؟

دمروا الدار، واجتاحوا الكتب والأسفار، وحبسوا من وجدوا من الإخوة،

وحصروا الوالد المريض مع النساء، ووضعوا على داره الحراس والخفراء، فكان

ذلك الشيخ الجليل، والسيد الشريف يجود بنفسه، وينتظر أمر ربه، وبناته مع

أمهن أمام سريره يطلقن العبرات ويصعدن الزفرات، فقد عز عليهن، وعظم

المصاب في قلوبهن، وإن حيل بينه وبين أولاده الأبرار، في وقت توديعه لهذه

الدار، فمنهم القريب الذي هو في حكم المبعد، والسجين الذي هو في حكم المستعبد

هذا والجنود السلطانية تحيط بهن وتطوف حول منزلهن، شاكية السلاح، مستعدة

للكفاح، تدل ببأسها وشدتها، تمثل قوة (الخلافة الحميدية) وعظمتها؛ ليعرف

الشيخ المحتضر عجزه عن تأسيس خلافة عربية في قرية القلمون، وهكذا قضى

الوالد نحبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم كان من ظلم الحكومة المستبدة لنا أن ولت على مسجدنا رجلاً آخر بغير

حق، وأطمعته في الاستيلاء على عقاراتنا بدعوى أنها وقف، كما أطمعت غيره

من أشقياء طرابلس فنهبوا ما وجدوا في الدار من الثياب والحلي والماعون وغير

ذلك، وقد أسقط الله حكومة الاستبداد، ولما تكون حكومة الدستور، فحقوقنا لا

تزال مهضومة؛ لفساد الحكام واختلال الأمن العام، فهذا مجمل من خبر ظلم

الحكومة لنا، وهو قليل من كثير ظلمها لغيرنا، ممن أجرموا كإجرامنا، فشكوا من

الظلم والجهل ودعوا إلى العلم والعدل.

كان يصل إلينا قليل من أخبار الاستبداد ووقائع العتو والإفساد، وبعد وفاة

الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنا نجالسه فيه إلى مجالسة إخواننا

العثمانيين المقيمين في القاهرة، فازددنا علمًا بسوء الحال، وخطر المآل، فأسسنا

جمعية الشورى العثمانية؛ لأجل جمع كلمة العثمانيين على استبدال حكومة الشورى

بحكومة المستبدين؛ لعلمنا بأن جمعية الاتحاد والترقي خاصة بالمسلمين، وأن

العثمانيين ماداموا متفرقين شيعًا، ومتقطعين مللاً وأممًا فكلمتهم هي السفلى، وكلمة

الاستبداد هي العليا، فتألفت الجمعية من المسلمين عربهم وتركهم وألبانهم وأكرادهم

ومن النصارى عربهم ورومهم وأرمنهم، ودعي إليها بعض اليهود؛ ولكن لم يكن

في مجلس إدارتها أحد منهم، وقد انتخب هذا العاجز (صاحب هذه المجلة) رئيسًا

لمجلس إدارة اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية، وكانت ترسل جريدتها ومنشوراتها

السرية إلى الرومللي والأناطول بل والآستانة العلية.

اهتم السلطان بهذه الجمعية، حتى هجر النوم مضجعه ثلاث ليال كما علمنا

من رواية العارفين الثقات، فقد كان - أقر الله بالدستور عينه، ولا سهد في عهد

الحرية جفنه - كثيرًا ما يشارك أحرار أمته في أرقهم، ويساهمهم في قلقهم، وإن

كانا في هذا الأمر، كضيف عمرو وعمرو، وصار للجمعية لسان صدق عند جميع

أحرار العثمانيين، فكانت مبدأ ما كان من وحدتهم بعد حين، وقدم أحمد رضا بك

من باريس إلى مصر، فرغب إلينا أن نضم جمعيتنا إلى جمعية الاتحاد والترقي

فأبى مجلس الإدارة ذلك عليه، وكان مما قلته له إن تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية

والمقصد لا يعد تفرقًا ولا يحدث ضعفًا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق

عناصرهم على المطالبة بالدستور، قال: إن قانون جمعيتنا لا يمنع قبول غير

المسلمين فيها، قلت: نعم، وإننا لا نشكو من القانون. ولكن من عدم تنفيذه، فما

قانونكم - وليس في جمعيتكم رومي ولا أرمني ولا سوري نصراني - إلا كقوانين

السلطنة (حبر على ورق) ولو نفذ السلطان قوانين الدولة على علاتها، لما طالبناه

بمجلس (المبعوثان) لإشراك الأمة معه في الأحكام.

هذا ملخص تاريخنا السياسي في السنين الخالية: سالمنا السياسة فساورت

وواثبت، وأسلسنا لها فجمحت وتقحمت، وكنا نهم بها في بعض الأحيان، فيصدف

بنا عنها الأستاذ الإمام، ولم ننل منها ما نهواه، إلا بعد أن اصطفاه الله، وليس

للمنار حظ في السياسة العملية، وإنما همه أن يكون حرًّا فيما فرض عليه من

الخدمة الملية، وإذا كان (كسائر الصحف) قد أمن على حريته واستقلاله من

استبداد الدولة، فقد بقي عليه أن يجاهد مع غيره استبداد الأمة. فإن في الأمة

أعداء للحرية والاستقلال في العلوم والأفكار والأعمال، يحبون أن تكون الصحف

كما يرون لا كما يرى أصحابها، وأن تنشر فيها ما يعتقدون لا ما يعتقد كتابها، وما

كتاب الصحف إلا معلمون ومرشدون، وهل يُعلِّم الأستاذ تلاميذه ما يعلمون،

ويربي المرشد مريديه كما يريدون؟ وقد جرى على هذا كثير من أصحاب

الصحف المصرية وما كانوا مصلحين، ويجري عليه الآن بعض أصحاب الصحف

العثمانية وما هم بمهتدين، وسيبقى المنار على صراطه لا يبالي بالمخالفين.

نعم، إن المنار يستقبل جهادًا جديدًا في البلاد العثمانية، وقد فرغ من مثله

فيما عداها من مصر وسائر البلاد الإسلامية، فأكثر المسلمين العثمانيين لم يألفوا

حرية البحث في السياسة والعلم والدين، ينظر أغلب الباحثين إلى القائلين دون

الأقوال، وينصرون التقليد على الاستقلال. ولكن يوجد في كل بلد أفراد سلمت

فطرتهم، واستنارت بالحق بصيرتهم، يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حالنا

الاجتماعية والدينية، ويعلمون أنه يتوقف على استقلال الفكر والحرية، وإن هؤلاء

على قلتهم ليغلبون أولئك على كثرتهم، وسيبرزون لهم بعد استقرار الدستور

مجادلين لا مجالدين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) فهذه الفئة هي التي يشد المنار أزرها، ويشد بها أزره،

وينصرها في جهادها ويتقاضاها نصره {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

سيقول السفهاء من الناس، وأهل الإرجاف والوسواس: إن هذا المنار يدعو

إلى الفوضى في الدين، بترك مذاهب الأئمة المجتهدين، وينصر مذهب الوهابية

على مذهب السنة أي: الحشوية، ويبطل القول بالكرامات، بإنحائه على الدجل

والخرافات، وحجة أنصار المنار على هؤلاء، ومن يقلدهم من الدهماء، الذي

يثبت أنه يتحرى الحق والصواب، ولا يريد إلا الإصلاح ما استطاع، دون

التعصب لمذهب على مذهب هي قبوله انتقاد المنتقدين في مسائل الدنيا والدين، إذا

أيدت الأولى بالعلم والعقل، والثانية بما يصح من النقل، مع التزام النزاهة

والآداب واجتناب الحشو والإطناب، فمن زعم أن في المنار باطلاً فليكتب إليه،

دون أن يعصي الله بغيبته والطعن عليه، وللحق السلطان على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ

بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ

جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا الحسيني

_________

(1)

يريد برفيقي عبد الحليم حلمي أفندى مراد، وكان يؤمئذ مديرًا لأشغال المنار، وكان يسافر إلى الآستانة قبل ذلك، وبلغني أنه اجتمع بأبي الهدى، ولم أدر ماذا كان بينهما، ولم يكن لذلك السفر علاقة بالمنار.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطاب صاحب المنار

على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

أيها الأخوة الكرام:

إنكم أنتم محل رجاء البلاد بتربيتكم وما تتلقون من العلوم العالية؛ لذلك أحب

في هذا الوقت القصير أن أذكركم بما ينبغي لطالب العلم أن يكون عليه؛ ليتحقق

رجاء أمته فيه.

إن العلوم تُطْلَب لغرضين صحيحين: أحدهما تكميل النفس وترقية العقل.

وثانيهما العمل بالعلم، وللعمل به مسلكان: أحدهما جعله حرفة ومُسْتَغَلاًّ للعامل،

والآخر جعله وسيلة لترقية الأمة وإعلاء شأنها، ويمكن الجمع بينهما.

الغرض الأول لا بد منه لكل عاقل، وهو العون الأكبر على الغرض الثاني،

فإن من استنار عقله بالعلوم، وصار صحيح الحكم فيها، تعلو همته، ويكون جديرًا

بالإحسان في العمل والإتقان للصنع، فيجب إذًا أن يكون هو أول شيء تتوجه إليه

همتكم، وتعظم فيه رغبتكم.

يظن بعض ضعفاء العقول وصغار النفوس أن طلب العلم لأجل ترقية شأن

الأمة به، ينافي ما أودع في الغرائز من كون منفعة الإنسان لنفسه هي العلة الغائيَّة

لكل عمل من أعماله، وأن من توجه إلى ذلك وجعله همه من حياته، تفوته

مصالحه ومنافعه التي لا بد له منها.

تلك خديعة الطبع اللئيم، ووسوسة شيطان الخسة والصغار لصغار الهمم،

فقد رأينا بأعيننا وسمعنا وروينا عن التاريخ أن الذين يقفون حياتهم على خدمة أمتهم

لا يعوزهم الطعام واللباس اللائق بهم، بل كانوا يفضلون عيشتهم على كل عيشة

سواها؛ لما لهم من الكرامة ورفعة الذكر، إن لم يكن في بداية أمرهم ففي نهايته.

إن من يسلك في طلب العلوم مسلك الاحتراف، قصده منه أن يجعله دكانًا

يتجر به أو بستانًا يستغله؛ ليعيش منه لا يرتفع به إلى ما هو أعلى من هذا القصد،

فإن قيمته في الوجود لا تعلو قيمة غيره من أصحاب الحرف والصناعات العملية:

كالنجارة والحدادة والزراعة. لا أقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم، وكيف أقول ذلك

وأعمالهم لا بد منها للمجتمع الإنساني، وإنما أقول: إن هؤلاء هم أهل الطبقات

الدنيا من الناس الذين لم يرتقوا في أفق الإنسانية. ويسهل على طلاب العلوم

لأجل الكسب والاحتراف أن يكونوا في أفق أعلى من أفقهم بأن يوجهوا أنفسهم إلى

إعلاء شأن الأمة بكسبهم وأعمالهم.

أيها الإخوة: إن استعداد البشر للكمال لا حد له يعرف، ولا طرف له يوقف

عنده، وإن الإنسان قد فطر على طلب الكمال، فلا يصل إلى شيء منه إلا ويطلب

ما فوقه، وإن أفراده يتفاوتون في ذلك تفاوتًا لا نظير له في غيره من المخلوقات،

فمنهم من يكون وجوده بمقدار محيط جسمه، لا يكاد يهمه شيء وراء توفية مطالبه

كبعض الحيوانات الدنيا، ومنهم من يتسع وجوده حتى يملأ بلدًا كبيرًا أو مملكة

عظيمة، وربما تعلو ببعض الناس همتهم إلى جعل وجودهم المعنوي ساريًا في أمم

كثيرة، مالكًا للأرض التي يعيش فيها الإنسان.

ولا نتكلم في هم الإنسان واستشرافه لما هو وراء ذلك من عالم الغيب، إذا كان

فضل الإنسان وسعة وجوده الإنساني على قدر نفعه بعلمه وعمله، فلا شك أن من

تتوجه نفسه إلى نفع جميع البشر، يكون أفضل وأكمل ممن لا يتوجه إلا إلى نفع

أمة واحدة أو شعب واحد. ولكن كيف يتأتى للفرد من الناس أن يخدم أممًا كثيرة؟

الجواب على هذا السؤال يعرف من القاعدة المعقولة التي جاء بها الحديث

النبوي، وجرى عليها الشرع الإسلامي، وهي (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول: الأقرب

فالأقرب) ، وقد قال فقهاؤنا: إن من وجد من القوت زيادة عن كفايته قدمه للأقرب

إليه من ولد وزوج

إلخ، فإن وجد فضلاً أنفق منه على غير الأقربين من ذوي

الحاجات، حتى قالوا: إنه يجب على المسلم أن ينفق على المضطر من غير

المسلمين، ما لم يكن محاربًا لنا، وإنه يقدم الجار على غيره؛ لقربه! فعلى هذا

يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم، والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن

يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم ثم نفيض بعد

ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه

الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها.

أليس منشئو هذه المدرسة يقصدون بها جعل العلم الذي ينفع الناس وسيلة

لنشر لغتهم، وبث تعاليم مذهبهم الديني في نفوس من يُعلِّمونهم؟! بلى، وإن في

حالهم هذه لعبرة لنا، يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نرفع أنفسنا لتكون أولى بهذه

الثقة منهم.

يجب عليكم أن تتعاونوا وتعتصموا بعروة الاجتماع، وأنكم ربما تلقون كيدًا

وإحراجًا؛ لتشذوا وتتنكبوا جادة الاعتدال في استمساككم بدينكم وحرصكم على

الاجتماع والتعاون، فيجب أن تتسع صدوركم لجميع ما تنكرون من معاملة من معكم،

وأن تقابلوهم بالأدب في القول والفعل؛ لأن الأدب من الفضيلة وهي مطلوبة

لذاتها؛ ولئلا يكون لهم عليكم حجة بعد أن ثبتت لكم الحجة عند دولتكم ودولتهم.

إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم

وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب. وإني أُجِلُّكُمْ عن قصد

العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته.

وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم،

وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة،

فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) .

إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة؛ لسماع تعاليم

دين غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين، {اسْتَعِينُوا

بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) .

_________

ص: 16

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

المدرسة الكلية الأمريكانية

المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت كسائر مدارس الجمعيات النصرانية في

الشرق، غرض مؤسسيها منها جعل العلم وسيلةً إلى الدين، ولبعضها غرض سياسي

أيضًا، فهي طريق من طرق الدعوة إلى مذاهب مؤسسيها في دينهم ، ولهم وسائل

أخرى: كالمستشفيات والمكتبات وحجرات القراءة يبثون فيها دعوتهم، وينشرون

بها مذهبهم، إلا أن المدارس الأمريكانية أحسن من غيرها تعليمًا، وأعلى تأديبًا،

وأشد استقلالاً، وأقل تعصبًا على المخالفين في الدين والسياسة؛ إذ ليس لأمريكا

مطمع في هذه البلاد؛ ولكن قد تؤيد هذه المدارس سياسة إنكلترا.

إن عقلاء المسلمين يقدرون غيرة مؤسسي هذه الجمعيات الدينية حق قدرها،

ويعرفون مقدار المستخدمين فيها لنشر دينهم، والتوسل إليه بالوسائل النافعة

للناس في أجسامهم وعقولهم، ويتمنون لو يوجد في أمتهم الإسلامية أسخياء أجواد،

يبذلون المال لنشر الإسلام مع العلم النافع الذي هو أساس بنيانه، والعمل الصالح

(كالمستشفيات) الذي هو أقوى أركانه ، وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة

إلى هذه المدارس التي أسست على دعوة النصرانية؛ لما فيها من العلم، ويعلمون

بما فيها من الضرر لأولادهم في الدين ، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على

عقائد النشء الجديد يمنع من الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع

والمقتضي.

فمنهم من يرجح المقتضي من غير تفكير في عواقب المانع؛ لأن الشعور

بالحاجة إلى العلم قد استحوذت على فكره، حتى حال بينه وبين سلطان قلبه ، ومن

يرجحه لاعتقاده أن المسلم لا يكون نصرانيًّا؛ لأن الدين قد سار على سنة الارتقاء

تبعًا لاستعداد البشر، فكان الإسلام منتهى ارتقائه، وهو الدين المعروف تاريخه،

المتواتر كتابه، المحفوظ سند سنته، ومن وصل إلى الدرجة العليا في شيء لا

يرضى لنفسه أن يهبط إلى ما دونها ، ولذلك يبذل دعاة النصرانية الألوف المكررة

من الدنانير في دعوة المسلمين إلى دينهم بالأساليب العجيبة، ويقضون السنين

الكثيرة في البلد من بلادهم، ولا ينجحون باستمالة رجل واحد وإرجاعه عن

الإسلام! وإن كانوا يوهمون جمعياتهم التي تمدهم بالمال، فيكتبون إليها في كل عام

أنه قد تنصر في هذه السنة على أيدينا فلان وفلان، ويذكرون أسماءً سموها

بأقلامهم لم يعرف مسمياتها الزمان ، ولكن الإسلام يجذب إلى رحابه الفسيح في كل

سنة ألوفًا من الناس بغير دعوة ولا ترغيب ، كترغيب دعاة الإنكليز والأمريكان،

ولا ترهيب كترهيب دعاة الروس في بلادهم! .

نعم ربما يقذف الفقر في كل حقبة من الزمن برجل من المسلمين جنسيةً لا

حقيقةً، فيلقيه في ملجأ من ملاجئهم، أو فناء من أفنيتهم، فيسهل له العوز انتحال

اسم من أسمائهم، أو لقب من ألقابهم، وربما أغراه المال بأن يكون داعيًا من

دعاتهم كما فعل (أرميا الحزين) الذي استجاب لرقيتهم بمصر، ثم فضحهم وهو

يبشر لهم في الجزائر؛ إذ كتب مقالات في المؤيد بيَّن فيها أنهم يدَّعون في كل بلد

إسلامي نجاح دعوتهم في غيره، ويدعون في تقاريرهم التي يرسلونها إلى جمعياتهم

أنهم ناجحون في كل بلد، والغالب فيمن يجنح لهم أن يعود إلى الإسلام ولو بعد

حين.

وقال السيد جمال الدين الأفغاني في بيان سبب إخفاق دعوة المبشرين بين

مسلمي الهند: إن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة،

فإنه يقرر الإيمان بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - دون ما زاده الغلو

على ذلك، ويزيد على ذلك الإيمان بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - وبما جاء به

مصدقًا لما قبله.

وحدثني شاكر بك الذي كان رئيسًا للجزاء بطرابلس الشام من بضع عشرة

سنة، أنه كان في بلدة ليس فيها مدرسة للبنات إلا جمعية للراهبات، فوضع بنتًا له

فيها فرأتها أمها يومًا ترسم شكل الصليب على وجهها أو صدرها، فوجمت

وامتعضت، وشكت وبكت، وقالت: لا بد من إخراجها من هذه المدرسة ، قال:

فهونت عليها الأمر، وكنت أقول لها: جانم إن ابن المسلم لا يكون نصرانيًّا أبدًا،

ولم أقبل توسلها إليَّ بإخراجها، وقد تعلمت حتى أتمت تعليمها عند الراهبات،

وهي الآن تقرأ القرآن الشريف وتصلي وتصوم، ولم يضرها حرص الراهبات

على تنصيرها.

هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه المدارس الدينية،

ومنهم من يرجح المانع على المقتضي، كما هو المعتمد في المسألة عند أهل

الأصول، كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:

قالوا فلان عالم فاضل

فأكرموه مثلما يرتضي

فقلت لما لم يكن عاملاً

تعارض المانع والمقتضي

ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في

دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم

بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها، وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يظن

أنه منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا

إلا إذا قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مجمع عليه معلوم من الدين

بالضرورة ، ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم: كالأولاد

الذين يوضعون في هذه المدارس، أن يسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون

عندنا كفرًا وردةً، وأهونها أن تكون معصيةً، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ

منا، ومات قبل أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء

الراسخين مات مرتدًّا، لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا

مات أبوه أو أمه أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون

أيضًا: إن بعض فقهائنا صرح بأن الرضا بالكفر كفر، فإذا رضينا بشيء من ذلك

نكون نحن مرتدين أيضًا.

وهذا الذي يتخوفونه على دينهم ليس ببعيد عن مدارس الكاثوليك

والأرثوذكس ولا سيما مدارس الجزويت، كما بلغنا من مصادر كثيرة تصل إلى

درجة التواتر المعنوي؛ من أنهم يلزمون أولاد المسلمين بجميع تقاليدهم الدينية

حتى تعظيم الصور، والتماثيل، والاستغاثة بالقديسين، وذلك في حكم الإسلام شرك

نعتقد أنه طرأ على النصرانية بعد المسيح عليه السلام وحوارييه عليهم

الرضوان بعدة قرون ، وإن كان القرآن لا يدخلهم في لقب المشركين ولا نحن

نخاطبهم به؛ لأنهم يتبرأون منه ويتأذون به، وإيذاؤهم محرم علينا سواء كانوا

ذميين أو معاهدين، وقد بينا ذلك في المنار أكثر من مرة ، أما ما ذكرناه في هذا

المقال فبيان لما يعتقده المتساهلون وغير المتساهلين منا، نرجو أن يكون سببًا

لحسن التفاهم بيننا وبين العقلاء المعتدلين منهم: كعمدة المدرسة الكلية

الأمريكانية في بيروت.

قد قلنا في أول المقال: إن مدارس الأمريكان أقل تعصبًا على المخالفين،

وقد جرى بيني وبين أحد أساتذة المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت حديث في

الخلاف الذي جرى بين تلاميذ المسلمين وعمدة المدرسة على دخول الكنيسة؛

لسماع الوعظ الديني. إذ امتنع التلاميذ من الدخول بعدما صارت الحكومة العثمانية

دستوريةً حرةً، وأصرت المدرسة على إلزامهم أحد الأمرين: إما الاستمرار على

دخول الكنيسة كما كان الأمر على عهد الحكومة الاستبدادية، وإما الخروج من

المدرسة وترك التعلم فيها ، فاجتمعوا وتقاسموا لنثبتن على رأينا: لا ندخل ولا

نخرج، حتى رفع الأمر إلى الآستانة، وبعد مراجعة حكومتنا هناك لسفير الولايات

المتحدة، تقرر بينهما ما بلغته نظارة الداخلية لوالي بيروت وهو أنه لا يلزم

المسلمين دخولُ الكنيسة، بل يجب أن يبنى لهم مسجد يصلون فيه ، وأن السفير

بلغ معتمد (قنصل) حكومته في بيروت ذلك؛ ليبلغه المدرسة الكلية ، وقد كان

الحديث بيني وبين ذلك الأستاذ قبل ورود هذا البلاغ من الآستانة، وحضره جماعة

من فضلاء النصارى.

قال الأستاذ ما معناه: إن المدرسة الكلية لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال

الدينية التي يقررها بعض مذاهب النصرانية، ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم

التي تخالف مذاهب مؤسسيها، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق مع كل دين،

وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في نفوسهم تقوى الله وحب الفضيلة،

وتبعدهم عن الإلحاد والتعطيل، فإن المؤسسين لها من أهل الدين والمحافظة عليه

أهم مقاصدهم ، وإن المكان الذي تلقى فيه المواعظ الدينية ليس كنيسة مؤسسة لأجل

العبادة، بل هو مكان تلقى فيه الخطب العلمية والأدبية وغيرها، ويعزف الحسان

فيه بآلات الموسيقى.

(قال) : فهل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين دخول هذا المكان،

ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟

قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل، ومنهم من يتبع فقهاء

مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى

معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم من أمور الدين فيها وكذا

في خارجها: إما محرم وإما كفر، في تفصيل لهم في ذلك ، فلعل تلاميذكم يعتقدون

أن دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن

كان لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت، ليس معبدًا

دينيًّا، ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام.

(ثم قلت) : إن احترام النظام في المدارس والبيوت وكل مكان ركن عظيم

من أركان التربية، ومن لم يتربَّ على احترام النظام والتزامه لا يكون رجلاً عظيمًا

نافعًا لأمته ووطنه ، ولكن احترام الاعتقاد والضمير أقدس وأعلى من احترام النظام،

فإن من لا يحترم اعتقاد نفسه يكون منافقًا لا يوثق به في شيء من الأشياء. وإن

إكراه التلميذ في ذلك أشد إفسادًا لأخلاقه من كل ما يخطر في البال أنه يفسد الأخلاق؛

إذ لا يرجى ممن لا يحترم اعتقاده أن يحترم أسرته ولا أمته، فضلاً عن احترامه

لمن لا يتصل به في وشيجة رحم ولا مصلحة وطن.

(قلت) : إنني إذا رأيت إنسانًا يعتقد بأن هذه البلاطة من الرخام (وأشرت

إلى بلاطة في الأرض) تنفع وتضر، ورأيته يعبدها ويحترمها، فإنني لا أجيز

لنفسي أن أكرهه على دوسها والوطء عليها، ولا أن آمره بذلك إلا بعد أن أقنعه

ببطلان اعتقاده فيها ، وقد وقع لي واقعة في ذلك: وهي أن رجلاً أخبرني بأن

خصمًا لي في محاكمة شرعية حمله كتابًا إلى آخر، وسألني ماذا يفعل فيه، وأنا

أعلم أنه يطيعني في كل ما آمره به، وأن في الكتاب حجةً لي على خصمي تصلح

فصلاً للنزاع، وتوفر عليَّ وقتًا طويلاً ونفقةً كثيرةً، ولو شئت لأخذت الكتاب فإن

حامله لا يخالف أمري، ومع هذا لم أستحل أن آمره بالخيانة.

ولما حدثت مشكلة القضاء الشرعي بمصر من زهاء عشر سنين، وعزم

الإنكليز على إلزام الخديوي بعزل القاضي المولى من السلطان، وتولية قاضٍ

مصري مكانه كره الخديوي ذلك ، ولكنه لم يهتد إلى المخرج منه، فطلب أن يجيء

الأستاذ الإمام من القاهرة إلى الإسكندرية (وكان الخديوي في مصطافه فيها) ،

فجاء رحمه الله ليلاً، وقابل الأمير في الصباح، فقال له: إنني طلبتك بلسان

البرق؛ لأستشيرك في مشكلة القاضي، وبعد خروجك من هنا سيدخل لورد كرومر؛

لأجل أن يكلمني في وجوب عزل جمال الدين أفندي، وتولية أحد علماء مصر

منصب قضاء مصر الشرعي ، وسيجتمع بعد ذهابه مجلس النظار هنا؛ لتقرير ذلك،

فبماذا أدفع اللورد بحسب رأيك؟ فقال الأستاذ: إن الإنكليز من أشد خلق الله

احترامًا لحرية الضمير والاعتقاد؛ حتى إنهم ربما ذكروا ذلك في قوانينهم، فإنهم

لما وضعوا قانون التلقيح للوقاية من الجدري، كان من مواده أنه يجبر عليه كل أحد

إلا من يقول: إن ضميره لا يجيز له ذلك، فإذا كنتم تعتقدون أن تولية القاضي من

حقوق السلطان وأنه لا يجوز لكم أن تعينوا القاضي من قبلكم، فيكفي في إقناع

اللورد بالرجوع عن طلبه، أن يقول له أفندينا: إن ضميري لا يسمح لي بذلك؛

لأنني أعتقد أن هذا حق السلطان وحده، فمتى سمع هذا الجواب يذعن له، ولا

يمكن لمثل لورد كرومر في تربيته الإنكليزية العالية أن يقول لكم: خالفوا ضميركم ،

وقد كان الأمر كما قال الأستاذ، وبذلك انحلت المشكلة بعد أن كان عزل قاضي

السلطان قد صار في الأمر المقضي الذي لا مراجعة فيه، حتى إن جمال الدين

أفندي باع داره، وتهيأ للسفر من مصر إلى الآستانة.

هذا ما أجبت به أحد أساتذة المدرسة الكلية، وقد استحسنه من سمعه،

واعترفوا بأن من إفساد الأخلاق أن يؤمر الإنسان بفعل ما يعتقد أنه قبيح أو محرم

عليه، ثم جاءني بعض تلاميذ الكلية من المسلمين، وسألوني عن رأيي في مسألتهم

وسألتهم عن سببها وعلتها، فاستفدت من المراجعة ما يأتي:

(1)

إن التلاميذ يُلزمون الدخول كل يوم الكنيسة (Chapel) ، والمكث

ربع أو ثلث ساعة؛ لسماع نبذة من العهد الجديد أو العهد العتيق، تختم بالدعاء

الذي يعبرون عنه بالصلاة، وكل يوم أحد ثلاث مرات، يمكثون كل مرة زهاء

ساعة ونصف.

(2)

إنه يوجد في المدرسة جمعية أرمنية لتلاميذ الأرمن، وجمعية يونانية

لليونانيين، وجمعية للمصريين من المسلمين والنصارى، وجمعية مسيحية تسمى

جمعية الشبان المسيحيين، وجمعية لليهود.

(3)

طلب التلاميذ المسلمون إنشاء جمعية إسلامية؛ تبحث في ترقي

المسلمين مع عدم الخوض في السياسة، فرفض طلبهم.

(4)

طلبوا أن يجتمعوا ليلة المولد النبوي؛ للبحث في سبب الاحتفال في

مثل ذلك اليوم وما يحسن فيه، فمنعوا ، فهذا هو السبب لتألب المسلمين ، وذكر لي

عبارات شاذةً في الطعن في الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، سقطت من بعض رجال

المدرسة الأمريكانيين، هاجت النفوس، وأعدتها للحركة التي ظهرت بعد ذلك

عندما جاء وقتها، ولا نذكرها في هذا المقال؛ لأنها ليست من نظام المدرسة ولا

من أعمالها المطردة.

بعد هذا كله نقول: إن مؤسسي المدرسة بأموالهم ومديري شؤونها والمعلمين

فيها كلهم من أهل الفضل والخير، والعلم بطبائع الأمم وأخلاق البشر وأحوال

الاجتماع، فهم يعلمون أن الظلم (ومنه منع المسلمين من الاجتماع كاليهود بَلهَ

النصارى) ينتج في المستقبل ضد ما يراد منه في الحال، وإن الأمم لا ترهق في

زمن الدستور والحرية، بما كانت ترهقه في زمن الاستبداد والعبودية، فكان عليهم

أن يتذكروا هذا فيلينوا ويتسامحوا مع التلاميذ المسلمين عند امتناعهم عن دخول

الكنيسة، ثم يستميلوهم إلى احترام المدرسة بالعدل والمساواة بينهم، وبين غيرهم

من الملل والشعوب في تأليف الجمعيات، بأن يأذنوا لهم بتأليف جمعية إسلامية.

فإن الرئيس الذي لا يعدل لا يطاع بالاحترام، وكيف يطالب بالنظام من يتعصب

ويحابي في النظام، ثم يجعلون تلك المواعظ خاليةً مما يخالف الإسلام ويعارضه،

ويقنعون أولئك التلاميذ بأن حضورها بهذه الصفة لا يحظره الإسلام فيكون نفاقًا

وما أسهل ذلك عليهم إذا جاؤوه من بابه.

إن جميع من في المدرسة الكلية من الرؤساء والمعلمين، يعلمون أن ما يلقى

فيها من المواعظ عادةً لا يَرُدُّ المسلم عن الإسلام إلى النصرانية؛ ولكنه لا يخلو من

نوع من الألفة والمودة وتقريب الطوائف بعضها من بعض، وهذا المقصد العالي

الذي يسعى إليه الحكماء الذين يخدمون الإنسانية خدمةً خالصةً من شوائب السياسة

والهوى ، فإذا كان رؤساء المدرسة يرمون إلى هذا الغرض فعليهم أن يتذكروا أن

الرمي إليه عن قوس العزة والإدلال، والإكراه والإذلال، هو الذي يطيش سهمه،

ويفضي إلى ضد ما يراد منه، وأن الحب لا يكون بالغضب، وإنما التحبب داعية

الحب.

بلغني أنهم يقولون: إن المدرسة مسيحية أنشئت بمال المسيحيين؛ لأجل بث

الدين المسيحي، فمن لم يرض بدخول الكنيسة، وتلقي التعليم المسيحي فيها فلا

يدخلن مدرستنا، وهذا القول على مخالفته لفحوى ما سمعته من أحد معلمي المدرسة

يمكن أن يقوله بعض رؤساء المدرسة؛ احتجاجًا وانتصارًا لأنفسهم، وما أظن أن

جميع أولي الشأن في المدرسة؛ يرضون بأن يكون فصل الخطاب في المسألة

حرمان المسلمين من المدرسة، أو إخضاعهم لما سبق بيانه من المعاملة التي تنفر

القلوب، وتورث العداوة والبغضاء، والتعصب الذميم.

وصفوة الكلام في هذا المقام أنه يتعذر على المدرسة الآن إلزام من فيها من

المسلمين ما ذكروا، بعدما اجتمعوا وتقاسموا، واتفقت حكومة الآستانة مع سفارة

الولايات المتحدة على عدم جواز ذلك ، وأن أمامها في السنة الآتية أحد أمرين: إما

التساهل والتسامح في قبول التلاميذ المسلمين؛ لتأليف النفوس وجذب القلوب

بعضها لبعض، والاكتفاء من الخدمة الدينية بهذا المقدار، مع ترقية العقول بالعلم،

والنفوس بالتربية الأدبية الاجتماعية ، وإما عدم قبول المسلمين في مدرستهم وهم

أحرار مختارون في ذلك.

فإن اختاروا الأمر الأول حمدهم المسلمون وحمدتهم الإنسانية، وكانوا أقرب

إلى مقصد الدين الحقيقي الذي لا خلاف فيه بين المسيحية والإسلامية، وهي خير

البشر وتآلفهم، وإن اختاروا الأمر الثاني فإنهم يعلمون المسلمين درسًا جديدًا،

قد يضرهم ويضر من يعيش معهم من جهة تباعد القلوب، وقوة التعصب الذي

يشكو منه محبو التأليف والتوفيق؛ ولكنه ينفعهم من جهة أخرى بما ينهض من

هممهم، ويرفع من نفوسهم ويدفعها إلى الاعتماد على ذاتها، ومباراتهم في تأليف

الجمعيات الدينية لإنشاء أمثال هذه المدارس لأنفسهم.

سيقولون: إن المسلمين لا يستطيعون الآن إنشاء مدارس: كالمدرسة الكلية،

بل كثيرًا ما قالوا؛ ولكن هذا القول لا حجة له إلا ما يعهده من بخل أغنياء المسلمين

بالمال في سبيل العلم والدين ، وهذا عرض لا يدوم، فها نحن أولاء نرى إخواننا

المصريين قد بدؤوا يبذلون الألوف من الدنانير لإنشاء المدارس، وقد سبقهم إلى

ذلك مسلمو الهند ومسلمو روسيا ، وقد دبت الحياة في المملكة العثمانية، فيرجى أن

تسبق غيرها في هذا المضمار لمكانتها العالية من سائر بلاد المسلمين.

إن مسلمي العثمانيين لا بد أن ينشطوا في هذا العصر من عقالهم، ويعلموا أن

التعليم الأجنبي المحض مهما عظم نفعه لا يؤمن ضرره، فإنه إن خلا من الطعن

في الإسلام أو تفضيل غيره عليه، فإنه لا يخلو من إضعاف للعاطفة الملية، وحل

للرابطة القومية؛ فإنه يحول مجاري الفكر في العلوم ومهابَّ أهواء النفوس في

الأخلاق والآداب إلى جهة المعلمين والمربين من الأجانب، فيجعل عقول نابتتنا

وقلوبهم ملكًا لهم، أو وقفًا عليهم، أو مجذوبةً إليهم، أو مفضلةً لمقومات أمتهم على

غيرها ، وبذلك ينقص من مقومات أمتنا ومن احترامها في نفوس نابتتنا بمقدار ما

يزيد في نفوسها من عظمتهم، فلا نطمع في مجاراتهم ومباراتهم، فضلاً عن

مسابقتهم ومقاومتهم، بل نكون دائماً عيالاً عليهم، ناهيك بما في العلوم من الشبهات

على الدين التي يسهل دفعها عن الإسلام، لو كان المعلمون عارفين بحقيقته،

واردين عين شريعته.

فهذه العلوم التي تؤخذ من هذه المدارس، لا تكون حياةً حقيقيةً لأمتنا إلا بعد

أن يصير زمام التعليم والتربية في أيدينا، فيجب على تلاميذنا في المدرسة الكلية

الأمريكانية في بيروت وعلى أمثالهم في غيرها؛ أن يعدوا أنفسهم ليكونوا عونًا لنا

على ذلك بإتقان أساليب التعليم ونقل العلوم إلى لغتنا، وسيرون من الأمة نهضةً

مباركةً في إمدادهم بالمال، وأن لا يكرهوا ما يرون من هضم حقوقهم، وعدم

مساواتهم برفاقهم من أبناء الملل الأخرى، فإن هذه المعاملة هي التي تحرك غيرتهم

وتجمع كلمتهم، فليتقبلوها بسعة الصدر، وإطالة الفكر، وحسن المعاملة، وكثرة

المجاملة، وطاعة النظام، ولين الكلام، والتواصي بالحق والصبر، حتى تكون

حجتهم هي الناهضة، وعاقبتهم هي الحسنى {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ

فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .

_________

ص: 18

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

كثر حديث الناس في الحكومة العثمانية الجديدة، وما يُنتظر منها من

الإصلاح بعد أن قضى أحرار الأمة وجيشها على الحكم الشخصي الاستبدادي،

وأدالوا منه حكم الشورى الدستوري، وكثرت أقوال الجرائد في ذلك، ولكننا نرى

أكثر الحديث في الأمور الكمالية التي لا يكون إصلاحها إلا في السنين الطوال:

كالمالية والمعارف والحربية والبحرية والعدلية (الحقانية) والزراعة، وقلما نرى

أحدًا يذكر أهم المهمات الذي يجب تقديمه على كل شيء بلا استثناء، ألا وهو

تنظيم الشرطة (الضابطة والبوليس) لأجل حفظ الأمن العام، وتنفيذ الشرع

والقوانين بالعدل والمساواة.

أعلن الدستور وأعيد القانون الأساسي، فصاح الصائحون بالناس في كل بلد

أنِ احتفِلوا به، فاحتفَلوا، وقيل لهم: اخطبوا واهتفوا، فخطبوا وهتفوا،وقام الأحرار والمستعدون للحرية في وجوه أعوان الاستبداد والعبودية فأنزلوا أناسًا عن مراتبهم

وعزلوا أفرادًا من مناصبهم وأنذروا آخرين بلاء يحل بهم وبشروا العامة بالخير القريب

والعز العتيد، والنعيم المقيم، فذهبت النفوس في فهم ذلك مذاهب، ووردت منه

مشارب، حتى فسَّره بعضهم بإباحة الحقوق وإلغاء الإتاوات والضرائب، وقد انقسم

الناس في فهم الدستور إلى أقسام ليس من غرضنا بيانها في هذه المقالة، وإنما

نقول: إنه يوجد في البلاد العثمانية كثير من المستخدمين في الحكومة، والذين

عزلوا بعد الدستور أو استقالوا، ومن أصحاب النفوذ والجاه يمقتون الحكومة

الحاضرة، ويحنون إلى الاستبداد السابق؛ لاعتقادهم أنه ينمي مالهم ويوسع دائرة

جاههم؛ لأنهم يتبعون هوى رؤسائه مهما كان فيه من خراب ذمتهم ودينهم،

وخراب بيوت معظم الأمة، والقضاء العاجل على الدولة. فهؤلاء يوسوسون للعامة

ماذا استفدنا من الدستور والحرية؟ كان يستبد بنا في البلد رجل واحد فصار يستبد

بنا جميع الأشقياء. ومثل هذا الكلام يروج عند العامة التي تنتظر الراحة والسعادة

من الحكومة الجديدة، إذا لم تكذبه هذه الحكومة بالعمل في أقرب وقت.

ماذا يجب على الحكومة قبل كل شيء؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي، وهو

أن الواجب قبل كل شيء، حفظ الأمن العام والحرية الشخصية، ولا يتم هذا على

وجهه إلا بتنظيم الشرطة (الضابطة) ولذلك نرى الولاة والمتصرفين يتململون

من كثرة الاعتداء بالضرب والقتل، فإذا طولبوا بتربية المجرمين يقولون: إننا

ننتظر التعليمات الجديدة في إصلاح الشرطة من الآستانة في أول السنة المالية

القادمة.

هكذا قالوا لنا عندما تكلمنا معهم، ورأيناهم يعلمون كما نعلم أن من في البلاد

من الشحنة والشرطة، قد أفسد أكثرَهم حكمُ الاستبداد الماضي فصاروا أعوانًا

للأشقياء والمجرمين، وقد اقترحنا عليهم أن يستبدلوا شرطة لواء بشرطة لواء آخر

فاعتذروا عن ذلك بقلة الرواتب، وقالوا: إن من ينقل من بلد إلى بلد يحتاج إلى

نفقات جديدة لا يفي بها راتبه، وستزاد الرواتب في أول العام القابل، فيتيسر نقل

هؤلاء إلى بلاد لا صلة لهم بأشقيائهم، ويكونون تحت مراقبة شديدة.

هذا ما ينتظره والي الشام وجميع ولاة المملكة؛ لأجل حفظ الأمن وحماية

الحرية الشخصية. ويحسبهم الجمهور غير مبالين بما يقع حينًا بعد آخر من

الجنايات والمظاهرات التي تنبئ باحتقار العامة للحكومة.

لولا أن الأجل المضروب للبدء بالإصلاح المطلوب قريب، لخشينا أن

يفضي إهمال الحكومة للعامة إلى الفوضى، وإن كان أكثر أهالي بلادنا لا يزالون

على حظ عظيم من حب السلامة وحسن الأخلاق، على ما أفسد الاستبداد من

أخلاقهم، فقد رأينا مثال ذلك في مصر، فإن الجنايات وإهلاك الحرث والنسل في

القطر المصري أشد وأكثر مما هو في القطر السوري على كون الحكومة المصرية

أرقى من الحكومة العثمانية. والسبب في ذلك ما أعطته الحرية للعامة من احتقار

الحكومة والأمن من سطوتها، إلا أن تثبت تهمة على متهم في المحاكم مع جهل

أكثر الأهالي وإفساد الاستبداد السابق لأخلاقهم، ولا تزال الحكومة المصرية في

حيرة من أمر الأمن العام على كثرة بحثها وبحث أصحاب الجرائد وغيرهم من

الكتاب وأهل الاختبار، في وسائل ذلك منذ سنين.

لو أخذ ولاتنا بالحزم في أوائل العهد بإعلان الدستور، وساعدتهم جمعية

الاتحاد والترقي التي أخذت بيدها صولجان السلطة عدة أشهر لدى حكومة الآستانة

بأمرها، فقبضوا على كل من يرتكب جناية وعجلوا بمجازاته حتى بالقتل، إن قتل

لأراحوا أنفسهم وأراحوا الأمة في الحال مما تشكو منه، والحكومة في المستقبل مما

سوف تشكو منه، إذا كانت تريد أن تبقي على سياسة الرقة واللطف (النزاكة)

التي اتبعتها منذ أعلن الدستور إلى اليوم، وتقيد الحكام بظواهر القوانين.

رأى زعماء سياسة الرقة واللطف أننا قد أخذنا الدستور نظيفًا غير ملوث بالدم

فيجب أن نتقي سفك الدم في دور الانقلاب، ونداري المفسدين والمجرمين إلى أن

يستقر الدستور في نصابه وهو على نظافته؛ ولكن هذا الرأي إنما يصح في بلاد

خشي فيها من الفتن والثورات الداخلية، إذا فوجئ أهلها بما يكرهون كبلاد الحجاز

لا في بر الشام الذي ليس فيه استعداد للثورة، ولا خطر في بال أحد من أشقيائه؛

أنه يمكنه أن يقف في وجه الحكومة بنفسه أو بعصبته، إذا هي حاولت أن تسلط

العدل على الأخذ بناصيته! !

ألا إن أكثر زعماء سياستنا ليجهلون حال الأمة في جميع الولايات، ويولون

عليها من الولاة والمتصرفين من لا وقوف لهم على حقيقة حالها، حتى إنني أحسب

أن ناظم باشا لا يزال غير محيط علمًا بحال ولايتي بيروت وسورية على ذكائه

واختباره لهما في سني الاستبداد وشهور الدستور، فما ظن القارئ بأدهم بك والي

بيروت الجديد الذي كان عائشًا في أوروبا فانتقل منها بعد الدستور إلى الآستانة

فبيروت! ثم بمثل متصرف طرابلس جاويد بك؟ ولقد يعز على هذا المتصرف

وذاك الوالي أن يعرفا حال البلاد وأهلها في زمن قريب لعلتين فيهما: عدم التكلم

بالعربية والعزلة. فإنهما يكادان لا يكلمان أحدًا في غير أمور الحكومة الرسمية

في دار الحكومة، ومن كان هذا شأنه فكيف يقف على حقيقة حال البلاد، ومن لا

يقف على حقيقة حالها، كيف يسوسها على وجه الحكمة والسداد؟ ! .

يظن أمثال هؤلاء أنه لا يطلب من الوالي أو المتصرف الدستوري إلا أن

يكون عفيفًا مستقيمًا مراعيًا في سيرته للقوانين، وفاتهما أن معرفة حال الناس الذين

وضع القانون لأجل إصلاح شأنهم مقدمة على معرفة القانون، والحرص على تنفيذه؛

لأن العدل في التنفيذ لا يكون إلا بتطبيق المواد على الوقائع، وهذا التطبيق

يتوقف على معرفة حال المتلبسين بالوقائع التي تطبق عليها تلك المواد وإن وراء

ذلك من الاجتهاد في حسن الإدارة، ما لا تغني عنه القوانين وإن نفذت بالعدل.

يتوهم بعض الولاة والمتصرفين أن للأشقياء الذين اشتدت جرأتهم في عهد

الدستورعصائب تشد أزرهم، وأن الحكومة لا تقدر على تربيتهم إلا بعد تنظيم

الشرطة، وأنها إذا حاولت الآن أن تقبض على المشهورين منهم، أو تلزم الشرازم

الذين يفتاتون عليها حدهم، وتحفظ هيبتها في نفوسهم - يثورون عليها ويقاومونها

بقوة السلاح! وأن تركهم على ما هم عليه هو الواجب الآن؛ عملاً بقاعدة ارتكاب

أخف الضررين، وهذا وهْم باطل بالنسبة إلى ولايتي بيروت وسورية، فإن هذه

البلاد وإن ساءت حالها وكثر اختلالها في أواخر عهد الاستبداد، فهي لم تصل في

الشر والهمجية إلى هذا الحد الذي قد يتوهمه بعض حكامها.

هذا التوهم هو الذي كف أيدي الحكومة الجديدة عن تربية المجرمين، فامتدت

أيديهم إلى ما لم تكن تمتد إليه في عهد الاستبداد، حتى صار العقلاء يخشون أن

يفضي احتقار الأشقياء للحكومة إلى الفوضى، وهم لا يعذرون الولاة على إهمالهم،

ولا يعرفون سبب هذا الإهمال؛ إذ لو عرفوه لاجتهدوا في إقناعهم بأن البلاد ليس

فيها عصائب ذات قوة ولا جمعيات سرية، وأن الوالي إذا شاء أن يقبض على

مجرم وينفذ القانون على أي معتدٍ، فعل، إلا أن يفر الشقي الذي تأمر الحكومة

بالقبض عليه قبل أن تصل يدها إليه، وأنه لا يوجد في مدن سورية كلها شقي

تحدثه نفسه بأن يعصي على الحكومة جهرًا، أو يغري الأهالي بعصيانها سرًّا،

على أن إفهام هذا لوالي بيروت؛ لأجل حمله على القيام بعمل لحفظ الأمن، قد يعد

من العبث؛ فإنه لا يتوجه إلى عمل ما في ذلك إلا بعد ورود ما ينتظر من تنظيم

الشرطة والشحنة في أول السنة المالية القادمة وما هي ببعيد.

يجب أن يعد الولاة ومن دونهم من رجال الإدارة لهذا الإصلاح عدته، فإنه

هو الإصلاح الذي يتوقف عليه كل إصلاح، يجب أن يستخرجوا من المحاكم أسماء

المحكوم عليهم بالإعدام وما دونه من العقوبات، وينفذوا ذلك كله بمنتهى الجد

والحزم، ثم يمنعوا الافتئات على الحكومة بالمظاهرات التي لا يبيحها القانون أو

يطلب بها، ما لا يبيحه القانون، ومن أصر على غيِّه يؤخذ منة باليمين.

ويجب على الآستانة أن لا تقيد الولاة بقيود كثيرة، وأن لا تجعلهم عيالاً على

نظارة الداخلية في كل شيء، ولا في أكثر الأشياء، بل فيما لا بد منه، ولا غنى

عنه من الأمور الإجمالية ، فيجب أن يباح لرؤساء الحكام من الولاة، وغيرهم

الاجتهاد في فهم القوانين، وتنفيذها بالمشاورة، كل فيما يختص به مع تشديد التبعة

(المسئولية) عليهم، وجعلهم تحت مراقبة المجالس العمومية التي يجب توسيع

اختصاصها، وكذا اختصاص مجالس الإدارة. وإذا أعيد التفتيش على الولايات،

يكون للأمة أربعة أنواع من الضمان الذي يحول دون استبداد الولاة ومَن دونهم مِن

رؤساء الإدارة: مجالس الإدارة في كل لواء ومركز وناحية، والمجلس العمومي في

الولاية والتفتيش، وشدة التبعة يضاف إليها من قبل الأمة نفسها انتقاد الجرائد، وما

وراءه من إثارة سخط الرأي العام.

وكذا يقال في المحاكم مع ما يجب من استقلال القضاء، وجعل المحاكم

الشرعية المؤلفة من عدة أعضاء، يحكم فيها بالاتفاق أو أكثر الآراء، وإيجاد

محاكم استئنافية شرعية في كل ولاية.

هذا ما عنَّ لنا أن نكتبه الآن، ويغلب على ظننا أن حكومتنا تحتاج في تنظيم

الشرطة والشحنة إلى الاستعانة بالأجانب، كما تحتاج إلى ذلك في كثير من الأعمال

فإن الرجال القادرين على الإصلاح عندنا قليلون كما سيظهر بالعمل، وندعو الله أن

يوفق مجلس الأمة إلى خير الإصلاح المنتظر.

_________

ص: 27

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيهُ الجرائد السورية

إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

إذا كانت تربية الأطفال فنًّا من أدق الفنون، وهو لما يبلغ درجة الكمال على

عناية العلماء والفلاسفة به، فماذا نقول في تربية الأمم؟

يوجد ألوف كثيرة من المربيات والمربين في كل أمة من الأمم المتمدنة.

ولكن الذين يربون الأمم قليلون في كل أمة وكل زمان.

إن للأمم أطوارًا كما أن للأفراد أطوارًا، ولا يحتاج المربي للأفراد في طور

من أطوارهم إلى العلم الواسع، والخبرة الدقيقة، والعناية العظيمة؛ كطور

الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، أو من التقليد والإلزام إلى الرشد والاستقلال، وإن

المربي للأمم يكون عند انتقالها من حكم الاستبداد والعبودية إلى حكم الشورى

والحرية؛ أحوج من مربي الأفراد إلى العلم والخبرة والبصيرة والحكمة.

إن خطباء الأمم والقائمين على تربيتها بالإرشاد والتعليم، وانتقاد الحاكمين

والعاملين هم أصحاب الجرائد، وقد كانت الجرائد العثمانية في مأزق لا تستطيع

فيه حِراكًا، فخرجت إلى مجال فسيح وميدان واسع. ولكن الجولان في هذا المجال

أو الجري في هذا الميدان لا ينبغي إلا للفرسان المهرة، فإن الأرض على رحبها

غير ممهدة، والطرق على سعتها غير معبدة، فأمام من يريد الجولان عواثير

يُخشى عليه من التردي فيها، وعقبات يصعب اقتحامها، وأعلام مشتبهة لا يؤمن

الضلال بينها.

فنون الكلام في الجرائد كثيرة، والانتقاد أدقها مسلكًا، وأصعبها مركبًا،

وأشدها على النفوس وقعًا، وأكثرها ضرًّا ونفعًا، فمن وظائف الجرائد: نقد الحكام

والأحكام، ونقد العمال والأعمال، ونقد العلماء، وكتب العلوم، فلا شيء إلا وهو

معرض لنقدهم. فإن أحسن كتابها النقد كانوا خير العون على الإصلاح، وإن أساءوا

كانوا من عوامل الفساد والإفساد، لا سيّما في مثل الطور الذي دخلت فيه الأمم

العثمانية الآن.

لا يعرف أحد كنه تأثير الجرائد في مثل هذا الطور، كما يعرفه أهل البصيرة

الذين خبروا بأنفسهم أمة كان الاستبداد يسومها سوء العذاب، فانتقلت إلى الحرية

فجأة، ووجد فيها جرائد كثيرة مرخية العنان مطلقة من القيود، ورأوا بأعينهم ما

كان لها من التأثير في تلك الأمة. وإن هذا الوصف ليصدق على بعض العثمانيين

الذين أقاموا في القطر المصري زمنًا طويلاً موجهين عنايتهم إلى اكتناه أحواله

الاجتماعية، فإذا اشتغل هؤلاء بالصحافة العثمانية رجونا أن يفيدوا الأمة جميعًا.

لقد نفعت الجرائد في مصر كثيرًا وأضرت كثيرًا، وأذكر على سبيل العبرة

للجرائد السورية مثالاً من نفعها، ومثالاً من ضررها:

إن للجرائد المصرية أحسن الأثر في النهضة العلمية في القطر المصري،

حيث صار الموسرون يتبارون في دفع ألوف من الجنيهات؛ لإنشاء المدارس،

ويقفون عليها وعلى الجمعيات التي تقوم بإدارتها الأراضي الواسعة ذات الريع

العظيم، وقد كان اشتراك الجمعية الخيرية الإسلامية لا يخرج من كيس الغني الكبير

منهم إلا نكدًا بعد مطالبات كثيرة، وما ذلك الاشتراك إلا جنيهان أو أربعة جنيهات

في العام.

ولم يكن الحث على إنشاء المدارس والدعوة إلى التربية والتعليم غرضًا

خاصًّا لجريدة من تلك الجرائد، ومذهبًا ملتزمًا تدعو إليه وتجعله مدارًا لنهضة الأمة

وسعادتها؛ إلا مجلة المنار التي صرّح في فاتحة العدد الأول منها بهذه الكلمة:

(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) ثم كنا نستطرد من كل موضوع

يكتب فيها إلى الحث على التربية والتعليم، ولا أريد بهذا الاستثناء أن أنيط المنار ما

ذكرت من النهضة العلمية، فأدعي أنه هو روحها الذي به حياتها ونماؤها؛ بل لا

أنكر أن الجرائد اليومية أعم تأثيرًا منه في ذلك، ناهيك بنشرها لأسماء المتبرعين

بما قل أو كثر مع الحمد والثناء. ولو أنها جعلت الدعوة إلى ذلك مذهبًا متبعًا

ومشربًا موردًا لكان النفع أعظم. ولكن شغلتها السياسة عن ذلك وهو أنفع لهم في

سياستهم.

فهل للجرائد العثمانية أن تعتبر بهذا، فتجعل الدعوة إلى التربية والتعليم

ديدنها، والحث على التبرع لذلك وتأسيس الجمعيات لأجله، مذهبها الذي توجه إلى

نشره جل عنايتها؟ فإذا كان للجرائد المصرية العذر في جعل جل همها في السياسة،

فإن جرائد سورية لا نصيب لها من هذا العذر؛ لأنه ليس في بلادها سلطتان

متعارضتان: إحداهما أجنبية؛ بيدها الحل والعقد بالفعل، والأخرى رسمية لها

الاسم وما لا يعارض سياسة الأولى من الفعل، على أننا قد نبهنا أصحاب الجرائد

السورية إلى تقصير الجرائد المصرية في الدعوة إلى التربية والتعليم على الوجه

الذي هو أرجى لتكوين الأمة، وجعلها أمة عزيزة مستقلة في نفسها استقلالاً يفضي

إلى استقلالها في أحكامها وسياستها.

هذا: وأما المثال لضرر الجرائد المصرية؛ فهو طريق انتقادها ولا سيّما

للحكومة، فقد سلك أكثرها فيه مسلكًا أسقط هيبة الحكومة من النفوس، بعد ما كان

لها من هياكل العظمة في كل خيال، وشعور الخشية والبأس في كل قلب، فوثبت

الجرائد بالشعب المصري من طرف إلى طرف، من غير أن تمر به على الوسط أو

ما يقرب من الوسط 0

ذلك المسلك هو اتهام الحكومة بمشايعة الإنكليز على ما يريدون من السوء

بالبلاد، فكان أولئك الكتاب ينحون بقدحهم وطعنهم على الوزارة (مجلس النظار)

في الجملة وعلى رئيسها وأفرادها وعلى المديرين وغيرهم من رؤساء الأعمال في

التفصيل، فذلك الانتقاد أو الطعن كان الغرض منه تأييد سياستهم في مقاومة

الاحتلال، والتشفي من الإنكليز وبيان أن الأمر كله في أيديهم وتبعته عليهم، وإن

النظار وسائر الموظفين المصريين آلات صماء تحركها هذه الأيدي كما تشاء؛ ولكن

فيما يضر البلاد ولا ينفعها، وفيما يسلب السلطة الشرعية من أميرها، وهو الذي

يريد لها الخير لولا أنه عاجز عنه. وكان يقوم في وجه هذه الجرائد الكثيرة جريدة

أو جريدتان أو ثلاث تندد بالأمير وبطانته، وتلزم ذلك المقام بما يخفض من قدره

فبذلك كله زالت هيبة الأمير وحكومته الرسمية من النفوس، فتجرأ الأشقياء على

السلب والنهب، وإهلاك الحرث والنسل، وكثرت الجنايات في الأرياف حتى إن

الحكومة لا تزال في حيرة من حفظ الأمن إلى هذا اليوم.

نعم، إنه قد استقر في أذهان جميع المصريين أن الأمر كله للإنكليز، وأنهم

يستطيعون أن يفعلوا ما أرادوا، من حيث لا تستطيع الحكومة المصرية من دونهم

شيئًا. ولكنهم علموا مع هذا أن الإنكليز لا يحفلون بالمسائل الجزئية التي تتعلق

بأفراد الأهالي، وإنما يكلون الأمر فيها إلى الحكومة المصرية، تنظر فيها بحسب

القوانين، فلا يستطيع المأمور، ولا المدير، ولا رئيس النيابة (المدعي العمومي)

ولا القاضي، أن يعاقب جانيًا إلا إذا ثبتت جنايته في المحكمة، وقلما يقدم الجناة

على عملهم إلا هم آمنون من ثبوته عليهم! .

فاختلاف الأمن في القطر المصري نشأ من سقوط هيبة الحكومة من نفوس

العامة، والتطرف في الحرية، والانتقال من حكومة استبدادية عرفية إلى حكومة

قانونية حرفية؛ أي: يجري فيها الحكام على ظواهر ألفاظ القانون من غير تطبيق

على المصلحة العامة التي وضع لأجلها القانون. وما كان لأكثر الجرائد من عمل

في ذلك إلا ما ذكرنا، فما كان من خطأ يقع، كانوا يحملونه على سوء النية من

الحكومة، وما كان من صواب يسكتون عنه ويحملونه على غير محمله، حتى كانوا

ربما يطعنون في أنفع الأعمال: كإنشاء الخزان في أسوان - فلهذا ولغيره من الخطأ

الذي لا يتسع هذا المقال لشرحه، كان الأستاذ الإمام يقول: (جرائدنا إحدى

بلايانا) .

فيجب أن تعتبر الجرائد السورية بخطأ الجرائد المصرية التي سبقتها في

الاستقلال والحرية كما تعتبر بصوابها، فكما يجب عليها أن تتخذ لها مذاهب في

الإصلاح الاجتماعي لا تشغلها عنه السياسة، يجب عليها أن تتخذ لها أسلوبًا حكيمًا

في انتقاد الحكومة، يرجى نفعه ولا يخشى ضرره، ويجمع بين هيبتها في نفوس

العامة من حيث هي أمينة على مصالحها، ومنفذة لشريعتها وقوانينها التي أقرها

نوابها ووكلاؤها، وبين تكريم الأمة وإعلاء شأنها، وغرس مبادئ الحكم الذاتي في

نفوسها.

كيف تُنتقد الحكومة

تُنتقد أعمال الحكومة لغرضين شريفين أحدهما - وهو الأصل - صيانة الحقوق

وحمل الحكام على العدل، وأداء الأمانة بالتزام الشريعة وتطبيق القانون على

المصلحة العامة. وثانيهما: عرضي تمس إليه حاجة الأمة أو ضرورتها في مثل

الطور الذي نحن فيه الآن في بلاد الدولة عامة والقطر المصري خاصة، وهو بث

مبادئ الحكم الذاتي في نفوس الأمة (أي حكم نفسها بنفسها) .

أما الأول: فطريقه أن يبحث الكتاب عن الأعمال والأحكام، ويبينون ما

يجب بيانه في انطباقها على الشرع والقوانين وعدمه من غير بذاءة، ولا استعلاء،

ولا طعن يسقط المهابة، ويذهب باحترام الحكومة من نفوس العامة. وإنما نعني

بالأعمال؛ أعمال الحكومة دون الأعمال الشخصية التي لا دخل لها ولا تأثير في

المصالح العامة.

ومن كان مخلصًا في انتقاده يتحرى الحق فيه، فإذا ظهر له أنه أخطأ فيما

كتبه، رجع عنه رجوعًا صريحًا، وبيَّن سبب خطئِه الأول، ومشرق انبلاج

الصواب له. وبذلك يكون كلامه مؤثرًا في القلوب ذا سلطان على النفوس، فيقدره

قدره الحاكمون، فإذا لم يرجع به المسيء عن غيه، آخذه رؤساؤه على سوء فعله.

ومن آيات الإخلاص: أن يسعى مريد الانتقاد إن تيسر له؛ كأن يراجع

الحاكم فيما يرى أنه يسيء أو يجور فيه، فإن تم له ذلك وإلا لجأ إلى الانتقاد.

وينبغي أن يبدأ بالرمز والتلويح، ثم يترقى في سلالم التصريح، فإذا استقام

الجائر، وعدل الظالم، وجب أن يقف الناقد عند الدرجة التي ارتقى إليها في نقده،

ثم يثني على العمل الذي يستحق الثناء.

ومما يتحتم مراعاته أن تكون الفقرة التي ينتقد بها القضاة ورؤساء الإدارة

بحيث يفهمها الخاصة دون العامة، كأن تورد بضروب من المجاز والاستعارة،

وتستعمل فيها الألفاظ الغريبة؛ لئلا تزول مهابة الحكومة من نفوس العوام، وتقل

ثقتهم بالقضاء، ويعتقدوا أنه لا سبيل إلى قضاء مصالحهم إلا بالرشوة، ويطمع

المبطلون منهم بهضم الحقوق، ويطمع الأشقياء بالتعدي على الضعفاء؛ اعتمادًا

على ضعف الحكام أو ظلمهم.

وإنما تجب مراعاة ما ذكر في انتقاد من يسيء مستخفيًا، وأما من يجهر

بالسوء، ويعرف عنه الظلم، فأولئك هم الذين لا تحفظ لهم حرمة، ولا ترقب فيهم

ذمة، فيجهر الكتاب بانتقاداتهم، ويحرضون الأمة على الشكوى منهم، إذا لم يبادر

رؤساؤهم والمفتشون عليهم إلى النظر في أمرهم، ولتكن الشكوى إلى المجالس

العمومية في الولايات، ثم إلى مجلس المبعوثان في الآستانة بعد مراعاة ما اشترطه

القانون الأساسي في ذلك.

أما الطعن في الحكومة على الإطلاق فضرره عظيم جدًّا في مثل بلادنا، ولا

سيما في أول العهد بالانقلاب كهذا الزمن. مثال ذلك طعن المتقهقرين أو الرجعيين

(على الخلاف بين كتاب العرب وكتاب الترك في لقبهم) في حكومة الشورى

الحاضرة من حيث شكلها، والاستدلال على ذلك بالخلل والفساد الذي أظهرته الحرية

في الأمة والحكومة جميعًا بزعمهم، وما هو إلا من رزايا الحكومة السابقة التي

يتعذر تطهير الأرض من نتنها في بضعة شهور أو بضع سنين.

ومن أمثلته استبطاء كثير من المحبين للحكومة الحاضرة لأعمال مجلس الأمة

وإظهارهم قلة الثقة به، وشكهم في أنفسهم، وتشكيكهم للناس في قدرته على القيام

بما عهد إليه من إصلاح حال الدولة، وترقية شؤون الأمة. وما ذلك إلا لجهلهم

بحاله وبحال الحكومة التي ينظر في أمر إصلاحها.

إن مثل مبعوثينا ونوابنا في مجلسهم: كمثل مهندس كلف وضع رسم أو

رسوم لبناء بلد كمسيني - لا (مسينا) كما تضبطه الجرائد - قد دمرته الزلازل، وأن

يستحضر البنائين لإعادة بنائه على أحسن مما كان عليه، ويراقب عملهم إلى أن

يتم، ثم يكون أمينًا عليه حافظًا له، فأراد أن يشرع في العمل، فوجد معظم أنقاض

البلد مفقودة، قد تلف بعضها، وسرق بعض، ولم يجد من البنائين المهرة والصناع

والنجارين عددًا كافيًا للإسراع في العمارة! ! فهل يلام المهندس ويرمى بالتقصير

وحده، وينسى ذلك الزلزال الذي دمر البلد، وأولئك اللصوص الأدنياء الذين كانوا

ينهبون أنقاضه، وما يهيأ لبنائه! ! ؟

ألا إن عذر مبعوثينا أظهر من عذر ذلك المهندس، فإن زلزال الاستبداد

توالى على المملكة العثمانية من زهاء ثلاثة أجيال، وقد اشتد في عهدنا هذا من أول

هذا القرن الهجري، حتى كاد يجعل المملكة أثرًا بعد عين. وقد كان أكثر رجال

حكومتنا في ذلك الدور؛ كأولئك التحوت الذين افترضوا زلزال (مسيني) ،

فسارعوا إلى نهب كل ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة من أموال الهالكين والمشرفين

على الهلاك، فماذا عسى أن يفعل نوابنا في أيام أو شهور؟

قال أمامي بعض هؤلاء المنتقدين الطيبة قلوبهم النائمة عقولهم، أو القليل

اختبارهم: إن بعض المبعوثين يسأل في المجلس أسئلة سخيفة تدل على أن مجلسنا

في سن الطفولية! قلت: هل كان فيها أسخف من سؤال بعض نواب الإنكليز في

مجلسهم الذي هو أعلى وأرقى مجلس نيابي في الأرض عن الكنف (المراحيض)

في القاهرة، وكونها قليلة أو غير موجودة في الأحياء الوطنية!.

ومن أمثلة الانتقاد المطلق في الحكومة الحاضرة ما يلهج به الناس من جميع

الطبقات في جميع البلاد من تقصيرها في حفظ الأمن، وإرسالها حبال الأشقياء على

غواربهم، وهذا الانتقاد واقع ما له من دافع لظهور موجبه لكل أحد، وهو هو علة

الانتقاد الذي ذكر قبله، ولأمرٍ ما كان كلام الجرائد فيه دون كلام الناس في أنديتهم

وسمارهم وبيوتهم، وسائر مجامعهم، وفي الطرق والأسواق!

وإذا طال العهد على هذا الإهمال، فإنني أخشى أن يتفاقم أمره، ويستشري

شره، وقد كلمت فيه والي بيروت قبلاً (والي سورية الآن) ، ووالي بيروت الآن

والمدعي العمومي لولاية بيروت، ومتصرف طرابلس، فرأيتهم ينتظرون أول

السنة المالية التي قربت خطواتها لإصلاح حال الشحنة والشرطة، والدخول على

حفظ الأمن من بابه.

إن عذر الولاة والمتصرفين في التقصير في حفظ الأمن؛ محصور في ظنهم

أنه لا يمكن بطريقة قانونية لا استبداد فيها ولا ظلم، إلا بعد تنظيم الشرطة وإيجاد

قوة عسكرية كافية؛ لتلافي ما ربما يحدث من الثورات الداخلية! وهو عذر مبني

على عدم اختبار حال البلاد في مثل ولاية بيروت، فقاسوها على مثل ولاية

الموصل، وعلى حوران من ولاية سورية، ويعسر علينا إقناعهم بأن هذه البلاد لم

تصل إلى هذه الدرجة من الشر والفساد، وأنه لا يوجد فيها أحد من الأشقياء يفكر

في مقاومة الحكومة قط، وأن أي والٍ أو متصرف أخذ بالحزم يسهل عليه أن يحفظ

الأمن. على أن من يقنع منهم بذلك لا يتجرأ على الإقدام عليه، وتحمل تبعته في

عهد هذه الحكومة، ولا سيّما مع بقاء الآستانة مستأثرة بالسلطة العليا، ومقيدة لسلطة

الولاة بَلْه المتصرفين فمَن دونهم!

إذا طال العهد على الحال التي نحن عليها - وما هو بالذي يطول إن شاء

الله - يتقوض بناء مهابة الحكومة من نفوس العامة فلا يبقى منه شيء وتصير

البلاد فوضى ولولا أن سلامة القلوب ومحاسن الأخلاق لا تزال ذات السلطان

الغالب في بلادنا، لكانت بضعة شهور كافية لانتشار الفوضى، وطمع الأشقياء في

الخروج على الحكومة ، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ولن يكون إن شاء الله تعالى.

إن الحكومة قادرة الآن على التنكيل بالأشقياء، فكيف بها بعد التنظيم الذي

أظلنا زمانه، وأدركنا إبانه؟ وإن ما حصل طبيعي في طور الانقلاب، فما هو

بالأمر الغريب الذي يبيح للناس، ولا للجرائد الطعن في الحكومة على الإطلاق.

إذا رأينا بعد استقرار الحكومة الجديدة، وإقامة النظام المنتظر عجزًا عن

حفظ الأمن في ناحية؛ لسوء إدارة مديرها، أو في قضاء لجهل القائمقام، أو في

لواء لضعف المتصرف، أو في ولاية لعلة في الوالي فإننا نسعى لدى مرجع كل

واحد من هؤلاء لاستبداله، إذا أعوزنا إصلاح حاله، ولا نطعن في الحكومة طعنًا

مطلقًا يذهب بثقة العامة بها، ولا نتهمها بالخيانة والفساد، ولا نرميها بالعجز

والضعف، فإن ذلك كله تسوء عاقبته على كونه لا يمكن أن يكون صحيحًا على

إطلاقه.

حسبنا هذه الكلمات في بيان الغرض الأول من غرضي الانتقاد الصحيحين

فإن المخاطب بها هم الكتاب الألباء، واللبيب تكفيه الإشارة.

وأما الغرض الثاني من ذينك الغرضين: وهو تقوية روح الحكم الذاتي في

الأمة، فقد يحتاج إليه في البلاد المصرية أكثر مما يحتاج إليه في البلاد السورية؛

لمكان الظن في استئثار الإنكليز بالسلطة، وجعل المصريين الآن في أيديهم. ومع

ذلك نرى الجرائد المصرية، قد قصرت فيما يجب عليها من الرمي إلى غرض نفوذ

الأمة، فكان معظم نضالها أو جميعه دون نفوذ الأمير نفسه؛ أي: لتقرير الحكومة

الشخصية، والانتقال من استبداد أجنبي محدود إلى استبداد شخصي وطني لا حد له

إلا أنه قد كثر خوض هذه الجرائد في هذه السنين الأخيرة في طلب المجلس

النيابي لمصر، وكون ذلك موافقًا لرغبة الأمير في رأي بعضها. ولكن الصحيفة

المصرية التي اتخذت تقوية سلطة الأمة نفسها مذهبًا لها تراعيه في انتقادها على

الحكومة هي (الجريدة) التي أسسها جماعة من الوجهاء وأهل الرأي تنفيذًا لما كان

دعاهم إليه الأستاذ الإمام في آخر حياته. ويعلم الله أن هذا ما كنت اقترحه عليه من

بضع سنين، حتى إنني كنت قد اخترت له المحررين، ووضعت له الميزانية بعد

المذاكرة الطويلة معه في المذهب السياسي - وهو سلطة الأمة -، وفي المنهاج

الاجتماعي الأدبي وجله في انتقاد الأخلاق والعادات. فهل للجرائد السورية أن تفكر

في هذا وتقدره حق قدره؟

إن الجرائد العثمانية كلها تحتاج إلى انتقاد الحكومة فيما يختص بسلطة الأمة

عند وضع بعض القوانين التي تقوي سيطرة الحاكم، وتضع العثرات في سبيل

الأمة: كقانون المطبوعات، وقانون الجزاء (العقوبات) ، وقانون المعارف

ولوائحها، ونظام مدارسها، بل يجب أن تنتقد مجلس الأمة، إذا لم يجعل تنقيح

القانون الأساسي مقيدًا للحكم الشخصي، مطلقاً لحكم الشورى من تلك القيود

المعروفة، وإذا نازعته الحكومة فيما يقوي به سلطة الأمة، وجب على الجرائد أن

تحمل عليها حملة شعواء، وأن لا ترضي أقلامها بما دون الطعنة النجلاء.

كذلك يجب على الجرائد في كل ولاية أن تنتقد الولاة؛ إذا هم حاولوا

الاستبداد في أمر المجالس العمومية ومجالس الإدارة، أو أظهروا التعصب لجنسهم

كتعصب التركي للترك والعربي للعرب، فإن العصبية الجنسية من الحكام تضعف

الجامعة العثمانية، وتحدث فيها الأحداث والمفاسد.

ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتهم الحكومة في جملتها بهضم حقوق الأمة

وكراهية حكمها الذي هو حكم الشورى، وإن كان الكثيرون من الوجهاء والرؤساء

السابقين قد قل انتفاعهم، ونقص مالهم وجاههم في عهد الحكومة الحاضرة، فهم

يحنون إلى الاستبداد ويتمنون الرجوع إليه، حتى صارت جرائد الآستانة تسميهم

الرجعيين، فمن بقي في الحكومة من هؤلاء، ومن يدخل فيها على عهد الدستور

للجهل بحالهم أو للحاجة إليهم على عوجهم، لا يألون جهدًا في الاستبداد إذا وجدوا

منفذًا من المنافذ، وأمنوا المُراقب والمؤاخذ.

فمن أقدس وظائف الجرائد وواجباتها أن تتبع عورهم، وتقلم أظفارهم،

وتكبت أنصارهم، مع مراعاة ما أشرنا إليه من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال

بالتي أحسن، كما أرشدنا الذكر الحكيم. وليكن الإخلاص رائدنا، وإيثار المصلحة

العامة غايتنا، فلا شيء أنفع وأرفع من العمل لخير الناس، ولا مرشد إلى ذلك أهدى

من الإخلاص.

_________

(*) نشرناها أولاً في جريدة (أبابيل) البيروتية، ونقلتها عنها جريدة الاتحاد العثماني.

ص: 32

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شيخ الإسلام ابن تيمية

وما قيل فيه

غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر.

سلام الله عليكم ورحمته، ولا زلتم في نعيم مقيم.

سيدي: من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه

الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم،

ومحاكمة ابن حجر فيما قاله، حتى يتبين الرشد من الغي. وهنا تجد أكثر الجامدين

من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار؛ لكونه ينقل عن

ابن تيمية، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه، حيث

يقول: (عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله) .

وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه

وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت. نعم، ربما أنه سبق لحضرتكم

كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة (لأن مثل هذا مما لا

يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة) .

ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام، وكثير منهم لم يطلعوا على

ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا

وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر. فهل لسيدي نقل

بعض أقوالهم؟ ولكم من الله جزيل الفضل، ومنا الشكر.

...

...

...

...

... ع. س

...

...

...

...

(دلي - سمطرا)

(المنار)

لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا

عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي. ويغلب على ظننا

أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية،

وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره، فأنكر

ذلك عليه، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك

السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني

في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره

ودست فيه ضلالات كثيرة، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس

المفسدين؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه. ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما

قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية، بما لم يثنوا بمثله

على أحد، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق،

ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل. ويعز على

الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم، بل مَن دون أئمتهم ممن

يجلون من الميتين، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا! . ولذلك ترى أن سبب

قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية؛ هو

إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره

على سيبويه وتخطئته له ، فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم

العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار

عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه ، ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه

ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم، كما سيأتي.

وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له،

منها (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث

السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. ومنها (جلاء العينين في محاكمة

الأحمدين) أي: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من

النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما

نصه:

(ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست

مائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في التفسير

وأفتى ودرَّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء

في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في

هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين.

وكان يتوقد ذكاء، وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ

ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق

فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس

له فيه نظير. وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة

صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب.

انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير

ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي.

قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: هو من أهل

الاستقراء التام في نقده الرجال، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ

ابن ناصر الدين: ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين

الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه

في العلم.

وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث (كنت نبيًّا

وآدم بين الماء والطين) ، وفي حديث (كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) ،

حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا،

أقرَّ له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا؟

وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه، وكانت

السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة.

وقال حافظ الإسلام، الحبر النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ

المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي

فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى

هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

ولا أتبع لهما منه.ا. هـ.

وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين

المستوعبين: أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي.

وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما

اجتمع به وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك ، وقال أيضًا:

رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. ذكره الحافظ

المذكور.

وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي: وبالجملة كان - رحمه الله تعالى-

من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة

في بحر لُجِّيٍّ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري (إذا اجتهد

الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .

وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا

القبر صلى الله عليه وآله وسلم. وما قاله في غاية الحسن، والحافظ المذكور ثقة

حجة باتفاق، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله

عنه الشيخ تقي الدين الحصني. نعم، كان يقول: يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة

الطلاق، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك، فلم يتفرد به كما هو

مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم.

(فإن قلت) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ

رتبة الاجتهاد، وأنى له بهذه المرتبة، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل! !

(قلت) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد

الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر، كما سيأتي، والحافظ

السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد

خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن

أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله

ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى.

وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام

ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه: ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا؛

بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة

مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا أفتى

بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه رحمه الله من أهل الدولة، حتى حبس

بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده

ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله

في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر، بل من أطلق

على من سماه بشيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك، فإنه

شيخ الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا

يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على

من يقول بالتجسيم والتبرئ منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب

فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه؛ أي

كمسألة الزيارة والطلاق، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات

الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر

إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك، وكذا الشيخ صدر الدين ابن

الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم

الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك

كثيرة شهيرة، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره

وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان

له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من

أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح، ويثني

عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي

الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف

النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة

منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة

عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء

الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه،

بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق

وهو يهدي السبيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.

وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى -

فيما كتبه على الكتاب المذكور: ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في

ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه، وللشيخ

تقي الدين بن تيمية، وللشيخ شمس الدين أبى عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية

العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها، ولو

كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له. نعم، وقد

ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه، وانتصب للرد عليه الشيخ

تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلا منهما بتصنيف، وليس

في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً (وكل أحد يؤخذ من قوله أو يترك إلا

صاحب هذا القبر) [1] والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن

الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر ذلك تهورًا وعدوانًا - حاش لله - بل لعله

لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إلى الآن بعد التروي والفحص على شيء

يقتضي كفره ولا زندقته. وإنما وقفت على ما رده على أهل البدع والأهواء أو غير

ذلك مما يظن به براءة الرجل، وعلى مرتبته في العلم والدين. وتوقير العلماء

والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ

لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس

منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا - وفي رواية - حق كبيرنا)

وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر، ولم يكن ذلك فيه. انتهى

قلت: وسنذكر- إن شاء الله تعالى - قريبًا ما يكون صريحًا في تنزيهه عما

نسب إليه من التشبيه والتجسيم.

وقال قاضي القضاة عبد الله التهفتي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي، فيما كتبه

على الكتاب المذكور: إن الشيخ تقي الدين كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه

وما اطلعنا عليه من كلام تلميذه ابن قيم الجوزية الذي صارت تصانيفه في الآفاق

عالمًا متعنيًا، مقللاً من الدنيا، معرضًا عنها، متمكنًا من إقامة الأدلة على الخصوم

وحافظًا للسنة، عارفًا بطرقها، عارفًا بالأصلَيْن: أصول الدين وأصول الفقه،

قادرًا على الاستنباط في تخريج المعاني، لا يلومه (لعله لا تأخذه) في الله لومة

لائم، على أهل البدع: المجسمة والحلولية والمعتزلة والروافض وغيرهم. (قال)

فمن كان متصفًا بهذه الأوصاف كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، بأي معنًى أريد

منه! ! ؟ (قال) : وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق

وقضية من قام عليه شهوده، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان،

وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطئ فيها مجتهد يثاب،

لا يكفر ولا يفسق

إلخ ما قال.

وقال شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتب على الكتاب المذكور: وما هم أي

المنكرون على ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم

صلعمة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهيّ بن بيّ، وضل بن ضل، وضلال بن

التلال. ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية

من شمّ عرانين الأفاضل، ومن جمّ براهين الأماثل، (قال) : وهو الذابّ عن

الدين، طعن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين،

وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن

نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف ذلك؟ وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس

فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق. ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي

الزيارة والطلاق، عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب،

وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب. (قال) : ولا ريب أنه كان شيخًا لجماعة من

علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كان كذلك، كيف لا يطلق عليه شيخ

الإسلام؛ لأن من كان شيخًا للمسلمين يكون شيخًا للإسلام.

وقال شيخ الإسلام البساطي المالكي: وأما قول من قال إنه - يعني ابن تيمية -

كافر، وإن من قال في حقه إنه شيخ الإسلام كافر - فهذه مقالة تقشعر لسماعها

الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين بها ويشمت، وينشرح

بها أفئدة المخالفين وتسمت، ثم يقال: كيف لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي

هذا في حقه، فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلمة المتناولة

لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة؟ وهل يمكنك أن تدعي أن الكل

اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه؟ وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببني

الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل، ويقال له: لم قلت؟ وما وجه ذلك؟ فإن

أتى بوجه لا يخرج به شرعًا عن العهدة بأن كان واهيًا، برح به تبريحًا يردع

أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين.اهـ

(قلت) : فتأمل - رعاك الله - كلام هؤلاء الأعلام في مدح هذا الإمام،

فكيف ينسب إلى بدعة التجسيم، أو يعاب بشيء غير ذلك أو يلام! .

(المنار)

هذا ما أورده الشيخ صفي الدين الحنفي البخاري في ترجمة شيخ

الإسلام ابن تيمية في أول كتابه: (القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية

الحنبلي) ويليه فصل في عقيدته التي هي عقيدة سلف الأمة: أهل السنة

والجماعة، رضي الله عنهم. وأما السيد نعمان خير الدين الآلوسي فقد جاء في

كتابة: (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) بترجمة أوسع، وأكثر نقلاً عن

كبار العلماء والحفاظ في الثناء عليه، والاعتراف له بمشيخة الإسلام.

قال بعد ترجمة بليغة ملخصة من كلام طائفة من الحفاظ والمؤرخين ما

نصه:

قال الذهبي: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد. وترجمه

في معجم شيوخه بترجمة طويلة منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر

علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا

بالمعروف، ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته،

وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره وبرع في تفسير

القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال

ميال، واستنبط منها أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من

يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في

معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، أتقن العربية أصولاً

وفروعًا. ونظر في العقليات، وعرف أفعال المتكلمين ورد عليهم، ونبه على

خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين وأُوذي في ذات

الله من المخالفين، أخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره،

وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً

كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا،

وعلى طاعته، وأحيا به الشام بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة

التتار، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام؛ أني

ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت اهـ.

وقال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة سبع مئة وأربع، راح الشيخ تقي

الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت

هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها،

فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة،

وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه. فحُسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله

لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه

الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما

يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه اهـ.

قيل: من جملة أسباب حبسه؛ خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة، فلقي

عليه أعداؤه طريقًا من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك. وكتب الشيخ

كمال الدين الزملكاني: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في

مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من

العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط

الاجتهاد على وجهها.

(قلت) : ورأيت في نثر الدر الذائب في الأفراد والغرائب، من كتاب

الأشباه والنظائر النحوية للإمام السيوطي- عليه الرحمة - ما نصه: جواب سؤال

سائل عن (لو) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد

القدوة، إمام الأئمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء

الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبدعين، ذي

العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة،

ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي

العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن

تيمية الحراني أعلى اللهُ تعالى مناره، وشيّد من الدين أركانه:

ماذا يقول الواصفون له

وصفاته جلت عن الحصر

هو حجة لله قاهرة

هو بيننا أعجوبة الدهر

هو آية في الخلق ظاهرة

أنواره أربت على الفجر

نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ: كمال

الدين ابن الزملكاني:

بسم الله الرحمن الرحيم

نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلي قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم

العلامة القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الورع، إمام الأئمة، خير الأمة، مفتي

الفِرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس

المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، ناصر السنة قامع البدعة:

تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم

بن محمد ابن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته: الحمد لله

الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا

شريك له، الباهر البرهان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس

والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن، سألت -

وفقك الله تعالى - عن معنى حرف (لو) ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله

عنه: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه) على معناها المعروف،

وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب

في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك،

وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك، فأقول. اهـ بحروفه.

ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقر المترجم على ترجمته،

فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر [2] .

وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك العلوم حظًّا، وكاد

يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في

الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل

والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على

أبناء جنسه، ولا رأت عيني مثل نفسه.

وقال ابن الوردي في تاريخه، وقد عاصره ورآه: وكانت له خبرة تامة

بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه

الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه

المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل

حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. ولكن الإحاطة لله، تعالى. غير أنه

يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم

إليه. وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو

من الرد على الفلاسفة، نحوًا من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير

من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلد. وله الباع الطويل في

معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب

الأربعة. وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب

والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام (عليه) الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة

والطريقة السلفية، وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت

الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء

والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء ، وصار بينه وبين معاصريه واقعات مصرية

وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية واجتمع بالسلطان

محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن، ولم يهبه، وطلب منه

الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف، أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه

اهـ ملخصًا وأطال في ترجمته.

وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي في حقه، بعد ثناء طويل جميل ما

لفظه:

فوالله ثم والله، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية: علمًا

وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا وقيامًا، في حق الله تعالى عند انتهاك

حرماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، أنفذهم وأعلاهم في انتصار

الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه

وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله

وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ.

ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ

ابن تيمية بعد اجتماعه به، كيف رأيته؟ قال: (رأيت رجلاً سائر العلوم بين

عينيه، يأخذ ما شاء منها، ويترك ما شاء) فقيل له لم تتناظران؟ قال: (لأنه

يحب الكلام وأحب السكوت) .

وقال ابن مفلح في طبقاته: كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي

في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره، وزخارة بحره،

وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك

كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر

من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة

ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من

ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت

على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له القاضي الحنفي ونصره،

وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ

نصر بن المنجي؛ لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه

على ذلك، فما أعجبه؛ لكونه بالغ في الحط على ابن عربي وتكفيره، فصار هو

يحط على ابن تيمية، ويغري (به) بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في

محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الحريري

انتصر للشيخ ابن تيمية، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب

به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها (إنه منذ ثلاثمائة ما رأى الناس

مثله) اهـ.

ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا

أبو حيان المفسر، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر

أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي:

لما أتانا تقي الدين لاح لنا

داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر

على محياه من سيما الأُلى صحبوا

خير البرية نور دونه القمر

حبر تسربل منه دهره حِبرًا

بحر تَقاذفُ من أمواجه الدرر

قام ابن تيمية في نصر شرعتنا

مقام سيد تيمٍ إذ مضت مضر

وأظهر الحق إذ آثاره اندرست

وأخمد الشر إذ طارت له شرر

يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ

هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر

يشير بهذا إلى أنه المجدد ، وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي ، ثم دار

بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره

أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر (ويقال) : إن ابن

تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في

ثمانين موضعًا، ما تفهمها أنت ، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في تفسيره

البحر بكل سوء، وكذا في مختصره النهر اهـ.

وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا

علية بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات

وتجنبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريق السلف الصالح، وأنه لم يتزوج حتى

مات، وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة

أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري

الصوت. وقد ذكر نبذة من اختباراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مائة

وخمس وتسعين في طبقاته، وفصل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه.

وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين سَحَر ليلة الاثنين، عاشر ذي القعدة

الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا لم

يعهد بدمشق مثله، وبكى الناس بكاء شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام

على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا. وحزر من حضر

جنازته بمئتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا، وختمت له ختمات كثيرة،

ورثي بقصائد بليغة.

(المنار)

بعد أن أورد المؤلف هنا مرثية الشيخ عمر بن الوردي، إحدى تلك المراثي

التي يشنع فيها على من آذوه وحبسوه، قال:

(قلت) : ومازال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله- تعالى-

ويصبرون، وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السابقة

يقتلون ويحرقون، ويُنْشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه، ولولا كراهة

التطويل لذكرت من ذلك ما يطول، وقد سُمَّ أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي

وسُمَّ الحسن وقتل الحسين وابن الزبير وصلب خبيب بن عدي. وقتل الحجاج عبد

الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقتل زيد بن علي. وأما من

ضرب من كبار العلماء فكثيرون منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج

أربعمائة سوط ثم قتله، وسعيد بن المسيب ضربه عبد الملك بن مروان مائة

سوط، وصب عليه جرة ماء في يوم شات، وألبس جبة صوف، وخبيب بن عبد

الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط؛ وذلك أنه حدث

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً،

اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً) فكان عمر إذا قيل (أبشر) قال:

(كيف بخبيب على الطريق) وأبو عمرو بن العلاء ضربه بنو أمية خمسمائة

سوط، والإمام موسى الكاظم سجنه هارون حتى مات، والإمام أبو حنيفة توفي في

السجن بعد أن ضرب وقيل أوُجِرَ سمًّا، والإمام مالك بن أنس ضربه المنصور

أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره، وكان مالك يقول لا يلزمه اليمين. والإمام

أحمد امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس، وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء

الأئمة أسوة. ولو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته

ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مللت - ملول، ويكفي من القلادة ما

أحاط بالجيد.

(المنار)

وعقد بعد هذا فصلاً في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين

المتأخرين عليه. فنقل عن صوفي الفقهاء وفقيه الصوفية الشيخ إبراهيم الكوراني

المدني الشافعي وعن علامة العراق الشيخ علي السويدي البغدادي الشافعي، وعن

والده السيد محمد الآلوسي المفتي، وعن عالم بلد الله الحرام المنلا علي الهروي،

وعن أمير العلماء وعالم الأمراء أبي الطيب حسن صديق خان الحسيني البخاري.

ثم عقد فصولاً أخرى ذكر فيها كل ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي، وبيَّن الحق

فيه، فليراجعه من شاء. فمن اشتبه في مسألة معينة من المسائل التي انتقدت على

ابن تيمية، ولم يتمكن من مراجعتها في كتاب جلاء العينين، أو راجعها وبقي في

نفسه شبهة منها، فله أن يسألنا عنها إن أحب. وإننا كنا نعتقد أن ابن تيمية وصل

إلى درجة الاجتهاد المطلق، قبل أن نطلع على قول العلماء في ذلك، بل نعتقد أنه

لا نظير له في علماء الإسلام قط إلا تلميذه ووارث علومه ابن قيم الجوزية،

رحمهما الله تعالى ونفع المسلمين بعلومهما.

_________

(1)

حكاية لكلمة الإمام مالك التي كان يقولها في الحرم المدني، ويشير إلى القبر الشريف.

(2)

وفي هامش الكتاب عند هذه العلامة ما نصه: وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور

نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة وكذا غيرهما ممن سلمت له الإمامة.

ص: 41

الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين في سنغافورة

‌الحجاز بعد الدستور [*]

بُعِثَ الدستور بعد أن قُبر، بذلك كذَّب الله أعداء الإسلام الزاعمين أن

الشورى غير ملائمة لروح الإسلام، فهل سبق أن رأوا أمة قد أكل عليها الاستبداد

وشرب زمنًا طويلاً، فما هي إلا عشيةً أو ضحاها حتى استحالت الصهباء، فأصبح

أفرادها بحمد الله إخوانًا، لا فضل لأحمرعلى أسود إلا بتقوى الله، قد ألف الله بين

قلوبهم، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (لأنفال: 63) .

كذَّب الله بقيام الدستور زَعْمَ أولئك، كما أيد به قول القائلين بسداد نية مولانا

السلطان وفائق حكمته، ووافر عقله، وقوة إدراكه - زاده الله توفيقًا - إذ لم يكن

من أحد من قادة الأمم ما كان منه، فله الشكر والدعاء؛ إذ صان كيان الأمة

ودماءها وأموالها وشرفها، فالمملكة مَدِينة له بما فعل.

وقد شرق الأعداء بما رأوا من اتحاد عناصر المملكة، ولم يرُق في أعينهم

فقاموا بما قاموا به، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، أبدت ظبابها النافقاء

وما تخفي صدورهم أكبر. قل موتوا بغيظكم.

ولكن قل لي أين هم أصدقاء الإسلام؟ أين ما قاموا به؟ أين مواساتهم في

هذه الأزمة، أين من مد لنا يده في طور انتقالنا المخيف؟ هل تحس منهم من أحد

أو تسمع لهم ركزًا؟

شاهت الوجوه، وقبح اللكع ومن يرجوه. نعم قد سمعنا عن الإنكليز جعجعة

ولم نر طحنًا، فشكرًا لهم على ذلك، إن لم يك استدراجًا ومكرًا.

ولقد كانت نعمة الدستور عامة على كل الممالك العثمانية، وكان حظ الحجاز

منها غير قليل، لو لم يكن غير تطهيره من ذلك الطاغية وأبالسته، فكيف وغير

ذلك كثير؟ ولكن الحجاز لكونه أول ولاية عثمانية، وهو قبلة المسلمين كلهم،

ومحل أحق بلاد الله بالإصلاح والمصلحين، وإصلاحه يفيد الدولة فائدة عظمى،

وهو أوجب عليها من إصلاح غيره بحكم الشرع والعقل. لست أحتاج إلى إقامة

الدليل الشرعي لبداهته. ولكني أشير إلى العقلي السياسي. وذلك أن الحجاز هو

المكان الذي تحشر فيه وفود المسلمين، وجلهم في هذه العصور محكوم بالأجانب،

وقل من يقصد منهم من بلاد المسلمين غير الحجاز، فإذا لقوا فيه أصناف الشقاء

وأنواع التعاسة مع ما يعلمون له من المكانة الدينية والسياسية، وكونه الأنموذج

المعروض لوفود كل الأمم، وكون السلطان - حفظه الله - ينعت كل جمعة على

كل منبر في الدنيا؛ افتخارًا بخادم الحرمين الشريفين وحاميهما، فإذا كانت حاله

كما هي الآن، فكيف يكون الحكم على باقي المملكة وعلى ساستها؟

لو قلت: لا يجد أعداء الدولة معولاً يهدمون به نفوذها في المسلمين، وصابونًا

يغسلون به حبها من قلوب الأمة، وحجة يقيمونها للأمم على أن الترك أعداء

الإنسانية والإسلام والعرب خصوصًا - أكبر وأوضح من الحال التي كان بها

الحجاز، ونرجو أن لا تعود إلى ما يقاربها - لو قلت هذا، لم يفند قولي عاقل عالم

منصف.

إن الإصلاحات التي يجب إجراؤها في الحجاز كثيرة جدًّا، ولندع ما كان

منها فنيًّا أو قانونيًّا لمن هو أقرب عهدًا منا بها، وأوسع اطلاعًا منا. ولكنا نلمح

إلى شيء قليل مما لا يجوز السكوت عنه:

إن الحرم الشريف وهو المسجد الوحيد المشترك بين أكثر من ثلاث مائة

وأربعين مليونًا من البشر، على حال يتأفف منها العقل، وقد أحاطت به بيوت

يسمونها المدارس، يسكنها ألوف من الناس، وكلها فيها كنف (مراحيض) ذات

بلاليع في الأرض تختزن بها الأقذار، فإذا سالت السيول امتلأ الحرم بتلك

النجاسات، وبقي عفنًا عدة أسابيع، وقد تكرر وقوع ذلك. وإذا نزلت الأمطار

تشربتها الأرض فيتصاعد حينئذ منها بخار منتن من كل أرض المسجد، فلا يقدر

أحد أن يضع جبهته للسجود إلا كاتمًا نفسه كأنه واضع أنفه على ثقب كنيف مسدود

ولو كان ثخن سجادته شبرًا! ! هذا أمر عرفته بنفسي، ويعرفه كل من أقام هناك،

مع أن تلك المدارس (البيوت) واجب إزالتها؛ إذ هي قائمة على أرض لا يجوز

تملكها ألبتة. ولكن أقامها الجور، ودعمتها الرشوة!

ثم إن المياه التي تشربها الأرض تنحدر إلى المنخفضات، ولا ريب بأنه

يصيب بئر زمزم حظ من تلك النجاسات السائلة؛ فلذلك صار ماؤها كثير الديدان

والجراثيم الضارة! فإذا كنا لا نقوم بتطهير ما يقارب تلك البئر المقدسة، ولا نبعد

عنها السوائل النجسة القذرة السامة، ولا نعيد الحرم كما كان في العصور

الصالحة كامل النظافة؛ إذ كانت مواضع الأقذار بعيدة عنه، وعلى ظهر الأرض

فأي حجة لنا على الأجانب، إذا حكموا بإراقة ما تزوده الحجاج من ذلك الماء

المبارك كما تراق المستقذرات! ومنعوا إدخاله إلى بلادهم حرصًا على حفظ

الصحة! ! !

إننا لو قمنا بالنظافة المطلوبة التي هي من الإيمان، وطهرنا ما جاور البيت

من الأنجاس والأدران، لكان لنا من ماء زمزم المبارك مورد عظيم، ولوجدنا مئات

الشهادات من نطس الأطباء فيما له من الخواص العجيبة الحسية، فضلاً عن

الخواص المعنوية، وإذ ذاك يمكننا أن نبيع منه في أقطار العالم ملايين من

القوارير.

فمتى نرى تلك الأراضي المغتصبة من المسجد الحرام، ومن حواشي

المسعى قد أعيدت؟ ولو أرادت الحكومة أن تبذل لأصحابها الظالمين بدل تلك

البنايات الغير محترمة، فإنها تجد من كرام المسلمين تلبية تسرها ببذل الأموال؛

حبًّا في تطهير الحرم الطاهر من آثار الاستبداد والجور.

ثم إنه لا بد من إنارة الحرم الشريف بالنور الكهربائي؛ لوفور ضوئه وحسنه

وبهائه، وبذلك يتوافر أكثر من نصف ما يصرف الآن عبثًا للإسراج بتلك القناديل

الوسخة التي لا يتجاوز نورها زجاجها! ويستغنى عن جيوش السرَّاجين. ويمكنهم

استخدام تلك الآلات نهارًا في جلب الماء من زمزم، وإجرائه في مواسير إلى

خارج المسجد، فيسلم من بلل قِرَب السقَّائين المخرقة ونحو ذلك.

ولا غناء عن هدم مقامات الأئمة؛ لأنها مبتدعة، فيكتفى بإمام واحد يرضى

فضله وعلمه ودينه، ولينزه البيت وصحنه من خدمة الأغوات الذين هم تركة

العصور المظلمة الظالمة، وخدمة الجبابرة من الملوك الذين لجهلهم بالدين أحبوا

أن يجعلوا خدمة الكعبة وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يستخدمون

في بيوتهم! وهيهات هيهات، ويمكن أن يوظف بدلهم نحو ثلث عددهم من الأخيار

الأتقياء الحَسَنِي السيرة، المعروفين لدى العدول، ولا شك بأنه يكفي لمن ذكرنا

قليل مما يذهب ضياعًا مع أولئك الأغوات.

إنني كنت في بعض جهات أوربا، فزعم بعضهم أن الخصاء مما يأمر به

الإسلام، وأنه من الحتم عند المسلمين أن لا يخدم السلطان، ولا يعمل في الكعبة،

ولا يتولى سدانة الحجرة المنيفة إلا الخصيان! وقد أفدت محدثي بتحريم الشريعة

المحمدية للخصاء، وبراءتها من تلك البربرية، فلم يقتنع، ولم تكن له حجة إلا

هذه النقط المحزنة المسيئة سمعة الإسلام، ولعمر الحق إن التغالي في أثمانهم لمما

يغري النخاسين الطماعين، فالواجب حسم الداء من أصله.

وأرى أن يمنع من رمي الحبوب للحمام، حتى تضطر إلى مفارقة الحرم

بحدوده وهناك تقنص، فلقد جلبت كثرتها أذية للمسلمين، وتنجيسًا وتوسيخًا للمسجد

ونشأ عن ذرقها الكثير أمراض ضارة، ولكثرة الحمام يسهل اقتناصه على الهررة

فتأكل بعضه، وتدع البعض يتعفن فتنبعث منه أمراض كثيرة إلى نحو ذلك.

ومن الواجب طرد الكلاب من الحرم كله، ثم تسميمها بعد ذلك، فلقد صح

أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها إلا ما استثني، والموجود بمكة جله من

المرضى المجرّحة، فيقع عليها الذباب الكثير، فينقل عنها مواد التلقيح لجملة

أمراض إلى بني الإنسان صغارًا وكبارًا.

ويمكن أن يصرف لطلبة العلم الشريف جميع ما يصرف الآن على الحمام

والكلاب، فإن ذلك خير وأبقى، ونحن نرغب إلى مشايخنا الأجلاء أن لا يجعلونا

مضغة في الأفواه، وهزؤًا لدى العقلاء، وأن لا يلصقوا بديننا النقي ما برأه الله

منه من النقائص والسفاسف، وعلى الله الاعتماد وحده.

هذه أمور نلفت إليها أنظار رجال الدولة، وأعضاء مجلسي الأمة والشورى

ومولانا الشريف الحسين وصاحب الدولة والي الحجاز، كاظم باشا ليعملوا ما يرونه

أقرب للتقوى.

_________

(*) لأحد فضلاء الإسلام في سنغافوره (س0س0ي) .

ص: 55

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌العام الهجري الجديد

(سنة 1327)[*]

أطلَّ على الأكوان والخلق تنظر

هلال رآه المسلمون فكبروا

تجلى لهم في صورة زاد حسنها

على الدهر حسنًا أنها تتكرَّر

فبشَّرَهم من وجهه وجبينه

وغُرته والناظرَين مبشر

وأذكرهم يومًا أغر محجلاً

به توّج التاريخ والسعد مسفر

وهاجر فيه خير داعٍ إلى الهدى

يحُف به من قوة الله عسكر

يماشيه جبريل وتسعى وراءه

ملائكة ترعى خطاه وتخفر

بيسراه برهان من الله ساطع

هدى وبيمناه الكتاب المطهر

فكان على أبواب مكة ركبه

وفي يثرب أنواره تتفجر

مضى العام ميمون الشهور مباركًا

تعدد آثار له وتسطر

مضى غير مذموم فإن يذكروا له

هناتٍ فطبع الدهر يصفو ويكدر

وإن قيل أودى بالألوف أجابهم

مجيب لقد أحيا الملايين فانظروا

إذا قيس إحسان امرئ بإساءة

فأربى عليها فالإساءة تغفر

ففيه أفاق النائمون وقد أتت

عليهم كأهل الكهف في النوم أعصر

وفي عالم الإسلام في كل بقعة

له أثر باق وذكر معطر

سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى وما بدلوا في المشرقين وغيروا

وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور)

فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور

تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجى

سيوفًا وجدُّوا جدَّهم وتدبروا

فسادوا وشادوا للهلال منازلاً

على هامها سعد الكواكب ينثر

تجلى بها عبد الحميد بوجهه

على شعبه والشاه خزيان ينظر

سلام على عبد الحميد وجيشه

وأمته ما قام في الشرق منبر

سلوا الفرس عن ذكرى أياديه عندهم

فقد كان فيه الفرس عميًا فأبصروا

جلا لهم وجه الحياة فشاقهم

فباتوا على أبوابها وتجمهروا

ينادون: أن مني علينا بنظرة

وأحيي قلوبًا أوشكت تنفطر

كلانا مشوق والسبيل ممهد

إلى الوصل لولا ذلك المتغشمر

أطلّي علينا لا تخافي فإننا

بسرك أوفى منه حولاً وأقدر

سلام عليكم أمة الفرس إنكم

خليقون إن تحيوا كرامًا وتفخروا

ولا أقرئ الشاه السلام فإنه

يريق دماء المصلحين ويهدر

وفيه هوى عبد العزيز وعرشه

وأخنى عليه الدهر والأمر مدبر

ولا عجب إن ثُل عرش مملك

قوائمه عود ودف ومزهر! !

فألقى إلى عبد الحفيظ بتاجه

ومرَّ على درَّاجة يتعثر!

وقام بأمر المسلمين موفق

على عهده مُرَّاكش تتحضر

وفي دولة الأفغان كانت شهوره

وأيامه بالسعد واليمن تزهر

أقام بها والعود ريان أخضر

وفارقها والعود فينان مثمر

وعوَّذها بالله من شر طامع

إذا ما رمى (إدوارد) أو راش قيصر

وفيه نمت في الهند للعلم نهضة

أرى تحتها سرًّا خفيًّا سيظهر

فتجري إلى العلياء والمجد شوطها

ويخصب فيها كل جدب وينضر

وفيه بدت في أفق (جاوة) لمعة

أضاءت لأهليها السبيل فبكروا

ويا ليته أولى الجزائر منة

تفك بها تلك القيود وتكسر

وفي تونس الخضراء يا ليته بنى

له أثرًا في لوحة الدهر يذكر

وفيه سرت في مصر روح جديدة

مباركة من غيرة تتسعر

خبت زمنا حتى توهمت أنها

تجافت عن الإبراء لولا كرومر

تصدى فأوراها وهيهات أن يرى

سبيلاً إلى إخمادها وهي تزفر

مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى

ففي مصر أيقاظ على مصر تسهر

وقد كان (مورفين) الدهاء مخدرًا

فأصبح في أعصابنا يتخدر

شعرنا بحاجات الحياة فإن ونت

عزائمنا عن نيلها كيف نعذر

شعرنا وأحسسنا وباتت نفوسنا

من العيش إلا في ذرى العز تسخر

إذا الله أحيا أمة لن يردها

إلى الموت قهار ولا متجبر

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إلى قادة تبني وشعب يعمر

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إلى مصلح يدعو وداعٍ يذكر

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إلى حكمة تملي وكف تحرر

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إلى عالم يدري وعلم يقرر

رجال الغد المأمول إنا بحاجة

إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا

رجال الغد المأمول لا تتركوا غدًا

يمر مرور الأمس والعيش أغبر

رجال الغد المأمول إن بلادكم

تناشدكم بالله أن تتذكروا

عليكم حقوق للبلاد أجلها

تعهد روض العلم فالروض مقفر

قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم

يدًا تبتني مجدًا ورأسًا يفكر

فكونوا رجالاً عاملين أعزة

وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا

ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا

تبيتوا على يأس ولا تتضجروا

أعدوا له صدر المكان فإنني

أراه على أبوابكم يتخطر

ولا تنطقوا إلا صوابًا فإنني

أخاف عليكم أن يقال تهوروا

فما ضاع حق لم ينم عنه أهله

وما ناله في العالمين مقصر

لقد ظفر الأتراك عدلاً بسوءلهم

ونحن علي الآثار لا شك نظفر

هم لهم العام القديم مقدر

ونحن لنا العام الجديد مقدر

ثقوا بالأمير القائم اليوم إنه

بكم وبما ترجون أدرى وأخبر

فلا زال محروس الأريكة جالسًا

على عرش وادي النيل ينهى ويأمر

...

...

...

...

محمد حافظ إبراهيم

_________

(*) احتفل المصريون بدخول العام الهجري الجديد، وقررت الحكومة جعل أول يوم منه عيدًا رسميًّا تقفل فيه دواوينها وتعطل، ولقد نظم الشعراء القصائد في ذلك، فآثرنا أن نثبت منها هذه القصيدة.

ص: 59

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]

أيها المبعوثون الأفندية:

إني أصبحت في الحقيقة ممنونًا؛ لتناولي الطعام هذه الليلة مع سائر وكلاء

أمتي العثمانية ورعيتي الشاهانية، فكأنني مع جميع أفراد أمتي العزيزة! ! زاد

حضرة الحق تعالى عددها وسعادة حالها. إن هذه الليلة لمباركة وسعيدة،

وأظن أنها أول ليلة من نوعها في تاريخ دولتنا العلية؛ ولذلك فإني أبارك عليها،

وأسال الله أن يشرفنا جميعًا بدوام وقوع أمثالها.

إن هذا الاجتماع المسعود، هو مبدأ دليل الآثار الفياضة التي منحها القانون

الأساسي لدولتنا وأمتنا ووطننا، والتي سيمنحها في المستقبل إلى ما شاء الله تعالى

فهو إذًا جدير بالتبجيل.

أيها المبعوثون الأفندية:

كونوا على علم بأن الله هو حامي حقوق السلطنة والمملكة والدولة أولاً، ثم

الأمة ومجلس نوابها! لذلك كانت وظيفتكم هامة ومقدسة، غاية مطلوبي أن تجعلوا

سعيكم وغيرتكم وقصدكم ونيتكم بنسبة تلك المكانة وهذه القدسية. وإني أؤكد لكم

بأني نصَّبتُ نفسي بعناية الكريم؛ للمحافظة على أحكام القانون الأساسي الضامن

والكافل لهذه الحقوق المقدسة أؤكد لكم بأنه لكم إذا وجد من يخالفه، فإني خصم

وأول عدو له، أيا كان بصفتي خليفتكم وسلطانكم.

نضرع إلى الله - تعالى - أن يكون معينًا وظهيرًا لنا في سعينا وغيرتنا في

سبيل دولتنا وأمتنا وسلامة وطننا المقدس [1] .

_________

(*) أدب السلطان للمبعوثين مأدبة حضرها معظم المبعوثين، وتخلف فريق منهم عن الحضور،

وكانت أعدت خطبة سلطانية للترحيب بالمبعوثين لإزالة ذلك الأثر السيئ الذي علق بأذهانهم من

خطابه في افتتاح مجلسهم (راجع ص 880 م11) .

(1)

بعد أن أتم جواد بك رئيس كتاب المابين هذه الخطبة، التفت السلطان إلى أحمد بك رضا رئيس

المبعوثين قائلاً (إنني لا أذكر دقيقة واحدة من عمري كنت سعيدًا فيها بهذا المقدار!) .

ص: 63

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

إن التاريخ الذي ينقل الوقائع الماضية للخلف، لم يسجل إلى الآن في حياتنا

السياسة يومًا عظيمًا بهذا المقدار. إن السلطان والأمة اللذين كان يتحسر أحدهما

على رؤية الآخر من زمن طويل، يأكلان اليوم على مائدة واحدة، ويشربان من

إناء واحد! ولم يعرف مثل هذا الائتلاف والاتحاد إلا في عصر السعادة [1] .

مرت ثلاثة عشر قرنًا والشرق محروم من رؤية السلطان مع الأمة وجودًا

واحدًا. إن العرب قد أظهروا للوجود مدينة عظيمة، وكذلك العثمانيون سيكونون

متمدنين قلبًا وقالبًا مع سلطانهم، وبذلك يكونون موفقين لإعلاء شأن الوطن،

والتوفر على حفظه وصيانته، ويكسبون موقعًا ممتازًا في عالم المدينة. ونواب

الأمة يعرضون لذاتكم السلطانية تعظيمهم واحترامهم؛ لقاء ما نالوه في هذه الليلة

من جلالتكم من الإعزاز والالتفات.

_________

(1)

يريد بذلك عصر النبوة وزمن الخلفاء الراشدين؛ الذي كان الخليفة فيه لا ميزة له على أحد من أفراد الأمة ذلك العصر الذي كان يجرأ فيه رجل من آحاد اليهود: أن يمد يده إلى النبي صلي الله عليه وسلم ممسكًا بثوبه، مخاطبًا إياه بقوله:(إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل) إنه لعصر جدير بأن يسمى عصر السعادة.

ص: 64

الكاتب: حسين وصفي رضا

‌نهضة الأزهريين

عسير على المفكر أن يحيط علمًا بكل ما يقع تحت نظره، وعزيز عليه أن

يجهل أسباب أمر واقع؛ ولهذا كان الفكر كثير الدأب والتجوال، لا يقر له قرار

حتى يكون له إدراك صحيح لما يرى ويشاهد، وإذ ذاك يرى أنه إذا حكم على شيء

كان ذلك الحكم مدعمًا بالاستقراء، ناتجًا عن مقدمات لا تنتج غيره.

إن فيما يتفق عليه جمهور المفكرين كثيرًا مما يكون موضعًا للشبهة، والأفكار

فيه مسارح ومذاهب؛ لطموس معالمه وخفاء كنهه؛ ولذلك لم يتحقق الإجماع على

ما لا يعد من البديهيات إلا فيما ندر وقل، وإن مما اتفق عليه العلماء استحالة وقوف

عمل ما عند حد محدود، لا يتنزل إلى هبوط، ولا يتوقل إلى صعود.

لا يبعد أن يذهب قصار النظر إلى إمكانية ذلك، وإنني لا أوجه كلامًا إلى

هؤلاء، بل أخاطب به أرباب العقل، أريد بهم أولئك الذين لا يهملون أمر الفكر،

بل يستعملونه فيما خلق له، ولكل وجهة ومنحى.

تأمل في أي عمل من الأعمال تأمُّل نافذ البصر ثاقب البصيرة، ثم ارجع إلى

نفسك، وأنا ضمين بأنك تحكم: إما بترقيه وإما بتدليه، ولا وسط بينهما.

كل هذا مما أثبتته المشاهدات، واستفاضت بتفصيله النظريات، حتى بات من

المقررات التي لا نزاع فيها بين من يعقل ويفكر؛ ولذلك كان في حال الأزهر وبقائه

في نقطة محدودة لا يتجاوزها قيد شبر لمن ينظر إليه بادي الرأي، حيرة للعقول

ومضلة للإفهام! !

أفرغ ذلك العاقل الحكيم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جهده في سبيل إصلاح

الأزهر، وقضى دائبًا على ذلك سنين لو أمضاها في التأليف والكتابة لملأ الخزائن

حكمة وعرفانًا.

صاح بالأزهريين صيحة صُمَّت منها آذان وفتحت بصائر، فأصاخ قوم لقوله

وثار آخرون ينبزونه باللقب، ويعرقلون مساعيه العظيمة، فريق منهم عانده عن

غي وجهل، وآخرون كانوا يمنون ويوعدون، وكثيرون منهم حملوا على ذلك وهم

كارهون! ! ولكن الإمام كان في أول الأمر مؤيدًا من الأمير، فلم تؤثر في عمله

صيحاتهم، ولم تصدف به سعة سعاياتهم، فأسس للأزهر مجلس إدارة على نمط

ديمقراطي، لا يدع لكبير نفوذًا فيه، ولا لأمير سلطة عليه، ونفخ روح الاستقلال

في رجاله، بما كان يريهم من جلائل أعماله، وجلس من الطلاب مجلس مفيض

الحكمة على العقول، ومربي الأخلاق والنفوس.

ولم تكن العقبات والعواثير الأولى صادة له عما انتدب له وصمم عليه، بل

كان لا يأبه لها - وذلك شأن أرباب النفوس الكبيرة - إلى أن ظهرت له بشكل جديد

يمدها نفوذ قوي، ويؤيدها مقام عَلِيٌّ، فتنكر لها كما تنكرت له، ووثبها حينًا كما

واثبته، حتى كانت تلك الوقفة المشهورة للأمير، وفيها نطق بما كان أكنَّه، وأظهر

ما أخفاه وأجنَّه، قال:

(ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولكن من

الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين،

ويكثرون لذلك من أسباب القلاقل، حتى إنه لما بدا شيء من بعض المغاربة

المجاورين فيه عند إسكانهم في المحال التي خصصت لهم في الأروقة التي عمرت

حديثًا على نفقة ديوان الأوقاف، كان من أهل الأزهر نفسه من يهددهم بالعساكر،

ويتوعدهم بالنفي، ويستفز نفوسهم بمثل ذلك للقيل والقال، والاضطراب والهياج،

إلى أن قال:

وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف

والشغب بعيدًا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة

عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء) .

نطق الأمير بخطبته تلك، ففهم الإمام من بواطنها أكثر مما فهم الناس من

ظواهرها، فاستيقن أن العراقيل التي تقف في سبيله إن لم تقدر على زحزحته عن

مكانه، فإنها كفيلة بتعطيل عمله وإصلاحه، فخرج من حضرة الأمير والأسف

مشتمل على نفسه، ورأى أن الخروج من مكان أراد أن يجعله كعبة للإصلاح،

فحيل بينه وبين ما يريد أصبح واجبًا محتمًا، فاستقال من إدارة الأزهر هو

وصديقه العامل الشيخ عبد الكريم سلمان، ولقد كان لتركهما الأزهر اضطراب

وحزن، شاركت مصر فيه سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الرجاء بالإصلاح

الإسلامي كان معقودًا بهذين الرجلين الزعيمين به ثم مضى الإمام إلى ربه ولسانه

يتلجلج بقوله:

ولكنه دين أردت صلاحه

أحاذر أن تقضي عليه العمائم

استحوذ اليأس على النفوس من إصلاح الأزهر بعد ذلك، وحكم الناس بأنه

يصير طللاً دارسًا؛ لأن طريقين يسير الناس فيهما في هذه الدنيا: فإما فناء وإما

ارتقاء، ولا ثالث لهما، ولا وسط بينهما، كما مر من قبل، وأجمع الكثيرون على

أن الأزهر سائر في الطريق الأولى، وصادف عن الأخرى، وكان أناس في حيرة

من أمر الأزهر، ظانين أنه واقف ساكن لا يسير إلى تدلٍّ ولا إلى رقيٍّ! ! وهذا هو

المحال بعينه ، وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يستحيل أن يبقى الأزهر في هذا

العصر على ما هو عليه، فإن لم يعمر ويرتقِ فلا بد أن يخرب ويزول.

رأى الأمير بعد ذلك أن يصرف عنايته في سبيل إصلاح الأزهر، وتغير رأيه

في حظ الحكومة منه، وإدخال العلوم الجديدة عليه، حتى أصبح يراها من الفروض

المحتمة، فألف له مجلسًا عاليًا هو رئيسه في بعض الأحيان، فقرر المجلس وضع

نظام جديد للأزهر، ودأب أعضاؤه يجمعون نظاميات المدارس الأميرية، وما كان

وضعه المرحوم الأستاذ الإمام، ولخصوا من كل ذلك نظامًا جديدًا وضعوه ليسير

عليه الأزهر، فكان من عيوبه الكثيرة أن الأساتذة أنفسهم لا يستطيعون السير عليه،

فقد وضعوا فيه علومًا جديدة أوجبوا على الطلاب ممارستها، وأكثروا فيه من

العلوم والفنون التي يستحيل على طالب لم يتوفر على تحصيلها من قبل أن يلم بها،

وحتموا على من أوشكوا أن ينتهوا من الامتحان تأدية الامتحان فيها، مع علمهم بأن

هذا من الإرهاق الذي لا يستطاع حمله، فإن الطالب الذي بلغ الثلاثين أو ما فوقها،

يعسر عليه أن يرجع إلى مدارسة كتب السنة الأولى وبينه وبين الامتحان سنة أو

سنتان! ! على أنه لا يوجد من الأساتذة من يحسن تدريسها، بل لا يوجد من ألم بها

أو زاولها! .

سألني أستاذ عهد إليه تدريس تاريخ آداب اللغة، ماذا أفضل من التواريخ

لإقرائها؟ ابن خلكان أم ابن الأثير! ! ! وجاءني أستاذ آخر يسألني ما هي

المحاضرات؟ ! وربما كان السائلون لغيري أكثر على أنهم يسألون عن موضوعات

ليست غريبة عنهم، فما بالك بعلوم الطبيعة والرياضة ونحوهما؟

جاء البرنامج الذي وضعوه حاويًا أكثر من عشرين فنًّا، ما بين قديم وجديد،

وأوجبوا على طلاب السنة الثانية عشرة أن يمتحنوا فيها، فكأنهم بهذا فرضوا عليهم

أن يعودوا إلى السنة الأولى! ووزعوا العلوم على من لا يحفظ حتى أسماءها، فمن

ذلك أنهم فرضوا على ضرير أن يقوم بتعليم الإملاء! وأرادوا على تدريس الرياضة

من لا يحسن القواعد الأربع! وهكذا كان توزيع سائر العلوم على المدرسين، فكانوا

كلما توغلوا في تطبيق النظام ازداد التهويش والاضطراب.

رأى الطلاب أنهم مسوقون في طريق غير معبدة ونهج غير سوي، فاستيقنوا

أن النهاية ستكون شرًّا من البداية، وكان كثيرون منهم ممن حضروا دروس الأستاذ

الإمام عرفوا منها أن للإنسان أملاً في هذه الدنيا يسعى إليه، وغاية يقصدها بعلمه

وعمله، ورأوا أنفسهم أنهم ليسوا من ذلك في عير ولا نفير، فاضطربت أفئدتهم

وحزنت نفوسهم.

أطلوا على مستقبل مظلم، مسبوق بالنكد والإرهاق، ورأوا الأهوال تصرفهم

وبؤس العيش يؤذيهم، فهبوا من رقدتهم، واستيقظوا من غفوتهم، ونهضوا نهضة

من نفخت فيه نسمة من الحياة، كانت ساكنة ولا محرك لها، فحركتها حرارة هذا

النظام وبرودة تنفيذه من جهة، فصارت ريحًا عاصفةً.

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

من ذا الذي كان يظن أن طلاب الأزهر سيخرجون من الأزهر بقضهم

وقضيضهم وهم بضعة آلاف؛ ليعلنوا للملأ أن ما هم فيه لا يرضى به من كان

إنسانًا، وإن ما أوتوا من النظام الجديد إنما هو نتيجة أفكار تستطيع أن تحشر

المؤتلف والمختلف معًا؛ ولكنها لا تحسن النظام، بل لا تعرف طرقه؟

خرج الطلاب من أزهرهم حذر ما أريدوا عليه؛ وابتغاء الوصول إلى خير

منه، فطوفوا في الشوارع، وذهبوا إلى الجزيرة فخطبوا، وكان مظهرهم من أجمل

ما تقع عليه العين، وكان أحسن ما هم فيه نظامهم وأناتهم، فقد كانت صفوفهم

متوازنة، وأبصارهم خاشعة، تأدبًا بأدب الدين، وتخلقًا بأخلاق حملة العلم.

سُرَّ الناس بهذا المظهر الجميل أو المظاهرة كما يقول الكتاب، وارتاحت

نفوسهم إلى الأزهريين، بعد أن حكموا عليهم بالموت الزؤام. ولكن القيمين عليهم

من المدرسين والمفتشين ريعوا وغضبوا، وصوروا الحال للأمير بعكس ما وقع،

فأوهموه أن فريقًا أو أفرادًا حقيرين (وكلمتهم الحقيقية: هلافيت!) ، قاموا

يصخبون ويصيحون، وأن تأديبهم من السهولة بمكان، فلم يحفل الأمير نداءهم، ولم

يستجب لقولهم. ولكن ظهر بعد ذلك غشهم لأنفسهم وللأمير، ورأوا من اتحاد

الأزهريين وصدق عزيمتهم، أكثر مما عندهم من القسوة والصلف، وأن الأمر واقع

ما له من دافع، فلم يزدهم ذلك إلا تشددًا وعنتًا، ظنًّا منهم أن الشدة تفرق جمعهم،

وتحل عرى اتحادهم، فجاؤهم برجال الشرطة وركبانها، فأحاطوا بالأزهر من كل

جهة، وسدوا من دون طلابه كل منفذ، حتى إن فريقًا منهم لم يرض بما دون

التحرش بقاله وأعماله، فأين من هذا تهديد المغاربة الذي عده الأمير بدعًا؟ ولكنهم

ألفوا الطلاب مدرعين بالأناة والصبر، معتصمين بحبوة التوءدة والسكينة، فما

استطاعوا حملهم على ما يكره من مثلهم، ولا إرادتهم على غير ما أرادوا أنفسهم

عليه.

لم تقف الحكومة موقف الحكمة إمام حركة الأزهريين، بل وقفت شاخصة

ببصرها؛ كمن تعرض أمامه أنواع من الصور المتحركة! ولم تحفل بمطالب

الأزهريين الذين أضربوا عن حضور دروسهم؛ رجاء نيلها. على أنه لم يكن من

العسير أجابتهم إلى بعضها، ولو أنهم أجيبوا لرضوا وشكروا، وتنازلوا عن

المطالب الأخرى واعتذروا.

طلبوا المساواة بين المعاهد الدينية في حقوق الطلاب ورواتب المدرسين،

حتى لا يكون راتب المدرس في الأزهر مائة قرش، وراتب ضريعه في الإسكندرية

ثمان مائة قرش، كما هي الحال الآن، مع أن الأزهر رأس المعاهد الدينية. فمن ذا

الذي لا يقول إنهم طلبوا حقًّا، والتمسوا مساواة وعدلاً؟

طلبوا مدرسين من أرباب الكفاءة والاضطلاع، ولا سيما الذين يعهد إليهم

تدريس العلوم الجديدة التي لا يقدر غير الضليع بها على تدريسها، وأن تلقى إليهم

على نحو إلقائها في المدارس النظامية، وأن ينفذ النظام الذي وضع لهم بالتدريج

اتباعًا لسنة الارتقاء الطبيعي، لا أن يدفعوا به في صدورهم مرة واحدة، ويحملوا

على الجري عليه كلمة كلمة، أفليسوا بهذا المطلب محقين، وبه جديرين؟

طلبوا أن يكون لحملة الشهادة الابتدائية والثانوية منهم حظ من الاستخدام في

المحاكم الشرعية والأوقاف، والخطابة والوعظ، وغير ذلك من الوظائف الحقيرة

فهل هم بذلك مخطئون بما طلبوا؟

طلبوا أن لا يحمل الطالب الذي يؤدي الامتحان في هذا العام على تأدية

الامتحان في العلوم الجديدة التي لم يدرسها، ولم يعرف من أمرها شيئًا؛ لأن حمله

على أداء الامتحان فيها من الإرهاق والظلم البين، فهل أساءوا وظلموا؟ !

طلبوا أن يكون لهم احترام أمام ذوي السلطة، وأن يسمح لهم بالسفر بنصف

أجرة في السكك الحديدية ولشيوخهم من دون أجرة؛ مساواة لهم برؤساء الأديان

الأخرى، فهل كانوا بذلك بدعًا، أم أتوا أمرًا إدًّا؟

تلك معظم مطالب الأزهريين فأي منصف، بل أي مجحف، يبيح لنفسه

الادعاء بأنهم ليسوا أحق بها وأهلها! رأوا أنهم هضموا وظلموا، وأعطي إخوانهم

في الإسكندرية فوق ما سألوا، فطلبوا المساواة بهم. ورأوا أن العلوم وزعت على

مدرسين لم يحيطوا بها علمًا، بل لم يعرفوا لها حدًّا ولا رسمًا، وقد مر على القارئ

أن الإملاء عُهِد في تدريسه إلى أعمى، والرياضة إلى من لا يعرف لها مسمى،

فكيف مع هذا لا يكونون محقين في طلب المدرسين الأكفاء والعلماء الفضلاء! .

رأوا أن الحامل منهم للشهادة الابتدائية أسوأ حظًّا من حجاب المحاكم، وغيرهم من

مزاولي ما هو دون مهنتهم. فطلبوا أن يكون لمن يحملها نصيب في بعض

الوظائف الحقيرة! فهل هم بذلك ظالمون؟ رأوا أنهم ممتهنون مزدرون وأن أحدهم

أذل من قيسي بحمص، وأن أندادهم وأقتالهم من أرباب الديانات الأخرى، لهم من

الاحترام عند رجال الحكومة، ومن الميزة في بعض الشئون، ما حملهم على الطلب

بأن يعاملوا مثلهم، فهل يعد هذا من الافتيات!

وهنالك مطالب أخرى ما كان لهم أن يطلبوها، وإن كانت حقًّا وعدلاً، كطلب

تعيين شيخ الجامع الأزهر بالانتخاب وغير ذلك، وربما يكونون طلبوا كل ذلك

ليجابوا إلى بعضه، على أن الحكومة هزأت بهم وسخرت منهم، فكان ذلك داعية

لصدور حكم المجلس العالي للأزهر عليهم، وهذا هو حكمه بعد ذكر الأسباب:

(قرر المجلس ما يأتي: حرمان طلاب العلم بالجامع الأزهر من: المرتبات

والجرايات، والامتيازات الحائزين عليها بحسب تبعيتهم للأزهر، ويمنعون من

دخوله! ! إلخ) .

جوزي الأزهريون بهذا الحكم لطلبهم تلك المطالب، وسيحفظه التاريخ الذي لا

ينسى شيئًا، ويكون لمن بعدنا حكم عليه وأي حكم! !

لم أر فيما رأيت في هذه البلاد أمرًا عنيت به الأمة، واضطربت له عنايتها

واضطرابها بأمر الأزهريين، وليس لهذا من سبب إلا الشعور بأنهم مغموطون

مضطهدون، فكان اندفاع الأمة في الرغبة إلى الحكومة والالتماس من الأمير بمعاملة

الأزهريين بالرفق والحسنى، وإجابتهم إلى ما طلبوه بحق وعدل كان ذلك سببًا

لنهضة النظار ورغبتهم إلى الأمير أن يصفح عما عده ذنبًا للأزهريين، وقد كان

ذلك، وقرر إرجاع الأزهر إلى قانون سنة 1314.

سكنت ثائرة الأزهريين، وارتاحت نفوسهم إلى هذا القرار، وأفرخ روع

الأمة بعد القلق والاضطراب. ولكن قام فريق من أصحاب الجرائد وكتابها الذين

يتكلمون بغير وجدانهم، ويكتبون بمؤثرات كاذبة يخلقونها لأنفسهم، يصيحون

ويصخبون متململين من هذه المغبة، متبرمين من سوء النتيجة، ناعين على جرائد

أخرى كانت تشد أزر الأزهريين؛ لأنها كانت تؤيدهم ذلك التأييد، وذلك ليوهموا

الأمة أن الرجوع إلى ذلك القانون خسران مبين! ! !

لو لم يكن في الرجوع إلى ذلك القانون إلا حصر سلطة الأزهر في مجلس

إدارته، لعد هذا وحده غُنمًا وأي غُنْم، على أن نظام القانون القديم الدراسي، كان

وضعه على نمط يجعل للطلاب حظًّا من العلوم الجديدة، من دون أن يرهقوا أو

يحملوا على ما لا يستطيعون، فقد كان القانون يخول لمن كان في السنة السادسة

الاختيار في الامتحان في العلوم الجديدة، فله أن يمتحن فيها إذا شاء، ويكون إذ ذاك

مقدمًا على غير الممتحن فيها، وذا حظ من الجوائز المالية التي كانت خصصت لمن

يبرز فيها ، فأين هذا من القانون الجديد الذي يقضي حتى على من كان في آخر

سني الدراسة أن يمتحن في تلك العلوم كلها؟

ليس من يحملك على ما لا يستطاع حمله بالقسر، كمن يسوقك إلى صنع

المستطاع الهين بما في وسعه من أنواع الترغيب والتحبب، وهذا ما جعل الطلاب

يتلقون القانون القديم بالرغبة والجذل، وحملهم على النفور من الجديد بالكراهية

والسخط، وذلك أمر منتظر والمثل يقول (إن رمت أن تطاع فسل ما يستطاع) .

يقول المتفيهقون اللاغطون: إن نفور الأزهريين من النظام الجديد دليل على

جمودهم، وأنا أقول: إنه دليل على استقلالهم ونهضتهم، وحجة أولئك زعمهم أن

الأزهريين لم يرتضوه لأنفسهم؛ لأنه يحملهم على ممارسة العلوم الجديدة، وهم لا

يشاءون أن يضربوا بسهم فيها! ! وسلطاني أنهم رفضوه؛ لكونه مشوهًا مضطربًا

لا يمكن السير عليه، وقد مر على القارئ الإلماع إلى شيء من مساوئه. أما العلوم

الجديدة فإنهم عرفوها أيام كان كثيرون من واضعي النظام يحاربونها، ويرمون

مزاوليها بالتضليل والتكفير. فالرياضة والهندسة والهيئة والميقات وتقويم البلدان

والتاريخ كان يدرسها الأزهريون. ولكنها كانت تدرس لمن لم يتجاوزوا السنة

الرابعة الدراسية، لا كما قضى النظام الجديد بإرغام جميع الطلاب عليها! .

الغرض الأول من الأزهر تخريج الأخصائيين في علوم الشرع، ومن

الضروري أن يكون العالم الشرعي ذا إلمام بالعلوم الجديدة؛ لأن الجاهل بها في هذا

العصر هو والأعمى شرع. ولكن من الرعونة والبلاهة أن يراد من العالم الشرعي

أن يكون أخصائيًّا في الرياضة والطبيعة والهندسة وغير ذلك.

ألا إن الإصلاح الحقيقي لا يكون بزيادة العلوم ووضع القوانين، وإنما يكون

بالرجال الأكفاء الضليعين الذين يزِنون الأشياء بميزانها، ويضعون كل شيء في

موضعه، إذا كان لديهم المال الذي يقتضيه ذلك الإصلاح. وإن بين ظهرانينا

كثيرين من هؤلاء، وهم متخرجي الأزهر وموظفي الحكومة، فماذا على الحكومة

لو عهدت إلى هؤلاء إصلاح الأزهر - وهم القادرون وحدهم على ذلك - إذا كانت

تريد الإصلاح!

وأحسن ما تختم به هذه المقالة الثناء على الشيخ حسونة النواوي الذي ظهر

في استقلال فكره وكمال رجولته، ما ذكرنا بكلمة الأستاذ الإمام فيه (أنه أفضل من

يليق لمشيخة الأزهر) بل ما حمله على الاستقالة؛ لأنه لم يُجَب إلى مطالب

الأزهريين إذ سألها، فكان ضنينًا بكرامته أن تهان، وبإرادته أن تتلاعب بها

الأهواء، وهذا هو الرجل الفذ، أكثر الله فينا من أمثاله.

...

...

...

...

حسين وصفي رضا

_________

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ندوة العلماء الهندية

تأسيسها دارًا للعلوم

إن لندوة العلماء في الهند مساعٍ في خدمة الدين الحنيف، وسعيًا في خير

النوع الإنساني مبرورًا، وقد اتجه عزمها إلى إنشاء مدرسة كبرى للعلوم (جامعة)

دعتها (دار العلوم) ، واحتفلت في أول شهر ذي القعدة الماضي بوضع الحجر

الأول من أساسها، وقد قالت في ذلك مجلة البيان التي تصدر في مدينة

لكنؤ (الهند) :

(عقدت حفلة ندوة العلماء في 28، 29، 30 نوفمبر الفارط في مدينة لكنؤ

فأمها المسلمون من كل الأصقاع من الأمراء والعلماء والوجهاء، وكانت الحفلة بهيجة

لم ير الناس مثلها في حسن انتظامها، وبلاغة ما ألقي فيها من الخطب الداعية إلى

نشر المعارف وإعادة مجد العربية في بلاد الهند، ومحو المراسم والبدع التي تجري

عليها العامة باسم الدين، ورفع الخصام الملي، وإصلاح ذات البين، وتوطيد الإخاء

والوئام بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وتمت الحفلات، ولم يحدث

فيها ما يريب ذوي الألباب أو يشين الجمعية المعروفة بندوة العلماء.

وقد اجتمع في هذا الاحتفال جمهور كبير من صنوف الناس، فيهم المسلمون

والإفرنج والهنود، وكان بين المسلمين أهل السنة وعلماؤهم، والشيعة ومجتهدوهم

والمقلدون والمستقلون، والصوفية والأحناف والوهابية والمتفرنجة. وهو أول

اجتماع ديني حفل أهل المدن المختلفة، كأنما هو طاقة رياحين مختلفة نفحاتها

وألوانها.

ولما حانت الساعة المعينة أتى الوالي السرجون هويت وقرينته، فاستقبلهما

أعضاء الندوة، وأتوا بهما إلى الدكة المقامة لجلوسهما، فجلسا على كرسيين من

الفضة، وافتتح الاحتفال بعد أن تلا القارئ آيات من القرآن الحكيم، وقدمت إلى

الوالي عريضة الحال، فأجاب بخطبة مسهبة أثنى فيها على الخطة التي سارت

عليها الندوة؛ من رفع الخصام، ونشر المعارف الحديثة ممزوجة بعلوم الدين، وعد

أعضاء الندوة من مخلصي دولته، وقام بعد ذلك مع جماعة من وجهاء المسلمين،

ووضع حجر أساس المدرسة) .

وهذا نص العريضة التي قدمت إلى الوالي، نقلناها عن المجلة الخاصة التي

تصدرها الندوة باسمها:

مولاي الأكرم: نحن أعضاء ندوة العلماء، نرحب بكم من حيث كونكم نائب

الحكومة في هذه الإيالة، ونشكركم على إجابتكم دعوتنا؛ لوضع حجر أساس دار

علوم الندوة، فيشكركم على ذلك كافة المسلمين، فإن الندوة كأنها لسان حال الأمة،

ولا يوجد قدر شبر من الأرض إلا وفيه أنصار الندوة وحماتها، وقد استبان بهذا منا

للدولة من التسامح الديني الذي هو من مزايا الأمة الإنكليزية خاصة، والذي هو

ملاك الحكومة وعمودها، فإن الندوة ليست إلا جمعية دينية.

مولاي الأكرم: نحن نستدعي من حضرتكم أن تسمحوا لنا بإبداء مطالب

الندوة وطوارئها التي من أحد مظاهرها الجلية دار علومنا هذه.

مولاي الأكرم: إن المسلمين منذ وجدوا إلى يومنا هذا، لم تزل فيهم طائفة

تلقب بلقب العلماء، وهم قادة الحزب الإسلامي في أمور الدين وأحكامه، والأمة

كانت تقفو أثرهم، وتتبع هداهم في كل ما يمس بالدين ولو في أمور الدنيا، وكانوا

أنموذجًا لتمدن الإسلام ومكارم أخلاقه. والأمر الذي استوجب وجود هذه الطائفة؛

هو أن ما تتقوم به جنسية المسلمين ليست خصوصية الإقليم، ولا الشعب، ولا

الأسرة، كما هي للأمم الأخرى، بل كل من اعتنق دين الإسلام، يحصل له كل ما

كان للمسلمين قاطبة على اختلاف جنسيته وعشيرته ومبدئه. ولما لم يكن للمسلمين

حزب يختص بدعوة الدين، كانت الأمة تحتاج إلى مثل هذه الطائفة؛ لكي لا يحيدوا

عن قصد المحجة. وهذا الأمر دعا إلى أن نشأت طائفة كبيرة من العلماء لا يقل

عددهم عن أمثالهم في الأمم الأخرى، ومن مزية أمة الإسلام أن العلم كان فيها

يكتسب لأجل العلم فقط، مع صرف النظر عن كل مرمى وغاية - وما في هذه

الأمة من احترام العلم، والخضوع له والتفاني أمر لا تشاركها فيه أمة، حتى إن

الرؤوس المتزينة بالتيجان كانت تخضع لها كرامة. والحق أن تأخر الأمة ما كان

إلا بعد ما فقدت هذه الطائفة مزاياها، فذهب ما كان لها من المكانة عند القوم،

وحينئذ حرمت الأمة من قيادتها وتبدد نظامها، وعند ذلك اشتغلت هذه الطائفة

بمحقرات الأمور، وبلغ الحال إلى أن رفعت الشكاوي إلى المحاكم السلطانية، فقام

حينئذ حزب من العلماء لسد الخلل وإقامة معالم الإصلاح، وكان من أول مظاهره

هذه الجمعية المسماة بالندوة، انعقدت حفلتها الأولى في كانفور سنة 1893م، وفي

سنة 1898م صادقت الحكومة عليها رسميًّا، وبلغت حفلاتها اثنتي عشرة حفلة،

اجتمع فيها العلماء وعامة الناس على اختلاف أهوائهم وأذواقهم - أما مطالب

الندوة فتحصر مهماتها في أربعة أمور:

(1)

ترقية المدارس العربية وإصلاحها.

(2)

رفع المخاصمات الدينية.

(3)

إصلاح أمور المعاشرة والأخلاق.

(4)

نشر الإسلام وكل ما يتعلق بالمنافع العمومية.

في بدء الأمر ظهر الترحيب بالندوة من جميع الأمة كافة، فتوسعت حينئذ

مطالبها، وكان من أول مساعيها أنها اجتهدت في رفع الخصام الحادث في أحزاب

الأمة، وإصلاح ذات البين، وفازت في ذلك إلى حد لا يستهان به، وكذلك سعيها

بتخفيض نفقات عوائد الفرح والألم لِمَ يذهب أدراج الرياح، ثم إن الندوة أقامت دار

الإفتاء في لكنوء، ومحلاًّ للأيتام في كانفور. ولكن كان أهم مطالبها أمر التعليم،

بإصلاح ما فسد منه؛ ليكون سببًا لوجود شرذمة تهدي الناس في الأمور الدينية.

ومن البَيِّن أن التعليم الصحيح هو الذي يزيل كل داء اعترى الأمة، وحجزها

عن سبيل رقيها. ونظرًا إلى ذلك أسست الندوة في سنة 1898 م مدرسة سمتها بدار

العلوم، كانت في أول الأمر مدرسة ابتدائية، ثم تحولت إلى كلية في سنة 1901 م

وصارت كأنها أساس لجامعة دينية، ولما كان أمر التربية أعظم خطرًا من التعليم

أسست دار إقامة للطلبة. ولكن كان من شؤم الحظ أن الأمة لم تقدر مسعى الندوة

حق قدره، فالفئة القديمة أساءت الظن أن إدخال الفلسفة الجديدة في نصاب التعليم،

يورث وهنًا في الدين! حتى ألَّفت كتب ورسائل في تكفير حزب الندوة. وفوق ذلك

أن الناشئة الجديدة أيضًا كانت تتقاعد عن الأخذ بناصرنا، فإنها كانت تحسب أن

الندوة تقيد حرية الأفكار، وكانوا عاجزين عن فهم منافع إحياء العلوم العربية أصلاً

ومع أن الندوة كانت هدفًا لسهام كلتا الطائفتين، لم تزلَّ لها قدم، ولزمت محجتها

واختارت لنفسها جادة وسطًا، فرتبت نصابًا جديدًا رجح فيه جانب الأدب والعلوم

الدينية، ومع أن دار العلوم لم يمض عليها ردح من الزمان، أنشأت تلاميذ يقدرون

على ارتجال الخطب من غير روية، وهذا شيء لم يسبق له مثيل! وكان يُعد أمرًا

نادرًا في إبان الحكومة الإسلامية أيضًا، وقد أضفنا إلى نصاب التعليم الفلسفة

الجديدة، وكانت هذه بدعة تعد، وكفرًا في المدارس القديمة، ومما زاد الطين بلة،

أنا أدخلنا في نصابنا تعليم اللسان الإنكليزي لزومًا، فكان من ثمرته حرمان الندوة

من بعض المساعدات المالية، حتى إن بعضًا منهم استرجع أرضًا كان وقفها على

دار العلوم! ولم نأل جهدًا في الاستفادة مما لأهل الغرب من الاكتشافات الجديدة في

العلوم العربية، وخزانتنا تحتوي على أكثر ما كتبه المستشرقون في أمثال هذه

المسائل، وعلى كتب غير هذه تصلح أن تكون زينًا لكل متحف علمي، وتلامذتنا

لهم مزيد شغف في الاستفادة من تلك الخزانة، ويوجد فيهم من يكتب في مجلة الندوة

مقالات علمية يستحق التنويه بها.

والآن أردنا أن ننشئ لجنة، يكون أعضاؤها تلامذة مدرستنا الذين يقفون

حياتهم على الفحص عن المسائل العلمية المهمة. وبناء على ما توارثنا من آبائنا لا

نأخذ للتعليم أجرة، ونريد أن نوسع نطاق التعليم حسبما تعيننا على ذلك المساعدات

المالية.

ومن أهم مزايا مدرستنا أن الذين بقوا على الحيادة عن المدارس الدولية؛

لأجل التعصب الديني؛ أو لأجل عدم الثروة، لا يجنحون إلا إلى مثل التعليم الذي

اختارته الندوة، فإنها جعلت تعليمها تحت سيطرة التعليم الديني.

ونحن نجترئ على أن نعرض على مسامعكم أن دار علومنا مع قلة بضاعتها

وقصر باعها، أربت على أمثالها من كلا النوعين بنوع خاص، فإنهم أبعد ذيلاً عن

التقشف، وبراء من الفخفخة الفاسدة. ومع أن مدرستنا لا تقدرعلى إحداث طائفة

يصلحون للتوظيف في أعمال الدولة. ولكن نحن على ثقة أن مدرستنا تنشئ رجالاً

يقدرون على إطفاء الثورات الحالية التي تريد إمحاء سيطرة الخالق والمخلوق معًا،

رجالاً يكون من شيمتهم الاستكانة للإكبار، والمؤاساة للجار، والتواضع للعامة،

وفوق كل ذلك: الانقياد للحكومة والخضوع.

فمدرستنا تنفخ في طلبتها روح المسامحة الدينية التي فتحت أبوابها لكل حزب

فلم يتعين طلبتنا ولا أساتذتهم بالمشاجرات التي حدثت اليوم بين الفئتين العظيمتين

من المسلمين، وعلماء لجنتنا لا يزالون يدعون الناس إلى الخير والصلاح فنرجوا من

دار علومنا والمدارس التي تتبع سبيلها أنها تخرج طلبة سيسودون الأمة ويملكون

أزِمَّتها مرة أخرى، ويحسمون التشاق، ويشقون عصا النفاق، ويصبحون لتوسعهم

في المعارف الحديثة والقديمة واسطة موصلة بين الفئة الناشئة وحزب التقهقر العتيق

ونحن على يقين من أن المسلمين كما يسلم إذعانهم لحكومتهم يزيدون من هؤلاء

العلماء الناشئين طاعة وانتقادًا للحكومة. والآن نقدم إلى جنابكم أزكى التشكرات

حيث تفضلتم علينا بقطعة من الأرض؛ لترفع عليها قواعد مدرستنا، وبعد ذلك نحن

نشكر الذين بلغنا من مساعدتهم ومساعيهم إلى هذا الحد، ونخص من بينهم أولاً سمو

النظام أمير (حيدر آباد) الذي نستغرف من وجود إمارته من نعومة أظفارنا، وإن

لم نرزق زيارته حتى الآن. وبعد ذلك نؤدي مفترض الولاء إلى سمو الملكة أميرة

بوفال التي تمنحنا وظيفة إعانة سنوية، ونبث أيادي إمارة هماوبالفورالتي رفدت

أميرتها غير ما تسمح به إمارتها سنويًّا بمنحة تساوي خمسين ألف روبية، هيأتنا

لنتشرف بأن تضع سعادتكم حجر أساس كليتنا، ونرى من واجباتنا أن نذكر من غير

هؤلاء الكرماء الذين أخذوا بأيدينا، وساعدونا بما توخينا من الخير كرنل خان بهادر

عبد المجيد خان وزير خارجية إمارة بلياليه ونحن نشكر المستر أي - ال- ساندرس

والمستر اس ايج بطلرسي 0أي0أي0 والمستر ال ام جابلتك الذين نصرونا بتحصيل

القطعة التي أنعمتم بها علينا. وفي الختام نشكر جنابكم من صميم أفئدتنا، حيث

نصرتمونا مما ثنيتم إلينا من أعنة فضلكم، ونعيد مرة أخرى تشكرنا الذي نقدم إلى

جنابكم، حيث قبلتم أن تضعوا بيدكم الكريمة حجر الأساس ، والآن نسألكم أن

تأخذوا بهذا العمل الخطير الذي يبقى على كر الدهر.

_________

ص: 73

الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين من سنغافورة

‌لقب حاكم المسلمين

لصاحب الإمضاء

رأيت في بعض جرائد الآستانة كلامًا عن الخلافة، واتهام خديوي مصر

بالسعي في التلقب بها، إلى نحو ذلك، ولا أدري أي عقل صبياني يقبل تلك

المفتريات الباردة! إن لقب الخلافة لقب شريف، وله شروط، والخلفاء الحقيقيون

الذين هم خلفاء بدون شك، قد مضوا - رحمهم الله تعالى - كما في الحديث

المشهور (الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون ملكًا عضوضًا) وفي رواية (ملكًا وجبريةً)

انتهى باللفظ أو بالمعنى، فمن كان بعد ذلك من عُلُوج أُمَيَّة، أو فُسَّاق بني العباس،

فليسوا خلفاء بل هم ملوك، ولم يستثن إلا من استقام على الطريقة المُثلى، ولم

تغن عنهم قرشيتهم شيئًا، ولا ديلمتهم.

ثم ماذا جنى المسلمون من لقب الخلافة؟ إنهم لم يجنوا غير الافتراق والقلاقل

ومنذ استشرى سلاطين آل عثمان لهذا اللقب، فتحوا على أنفسهم أبوابًا من التعصب

بدون مقابل، قل لي: أي فائدة حازوها بهذا الاسم الضخم؟ أي مملكة افتتحوها بهذا

اللقب؟ أي حق استحقوا بهذا المنصب؟ إنني لا أعرف شيئًا، وما أراهم استفادوا

غير نفرة مجانين الملوك، وزيادة التفريق الذي أودى بنا. السلطان مفروضة طاعته

في المعروف، حرام الخروج عليه لغير سبب مسوغ. كل هذا معلوم، فماذا يجب

غير هذا له، لو كان خليفة مستكمل الشروط؟! إننا لو أردنا أن نقتصر لأقل ملوك

المسلمين الآن، على ما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم شكوا في

استحقاقهم له وأرجعوه، لم يقبل أحد منهم ذلك، مع أن أعلاهم كعبًا لا يقوم

للمسلمين بعشر معاشر ما قاما به. لا أقول: إن ذلك الأوان مساوٍ للوقت الحاضر،

يكفي فيه ما كفى في ذاك، لا بل أقول بعد مراعاة الأزمنة والأحوال.

إذًا يجب النصح والمساعدة لسلطان المسلمين، على كل أحد منهم بما قدر

عليه، سواء سماه أمير المؤمنين أو الخليفة أو السلطان كذا، أو إمبراطورًا أو ملكًا

أو فلان بن فلان بلا فرق. ومن المحسوس أنه ليس للمسلمين سلطان أحق وأولى

بالاعتبار من السلطان عبد الحميد خان - زاده الله توفيقًا - فالنصح له بعد النصح لله

وكتابه واجب، وكذا الدعاء له. لكن لا على نحو ما يفعله الجهلة، وخطباء

المنابر في الدعاء، أو بأن يقدموا أمامه ما يكون سببًا لعدم قبوله من المبالغات

والنعوت الكاذبة، وما يدل على الخيلاء والأبهة والكبرياء، فكل ذلك بدعة، روجها

الوسواس الخناس عليهم، وعمل بها علماء السوء عباد الدرهم والدينار. والتواضع

والخضوع والصدق في الدعاء، والاتباع فيه لما جاء عن سيد المرسلين من أعظم

أسباب قبوله. هذه آرائي أعرضها للتمحيص، وأقترح على خطباء المنابر أن لا

يزيدوا على قولهم عبدك الفقير إليك فلان، وكأني بهم إذا عملوا بإخلاص، وقد رأوا

علامات الإجابة، والله الهادي.

...

...

...

...

... سنغافورة

...

...

...

...

... س. س. ي

_________

ص: 77

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التاريخ الهجري الشمسي

عندما شرعت بوضع النظام أو القانون للجمعية الخيرية الإسلامية في طرابلس

الشام، خطر لي أن تكون سنيها هجرية شمسية، وأن يكون أول سنتها شهر مارس

(آزار) كالسنة المالية العثمانية، وذكرت ذلك في القانون، ثم خطر لي أن أذكر

هذا التاريخ في المنار؛ إحياء له مع ذكر السنة القمرية التي عليها المعول في

الأمور الدينية؛ للاستغناء فيها عن الفلكيين والحاسبين. وقد جاء في حسابي أن سنة

1909 الميلادية توافق 1285 هجرية شمسية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ولد سنة 571 بعد ميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم، وبعث على رأس الأربعين،

وأعلن بعثته بعد ثلاث سنين من نزول الوحي عليه أول مرة، وهجر بعد عشر

سنين من إعلان الدعوة فتلك 53 سنة، تجمع إلى سنة الولادة، فتكون معها 624

تطرح من 1909، فيبقى 1285. ولكن رأيت بعد ذلك أن الدولة العلية عزمت

على أن تجعل حسابها المالي على السنة الهجرية الشمسية، وأن سنة 1909 وافقت

على حسابها 1288 هجرية، وكأن الحاسبين الذين قاموا بذلك لم يحسبوا سني الفترة

بين أول الوحي وإعلان الدعوة وهي ثلاث على المشهور، فيجب أن يتقوا مثل غلط

النصارى في تاريخ الميلاد، فقد أخطأوا فيه بعده سنين، ثم لم يمكنهم الرجوع إلى

الصواب؛ بعد أن ملئت الكتب والدفاتر بالخطأ.

***

أهم ما نطلب من مجلس المبعوثان

(1)

إصلاح نظارة الأوقاف، وجعل أموال الأوقاف التي تراعى

شروطها والتي جهلت شروطها والتي وقفت على الخير مطلقًا - كلها لإحياء العلم

والدين ونشرهما في جميع البلاد، وسنفصل ذلك في وقته.

(2)

إصلاح المحاكم الشرعية، وأهم أركان هذا الإصلاح جعل المحاكم

الشرعية كالنظامية، مؤلفة من رئيس وأعضاء، وتأليف كتاب لها كالمجلد، وجعلها

درجات ابتدائية واستئنافية وتمييزية (محاكم نقض وإبرام) ، وترتيب رواتب شهرية

كافية للقضاة والكتاب، ومنعهم من أخذ الرسوم.

(3)

جعل اللغة العربية محتمة في جميع مدارس الحكومة، وإنشاء مدارس

معلمين ومدارس زراعة.

_________

ص: 79

الكاتب: جميل العظم

‌ذيل لكشف الظنون

كنت شرعت منذ ست عشرة سنة بتأليف ذيل لكتاب (كشف الظنون عن

أسامي الكتب والفنون) تصنيف العلامة منلا كاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة

المتوفى سنة 1067، جمعت فيه ما فاته ذكره من أسماء الكتب والمصنفات، مع

أسماء المؤلفات التي حدثت بعد عصره في اللغات الثلاث الشرقية إلى يومنا هذا.

رجعت في ذلك إلى كتب التراجم، وفهارس المكاتب العمومية، وبعض

المكاتب الخصوصية، وضممت إلى ذلك الكتب التي وقفت علي أسمائها في أثناء

مطالعتي لكتب شتى مختلفة المواضيع، وأسماء كتب كثيرة دخلت في يدي مع ما

وقفت عليه من أسماء المؤلفات التي أعلنت الجرائد والمجلات طبعها، وقد أحببت

أن أطبع هذا الذيل الحافل أجزاء متتابعة، كل جزء مائة صحيفة بقطع الأصل،

بحيث يصدر في كل شهرين جزء منها ، وبما أنني قد ذكرت في كتابي هذا كثيرًا

من مؤلفات المعاصرين، أحببت أن لا تفوتني ذكر كثير منها مما لم أطلع عليه؛

لتعذر الإحاطة، فأرجو من فضلاء العصر وكتابه وأدبائه أن يتحفوني في مدة

شهرين ونصف بأسماء مؤلفاتهم ومؤلفات أسلافهم؛ كآبائهم وأقربائهم مع ذكر شيء

من خطبة الكتاب، ونبذة من ترجمة مؤلفه وتاريخ ولادته، وإن كان متوفى فتاريخ

وفاته، ومحل طبع الكتاب إن كان مطبوعًا وسنة طبعه. وبما أنني رتبت هذا الذيل

على حروف المعجم كالأصل، فإذا أخَّر أحد إرسال أسماء مؤلفاته إلى ما بعد الأجل

المعين، وكان فيها كتاب يدخل في الحرف الذي تم طبعه، فاتني ذكر ذلك الكتاب.

وأرجو أيضًا من أصحاب الجرائد والمجلات: أن يتحفوني بأسماء جرائدهم

ومجلاتهم وتاريخ إنشائها، وبيان وصفها إجماليًّا، حيث أجعل ذكرها والتنويه

بشأنها خاتمة للكتاب، وإنني أسلف كل من تفضل علي بآثاره كل شكر جزيل،

وثناء جميل.

يخابرني من شاء بهذا العنوان: (محاسب المعارف في بيروت جميل

العظم) .

_________

ص: 80