الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثانية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، ولا جعل علينا
فيما شرعه لنا من الدين حرجًا، بل جعل مع العسر يسرًا، ومع الشدة فرجًا، ومن
يتق الله بإقامة سنته يجعل له مخرجًا إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا.
والصلاة والسلام على من بعث إلى الأبيض والأحمر، وقام بأمر ربه
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ، فمكر به قومه؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو
يخرجوه، فهاجر من وطنه ووطنهم فتتبعوه وحاربوه، حتى شجوا رأسه، وكسروا
سنه، وعذبوا من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فصبر وصبروا حتى كانت العاقبة
للمتقين، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ} (الصافات: 116) .
وبعد؛ فإنا نَقُصّ في فاتحة منار هذه السنة وهي الثانية عشرة له، نبأ من
تاريخه الصريح، الذي كنا نشير إليه بالتلويح؛ تذكيرًا وتفصيلاً للقراء السابقين،
وعبرة للقراء اللاحقين، وأخص العثمانيين الذين طالما ارتعدت فرائصهم عند ذكر
المنار، حتى ربما كنى عنه محبوه بلفظ النار.
أنشئ المنار في أواخر شوال سنه 1315، وكان صحيفة ذات ثمانِ صفحات،
وقد بينت في العدد الأول منه الغرض من إنشائه، ومذهبه في الإصلاح الديني
والاجتماعي، وسكتُّ عن بيان مناهجه في الإصلاح السياسي، مع التصريح
بنزعته العثمانية، وخدمته للدولة العلية. وإنما أسكتني عن ذلك الأستاذ الإمام
(الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى) فقد كنت استشرته في إنشائه، وقرأت له تلك
الفاتحة قبل طبعها، وكان فيها أن من مقاصده بيان حقوق الأمة على الإمام،
وحقوق الإمام على الأمة، فاستحسن كل ما أودعته تلك الفاتحة إلا هذه الكلمة،
فاقترح عليَّ أن أحذفها، ولم يراجعني في شيء غيرها، وكان مما قاله في ذلك:
(إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن) وإن الخوض في السياسة
العثمانية فتنة يخشى ضررها ولا يرجى نفعها، وإن الناس ها هنا لا يحبون أن
يسمعوا في السلطان والدولة إلا ما يشتهون، ومصر ليس فيها سياسة، والمسلمون
لا ينهضون إلا بالتربية والتعليم، فلا تخلط السياسة بمقاصدك الإصلاحية؛ لئلا
تفسدها عليك، فإنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته. هذا معنى ما قاله، وقد حذفت
تلك الكلمة استجابة له، وليت السياسة تركتني، أو سالمتني كما سالمتها؛ ولكن أَبَى
عليها الخرق والعتوّ، إلا أن تجاهد مني غير عدو، فآذنتني بالحرب وآذتني في
الأهل والصحب، حتى ألجأني اعتداؤها على حقيقتي إلى التقصي في استعراف
ظلمها لأمتي، ثم إلى الدخول في زمر المجاهدين لرؤسائها وأعوانها الظالمين،
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) جئت مصر وأنا
أحسن الظن بالسلطان، دون من يحيط به من الوزراء والقرناء والخصيان، وأسيء
الظن بطلاب الإصلاح من الأحرار، وأعتقد أنهم إنما يطلبون الرتب والأوسمة
والدينار، وقد كنت أصرح بهذا وذاك في السنة الأولى مع المطالبة بالإصلاح،
والشكوى من عاقبة الظلم والإفساد، وما كنت لأقول إلا ما أعتقد، وأبث إلا ما أعلم
وأجد.
منع رشيد بك والي بيروت (أحد أركان الإفساد في حكومة الاستبداد)
توزيع العدد الثاني من السنة الأولى، وأرسل البرقيات إلى جميع أنحاء الولاية
بوجوب جمع ما وزِّع منه وإحراقه، ولم يكن فيه شيء مما كانت تنكره الحكومة في
ذلك الوقت، وإنما فعل ذلك مرضاة للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الذي كان يعلم
أني من حزب السيد جمال الدين الأفغاني، فهو الذي أوعز إلى الوالي بأن يصادر
المنار، كما أوعز بذلك إلى بدري باشا متصرف طرابلس الشام، فصار كل منهما
يمنع بعض الأعداد التي يؤذن بتوزيعها في الآستانة وغيرها من البلاد، حتى
هبطت الإرادة السنية، وصدرت الأوامر العليا، بمنعه من جميع الولايات العثمانية،
وذلك قبل أن يتم له نصف سنة!
لم يشف هذا غيظ أبي الهدى أفندي، فأوعز إلى بدري باشا وأعوانه بأن
يؤذوا والدي وإخوتي، وينذروا عشيرتي وذوي مودتي، ولما رأى بدري باشا أن
مجلس إدارة اللواء لا يوافقه على ما يقصد من الإيذاء، وأن الإيذاء بغير يد
الحكومة لا يشبع تلك النفس الضارية المنهومة، أبدى هو وشيعته للسيد الوالد
(رحمه الله تعالى) نواجز الشر، ثم أشخصوه إلى مصر؛ ليحملني على مشايعة أبي
الهدى، وعدم المبالاة بمن دونه من الورى. وبعد طول المذاكرة رضي مني بأن
أكتب إليه كتابًا مني أبين له فيه أنه ليس من مقصدي الطعن فيه، وأنني لا أريد إلا
الإصلاح ما استطعت، وكتب هو إليه كتابًا آخر، فما عتم أن جاءنا منه الجواب،
وهذا نص ما كتبه إليَّ بخطه:
الحمد لله وحده.
من الفقير إليه محمد أبو الهدى الصياد الرفاعي عُفِيَ عنه، إلى جناب
الأديب الكاتب الشيخ رشيد رضا أفندي كان الله لنا وله وللمسلمين. وصلني قُبل
كتابكم، وفي هذه المرة أخذت كتابًا من والدكم وكتبت له الجواب في بريد اليوم،
فكن ريض الخاطر طيب البال، نعم إني أرى جريدتكم طافحة بشقاشق المتأفغن
جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورًا، وقد
ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه مازندراني من أجلاف الشيعة بعد المخابرة مع سفارة
إيران بدار السعادة والسفارة السنية في إيران، وهو حي وما قدر على الدفاع، وهو
مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وأراك تملأ جريدتك كل يوم بانتقاد
الصوفية بأبحاث جلها ما هي من طريقهم وكذا أولتها، وفي بعضها أنت محق بلا
شبهة، إلا أنك تعلم أن العلماء الآن ما هم كالشافعي وأبي حنيفة وعظماء السلف
تمسكًا بالشرع، ولا عامة الأمة كالعامة الأول، فلو أنصفت وخدمت دينك بغير هذه
المواضيع، وإذا ألزمك طورك وقلمك بالتطرف، فهنالك تنتقد أعمال الأمم السائرة
من غير الإسلام انتقادًا عقليًّا يستميل لك القلوب ويرضي عنك ربك - لكان أولى،
ولما طاب قلبنا لك نصحناك، والموعد الله في كل غاية، والسلام 19 رجب سنة
1316.
ومن هذا الكتاب يعلم أن ما كان يؤلمه من المنار محصور في أمرين،
أحدهما: التنويه بالسيد جمال الدين الأفغاني وذكره بلقب (السيد) . ولم أكن أمنح
أبا الهدى هذا اللقب؛ لأنني لا أعتقد شرفه.
وثانيهما: انتقاد خرافات أهل الطريق التي جعلها أساس مجده. ولكنه كان
يوهم السلطان أن المنار لم ينشأ إلا لأجل الطعن فيه، كما يعلم مما يأتي. فكتبت
إليه كتابًا بيَّنت فيه أنني لم أكتب ولا أكتب إلا ما أعتقد أنه نافع، وذكرت له رأيي
في السيد جمال الدين الأفغاني، فلم يلبث أن أجابني بهذا الكتاب بخطه:
ولدنا الروحاني الأديب الأريب الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي آل رضا
المحترم:
أدعو لكم ولوالدكم بالخير والعافية ودوام التوفيق، وجدًّا صرت ممنونًا
من تحريراتكم المرسلة، والمأمول من عناية الله وفضله أن يديم لكم التوفيقات فيما
يرضيه، وقد حصل الآن قيد رؤوس أدرنه من مراتب العلمية الشريفة لك، فهي إن
شاء الله أول الفيوضات، ولا يجنحن لبالك أن ذلك لغوائش هذه الدنيا، بل إني
أعجبني قولك واطمأن قلبي لصدقك ولبراءتك، وأرجو الله إصلاح شأنك في الله كما
هو مطوي في كل من له للجناب الرفيع نسبة. وأوصي رفيقك بالثبات والاستقامة
على ما يبيض الوجه حالة القدوم على الله ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم [1]
وبحوله تعالى عند مجيئكم إلينا وانفكاكم عن هذه العوارض الحاضرة الزائدة التي لا
تنطبق على مجد النسبة نوعًا ما، وإن كان قصدكم حسنًا، فهنالك تنبلج فيكم أنوار
نسبتكم بالتحقق في الطريق الأقوم وتحت نظر سر الوجود صلى الله عليه وسلم، إذن
خدمتكم للدين وللمسلمين على النهج الشرعي الصحيح الأمين، ومني لكم الدعاء وهو
المطلوب منكم والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
... 16 شعبان سنة 1316
…
...
…
...
…
...
…
...
…
كتبه محمد أبو الهدى
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عفي عنه
قرأت هذا فبادرت إلى إرسال كتاب إليه جزمت فيه بأنني لا أقبل الرتبة
العلمية التي طلبها لي، وإنني من الذين يرغبون عن الرتب والأوسمة، فيجب
الرجوع عن طلبها، وإنني لا أستبدل بخدمة المنار للملة خدمة أخرى مهما كان
مظهرها وفائدتها، وإنني لا أطلب من الآستانة إلا الإذن بدخول المنار لسوريا
وغيرها من ولايات الدولة. واعدته في هذا الكتاب أو فيما قبله بترك التنويه بالسيد
جمال الدين؛ مادام المنار مأذونًا له بدخول بلاد الدولة، وسكت على ذلك وسكتنا.
وبعد ثلاثة أشهر وأيام من هذه المكاتبة، كتب ناظر خارجية إنكلترا إلى
لورد كرومر عميد دولته في مصر يقول: إن سفيرها في الآستانة كتب إليه يخبره
أن رئيس كتاب السلطان جاءه، وقال له: إن في مصر جريدتين معاديتين لشخص
السلطان، وهما: المنار والقانون الأساسي، وإن الخديوي ومختار باشا الغازي
يساعدانهما، وإن السلطان يرغب إليه بأن يسعى لدى حكومته بإبطال هاتين
الجريدتين، ويتخذ ذلك يدًا يكافئه السلطان عليها! ! فأخبر اللورد الأمير بذلك،
فعجب أشد العجب؛ لأنه لم يكن هو ولا مختار باشا بمساعد للمنار ولا للقانون
الأساسي، بل لم يكن يعرف من مشرب المنار إلا ما أخبره الأستاذ الإمام من أنه
جريدة دينية أدبية.
سألني الأمير عن ذلك سرًّا في يوم عيد الأضحى (سنة 1316) عندما
أردت الخروج مع العلماء من مقابلة التهنئة له بالعيد، وأمرني بأن أذهب إلى مقابلة
أحمد شفيق بك وكان رئيس القلم التركي (وهو اليوم أحمد شفيق باشا رئيس
الديوان الخديوي) ، فذهبت من حضرة الأمير إلى غرفته، وكان يقرأ المنار ويعلم
أنه ليس فيه تحامل على السلطان، بل لا يخلو من مدح له، ورأيته جازمًا بأن أبا
الهدى هو الذي سعى عند السلطان هذه السعاية، وضرب سهامًا فيها إلى عدوين من
أعدائه: الأمير ومختار باشا الغازي. فأخبرته بأن بيني وبين أبي الهدى سلمًا،
وذكرت له هذين الكتابين فطلبهما مني؛ لأجل أن يحتج بهما، فقلت له: إن
المراسلة بالأمانة، وإنني لا أجيز لنفسي أن أظهرهما مادمت أعلم أن إظهارهما
يؤذيه بتغيير السلطان عليه، واستدلاله بهما على خيانته له إذ يجعله ترسًا يدافع به
عن نفسه ، وأما اللورد فقد جرى في المسألة على ما تعود من المحافظة على حرية
الصحافة ، ولكن بعد البحث ومعرفة الحقيقة.
كرَّ أعوان أبي الهدى على أهلي كرة ثانية، وكانت الدولة دولتهم فضربوا
أحد إخوتي وهو خارج من طرابلس إلى القلمون ليلاً، وسرقوا فرسًا لنا، وحاولوا
أخذ مسجدنا منا، وأغروا جريدة طرابلس الشام بالطعن في المنار، والتمسوا لها
المساعدة من كل من يكتب في طرابلس حتى أصدقائي، فاضطررت إلى كتابة مقال
عنوانه (مؤاخذة العلماء)(39ص و51 م2) أسكتها به عن التمادي في الطعن.
ولكن ألسنتهم لم تسكت عن السب واللعن، إلا بعد أن أديل منهم، وخضدت
شوكتهم وذهبت ريحهم، وخرج بدري باشا من طرابلس مذءومًا مذمومًا، وبدلنا به
عبد الغني باشا العابد وكان لنا وليًّا حميمًا، بل غلب نفوذ عزت باشا العابد على
نفوذ الشيخ أبي الهدى في جميع البلاد السورية، فازداد انتشار المنار فيها وإن لم
يرسل إلا في البرد الأجنبية، وأمن الأهل والقراء على أنفسهم طائفة من الزمان
حتى كان منذ أربع سنين ما كان.
ذلك ما كان في السنة الأولى والثانية من سني المنار. وفي أواخر الثانية
وأول الثالثة صار يتردد علينا بعض جواسيس ممدوح باشا ناظر الداخلية في
الآستانة، ويعرض علينا الرتب والوظائف اللائقة إذا نحن تركنا المنار، وغادرنا
هذه الديار، فلو شئت أن أكون يومئذ قاضيًا أو مفتيًا في الشام أو بيروت، أو آخذ
مرتبًا شهريًّا عظيمًا من الدولة لفعلت، وقد قبل عبد الحليم أفندي حلمي أن يترك
مصر، ويكون معاونًا لناظر النفوس في بيروت بمرتب كمرتب الناظر، فنال ذلك
على أنه لم يكن كاتبًا ولا سياسيًّا ولا ذا شأن في المنار، وقد بلغني وقتئذ أن ذلك
الجاسوس أخذ من ممدوح باشا 800 ليرة عثمانية سماها ثمنًا لمطبعة المنار، ولم
يكن للمنار يومئذ مطبعة تساوي 800 قرش! .
وفي أثناء السنة الرابعة غضب عليَّ أمير هذه البلاد، وآذنني صديقي حسن
باشا عاصم (وكان رحمه الله يومئذ رئيس التشريفات) بأنه لا يرضى أن أقابله بعد
وكان يقول لي قبل ذلك: إن لك أن تجيء إليَّ في قصر عابدين أو قصر القبة
متى شئت. وكان غضب أيضًا على الأستاذ الإمام، وكلما اشتد غضبه على أحدنا
يشتد على الآخر، ولا أحب أن أذكر الآن شيئًا مما سمعته أو علمته من آثار هذا
الغضب إلا ما قيل من عزمه على إخراجي من مصر، فقد قال مصطفى كامل باشا
للأستاذ الإمام مرة: إن أفندينا يريد أن ينفي صاحب المنار من مصر ويطلب منك
أن تسكت على ذلك، ولا تحمل لورد كرومر على المعارضة فيه
…
وسمعت مثل هذا
الخبر بعد وفاة الأستاذ الإمام. وقال لي أحد معارفي في 22 من المحرم سنة 1326
إن السر غورست على وفاق مع الخديوي وهو لا يعارضه في الانتقام ممن
يغضب عليه، ولا سيما إذا كان عثمانيًّا، ليس كلورد كرومر في المحافظة على
الحرية الشخصية، وقد علمت أن الخديوي غضبان عليك، فيجب أن تسعى في
استرضائه؛ لئلا ينفيك من هذه الديار، وأنه ربما يفعل ذلك. فقلت له: إنني لا
أكتب في هذه السنين شيئًا عنه، ولا أعلم أن في المنار شيئًا يسوءه، فماذا ينقم مني؟
قال: دوام الثناء على الشيخ محمد عبده. قلت: ليس في المنار ثناء، وإنما هي
أقوال عنه وآراء، ولا يمكن أن تخلو المنار من ذكره، وإن مصر لا مزية لها
عندي إلا لحرية العلم والصحافة والحرية الشخصية، فإذا كان الخديوي ينفي منها
من كره وجوده فيها، فلماذا أحرص أنا على الإقامة بها، أو آسى على البعد عنها؟
إنني إذًا أظعن إلى الهند، وإني لأعلم أنه يكون لي فيها مقام كريم لا أجد مثله في
مصر، هذا وإن مثل هذا الخبر ليس برهانًا يقينيًّا على صحة ما قيل عن الأمير -
برأه الله وحماه مما لا يليق به - وإن كان عند بعض الكبراء ونظار الحكومة نبأ منه.
وفي السنة الخامسة نشرت (سجل جمعية أم القرى) في المنار ومقالات
(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) فتضاعف قراء المنار في القطر المصري،
واشتدت الحكومة العثمانية في المراقبة عليه والبحث عن قرائه ولا سيما في القطر
السوري.
وفي السنة السادسة شرعت في نشر رسالة في مالية الدولة العثمانية، فرغَّب
إليَّ الأستاذ الإمام أن لا أتمها فوافيت رغبته. ولكني ضقت ذرعًا بسوء حالنا
السياسية، فصرت أكثر في تفسير القرآن الحكيم من السياسة وهو يجيز ذلك؛ لأنه
إنما ينهى عن التصريح بسياسة حكوماتنا وحكامنا؛ لئلا يصدونا عن خدمة الدين
والعلم.
وفي السنة السابعة كثر دبيب عقارب الساعة من جواسيس المابين
بمصر، وتواترت التقارير في الأستاذ الإمام وفي صاحب المنار، وكان الذي
يبلغها السلطان هو عزت باشا العابد الذي كان بينه وبين الأستاذ مودة سابقة منذ كانا
في سورية، ولم يحدث بينهما ما يوجب هذا الانقلاب إلا صنعة عزت
الجديدة في المابين وعلاقته بمصر، وكان حزب الشيطان الذي يدبر هذه السعايات
والمفاسد قد زور رسائل بتوقيع (محمد عبده) ، وأرسلها إلى الحجاز واليمن
وغيرهما من البلاد العربية تشتمل على الدعوة إلى الخلافة العربية، وهو يعلم
أنها تقع في الأيدي التي توصلها إلى المابين، فاشتد خوف السلطان من الشيخ
محمد عبده. والشيخ محمد عبده لا علم له بما يكتب في شأنه، ولا ما يكتب عن
لسانه مما هو مخالف لرأيه واعتقاده، حتى إنه هو الذي أرجع بعض المستشرقين
عن السعي لإنشاء دولة عربية؛ لاعتقاده أن التفريق بين الترك والعرب يضعف
الفريقين، ويسهل على الدول الطامعة محو الدولة الإسلامية من الأرض، وإنني
ما وقفت على أكثر ما أشرت إليه هنا إلا بعد موته.
وما دخلت السنة الثامنة إلا وقد صار النفور والخلاف بين الأمير والأستاذ
على أشدهما، كما أن السعاية السلطانية فيه قد بلغت غايتها، وقد اشتد المرض
على الأستاذ حتى كان يجود بنفسه في الإسكندرية، والحكومة العثمانية تبحث عنه
في سواحل بيروت؛ لأن الجواسيس قد بلغوا المابين أنه سافر إلى بيروت متنكرًا؛
ليؤسس الخلافة العربية في سورية! ! ألا قاتل الله أولئك التحوت الأشرار، ما كان
أشد عبثهم بالسلطان وخيانتهم له وللدولة والأمة. وفي هاتين السنتين كان الاستبداد
قد شد الخناق على محبي العلم، والاضطهاد لمقتني الكتب. ومنيت بيروت بخليل
باشا واليًا، وطرابلس بحسني بك متصرفًا! وكانا من شر أعوان الاستبداد
والمخلصين له فيما يحاول من الظلم والإفساد، فأسرفا في تفتيش البيوت! وأخذ
الكتب والأوراق منها! والمؤاخذة على اقتنائها! حتى صار الناس يحرقون كتبهم
وأوراقهم بالنار! ومنهم من كان يدفنها بل يئدها كما تئد الجاهلية البنات! حتى
أحرق في سنة واحدة عشرات الألوف من المجلدات!
كيف لا وقد كانت الكتب والجرائد تعد من الجرائر، منها الصغائر ومنها
الكبائر، وكان اقتناء المنار أو ما طبع بمطبعة المنار، هو أعظم الذنوب وأثقل
الأوزار، وكان الحكم على مجرمي الكتب بالهوى لا بالشرع ولا القانون، ولا تأخذ
الحاكم فيهم رأفة، ولا تقبل منهم شفاعة ولا عدل ولا هم ينصرون، على أن أولئك
الولاة ومن دونهم من المستبدين، لم يستعملوا بأس الحكومة إلا في منع كتب العلم
واضطهاد المتعلمين، دون سفك الدم وإفساد الأمن، وإهلاك الحرث والنسل، فماذا
كان حظنا من حكمهم؟
دمروا الدار، واجتاحوا الكتب والأسفار، وحبسوا من وجدوا من الإخوة،
وحصروا الوالد المريض مع النساء، ووضعوا على داره الحراس والخفراء، فكان
ذلك الشيخ الجليل، والسيد الشريف يجود بنفسه، وينتظر أمر ربه، وبناته مع
أمهن أمام سريره يطلقن العبرات ويصعدن الزفرات، فقد عز عليهن، وعظم
المصاب في قلوبهن، وإن حيل بينه وبين أولاده الأبرار، في وقت توديعه لهذه
الدار، فمنهم القريب الذي هو في حكم المبعد، والسجين الذي هو في حكم المستعبد
هذا والجنود السلطانية تحيط بهن وتطوف حول منزلهن، شاكية السلاح، مستعدة
للكفاح، تدل ببأسها وشدتها، تمثل قوة (الخلافة الحميدية) وعظمتها؛ ليعرف
الشيخ المحتضر عجزه عن تأسيس خلافة عربية في قرية القلمون، وهكذا قضى
الوالد نحبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم كان من ظلم الحكومة المستبدة لنا أن ولت على مسجدنا رجلاً آخر بغير
حق، وأطمعته في الاستيلاء على عقاراتنا بدعوى أنها وقف، كما أطمعت غيره
من أشقياء طرابلس فنهبوا ما وجدوا في الدار من الثياب والحلي والماعون وغير
ذلك، وقد أسقط الله حكومة الاستبداد، ولما تكون حكومة الدستور، فحقوقنا لا
تزال مهضومة؛ لفساد الحكام واختلال الأمن العام، فهذا مجمل من خبر ظلم
الحكومة لنا، وهو قليل من كثير ظلمها لغيرنا، ممن أجرموا كإجرامنا، فشكوا من
الظلم والجهل ودعوا إلى العلم والعدل.
كان يصل إلينا قليل من أخبار الاستبداد ووقائع العتو والإفساد، وبعد وفاة
الأستاذ الإمام صرفنا وقت الفراغ والراحة الذي كنا نجالسه فيه إلى مجالسة إخواننا
العثمانيين المقيمين في القاهرة، فازددنا علمًا بسوء الحال، وخطر المآل، فأسسنا
جمعية الشورى العثمانية؛ لأجل جمع كلمة العثمانيين على استبدال حكومة الشورى
بحكومة المستبدين؛ لعلمنا بأن جمعية الاتحاد والترقي خاصة بالمسلمين، وأن
العثمانيين ماداموا متفرقين شيعًا، ومتقطعين مللاً وأممًا فكلمتهم هي السفلى، وكلمة
الاستبداد هي العليا، فتألفت الجمعية من المسلمين عربهم وتركهم وألبانهم وأكرادهم
ومن النصارى عربهم ورومهم وأرمنهم، ودعي إليها بعض اليهود؛ ولكن لم يكن
في مجلس إدارتها أحد منهم، وقد انتخب هذا العاجز (صاحب هذه المجلة) رئيسًا
لمجلس إدارة اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية، وكانت ترسل جريدتها ومنشوراتها
السرية إلى الرومللي والأناطول بل والآستانة العلية.
اهتم السلطان بهذه الجمعية، حتى هجر النوم مضجعه ثلاث ليال كما علمنا
من رواية العارفين الثقات، فقد كان - أقر الله بالدستور عينه، ولا سهد في عهد
الحرية جفنه - كثيرًا ما يشارك أحرار أمته في أرقهم، ويساهمهم في قلقهم، وإن
كانا في هذا الأمر، كضيف عمرو وعمرو، وصار للجمعية لسان صدق عند جميع
أحرار العثمانيين، فكانت مبدأ ما كان من وحدتهم بعد حين، وقدم أحمد رضا بك
من باريس إلى مصر، فرغب إلينا أن نضم جمعيتنا إلى جمعية الاتحاد والترقي
فأبى مجلس الإدارة ذلك عليه، وكان مما قلته له إن تعدد الجمعيات مع وحدة الغاية
والمقصد لا يعد تفرقًا ولا يحدث ضعفًا، وإننا نرى أنه لا نجاح للعثمانيين إلا باتفاق
عناصرهم على المطالبة بالدستور، قال: إن قانون جمعيتنا لا يمنع قبول غير
المسلمين فيها، قلت: نعم، وإننا لا نشكو من القانون. ولكن من عدم تنفيذه، فما
قانونكم - وليس في جمعيتكم رومي ولا أرمني ولا سوري نصراني - إلا كقوانين
السلطنة (حبر على ورق) ولو نفذ السلطان قوانين الدولة على علاتها، لما طالبناه
بمجلس (المبعوثان) لإشراك الأمة معه في الأحكام.
هذا ملخص تاريخنا السياسي في السنين الخالية: سالمنا السياسة فساورت
وواثبت، وأسلسنا لها فجمحت وتقحمت، وكنا نهم بها في بعض الأحيان، فيصدف
بنا عنها الأستاذ الإمام، ولم ننل منها ما نهواه، إلا بعد أن اصطفاه الله، وليس
للمنار حظ في السياسة العملية، وإنما همه أن يكون حرًّا فيما فرض عليه من
الخدمة الملية، وإذا كان (كسائر الصحف) قد أمن على حريته واستقلاله من
استبداد الدولة، فقد بقي عليه أن يجاهد مع غيره استبداد الأمة. فإن في الأمة
أعداء للحرية والاستقلال في العلوم والأفكار والأعمال، يحبون أن تكون الصحف
كما يرون لا كما يرى أصحابها، وأن تنشر فيها ما يعتقدون لا ما يعتقد كتابها، وما
كتاب الصحف إلا معلمون ومرشدون، وهل يُعلِّم الأستاذ تلاميذه ما يعلمون،
ويربي المرشد مريديه كما يريدون؟ وقد جرى على هذا كثير من أصحاب
الصحف المصرية وما كانوا مصلحين، ويجري عليه الآن بعض أصحاب الصحف
العثمانية وما هم بمهتدين، وسيبقى المنار على صراطه لا يبالي بالمخالفين.
نعم، إن المنار يستقبل جهادًا جديدًا في البلاد العثمانية، وقد فرغ من مثله
فيما عداها من مصر وسائر البلاد الإسلامية، فأكثر المسلمين العثمانيين لم يألفوا
حرية البحث في السياسة والعلم والدين، ينظر أغلب الباحثين إلى القائلين دون
الأقوال، وينصرون التقليد على الاستقلال. ولكن يوجد في كل بلد أفراد سلمت
فطرتهم، واستنارت بالحق بصيرتهم، يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حالنا
الاجتماعية والدينية، ويعلمون أنه يتوقف على استقلال الفكر والحرية، وإن هؤلاء
على قلتهم ليغلبون أولئك على كثرتهم، وسيبرزون لهم بعد استقرار الدستور
مجادلين لا مجالدين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) فهذه الفئة هي التي يشد المنار أزرها، ويشد بها أزره،
وينصرها في جهادها ويتقاضاها نصره {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
سيقول السفهاء من الناس، وأهل الإرجاف والوسواس: إن هذا المنار يدعو
إلى الفوضى في الدين، بترك مذاهب الأئمة المجتهدين، وينصر مذهب الوهابية
على مذهب السنة أي: الحشوية، ويبطل القول بالكرامات، بإنحائه على الدجل
والخرافات، وحجة أنصار المنار على هؤلاء، ومن يقلدهم من الدهماء، الذي
يثبت أنه يتحرى الحق والصواب، ولا يريد إلا الإصلاح ما استطاع، دون
التعصب لمذهب على مذهب هي قبوله انتقاد المنتقدين في مسائل الدنيا والدين، إذا
أيدت الأولى بالعلم والعقل، والثانية بما يصح من النقل، مع التزام النزاهة
والآداب واجتناب الحشو والإطناب، فمن زعم أن في المنار باطلاً فليكتب إليه،
دون أن يعصي الله بغيبته والطعن عليه، وللحق السلطان على الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا الحسيني
_________
(1)
يريد برفيقي عبد الحليم حلمي أفندى مراد، وكان يؤمئذ مديرًا لأشغال المنار، وكان يسافر إلى الآستانة قبل ذلك، وبلغني أنه اجتمع بأبي الهدى، ولم أدر ماذا كان بينهما، ولم يكن لذلك السفر علاقة بالمنار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب صاحب المنار
على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت
أيها الأخوة الكرام:
إنكم أنتم محل رجاء البلاد بتربيتكم وما تتلقون من العلوم العالية؛ لذلك أحب
في هذا الوقت القصير أن أذكركم بما ينبغي لطالب العلم أن يكون عليه؛ ليتحقق
رجاء أمته فيه.
إن العلوم تُطْلَب لغرضين صحيحين: أحدهما تكميل النفس وترقية العقل.
وثانيهما العمل بالعلم، وللعمل به مسلكان: أحدهما جعله حرفة ومُسْتَغَلاًّ للعامل،
والآخر جعله وسيلة لترقية الأمة وإعلاء شأنها، ويمكن الجمع بينهما.
الغرض الأول لا بد منه لكل عاقل، وهو العون الأكبر على الغرض الثاني،
فإن من استنار عقله بالعلوم، وصار صحيح الحكم فيها، تعلو همته، ويكون جديرًا
بالإحسان في العمل والإتقان للصنع، فيجب إذًا أن يكون هو أول شيء تتوجه إليه
همتكم، وتعظم فيه رغبتكم.
يظن بعض ضعفاء العقول وصغار النفوس أن طلب العلم لأجل ترقية شأن
الأمة به، ينافي ما أودع في الغرائز من كون منفعة الإنسان لنفسه هي العلة الغائيَّة
لكل عمل من أعماله، وأن من توجه إلى ذلك وجعله همه من حياته، تفوته
مصالحه ومنافعه التي لا بد له منها.
تلك خديعة الطبع اللئيم، ووسوسة شيطان الخسة والصغار لصغار الهمم،
فقد رأينا بأعيننا وسمعنا وروينا عن التاريخ أن الذين يقفون حياتهم على خدمة أمتهم
لا يعوزهم الطعام واللباس اللائق بهم، بل كانوا يفضلون عيشتهم على كل عيشة
سواها؛ لما لهم من الكرامة ورفعة الذكر، إن لم يكن في بداية أمرهم ففي نهايته.
إن من يسلك في طلب العلوم مسلك الاحتراف، قصده منه أن يجعله دكانًا
يتجر به أو بستانًا يستغله؛ ليعيش منه لا يرتفع به إلى ما هو أعلى من هذا القصد،
فإن قيمته في الوجود لا تعلو قيمة غيره من أصحاب الحرف والصناعات العملية:
كالنجارة والحدادة والزراعة. لا أقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم، وكيف أقول ذلك
وأعمالهم لا بد منها للمجتمع الإنساني، وإنما أقول: إن هؤلاء هم أهل الطبقات
الدنيا من الناس الذين لم يرتقوا في أفق الإنسانية. ويسهل على طلاب العلوم
لأجل الكسب والاحتراف أن يكونوا في أفق أعلى من أفقهم بأن يوجهوا أنفسهم إلى
إعلاء شأن الأمة بكسبهم وأعمالهم.
أيها الإخوة: إن استعداد البشر للكمال لا حد له يعرف، ولا طرف له يوقف
عنده، وإن الإنسان قد فطر على طلب الكمال، فلا يصل إلى شيء منه إلا ويطلب
ما فوقه، وإن أفراده يتفاوتون في ذلك تفاوتًا لا نظير له في غيره من المخلوقات،
فمنهم من يكون وجوده بمقدار محيط جسمه، لا يكاد يهمه شيء وراء توفية مطالبه
كبعض الحيوانات الدنيا، ومنهم من يتسع وجوده حتى يملأ بلدًا كبيرًا أو مملكة
عظيمة، وربما تعلو ببعض الناس همتهم إلى جعل وجودهم المعنوي ساريًا في أمم
كثيرة، مالكًا للأرض التي يعيش فيها الإنسان.
ولا نتكلم في هم الإنسان واستشرافه لما هو وراء ذلك من عالم الغيب، إذا كان
فضل الإنسان وسعة وجوده الإنساني على قدر نفعه بعلمه وعمله، فلا شك أن من
تتوجه نفسه إلى نفع جميع البشر، يكون أفضل وأكمل ممن لا يتوجه إلا إلى نفع
أمة واحدة أو شعب واحد. ولكن كيف يتأتى للفرد من الناس أن يخدم أممًا كثيرة؟
الجواب على هذا السؤال يعرف من القاعدة المعقولة التي جاء بها الحديث
النبوي، وجرى عليها الشرع الإسلامي، وهي (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول: الأقرب
فالأقرب) ، وقد قال فقهاؤنا: إن من وجد من القوت زيادة عن كفايته قدمه للأقرب
إليه من ولد وزوج
…
إلخ، فإن وجد فضلاً أنفق منه على غير الأقربين من ذوي
الحاجات، حتى قالوا: إنه يجب على المسلم أن ينفق على المضطر من غير
المسلمين، ما لم يكن محاربًا لنا، وإنه يقدم الجار على غيره؛ لقربه! فعلى هذا
يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم، والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن
يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم ثم نفيض بعد
ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه
الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها.
أليس منشئو هذه المدرسة يقصدون بها جعل العلم الذي ينفع الناس وسيلة
لنشر لغتهم، وبث تعاليم مذهبهم الديني في نفوس من يُعلِّمونهم؟! بلى، وإن في
حالهم هذه لعبرة لنا، يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نرفع أنفسنا لتكون أولى بهذه
الثقة منهم.
يجب عليكم أن تتعاونوا وتعتصموا بعروة الاجتماع، وأنكم ربما تلقون كيدًا
وإحراجًا؛ لتشذوا وتتنكبوا جادة الاعتدال في استمساككم بدينكم وحرصكم على
الاجتماع والتعاون، فيجب أن تتسع صدوركم لجميع ما تنكرون من معاملة من معكم،
وأن تقابلوهم بالأدب في القول والفعل؛ لأن الأدب من الفضيلة وهي مطلوبة
لذاتها؛ ولئلا يكون لهم عليكم حجة بعد أن ثبتت لكم الحجة عند دولتكم ودولتهم.
إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب. وإني أُجِلُّكُمْ عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته.
وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم،
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة،
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) .
إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة؛ لسماع تعاليم
دين غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين، {اسْتَعِينُوا
بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية
المدرسة الكلية الأمريكانية
المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت كسائر مدارس الجمعيات النصرانية في
الشرق، غرض مؤسسيها منها جعل العلم وسيلةً إلى الدين، ولبعضها غرض سياسي
أيضًا، فهي طريق من طرق الدعوة إلى مذاهب مؤسسيها في دينهم ، ولهم وسائل
أخرى: كالمستشفيات والمكتبات وحجرات القراءة يبثون فيها دعوتهم، وينشرون
بها مذهبهم، إلا أن المدارس الأمريكانية أحسن من غيرها تعليمًا، وأعلى تأديبًا،
وأشد استقلالاً، وأقل تعصبًا على المخالفين في الدين والسياسة؛ إذ ليس لأمريكا
مطمع في هذه البلاد؛ ولكن قد تؤيد هذه المدارس سياسة إنكلترا.
إن عقلاء المسلمين يقدرون غيرة مؤسسي هذه الجمعيات الدينية حق قدرها،
ويعرفون مقدار المستخدمين فيها لنشر دينهم، والتوسل إليه بالوسائل النافعة
للناس في أجسامهم وعقولهم، ويتمنون لو يوجد في أمتهم الإسلامية أسخياء أجواد،
يبذلون المال لنشر الإسلام مع العلم النافع الذي هو أساس بنيانه، والعمل الصالح
(كالمستشفيات) الذي هو أقوى أركانه ، وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة
إلى هذه المدارس التي أسست على دعوة النصرانية؛ لما فيها من العلم، ويعلمون
بما فيها من الضرر لأولادهم في الدين ، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على
عقائد النشء الجديد يمنع من الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع
والمقتضي.
فمنهم من يرجح المقتضي من غير تفكير في عواقب المانع؛ لأن الشعور
بالحاجة إلى العلم قد استحوذت على فكره، حتى حال بينه وبين سلطان قلبه ، ومن
يرجحه لاعتقاده أن المسلم لا يكون نصرانيًّا؛ لأن الدين قد سار على سنة الارتقاء
تبعًا لاستعداد البشر، فكان الإسلام منتهى ارتقائه، وهو الدين المعروف تاريخه،
المتواتر كتابه، المحفوظ سند سنته، ومن وصل إلى الدرجة العليا في شيء لا
يرضى لنفسه أن يهبط إلى ما دونها ، ولذلك يبذل دعاة النصرانية الألوف المكررة
من الدنانير في دعوة المسلمين إلى دينهم بالأساليب العجيبة، ويقضون السنين
الكثيرة في البلد من بلادهم، ولا ينجحون باستمالة رجل واحد وإرجاعه عن
الإسلام! وإن كانوا يوهمون جمعياتهم التي تمدهم بالمال، فيكتبون إليها في كل عام
أنه قد تنصر في هذه السنة على أيدينا فلان وفلان، ويذكرون أسماءً سموها
بأقلامهم لم يعرف مسمياتها الزمان ، ولكن الإسلام يجذب إلى رحابه الفسيح في كل
سنة ألوفًا من الناس بغير دعوة ولا ترغيب ، كترغيب دعاة الإنكليز والأمريكان،
ولا ترهيب كترهيب دعاة الروس في بلادهم! .
نعم ربما يقذف الفقر في كل حقبة من الزمن برجل من المسلمين جنسيةً لا
حقيقةً، فيلقيه في ملجأ من ملاجئهم، أو فناء من أفنيتهم، فيسهل له العوز انتحال
اسم من أسمائهم، أو لقب من ألقابهم، وربما أغراه المال بأن يكون داعيًا من
دعاتهم كما فعل (أرميا الحزين) الذي استجاب لرقيتهم بمصر، ثم فضحهم وهو
يبشر لهم في الجزائر؛ إذ كتب مقالات في المؤيد بيَّن فيها أنهم يدَّعون في كل بلد
إسلامي نجاح دعوتهم في غيره، ويدعون في تقاريرهم التي يرسلونها إلى جمعياتهم
أنهم ناجحون في كل بلد، والغالب فيمن يجنح لهم أن يعود إلى الإسلام ولو بعد
حين.
وقال السيد جمال الدين الأفغاني في بيان سبب إخفاق دعوة المبشرين بين
مسلمي الهند: إن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة،
فإنه يقرر الإيمان بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - دون ما زاده الغلو
على ذلك، ويزيد على ذلك الإيمان بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - وبما جاء به
مصدقًا لما قبله.
وحدثني شاكر بك الذي كان رئيسًا للجزاء بطرابلس الشام من بضع عشرة
سنة، أنه كان في بلدة ليس فيها مدرسة للبنات إلا جمعية للراهبات، فوضع بنتًا له
فيها فرأتها أمها يومًا ترسم شكل الصليب على وجهها أو صدرها، فوجمت
وامتعضت، وشكت وبكت، وقالت: لا بد من إخراجها من هذه المدرسة ، قال:
فهونت عليها الأمر، وكنت أقول لها: جانم إن ابن المسلم لا يكون نصرانيًّا أبدًا،
ولم أقبل توسلها إليَّ بإخراجها، وقد تعلمت حتى أتمت تعليمها عند الراهبات،
وهي الآن تقرأ القرآن الشريف وتصلي وتصوم، ولم يضرها حرص الراهبات
على تنصيرها.
هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه المدارس الدينية،
ومنهم من يرجح المانع على المقتضي، كما هو المعتمد في المسألة عند أهل
الأصول، كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثلما يرتضي
فقلت لما لم يكن عاملاً
…
تعارض المانع والمقتضي
ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها، وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يظن
أنه منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا
إلا إذا قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة ، ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم: كالأولاد
الذين يوضعون في هذه المدارس، أن يسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون
عندنا كفرًا وردةً، وأهونها أن تكون معصيةً، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ
منا، ومات قبل أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء
الراسخين مات مرتدًّا، لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا
مات أبوه أو أمه أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون
أيضًا: إن بعض فقهائنا صرح بأن الرضا بالكفر كفر، فإذا رضينا بشيء من ذلك
نكون نحن مرتدين أيضًا.
وهذا الذي يتخوفونه على دينهم ليس ببعيد عن مدارس الكاثوليك
والأرثوذكس ولا سيما مدارس الجزويت، كما بلغنا من مصادر كثيرة تصل إلى
درجة التواتر المعنوي؛ من أنهم يلزمون أولاد المسلمين بجميع تقاليدهم الدينية
حتى تعظيم الصور، والتماثيل، والاستغاثة بالقديسين، وذلك في حكم الإسلام شرك
نعتقد أنه طرأ على النصرانية بعد المسيح عليه السلام وحوارييه عليهم
الرضوان بعدة قرون ، وإن كان القرآن لا يدخلهم في لقب المشركين ولا نحن
نخاطبهم به؛ لأنهم يتبرأون منه ويتأذون به، وإيذاؤهم محرم علينا سواء كانوا
ذميين أو معاهدين، وقد بينا ذلك في المنار أكثر من مرة ، أما ما ذكرناه في هذا
المقال فبيان لما يعتقده المتساهلون وغير المتساهلين منا، نرجو أن يكون سببًا
لحسن التفاهم بيننا وبين العقلاء المعتدلين منهم: كعمدة المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت.
قد قلنا في أول المقال: إن مدارس الأمريكان أقل تعصبًا على المخالفين،
وقد جرى بيني وبين أحد أساتذة المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت حديث في
الخلاف الذي جرى بين تلاميذ المسلمين وعمدة المدرسة على دخول الكنيسة؛
لسماع الوعظ الديني. إذ امتنع التلاميذ من الدخول بعدما صارت الحكومة العثمانية
دستوريةً حرةً، وأصرت المدرسة على إلزامهم أحد الأمرين: إما الاستمرار على
دخول الكنيسة كما كان الأمر على عهد الحكومة الاستبدادية، وإما الخروج من
المدرسة وترك التعلم فيها ، فاجتمعوا وتقاسموا لنثبتن على رأينا: لا ندخل ولا
نخرج، حتى رفع الأمر إلى الآستانة، وبعد مراجعة حكومتنا هناك لسفير الولايات
المتحدة، تقرر بينهما ما بلغته نظارة الداخلية لوالي بيروت وهو أنه لا يلزم
المسلمين دخولُ الكنيسة، بل يجب أن يبنى لهم مسجد يصلون فيه ، وأن السفير
بلغ معتمد (قنصل) حكومته في بيروت ذلك؛ ليبلغه المدرسة الكلية ، وقد كان
الحديث بيني وبين ذلك الأستاذ قبل ورود هذا البلاغ من الآستانة، وحضره جماعة
من فضلاء النصارى.
قال الأستاذ ما معناه: إن المدرسة الكلية لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال
الدينية التي يقررها بعض مذاهب النصرانية، ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم
التي تخالف مذاهب مؤسسيها، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق مع كل دين،
وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في نفوسهم تقوى الله وحب الفضيلة،
وتبعدهم عن الإلحاد والتعطيل، فإن المؤسسين لها من أهل الدين والمحافظة عليه
أهم مقاصدهم ، وإن المكان الذي تلقى فيه المواعظ الدينية ليس كنيسة مؤسسة لأجل
العبادة، بل هو مكان تلقى فيه الخطب العلمية والأدبية وغيرها، ويعزف الحسان
فيه بآلات الموسيقى.
(قال) : فهل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين دخول هذا المكان،
ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟
قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل، ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم من أمور الدين فيها وكذا
في خارجها: إما محرم وإما كفر، في تفصيل لهم في ذلك ، فلعل تلاميذكم يعتقدون
أن دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن
كان لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت، ليس معبدًا
دينيًّا، ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام.
(ثم قلت) : إن احترام النظام في المدارس والبيوت وكل مكان ركن عظيم
من أركان التربية، ومن لم يتربَّ على احترام النظام والتزامه لا يكون رجلاً عظيمًا
نافعًا لأمته ووطنه ، ولكن احترام الاعتقاد والضمير أقدس وأعلى من احترام النظام،
فإن من لا يحترم اعتقاد نفسه يكون منافقًا لا يوثق به في شيء من الأشياء. وإن
إكراه التلميذ في ذلك أشد إفسادًا لأخلاقه من كل ما يخطر في البال أنه يفسد الأخلاق؛
إذ لا يرجى ممن لا يحترم اعتقاده أن يحترم أسرته ولا أمته، فضلاً عن احترامه
لمن لا يتصل به في وشيجة رحم ولا مصلحة وطن.
(قلت) : إنني إذا رأيت إنسانًا يعتقد بأن هذه البلاطة من الرخام (وأشرت
إلى بلاطة في الأرض) تنفع وتضر، ورأيته يعبدها ويحترمها، فإنني لا أجيز
لنفسي أن أكرهه على دوسها والوطء عليها، ولا أن آمره بذلك إلا بعد أن أقنعه
ببطلان اعتقاده فيها ، وقد وقع لي واقعة في ذلك: وهي أن رجلاً أخبرني بأن
خصمًا لي في محاكمة شرعية حمله كتابًا إلى آخر، وسألني ماذا يفعل فيه، وأنا
أعلم أنه يطيعني في كل ما آمره به، وأن في الكتاب حجةً لي على خصمي تصلح
فصلاً للنزاع، وتوفر عليَّ وقتًا طويلاً ونفقةً كثيرةً، ولو شئت لأخذت الكتاب فإن
حامله لا يخالف أمري، ومع هذا لم أستحل أن آمره بالخيانة.
ولما حدثت مشكلة القضاء الشرعي بمصر من زهاء عشر سنين، وعزم
الإنكليز على إلزام الخديوي بعزل القاضي المولى من السلطان، وتولية قاضٍ
مصري مكانه كره الخديوي ذلك ، ولكنه لم يهتد إلى المخرج منه، فطلب أن يجيء
الأستاذ الإمام من القاهرة إلى الإسكندرية (وكان الخديوي في مصطافه فيها) ،
فجاء رحمه الله ليلاً، وقابل الأمير في الصباح، فقال له: إنني طلبتك بلسان
البرق؛ لأستشيرك في مشكلة القاضي، وبعد خروجك من هنا سيدخل لورد كرومر؛
لأجل أن يكلمني في وجوب عزل جمال الدين أفندي، وتولية أحد علماء مصر
منصب قضاء مصر الشرعي ، وسيجتمع بعد ذهابه مجلس النظار هنا؛ لتقرير ذلك،
فبماذا أدفع اللورد بحسب رأيك؟ فقال الأستاذ: إن الإنكليز من أشد خلق الله
احترامًا لحرية الضمير والاعتقاد؛ حتى إنهم ربما ذكروا ذلك في قوانينهم، فإنهم
لما وضعوا قانون التلقيح للوقاية من الجدري، كان من مواده أنه يجبر عليه كل أحد
إلا من يقول: إن ضميره لا يجيز له ذلك، فإذا كنتم تعتقدون أن تولية القاضي من
حقوق السلطان وأنه لا يجوز لكم أن تعينوا القاضي من قبلكم، فيكفي في إقناع
اللورد بالرجوع عن طلبه، أن يقول له أفندينا: إن ضميري لا يسمح لي بذلك؛
لأنني أعتقد أن هذا حق السلطان وحده، فمتى سمع هذا الجواب يذعن له، ولا
يمكن لمثل لورد كرومر في تربيته الإنكليزية العالية أن يقول لكم: خالفوا ضميركم ،
وقد كان الأمر كما قال الأستاذ، وبذلك انحلت المشكلة بعد أن كان عزل قاضي
السلطان قد صار في الأمر المقضي الذي لا مراجعة فيه، حتى إن جمال الدين
أفندي باع داره، وتهيأ للسفر من مصر إلى الآستانة.
هذا ما أجبت به أحد أساتذة المدرسة الكلية، وقد استحسنه من سمعه،
واعترفوا بأن من إفساد الأخلاق أن يؤمر الإنسان بفعل ما يعتقد أنه قبيح أو محرم
عليه، ثم جاءني بعض تلاميذ الكلية من المسلمين، وسألوني عن رأيي في مسألتهم
وسألتهم عن سببها وعلتها، فاستفدت من المراجعة ما يأتي:
(1)
إن التلاميذ يُلزمون الدخول كل يوم الكنيسة (Chapel) ، والمكث
ربع أو ثلث ساعة؛ لسماع نبذة من العهد الجديد أو العهد العتيق، تختم بالدعاء
الذي يعبرون عنه بالصلاة، وكل يوم أحد ثلاث مرات، يمكثون كل مرة زهاء
ساعة ونصف.
(2)
إنه يوجد في المدرسة جمعية أرمنية لتلاميذ الأرمن، وجمعية يونانية
لليونانيين، وجمعية للمصريين من المسلمين والنصارى، وجمعية مسيحية تسمى
جمعية الشبان المسيحيين، وجمعية لليهود.
(3)
طلب التلاميذ المسلمون إنشاء جمعية إسلامية؛ تبحث في ترقي
المسلمين مع عدم الخوض في السياسة، فرفض طلبهم.
(4)
طلبوا أن يجتمعوا ليلة المولد النبوي؛ للبحث في سبب الاحتفال في
مثل ذلك اليوم وما يحسن فيه، فمنعوا ، فهذا هو السبب لتألب المسلمين ، وذكر لي
عبارات شاذةً في الطعن في الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، سقطت من بعض رجال
المدرسة الأمريكانيين، هاجت النفوس، وأعدتها للحركة التي ظهرت بعد ذلك
عندما جاء وقتها، ولا نذكرها في هذا المقال؛ لأنها ليست من نظام المدرسة ولا
من أعمالها المطردة.
بعد هذا كله نقول: إن مؤسسي المدرسة بأموالهم ومديري شؤونها والمعلمين
فيها كلهم من أهل الفضل والخير، والعلم بطبائع الأمم وأخلاق البشر وأحوال
الاجتماع، فهم يعلمون أن الظلم (ومنه منع المسلمين من الاجتماع كاليهود بَلهَ
النصارى) ينتج في المستقبل ضد ما يراد منه في الحال، وإن الأمم لا ترهق في
زمن الدستور والحرية، بما كانت ترهقه في زمن الاستبداد والعبودية، فكان عليهم
أن يتذكروا هذا فيلينوا ويتسامحوا مع التلاميذ المسلمين عند امتناعهم عن دخول
الكنيسة، ثم يستميلوهم إلى احترام المدرسة بالعدل والمساواة بينهم، وبين غيرهم
من الملل والشعوب في تأليف الجمعيات، بأن يأذنوا لهم بتأليف جمعية إسلامية.
فإن الرئيس الذي لا يعدل لا يطاع بالاحترام، وكيف يطالب بالنظام من يتعصب
ويحابي في النظام، ثم يجعلون تلك المواعظ خاليةً مما يخالف الإسلام ويعارضه،
ويقنعون أولئك التلاميذ بأن حضورها بهذه الصفة لا يحظره الإسلام فيكون نفاقًا
وما أسهل ذلك عليهم إذا جاؤوه من بابه.
إن جميع من في المدرسة الكلية من الرؤساء والمعلمين، يعلمون أن ما يلقى
فيها من المواعظ عادةً لا يَرُدُّ المسلم عن الإسلام إلى النصرانية؛ ولكنه لا يخلو من
نوع من الألفة والمودة وتقريب الطوائف بعضها من بعض، وهذا المقصد العالي
الذي يسعى إليه الحكماء الذين يخدمون الإنسانية خدمةً خالصةً من شوائب السياسة
والهوى ، فإذا كان رؤساء المدرسة يرمون إلى هذا الغرض فعليهم أن يتذكروا أن
الرمي إليه عن قوس العزة والإدلال، والإكراه والإذلال، هو الذي يطيش سهمه،
ويفضي إلى ضد ما يراد منه، وأن الحب لا يكون بالغضب، وإنما التحبب داعية
الحب.
بلغني أنهم يقولون: إن المدرسة مسيحية أنشئت بمال المسيحيين؛ لأجل بث
الدين المسيحي، فمن لم يرض بدخول الكنيسة، وتلقي التعليم المسيحي فيها فلا
يدخلن مدرستنا، وهذا القول على مخالفته لفحوى ما سمعته من أحد معلمي المدرسة
يمكن أن يقوله بعض رؤساء المدرسة؛ احتجاجًا وانتصارًا لأنفسهم، وما أظن أن
جميع أولي الشأن في المدرسة؛ يرضون بأن يكون فصل الخطاب في المسألة
حرمان المسلمين من المدرسة، أو إخضاعهم لما سبق بيانه من المعاملة التي تنفر
القلوب، وتورث العداوة والبغضاء، والتعصب الذميم.
وصفوة الكلام في هذا المقام أنه يتعذر على المدرسة الآن إلزام من فيها من
المسلمين ما ذكروا، بعدما اجتمعوا وتقاسموا، واتفقت حكومة الآستانة مع سفارة
الولايات المتحدة على عدم جواز ذلك ، وأن أمامها في السنة الآتية أحد أمرين: إما
التساهل والتسامح في قبول التلاميذ المسلمين؛ لتأليف النفوس وجذب القلوب
بعضها لبعض، والاكتفاء من الخدمة الدينية بهذا المقدار، مع ترقية العقول بالعلم،
والنفوس بالتربية الأدبية الاجتماعية ، وإما عدم قبول المسلمين في مدرستهم وهم
أحرار مختارون في ذلك.
فإن اختاروا الأمر الأول حمدهم المسلمون وحمدتهم الإنسانية، وكانوا أقرب
إلى مقصد الدين الحقيقي الذي لا خلاف فيه بين المسيحية والإسلامية، وهي خير
البشر وتآلفهم، وإن اختاروا الأمر الثاني فإنهم يعلمون المسلمين درسًا جديدًا،
قد يضرهم ويضر من يعيش معهم من جهة تباعد القلوب، وقوة التعصب الذي
يشكو منه محبو التأليف والتوفيق؛ ولكنه ينفعهم من جهة أخرى بما ينهض من
هممهم، ويرفع من نفوسهم ويدفعها إلى الاعتماد على ذاتها، ومباراتهم في تأليف
الجمعيات الدينية لإنشاء أمثال هذه المدارس لأنفسهم.
سيقولون: إن المسلمين لا يستطيعون الآن إنشاء مدارس: كالمدرسة الكلية،
بل كثيرًا ما قالوا؛ ولكن هذا القول لا حجة له إلا ما يعهده من بخل أغنياء المسلمين
بالمال في سبيل العلم والدين ، وهذا عرض لا يدوم، فها نحن أولاء نرى إخواننا
المصريين قد بدؤوا يبذلون الألوف من الدنانير لإنشاء المدارس، وقد سبقهم إلى
ذلك مسلمو الهند ومسلمو روسيا ، وقد دبت الحياة في المملكة العثمانية، فيرجى أن
تسبق غيرها في هذا المضمار لمكانتها العالية من سائر بلاد المسلمين.
إن مسلمي العثمانيين لا بد أن ينشطوا في هذا العصر من عقالهم، ويعلموا أن
التعليم الأجنبي المحض مهما عظم نفعه لا يؤمن ضرره، فإنه إن خلا من الطعن
في الإسلام أو تفضيل غيره عليه، فإنه لا يخلو من إضعاف للعاطفة الملية، وحل
للرابطة القومية؛ فإنه يحول مجاري الفكر في العلوم ومهابَّ أهواء النفوس في
الأخلاق والآداب إلى جهة المعلمين والمربين من الأجانب، فيجعل عقول نابتتنا
وقلوبهم ملكًا لهم، أو وقفًا عليهم، أو مجذوبةً إليهم، أو مفضلةً لمقومات أمتهم على
غيرها ، وبذلك ينقص من مقومات أمتنا ومن احترامها في نفوس نابتتنا بمقدار ما
يزيد في نفوسها من عظمتهم، فلا نطمع في مجاراتهم ومباراتهم، فضلاً عن
مسابقتهم ومقاومتهم، بل نكون دائماً عيالاً عليهم، ناهيك بما في العلوم من الشبهات
على الدين التي يسهل دفعها عن الإسلام، لو كان المعلمون عارفين بحقيقته،
واردين عين شريعته.
فهذه العلوم التي تؤخذ من هذه المدارس، لا تكون حياةً حقيقيةً لأمتنا إلا بعد
أن يصير زمام التعليم والتربية في أيدينا، فيجب على تلاميذنا في المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت وعلى أمثالهم في غيرها؛ أن يعدوا أنفسهم ليكونوا عونًا لنا
على ذلك بإتقان أساليب التعليم ونقل العلوم إلى لغتنا، وسيرون من الأمة نهضةً
مباركةً في إمدادهم بالمال، وأن لا يكرهوا ما يرون من هضم حقوقهم، وعدم
مساواتهم برفاقهم من أبناء الملل الأخرى، فإن هذه المعاملة هي التي تحرك غيرتهم
وتجمع كلمتهم، فليتقبلوها بسعة الصدر، وإطالة الفكر، وحسن المعاملة، وكثرة
المجاملة، وطاعة النظام، ولين الكلام، والتواصي بالحق والصبر، حتى تكون
حجتهم هي الناهضة، وعاقبتهم هي الحسنى {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية
كثر حديث الناس في الحكومة العثمانية الجديدة، وما يُنتظر منها من
الإصلاح بعد أن قضى أحرار الأمة وجيشها على الحكم الشخصي الاستبدادي،
وأدالوا منه حكم الشورى الدستوري، وكثرت أقوال الجرائد في ذلك، ولكننا نرى
أكثر الحديث في الأمور الكمالية التي لا يكون إصلاحها إلا في السنين الطوال:
كالمالية والمعارف والحربية والبحرية والعدلية (الحقانية) والزراعة، وقلما نرى
أحدًا يذكر أهم المهمات الذي يجب تقديمه على كل شيء بلا استثناء، ألا وهو
تنظيم الشرطة (الضابطة والبوليس) لأجل حفظ الأمن العام، وتنفيذ الشرع
والقوانين بالعدل والمساواة.
أعلن الدستور وأعيد القانون الأساسي، فصاح الصائحون بالناس في كل بلد
أنِ احتفِلوا به، فاحتفَلوا، وقيل لهم: اخطبوا واهتفوا، فخطبوا وهتفوا،وقام الأحرار والمستعدون للحرية في وجوه أعوان الاستبداد والعبودية فأنزلوا أناسًا عن مراتبهم
وعزلوا أفرادًا من مناصبهم وأنذروا آخرين بلاء يحل بهم وبشروا العامة بالخير القريب
والعز العتيد، والنعيم المقيم، فذهبت النفوس في فهم ذلك مذاهب، ووردت منه
مشارب، حتى فسَّره بعضهم بإباحة الحقوق وإلغاء الإتاوات والضرائب، وقد انقسم
الناس في فهم الدستور إلى أقسام ليس من غرضنا بيانها في هذه المقالة، وإنما
نقول: إنه يوجد في البلاد العثمانية كثير من المستخدمين في الحكومة، والذين
عزلوا بعد الدستور أو استقالوا، ومن أصحاب النفوذ والجاه يمقتون الحكومة
الحاضرة، ويحنون إلى الاستبداد السابق؛ لاعتقادهم أنه ينمي مالهم ويوسع دائرة
جاههم؛ لأنهم يتبعون هوى رؤسائه مهما كان فيه من خراب ذمتهم ودينهم،
وخراب بيوت معظم الأمة، والقضاء العاجل على الدولة. فهؤلاء يوسوسون للعامة
ماذا استفدنا من الدستور والحرية؟ كان يستبد بنا في البلد رجل واحد فصار يستبد
بنا جميع الأشقياء. ومثل هذا الكلام يروج عند العامة التي تنتظر الراحة والسعادة
من الحكومة الجديدة، إذا لم تكذبه هذه الحكومة بالعمل في أقرب وقت.
ماذا يجب على الحكومة قبل كل شيء؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي، وهو
أن الواجب قبل كل شيء، حفظ الأمن العام والحرية الشخصية، ولا يتم هذا على
وجهه إلا بتنظيم الشرطة (الضابطة) ولذلك نرى الولاة والمتصرفين يتململون
من كثرة الاعتداء بالضرب والقتل، فإذا طولبوا بتربية المجرمين يقولون: إننا
ننتظر التعليمات الجديدة في إصلاح الشرطة من الآستانة في أول السنة المالية
القادمة.
هكذا قالوا لنا عندما تكلمنا معهم، ورأيناهم يعلمون كما نعلم أن من في البلاد
من الشحنة والشرطة، قد أفسد أكثرَهم حكمُ الاستبداد الماضي فصاروا أعوانًا
للأشقياء والمجرمين، وقد اقترحنا عليهم أن يستبدلوا شرطة لواء بشرطة لواء آخر
فاعتذروا عن ذلك بقلة الرواتب، وقالوا: إن من ينقل من بلد إلى بلد يحتاج إلى
نفقات جديدة لا يفي بها راتبه، وستزاد الرواتب في أول العام القابل، فيتيسر نقل
هؤلاء إلى بلاد لا صلة لهم بأشقيائهم، ويكونون تحت مراقبة شديدة.
هذا ما ينتظره والي الشام وجميع ولاة المملكة؛ لأجل حفظ الأمن وحماية
الحرية الشخصية. ويحسبهم الجمهور غير مبالين بما يقع حينًا بعد آخر من
الجنايات والمظاهرات التي تنبئ باحتقار العامة للحكومة.
لولا أن الأجل المضروب للبدء بالإصلاح المطلوب قريب، لخشينا أن
يفضي إهمال الحكومة للعامة إلى الفوضى، وإن كان أكثر أهالي بلادنا لا يزالون
على حظ عظيم من حب السلامة وحسن الأخلاق، على ما أفسد الاستبداد من
أخلاقهم، فقد رأينا مثال ذلك في مصر، فإن الجنايات وإهلاك الحرث والنسل في
القطر المصري أشد وأكثر مما هو في القطر السوري على كون الحكومة المصرية
أرقى من الحكومة العثمانية. والسبب في ذلك ما أعطته الحرية للعامة من احتقار
الحكومة والأمن من سطوتها، إلا أن تثبت تهمة على متهم في المحاكم مع جهل
أكثر الأهالي وإفساد الاستبداد السابق لأخلاقهم، ولا تزال الحكومة المصرية في
حيرة من أمر الأمن العام على كثرة بحثها وبحث أصحاب الجرائد وغيرهم من
الكتاب وأهل الاختبار، في وسائل ذلك منذ سنين.
لو أخذ ولاتنا بالحزم في أوائل العهد بإعلان الدستور، وساعدتهم جمعية
الاتحاد والترقي التي أخذت بيدها صولجان السلطة عدة أشهر لدى حكومة الآستانة
بأمرها، فقبضوا على كل من يرتكب جناية وعجلوا بمجازاته حتى بالقتل، إن قتل
لأراحوا أنفسهم وأراحوا الأمة في الحال مما تشكو منه، والحكومة في المستقبل مما
سوف تشكو منه، إذا كانت تريد أن تبقي على سياسة الرقة واللطف (النزاكة)
التي اتبعتها منذ أعلن الدستور إلى اليوم، وتقيد الحكام بظواهر القوانين.
رأى زعماء سياسة الرقة واللطف أننا قد أخذنا الدستور نظيفًا غير ملوث بالدم
فيجب أن نتقي سفك الدم في دور الانقلاب، ونداري المفسدين والمجرمين إلى أن
يستقر الدستور في نصابه وهو على نظافته؛ ولكن هذا الرأي إنما يصح في بلاد
خشي فيها من الفتن والثورات الداخلية، إذا فوجئ أهلها بما يكرهون كبلاد الحجاز
لا في بر الشام الذي ليس فيه استعداد للثورة، ولا خطر في بال أحد من أشقيائه؛
أنه يمكنه أن يقف في وجه الحكومة بنفسه أو بعصبته، إذا هي حاولت أن تسلط
العدل على الأخذ بناصيته! !
ألا إن أكثر زعماء سياستنا ليجهلون حال الأمة في جميع الولايات، ويولون
عليها من الولاة والمتصرفين من لا وقوف لهم على حقيقة حالها، حتى إنني أحسب
أن ناظم باشا لا يزال غير محيط علمًا بحال ولايتي بيروت وسورية على ذكائه
واختباره لهما في سني الاستبداد وشهور الدستور، فما ظن القارئ بأدهم بك والي
بيروت الجديد الذي كان عائشًا في أوروبا فانتقل منها بعد الدستور إلى الآستانة
فبيروت! ثم بمثل متصرف طرابلس جاويد بك؟ ولقد يعز على هذا المتصرف
وذاك الوالي أن يعرفا حال البلاد وأهلها في زمن قريب لعلتين فيهما: عدم التكلم
بالعربية والعزلة. فإنهما يكادان لا يكلمان أحدًا في غير أمور الحكومة الرسمية
في دار الحكومة، ومن كان هذا شأنه فكيف يقف على حقيقة حال البلاد، ومن لا
يقف على حقيقة حالها، كيف يسوسها على وجه الحكمة والسداد؟ ! .
يظن أمثال هؤلاء أنه لا يطلب من الوالي أو المتصرف الدستوري إلا أن
يكون عفيفًا مستقيمًا مراعيًا في سيرته للقوانين، وفاتهما أن معرفة حال الناس الذين
وضع القانون لأجل إصلاح شأنهم مقدمة على معرفة القانون، والحرص على تنفيذه؛
لأن العدل في التنفيذ لا يكون إلا بتطبيق المواد على الوقائع، وهذا التطبيق
يتوقف على معرفة حال المتلبسين بالوقائع التي تطبق عليها تلك المواد وإن وراء
ذلك من الاجتهاد في حسن الإدارة، ما لا تغني عنه القوانين وإن نفذت بالعدل.
يتوهم بعض الولاة والمتصرفين أن للأشقياء الذين اشتدت جرأتهم في عهد
الدستورعصائب تشد أزرهم، وأن الحكومة لا تقدر على تربيتهم إلا بعد تنظيم
الشرطة، وأنها إذا حاولت الآن أن تقبض على المشهورين منهم، أو تلزم الشرازم
الذين يفتاتون عليها حدهم، وتحفظ هيبتها في نفوسهم - يثورون عليها ويقاومونها
بقوة السلاح! وأن تركهم على ما هم عليه هو الواجب الآن؛ عملاً بقاعدة ارتكاب
أخف الضررين، وهذا وهْم باطل بالنسبة إلى ولايتي بيروت وسورية، فإن هذه
البلاد وإن ساءت حالها وكثر اختلالها في أواخر عهد الاستبداد، فهي لم تصل في
الشر والهمجية إلى هذا الحد الذي قد يتوهمه بعض حكامها.
هذا التوهم هو الذي كف أيدي الحكومة الجديدة عن تربية المجرمين، فامتدت
أيديهم إلى ما لم تكن تمتد إليه في عهد الاستبداد، حتى صار العقلاء يخشون أن
يفضي احتقار الأشقياء للحكومة إلى الفوضى، وهم لا يعذرون الولاة على إهمالهم،
ولا يعرفون سبب هذا الإهمال؛ إذ لو عرفوه لاجتهدوا في إقناعهم بأن البلاد ليس
فيها عصائب ذات قوة ولا جمعيات سرية، وأن الوالي إذا شاء أن يقبض على
مجرم وينفذ القانون على أي معتدٍ، فعل، إلا أن يفر الشقي الذي تأمر الحكومة
بالقبض عليه قبل أن تصل يدها إليه، وأنه لا يوجد في مدن سورية كلها شقي
تحدثه نفسه بأن يعصي على الحكومة جهرًا، أو يغري الأهالي بعصيانها سرًّا،
على أن إفهام هذا لوالي بيروت؛ لأجل حمله على القيام بعمل لحفظ الأمن، قد يعد
من العبث؛ فإنه لا يتوجه إلى عمل ما في ذلك إلا بعد ورود ما ينتظر من تنظيم
الشرطة والشحنة في أول السنة المالية القادمة وما هي ببعيد.
يجب أن يعد الولاة ومن دونهم من رجال الإدارة لهذا الإصلاح عدته، فإنه
هو الإصلاح الذي يتوقف عليه كل إصلاح، يجب أن يستخرجوا من المحاكم أسماء
المحكوم عليهم بالإعدام وما دونه من العقوبات، وينفذوا ذلك كله بمنتهى الجد
والحزم، ثم يمنعوا الافتئات على الحكومة بالمظاهرات التي لا يبيحها القانون أو
يطلب بها، ما لا يبيحه القانون، ومن أصر على غيِّه يؤخذ منة باليمين.
ويجب على الآستانة أن لا تقيد الولاة بقيود كثيرة، وأن لا تجعلهم عيالاً على
نظارة الداخلية في كل شيء، ولا في أكثر الأشياء، بل فيما لا بد منه، ولا غنى
عنه من الأمور الإجمالية ، فيجب أن يباح لرؤساء الحكام من الولاة، وغيرهم
الاجتهاد في فهم القوانين، وتنفيذها بالمشاورة، كل فيما يختص به مع تشديد التبعة
(المسئولية) عليهم، وجعلهم تحت مراقبة المجالس العمومية التي يجب توسيع
اختصاصها، وكذا اختصاص مجالس الإدارة. وإذا أعيد التفتيش على الولايات،
يكون للأمة أربعة أنواع من الضمان الذي يحول دون استبداد الولاة ومَن دونهم مِن
رؤساء الإدارة: مجالس الإدارة في كل لواء ومركز وناحية، والمجلس العمومي في
الولاية والتفتيش، وشدة التبعة يضاف إليها من قبل الأمة نفسها انتقاد الجرائد، وما
وراءه من إثارة سخط الرأي العام.
وكذا يقال في المحاكم مع ما يجب من استقلال القضاء، وجعل المحاكم
الشرعية المؤلفة من عدة أعضاء، يحكم فيها بالاتفاق أو أكثر الآراء، وإيجاد
محاكم استئنافية شرعية في كل ولاية.
هذا ما عنَّ لنا أن نكتبه الآن، ويغلب على ظننا أن حكومتنا تحتاج في تنظيم
الشرطة والشحنة إلى الاستعانة بالأجانب، كما تحتاج إلى ذلك في كثير من الأعمال
فإن الرجال القادرين على الإصلاح عندنا قليلون كما سيظهر بالعمل، وندعو الله أن
يوفق مجلس الأمة إلى خير الإصلاح المنتظر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنبيهُ الجرائد السورية
إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]
إذا كانت تربية الأطفال فنًّا من أدق الفنون، وهو لما يبلغ درجة الكمال على
عناية العلماء والفلاسفة به، فماذا نقول في تربية الأمم؟
يوجد ألوف كثيرة من المربيات والمربين في كل أمة من الأمم المتمدنة.
ولكن الذين يربون الأمم قليلون في كل أمة وكل زمان.
إن للأمم أطوارًا كما أن للأفراد أطوارًا، ولا يحتاج المربي للأفراد في طور
من أطوارهم إلى العلم الواسع، والخبرة الدقيقة، والعناية العظيمة؛ كطور
الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، أو من التقليد والإلزام إلى الرشد والاستقلال، وإن
المربي للأمم يكون عند انتقالها من حكم الاستبداد والعبودية إلى حكم الشورى
والحرية؛ أحوج من مربي الأفراد إلى العلم والخبرة والبصيرة والحكمة.
إن خطباء الأمم والقائمين على تربيتها بالإرشاد والتعليم، وانتقاد الحاكمين
والعاملين هم أصحاب الجرائد، وقد كانت الجرائد العثمانية في مأزق لا تستطيع
فيه حِراكًا، فخرجت إلى مجال فسيح وميدان واسع. ولكن الجولان في هذا المجال
أو الجري في هذا الميدان لا ينبغي إلا للفرسان المهرة، فإن الأرض على رحبها
غير ممهدة، والطرق على سعتها غير معبدة، فأمام من يريد الجولان عواثير
يُخشى عليه من التردي فيها، وعقبات يصعب اقتحامها، وأعلام مشتبهة لا يؤمن
الضلال بينها.
فنون الكلام في الجرائد كثيرة، والانتقاد أدقها مسلكًا، وأصعبها مركبًا،
وأشدها على النفوس وقعًا، وأكثرها ضرًّا ونفعًا، فمن وظائف الجرائد: نقد الحكام
والأحكام، ونقد العمال والأعمال، ونقد العلماء، وكتب العلوم، فلا شيء إلا وهو
معرض لنقدهم. فإن أحسن كتابها النقد كانوا خير العون على الإصلاح، وإن أساءوا
كانوا من عوامل الفساد والإفساد، لا سيّما في مثل الطور الذي دخلت فيه الأمم
العثمانية الآن.
لا يعرف أحد كنه تأثير الجرائد في مثل هذا الطور، كما يعرفه أهل البصيرة
الذين خبروا بأنفسهم أمة كان الاستبداد يسومها سوء العذاب، فانتقلت إلى الحرية
فجأة، ووجد فيها جرائد كثيرة مرخية العنان مطلقة من القيود، ورأوا بأعينهم ما
كان لها من التأثير في تلك الأمة. وإن هذا الوصف ليصدق على بعض العثمانيين
الذين أقاموا في القطر المصري زمنًا طويلاً موجهين عنايتهم إلى اكتناه أحواله
الاجتماعية، فإذا اشتغل هؤلاء بالصحافة العثمانية رجونا أن يفيدوا الأمة جميعًا.
لقد نفعت الجرائد في مصر كثيرًا وأضرت كثيرًا، وأذكر على سبيل العبرة
للجرائد السورية مثالاً من نفعها، ومثالاً من ضررها:
إن للجرائد المصرية أحسن الأثر في النهضة العلمية في القطر المصري،
حيث صار الموسرون يتبارون في دفع ألوف من الجنيهات؛ لإنشاء المدارس،
ويقفون عليها وعلى الجمعيات التي تقوم بإدارتها الأراضي الواسعة ذات الريع
العظيم، وقد كان اشتراك الجمعية الخيرية الإسلامية لا يخرج من كيس الغني الكبير
منهم إلا نكدًا بعد مطالبات كثيرة، وما ذلك الاشتراك إلا جنيهان أو أربعة جنيهات
في العام.
ولم يكن الحث على إنشاء المدارس والدعوة إلى التربية والتعليم غرضًا
خاصًّا لجريدة من تلك الجرائد، ومذهبًا ملتزمًا تدعو إليه وتجعله مدارًا لنهضة الأمة
وسعادتها؛ إلا مجلة المنار التي صرّح في فاتحة العدد الأول منها بهذه الكلمة:
(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) ثم كنا نستطرد من كل موضوع
يكتب فيها إلى الحث على التربية والتعليم، ولا أريد بهذا الاستثناء أن أنيط المنار ما
ذكرت من النهضة العلمية، فأدعي أنه هو روحها الذي به حياتها ونماؤها؛ بل لا
أنكر أن الجرائد اليومية أعم تأثيرًا منه في ذلك، ناهيك بنشرها لأسماء المتبرعين
بما قل أو كثر مع الحمد والثناء. ولو أنها جعلت الدعوة إلى ذلك مذهبًا متبعًا
ومشربًا موردًا لكان النفع أعظم. ولكن شغلتها السياسة عن ذلك وهو أنفع لهم في
سياستهم.
فهل للجرائد العثمانية أن تعتبر بهذا، فتجعل الدعوة إلى التربية والتعليم
ديدنها، والحث على التبرع لذلك وتأسيس الجمعيات لأجله، مذهبها الذي توجه إلى
نشره جل عنايتها؟ فإذا كان للجرائد المصرية العذر في جعل جل همها في السياسة،
فإن جرائد سورية لا نصيب لها من هذا العذر؛ لأنه ليس في بلادها سلطتان
متعارضتان: إحداهما أجنبية؛ بيدها الحل والعقد بالفعل، والأخرى رسمية لها
الاسم وما لا يعارض سياسة الأولى من الفعل، على أننا قد نبهنا أصحاب الجرائد
السورية إلى تقصير الجرائد المصرية في الدعوة إلى التربية والتعليم على الوجه
الذي هو أرجى لتكوين الأمة، وجعلها أمة عزيزة مستقلة في نفسها استقلالاً يفضي
إلى استقلالها في أحكامها وسياستها.
هذا: وأما المثال لضرر الجرائد المصرية؛ فهو طريق انتقادها ولا سيّما
للحكومة، فقد سلك أكثرها فيه مسلكًا أسقط هيبة الحكومة من النفوس، بعد ما كان
لها من هياكل العظمة في كل خيال، وشعور الخشية والبأس في كل قلب، فوثبت
الجرائد بالشعب المصري من طرف إلى طرف، من غير أن تمر به على الوسط أو
ما يقرب من الوسط 0
ذلك المسلك هو اتهام الحكومة بمشايعة الإنكليز على ما يريدون من السوء
بالبلاد، فكان أولئك الكتاب ينحون بقدحهم وطعنهم على الوزارة (مجلس النظار)
في الجملة وعلى رئيسها وأفرادها وعلى المديرين وغيرهم من رؤساء الأعمال في
التفصيل، فذلك الانتقاد أو الطعن كان الغرض منه تأييد سياستهم في مقاومة
الاحتلال، والتشفي من الإنكليز وبيان أن الأمر كله في أيديهم وتبعته عليهم، وإن
النظار وسائر الموظفين المصريين آلات صماء تحركها هذه الأيدي كما تشاء؛ ولكن
فيما يضر البلاد ولا ينفعها، وفيما يسلب السلطة الشرعية من أميرها، وهو الذي
يريد لها الخير لولا أنه عاجز عنه. وكان يقوم في وجه هذه الجرائد الكثيرة جريدة
أو جريدتان أو ثلاث تندد بالأمير وبطانته، وتلزم ذلك المقام بما يخفض من قدره
فبذلك كله زالت هيبة الأمير وحكومته الرسمية من النفوس، فتجرأ الأشقياء على
السلب والنهب، وإهلاك الحرث والنسل، وكثرت الجنايات في الأرياف حتى إن
الحكومة لا تزال في حيرة من حفظ الأمن إلى هذا اليوم.
نعم، إنه قد استقر في أذهان جميع المصريين أن الأمر كله للإنكليز، وأنهم
يستطيعون أن يفعلوا ما أرادوا، من حيث لا تستطيع الحكومة المصرية من دونهم
شيئًا. ولكنهم علموا مع هذا أن الإنكليز لا يحفلون بالمسائل الجزئية التي تتعلق
بأفراد الأهالي، وإنما يكلون الأمر فيها إلى الحكومة المصرية، تنظر فيها بحسب
القوانين، فلا يستطيع المأمور، ولا المدير، ولا رئيس النيابة (المدعي العمومي)
ولا القاضي، أن يعاقب جانيًا إلا إذا ثبتت جنايته في المحكمة، وقلما يقدم الجناة
على عملهم إلا هم آمنون من ثبوته عليهم! .
فاختلاف الأمن في القطر المصري نشأ من سقوط هيبة الحكومة من نفوس
العامة، والتطرف في الحرية، والانتقال من حكومة استبدادية عرفية إلى حكومة
قانونية حرفية؛ أي: يجري فيها الحكام على ظواهر ألفاظ القانون من غير تطبيق
على المصلحة العامة التي وضع لأجلها القانون. وما كان لأكثر الجرائد من عمل
في ذلك إلا ما ذكرنا، فما كان من خطأ يقع، كانوا يحملونه على سوء النية من
الحكومة، وما كان من صواب يسكتون عنه ويحملونه على غير محمله، حتى كانوا
ربما يطعنون في أنفع الأعمال: كإنشاء الخزان في أسوان - فلهذا ولغيره من الخطأ
الذي لا يتسع هذا المقال لشرحه، كان الأستاذ الإمام يقول: (جرائدنا إحدى
بلايانا) .
فيجب أن تعتبر الجرائد السورية بخطأ الجرائد المصرية التي سبقتها في
الاستقلال والحرية كما تعتبر بصوابها، فكما يجب عليها أن تتخذ لها مذاهب في
الإصلاح الاجتماعي لا تشغلها عنه السياسة، يجب عليها أن تتخذ لها أسلوبًا حكيمًا
في انتقاد الحكومة، يرجى نفعه ولا يخشى ضرره، ويجمع بين هيبتها في نفوس
العامة من حيث هي أمينة على مصالحها، ومنفذة لشريعتها وقوانينها التي أقرها
نوابها ووكلاؤها، وبين تكريم الأمة وإعلاء شأنها، وغرس مبادئ الحكم الذاتي في
نفوسها.
كيف تُنتقد الحكومة
تُنتقد أعمال الحكومة لغرضين شريفين أحدهما - وهو الأصل - صيانة الحقوق
وحمل الحكام على العدل، وأداء الأمانة بالتزام الشريعة وتطبيق القانون على
المصلحة العامة. وثانيهما: عرضي تمس إليه حاجة الأمة أو ضرورتها في مثل
الطور الذي نحن فيه الآن في بلاد الدولة عامة والقطر المصري خاصة، وهو بث
مبادئ الحكم الذاتي في نفوس الأمة (أي حكم نفسها بنفسها) .
أما الأول: فطريقه أن يبحث الكتاب عن الأعمال والأحكام، ويبينون ما
يجب بيانه في انطباقها على الشرع والقوانين وعدمه من غير بذاءة، ولا استعلاء،
ولا طعن يسقط المهابة، ويذهب باحترام الحكومة من نفوس العامة. وإنما نعني
بالأعمال؛ أعمال الحكومة دون الأعمال الشخصية التي لا دخل لها ولا تأثير في
المصالح العامة.
ومن كان مخلصًا في انتقاده يتحرى الحق فيه، فإذا ظهر له أنه أخطأ فيما
كتبه، رجع عنه رجوعًا صريحًا، وبيَّن سبب خطئِه الأول، ومشرق انبلاج
الصواب له. وبذلك يكون كلامه مؤثرًا في القلوب ذا سلطان على النفوس، فيقدره
قدره الحاكمون، فإذا لم يرجع به المسيء عن غيه، آخذه رؤساؤه على سوء فعله.
ومن آيات الإخلاص: أن يسعى مريد الانتقاد إن تيسر له؛ كأن يراجع
الحاكم فيما يرى أنه يسيء أو يجور فيه، فإن تم له ذلك وإلا لجأ إلى الانتقاد.
وينبغي أن يبدأ بالرمز والتلويح، ثم يترقى في سلالم التصريح، فإذا استقام
الجائر، وعدل الظالم، وجب أن يقف الناقد عند الدرجة التي ارتقى إليها في نقده،
ثم يثني على العمل الذي يستحق الثناء.
ومما يتحتم مراعاته أن تكون الفقرة التي ينتقد بها القضاة ورؤساء الإدارة
بحيث يفهمها الخاصة دون العامة، كأن تورد بضروب من المجاز والاستعارة،
وتستعمل فيها الألفاظ الغريبة؛ لئلا تزول مهابة الحكومة من نفوس العوام، وتقل
ثقتهم بالقضاء، ويعتقدوا أنه لا سبيل إلى قضاء مصالحهم إلا بالرشوة، ويطمع
المبطلون منهم بهضم الحقوق، ويطمع الأشقياء بالتعدي على الضعفاء؛ اعتمادًا
على ضعف الحكام أو ظلمهم.
وإنما تجب مراعاة ما ذكر في انتقاد من يسيء مستخفيًا، وأما من يجهر
بالسوء، ويعرف عنه الظلم، فأولئك هم الذين لا تحفظ لهم حرمة، ولا ترقب فيهم
ذمة، فيجهر الكتاب بانتقاداتهم، ويحرضون الأمة على الشكوى منهم، إذا لم يبادر
رؤساؤهم والمفتشون عليهم إلى النظر في أمرهم، ولتكن الشكوى إلى المجالس
العمومية في الولايات، ثم إلى مجلس المبعوثان في الآستانة بعد مراعاة ما اشترطه
القانون الأساسي في ذلك.
أما الطعن في الحكومة على الإطلاق فضرره عظيم جدًّا في مثل بلادنا، ولا
سيما في أول العهد بالانقلاب كهذا الزمن. مثال ذلك طعن المتقهقرين أو الرجعيين
(على الخلاف بين كتاب العرب وكتاب الترك في لقبهم) في حكومة الشورى
الحاضرة من حيث شكلها، والاستدلال على ذلك بالخلل والفساد الذي أظهرته الحرية
في الأمة والحكومة جميعًا بزعمهم، وما هو إلا من رزايا الحكومة السابقة التي
يتعذر تطهير الأرض من نتنها في بضعة شهور أو بضع سنين.
ومن أمثلته استبطاء كثير من المحبين للحكومة الحاضرة لأعمال مجلس الأمة
وإظهارهم قلة الثقة به، وشكهم في أنفسهم، وتشكيكهم للناس في قدرته على القيام
بما عهد إليه من إصلاح حال الدولة، وترقية شؤون الأمة. وما ذلك إلا لجهلهم
بحاله وبحال الحكومة التي ينظر في أمر إصلاحها.
إن مثل مبعوثينا ونوابنا في مجلسهم: كمثل مهندس كلف وضع رسم أو
رسوم لبناء بلد كمسيني - لا (مسينا) كما تضبطه الجرائد - قد دمرته الزلازل، وأن
يستحضر البنائين لإعادة بنائه على أحسن مما كان عليه، ويراقب عملهم إلى أن
يتم، ثم يكون أمينًا عليه حافظًا له، فأراد أن يشرع في العمل، فوجد معظم أنقاض
البلد مفقودة، قد تلف بعضها، وسرق بعض، ولم يجد من البنائين المهرة والصناع
والنجارين عددًا كافيًا للإسراع في العمارة! ! فهل يلام المهندس ويرمى بالتقصير
وحده، وينسى ذلك الزلزال الذي دمر البلد، وأولئك اللصوص الأدنياء الذين كانوا
ينهبون أنقاضه، وما يهيأ لبنائه! ! ؟
ألا إن عذر مبعوثينا أظهر من عذر ذلك المهندس، فإن زلزال الاستبداد
توالى على المملكة العثمانية من زهاء ثلاثة أجيال، وقد اشتد في عهدنا هذا من أول
هذا القرن الهجري، حتى كاد يجعل المملكة أثرًا بعد عين. وقد كان أكثر رجال
حكومتنا في ذلك الدور؛ كأولئك التحوت الذين افترضوا زلزال (مسيني) ،
فسارعوا إلى نهب كل ما وصلت إليه أيديهم الأثيمة من أموال الهالكين والمشرفين
على الهلاك، فماذا عسى أن يفعل نوابنا في أيام أو شهور؟
قال أمامي بعض هؤلاء المنتقدين الطيبة قلوبهم النائمة عقولهم، أو القليل
اختبارهم: إن بعض المبعوثين يسأل في المجلس أسئلة سخيفة تدل على أن مجلسنا
في سن الطفولية! قلت: هل كان فيها أسخف من سؤال بعض نواب الإنكليز في
مجلسهم الذي هو أعلى وأرقى مجلس نيابي في الأرض عن الكنف (المراحيض)
في القاهرة، وكونها قليلة أو غير موجودة في الأحياء الوطنية!.
ومن أمثلة الانتقاد المطلق في الحكومة الحاضرة ما يلهج به الناس من جميع
الطبقات في جميع البلاد من تقصيرها في حفظ الأمن، وإرسالها حبال الأشقياء على
غواربهم، وهذا الانتقاد واقع ما له من دافع لظهور موجبه لكل أحد، وهو هو علة
الانتقاد الذي ذكر قبله، ولأمرٍ ما كان كلام الجرائد فيه دون كلام الناس في أنديتهم
وسمارهم وبيوتهم، وسائر مجامعهم، وفي الطرق والأسواق!
وإذا طال العهد على هذا الإهمال، فإنني أخشى أن يتفاقم أمره، ويستشري
شره، وقد كلمت فيه والي بيروت قبلاً (والي سورية الآن) ، ووالي بيروت الآن
والمدعي العمومي لولاية بيروت، ومتصرف طرابلس، فرأيتهم ينتظرون أول
السنة المالية التي قربت خطواتها لإصلاح حال الشحنة والشرطة، والدخول على
حفظ الأمن من بابه.
إن عذر الولاة والمتصرفين في التقصير في حفظ الأمن؛ محصور في ظنهم
أنه لا يمكن بطريقة قانونية لا استبداد فيها ولا ظلم، إلا بعد تنظيم الشرطة وإيجاد
قوة عسكرية كافية؛ لتلافي ما ربما يحدث من الثورات الداخلية! وهو عذر مبني
على عدم اختبار حال البلاد في مثل ولاية بيروت، فقاسوها على مثل ولاية
الموصل، وعلى حوران من ولاية سورية، ويعسر علينا إقناعهم بأن هذه البلاد لم
تصل إلى هذه الدرجة من الشر والفساد، وأنه لا يوجد فيها أحد من الأشقياء يفكر
في مقاومة الحكومة قط، وأن أي والٍ أو متصرف أخذ بالحزم يسهل عليه أن يحفظ
الأمن. على أن من يقنع منهم بذلك لا يتجرأ على الإقدام عليه، وتحمل تبعته في
عهد هذه الحكومة، ولا سيّما مع بقاء الآستانة مستأثرة بالسلطة العليا، ومقيدة لسلطة
الولاة بَلْه المتصرفين فمَن دونهم!
إذا طال العهد على الحال التي نحن عليها - وما هو بالذي يطول إن شاء
الله - يتقوض بناء مهابة الحكومة من نفوس العامة فلا يبقى منه شيء وتصير
البلاد فوضى ولولا أن سلامة القلوب ومحاسن الأخلاق لا تزال ذات السلطان
الغالب في بلادنا، لكانت بضعة شهور كافية لانتشار الفوضى، وطمع الأشقياء في
الخروج على الحكومة ، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن ولن يكون إن شاء الله تعالى.
إن الحكومة قادرة الآن على التنكيل بالأشقياء، فكيف بها بعد التنظيم الذي
أظلنا زمانه، وأدركنا إبانه؟ وإن ما حصل طبيعي في طور الانقلاب، فما هو
بالأمر الغريب الذي يبيح للناس، ولا للجرائد الطعن في الحكومة على الإطلاق.
إذا رأينا بعد استقرار الحكومة الجديدة، وإقامة النظام المنتظر عجزًا عن
حفظ الأمن في ناحية؛ لسوء إدارة مديرها، أو في قضاء لجهل القائمقام، أو في
لواء لضعف المتصرف، أو في ولاية لعلة في الوالي فإننا نسعى لدى مرجع كل
واحد من هؤلاء لاستبداله، إذا أعوزنا إصلاح حاله، ولا نطعن في الحكومة طعنًا
مطلقًا يذهب بثقة العامة بها، ولا نتهمها بالخيانة والفساد، ولا نرميها بالعجز
والضعف، فإن ذلك كله تسوء عاقبته على كونه لا يمكن أن يكون صحيحًا على
إطلاقه.
حسبنا هذه الكلمات في بيان الغرض الأول من غرضي الانتقاد الصحيحين
فإن المخاطب بها هم الكتاب الألباء، واللبيب تكفيه الإشارة.
وأما الغرض الثاني من ذينك الغرضين: وهو تقوية روح الحكم الذاتي في
الأمة، فقد يحتاج إليه في البلاد المصرية أكثر مما يحتاج إليه في البلاد السورية؛
لمكان الظن في استئثار الإنكليز بالسلطة، وجعل المصريين الآن في أيديهم. ومع
ذلك نرى الجرائد المصرية، قد قصرت فيما يجب عليها من الرمي إلى غرض نفوذ
الأمة، فكان معظم نضالها أو جميعه دون نفوذ الأمير نفسه؛ أي: لتقرير الحكومة
الشخصية، والانتقال من استبداد أجنبي محدود إلى استبداد شخصي وطني لا حد له
إلا أنه قد كثر خوض هذه الجرائد في هذه السنين الأخيرة في طلب المجلس
النيابي لمصر، وكون ذلك موافقًا لرغبة الأمير في رأي بعضها. ولكن الصحيفة
المصرية التي اتخذت تقوية سلطة الأمة نفسها مذهبًا لها تراعيه في انتقادها على
الحكومة هي (الجريدة) التي أسسها جماعة من الوجهاء وأهل الرأي تنفيذًا لما كان
دعاهم إليه الأستاذ الإمام في آخر حياته. ويعلم الله أن هذا ما كنت اقترحه عليه من
بضع سنين، حتى إنني كنت قد اخترت له المحررين، ووضعت له الميزانية بعد
المذاكرة الطويلة معه في المذهب السياسي - وهو سلطة الأمة -، وفي المنهاج
الاجتماعي الأدبي وجله في انتقاد الأخلاق والعادات. فهل للجرائد السورية أن تفكر
في هذا وتقدره حق قدره؟
إن الجرائد العثمانية كلها تحتاج إلى انتقاد الحكومة فيما يختص بسلطة الأمة
عند وضع بعض القوانين التي تقوي سيطرة الحاكم، وتضع العثرات في سبيل
الأمة: كقانون المطبوعات، وقانون الجزاء (العقوبات) ، وقانون المعارف
ولوائحها، ونظام مدارسها، بل يجب أن تنتقد مجلس الأمة، إذا لم يجعل تنقيح
القانون الأساسي مقيدًا للحكم الشخصي، مطلقاً لحكم الشورى من تلك القيود
المعروفة، وإذا نازعته الحكومة فيما يقوي به سلطة الأمة، وجب على الجرائد أن
تحمل عليها حملة شعواء، وأن لا ترضي أقلامها بما دون الطعنة النجلاء.
كذلك يجب على الجرائد في كل ولاية أن تنتقد الولاة؛ إذا هم حاولوا
الاستبداد في أمر المجالس العمومية ومجالس الإدارة، أو أظهروا التعصب لجنسهم
كتعصب التركي للترك والعربي للعرب، فإن العصبية الجنسية من الحكام تضعف
الجامعة العثمانية، وتحدث فيها الأحداث والمفاسد.
ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتهم الحكومة في جملتها بهضم حقوق الأمة
وكراهية حكمها الذي هو حكم الشورى، وإن كان الكثيرون من الوجهاء والرؤساء
السابقين قد قل انتفاعهم، ونقص مالهم وجاههم في عهد الحكومة الحاضرة، فهم
يحنون إلى الاستبداد ويتمنون الرجوع إليه، حتى صارت جرائد الآستانة تسميهم
الرجعيين، فمن بقي في الحكومة من هؤلاء، ومن يدخل فيها على عهد الدستور
للجهل بحالهم أو للحاجة إليهم على عوجهم، لا يألون جهدًا في الاستبداد إذا وجدوا
منفذًا من المنافذ، وأمنوا المُراقب والمؤاخذ.
فمن أقدس وظائف الجرائد وواجباتها أن تتبع عورهم، وتقلم أظفارهم،
وتكبت أنصارهم، مع مراعاة ما أشرنا إليه من الحكمة والموعظة الحسنة والجدال
بالتي أحسن، كما أرشدنا الذكر الحكيم. وليكن الإخلاص رائدنا، وإيثار المصلحة
العامة غايتنا، فلا شيء أنفع وأرفع من العمل لخير الناس، ولا مرشد إلى ذلك أهدى
من الإخلاص.
_________
(*) نشرناها أولاً في جريدة (أبابيل) البيروتية، ونقلتها عنها جريدة الاتحاد العثماني.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شيخ الإسلام ابن تيمية
وما قيل فيه
غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر.
سلام الله عليكم ورحمته، ولا زلتم في نعيم مقيم.
سيدي: من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه
الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم،
ومحاكمة ابن حجر فيما قاله، حتى يتبين الرشد من الغي. وهنا تجد أكثر الجامدين
من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار؛ لكونه ينقل عن
ابن تيمية، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه، حيث
يقول: (عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله) .
وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه
وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت. نعم، ربما أنه سبق لحضرتكم
كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة (لأن مثل هذا مما لا
يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة) .
ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام، وكثير منهم لم يطلعوا على
ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا
وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر. فهل لسيدي نقل
بعض أقوالهم؟ ولكم من الله جزيل الفضل، ومنا الشكر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ع. س
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(دلي - سمطرا)
(المنار)
لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا
عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي. ويغلب على ظننا
أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية،
وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره، فأنكر
ذلك عليه، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك
السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني
في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره
ودست فيه ضلالات كثيرة، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس
المفسدين؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه. ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما
قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية، بما لم يثنوا بمثله
على أحد، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق،
ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل. ويعز على
الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم، بل مَن دون أئمتهم ممن
يجلون من الميتين، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا! . ولذلك ترى أن سبب
قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية؛ هو
إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره
على سيبويه وتخطئته له ، فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم
العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار
عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه ، ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه
ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم، كما سيأتي.
وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له،
منها (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث
السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. ومنها (جلاء العينين في محاكمة
الأحمدين) أي: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من
النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما
نصه:
(ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست
مائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في التفسير
وأفتى ودرَّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء
في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في
هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين.
وكان يتوقد ذكاء، وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ
ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق
فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس
له فيه نظير. وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة
صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب.
انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير
ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي.
قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: هو من أهل
الاستقراء التام في نقده الرجال، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ
ابن ناصر الدين: ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين
الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه
في العلم.
وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث (كنت نبيًّا
وآدم بين الماء والطين) ، وفي حديث (كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) ،
حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا،
أقرَّ له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا؟
وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه، وكانت
السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة.
وقال حافظ الإسلام، الحبر النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ
المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي
فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى
هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ولا أتبع لهما منه.ا. هـ.
وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين
المستوعبين: أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي.
وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما
اجتمع به وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك ، وقال أيضًا:
رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. ذكره الحافظ
المذكور.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي: وبالجملة كان - رحمه الله تعالى-
من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة
في بحر لُجِّيٍّ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري (إذا اجتهد
الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا
القبر صلى الله عليه وآله وسلم. وما قاله في غاية الحسن، والحافظ المذكور ثقة
حجة باتفاق، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله
عنه الشيخ تقي الدين الحصني. نعم، كان يقول: يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة
الطلاق، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك، فلم يتفرد به كما هو
مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم.
(فإن قلت) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ
رتبة الاجتهاد، وأنى له بهذه المرتبة، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل! !
(قلت) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد
الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر، كما سيأتي، والحافظ
السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد
خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن
أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله
ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام
ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه: ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا؛
بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة
مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا أفتى
بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه رحمه الله من أهل الدولة، حتى حبس
بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده
ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله
في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر، بل من أطلق
على من سماه بشيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك، فإنه
شيخ الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا
يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على
من يقول بالتجسيم والتبرئ منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب
فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه؛ أي
كمسألة الزيارة والطلاق، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات
الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر
إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك، وكذا الشيخ صدر الدين ابن
الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم
الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك
كثيرة شهيرة، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره
وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان
له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من
أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح، ويثني
عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي
الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف
النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة
منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة
عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء
الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه،
بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق
وهو يهدي السبيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى -
فيما كتبه على الكتاب المذكور: ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في
ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه، وللشيخ
تقي الدين بن تيمية، وللشيخ شمس الدين أبى عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية
العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها، ولو
كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له. نعم، وقد
ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه، وانتصب للرد عليه الشيخ
تقي الدين السبكي في مسألتي الزيارة والطلاق، وأفرد كلا منهما بتصنيف، وليس
في ذلك ما يقتضي كفره ولا زندقته أصلاً (وكل أحد يؤخذ من قوله أو يترك إلا
صاحب هذا القبر) [1] والسعيد من عدت غلطاته، وانحصرت سقطاته، ثم إن
الظن بالشيخ تقي الدين أنه لم يصدر ذلك تهورًا وعدوانًا - حاش لله - بل لعله
لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إلى الآن بعد التروي والفحص على شيء
يقتضي كفره ولا زندقته. وإنما وقفت على ما رده على أهل البدع والأهواء أو غير
ذلك مما يظن به براءة الرجل، وعلى مرتبته في العلم والدين. وتوقير العلماء
والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس
منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا - وفي رواية - حق كبيرنا)
وكيف يجوز أن يقدم على رمي عالم بفسق أو كفر، ولم يكن ذلك فيه. انتهى
قلت: وسنذكر- إن شاء الله تعالى - قريبًا ما يكون صريحًا في تنزيهه عما
نسب إليه من التشبيه والتجسيم.
وقال قاضي القضاة عبد الله التهفتي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي، فيما كتبه
على الكتاب المذكور: إن الشيخ تقي الدين كان على ما نقل إلينا من الذين عاشروه
وما اطلعنا عليه من كلام تلميذه ابن قيم الجوزية الذي صارت تصانيفه في الآفاق
عالمًا متعنيًا، مقللاً من الدنيا، معرضًا عنها، متمكنًا من إقامة الأدلة على الخصوم
وحافظًا للسنة، عارفًا بطرقها، عارفًا بالأصلَيْن: أصول الدين وأصول الفقه،
قادرًا على الاستنباط في تخريج المعاني، لا يلومه (لعله لا تأخذه) في الله لومة
لائم، على أهل البدع: المجسمة والحلولية والمعتزلة والروافض وغيرهم. (قال)
فمن كان متصفًا بهذه الأوصاف كيف لا يلقب بشيخ الإسلام، بأي معنًى أريد
منه! ! ؟ (قال) : وإنما قام عليه بعض العلماء في مسألتي الزيارة والطلاق
وقضية من قام عليه شهوده، والمسألتان المذكورتان ليستا من أصول الأديان،
وإنما هما من فروع الشريعة التي أجمع العلماء على أن المخطئ فيها مجتهد يثاب،
لا يكفر ولا يفسق
…
إلخ ما قال.
وقال شيخ الإسلام العيني الحنفي فيما كتب على الكتاب المذكور: وما هم أي
المنكرون على ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلا صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم
صلعمة بن قلمعة، وهيان بن بيان، وهيّ بن بيّ، وضل بن ضل، وضلال بن
التلال. ومن الشائع المستفيض أن الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تيمية
من شمّ عرانين الأفاضل، ومن جمّ براهين الأماثل، (قال) : وهو الذابّ عن
الدين، طعن الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين،
وللمأثورات عن الصحابة والتابعين، فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن
نسبه إلى الزندقة فهو زنديق، وكيف ذلك؟ وقد سارت تصانيفه إلى الآفاق، وليس
فيها شيء مما يدل على الزيغ والشقاق. ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي
الزيارة والطلاق، عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب،
وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب. (قال) : ولا ريب أنه كان شيخًا لجماعة من
علماء الإسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كان كذلك، كيف لا يطلق عليه شيخ
الإسلام؛ لأن من كان شيخًا للمسلمين يكون شيخًا للإسلام.
وقال شيخ الإسلام البساطي المالكي: وأما قول من قال إنه - يعني ابن تيمية -
كافر، وإن من قال في حقه إنه شيخ الإسلام كافر - فهذه مقالة تقشعر لسماعها
الجلود، وتذوب لسماعها القلوب، ويضحك إبليس اللعين بها ويشمت، وينشرح
بها أفئدة المخالفين وتسمت، ثم يقال: كيف لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي
هذا في حقه، فما مستندك في الكلام الثاني، وكيف تصح لك هذه الكلمة المتناولة
لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة؟ وهل يمكنك أن تدعي أن الكل
اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه؟ وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببني
الأيام، والواجب أن يطلب هذا القائل، ويقال له: لم قلت؟ وما وجه ذلك؟ فإن
أتى بوجه لا يخرج به شرعًا عن العهدة بأن كان واهيًا، برح به تبريحًا يردع
أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين.اهـ
(قلت) : فتأمل - رعاك الله - كلام هؤلاء الأعلام في مدح هذا الإمام،
فكيف ينسب إلى بدعة التجسيم، أو يعاب بشيء غير ذلك أو يلام! .
(المنار)
هذا ما أورده الشيخ صفي الدين الحنفي البخاري في ترجمة شيخ
الإسلام ابن تيمية في أول كتابه: (القول الجلي في ترجمة تقي الدين ابن تيمية
الحنبلي) ويليه فصل في عقيدته التي هي عقيدة سلف الأمة: أهل السنة
والجماعة، رضي الله عنهم. وأما السيد نعمان خير الدين الآلوسي فقد جاء في
كتابة: (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) بترجمة أوسع، وأكثر نقلاً عن
كبار العلماء والحفاظ في الثناء عليه، والاعتراف له بمشيخة الإسلام.
قال بعد ترجمة بليغة ملخصة من كلام طائفة من الحفاظ والمؤرخين ما
نصه:
قال الذهبي: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد. وترجمه
في معجم شيوخه بترجمة طويلة منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر
علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًّا وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا
بالمعروف، ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته،
وخرج ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره وبرع في تفسير
القرآن، وغاص في دقائق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقاد إلى مواضع الإشكال
ميال، واستنبط منها أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من
يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل وفاق الناس في
معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، أتقن العربية أصولاً
وفروعًا. ونظر في العقليات، وعرف أفعال المتكلمين ورد عليهم، ونبه على
خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج، وأبهر براهين وأُوذي في ذات
الله من المخالفين، أخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره،
وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً
كثيرة من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا،
وعلى طاعته، وأحيا به الشام بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة
التتار، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي فلو حلفت بين الركن والمقام؛ أني
ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير: وفي رجب سنة سبع مئة وأربع، راح الشيخ تقي
الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت
هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها،
فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة،
وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه. فحُسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله
لومة لائم، ولم يبال بمن عاداه، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه
الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما
يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه اهـ.
قيل: من جملة أسباب حبسه؛ خوفهم أنه ربما يدعي ويطلب الإمارة، فلقي
عليه أعداؤه طريقًا من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك. وكتب الشيخ
كمال الدين الزملكاني: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في
مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من
العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط
الاجتهاد على وجهها.
(قلت) : ورأيت في نثر الدر الذائب في الأفراد والغرائب، من كتاب
الأشباه والنظائر النحوية للإمام السيوطي- عليه الرحمة - ما نصه: جواب سؤال
سائل عن (لو) لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد
القدوة، إمام الأئمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء
الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبدعين، ذي
العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة،
ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبي
العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن
تيمية الحراني أعلى اللهُ تعالى مناره، وشيّد من الدين أركانه:
ماذا يقول الواصفون له
…
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
…
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
…
أنواره أربت على الفجر
نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره الشيخ: كمال
الدين ابن الزملكاني:
بسم الله الرحمن الرحيم
نقلت من خط الحافظ علم الدين البرازلي قال سيدنا وشيخنا الإمام العالم
العلامة القدوة، الحافظ الزاهد، العابد الورع، إمام الأئمة، خير الأمة، مفتي
الفِرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس
المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة، ناصر السنة قامع البدعة:
تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم
بن محمد ابن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته: الحمد لله
الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا
شريك له، الباهر البرهان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس
والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن، سألت -
وفقك الله تعالى - عن معنى حرف (لو) ، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله
عنه: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه) على معناها المعروف،
وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب
في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك،
وأنه لا يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك، فأقول. اهـ بحروفه.
ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقر المترجم على ترجمته،
فإن أردته فارجع إلى الأشباه والنظائر، فإن فيه جلاء الأبصار والبصائر [2] .
وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك العلوم حظًّا، وكاد
يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في
الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل
والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على
أبناء جنسه، ولا رأت عيني مثل نفسه.
وقال ابن الوردي في تاريخه، وقد عاصره ورآه: وكانت له خبرة تامة
بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه
الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه
المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: كل
حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث. ولكن الإحاطة لله، تعالى. غير أنه
يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم
إليه. وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو
من الرد على الفلاسفة، نحوًا من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير
من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلد. وله الباع الطويل في
معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب
الأربعة. وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب
والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام (عليه) الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة
والطريقة السلفية، وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت
الجأش، له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء
والصلحاء والأمراء والتجار والكبراء ، وصار بينه وبين معاصريه واقعات مصرية
وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية واجتمع بالسلطان
محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن، ولم يهبه، وطلب منه
الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف، أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه
اهـ ملخصًا وأطال في ترجمته.
وقال العلامة الشيخ عماد الدين الواسطي في حقه، بعد ثناء طويل جميل ما
لفظه:
فوالله ثم والله، لم يُر تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية: علمًا
وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا وقيامًا، في حق الله تعالى عند انتهاك
حرماته. أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، أنفذهم وأعلاهم في انتصار
الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه
وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله
وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ.
ونقل في الشذرات عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ
ابن تيمية بعد اجتماعه به، كيف رأيته؟ قال: (رأيت رجلاً سائر العلوم بين
عينيه، يأخذ ما شاء منها، ويترك ما شاء) فقيل له لم تتناظران؟ قال: (لأنه
يحب الكلام وأحب السكوت) .
وقال ابن مفلح في طبقاته: كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي
في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره، وزخارة بحره،
وتوسعته في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك
كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر
من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة
ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من
ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل في أزمان اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت
على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له القاضي الحنفي ونصره،
وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ
نصر بن المنجي؛ لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه
على ذلك، فما أعجبه؛ لكونه بالغ في الحط على ابن عربي وتكفيره، فصار هو
يحط على ابن تيمية، ويغري (به) بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في
محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين بن الحريري
انتصر للشيخ ابن تيمية، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب
به في خطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها (إنه منذ ثلاثمائة ما رأى الناس
مثله) اهـ.
ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا
أبو حيان المفسر، فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر
أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
…
داعٍ إلى الله فردٌ ما له وزر
على محياه من سيما الأُلى صحبوا
…
خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حِبرًا
…
بحر تَقاذفُ من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تيمٍ إذ مضت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
…
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ
…
هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد ، وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي ، ثم دار
بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره
أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر (ويقال) : إن ابن
تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في الكتاب في
ثمانين موضعًا، ما تفهمها أنت ، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في تفسيره
البحر بكل سوء، وكذا في مختصره النهر اهـ.
وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا
علية بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات
وتجنبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريق السلف الصالح، وأنه لم يتزوج حتى
مات، وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة
أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري
الصوت. وقد ذكر نبذة من اختباراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مائة
وخمس وتسعين في طبقاته، وفصل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه.
وقد توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين سَحَر ليلة الاثنين، عاشر ذي القعدة
الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا لم
يعهد بدمشق مثله، وبكى الناس بكاء شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام
على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن صلوا عليه مرارًا. وحزر من حضر
جنازته بمئتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا، وختمت له ختمات كثيرة،
ورثي بقصائد بليغة.
(المنار)
بعد أن أورد المؤلف هنا مرثية الشيخ عمر بن الوردي، إحدى تلك المراثي
التي يشنع فيها على من آذوه وحبسوه، قال:
(قلت) : ومازال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يبتلون في الله- تعالى-
ويصبرون، وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السابقة
يقتلون ويحرقون، ويُنْشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على دينه، ولولا كراهة
التطويل لذكرت من ذلك ما يطول، وقد سُمَّ أبو بكر وقتل عمر وعثمان وعلي
وسُمَّ الحسن وقتل الحسين وابن الزبير وصلب خبيب بن عدي. وقتل الحجاج عبد
الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقتل زيد بن علي. وأما من
ضرب من كبار العلماء فكثيرون منهم عبد الرحمن بن أبي ليلى ضربه الحجاج
أربعمائة سوط ثم قتله، وسعيد بن المسيب ضربه عبد الملك بن مروان مائة
سوط، وصب عليه جرة ماء في يوم شات، وألبس جبة صوف، وخبيب بن عبد
الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط؛ وذلك أنه حدث
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً،
اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً) فكان عمر إذا قيل (أبشر) قال:
(كيف بخبيب على الطريق) وأبو عمرو بن العلاء ضربه بنو أمية خمسمائة
سوط، والإمام موسى الكاظم سجنه هارون حتى مات، والإمام أبو حنيفة توفي في
السجن بعد أن ضرب وقيل أوُجِرَ سمًّا، والإمام مالك بن أنس ضربه المنصور
أيضًا سبعين سوطًا في يمين المكره، وكان مالك يقول لا يلزمه اليمين. والإمام
أحمد امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس، وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء
الأئمة أسوة. ولو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته
ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مللت - ملول، ويكفي من القلادة ما
أحاط بالجيد.
(المنار)
وعقد بعد هذا فصلاً في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين
المتأخرين عليه. فنقل عن صوفي الفقهاء وفقيه الصوفية الشيخ إبراهيم الكوراني
المدني الشافعي وعن علامة العراق الشيخ علي السويدي البغدادي الشافعي، وعن
والده السيد محمد الآلوسي المفتي، وعن عالم بلد الله الحرام المنلا علي الهروي،
وعن أمير العلماء وعالم الأمراء أبي الطيب حسن صديق خان الحسيني البخاري.
ثم عقد فصولاً أخرى ذكر فيها كل ما قاله العلامة ابن حجر الهيتمي، وبيَّن الحق
فيه، فليراجعه من شاء. فمن اشتبه في مسألة معينة من المسائل التي انتقدت على
ابن تيمية، ولم يتمكن من مراجعتها في كتاب جلاء العينين، أو راجعها وبقي في
نفسه شبهة منها، فله أن يسألنا عنها إن أحب. وإننا كنا نعتقد أن ابن تيمية وصل
إلى درجة الاجتهاد المطلق، قبل أن نطلع على قول العلماء في ذلك، بل نعتقد أنه
لا نظير له في علماء الإسلام قط إلا تلميذه ووارث علومه ابن قيم الجوزية،
رحمهما الله تعالى ونفع المسلمين بعلومهما.
_________
(1)
حكاية لكلمة الإمام مالك التي كان يقولها في الحرم المدني، ويشير إلى القبر الشريف.
(2)
وفي هامش الكتاب عند هذه العلامة ما نصه: وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور
…
نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة وكذا غيرهما ممن سلمت له الإمامة.
الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين في سنغافورة
الحجاز بعد الدستور [*]
بُعِثَ الدستور بعد أن قُبر، بذلك كذَّب الله أعداء الإسلام الزاعمين أن
الشورى غير ملائمة لروح الإسلام، فهل سبق أن رأوا أمة قد أكل عليها الاستبداد
وشرب زمنًا طويلاً، فما هي إلا عشيةً أو ضحاها حتى استحالت الصهباء، فأصبح
أفرادها بحمد الله إخوانًا، لا فضل لأحمرعلى أسود إلا بتقوى الله، قد ألف الله بين
قلوبهم، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (لأنفال: 63) .
كذَّب الله بقيام الدستور زَعْمَ أولئك، كما أيد به قول القائلين بسداد نية مولانا
السلطان وفائق حكمته، ووافر عقله، وقوة إدراكه - زاده الله توفيقًا - إذ لم يكن
من أحد من قادة الأمم ما كان منه، فله الشكر والدعاء؛ إذ صان كيان الأمة
ودماءها وأموالها وشرفها، فالمملكة مَدِينة له بما فعل.
وقد شرق الأعداء بما رأوا من اتحاد عناصر المملكة، ولم يرُق في أعينهم
فقاموا بما قاموا به، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، أبدت ظبابها النافقاء
وما تخفي صدورهم أكبر. قل موتوا بغيظكم.
ولكن قل لي أين هم أصدقاء الإسلام؟ أين ما قاموا به؟ أين مواساتهم في
هذه الأزمة، أين من مد لنا يده في طور انتقالنا المخيف؟ هل تحس منهم من أحد
أو تسمع لهم ركزًا؟
شاهت الوجوه، وقبح اللكع ومن يرجوه. نعم قد سمعنا عن الإنكليز جعجعة
ولم نر طحنًا، فشكرًا لهم على ذلك، إن لم يك استدراجًا ومكرًا.
ولقد كانت نعمة الدستور عامة على كل الممالك العثمانية، وكان حظ الحجاز
منها غير قليل، لو لم يكن غير تطهيره من ذلك الطاغية وأبالسته، فكيف وغير
ذلك كثير؟ ولكن الحجاز لكونه أول ولاية عثمانية، وهو قبلة المسلمين كلهم،
ومحل أحق بلاد الله بالإصلاح والمصلحين، وإصلاحه يفيد الدولة فائدة عظمى،
وهو أوجب عليها من إصلاح غيره بحكم الشرع والعقل. لست أحتاج إلى إقامة
الدليل الشرعي لبداهته. ولكني أشير إلى العقلي السياسي. وذلك أن الحجاز هو
المكان الذي تحشر فيه وفود المسلمين، وجلهم في هذه العصور محكوم بالأجانب،
وقل من يقصد منهم من بلاد المسلمين غير الحجاز، فإذا لقوا فيه أصناف الشقاء
وأنواع التعاسة مع ما يعلمون له من المكانة الدينية والسياسية، وكونه الأنموذج
المعروض لوفود كل الأمم، وكون السلطان - حفظه الله - ينعت كل جمعة على
كل منبر في الدنيا؛ افتخارًا بخادم الحرمين الشريفين وحاميهما، فإذا كانت حاله
كما هي الآن، فكيف يكون الحكم على باقي المملكة وعلى ساستها؟
لو قلت: لا يجد أعداء الدولة معولاً يهدمون به نفوذها في المسلمين، وصابونًا
يغسلون به حبها من قلوب الأمة، وحجة يقيمونها للأمم على أن الترك أعداء
الإنسانية والإسلام والعرب خصوصًا - أكبر وأوضح من الحال التي كان بها
الحجاز، ونرجو أن لا تعود إلى ما يقاربها - لو قلت هذا، لم يفند قولي عاقل عالم
منصف.
إن الإصلاحات التي يجب إجراؤها في الحجاز كثيرة جدًّا، ولندع ما كان
منها فنيًّا أو قانونيًّا لمن هو أقرب عهدًا منا بها، وأوسع اطلاعًا منا. ولكنا نلمح
إلى شيء قليل مما لا يجوز السكوت عنه:
إن الحرم الشريف وهو المسجد الوحيد المشترك بين أكثر من ثلاث مائة
وأربعين مليونًا من البشر، على حال يتأفف منها العقل، وقد أحاطت به بيوت
يسمونها المدارس، يسكنها ألوف من الناس، وكلها فيها كنف (مراحيض) ذات
بلاليع في الأرض تختزن بها الأقذار، فإذا سالت السيول امتلأ الحرم بتلك
النجاسات، وبقي عفنًا عدة أسابيع، وقد تكرر وقوع ذلك. وإذا نزلت الأمطار
تشربتها الأرض فيتصاعد حينئذ منها بخار منتن من كل أرض المسجد، فلا يقدر
أحد أن يضع جبهته للسجود إلا كاتمًا نفسه كأنه واضع أنفه على ثقب كنيف مسدود
ولو كان ثخن سجادته شبرًا! ! هذا أمر عرفته بنفسي، ويعرفه كل من أقام هناك،
مع أن تلك المدارس (البيوت) واجب إزالتها؛ إذ هي قائمة على أرض لا يجوز
تملكها ألبتة. ولكن أقامها الجور، ودعمتها الرشوة!
ثم إن المياه التي تشربها الأرض تنحدر إلى المنخفضات، ولا ريب بأنه
يصيب بئر زمزم حظ من تلك النجاسات السائلة؛ فلذلك صار ماؤها كثير الديدان
والجراثيم الضارة! فإذا كنا لا نقوم بتطهير ما يقارب تلك البئر المقدسة، ولا نبعد
عنها السوائل النجسة القذرة السامة، ولا نعيد الحرم كما كان في العصور
الصالحة كامل النظافة؛ إذ كانت مواضع الأقذار بعيدة عنه، وعلى ظهر الأرض
فأي حجة لنا على الأجانب، إذا حكموا بإراقة ما تزوده الحجاج من ذلك الماء
المبارك كما تراق المستقذرات! ومنعوا إدخاله إلى بلادهم حرصًا على حفظ
الصحة! ! !
إننا لو قمنا بالنظافة المطلوبة التي هي من الإيمان، وطهرنا ما جاور البيت
من الأنجاس والأدران، لكان لنا من ماء زمزم المبارك مورد عظيم، ولوجدنا مئات
الشهادات من نطس الأطباء فيما له من الخواص العجيبة الحسية، فضلاً عن
الخواص المعنوية، وإذ ذاك يمكننا أن نبيع منه في أقطار العالم ملايين من
القوارير.
فمتى نرى تلك الأراضي المغتصبة من المسجد الحرام، ومن حواشي
المسعى قد أعيدت؟ ولو أرادت الحكومة أن تبذل لأصحابها الظالمين بدل تلك
البنايات الغير محترمة، فإنها تجد من كرام المسلمين تلبية تسرها ببذل الأموال؛
حبًّا في تطهير الحرم الطاهر من آثار الاستبداد والجور.
ثم إنه لا بد من إنارة الحرم الشريف بالنور الكهربائي؛ لوفور ضوئه وحسنه
وبهائه، وبذلك يتوافر أكثر من نصف ما يصرف الآن عبثًا للإسراج بتلك القناديل
الوسخة التي لا يتجاوز نورها زجاجها! ويستغنى عن جيوش السرَّاجين. ويمكنهم
استخدام تلك الآلات نهارًا في جلب الماء من زمزم، وإجرائه في مواسير إلى
خارج المسجد، فيسلم من بلل قِرَب السقَّائين المخرقة ونحو ذلك.
ولا غناء عن هدم مقامات الأئمة؛ لأنها مبتدعة، فيكتفى بإمام واحد يرضى
فضله وعلمه ودينه، ولينزه البيت وصحنه من خدمة الأغوات الذين هم تركة
العصور المظلمة الظالمة، وخدمة الجبابرة من الملوك الذين لجهلهم بالدين أحبوا
أن يجعلوا خدمة الكعبة وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يستخدمون
في بيوتهم! وهيهات هيهات، ويمكن أن يوظف بدلهم نحو ثلث عددهم من الأخيار
الأتقياء الحَسَنِي السيرة، المعروفين لدى العدول، ولا شك بأنه يكفي لمن ذكرنا
قليل مما يذهب ضياعًا مع أولئك الأغوات.
إنني كنت في بعض جهات أوربا، فزعم بعضهم أن الخصاء مما يأمر به
الإسلام، وأنه من الحتم عند المسلمين أن لا يخدم السلطان، ولا يعمل في الكعبة،
ولا يتولى سدانة الحجرة المنيفة إلا الخصيان! وقد أفدت محدثي بتحريم الشريعة
المحمدية للخصاء، وبراءتها من تلك البربرية، فلم يقتنع، ولم تكن له حجة إلا
هذه النقط المحزنة المسيئة سمعة الإسلام، ولعمر الحق إن التغالي في أثمانهم لمما
يغري النخاسين الطماعين، فالواجب حسم الداء من أصله.
وأرى أن يمنع من رمي الحبوب للحمام، حتى تضطر إلى مفارقة الحرم
بحدوده وهناك تقنص، فلقد جلبت كثرتها أذية للمسلمين، وتنجيسًا وتوسيخًا للمسجد
ونشأ عن ذرقها الكثير أمراض ضارة، ولكثرة الحمام يسهل اقتناصه على الهررة
فتأكل بعضه، وتدع البعض يتعفن فتنبعث منه أمراض كثيرة إلى نحو ذلك.
ومن الواجب طرد الكلاب من الحرم كله، ثم تسميمها بعد ذلك، فلقد صح
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها إلا ما استثني، والموجود بمكة جله من
المرضى المجرّحة، فيقع عليها الذباب الكثير، فينقل عنها مواد التلقيح لجملة
أمراض إلى بني الإنسان صغارًا وكبارًا.
ويمكن أن يصرف لطلبة العلم الشريف جميع ما يصرف الآن على الحمام
والكلاب، فإن ذلك خير وأبقى، ونحن نرغب إلى مشايخنا الأجلاء أن لا يجعلونا
مضغة في الأفواه، وهزؤًا لدى العقلاء، وأن لا يلصقوا بديننا النقي ما برأه الله
منه من النقائص والسفاسف، وعلى الله الاعتماد وحده.
هذه أمور نلفت إليها أنظار رجال الدولة، وأعضاء مجلسي الأمة والشورى
ومولانا الشريف الحسين وصاحب الدولة والي الحجاز، كاظم باشا ليعملوا ما يرونه
أقرب للتقوى.
_________
(*) لأحد فضلاء الإسلام في سنغافوره (س0س0ي) .
الكاتب: حافظ إبراهيم
العام الهجري الجديد
(سنة 1327)[*]
أطلَّ على الأكوان والخلق تنظر
…
هلال رآه المسلمون فكبروا
تجلى لهم في صورة زاد حسنها
…
على الدهر حسنًا أنها تتكرَّر
فبشَّرَهم من وجهه وجبينه
…
وغُرته والناظرَين مبشر
وأذكرهم يومًا أغر محجلاً
…
به توّج التاريخ والسعد مسفر
وهاجر فيه خير داعٍ إلى الهدى
…
يحُف به من قوة الله عسكر
يماشيه جبريل وتسعى وراءه
…
ملائكة ترعى خطاه وتخفر
بيسراه برهان من الله ساطع
…
هدى وبيمناه الكتاب المطهر
فكان على أبواب مكة ركبه
…
وفي يثرب أنواره تتفجر
مضى العام ميمون الشهور مباركًا
…
تعدد آثار له وتسطر
مضى غير مذموم فإن يذكروا له
…
هناتٍ فطبع الدهر يصفو ويكدر
وإن قيل أودى بالألوف أجابهم
…
مجيب لقد أحيا الملايين فانظروا
إذا قيس إحسان امرئ بإساءة
…
فأربى عليها فالإساءة تغفر
ففيه أفاق النائمون وقد أتت
…
عليهم كأهل الكهف في النوم أعصر
وفي عالم الإسلام في كل بقعة
…
له أثر باق وذكر معطر
سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى وما بدلوا في المشرقين وغيروا
وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور)
…
فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور
تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجى
…
سيوفًا وجدُّوا جدَّهم وتدبروا
فسادوا وشادوا للهلال منازلاً
…
على هامها سعد الكواكب ينثر
تجلى بها عبد الحميد بوجهه
…
على شعبه والشاه خزيان ينظر
سلام على عبد الحميد وجيشه
…
وأمته ما قام في الشرق منبر
سلوا الفرس عن ذكرى أياديه عندهم
…
فقد كان فيه الفرس عميًا فأبصروا
جلا لهم وجه الحياة فشاقهم
…
فباتوا على أبوابها وتجمهروا
ينادون: أن مني علينا بنظرة
…
وأحيي قلوبًا أوشكت تنفطر
كلانا مشوق والسبيل ممهد
…
إلى الوصل لولا ذلك المتغشمر
أطلّي علينا لا تخافي فإننا
…
بسرك أوفى منه حولاً وأقدر
سلام عليكم أمة الفرس إنكم
…
خليقون إن تحيوا كرامًا وتفخروا
ولا أقرئ الشاه السلام فإنه
…
يريق دماء المصلحين ويهدر
وفيه هوى عبد العزيز وعرشه
…
وأخنى عليه الدهر والأمر مدبر
ولا عجب إن ثُل عرش مملك
…
قوائمه عود ودف ومزهر! !
فألقى إلى عبد الحفيظ بتاجه
…
ومرَّ على درَّاجة يتعثر!
وقام بأمر المسلمين موفق
…
على عهده مُرَّاكش تتحضر
وفي دولة الأفغان كانت شهوره
…
وأيامه بالسعد واليمن تزهر
أقام بها والعود ريان أخضر
…
وفارقها والعود فينان مثمر
وعوَّذها بالله من شر طامع
…
إذا ما رمى (إدوارد) أو راش قيصر
وفيه نمت في الهند للعلم نهضة
…
أرى تحتها سرًّا خفيًّا سيظهر
فتجري إلى العلياء والمجد شوطها
…
ويخصب فيها كل جدب وينضر
وفيه بدت في أفق (جاوة) لمعة
…
أضاءت لأهليها السبيل فبكروا
ويا ليته أولى الجزائر منة
…
تفك بها تلك القيود وتكسر
وفي تونس الخضراء يا ليته بنى
…
له أثرًا في لوحة الدهر يذكر
وفيه سرت في مصر روح جديدة
…
مباركة من غيرة تتسعر
خبت زمنا حتى توهمت أنها
…
تجافت عن الإبراء لولا كرومر
تصدى فأوراها وهيهات أن يرى
…
سبيلاً إلى إخمادها وهي تزفر
مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى
…
ففي مصر أيقاظ على مصر تسهر
وقد كان (مورفين) الدهاء مخدرًا
…
فأصبح في أعصابنا يتخدر
شعرنا بحاجات الحياة فإن ونت
…
عزائمنا عن نيلها كيف نعذر
شعرنا وأحسسنا وباتت نفوسنا
…
من العيش إلا في ذرى العز تسخر
إذا الله أحيا أمة لن يردها
…
إلى الموت قهار ولا متجبر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
…
إلى قادة تبني وشعب يعمر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
…
إلى مصلح يدعو وداعٍ يذكر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
…
إلى حكمة تملي وكف تحرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
…
إلى عالم يدري وعلم يقرر
رجال الغد المأمول إنا بحاجة
…
إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا
رجال الغد المأمول لا تتركوا غدًا
…
يمر مرور الأمس والعيش أغبر
رجال الغد المأمول إن بلادكم
…
تناشدكم بالله أن تتذكروا
عليكم حقوق للبلاد أجلها
…
تعهد روض العلم فالروض مقفر
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم
…
يدًا تبتني مجدًا ورأسًا يفكر
فكونوا رجالاً عاملين أعزة
…
وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا
…
تبيتوا على يأس ولا تتضجروا
أعدوا له صدر المكان فإنني
…
أراه على أبوابكم يتخطر
ولا تنطقوا إلا صوابًا فإنني
…
أخاف عليكم أن يقال تهوروا
فما ضاع حق لم ينم عنه أهله
…
وما ناله في العالمين مقصر
لقد ظفر الأتراك عدلاً بسوءلهم
…
ونحن علي الآثار لا شك نظفر
هم لهم العام القديم مقدر
…
ونحن لنا العام الجديد مقدر
ثقوا بالأمير القائم اليوم إنه
…
بكم وبما ترجون أدرى وأخبر
فلا زال محروس الأريكة جالسًا
…
على عرش وادي النيل ينهى ويأمر
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد حافظ إبراهيم
_________
(*) احتفل المصريون بدخول العام الهجري الجديد، وقررت الحكومة جعل أول يوم منه عيدًا رسميًّا تقفل فيه دواوينها وتعطل، ولقد نظم الشعراء القصائد في ذلك، فآثرنا أن نثبت منها هذه القصيدة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]
أيها المبعوثون الأفندية:
إني أصبحت في الحقيقة ممنونًا؛ لتناولي الطعام هذه الليلة مع سائر وكلاء
أمتي العثمانية ورعيتي الشاهانية، فكأنني مع جميع أفراد أمتي العزيزة! ! زاد
حضرة الحق تعالى عددها وسعادة حالها. إن هذه الليلة لمباركة وسعيدة،
وأظن أنها أول ليلة من نوعها في تاريخ دولتنا العلية؛ ولذلك فإني أبارك عليها،
وأسال الله أن يشرفنا جميعًا بدوام وقوع أمثالها.
إن هذا الاجتماع المسعود، هو مبدأ دليل الآثار الفياضة التي منحها القانون
الأساسي لدولتنا وأمتنا ووطننا، والتي سيمنحها في المستقبل إلى ما شاء الله تعالى
فهو إذًا جدير بالتبجيل.
أيها المبعوثون الأفندية:
كونوا على علم بأن الله هو حامي حقوق السلطنة والمملكة والدولة أولاً، ثم
الأمة ومجلس نوابها! لذلك كانت وظيفتكم هامة ومقدسة، غاية مطلوبي أن تجعلوا
سعيكم وغيرتكم وقصدكم ونيتكم بنسبة تلك المكانة وهذه القدسية. وإني أؤكد لكم
بأني نصَّبتُ نفسي بعناية الكريم؛ للمحافظة على أحكام القانون الأساسي الضامن
والكافل لهذه الحقوق المقدسة أؤكد لكم بأنه لكم إذا وجد من يخالفه، فإني خصم
وأول عدو له، أيا كان بصفتي خليفتكم وسلطانكم.
نضرع إلى الله - تعالى - أن يكون معينًا وظهيرًا لنا في سعينا وغيرتنا في
سبيل دولتنا وأمتنا وسلامة وطننا المقدس [1] .
_________
(*) أدب السلطان للمبعوثين مأدبة حضرها معظم المبعوثين، وتخلف فريق منهم عن الحضور،
وكانت أعدت خطبة سلطانية للترحيب بالمبعوثين لإزالة ذلك الأثر السيئ الذي علق بأذهانهم من
خطابه في افتتاح مجلسهم (راجع ص 880 م11) .
(1)
بعد أن أتم جواد بك رئيس كتاب المابين هذه الخطبة، التفت السلطان إلى أحمد بك رضا رئيس
المبعوثين قائلاً (إنني لا أذكر دقيقة واحدة من عمري كنت سعيدًا فيها بهذا المقدار!) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان
إن التاريخ الذي ينقل الوقائع الماضية للخلف، لم يسجل إلى الآن في حياتنا
السياسة يومًا عظيمًا بهذا المقدار. إن السلطان والأمة اللذين كان يتحسر أحدهما
على رؤية الآخر من زمن طويل، يأكلان اليوم على مائدة واحدة، ويشربان من
إناء واحد! ولم يعرف مثل هذا الائتلاف والاتحاد إلا في عصر السعادة [1] .
مرت ثلاثة عشر قرنًا والشرق محروم من رؤية السلطان مع الأمة وجودًا
واحدًا. إن العرب قد أظهروا للوجود مدينة عظيمة، وكذلك العثمانيون سيكونون
متمدنين قلبًا وقالبًا مع سلطانهم، وبذلك يكونون موفقين لإعلاء شأن الوطن،
والتوفر على حفظه وصيانته، ويكسبون موقعًا ممتازًا في عالم المدينة. ونواب
الأمة يعرضون لذاتكم السلطانية تعظيمهم واحترامهم؛ لقاء ما نالوه في هذه الليلة
من جلالتكم من الإعزاز والالتفات.
_________
(1)
يريد بذلك عصر النبوة وزمن الخلفاء الراشدين؛ الذي كان الخليفة فيه لا ميزة له على أحد من أفراد الأمة ذلك العصر الذي كان يجرأ فيه رجل من آحاد اليهود: أن يمد يده إلى النبي صلي الله عليه وسلم ممسكًا بثوبه، مخاطبًا إياه بقوله:(إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل) إنه لعصر جدير بأن يسمى عصر السعادة.
الكاتب: حسين وصفي رضا
نهضة الأزهريين
عسير على المفكر أن يحيط علمًا بكل ما يقع تحت نظره، وعزيز عليه أن
يجهل أسباب أمر واقع؛ ولهذا كان الفكر كثير الدأب والتجوال، لا يقر له قرار
حتى يكون له إدراك صحيح لما يرى ويشاهد، وإذ ذاك يرى أنه إذا حكم على شيء
كان ذلك الحكم مدعمًا بالاستقراء، ناتجًا عن مقدمات لا تنتج غيره.
إن فيما يتفق عليه جمهور المفكرين كثيرًا مما يكون موضعًا للشبهة، والأفكار
فيه مسارح ومذاهب؛ لطموس معالمه وخفاء كنهه؛ ولذلك لم يتحقق الإجماع على
ما لا يعد من البديهيات إلا فيما ندر وقل، وإن مما اتفق عليه العلماء استحالة وقوف
عمل ما عند حد محدود، لا يتنزل إلى هبوط، ولا يتوقل إلى صعود.
لا يبعد أن يذهب قصار النظر إلى إمكانية ذلك، وإنني لا أوجه كلامًا إلى
هؤلاء، بل أخاطب به أرباب العقل، أريد بهم أولئك الذين لا يهملون أمر الفكر،
بل يستعملونه فيما خلق له، ولكل وجهة ومنحى.
تأمل في أي عمل من الأعمال تأمُّل نافذ البصر ثاقب البصيرة، ثم ارجع إلى
نفسك، وأنا ضمين بأنك تحكم: إما بترقيه وإما بتدليه، ولا وسط بينهما.
كل هذا مما أثبتته المشاهدات، واستفاضت بتفصيله النظريات، حتى بات من
المقررات التي لا نزاع فيها بين من يعقل ويفكر؛ ولذلك كان في حال الأزهر وبقائه
في نقطة محدودة لا يتجاوزها قيد شبر لمن ينظر إليه بادي الرأي، حيرة للعقول
ومضلة للإفهام! !
أفرغ ذلك العاقل الحكيم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جهده في سبيل إصلاح
الأزهر، وقضى دائبًا على ذلك سنين لو أمضاها في التأليف والكتابة لملأ الخزائن
حكمة وعرفانًا.
صاح بالأزهريين صيحة صُمَّت منها آذان وفتحت بصائر، فأصاخ قوم لقوله
وثار آخرون ينبزونه باللقب، ويعرقلون مساعيه العظيمة، فريق منهم عانده عن
غي وجهل، وآخرون كانوا يمنون ويوعدون، وكثيرون منهم حملوا على ذلك وهم
كارهون! ! ولكن الإمام كان في أول الأمر مؤيدًا من الأمير، فلم تؤثر في عمله
صيحاتهم، ولم تصدف به سعة سعاياتهم، فأسس للأزهر مجلس إدارة على نمط
ديمقراطي، لا يدع لكبير نفوذًا فيه، ولا لأمير سلطة عليه، ونفخ روح الاستقلال
في رجاله، بما كان يريهم من جلائل أعماله، وجلس من الطلاب مجلس مفيض
الحكمة على العقول، ومربي الأخلاق والنفوس.
ولم تكن العقبات والعواثير الأولى صادة له عما انتدب له وصمم عليه، بل
كان لا يأبه لها - وذلك شأن أرباب النفوس الكبيرة - إلى أن ظهرت له بشكل جديد
يمدها نفوذ قوي، ويؤيدها مقام عَلِيٌّ، فتنكر لها كما تنكرت له، ووثبها حينًا كما
واثبته، حتى كانت تلك الوقفة المشهورة للأمير، وفيها نطق بما كان أكنَّه، وأظهر
ما أخفاه وأجنَّه، قال:
(ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولكن من
الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين،
ويكثرون لذلك من أسباب القلاقل، حتى إنه لما بدا شيء من بعض المغاربة
المجاورين فيه عند إسكانهم في المحال التي خصصت لهم في الأروقة التي عمرت
حديثًا على نفقة ديوان الأوقاف، كان من أهل الأزهر نفسه من يهددهم بالعساكر،
ويتوعدهم بالنفي، ويستفز نفوسهم بمثل ذلك للقيل والقال، والاضطراب والهياج،
إلى أن قال:
وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف
والشغب بعيدًا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة
عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء) .
نطق الأمير بخطبته تلك، ففهم الإمام من بواطنها أكثر مما فهم الناس من
ظواهرها، فاستيقن أن العراقيل التي تقف في سبيله إن لم تقدر على زحزحته عن
مكانه، فإنها كفيلة بتعطيل عمله وإصلاحه، فخرج من حضرة الأمير والأسف
مشتمل على نفسه، ورأى أن الخروج من مكان أراد أن يجعله كعبة للإصلاح،
فحيل بينه وبين ما يريد أصبح واجبًا محتمًا، فاستقال من إدارة الأزهر هو
وصديقه العامل الشيخ عبد الكريم سلمان، ولقد كان لتركهما الأزهر اضطراب
وحزن، شاركت مصر فيه سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الرجاء بالإصلاح
الإسلامي كان معقودًا بهذين الرجلين الزعيمين به ثم مضى الإمام إلى ربه ولسانه
يتلجلج بقوله:
ولكنه دين أردت صلاحه
…
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
استحوذ اليأس على النفوس من إصلاح الأزهر بعد ذلك، وحكم الناس بأنه
يصير طللاً دارسًا؛ لأن طريقين يسير الناس فيهما في هذه الدنيا: فإما فناء وإما
ارتقاء، ولا ثالث لهما، ولا وسط بينهما، كما مر من قبل، وأجمع الكثيرون على
أن الأزهر سائر في الطريق الأولى، وصادف عن الأخرى، وكان أناس في حيرة
من أمر الأزهر، ظانين أنه واقف ساكن لا يسير إلى تدلٍّ ولا إلى رقيٍّ! ! وهذا هو
المحال بعينه ، وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يستحيل أن يبقى الأزهر في هذا
العصر على ما هو عليه، فإن لم يعمر ويرتقِ فلا بد أن يخرب ويزول.
رأى الأمير بعد ذلك أن يصرف عنايته في سبيل إصلاح الأزهر، وتغير رأيه
في حظ الحكومة منه، وإدخال العلوم الجديدة عليه، حتى أصبح يراها من الفروض
المحتمة، فألف له مجلسًا عاليًا هو رئيسه في بعض الأحيان، فقرر المجلس وضع
نظام جديد للأزهر، ودأب أعضاؤه يجمعون نظاميات المدارس الأميرية، وما كان
وضعه المرحوم الأستاذ الإمام، ولخصوا من كل ذلك نظامًا جديدًا وضعوه ليسير
عليه الأزهر، فكان من عيوبه الكثيرة أن الأساتذة أنفسهم لا يستطيعون السير عليه،
فقد وضعوا فيه علومًا جديدة أوجبوا على الطلاب ممارستها، وأكثروا فيه من
العلوم والفنون التي يستحيل على طالب لم يتوفر على تحصيلها من قبل أن يلم بها،
وحتموا على من أوشكوا أن ينتهوا من الامتحان تأدية الامتحان فيها، مع علمهم بأن
هذا من الإرهاق الذي لا يستطاع حمله، فإن الطالب الذي بلغ الثلاثين أو ما فوقها،
يعسر عليه أن يرجع إلى مدارسة كتب السنة الأولى وبينه وبين الامتحان سنة أو
سنتان! ! على أنه لا يوجد من الأساتذة من يحسن تدريسها، بل لا يوجد من ألم بها
أو زاولها! .
سألني أستاذ عهد إليه تدريس تاريخ آداب اللغة، ماذا أفضل من التواريخ
لإقرائها؟ ابن خلكان أم ابن الأثير! ! ! وجاءني أستاذ آخر يسألني ما هي
المحاضرات؟ ! وربما كان السائلون لغيري أكثر على أنهم يسألون عن موضوعات
ليست غريبة عنهم، فما بالك بعلوم الطبيعة والرياضة ونحوهما؟
جاء البرنامج الذي وضعوه حاويًا أكثر من عشرين فنًّا، ما بين قديم وجديد،
وأوجبوا على طلاب السنة الثانية عشرة أن يمتحنوا فيها، فكأنهم بهذا فرضوا عليهم
أن يعودوا إلى السنة الأولى! ووزعوا العلوم على من لا يحفظ حتى أسماءها، فمن
ذلك أنهم فرضوا على ضرير أن يقوم بتعليم الإملاء! وأرادوا على تدريس الرياضة
من لا يحسن القواعد الأربع! وهكذا كان توزيع سائر العلوم على المدرسين، فكانوا
كلما توغلوا في تطبيق النظام ازداد التهويش والاضطراب.
رأى الطلاب أنهم مسوقون في طريق غير معبدة ونهج غير سوي، فاستيقنوا
أن النهاية ستكون شرًّا من البداية، وكان كثيرون منهم ممن حضروا دروس الأستاذ
الإمام عرفوا منها أن للإنسان أملاً في هذه الدنيا يسعى إليه، وغاية يقصدها بعلمه
وعمله، ورأوا أنفسهم أنهم ليسوا من ذلك في عير ولا نفير، فاضطربت أفئدتهم
وحزنت نفوسهم.
أطلوا على مستقبل مظلم، مسبوق بالنكد والإرهاق، ورأوا الأهوال تصرفهم
وبؤس العيش يؤذيهم، فهبوا من رقدتهم، واستيقظوا من غفوتهم، ونهضوا نهضة
من نفخت فيه نسمة من الحياة، كانت ساكنة ولا محرك لها، فحركتها حرارة هذا
النظام وبرودة تنفيذه من جهة، فصارت ريحًا عاصفةً.
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
من ذا الذي كان يظن أن طلاب الأزهر سيخرجون من الأزهر بقضهم
وقضيضهم وهم بضعة آلاف؛ ليعلنوا للملأ أن ما هم فيه لا يرضى به من كان
إنسانًا، وإن ما أوتوا من النظام الجديد إنما هو نتيجة أفكار تستطيع أن تحشر
المؤتلف والمختلف معًا؛ ولكنها لا تحسن النظام، بل لا تعرف طرقه؟
خرج الطلاب من أزهرهم حذر ما أريدوا عليه؛ وابتغاء الوصول إلى خير
منه، فطوفوا في الشوارع، وذهبوا إلى الجزيرة فخطبوا، وكان مظهرهم من أجمل
ما تقع عليه العين، وكان أحسن ما هم فيه نظامهم وأناتهم، فقد كانت صفوفهم
متوازنة، وأبصارهم خاشعة، تأدبًا بأدب الدين، وتخلقًا بأخلاق حملة العلم.
سُرَّ الناس بهذا المظهر الجميل أو المظاهرة كما يقول الكتاب، وارتاحت
نفوسهم إلى الأزهريين، بعد أن حكموا عليهم بالموت الزؤام. ولكن القيمين عليهم
من المدرسين والمفتشين ريعوا وغضبوا، وصوروا الحال للأمير بعكس ما وقع،
فأوهموه أن فريقًا أو أفرادًا حقيرين (وكلمتهم الحقيقية: هلافيت!) ، قاموا
يصخبون ويصيحون، وأن تأديبهم من السهولة بمكان، فلم يحفل الأمير نداءهم، ولم
يستجب لقولهم. ولكن ظهر بعد ذلك غشهم لأنفسهم وللأمير، ورأوا من اتحاد
الأزهريين وصدق عزيمتهم، أكثر مما عندهم من القسوة والصلف، وأن الأمر واقع
ما له من دافع، فلم يزدهم ذلك إلا تشددًا وعنتًا، ظنًّا منهم أن الشدة تفرق جمعهم،
وتحل عرى اتحادهم، فجاؤهم برجال الشرطة وركبانها، فأحاطوا بالأزهر من كل
جهة، وسدوا من دون طلابه كل منفذ، حتى إن فريقًا منهم لم يرض بما دون
التحرش بقاله وأعماله، فأين من هذا تهديد المغاربة الذي عده الأمير بدعًا؟ ولكنهم
ألفوا الطلاب مدرعين بالأناة والصبر، معتصمين بحبوة التوءدة والسكينة، فما
استطاعوا حملهم على ما يكره من مثلهم، ولا إرادتهم على غير ما أرادوا أنفسهم
عليه.
لم تقف الحكومة موقف الحكمة إمام حركة الأزهريين، بل وقفت شاخصة
ببصرها؛ كمن تعرض أمامه أنواع من الصور المتحركة! ولم تحفل بمطالب
الأزهريين الذين أضربوا عن حضور دروسهم؛ رجاء نيلها. على أنه لم يكن من
العسير أجابتهم إلى بعضها، ولو أنهم أجيبوا لرضوا وشكروا، وتنازلوا عن
المطالب الأخرى واعتذروا.
طلبوا المساواة بين المعاهد الدينية في حقوق الطلاب ورواتب المدرسين،
حتى لا يكون راتب المدرس في الأزهر مائة قرش، وراتب ضريعه في الإسكندرية
ثمان مائة قرش، كما هي الحال الآن، مع أن الأزهر رأس المعاهد الدينية. فمن ذا
الذي لا يقول إنهم طلبوا حقًّا، والتمسوا مساواة وعدلاً؟
طلبوا مدرسين من أرباب الكفاءة والاضطلاع، ولا سيما الذين يعهد إليهم
تدريس العلوم الجديدة التي لا يقدر غير الضليع بها على تدريسها، وأن تلقى إليهم
على نحو إلقائها في المدارس النظامية، وأن ينفذ النظام الذي وضع لهم بالتدريج
اتباعًا لسنة الارتقاء الطبيعي، لا أن يدفعوا به في صدورهم مرة واحدة، ويحملوا
على الجري عليه كلمة كلمة، أفليسوا بهذا المطلب محقين، وبه جديرين؟
طلبوا أن يكون لحملة الشهادة الابتدائية والثانوية منهم حظ من الاستخدام في
المحاكم الشرعية والأوقاف، والخطابة والوعظ، وغير ذلك من الوظائف الحقيرة
فهل هم بذلك مخطئون بما طلبوا؟
طلبوا أن لا يحمل الطالب الذي يؤدي الامتحان في هذا العام على تأدية
الامتحان في العلوم الجديدة التي لم يدرسها، ولم يعرف من أمرها شيئًا؛ لأن حمله
على أداء الامتحان فيها من الإرهاق والظلم البين، فهل أساءوا وظلموا؟ !
طلبوا أن يكون لهم احترام أمام ذوي السلطة، وأن يسمح لهم بالسفر بنصف
أجرة في السكك الحديدية ولشيوخهم من دون أجرة؛ مساواة لهم برؤساء الأديان
الأخرى، فهل كانوا بذلك بدعًا، أم أتوا أمرًا إدًّا؟
تلك معظم مطالب الأزهريين فأي منصف، بل أي مجحف، يبيح لنفسه
الادعاء بأنهم ليسوا أحق بها وأهلها! رأوا أنهم هضموا وظلموا، وأعطي إخوانهم
في الإسكندرية فوق ما سألوا، فطلبوا المساواة بهم. ورأوا أن العلوم وزعت على
مدرسين لم يحيطوا بها علمًا، بل لم يعرفوا لها حدًّا ولا رسمًا، وقد مر على القارئ
أن الإملاء عُهِد في تدريسه إلى أعمى، والرياضة إلى من لا يعرف لها مسمى،
فكيف مع هذا لا يكونون محقين في طلب المدرسين الأكفاء والعلماء الفضلاء! .
رأوا أن الحامل منهم للشهادة الابتدائية أسوأ حظًّا من حجاب المحاكم، وغيرهم من
مزاولي ما هو دون مهنتهم. فطلبوا أن يكون لمن يحملها نصيب في بعض
الوظائف الحقيرة! فهل هم بذلك ظالمون؟ رأوا أنهم ممتهنون مزدرون وأن أحدهم
أذل من قيسي بحمص، وأن أندادهم وأقتالهم من أرباب الديانات الأخرى، لهم من
الاحترام عند رجال الحكومة، ومن الميزة في بعض الشئون، ما حملهم على الطلب
بأن يعاملوا مثلهم، فهل يعد هذا من الافتيات!
وهنالك مطالب أخرى ما كان لهم أن يطلبوها، وإن كانت حقًّا وعدلاً، كطلب
تعيين شيخ الجامع الأزهر بالانتخاب وغير ذلك، وربما يكونون طلبوا كل ذلك
ليجابوا إلى بعضه، على أن الحكومة هزأت بهم وسخرت منهم، فكان ذلك داعية
لصدور حكم المجلس العالي للأزهر عليهم، وهذا هو حكمه بعد ذكر الأسباب:
(قرر المجلس ما يأتي: حرمان طلاب العلم بالجامع الأزهر من: المرتبات
والجرايات، والامتيازات الحائزين عليها بحسب تبعيتهم للأزهر، ويمنعون من
دخوله! ! إلخ) .
جوزي الأزهريون بهذا الحكم لطلبهم تلك المطالب، وسيحفظه التاريخ الذي لا
ينسى شيئًا، ويكون لمن بعدنا حكم عليه وأي حكم! !
لم أر فيما رأيت في هذه البلاد أمرًا عنيت به الأمة، واضطربت له عنايتها
واضطرابها بأمر الأزهريين، وليس لهذا من سبب إلا الشعور بأنهم مغموطون
مضطهدون، فكان اندفاع الأمة في الرغبة إلى الحكومة والالتماس من الأمير بمعاملة
الأزهريين بالرفق والحسنى، وإجابتهم إلى ما طلبوه بحق وعدل كان ذلك سببًا
لنهضة النظار ورغبتهم إلى الأمير أن يصفح عما عده ذنبًا للأزهريين، وقد كان
ذلك، وقرر إرجاع الأزهر إلى قانون سنة 1314.
سكنت ثائرة الأزهريين، وارتاحت نفوسهم إلى هذا القرار، وأفرخ روع
الأمة بعد القلق والاضطراب. ولكن قام فريق من أصحاب الجرائد وكتابها الذين
يتكلمون بغير وجدانهم، ويكتبون بمؤثرات كاذبة يخلقونها لأنفسهم، يصيحون
ويصخبون متململين من هذه المغبة، متبرمين من سوء النتيجة، ناعين على جرائد
أخرى كانت تشد أزر الأزهريين؛ لأنها كانت تؤيدهم ذلك التأييد، وذلك ليوهموا
الأمة أن الرجوع إلى ذلك القانون خسران مبين! ! !
لو لم يكن في الرجوع إلى ذلك القانون إلا حصر سلطة الأزهر في مجلس
إدارته، لعد هذا وحده غُنمًا وأي غُنْم، على أن نظام القانون القديم الدراسي، كان
وضعه على نمط يجعل للطلاب حظًّا من العلوم الجديدة، من دون أن يرهقوا أو
يحملوا على ما لا يستطيعون، فقد كان القانون يخول لمن كان في السنة السادسة
الاختيار في الامتحان في العلوم الجديدة، فله أن يمتحن فيها إذا شاء، ويكون إذ ذاك
مقدمًا على غير الممتحن فيها، وذا حظ من الجوائز المالية التي كانت خصصت لمن
يبرز فيها ، فأين هذا من القانون الجديد الذي يقضي حتى على من كان في آخر
سني الدراسة أن يمتحن في تلك العلوم كلها؟
ليس من يحملك على ما لا يستطاع حمله بالقسر، كمن يسوقك إلى صنع
المستطاع الهين بما في وسعه من أنواع الترغيب والتحبب، وهذا ما جعل الطلاب
يتلقون القانون القديم بالرغبة والجذل، وحملهم على النفور من الجديد بالكراهية
والسخط، وذلك أمر منتظر والمثل يقول (إن رمت أن تطاع فسل ما يستطاع) .
يقول المتفيهقون اللاغطون: إن نفور الأزهريين من النظام الجديد دليل على
جمودهم، وأنا أقول: إنه دليل على استقلالهم ونهضتهم، وحجة أولئك زعمهم أن
الأزهريين لم يرتضوه لأنفسهم؛ لأنه يحملهم على ممارسة العلوم الجديدة، وهم لا
يشاءون أن يضربوا بسهم فيها! ! وسلطاني أنهم رفضوه؛ لكونه مشوهًا مضطربًا
لا يمكن السير عليه، وقد مر على القارئ الإلماع إلى شيء من مساوئه. أما العلوم
الجديدة فإنهم عرفوها أيام كان كثيرون من واضعي النظام يحاربونها، ويرمون
مزاوليها بالتضليل والتكفير. فالرياضة والهندسة والهيئة والميقات وتقويم البلدان
والتاريخ كان يدرسها الأزهريون. ولكنها كانت تدرس لمن لم يتجاوزوا السنة
الرابعة الدراسية، لا كما قضى النظام الجديد بإرغام جميع الطلاب عليها! .
الغرض الأول من الأزهر تخريج الأخصائيين في علوم الشرع، ومن
الضروري أن يكون العالم الشرعي ذا إلمام بالعلوم الجديدة؛ لأن الجاهل بها في هذا
العصر هو والأعمى شرع. ولكن من الرعونة والبلاهة أن يراد من العالم الشرعي
أن يكون أخصائيًّا في الرياضة والطبيعة والهندسة وغير ذلك.
ألا إن الإصلاح الحقيقي لا يكون بزيادة العلوم ووضع القوانين، وإنما يكون
بالرجال الأكفاء الضليعين الذين يزِنون الأشياء بميزانها، ويضعون كل شيء في
موضعه، إذا كان لديهم المال الذي يقتضيه ذلك الإصلاح. وإن بين ظهرانينا
كثيرين من هؤلاء، وهم متخرجي الأزهر وموظفي الحكومة، فماذا على الحكومة
لو عهدت إلى هؤلاء إصلاح الأزهر - وهم القادرون وحدهم على ذلك - إذا كانت
تريد الإصلاح!
وأحسن ما تختم به هذه المقالة الثناء على الشيخ حسونة النواوي الذي ظهر
في استقلال فكره وكمال رجولته، ما ذكرنا بكلمة الأستاذ الإمام فيه (أنه أفضل من
يليق لمشيخة الأزهر) بل ما حمله على الاستقالة؛ لأنه لم يُجَب إلى مطالب
الأزهريين إذ سألها، فكان ضنينًا بكرامته أن تهان، وبإرادته أن تتلاعب بها
الأهواء، وهذا هو الرجل الفذ، أكثر الله فينا من أمثاله.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حسين وصفي رضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ندوة العلماء الهندية
تأسيسها دارًا للعلوم
إن لندوة العلماء في الهند مساعٍ في خدمة الدين الحنيف، وسعيًا في خير
النوع الإنساني مبرورًا، وقد اتجه عزمها إلى إنشاء مدرسة كبرى للعلوم (جامعة)
دعتها (دار العلوم) ، واحتفلت في أول شهر ذي القعدة الماضي بوضع الحجر
الأول من أساسها، وقد قالت في ذلك مجلة البيان التي تصدر في مدينة
لكنؤ (الهند) :
(عقدت حفلة ندوة العلماء في 28، 29، 30 نوفمبر الفارط في مدينة لكنؤ
فأمها المسلمون من كل الأصقاع من الأمراء والعلماء والوجهاء، وكانت الحفلة بهيجة
لم ير الناس مثلها في حسن انتظامها، وبلاغة ما ألقي فيها من الخطب الداعية إلى
نشر المعارف وإعادة مجد العربية في بلاد الهند، ومحو المراسم والبدع التي تجري
عليها العامة باسم الدين، ورفع الخصام الملي، وإصلاح ذات البين، وتوطيد الإخاء
والوئام بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وتمت الحفلات، ولم يحدث
فيها ما يريب ذوي الألباب أو يشين الجمعية المعروفة بندوة العلماء.
وقد اجتمع في هذا الاحتفال جمهور كبير من صنوف الناس، فيهم المسلمون
والإفرنج والهنود، وكان بين المسلمين أهل السنة وعلماؤهم، والشيعة ومجتهدوهم
والمقلدون والمستقلون، والصوفية والأحناف والوهابية والمتفرنجة. وهو أول
اجتماع ديني حفل أهل المدن المختلفة، كأنما هو طاقة رياحين مختلفة نفحاتها
وألوانها.
ولما حانت الساعة المعينة أتى الوالي السرجون هويت وقرينته، فاستقبلهما
أعضاء الندوة، وأتوا بهما إلى الدكة المقامة لجلوسهما، فجلسا على كرسيين من
الفضة، وافتتح الاحتفال بعد أن تلا القارئ آيات من القرآن الحكيم، وقدمت إلى
الوالي عريضة الحال، فأجاب بخطبة مسهبة أثنى فيها على الخطة التي سارت
عليها الندوة؛ من رفع الخصام، ونشر المعارف الحديثة ممزوجة بعلوم الدين، وعد
أعضاء الندوة من مخلصي دولته، وقام بعد ذلك مع جماعة من وجهاء المسلمين،
ووضع حجر أساس المدرسة) .
وهذا نص العريضة التي قدمت إلى الوالي، نقلناها عن المجلة الخاصة التي
تصدرها الندوة باسمها:
مولاي الأكرم: نحن أعضاء ندوة العلماء، نرحب بكم من حيث كونكم نائب
الحكومة في هذه الإيالة، ونشكركم على إجابتكم دعوتنا؛ لوضع حجر أساس دار
علوم الندوة، فيشكركم على ذلك كافة المسلمين، فإن الندوة كأنها لسان حال الأمة،
ولا يوجد قدر شبر من الأرض إلا وفيه أنصار الندوة وحماتها، وقد استبان بهذا منا
للدولة من التسامح الديني الذي هو من مزايا الأمة الإنكليزية خاصة، والذي هو
ملاك الحكومة وعمودها، فإن الندوة ليست إلا جمعية دينية.
مولاي الأكرم: نحن نستدعي من حضرتكم أن تسمحوا لنا بإبداء مطالب
الندوة وطوارئها التي من أحد مظاهرها الجلية دار علومنا هذه.
مولاي الأكرم: إن المسلمين منذ وجدوا إلى يومنا هذا، لم تزل فيهم طائفة
تلقب بلقب العلماء، وهم قادة الحزب الإسلامي في أمور الدين وأحكامه، والأمة
كانت تقفو أثرهم، وتتبع هداهم في كل ما يمس بالدين ولو في أمور الدنيا، وكانوا
أنموذجًا لتمدن الإسلام ومكارم أخلاقه. والأمر الذي استوجب وجود هذه الطائفة؛
هو أن ما تتقوم به جنسية المسلمين ليست خصوصية الإقليم، ولا الشعب، ولا
الأسرة، كما هي للأمم الأخرى، بل كل من اعتنق دين الإسلام، يحصل له كل ما
كان للمسلمين قاطبة على اختلاف جنسيته وعشيرته ومبدئه. ولما لم يكن للمسلمين
حزب يختص بدعوة الدين، كانت الأمة تحتاج إلى مثل هذه الطائفة؛ لكي لا يحيدوا
عن قصد المحجة. وهذا الأمر دعا إلى أن نشأت طائفة كبيرة من العلماء لا يقل
عددهم عن أمثالهم في الأمم الأخرى، ومن مزية أمة الإسلام أن العلم كان فيها
يكتسب لأجل العلم فقط، مع صرف النظر عن كل مرمى وغاية - وما في هذه
الأمة من احترام العلم، والخضوع له والتفاني أمر لا تشاركها فيه أمة، حتى إن
الرؤوس المتزينة بالتيجان كانت تخضع لها كرامة. والحق أن تأخر الأمة ما كان
إلا بعد ما فقدت هذه الطائفة مزاياها، فذهب ما كان لها من المكانة عند القوم،
وحينئذ حرمت الأمة من قيادتها وتبدد نظامها، وعند ذلك اشتغلت هذه الطائفة
بمحقرات الأمور، وبلغ الحال إلى أن رفعت الشكاوي إلى المحاكم السلطانية، فقام
حينئذ حزب من العلماء لسد الخلل وإقامة معالم الإصلاح، وكان من أول مظاهره
هذه الجمعية المسماة بالندوة، انعقدت حفلتها الأولى في كانفور سنة 1893م، وفي
سنة 1898م صادقت الحكومة عليها رسميًّا، وبلغت حفلاتها اثنتي عشرة حفلة،
اجتمع فيها العلماء وعامة الناس على اختلاف أهوائهم وأذواقهم - أما مطالب
الندوة فتحصر مهماتها في أربعة أمور:
(1)
ترقية المدارس العربية وإصلاحها.
(2)
رفع المخاصمات الدينية.
(3)
إصلاح أمور المعاشرة والأخلاق.
(4)
نشر الإسلام وكل ما يتعلق بالمنافع العمومية.
في بدء الأمر ظهر الترحيب بالندوة من جميع الأمة كافة، فتوسعت حينئذ
مطالبها، وكان من أول مساعيها أنها اجتهدت في رفع الخصام الحادث في أحزاب
الأمة، وإصلاح ذات البين، وفازت في ذلك إلى حد لا يستهان به، وكذلك سعيها
بتخفيض نفقات عوائد الفرح والألم لِمَ يذهب أدراج الرياح، ثم إن الندوة أقامت دار
الإفتاء في لكنوء، ومحلاًّ للأيتام في كانفور. ولكن كان أهم مطالبها أمر التعليم،
بإصلاح ما فسد منه؛ ليكون سببًا لوجود شرذمة تهدي الناس في الأمور الدينية.
ومن البَيِّن أن التعليم الصحيح هو الذي يزيل كل داء اعترى الأمة، وحجزها
عن سبيل رقيها. ونظرًا إلى ذلك أسست الندوة في سنة 1898 م مدرسة سمتها بدار
العلوم، كانت في أول الأمر مدرسة ابتدائية، ثم تحولت إلى كلية في سنة 1901 م
وصارت كأنها أساس لجامعة دينية، ولما كان أمر التربية أعظم خطرًا من التعليم
أسست دار إقامة للطلبة. ولكن كان من شؤم الحظ أن الأمة لم تقدر مسعى الندوة
حق قدره، فالفئة القديمة أساءت الظن أن إدخال الفلسفة الجديدة في نصاب التعليم،
يورث وهنًا في الدين! حتى ألَّفت كتب ورسائل في تكفير حزب الندوة. وفوق ذلك
أن الناشئة الجديدة أيضًا كانت تتقاعد عن الأخذ بناصرنا، فإنها كانت تحسب أن
الندوة تقيد حرية الأفكار، وكانوا عاجزين عن فهم منافع إحياء العلوم العربية أصلاً
ومع أن الندوة كانت هدفًا لسهام كلتا الطائفتين، لم تزلَّ لها قدم، ولزمت محجتها
واختارت لنفسها جادة وسطًا، فرتبت نصابًا جديدًا رجح فيه جانب الأدب والعلوم
الدينية، ومع أن دار العلوم لم يمض عليها ردح من الزمان، أنشأت تلاميذ يقدرون
على ارتجال الخطب من غير روية، وهذا شيء لم يسبق له مثيل! وكان يُعد أمرًا
نادرًا في إبان الحكومة الإسلامية أيضًا، وقد أضفنا إلى نصاب التعليم الفلسفة
الجديدة، وكانت هذه بدعة تعد، وكفرًا في المدارس القديمة، ومما زاد الطين بلة،
أنا أدخلنا في نصابنا تعليم اللسان الإنكليزي لزومًا، فكان من ثمرته حرمان الندوة
من بعض المساعدات المالية، حتى إن بعضًا منهم استرجع أرضًا كان وقفها على
دار العلوم! ولم نأل جهدًا في الاستفادة مما لأهل الغرب من الاكتشافات الجديدة في
العلوم العربية، وخزانتنا تحتوي على أكثر ما كتبه المستشرقون في أمثال هذه
المسائل، وعلى كتب غير هذه تصلح أن تكون زينًا لكل متحف علمي، وتلامذتنا
لهم مزيد شغف في الاستفادة من تلك الخزانة، ويوجد فيهم من يكتب في مجلة الندوة
مقالات علمية يستحق التنويه بها.
والآن أردنا أن ننشئ لجنة، يكون أعضاؤها تلامذة مدرستنا الذين يقفون
حياتهم على الفحص عن المسائل العلمية المهمة. وبناء على ما توارثنا من آبائنا لا
نأخذ للتعليم أجرة، ونريد أن نوسع نطاق التعليم حسبما تعيننا على ذلك المساعدات
المالية.
ومن أهم مزايا مدرستنا أن الذين بقوا على الحيادة عن المدارس الدولية؛
لأجل التعصب الديني؛ أو لأجل عدم الثروة، لا يجنحون إلا إلى مثل التعليم الذي
اختارته الندوة، فإنها جعلت تعليمها تحت سيطرة التعليم الديني.
ونحن نجترئ على أن نعرض على مسامعكم أن دار علومنا مع قلة بضاعتها
وقصر باعها، أربت على أمثالها من كلا النوعين بنوع خاص، فإنهم أبعد ذيلاً عن
التقشف، وبراء من الفخفخة الفاسدة. ومع أن مدرستنا لا تقدرعلى إحداث طائفة
يصلحون للتوظيف في أعمال الدولة. ولكن نحن على ثقة أن مدرستنا تنشئ رجالاً
يقدرون على إطفاء الثورات الحالية التي تريد إمحاء سيطرة الخالق والمخلوق معًا،
رجالاً يكون من شيمتهم الاستكانة للإكبار، والمؤاساة للجار، والتواضع للعامة،
وفوق كل ذلك: الانقياد للحكومة والخضوع.
فمدرستنا تنفخ في طلبتها روح المسامحة الدينية التي فتحت أبوابها لكل حزب
فلم يتعين طلبتنا ولا أساتذتهم بالمشاجرات التي حدثت اليوم بين الفئتين العظيمتين
من المسلمين، وعلماء لجنتنا لا يزالون يدعون الناس إلى الخير والصلاح فنرجوا من
دار علومنا والمدارس التي تتبع سبيلها أنها تخرج طلبة سيسودون الأمة ويملكون
أزِمَّتها مرة أخرى، ويحسمون التشاق، ويشقون عصا النفاق، ويصبحون لتوسعهم
في المعارف الحديثة والقديمة واسطة موصلة بين الفئة الناشئة وحزب التقهقر العتيق
ونحن على يقين من أن المسلمين كما يسلم إذعانهم لحكومتهم يزيدون من هؤلاء
العلماء الناشئين طاعة وانتقادًا للحكومة. والآن نقدم إلى جنابكم أزكى التشكرات
حيث تفضلتم علينا بقطعة من الأرض؛ لترفع عليها قواعد مدرستنا، وبعد ذلك نحن
نشكر الذين بلغنا من مساعدتهم ومساعيهم إلى هذا الحد، ونخص من بينهم أولاً سمو
النظام أمير (حيدر آباد) الذي نستغرف من وجود إمارته من نعومة أظفارنا، وإن
لم نرزق زيارته حتى الآن. وبعد ذلك نؤدي مفترض الولاء إلى سمو الملكة أميرة
بوفال التي تمنحنا وظيفة إعانة سنوية، ونبث أيادي إمارة هماوبالفورالتي رفدت
أميرتها غير ما تسمح به إمارتها سنويًّا بمنحة تساوي خمسين ألف روبية، هيأتنا
لنتشرف بأن تضع سعادتكم حجر أساس كليتنا، ونرى من واجباتنا أن نذكر من غير
هؤلاء الكرماء الذين أخذوا بأيدينا، وساعدونا بما توخينا من الخير كرنل خان بهادر
عبد المجيد خان وزير خارجية إمارة بلياليه ونحن نشكر المستر أي - ال- ساندرس
والمستر اس ايج بطلرسي 0أي0أي0 والمستر ال ام جابلتك الذين نصرونا بتحصيل
القطعة التي أنعمتم بها علينا. وفي الختام نشكر جنابكم من صميم أفئدتنا، حيث
نصرتمونا مما ثنيتم إلينا من أعنة فضلكم، ونعيد مرة أخرى تشكرنا الذي نقدم إلى
جنابكم، حيث قبلتم أن تضعوا بيدكم الكريمة حجر الأساس ، والآن نسألكم أن
تأخذوا بهذا العمل الخطير الذي يبقى على كر الدهر.
_________
الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين من سنغافورة
لقب حاكم المسلمين
لصاحب الإمضاء
رأيت في بعض جرائد الآستانة كلامًا عن الخلافة، واتهام خديوي مصر
بالسعي في التلقب بها، إلى نحو ذلك، ولا أدري أي عقل صبياني يقبل تلك
المفتريات الباردة! إن لقب الخلافة لقب شريف، وله شروط، والخلفاء الحقيقيون
الذين هم خلفاء بدون شك، قد مضوا - رحمهم الله تعالى - كما في الحديث
المشهور (الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون ملكًا عضوضًا) وفي رواية (ملكًا وجبريةً)
انتهى باللفظ أو بالمعنى، فمن كان بعد ذلك من عُلُوج أُمَيَّة، أو فُسَّاق بني العباس،
فليسوا خلفاء بل هم ملوك، ولم يستثن إلا من استقام على الطريقة المُثلى، ولم
تغن عنهم قرشيتهم شيئًا، ولا ديلمتهم.
ثم ماذا جنى المسلمون من لقب الخلافة؟ إنهم لم يجنوا غير الافتراق والقلاقل
ومنذ استشرى سلاطين آل عثمان لهذا اللقب، فتحوا على أنفسهم أبوابًا من التعصب
بدون مقابل، قل لي: أي فائدة حازوها بهذا الاسم الضخم؟ أي مملكة افتتحوها بهذا
اللقب؟ أي حق استحقوا بهذا المنصب؟ إنني لا أعرف شيئًا، وما أراهم استفادوا
غير نفرة مجانين الملوك، وزيادة التفريق الذي أودى بنا. السلطان مفروضة طاعته
في المعروف، حرام الخروج عليه لغير سبب مسوغ. كل هذا معلوم، فماذا يجب
غير هذا له، لو كان خليفة مستكمل الشروط؟! إننا لو أردنا أن نقتصر لأقل ملوك
المسلمين الآن، على ما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم شكوا في
استحقاقهم له وأرجعوه، لم يقبل أحد منهم ذلك، مع أن أعلاهم كعبًا لا يقوم
للمسلمين بعشر معاشر ما قاما به. لا أقول: إن ذلك الأوان مساوٍ للوقت الحاضر،
يكفي فيه ما كفى في ذاك، لا بل أقول بعد مراعاة الأزمنة والأحوال.
إذًا يجب النصح والمساعدة لسلطان المسلمين، على كل أحد منهم بما قدر
عليه، سواء سماه أمير المؤمنين أو الخليفة أو السلطان كذا، أو إمبراطورًا أو ملكًا
أو فلان بن فلان بلا فرق. ومن المحسوس أنه ليس للمسلمين سلطان أحق وأولى
بالاعتبار من السلطان عبد الحميد خان - زاده الله توفيقًا - فالنصح له بعد النصح لله
وكتابه واجب، وكذا الدعاء له. لكن لا على نحو ما يفعله الجهلة، وخطباء
المنابر في الدعاء، أو بأن يقدموا أمامه ما يكون سببًا لعدم قبوله من المبالغات
والنعوت الكاذبة، وما يدل على الخيلاء والأبهة والكبرياء، فكل ذلك بدعة، روجها
الوسواس الخناس عليهم، وعمل بها علماء السوء عباد الدرهم والدينار. والتواضع
والخضوع والصدق في الدعاء، والاتباع فيه لما جاء عن سيد المرسلين من أعظم
أسباب قبوله. هذه آرائي أعرضها للتمحيص، وأقترح على خطباء المنابر أن لا
يزيدوا على قولهم عبدك الفقير إليك فلان، وكأني بهم إذا عملوا بإخلاص، وقد رأوا
علامات الإجابة، والله الهادي.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... سنغافورة
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... س. س. ي
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التاريخ الهجري الشمسي
عندما شرعت بوضع النظام أو القانون للجمعية الخيرية الإسلامية في طرابلس
الشام، خطر لي أن تكون سنيها هجرية شمسية، وأن يكون أول سنتها شهر مارس
(آزار) كالسنة المالية العثمانية، وذكرت ذلك في القانون، ثم خطر لي أن أذكر
هذا التاريخ في المنار؛ إحياء له مع ذكر السنة القمرية التي عليها المعول في
الأمور الدينية؛ للاستغناء فيها عن الفلكيين والحاسبين. وقد جاء في حسابي أن سنة
1909 الميلادية توافق 1285 هجرية شمسية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولد سنة 571 بعد ميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم، وبعث على رأس الأربعين،
وأعلن بعثته بعد ثلاث سنين من نزول الوحي عليه أول مرة، وهجر بعد عشر
سنين من إعلان الدعوة فتلك 53 سنة، تجمع إلى سنة الولادة، فتكون معها 624
تطرح من 1909، فيبقى 1285. ولكن رأيت بعد ذلك أن الدولة العلية عزمت
على أن تجعل حسابها المالي على السنة الهجرية الشمسية، وأن سنة 1909 وافقت
على حسابها 1288 هجرية، وكأن الحاسبين الذين قاموا بذلك لم يحسبوا سني الفترة
بين أول الوحي وإعلان الدعوة وهي ثلاث على المشهور، فيجب أن يتقوا مثل غلط
النصارى في تاريخ الميلاد، فقد أخطأوا فيه بعده سنين، ثم لم يمكنهم الرجوع إلى
الصواب؛ بعد أن ملئت الكتب والدفاتر بالخطأ.
***
أهم ما نطلب من مجلس المبعوثان
(1)
إصلاح نظارة الأوقاف، وجعل أموال الأوقاف التي تراعى
شروطها والتي جهلت شروطها والتي وقفت على الخير مطلقًا - كلها لإحياء العلم
والدين ونشرهما في جميع البلاد، وسنفصل ذلك في وقته.
(2)
إصلاح المحاكم الشرعية، وأهم أركان هذا الإصلاح جعل المحاكم
الشرعية كالنظامية، مؤلفة من رئيس وأعضاء، وتأليف كتاب لها كالمجلد، وجعلها
درجات ابتدائية واستئنافية وتمييزية (محاكم نقض وإبرام) ، وترتيب رواتب شهرية
كافية للقضاة والكتاب، ومنعهم من أخذ الرسوم.
(3)
جعل اللغة العربية محتمة في جميع مدارس الحكومة، وإنشاء مدارس
معلمين ومدارس زراعة.
_________
الكاتب: جميل العظم
ذيل لكشف الظنون
كنت شرعت منذ ست عشرة سنة بتأليف ذيل لكتاب (كشف الظنون عن
أسامي الكتب والفنون) تصنيف العلامة منلا كاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة
المتوفى سنة 1067، جمعت فيه ما فاته ذكره من أسماء الكتب والمصنفات، مع
أسماء المؤلفات التي حدثت بعد عصره في اللغات الثلاث الشرقية إلى يومنا هذا.
رجعت في ذلك إلى كتب التراجم، وفهارس المكاتب العمومية، وبعض
المكاتب الخصوصية، وضممت إلى ذلك الكتب التي وقفت علي أسمائها في أثناء
مطالعتي لكتب شتى مختلفة المواضيع، وأسماء كتب كثيرة دخلت في يدي مع ما
وقفت عليه من أسماء المؤلفات التي أعلنت الجرائد والمجلات طبعها، وقد أحببت
أن أطبع هذا الذيل الحافل أجزاء متتابعة، كل جزء مائة صحيفة بقطع الأصل،
بحيث يصدر في كل شهرين جزء منها ، وبما أنني قد ذكرت في كتابي هذا كثيرًا
من مؤلفات المعاصرين، أحببت أن لا تفوتني ذكر كثير منها مما لم أطلع عليه؛
لتعذر الإحاطة، فأرجو من فضلاء العصر وكتابه وأدبائه أن يتحفوني في مدة
شهرين ونصف بأسماء مؤلفاتهم ومؤلفات أسلافهم؛ كآبائهم وأقربائهم مع ذكر شيء
من خطبة الكتاب، ونبذة من ترجمة مؤلفه وتاريخ ولادته، وإن كان متوفى فتاريخ
وفاته، ومحل طبع الكتاب إن كان مطبوعًا وسنة طبعه. وبما أنني رتبت هذا الذيل
على حروف المعجم كالأصل، فإذا أخَّر أحد إرسال أسماء مؤلفاته إلى ما بعد الأجل
المعين، وكان فيها كتاب يدخل في الحرف الذي تم طبعه، فاتني ذكر ذلك الكتاب.
وأرجو أيضًا من أصحاب الجرائد والمجلات: أن يتحفوني بأسماء جرائدهم
ومجلاتهم وتاريخ إنشائها، وبيان وصفها إجماليًّا، حيث أجعل ذكرها والتنويه
بشأنها خاتمة للكتاب، وإنني أسلف كل من تفضل علي بآثاره كل شكر جزيل،
وثناء جميل.
يخابرني من شاء بهذا العنوان: (محاسب المعارف في بيروت جميل
العظم) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أوراق اليانصيب وسندات المصارف
(س1) من بورت سودان لصاحب التوقيع
حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، مربي الأمة ومرشدها، وغرة عصرها
وعالمها، سيدي المرشد السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، نفعني الله
بعلومه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد جمعني وجماعة من نبغاء
بورت سودان وفضلائها مجلس انعقد بمنزل فضيلة قاضيها الشرعي؛ لسماع
درس التوحيد، وبعده أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي وصل بنا إلى تحليل أو
تحريم أوراق اليانصيب، وطال الجدال في هذا الموضوع، وانقسمنا إلى قسمين:
قسم منا حرمها من أولها لآخرها، سواء في ذلك سندات سكة حديد
تركيا (الرومللي) والبنك العقاري، جديدها وقديمها.
والقسم الآخر فصَّل في الموضوع حيث حرَّم كل الأوراق ما عدا سندات البنك
العقاري وسكة حديد تركيا، فقال بالحِل فيهما إلا أنه لم يجزم بهذا القول، واشترط
في أوراق البنك العقاري عدم أخذ (الكبون) أي الربح السنوي.
وبالنسبة لكوننا لم نوفق للفصل في هذا الموضوع نهائيًّا، قَرَّ القرار على
الاستعلام من حضرتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع؛ للاهتداء بهداكم وكلفوني
أن أسألكم.
لذلك ولعلو مقامكم وكرم أخلاقكم، جئت إليكم بهذا راجيًا إرشادنا في هذا
الموضوع - أرشدكم الله - والفصل فيه ليحق الحق، ويبطل الباطل، إن الباطل
كان زهوقًا.
كما إني أرجوكم إن كان سبق لسيادتكم التكلم عنه في مجلدات غابرة؛ أن
تجيبوني عليه، وأكون ممنونًا لو تفضلتم بالإجابة في أول عدد لأهميته عندنا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كاتبه
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد كريم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحد قراء المنار
(ج) أفتينا في المنار من قبل (ص47م10) بأن اليانصيب من القمار
المحرم؛ لما فيه من الضرر الظاهر، فإن المقامر يضيع ماله لتوهم الربح، وقد
فصلنا القول في ضرر الميسر في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فليراجع في (ص 329 ج2) من التفسير. وأما
مثل سندات البنك العقاري: فهي نفسها ليست من (اليانصيب) وإن كان يعمل لها
(يانصيب) ، بل هي ضرب من ضروب التجارة؛ لأن لها أثمانًا كأثمان سهام
الشركات المالية، تزيد وتنقص، وتشبه من جهة أخرى الدين بربح قليل؛ لأن
صاحب المال يأخذ عليه كل سنة ربحًا (كوبون Coupon) . ولكنها خالية من
ضرر القمار؛ لأنه ليس فيها إضاعة مال محقق لربح متوهم، ومن ضرر الربا،
المعبر عنه بقوله تعالى في خاتمة آيات الربا {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وهي من ذلك مشكلة، والظاهر من أقوال الفقهاء وقواعدهم أنها
غير جائزة لذاتها ، ولكن بعضهم يجيز ذلك في غير دار الإسلام أو مع الحربيين؛ لأن
التزام العقود الإسلامية إنما يجب في البلاد التي يحكم فيها الإسلام، ولهم
في ذلك تفصيلات كثيرة (راجع ص 639 م7 وص 268 و 291و 590م8) .
ثم إن الفقهاء قد جعلوا الشرع العملي قسمين: عبادات ومعاملات،
فالمعاملات ليس فيها أمور تعبدية، بل كلها معقولة المعنى، منطبقة على مصالح
الناس ومنافعهم، ودفع المضار عنهم، فلا يحرم منها إلا ما هو ضار بفاعله أو
بغيره، وما يتراضى به الناس من المعاملات من غير غش، فلا يحرم عليهم إلا أنه
إذا كان من شأنه أن يضر، لا يلزمهم القاضي ما كانوا تراضوا به إذا هم اختلفوا
بعد ذلك، وتحاكموا إليه، ولا يفتيهم المفتي بوجوبه شرعًا، فقد جاء في الآثار
الصحيحة عن البخاري وغيره: أن المقترض إذا أعطى أفضل مما أخذ أي كيفًا أو
كمًّا، فلا بأس بذلك ما لم يشترط ذلك؛ أي يجعل حقًّا شرعيًّا. وهذا في الربا الذي
هو أغلظ المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية، فإذا أعطى صاحب سندات البنك
العقاري مالاً من البنك، قد ربح بالسحب برضى أصحاب البنك، فإنه لا يظهر لي
أن أخذه محرم عليه، ولا سيما إذا كان أصحاب البنك من الأجانب الذين لا يلتزمون
أحكام شريعتنا من أنفسهم، ولا توجد حكومة إسلامية تلزمهم العمل بها، ولا يظهر
لي أن هذا من القمار إلا بالنسبة لمن يشتري أوراق السحب التي تباع في الأسواق؛
لأن هؤلاء يضيعون أموالهم على التوهم، وأما أصحاب السندات فإن أموالهم
محفوظة لهم لا يضيع منها شيء، والله أعلم وأحكم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دين المستقبل
وهل يكفر من له رأي فيه
(س2) من بغداد لصاحب التوقيع الذي عهد إلينا بكتمان اسمه.
حضرة سيدي المحترم محمد رشيد رضا أفندي، أدام الله مجده:
أما بعد فقد جئت طالبًا من فضلكم نشر سؤالي هذا على صفحات (المنار)
الأغر، وسرد جوابه بما يتراءى لكم؛ لأن الأمر أشكل في بغداد، والأقوال
تضاربت، فجئت طالبًا فتواكم ولكم الأجر.
إن أحد الكتاب نشر مقالة في جريدة بغداد في عددها الأول، ونقل فيها: أن
حضرة السيد البكري نقيب أشراف مصر قال: سألت الشيخ جمال الدين الأفغاني
عن دين البشر في المستقبل فأجابني بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62)[1] فقام بعض المدعين
للعلم وقال: إن هذا الناقل الذي نشر المقالة قد كفر، وخرج من دين الإسلام،
وطلب من الحكومة مجازاته، وهو القتل كفرًا لا حدًّا والعياذ بالله، ثم وكل الأمر
إلى أربعة من المدرسين وهذا المكفر معهم خامس، فأما أحدهم فقال: إن الرجل
ناقل وليس عليه شيء، من دون أن يعمق البحث في أصل الموضوع، فرفضوا
قوله، واجتمع الأربعة على أنه يجب تعزير هذا الناقل تعزيرًا شديدًا، وقدموا
قرارهم هذا للعدلية، ولا ندري ما سيكون منه، فنرجوكم تدقيق هذا البحث بأطرافه
بحق قائله وناقله، والحاكمين فيه؛ ليتضح الحال خدمة للوطن والدين والأمة دامت
أفضالكم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الإمضاء
…
...
…
...
…
...
…
...
…
غيور اغتار للدين
(ج) لا وجه للقول بكفر هذا الناقل، ولا ذلك القائل، ولا بتعزير من يرى
ذلك الرأي، سواء كان خطأ أم صوابًا، والظاهر أن أولئك العلماء لم يفهموا معنى
سؤال البكري ولا جواب الأفغاني؛ لأنهم لم يفكروا في مثل هذا البحث، ولا في
سببه، لا لبلادة في أذهانهم، ولا لجهلهم باللغة التي عبر بها القائل والناقل. نعم،
إن المشتغلين منا بالفقهيات، الجامدين على التقليد والعادات، كثيرًا ما يتجرأون
على التكفير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأظن أن من ذكرتم من علماء
بغداد، لو فهموا معنى السؤال والجواب، لما خطر في بالهم أن يعدوا القول به ذنبًا
فضلا عن أن يعدوه كفرًا.
يقول كثير من علماء الاجتماع: إن البشر في مجموعهم يسيرون إلى الكفر
والإلحاد عامًا بعد عام، وإن هذا السير ينتهي بترك الأمم كلها للتدين بعد قرون
كثيرة أو قليلة، ومن هؤلاء القائلين بهذا الرأي من هو متدين بالإسلام، ومنهم من
هو متدين بغيره، ومنهم من هو ملحد لا يدين بدين.
ويقول آخرون: إن البشر لا يمكن أن يستغنوا عن الدين، ولا عبرة بما نراه
في هذا الوقت من كثرة الكافرين، فلا بد أن يبقى الناس متدينين، وأن يبقوا
مختلفين في الدين، ويذهب آخرون إلى أنه لا بد أن يسود في المستقبل دين يكون
عليه أكثر البشر، وهل يكون ذلك دينًا جديدًا أم أحد الأديان الحاضرة بعد تنقيحه
وتطبيقه على حال الناس في المدنية المستقبلة؟ إنهم مختلفون في هذا، وسمعت
الأستاذ الإمام يقول أكثر من مرة: إنني أعتقد منذ عشرين سنة أن دين المستقبل هو
الإسلام، ولي على ذلك أدلة اجتماعية، وأدلة نقلية: كالوعود الإلهية بإظهاره على
الدين كله، وهو عندي في مرتبة اليقين. ولا يخفى أن أصول الدين الإلهي الحق
التي دعا إليها جميع رسل الله هي: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح،
والكتاب والسنة تفصيل لهذه الأصول. وعبارة السيد جمال الدين مجملة، فلا يدرى
أرأيه كرأي تلميذه الأستاذ الإمام، ويريد بالأصول المجملة في الآية ما هو مفصل
في غيرها من الآيات، أم يريد أن البشر لا يتفقون على تفصيل الإسلام ولا غيره،
وإنما يستقر رأيهم على تلك الأصول المتفق عليها، ويتركون لكل فرد رأيه واجتهاده
في تفصيلها؟ الله أعلم بتفصيل رأيه. ولكن الذي يجب الجزم به أنه لا يجوز أن
نكفره، ولا أن نفسقه برأيه؛ لأنه لا علاقة بين مثل هذا الرأي، وبين قوة الإيمان
وصحة الإسلام، بل لا يجوز أن نقول بكفر من يرى أن البشر يتركون كل دين،
ولا بتعزيره أو لومه على ذلك. فليتق الله علماؤنا في المسلمين، وليعلموا أن عاقبة
هذا التشديد والجراءة منفرة عن الإسلام، وأنها يوشك أن تفضي إلى ما لا يحبون
لأنفسهم ولا لدينهم.
أما العدلية فلا أدري ما هي علاقتها بآراء الناس وأفكارهم، فإذا كان رجال
العدلية في بغداد كمن ذكرتم من العلماء فهمًا لهذه المسألة، وكان رأيهم في العقوبات
القانونية كرأي أولئك الفقهاء في العقوبات الشرعية، فياحسرة على بغداد، فإنها لا
تزال ترسف في قيود الجهل والاستبداد.
_________
(1)
المنار: سمعنا هذه المسألة من البكري، وقال أمامنا: إن السيد قال له انقشوا هذه الآية على هرم الجيزة إلى أن يجيء المستقبل فيفسرها 0 وليراجع في المنار ما قاله الأستاذ الإمام في تفسيره.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد
(س3) من بغداد لصاحب التوقيع.
حضرة السيد الفاضل صاحب مجلة المنار دام فضله:
اتفقت أقوال العلماء على أن لا فرق بين أقوال الأئمة الأربعة المجتهدين -
رضوان الله عليهم - وأنهم تجمعهم السنة والجماعة. ولكن مع الأسف نرى في
أغلب جوامع بغداد تقام للصلاة جماعتان: حنفية وشافعية في آنٍ واحد، وكل
يصلي بصلاته بحيث لا يكاد يميز السامع بين تكبير إمام وآخر، فما القول في
ذلك؟ وأغرب منه أن يقوم مع وجود الإمامين إمام ثالث حنفي ويصلي بالناس مع
أن صف الجماعة المقتدين به متصل كمال الاتصال بصف المصلين خلف الشافعي
بحيث لا يمكن معرفة الحد الفاصل بين الجماعتين قط. وبعد تمام صلاتهما تقام
جماعة حنفية أخرى! فما القول في الإمامين الأولين على أن الشافعي راتب،
والحنفي فضولي، والحنفي الذي يصلي أخيرًا راتب؟ أرجوكم دفع هذا الالتباس
ولكم الأجر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الإمضاء
…
...
…
...
…
...
…
مسلم لا يحب تفرقة الإسلام
(ج) إن تعدد الجماعة في وقت واحد بدعة مذمومة؛ لا سبب لها فيما نعلم
إلا جعلها وسيلة للمرتبات التي يأخذها أئمة المساجد من الأوقاف أجرة على الإمامة،
وفي هذه الأجرة ما فيها. ولا التباس في المسألة فنحتاج إلى إزالته؛ لأن هؤلاء
المفرقين لا يقولون: إن إقامة جماعتين فأكثر في مسجد واحد في وقت واحد
مشروع فنرد عليهم. ولا يرجى أن يترك هؤلاء الأئمة ذلك باختيارهم إلا بأحد
أسباب ثلاثة:
(ا) علم أولئك الأئمة بالسنة والحرص على اتباعها.
(2)
رغبة المأمومين عن التعدد، كأن يقيض الله لهم من يعلمهم أن أمتنا
أمة واحدة، وديننا واحد، حرم الله علينا التفرق فيه بمثل قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا} (الشورى: 13) ، وإن سلفنا الصالحين ما كانوا يقيمون جماعتين
أو جماعات في وقت واحد مع مخالفة بعضهم لبعض في بعض الفروع الاجتهادية،
كما عليه الشافعية والحنفية وغيرهم، وإن هؤلاء الخلف ما تفرقوا عن الجماعة إلا
لأجل الدنيا. فإذا علم العامة ذلك لا يلبثون أن يصلوا مع الجماعة الأولى في كل
وقت؛ ولكن هذا أبعد مما قبله؛ لأن علماءنا أهملوا تعليم العامة دينهم، وصار
أكثرهم يكتفي من خدمة الدين بتكفير من يخالف رأيه أو هواه من المسلمين، فحسبنا
الله ونعم الوكيل.
(3)
أن يصير للمسلمين رياسة دينية محترمة عند الحكومة وعند الناس،
يوكل إليها الفصل في أمثال هذه المسائل، كأن يجعل ذلك من شأن المفتي، فإن
قيل: إن الدين الإسلامي لا رياسة فيه كغيره من الأديان، قلنا: لا نعني أن يكون
له رؤساء يسيطرون على الناس في دينهم، بل رؤساء يحترمون في الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أمر الدين المتفق عليه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منع غير المسلمين من سكنى الحجاز
(س4) من الخواجه إلياس لطف الله أبي سليمان بتينوغستا (الأرجنتين) .
حضرة العلامة العامل، والأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا:
أدامه الله بخضوع واحترام، أقدم كامل الواجبات لشخصكم الشريف وأرجو
من سيادتكم الإفادة، إذا كان منع غير المسلمين من الدخول إلى أرض الحجاز المقدسة
هو أمر ديني مقرر في الكتب الشريفة المنزلة أو في الحديث الشريف أم هذه عادة،
وفي الحالين أرجوكم إذا لم يكن من مانع أن تتكرموا بالإيضاح في أحد أعداد مناركم
المنير، ولكم جزيل الفضل والمعروف 0 قال سعادة الشيخ علي يوسف صاحب
المؤيد الأغر في عدد 5567 ما معناه: إن المهندسين العثمانيين في سكة حديد الحجاز
انفردوا بالعمل كله من العلا إلى المدينة؛ لعدم جواز دخول غير المسلم أرض
الحجاز. أختم بتكرار رجائي، والله يديمكم مرجعًا في جميع الأمور؛ كي تستنير
منكم ومن مناركم العمومُ، سيدي.
(ج) روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول
الله صلى الله عليه وسلم وَجعُه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث:
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،
ونسيت الثالثة) . والذي نسي الثالثة هو سليمان الأحول وهي النهي عن اتخاذ قبره
وثنًا أو تجهيز جيش أسامة.
وروى أحمد ومسلم والترمذي وصحيحه عن عمر أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها
إلا مسلمًا) .
وروى أحمد من حديث عائشة قالت: آخر ما عهد به رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وروى أحمد أيضًا والبيهقي من
حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه
وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الجهاد من شرحه للبخاري: أن الجمهور
على أن الذي يُمْنَعُ منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال
وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم
جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها، مع أنها من جملة
جزيرة العرب. أقول: قال في القاموس: جزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر
الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة
إلى ريف العراق عرضًا. والذي جرى عليه العمل هو إخراج غير المسلمين من
الحجاز، ففي صحيح البخاري أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز
وذكر يهود خيبر فقال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء ، وجعل بعضهم
حديث أبي عبيده مخصصًا؛ لتصريحه بلفظ (أهل الحجاز)، وقال بعضهم: إنه لا
يصلح مخصصًا.
وليس من غرضنا هنا تحقيق الخلاف وتحرير الدلالة، وإنما نقول: إن
الحجاز هو الذي نفذ فيه الأمر وجرى عليه العمل، فهو عند المسلمين كالمسجد،
ولا يشاركهم في مساجدهم إلا من دان بدينهم، وشاركهم في عبادتهم ، وهذا
التخصيص على كونه دينيًّا يتعلق بسياسة الإسلام، فإنه لما فيه من التساهل مع
المخالفين لا يستغني أهله عن بقعة خاصة بهم، لا يزاحمهم فيها غيرهم، يأرزون
إليها عند إلجاء الحوادث ومطاردة الكوارث. وليس الحجاز مما يصلح لكسب الدنيا
والتمتع بزينتها. فما منع غير المسلمين إلا من مكان لا حظ لغير المسلم فيه، إلا أن
يريد مزاحمته أو الافتيات عليه في خاصة دينه.
وقد تبين المحققون أن حكم الإسلام في مكة أنها وقف للمسلمين عامة. قال
ابن القيم: وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع قسمتها، ولو وجبت قسمة ما عداها
من القرى (أي التي تفتح عُنْوة) وهي أنها لا تملك؛ فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق
وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف الله على
العالمين، وهم فيه سواء، ومنى مناخ من سبق قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25) إلى أن قال: فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى
وعرفة ومزدلفة، لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس؛
إذ هي محل نسكهم وتعبدهم، فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه
…
إلخ.
ثم إن لسائر الحرمين أحكامًا خاصة، فلا يحل صيدها، ولا يختلى خلاها،
فمن هنا يعلم أن منع غير المسلمين من سكنى بلاد الحجاز، ليس هو الحكم الذي
تختص به وحده هذه البلاد. وأما دخولها لغير السكنى ففيه أقوال، أصحها عندي
قول الشافعي أنه لا يُمَكَّن غير المسلم من دخول أرض الحرم إلا بإذن الإمام؛
لمصلحة المسلمين، على أن المشهور في مذهبه أنه يجوز لغير المسلم دخول مساجد
المسلمين بإذن أيّ مسلم، لا يختص بالإمام الأعظم، ولا يقيد بالمصلحة العامة.
وقال بعض العلماء: يجوز دخولها ما عدا المسجد الحرام والحجاز.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الزكاة في القراطيس المالية
الأنواط
(س5) من الشيخ محمد بسيوني في (سمبس برنيو) .
حضرة الأستاذ الحكيم، الشيخ العظيم، سيدي السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار الغراء، متعني بوجوده، آمين.
وبعد، أهديكم أزكى التحية والاحترام، أرجو من فضيلة -سيدي- الجواب عن
هذا السؤال. لا زلتم مشكورين.
ما قولكم في الأنواط هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ وما العلة في وجوبها أو
عدمه، أفتوني سيدي بالقول الصحيح المعتمد مأجورين.
(ج) بينَّا في الفتوى 28 من المجلد العاشر (ص539) أن القراطيس
المالية التي تسمى (بنك نوت وأنواط) من قبيل النقود الذهبية. وفي الفتوى الأولى
من المجلد الخامس كلام في الخلاف فيها، واعتماد كونها من قبيل النقد لا
عروض التجارة، وكون الزكاة تجب فيها، والربا يحصل بها، فليرجع إلى ذلك.
ولو قلنا: إن الزكاة لا تجب في هذه القراطيس؛ لأمكن للغني الذي يملك ألوف
الألوف من الذهب أن لا يؤدي زكاة قط؛ ولأبيح الربا بسهولة في أكثر معاملات
المصارف (البنوك) .
***
حديث من آذى ذميًّا
(س6) من محمد أفندي أحمد شمس الإسكندرية.
ملخص السؤال أنه اطلع على خطبة للشيخ بشير الغزي العالم الحلبي الشهير
فرأى حديثًا لم يطرق سمعه وهو (من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه
خصمته يوم القيامة) وسأل عن تخريجه؛ ليباهي بتساهل الإسلام فيه.
(ج) الحديث أورده السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى معجم
الطبراني الأوسط، وأشار إلى أنه حديث حسن. وفي معناه أحاديث أخرى في
الوصية بالذميين والمعاهدين، منها حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والبخاري
والنسائي وابن ماجه (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من
ميسرة أربعين عامًا) وحديث علي عند الحاكم (منعني ربي أن أظلم معاهدًا ولا
غيره) والإسلام يأمر بأكثر من ذلك، فقد قالوا: إنه يجب على المسلمين إطعام
الذمي عند الضرورة، ويستحب مع غير الضرورة، كما تجب حمايتهم والدفاع
عنهم ولو بمحاربة المعتدي عليهم.
***
شرب الدخان في مجلس القرآن
(س7) من الشيخ إبراهيم حسين بهوارة عدلان (الفيوم) .
حضرة العلامة الكامل، والأستاذ الفاضل، صاحب مجلة المنار الغراء،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي ومولاي: جرى الخلاف بين طائفة
من أهل العلم في حكم التدخين - أي شرب الدخان- في مجلس تلاوة القرآن الشريف
فمنهم من حرَّمَه، ومنهم من جوَّزه مع الكراهية؛ مراعاة للآداب، ولم يذعن أحد
الطرفين لقول الآخر؛ وحيث إن سيدي ممن يُرجع إليه في فصل الخلاف، فقد
حررت هذا لفضيلتكم؛ راجيًا التفضل بالجواب مبسوطًا في العدد الآتي في مجلتكم
مؤيدًا بالحجج الإقناعية بدون إحالة على ما نشرتموه سابقًا في المجلة؛ لإجماله
ولصعوبة العثور عليه الآن على مثلنا، ولفضيلتكم جزيل الشكر.
(ج) قد بسطنا الكلام في هذه المسألة في الفتوى 71 من المجلد السابع
(ص 537) ، وحاصل رأينا أن شرب الدخان في مجلس القرآن يعد محظورًا،
إذا كان العرف العام يعده من إساءة الأدب، والأوجب على كل امرئ مراعاة ما
يعتقده، وتطمئن إليه نفسه مع الاحتياط في التزام الأدب. وإن الجرأة على التحريم
من أكبر الجنايات على الدين، إذا لم يكن الدليل عن الشارع واضحًا نصًّا أو دلالة،
ولا نص في مسألتنا ولا دليل، إلا ما يقال في مسألة الأدب، وهو شيء يتعلق إما
بالعرف، وإما باعتقاد الشخص، وهو ما اعتمدنا عليه من قبل، وما نقوله الآن.
والله أعلم.
***
استعمال ساعة الذهب
ولبس خاتمه
(س8) من كتاب الشيخ عبد اللطيف أبي عوف بدنقلة (السودان) .
أرجو إفادتي بوجه السرعة على صفحات مجلتكم الغراء؛ عن حكم لبس
الساعة التي داخلها شيء من الذهب، وكذا الخاتم، ومقدار ذلك الذهب أعني عيار
12 أو أقل، ولكم الشكر.
(ج) في الفتوى 57 من فتاوى المجلد السابع (ص419) تفصيل لمسألة
التحلي بالذهب واستعماله، ومنه بعد ذكر الأحاديث الواردة في المسألة والبحث فيها
(وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب
والفضة، مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة
من نار، ولم أره في المنتقى. وأما مذاهب العلماء فيها: فقد حمل الأقلون النهي
على التنزيه دون التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين،
وإباحة ما عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب
عليهما، حتى حرّم الشافعية اتخاذ الأواني وإن لم تُستعمل) ثم بحثنا في علة ذلك
واختلافها باختلاف الزمان. وذكرنا في آخر الفتوى أن الاحتياط أن يتجنب المسلم
ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء ذلك بحسب اجتهاده مع
الإخلاص، وراجع التفصيل إن شئت (في ص 421 - 424م7) . والظاهر أن
المراد بالذهب في النهي ما يعم التبر الخالص، والمزيج من الذهب وغيره ما سُمِّي
ذهبًا، ويحتمل أن يقاس الذهب على الحريرعند من يقولون: إن الثوب المحرم منه
هو ما كان إبريسمًا خالصًا، أو ما كان الإبريسم هو الغالب فيه وزنًا أو نسيجًا.
وإنني أعتقد أن استعمال الساعة الذهبية إنما تحرم إذا كان فيها إسراف أو مخيلة،
وكذا غيرها مما لا نص في النهي عنه، وإلا فهو مباح أو مكروه في الأكثر،
والله أعلم.
***
رابطة النقشبندية
(س9) من ع0ب0ح في سنغافورة.
حضرة الفاضل صاحب المنار بمصر:
نحن معاشر أهل الطريقة بهذه الجهات، قد عثرنا على فتواكم في رابطة
أهل الطريقة، فحمدنا الله على صنيعكم، وما أيدتم طريقتنا بقولكم: (يمكن للمريد
العارف بعقيدة الإسلام أن يجمع بين التوحيد وبين تخيل شيخه، إلى أن قلتم:
فمثل هذا لا يعد مشركًا لشيخه مع ربه) ، ونحن ولله الحمد عرفنا بعقيدة الإسلام،
وأن إحضارنا صورة شيوخنا عند ذكر الله؛ لأنه من آكد الآداب، والاستمداد منه
هو استمداد من النبي صلى الله عليه وسلم، وقلبه يحازي قلوبنا إلى صاحب الطرق
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبه صلى الله عليه وسلم دائم التوجه إلى
الحضرة الإلهية، كما هو مقرر في كتب الطريقة، وقد عمل بالرابطة أولياء الله
الصالحين، ونحن من متبعيهم ومتبعي النبي صلى الله عليه وسلم، وسلسلة طريقتنا
متصلة إليهم وإلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول محرر الإمام
بسنغافورة: إن الرابطة بدعة لم يعمل بها النبي، ولا أصحابه، ولا التابعون، بل
قال الرجل: إن اختراع الرابطة لم يكن في عهد الإمام الغزالي، وعبد الوهاب
الشعراني، وعبد القادر الجيلاني، فهل يتصور أن كبار العلماء القائلين بالرابطة
أخطأوا فيها. وهذا المدعي وأضرابه مصيبون فيتركهم الناس ويتبعون المدعي
وأضرابه كلا ثم كلا، وقد تجرأ المدعي على أهل الطريقة، قال ما معناه: من قال
إن الدين الإسلامي يأمر بالرابطة فهو أكذب من خطيب سمبس؛ لأن ذلك الخطيب
وغيره قد نشروا ردودًا على مجلة الإمام بالجرائد، ومن قول ذلك الخطيب ما معناه
حيث إن الإمام قد أنكر الرابطة وقال: إنها بدعة لم يأمر بها الدين، بل هي
ممنوعة وجبت عليه التوبة، ووجب عليه إعلان توبته بمجلته وبالجرائد التي كتب
فيها مسألة الرابطة؛ لئلا يغتر الناس بقوله في الدين. اهـ أرجو من المنار بسط
الجواب، هل هي بدعة ممنوعة أم لا؟
(ج) قد علم من جوابنا السابق أن الرابطة لم يرد فيها شيء من كتاب ولا
سنة نبوية، وإنها ليست من أعمال الدين، فيطالب كل مسلم بها، ويعد مقصرًا في دينه إذا تركها، وينكر عليه إذا أنكرها، كما يعد مبتدعًا إذا فعلها. وإنما هي طريقة
في تربية النفس كغيرها من الطرق التي استخدمها الناس في التربية والتعليم،
واستفادوا منها بالتجربة ما كان عونًا لهم على مقصدهم، فمن قال: إن الدين يثبتها
أو ينفيها لذاتها فهو مخطئ؛ لأنه ليس فيها نص ديني، ومثله كمثل من يقول: إن
طريقة كذا في التعليم مطلوبة أو ممنوعة دينًا. نعم إن ما يستحدثه الناس من طرق
التربية والتعليم قد يخل عرضًا بأمر من أمور الدين، فيكون محظورًا دينًا لذلك
العارض، كما إذا اعتقد المريد أن شيخه يملك بالرابطة نفعه أو ضره، وهدايته أو
غوايته وضلاله.
واعلم يا أخي في الدين والطريقة، أنك لا تستطيع أن تدافع عن الرابطة إلا
إذا قلت: إننا لا نتخذها دينًا، وحينئذ لا يسرك كونها بدعة؛ لأن البدعة إنما تكون
ضلالاً إذا كانت في الدين. وأما البدعة في غير الدين فمنها الحسن ومنها القبيح،
كما يؤخذ من حديث مسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى
يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)
ومن البديهي أنه ليس لأحد بعد انقطاع الوحي أن يسن في الدين شيئًا، وإنما هي
السنن المتعلقة بأمور الناس في تربيتهم وتعليمهم وسياستهم، وسائر مصالحهم
التي تنفعهم في دينهم ودنياهم. ولكن ما ينفعهم منها في دينهم لا يعد حكمًا دينيًّا
يطالب به الناس على أنه دين؛ لأن شارع الدين هو الله تعالى على لسان رسله -
عليهم الصلاة والسلام -، ولا شرع بعد انقطاع الوحي وختم الرسالة.
ثم اعلم أن عمل بعض الصالحين بالرابطة لا يدل على أنها من الدين؛ لأنه
لم يقل أحد من أئمة المسلمين وعلمائهم أن عمل الصالحين حجة في الدين، وقد وقع
كثير من الصالحين في البدع أو المعاصي عن جهل بالحكم الشرعي، ويجوز عقلاً
أن يخطئ بعض أولئك الصالحين في مسألة، ويصيب فيها مثل صاحب مجلة الإمام
من المعاصرين. ولو شئت لأفشيت سر الطريقة وزدت بيانًا. ولكن لا محل لذلك
هنا ولا حاجة إليه.
وجملة القول: أن صاحب مجلة الإمام قد أصاب في قوله: إن الرابطة ليست
من الدين. ولكن يظهر لي أنه بالغ في الإنكار، حتى جعل الدين محرِّمًا لها لذاتها
وإن لم يترتب عليها محظورًا أو تجعل شرعًا ودينًا، كما بالغ المنتسبون إلى
الطريقة فجعلوها دينًا؛ كأنه وقع بها التكليف من رب العالمين على جميع المسلمين
حتى صار المنكر لها كالمنكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين.
وهذا مما ننكره على الفريقين. وأوصي أهل الطريقة بترك المراء والجدل
والنبز بالألقاب، وأن يجعلوا ذلك سببًا للتفريق والخلاف في الدين، فإن ذلك
يخرج صاحبه من حضرة الدين {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [
1]
المحاكم الشرعية
مازال حظ المحاكم الشرعية في البلاد العثمانية دون حظ المحاكم النظامية
وسائر دواوين الحكومة ومصالحها، فإننا لم نسمع حتى الآن صوتًا قويًّا من
المبعوثين في مجلس الأمة بطلب ما يجب من إصلاحها، فهل تتهيب حكومتنا
إصلاح هذه المحاكم أو تتقاعس عنها، كما فعلت الحكومة المصرية؟ !
إن المحرك للحكومة المصرية والمرسل لها إلى الإصلاح أو الممسك لها عنه،
إنما هو الاحتلال الإنكليزي، وكان الرؤساء من الإنكليز يقولون: إننا لا نمس
الأمور الدينية؛ لأنها لا تقبل الإصلاح؛ أو لأن المسلمين لا يريدون إصلاحها؛ أو
يتهموننا فيها تهمة نحن في غنًى عن التعرض لها، ثم محاولة تبرئة أنفسنا منها.
وقد ضج مسلمو مصر بعد ذلك بطلب إصلاح هذه المحاكم، فكانوا مع الإنكليز
كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
إن المحاكم الشرعية في القطر المصري، أمثل منها في سائر الولايات
العثمانية من بعض الوجوه، على أن اختصاص هذه أوسع من اختصاص تلك،
وليس لمجلس الأمة في الآستانة أن يتعلل بمثل ما يتعلل به الإنكليز عند مطالبتهم
بإصلاح هذه المحاكم، فمتى نسمع صيحة أهل العلم المحبين للإصلاح في المجلس
ببيان ما يجب من إصلاحها؟
أينسى أولئك المبعوثون أصحاب الغيرة على الشرع أن هذه المحاكم كادت
تكون حجةً على الإسلام، وفتنةً للمسلمين؟ أينسى أولئك الأحرار الواقفون
للاستبداد بالمرصاد؛ أنه لا يوجد معهد من معاهد الحكومة يباح فيه الاستبداد بغير
تبعة ولا مسئولية إلا في المحاكم الشرعية؛ حيث يحكم القاضي برأيه بلا مشاورة
في الأمر، ولا مشاركة في الرأي، ولا معرفة للمتقاضين بالمسائل التي يجب بها
الحكم! ! . فهل يرضى مجلس الأمة أن تبقى هذه المحاكم على هذه الحال، وهي
منسوبة إلى الشرع الذي بُني على الشورى، وأمر الرسول المعصوم بالمشاورة
صلى الله عليه وسلم، وجرى الخلفاء الراشدين على الحكم بها؟
ألا يعلم نوابنا الكرام أن فساد هذه المحاكم مفسد لكثير من البيوت (العائلات)
التي هي مرجعها في مسائل الطلاق والنفقات وغير ذلك من أمور الزوجية؟
أيستهينون بأمر الأوقاف، وما لها من العلاقة بالأمور الدينية والأعمال الخيرية التي
لها شأن كبير في صلاح الأمة وفسادها؟
أول شيء يجب الالتفات إليه في إصلاح هذه المحاكم هو إدخال الشورى فيها
بجعلها مؤلفة من أعضاء يحكمون بأكثر الآراء، كما هو الشأن في المحاكم
النظامية، حتى ما يحكم فيها بالشرع الشريف؛ كمحاكم الحقوق التي يحكم فيها
بالمجلة ، وقد سبقت مصر إلى هذا الإصلاح في محكمة القاهرة التي يرأسها
القاضي الأكبر الذي يرسل إليها من دار السلطنة العثمانية. فإقامة هذا الركن
الإسلامي في المحاكم الشرعية، يبطل استبداد القضاة في الأحكام، ويقلل ارتكابهم
لجريمة الرشوة، ويجعل القضية سريعة الإنجاز، فيصل الناس إلى حقوقهم في
وقت أقرب مما يصلون الآن، إن وصلوا! .
يلي هذا الركن وضع كتاب في الأحكام التي تختص بها هذه المحاكم؛ ككتاب
مجلة الأحكام العدلية، في سهولته، وترتيبه، وتقسيمه إلى مواد معدودة، ومسائل
محدودة، تلزم الحكم بها وبيان عدد المسألة التي يستند في الحكم إليها. ولا حاجة
إلى التذكير بفوائد هذا الكتاب التي (منها) كون المتقاضين يعلمون منه الأحكام
التي يحكم بها في دعاواهم، فيطبقونها عليها، ويطلبون الحكم بها.
(ومنها) توحيد الأحكام في الدعاوى التي موضوعها واحد، لا كما يقع الآن كثيرًا من حكم المحاكم المختلفة، بل المحكمة الواحدة في مثل هذه القضايا بأحكام
مختلفة، يؤخذ فيها مرة بقول فلان، ومرة بقول غيره. ناهيك بما في كتب فقه
الحنفية من الخلاف في التصحيح والترجيح، وما يكون في هذه الأحكام
المتعارضة من الفضائح وضعف الثقة بالدين وأهله ، (ومنها) سهولة تناول الحكم
وتضييق مسالك الخلاف فيه بين أعضاء المحكمة. وبوجود مثل هذا الكتاب تتحقق
قاعدة كون الجهل ليس بعذر ، وإنه ليعسر الآن على من زاول كتب الفقه عدة سنين؛
أن يعرف الحكم الذي يحكم به القاضي الشرعي في قضية ما، فما بالك بمن لم
يزاول هذه الكتب، وأكثر المسلمين لا يستطعون ذلك.
ولا بد من تعزيز هذين الركنين بثالث؛ وهو وضع نظام لسير هذه المحاكم
في أعمالها وكتبها وسجلاتها، ويجب أن تغل فيه يد رئيسها عن الاستبداد في
الأعمال؛ كعزل الكتاب، ومتولي الأوقاف، وموظفي المساجد ، واستبداد غيرهم
بهم أو تقديم بعض القضايا على بعض، بل يجب أن يكون كَتَبَة المحكمة كسائر
عمال الحكومة، لا يُعزلون إلا بمحاكمة يثبت فيها عليهم ما يوجب عزلهم ، وإننا
لننتظر من حكومتنا الجديدة قانونًا عادلاً لمجالس أو محاكم التأديب التي يحاكم فيها
جميع عمالها.
أما الرسوم التي تؤخذ في هذه المحاكم وتقسم بين القاضي والكتبة، فيغلب
على ظني أن المالية تبطلها، إن لم تكن قررت إبطالها بالفعل في الميزانية الجديدة
وحددت مرتبات القضاة ورؤساء الكتاب وسائر الكتبة، فإن في أخذ المحكمة للرسوم
مفاسد كثيرة لا تخفى على أُولي الأمر، وما هم لها بمهملين.
الركن الرابع من أركان الإصلاح: جعل هذه المحاكم ابتدائية واستئنافية في
كل ولاية؛ كالمحاكم النظامية، وإبقاء التمييز في الآستانة ما بقي تمييز الأحكام
العدلية فيها، وإن كان في ذلك مشقة على أهل الولايات البعيدة، وتعويق للأحكام
النهائية، يُرجى أن تتلافاها الحكومة أو يتلافاها مجلس الأمة.
وأقترح على باب المشيخة الإسلامية وعلى مجلس الأمة: أن يعهد إلى اللجنة
التي تنظر في إصلاح المحاكم الشرعية بمطالعة تقرير الأستاذ الإمام (الشيخ محمد
عبده) الذي قدمه لنظارة الحقانية في شأن محاكم القطر المصري، وما يلزم
لإصلاحها، ومطالعة لائحة محاكم ذلك القطر القديمة، والنظام الجديد الذي وضع
أخيرًا؛ فإن في ذلك عونًا كبيرًا، والله الموفق.
_________
(1)
نشرها في جريدة المفيد ببيروت.
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت
دعا كامل بك الأسعد كبير عشائر جبل عامل رفاقه أعضاء المجلس العمومي
بولاية بيروت إلى داره فيها، وأعد لهم مأدبة حضرها صاحب هذه المجلة وبعض
وجهاء بيروت. وبعد الفراغ من الطعام، وقف دعاس أفندي جريس أحد الأعضاء
وأثنى على رب الدار، وأطرى صاحب المنار، وأشار إلى رغبة الحاضرين في
استماع شيء منه في موضوع المجلس العمومي، ورأيت الأنظار موجهه إليّ تنتظر
الإجابة، فشكرت، وقلت بعد مقدمة فكاهية ما ملخصه:
إن للمجلس العمومي فائدتين: فائدة اجتماعية وفائدة عملية، أما الفائدة
الاجتماعية فهي تنشئة الأمة وتربيتها على الحكم؛ أعني حكمها لنفسها بنفسها.
إن أمر هذه المجالس العمومية من أفضل ما في القانون الأساسي من الإصلاح
فلو لم يكن للأمة أحد من قبلها ينظر في مصالحها إلا المبعوثون في عاصمة السلطنة
لأمكن أن يبقى أهل الولايات ولا سيما البعيدة عن العاصمة جاهلين لمعنى مشاركة
الأمة للحكومة في إدارة مصالحها؛ ولكن وجود أفراد من كل قضاء بكل ولاية في
مجلس قريب منهم، يشرف على أعمال حكومتهم، وينظر في مصالحهم ومنافعهم
هو الذي يعلمهم بالعمل معنى الحكومة الديمقراطية، ويجعلهم واثقين بأن حكامهم
عمال مخلصون لا سادة قاهرون، وأنهم لا يستطيعون أن يستبدوا فيهم أو يظلموهم
إلا إذا ظلموا هم أنفسهم.
إن المبعوثين يشتغلون بأمور الدولة الكلية، فمصالح الأهالي لا تتعلق بهم
مباشرة، وإنما تتعلق بحكومتهم المحلية، فذلك المجلس ينظر في القوانين العامة.
ولكنه لا ينظر في كيفية العمل بها في كل قضاء بحسب حاجته. ولكن هذه المجالس
العمومية هي التي تنظر في ذلك، فتقرر إصلاح كذا من الطرق، وإنشاء كذا من
المكاتب والمدارس في الأماكن التي تعنيها الأهالي، يرون ذلك بأعينهم، ويعلمون
أنهم نالوه برأي نوابهم ونفوذهم في حكومتهم، فبذلك يتربون على الحكم النيابي
ويعرفون قيمته، فلا يرجعون عنه، ولا يرضون بالحكم الشخصي بعده.
إن مجلسكم هذا صورة مصغرة لمجلس المبعوثان، فإذا قمتم بما عهد إليكم
كما يرجى من غيرتكم وخبرتكم، إنكم تكونون أولى من غيركم بالترجيح في
الانتخابات القابلة؛ لأن الأهالي يكونون قد وثقوا بكم عن تجربة وخبرة، كما
يكونون أكثر عناية بالانتخاب، وأكبر أملاً في المنتخَبين.
إن ما ذكرت في معنى تربية الأمة على الحكم النيابي أمر عظيم، يجب أن
يكون نصب أعينكم، فإن له علاقة عظيمة بمستقبل البلاد وعظمة الدول. إن الدولة
لا تكون دولة دستورية إلا إذا استقر الحكم الدستوري في كل ولاية من ولاياتها،
وعمرت به البلاد، وارتقى أهلها.
إن كل ولاية من الولايات تعد عضوًا من أعضاء جسم الدولة، ولا يمكن أن
يكون الجسم حيًّا قويًّا سويًّا إذا كان بعض أعضائه صحيحًا، وبعضها مصابًا بالفالج.
ثم إنني أذكركم بما لا تنسونه من أن في الأمة حزبًا يرى وجوب استقلال
كل ولاية من ولايات الدولة في إدارتها الداخلية كالولايات الألمانية والولايات
المتحدة، فإذا كانت البلاد العثمانية غير مستعدة لذلك الآن، وإذا كان هذا الحزب
الآن ضعيفًا لا يستطيع تنفيذ رأيًا، فما يدرينا ماذا يكون في المستقبل البعيد أو
القريب من أمره وأمر البلاد؟ ألا يجوز أن يقوى، بعد أن تكون الوزارة في يوم ما
من أعضائه، والرأي الغالب في مجلس الأمة هو رأيه؟ (يجوز يجوز) إذًا
كيف يكون حال ولايتنا هذه، وسائر الولايات العربية التي هي دونها، ودون
سائر ولايات الدولة في الاستعداد للاستقلال الإداري؟ إننا نعترف بأننا عاجزون
الآن عن إدارة شؤون ولايتنا بدون استعانة بإخواننا من الترك، مع أن ولايتنا
أرقى الولايات العربية، وقد قلت من قبل، وكتبت في المنار: إن الولايات
السورية تعد وسطًا في الاستعداد والارتقاء، بين ولايات الروملي وبعض ولايات
الأناطول، وبين سائر الولايات العربية كالعراق والحجاز واليمن. فيجب أن
نرقي أنفسنا، وأن نكون مصدرًا أو عونًا لسائر الولايات العربية على الارتقاء،
بل أقول: إن إخواننا الترك الذين نعترف لهم بأنهم أرقى منا، لا يستغنون الآن
عن الاستعانة بالأجانب؛ لترقية ولاياتهم، كما نحتاج نحن إليهم وإلى الأجانب.
وهذا الرأي عندي قديم، وقد كاشفت به متصرف طرابلس والوالي أيضًا،
فمن المحتم أن نوجه جل عنايتنا للحكم الذاتي، والاستغناء بأنفسنا عن الأجانب.
أيها الأعضاء الكرام: إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم. ولكن قوة
الإرادة في الإنسان تصغر كل عظيم، وتسهل كل عسير، فإذا وجَّهتم عزائمكم إلى
ذلك بالإخلاص، فإنكم تصلون إلى الغاية بإذن الله.
وقلَّ من جد في أمر يحاوله
…
واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
يري بعض الفلاسفة أن الإنسان لا يجزم إرادته بأمر ممكن إلا وينفذ،
وكان الأستاذ الإمام على هذا الرأي، وقد قال أكثر من مرة: إنه لم يجزم إرادته
بطلب شيء جزمًا تامًّا لا تردد فيه إلا وحصل، وقد كان حكماء الصوفية على هذا
الرأي، وعبر عنه بعضهم بقوله:(إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد) أي: إذا صح
توجه إرادتهم إلى شيء تعلقت به إرادة الله، وما تعلقت به إرادة الله نفذ حتمًا،
فعلى الإنسان أن يعرف قيمة نعمة الإرادة، فيوجهها إلى خدمة وطنه جازمًا بأنه
أهل لأن يرقيه، وهو بهذا يكون أهلاً له مهما كانت معارفه، فإن تفاضل الناس
بالإرادة فوق تفاضلهم بالمعرفة فما كل عالم ينفع كل من أراد أن ينفع، فإنه ينفع
على قدر استعداده.
هذا ما أحببت أن أذكر به من أمر الفائدة الاجتماعية في المجالس العمومية.
وأما الفائدة العملية فهي قسمان: مادية، وأهمها إصلاح الزراعة، وتسهيل
المواصلات، وتعديل الأموال الأميرية. ومعنوية وهي التربية والتعليم، والبحث
في هذه المسائل يطول، وأنتم أعلم بحاجة البلاد وطرق عمرانها من رجل مثلي
ليس له مثل اختباركم؛ ولكنني أذكركم بثلاث أمور تتعلق بالتعليم، هي أهم
المسائل في رأيي: مراقبة التعليم والتربية في المدارس، وإنشاء مدرسة للمعلمين،
وإحياء لغة البلاد.
إن مدارس الحكومة ليس فيها تربية ولا تعليم نافع، بل ربما كان ضررها
أكبر من نفعها، وإنما كان حظ الحكومة المستبدة السابقة منها هو التمتع بصورة
الملك دون التربية التي تكوِّن النفوس الفاضلة، والتعليم الذي يربي العقول الكبيرة.
إن الدولة تؤلَّف في هذا العصر من عدة وزارات، منها وزارة المعارف.
وهذه الوزارة لا تكون بغير مدارس، فكان بقاء المكاتب والمدارس في عهد
الاستبداد الماضي لدولتنا؛ لأجل استكمال صورة الملك والتمتع بها، فإن التمتع
بالمظاهر الصورية له لذة كما ترون في تمثيل القصص، وإلا فإن الاستبداد كان
يحارب العلم حربًا عوانًا، فإن أردتم أن يكون التعليم نافعًا في مدارس الحكومة
فيجب أن تبدؤا بالأمر الأول؛ وهو مراقبة التعليم: بأن تطلبوا تعيين مفتشين ممن
يرضى الأهالي معرفتهم وغيرتهم وصدقهم، يتعاهدون هذه المدارس، ويراقبون
سيرة مديريها ومعلميها في التربية والتعليم ، ثم إن فساد التعليم في الزمن الماضي،
قضى بأن يكون المعلمون الأكفاء فينا أندر من الكبريت الأحمر، فالإصلاح الحقيقي
للتعليم يتوقف على إنشاء مدارس؛ لتخريج المعلمين القادرين على التربية والتعليم
بالطرق العصرية القريبة. يجب أن يكون الأستاذ المعلم على علم بالفن الذي يعلمه
مهذبًا؛ ليكون قدوة للمتعلمين في الفضيلة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ويجب أن
يكون مع ذلك عارفًا بطرق التربية والتعليم، فما كل مهذب يعرف كيف تتكون
ملكات الفضائل في النفوس، ولا كل عالم يعلم كيف ترسم مسائل العلوم في الأذهان
فلا بد من إنشاء مدرسة للمعلمين في مركز الولاية.
وأما إحياء لغة البلاد وأعني بها اللغة العربية، فالذي نطالب به الحكومة من
وسائله؛ هو جعل تعليمها في مدارسها كلها إلزاميًّا كأختها التركية، وجعل دراسة
العلوم في الولايات العربية بلغة أهلها، وفي سائر الولايات بالتركية، كما كان
بحسب القانون، والذي يقرر هذا هو مجلس الأمة في الآستانة، وإنما على
المجالس العمومية المطالبة به.
لا يقال: إن هذا يفتح علينا باب تعصب الجنسيات في الدولة، وإننا في أشد
الحاجة إلى الاتفاق والتئام الأجناس، فإن الفرق بين العرب وبين ماعدا الترك من
الأجناس واضح جدًّا.
إن الشعب العربي يعد نحوًا من ثلثي نفوس الدولة، ويقل فيه من يعرف
التركية. وأما سائر الأجناس - الألبانيين والأكراد والأرمن والروم - فكلهم يعرفون
اللغة التركية. فلا يحتاج الحكام والموظفون فيهم إلى معرفة لغاتهم؛ ليحسنوا القيام
بأعمال الحكومة فيهم، بل إن أكثرهم ليس لهم لغات علمية ذات فنون ومعاجم
تصلح للتعليم، فالأرمن قريبو عهد بتدوين لغتهم وجعلها تعليمية، والألبان والأكراد
لما يتم لهم ذلك. قرأنا بعض جرائد هذا الشهر أن الألبان قد عزموا على اختيار
الحروف العربية للغتهم التي يشتغلون بتدوينها، ومن المقرر أن غرض الحكومة
الأول من مدارسها هو تخريج الموظفين الأكفاء، فإذا كان المتخرجون فيها جاهلين
باللغة العربية التي هي لغة أكثر العثمانيين، يتعذر عليهم أن يقوموا بوظائفهم كما
يجب في أكثر بلاد الدولة، فإن من يجهل لغة قوم يتعذر عليه أن يعرف حقيقة
حالهم، وما ينبغي لهم وما يتظلمون منه. ولا يقول عاقل: إنهم يستغنون
بالمترجمين؛ لما في ذلك من العسر والنفقات، وأين يتعلم المترجمون؟ على أن
العربية ركن للتركية، فتعلُّمها يزيد المتعلم كمالاً فيها. أما جعل اللغة العربية هي
لغة العلوم، والاكتفاء من التركية في بلادنا بالقراءة والكتابة؛ فذلك أن الأمة التي لا
تتلقى العلوم بلغتها لا تكون أمة علم، وإنما يكون مبلغها من العلم؛ أن يوجد فيها
بعض المترجمين لبعض ما يقرره العلماء المستقلون، ولا يوجد فيها المحققون
والمخترعون والمكتشفون.
إن لغة الأمة صفة مقومة لها، واللغات التي يتعلمها بعض أفرادها أعراض
تعرض لها وتفارقها، فإذا تلقت العلم بلغتها، يصير صفة لها حية بحياتها نامية
بنمائها، وإذا تلقته بلغة أجنبية فقصاراه أن يكون زينة عارضة لبعض أفرادها، ولا
ارتقاء للأمم في هذا العصر إلا بالعلم، فيجب علينا أن نبذل جل عنايتنا في تحصيل
العلوم العصرية ونقلها إلى لغتنا، ولا حياة لنا بغير ذلك، وإننا في عملنا هذا لا
نبعد عن إخواننا الترك، بل نكون إخوة متساوين في المزايا والحقوق، كما يجب
أن يكون الإخوة. والمساواة الحقيقية لا تكون مع التفاوت في العلم والعرفان
(فليس سواء عالم وجهول) .
أرجو عفوًا؛ فقد أطلت عقب الأكل ووقت طلب الراحة، فإن خلطت في
الكلام؛ فربما كان سبب ذلك الخلط في الطعام، وتوجه أكثر الدم إلى المعدة، وأقله
إلى الدماغ، والسلام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحرية واستقلال الفكر
آخر خطبة لي ببيروت
دعيت إلى حضور الاجتماع الشهري لجمعية الجامعة العثمانية ببيروت في
أوائل هذا الشهر (آذار) فاقترح عليَّ رئيسها أن أخطب فيهم بما يفتح الله به،
حاكيًا عن رغبة الجمهور، فقمت وقلت ما ملخصه بحسب ما أتذكر:
أيها الإخوان الكرام
إن المسائل التي نحتاج إلى البحث فيها واستجلاء غوامضها، كثيرة جدًّا،
فمن الناس من إذا اقترح عليه أن يخطب، يبادر إلى الكلام في الموضوع الذي
يتبادر إلى ذهنه، سواء كان مطابقًا لمقتضى الحال، يرجى أن يستفيد منه
السامعون ما يصحح أفكارهم أو يقوِّم أعمالهم أو لا. ومنهم من يرى هذه الطريقة
منتقدة، وأنه لا بد أن يخاطب الناس بما يتعلق بحالهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه
في أفكارهم وأعمالهم، فلا يحثهم على ما لا سبيل إليه، ولا يقرر لهم ما لا يفهمون
حقيقته.
مثال من ذلك: أن بعض الخطباء يقف فيقول: أيها العثمانيون، عليكم
بالاتحاد، عليكم بالائتلاف. إن الاتحاد هو مفيض العمران، ومرقي الأوطان،
ورافع شأن الإنسان، ويكتفى بمثل هذه الخطابيات المجملة التي لا يعلم السامعون
كيف يمكن العمل بها، فإن اتحاد المختلفين في التربية والتعليم والعقائد والأفكار
والأخلاق والتقاليد والعادات من الأمور، لا يمكن أن تحصل بمجرد الحث عليها
ومدحها، وإنما يجب بيان ما يشترك فيه من يراد حثهم على الاتحاد وإقناعهم بأن
منافعهم ومصالحهم مرتبطة به، وأنها إنما تحفظ وتنمو باتحادهم واتفاقهم، وتذهب أو
تضعف بتخاذلهم وتفرقهم.
أما أنا فأقول: إن كل كلام صحيح المعنى لا يخلو من فائدة، والفكرة
الإجمالية لا تخرج إلى حيز التفصيل إلا بإبرازها بالقول أو الكتابة، ومن لم يستفد
اليوم من الكلام الصحيح فائدة تامة، يُرجى أن يستفيد غدًا، فليقل كل أحد ما يرى
أنه حق نافع، وليُقَدم الأهم على غيره، وهو ما كانت حاجة الناس إليه أكثر. وإذا
قيل لنا: ما هو أهم ما نحتاج إليه الآن؟ قلنا: إنَّا محتاجون إلى أشياء كثيرة من
العلوم والأعمال؛ لأجل أن ننهض لما نكون به أمة عزيزة؛ ولكن نهوضنا يتوقف
على أمر عظيم لا يحصل بدونه. فما هو هذا الأمر الذي هو شرط للارتقاء في كل
علم وكل عمل، بحيث يلزم من عدمه العدم؟ إلا أنه هو الحرية الشخصية
واستقلال الفكر.
قد قلت في بعض الخطب التي تكلمت فيها عن الحرية: إن استعداد البشر
للارتقاء ليس له حد ولا غاية تحدد، فإذا عاشوا ملايين من السنين يمكن أن يكونوا
في ارتقاء مستمر لا ينقطع، إذا كانت حريتهم في العلم والعمل مصونة من عبث
المستبدين، فهكذا ترتقي الأمم على قدر صيانتها واحترامها للحرية، وتتخلف عن
الارتقاء بل ترجع إلى الوراء، على قدر عبثها بالحرية، وتحكمها في الباحثين
والعاملين.
مضت سُنَّة الله في البشر بأن الفكر يسبق العمل، فإذا كانت أفكار العقلاء
والأذكياء مضغوطة ممنوعة من الحركة والنمو، فإنها لا تكون مستقلة، والأمة لا
تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، إلا إذا أطلقنا العنان لجياد الأفكار تجول في ميادين
الكتابة والخطابة، بلا حجر، ولا ضغط، لا فرق في ذلك بين المسائل الدينية
والاجتماعية والسياسية وغيرها.
يجب علينا أن نحترم رأي من يخالفنا، كما نحترم رأي من يوافقنا؛ لأن
الفلاح متوقف على ظهور الحقائق، وظهورها يتوقف على استقلال الأفكار وحرية
البحث والكتابة والخطابة، ولا يخاف على دينه من حرية البحث إلا من لا ثقة له
بدينه، ومن كان واثقًا بأنه على حق، فإنه يعلم أن مخالفته فيه لا تزيده إلا قوة
وظهورًا، فقد نطق الكتاب العزيز بما هو ثابت عقلاً واختبارًا من أن الحق يعلو ولا
يعلى، وأنه ما تصارع الحق والباطل إلا وصرع الأول الثاني {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ
عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ
وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) .
علينا أن نبحث بعد هذا عن أنفسنا؛ لنعلم هل نحن نحترم استقلال الفكر
وحرية القول والعمل؟ هل قمنا بحق هذا الشرط الذي يتوقف عليه كل مقومات
الحياة: الاجتماعية والسياسية، وأسبابها؟ إن حكومتنا تركت الضغط على عقولنا
وأفكارنا، والحجر على ألسنتنا وأقلامنا؛ لنكون أحرارًا في أقوالنا وأعمالنا، فهل
صرنا أحرارًا بالفعل؟
نعم، إن الحكومة تركت الاستبداد والاستعباد، وأباحت لنا الحرية طوعًا أو
كرهًا. ولكننا ما قبلناها، فإن الأفكار لا تزال مضغوطة محجورًا عليها أن تبرز من
مضيق الدماغ إلى فضاء الوجود الخارجي، والحرية الشخصية مهددة لا من
الحكومة بل منا أنفسنا.
في البلد حوادث حيوية كثيرة، لا يكتب أحد من أصحاب الجرائد رأيه فيها
بالحرية. ولماذا؟ أيخاف من (المراقب) أن يُرَمِّجها له؟ لا إن الجرائد لا تعرض
الآن على المراقبين، كما كانت تعرض في زمن استبداد الحكومة. ولكن ما سقط
مراقب الحكومة إلا وتقاسم مثل عمله من لا يُحْصى من دهماء الأمة يفتاتون على
أصحاب الجرائد وكُتَّابها، وعلى الحكومة نفسها، وربما كان هذا الاستبداد أشد
وطأة، وأثقل ضغطًا من استبداد الحكومة.
إنَّ جرائد بيروت كان لها مدير واحد لسياستها هو المراقب، وكانت نسبة
أصحابها ومحرريها إليه كنسبة محرري الجرائد الكبيرة في البلاد الحرة إلى
رئيس التحرير أو مدير السياسة. فكانوا إذا أرادوا كتابة شيء يتحرون أن يكون
بحيث يرضيه، وقد عرفوا ما يرضيه ويجيزه، فلم تكن مراعاته متعذرة عليهم.
ولكن يتعذر عليهم الآن أن يعرفوا ما يرضي هؤلاء المراقبين الذين حلوا محله؛ لأن
عقولهم وآراءهم ليس لها قاعدة ترجع إليها، ولا ميزان توزن به. فهل يمكن أن
ترتقي الصحافة أو الأفكار في بلاد يفتات على حملة الأقلام وأرباب الأفكار فيها كل
أحد، حتى البحار والحمال وبائع الحمص والفول! ! .
إننا قد تغنينا باسم الحرية في أيام إعلان الدستور، وألقينا الخطب الكثيرة في
وصفها، وأنشدنا القصائد العديدة في مدحها والتغزل بها، وكان هتاف الجماهير
للخطباء والشعراء يعلو في الجو حتى يبلغ عنان السماء، وكتبنا ذلك الاسم الجميل
(الحرية) بالخطوط الجميلة، وزينا به البيوت والمعاهد العامة والخاصة والحدائق
فظهرنا بمظهر العاشق الولهان لهذه الحرية الجميلة. ولكنني أخشى أن نكون في
عشقنا لها كعاشق أم عمرو؟ ولعل بعض الحاضرين لا يعرف خبر هذا العاشق،
فأذكره إعلامًا له، وتذكيرًا لغيره: مر بعض الناس بصديق له مرة، فرآه غير ما
يعهد، رآه قلقًا مضطربًا، فسأل عن حاله، فقال: إنني عاشق ولهان، لا يقر لي
قرار، ولا يطيب لي اصطبار، ولا يهنأ لي طعام، ولا يزور جفني منام قال له
صاحبه: من عشقت؟ قال: عشقت أم عمرو أجمل نساء العصر، قال: من هي
أم عمرو؟ ومتى رأيت وجهها المليح؟ فبرح بك هذا التبريح؟ قال: لا أدرى من
هي ولا لمحتها عيني، وإنما سمعت رجلاً ينشد في الطريق:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة
…
ردي عليّ فؤادي أينما كانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه أبرع النساء جمالاً وحسنًا، وأوفرهن
من القسامة قسمًا. لما قال الشاعر فيها هذا القول! فعشقتها.
وقد طال على هذا العاشق الأحمق تلك المعشوقة المجهولة، حتى مر به
صاحبه يومًا فإذا هو يبكي ويندب، قد ساورته الأحزان، وواثبته الأشجان، فسأله
ما دهاك؟ فصاح أواه واويلاه، لقد بليت بأشد المصائب وأعظم النوائب، فقد ماتت
أم عمرو. وغلبه النشيج، وأخذ في النحيب، ولما سكت عنه الروع، قال له:
ومن أخبرك بموتها فهل رأيتها؟ قال لا؛ ولكنني سمعت الشاعر ينشد في الطريق:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
…
فلا رجعت ولا رجع الحمار
فقلت: لولا أنها ماتت لرجعت، ولما قال الشاعر هذا القول.
نعم إنني أخشى أن تكون حريتنا المعشوقة هي أم عمرو المجهولة، فإن
الحرية الحقيقية قد تعرفت إلينا فنكرناها، ورغبت فينا فرغبنا عنها، وأحبت
القرب منا فاخترنا البعد عنها، وإلا فما بال الكثيرين منا يسلطون العامة على من
يبدي رأيًا يخالف رأيهم، أو هوى أنفسهم: يهددونه ويهينونه، فإذا لم يوجد له
عصبة تمنعه منهم فإنهم يضربونه، ومتى كانت الحكومة المستبدة تضطهد حرية
الفكر والعلم أشد من هذا الاضطهاد، وتحاول استعبادًا أقبح من هذا الاستعباد، أي
العبودتين أذل: العبودية للحكومة أو العبودية للعامة؟
كان الخطباء والشعراء يقولون في أيام عيد الحرية في مدح الأمة نحوًا مما
يقولونه في مدح الحرية نفسها؛ لإظهار التناسب بينهما، ولا يزال كثيرون منهم
يسمعوننا مدح أنفسنا، ويشيدون بفضلنا وفضل سلفنا، ويتمثلون بقول شاعرنا:
(نبني كما كانت أوائلنا
…
إلخ) ، أما أخوكم هذا فيقول: إن ما كان يقال في أيام عيد
الحرية، لا ينبغي أن يقال اليوم، ولا في كل يوم إن الأعياد في عرف الناس
هي أيام السرور والابتهاج، فيحسن أن يتناسى فيها ما يسوء بالتحري فيها ما يسر
هذه أيام الجد والعمل، فيجب أن نعرف فيها ما نحتاج إليه من هذا العصر؛
لنجاري الأمم العزيزة القوية، الراتعة في بحبوحة المدنية، لا أن نمني النفس
بالأقوال التي يلذ سماعها، ونترك السنن التي نرقى باتباعها.
يا قوم، إننا مرضى، ومن كتم داءه قتله، إننا مرضى ويجب علينا أن
نداوي أنفسنا، إن الأدوية لا يقصد بها اللذة، بل يقصد بها المنفعة، فهل سمعتم أن
الأطباء يداوون المريض المدنف بإطعامه اللحوم المعالجة بالبقول والأفاوية والكنافة
والبقلاوة والأشربة المثلجة؟ لا لا، إنهم يداوونه بالمسهلات البشعة الطعم والكينا
المرة، وربما داووه بالسكين ينال شيئًا من بدنه. وكذلك تكون أدوية الأمراض
النفسية. وإنه ليسوءني أن أصرح لكم بما يؤلمكم. ولكنها الحقيقة لا بد منها، وإن
كانت مرة كالدواء: (أخوك من صدَقك لا من صدَّقك) إن من فَضْل الحرية علينا
أن صرنا قادرين على البحث عن مرضنا، وعلى الاجتهاد في معالجته، فيجب أن
نعرف قيمة هذه النعمة، وأن نشكر الله - تعالى - عليها بالعمل الذي نستفيد به
منها.
أعود فأقول: إننا لا يجوز لنا أن ندعي أننا عرفنا الحرية، وإننا نقدرها قدرها
إلا إذا كنا نحترم استقلال الفكر، فلا نعارض أحدًا في إبداء رأيه، وإظهار علمه
باللسان أو القلم، ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام بدون هذا.
فعليكم أيها الفضلاء المحبون لخير أمتكم وتقدم بلادكم، أن تنصروا الاستقلال
الذاتي والحرية الشخصية، وأن تبذلوا جهد المستطاع في بث هذا الفكر في طبقات
الأمة، وتقنعوا أولئك الذين نسمع أخبار افتياتهم على الكتاب وأصحاب الجرائد،
بأن عملهم هذا ضار ببلادهم، وأن الذين يغوونهم بذلك هم أهل الأهواء الذين
يتبعون حظوظ أنفسهم، ولو فيما يضر بلادهم.
انصروا حرية البحث والطباعة؛ لكي تتجلى للأمة الحقائق، فتعرف ما
يضرها وما ينفعها؛ ولكي تتربى فيها العقول الكبيرة بعد رفع الضغط عنها. إن
تعلموا هذا تخدموا بلادكم أجل خدمة. وأراني أطلت عليكم في هذا الكلام الحار مع
حرارة الجو بكثرة الأضواء وازدحام الناس، فحسبي هذا، والسلام.
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
خوارق العادات في الإسلام [*]
(أطوار البشر والمعجزات - المعجزات العقلية والحسية - علم الغيب -
التنويم المغنطيسي - استحضار الأرواح - الكهانة - الأحلام - السنن الكونية
والمعجزات - جرائم الأمم والأفراد والعقوبات الإلهية عليها) .
أتى على الإنسان حين من الدهر، كان في طور أشبه بطور الطفولية،
فسادت الأوهام والخرافات على العقول البشرية، وكثر بين الناس الدجالون
والمحتالون، والسَّحرة والمشعوذون، وملكوا نواصي الناس بإفكهم وكذبهم،
وصاروا يتصرفون في جميع أمورهم، فما كان أحد يقدم على عملٍ ما إلا بعد
مشاورتهم والاسترشاد برأيهم، فكان الناس في أيديهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً
عقول فاسدة، وأراء كاسدة، وأفهام ساذجة، وبصائر قاصرة، وجهل وأوهام،
وخرافات وخزعبلات تقيمهم وتقعدهم، وتفرحهم وتحزنهم، فإذا برق بارقٌ من
السماء ارتجفوا واضطربوا، وإذا نزلت صاعقة من السحاب ماجوا وارتعبوا، وإذا
أصابهم مرض ما، علقوا لدفعه الأوراق أو استنجدوا براقٍ، وإذا نظر إلى بنيهم
ناظر حوطوهم بالتمائم، وأطلقوا حولهم بخور المباخر، إذا كسفت الشمس أو
خسف القمر، صاحوا ودقوا الدفوف وقرعوا الطبول؛ لإرضاء آلهتهم على ما
يزعمون، إلى غير ذلك من الأوهام والأباطيل.
هذا كان شأن الجماهير إلا من شذ منهم وندر، وأضاء الله عقله بشيء من
نور العلم، ومع ذلك ما كان يسلم عقله من جميع ترهاتهم.
سار الله - تعالى - مع تلك الأمم في هذا الطور سير الأب الحكيم مع أبنائه
في طفوليتهم، فأكثر فيهم الهادين والمرشدين، والأنبياء والمرسلين، فأكثروا من
وعظهم ونصحهم وإنذارهم ووعدهم ووعيدهم ، وخذلوا من كانوا متسلطين على
عقولهم من السحرة والمشعوذين؛ بما أجراه الله على أيديهم من المعجزات، وأظهره
لهم من الآيات البينات التي تركت السحرة مغلوبين على أمرهم حيارى في شأنهم،
ولولا تلك الآيات لما قدر الأنبياء على تخليص أممهم من حبائل الدجالين والمحتالين،
بل الأبالسة والشياطين، فكانوا إذا ظهرت تلك المعجزات بهرت منهم العقول،
وحيرت الأفكار، وأعجزت السحرة، وأدهشت الناس، فيخضع المستعد منهم لهيبة
من ظهرت على أيديهم. فيؤمنون له ويتبعونه، ويطيعونه فيما يأمرهم به {وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) ، ثم يأخذ الله المعاندين الذين خالفوا
ضمائرهم، وكابروا عقولهم وأبصارهم، ولم يميزوا بين الغالب والمغلوب،
والصادق والكذوب، بأنواع من العقوبات تناسب أحوالهم جزاء لهم وعبرة لغيرهم؛
لعلهم يرشدون.
مضت الأيام والأعوام، وتوالت القرون والأجيال، وانتقل البشر من حال إلى
حال، وارتقوا من طور إلى طور ، فأخذت العقول تستنير، والأفكار تضيء
والسحر يضمحل، والأنبياء من بينهم تقل، حتى ختمت النبوة ببعثة سيد الأنبياء
والمرسلين، وأكبر الهادين والمصلحين.
كان البشر في عهد البعثة المحمدية، قد خرجوا من طور الطفولية إلى سن
الرشد، فأصبحوا لا يناسبهم من الدلائل والبراهين ما كان يناسبهم في القرون
الأولى، وقل فيهم تأثير المحتالين والدجالين والسحرة والمشعوذين 0 وصاروا
يرجون الهداية من طريقها، فساعدهم الإسلام على ذلك، ونهج بهم منهجًا لم يسبقه
به دين من قبل، فجعل الحجج العملية والدلائل العقلية رائده في جميع دعاويه،
وعليها معتمده في كل مبانيه، وقلل من شأن المعجزات الحسية بقدر الإمكان، حتى
لا تكون عقبة في رقي عقل الإنسان في مستقبل الزمان، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) فإن البشر في عهد النبوة المحمدية، أخذوا يدركون قيمة
المعجزات الحسية، وأنها لا علاقة بينها وبين دعوى النبوة، وأنها لا يسهل تميزها
عن غيرها من أعمال السحرة والمشعوذين، والصناع الماهرين، وأنها إن أقنعت
تلك العقول القديمة، وأرهبت تلك النفوس وهي صغيرة وحملتها على الإيمان،
فإنها أصبحت لا تغني العقل فتيلاً، ولا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، وإن الدليل إن لم
يكن له من العقل أكبر نصير، فهو أضعف ضعيف. ومن كان يطلب من النبي
صلى الله عليه وسلم تلك المعجزات، فما كان يريد بها إلا الإعنات والإعجاز،
والسخرية والاستهزاء، وإلا فإن أمامه من البراهين والآيات ما يشفي علة النفوس،
ويروي غلة العقول {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) وأما ما أظهره الله - تعالى -
على يديه من المعجزات الحسية، فلم يكن يراد به إلا إفحام المعاندين المستهزئين،
والزيادة في تثبيت المهتدين. وقد كان جل اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم في
إثبات دعوته على القرآن وحده. كما يتضح ذلك لمن تدبر آياته. فإنه هو المعجزة
التي تلتئم مع الدعوة، وتعلو بالعقل إلى مستوى العلم والفهم، وتناسب حال الأجيال
من بعده، فلا تقف عقبة في سبيل نظرياتهم وتفكيرهم، ومعلوماتهم واختراعاتهم،
ولا تلتبس عليهم بحيل الدجالين وتدليس المحتالين، ولا بكذب القصاصين وإفك
الراوين، وتخيل الواهمين، واختراع الكاذبين، بل تساعدهم على البحث،
وتحضهم على التفكير والنقد، والتمحيص والاستدلال والاستنتاج.
فببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ختم عصر العجائب والغرائب، وبدأ عصر
العلم والعقل، فهو الحد بين العصرين، فلذا كانت معجزاته تشمل هذا وذاك، وكان
أجلها وأكبرها والباقي منها وهو القرآن مناسبًا لزمنه-عليه السلام، ولكل ما أتى
بعده من الأزمان فلا يناسبها غيره.
وكما ختم عصر المعجزات، وتمت النبوات، كذلك أغلق باب الكهانة،
فكأن الله - تعالى - في العصر الأول والبشر في طور الطفولية كان يتجلى
لأبصارهم، وفي العصر الثاني وهم في طور الرجولية صار يتجلى لبصائرهم أكثر
مما يتجلى لأبصارهم. فإن بصائرهم في العصر الأول كانت ضعيفة لصغرها فلا
تتحمل أن تراه، فلذا كان يظهر لأبصارهم بأنبيائه ورسله الكثيرين، وآياته
ومعجزاته، وبعض مخلوقاته: كالجن الذين كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى
فيخبرون به بعض البشر؛ وذلك لأن الأب مع أطفاله يكثر التكلم معهم، وتأديبهم،
وتهذيبهم، وترغيبهم، وترهيبهم، ومكافأتهم بالماديات، أو معاقبتهم على حسب ما
يبدو منهم. فإذا صاروا رجالاً كف عن ذلك، واكتفى بإبداء بعض تعاليمه العامة
وإرشاداته المكتسبة من طول التجربة والاختبار، وتركهم يستعملون عقولهم فيما
يرونه صالحًا لهم، كذلك فعل الله تعالى (وله المثل الأعلى) بعد أن بلغ الإنسان
رشده، أعطاه الشريعة العامة والقواعد الثابتة، وأباح له التصرف في الأمور
بحسب ما يرشده إليه عقله، فبعد أن كان يوحي للأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً في
كل جزئية من جزئيات الأمور، اكتفى الآن بما في القرآن الشريف من القواعد
العامة والأصول الثابتة، فإنها - مع ما يوحيه إلينا العقل - كافية لهدايتنا في جميع
الأمور بعد أن بلغنا رشدنا.
لذلك أغلق الله - تعالى - باب الوحي والمعجزات والكهانة، وأخبرنا بذلك كله
صريحًا في الكتاب العزيز، فلم يبق لمحتال علينا ولا لمشعوذ أدنى وسيلة، وبذلك
خلص العقل البشري من الأوهام والخرافات والترهات، وأصبح طريق العلم أمامه
واضحًا لا يحجبه عنه حاجب، ولا يقف أمامه فيه واقف. ولكي لا يبقى هناك ثلمة
في نفس أحد من المؤمنين، يصل إليه منها شيطان من الشياطين، نَصَّ الكتاب
العزيز نصًّا صريحًا لا يقبل التأويل على أن الغيب علمه عند الله لا يعلمه إلا هو،
وأن الأمور كلها بيد الله، يصرفها كما يشاء لا يراعي فيها مجاملة أحد من عباده،
فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ
مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثل ذلك في القرآن كثير
يصعب أن يستقصى في مثل هذه المقالة.
يقول واهم: إذا كان الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، فما بال التنويم المغنطيسي
واستحضار الأرواح، والأحلام الصادقة تكشف كثيرًا من الغيب، وكانت الكهانة
تكشف كثيرًا منه من قبل؟
فاعلم أن الشخص في حالة التنويم المغنطيسي لا يمكنه أن يعلم شيئًا مما لم
يوجد، فلا يمكنه أن يطلع على الغيب؛ أي: لا يمكنه أن يعرف شيئًا مما لم يكن له
وجود، وهو في تلك الحالة المخصوصة، وغاية الأمر أنه لا يحجبه عن رؤيا
بعض الموجودات حاجب؛ لصفاء روحه عن كدورة المادة إذ ذاك، ومن هنا تتسع
دائرة معلوماته عن بعض الموجودات، فيمكنه أن يخبر بالقياس أو الاستنتاج مما
علم عن بعض أشياء قبل وقوعها: كالأمراض التي ستصيبه مثلاً بعد وقوفه على
حالته الجسمية، كما يخبر الطبيب عن بعض الأشياء المرضية قبل حصولها؛
لمعرفته الأمراض وأسبابها ومسبباتها وأعراضها، وكما يخبر الفلكي عن الكسوف
والخسوف قبل وقوعهما؛ أي: إن الشيء إذا لم يكن موجودًا فلا يمكن العلم بوقوعه
إلا قياسًا أو استنتاجًا واستنباطًا من موجود، وإلا فالغيب (وهو ما غاب عن
الإنسان لعدم وجوده مطلقا أو لعدم وجود ما يستدل به عليه) علمه عند الله لا يعلمه
إلا هو، ولا يعلمه أحد من عباده إلا إذا أطلع هو (جل شأنه) أحدًا على شيء منه
فيخبر به، ويفشو بين الناس، كما أطلع الله رسله (الملائكة والأنبياء) على بعض
الغيب، فعلموا وعلمه الناس منهم، وكما كان يعلم بعض ذلك بعض الجن قبل إبطال
الكهانة، واستراق السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر، فيخيل للناس
أنهم يعلمون الغيب، والحقيقة أنهم أُخبروا بما أخبروا به، ولنا الآن في مسألة
استحضار الأرواح دليل قاطع حسي على إمكان اتصال البشر (ومنهم الكهنة)
بالعوالم الأخرى الروحية (ومنهم الملائكة والشياطين) ، وبذلك يمكن البشر
الاطلاع على بعض المغيبات من هذه الطريق، كما يمكنهم أن يطلعوا على بعضه
في طريق الأحلام الصادقة، فإنها من بقايا الوحي إلى بعض النفوس الصافية،
وفيها يُري الله - تعالى - بعض عباده شيئًا مما سيكون بإرادته، كما كان يوحي
إلى الأنبياء من قبل، وليس للبشر في معرفة شيء من ذلك اختيار، بل هو شيء
يفعله الله متي شاء، وكيف شاء.
أمَّا عِلم أحد من تلقاء ذاته (أي: بدون وحي أو سماع من غيره) وبغيب
حقيقي (أي: لا يستدل عليه من موجود) فهو محال، إلا على الله الفاعل المختار
الذي يفعل ما يشاء متى شاء، وكما شاء. ودعوى معرفة أحد غيره الغيب دعوى
باطلة كاذبة، لا يمكن لأحد الجزم بوقوع شيء من الغيب باليقين، وما يقع منه
مطابقًا للخبر، فلا يكون إلا اتفاقًا ما لم يكن موحى به.
فالغيب المنفي علمه في القرآن الشريف هو هذا الذي ذكرناه، أي: الغيب
الحقيقي لا مطلق الغيب. فإن الغيب أمر اعتباري، فما غاب عنك لا يغيب عن
غيرك، وما لم تعرفه لجهلك بشيء ما، يعرفه غيرك ممن علم هذا الشيء أما مسألة
إنكار المعجزات بسبب مخالفتها لما اعتاد الناس، فهي من السخافة بمكان
نعم، إن سنن الله - تعالى - في هذا العالم لا تتبدل ولا تتغير، كما نطق به
القرآن الشريف في عدة مواضع منه. ولكن خرق العادة ليس خرقًا للسنة، فإن من
سنة الله إيجاد الشواذ في كثير من الأشياء المعتادة، إذا اقتضت حكمته ذلك. ولذلك
نشاهد في عالمي الحيوان والنبات من الشواذ التي يسمونها (الفلتات الطبيعية) ما
يصعب حصره، وما قال أحد بأن هذه الشواذ خارقة لسنن الكون ونواميس الوجود،
وإن كانت خارقة للمعتاد. ولو سألتهم عن حكمة وجودها أو عن كيفية خلقتها،
لعجزوا عن الجواب. أما نحن فنقول: إن الحكمة في وجود مثل هذه الأشياء الشاذة
هي أن الله - تعالى - يريد أن يرينا شيئًا من مبلغ قدرته وعظمته وأن قدرته
تعالى لا تقف عند الحد الذي تعهدناه، بل هي أوسع من أن تحيط بها مداركنا. وأما
كيفية خلق هذه الشواذ والعلل المباشرة لتوليدها، فإنا نجهلها الآن كمال الجهل،
وربما علمنا عنها شيئًا في المستقبل. كذلك نحن نعلم حكمة إيجاد الله تعالى
للمعجزات؛ وهي أنها تخيف الناس، وتلجئهم إلى الاحتماء بالأنبياء، فيتعلقون بهم
ويؤمنون لهم ويتبعونهم، فتصلح حالهم. وتنفرهم من أعمال السحرة والمشعوذين
وتبعدهم عنهم. ولكنا إلى الآن لا يمكننا أن نفهم كيفية إيجادها، ولا الأسباب التي
تنشئها، وغاية ما نقول: إنه هكذا أوجدتها القدرة الإلهية، كما يقول الطبيعي عن
الشواذ هكذا وجدت، إن كان عقله لا يدرك كيفية وجودها.
قد يقول قائل: إن هناك فرقًا عظيمًا بين المعجزات وبين هذه الشواذ الطبيعية التي
اتخذتها مثالاً لها، فالمعجزات لا يشاهدها أحد الآن، بخلاف الشواذ فإنها تشاهد كل
يوم، فإن كانت المعجزات حقيقية وجارية على سنن الكون، فلم انقطعت الآن؟ ؟
ونقول: أما انقطاع المعجزات فهو لانقضاء زمن الأنبياء، ولو وجد داعٍ لها
الآن لوجدت، كما أن كثيرًا من الشواذ في العالم الطبيعي قد انقرضت الآن؛
لانقراض الحيوانات والنباتات التي كانت تظهر فيها. فكأن سنة الله - تعالى - في
هذا العالم هي إذا وجدت الحكمة لظهور المعجزات تظهر، ولو وجدت بعض
أنواع من الحيوانات والنباتات البائدة، لوجد فيها من الشواذ المخصوصة في
خلقتها وكيفية معيشتها ما يدهشنا الآن، ويعد من العجائب والغرائب. وقد كانت
الأحياء في مبدأ أمرها تتولد من الجمادات مباشرة؛ وهو ما يسمونه (التولد
الذاتي) ، وقامت البراهين القطعية على ذلك، والآن لا يوجد شيء منه مطلقًا، فلم
ينكره المنكرون لانقضاء عهده الآن، كما انقضى زمن المعجزات؟ ؟ إن هذا لأمر
عجاب! !
بقيت كلمة واحدة تتمة لهذا الموضوع؛ وهي أننا قلنا فيما سبق ما معناه: إن
الله - تعالى - كان يؤدب الأمم السابقة ببعض أنواع من العقوبات المادية،
كالخسف والمسخ والقحط، فهل ما يقع الآن بالأمم من ذلك هو جزاء لهم على
أعمالهم أم لا؟
الجواب: إن ما يفهم من القرآن الشريف هو أن ما يقع بالأمم من المصائب
المهلكة؛ هو عقوبة لهم على أعمالهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، وكذلك ما يصيب الأشخاص من المصائب؛ هو في
الغالب جزاء لهم على ذنب ارتكبوه {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14) ، {وَمَا
أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) ولكن لا يفهم من ذلك أن
جميع المصائب هي سبب ما كسبه الإنسان، بل إن ذلك بحسب الغالب؛ فإن الآية
لا تدل على التعميم، وإذا فهم منها العموم فإنه يخصص بمثل قوله تعالى
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (البقرة: 155) الآية. أي إن بعض المصائب قد يراد بها الاختبار أو غيره لا
العقوبة، كما أن قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: 23) لا يراد به
ظاهره، مع أنه صرح في إفادة الكلية من قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى: 30) الآية. فالله تعالى لم يترك البشر في هذا الطور - طور العلم
والعقل - بدون مراقبة ومجازاة لهم على أعمالهم كلا، بل هو أرحم من الأب الحكيم
لا يترك أبناءه إذا كبروا بدون تأديب لهم إذا كثر إجرامهم، بل قد يتداخل في
أمورهم ويعاقبهم على ما يجرمون. فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.
(المنار)
اتبع الدكتور فيما ذكر من ترقي الدين رسالة التوحيد، وهذا هو الأصل في
نسخ الشرائع الذي يحتج به عليه الشيخ صالح اليافعي في الرسالة التي بعد هذه وهو
لا ينكره، ويرد عليه أن الخوارق لم تنقطع ولكنها لم تعد حجة للدين في هذا العصر
كالعصور الأولى.
_________
(*) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي الطبيب بسجن طره.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ
الرسالة، وأدى الأمانة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإني قد وقفت على الكلمات التي كتبها في الرد عليَّ حضرة العلامة
والمفضال الفهامة الدكتور محمد توفيق صدقي - وفقنا الله وإياه للهداية والتوفيق
آمين - وحيث إني رأيته لم يأت بدليل جديد، وإنما كرر كتابة ما قد بينت للقارئين
فساده في رسالتي السابقة. أردت اختيار السكوت، وأن أفوض إلى قراء المنار
وغيرهم من علماء الإسلام تولي ترجيح أحد القولين، والحكم بتخطئة أحد
الخصمين بعد الفحص عن أدلة الطرفين. ولكن ألح عليَّ في كتابة جواب الجواب
من يعز عليَّ من أهل البيت الأطهار نخبة الأخيار سيدي أحمد بن حسين العطاس
باعلوي - سلمه الله وحفظه - وكذلك كثير من حزب الله المفلحين المصلحين
الصادقين محبي المنار الأغر، فاستخرت الله واستعنت على كتابة هذه الجملة
المختصرة؛ لأنبه أخانا الفاضل على أن ما كتبه في هذا الرد هو نفس ما كتبه سابقًا
مما قد بينا -ولله الحمد- خطأه، وأيضًا هو لم يبطل شيئًا مما كتبناه في رده لا
بنص نقلي ولا بدليل عقلي.
وأما ما ذكر من شبهات غير المسلمين: فهي مما لا قيمة لها إذا عرضها
الفاحصون على معيار التحقيق، وغاية محصلها أن تكون من أضعف الشبهات التي
ربما تعرض وتعلق بخيالات غير الواقفين على حقيقة دين الإسلام، وها أنا ذا أقدم
للواقفين بيان قيمة كل شبهة أوردها العلامة الممدوح عنهم ووجه دلالتها، ثم أتبع
ذلك بردها، وألتمس من حضرة سيدنا شيخ الإسلام، ومرشد الأنام مولانا السيد
محمد رشيد رضا منشئ المنار، أن يصلح ما فيها من القصور والخطل، وأن ينبه
أحدنا على زلته، ويدل على محل عثرته، ولولا أن بذل النصيحة في الدين واجب
لم أكتب ولا حرفًا واحدًا. ولكن امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناصحوا في
العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم) ،
ولنشرع في المقصود بعون الجواد المعبود فأقول:
قال العلامة الفاضل، سلمه الله ووفقنا وإياه للصواب (الكلمة الأولى في
تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن) إلى آخر ما نقل
عنهم، وحاصله أنهم اعترضوا على صحة دين الإسلام ورسالة سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم بوجود النسخ الذي يسلمه المسلمون في القرآن؛ لأنه - أي النسخ -
لا يكون إلا إذا كان المنسوخ ناقصًا ومعيبًا، إما في مغزاه أي غاياته أو معناه أي
مدلول لفظه، أو بلاغته المخل بإعجازه، أو أن الحكم لا يرضاه الناس، أو أنه لا
ينفعهم، أو أنه قد يضر بمصلحتهم.
فمحصل ما ذكروه أن النسخ لا يكون إلا لذلك، وكأنهم يريدون أن صدور ذلك
من الرب واجب الوجود محال، واستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون دين الإسلام
منزلاً من الرب؛ أي لوقوع ذلك فيه، واعتذروا عن قبول العقلاء لذلك؛ بأن سببه
كمال محمد صلى الله عليه وسلم في الدهاء والتحيل، بحيث صار يلعب بعقول
الصحابة. وذكر عنهم ما ملخصه وحاصله أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتم له
ما أراد من التشريع إلا بعد إصلاح ما وقع في دينه من العيب والنقص، وإبدال ما
انتقده عليه المنتقدون، أو عارضه المعارضون، أو عرف أنه يكون كذلك ولو بعد
حين؛ ولذلك تعلق بدهائه إلى إخفاء عيبه وعيب دينه، بتجويز وترويج مسألة
النسخ في قرآنه، ونقل عنهم أنهم قالوا: وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من
القرآن آيات كثيرة، جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وكأنهم يريدون بذلك أنه
كما أنه يستحيل بزعمهم أن يكون القرآن منزلاً من الله، فهو أيضًا غير محفوظ،
ولم ينقل إلينا كله. ودعوى المسلمين أن ذلك مما نسخ الله لفظه تحكم غير مقبول؛
إذ لم يقدر المسلمون على تعليل ذلك بعلة معقولة - ونقل عنهم أيضًا أنهم يزعمون:
أن ما بقي من القرآن في أحكامه شطط، وأن عباراته متناقضة مختلفة وذكر
عنهم اعتراضًا على بعض أجوبة المسلمين التي ذكرناها في رسالتنا السابقة؛
لتسوغ نسخ لفظ القرآن، حيث قلنا: ما أدَّى وظيفته لا يلزم بقاؤه، فنقل عنهم في
معارضة ذلك: أن القرآن مشتمل على مسائل خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم
وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه. قال: فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ
الآيات التي أدت وظيفتها، وانقضى زمنها، وما حكمة آية الرجم مثلاً مع بقاء
حكمها في شريعة المسلمين! ! انتهى.
أقول: والكلام على ما أورده عنهم من وجوه:
(أحدها) أن نقول: إن بعض هذه الشبهات كقوله: وما بقي من القرآن بعد
هذا التصحيح والتنقيح، تجد شططًا في كثير من أحكامه، فضلاً عما في عباراته
من المتناقضات والاختلافات إلى آخره، لا ترد علينا ولا على من يقول إن القرآن
الموجود فيه ناسخ ومنسوخ، وإنما ترد على خصوص مذهب الدكتور وهو لا
ينفصل عن هذه الإيرادات، ولا يستقيم مذهبه إلا إذا سلك مسلك التأويل المتناقض
لظاهر الدلالات في هذه المواضع، والتأويل إذا صار لا يصح إلا بحيث يكون
المعنى المؤول إليه، إنما يدل عليه بألفاظ غير ما عبر الله به عنه، فهو يكون لا
محالة من باب التبديل والتحريف للذين ذم الله أهلهما ونهى عنهما، وكما أن مثل
هذا التأويل مردود عند أهل الحق من المسلمين، فغير المسلمين أيضًا لا يقتنعون به،
وهو أعظم منفر لهم عن الإسلام؛ لجواز أن يعتقدوا أن ذلك إصلاح خلل،
وتكميل نقص في القرآن والدين - فاعتراضاتهم السابقة على النسخ هي واردة على
مثل هذا التأويل، وقبولهم تكذيب ما نقله المسلمون فيما تقدم ضرب من المحال.
أما نحن القائلون بجواز النسخ في الأديان، ووقوعه في القرآن، فلا ترد
علينا هذه الشبهات لا في الدين، ولا في خصوص القرآن. وإنما يلزمنا الاستدلال
على جواز النسخ عقلاً، ويحسن منا إذا بينا حسنه وحكمته في المورد المعين،
ومن قصر عن إدراك ذلك، فلا يضره ذلك ولا يضر الدين أيضًا - لأن جهلنا بالشيء
لا يستلزم عدمه في الواقع - وإنما يضر لو كان بعض ما علمنا أنه من الدين مخالفًا
للحقيقة في نفس الأمر، وليس في الإسلام شيء من ذلك. وفضلاً عن
الإيرادات والشبهات الواردة على دين أو مذهب مؤلف من هذه التأويلات
المنفرات لمن يريد انتحاله؛ التي لو أردنا إيرادها لطال بها الكلام، فإن مدلول
النسخ الذي يمكن أن ينكر وقوعه المنازعون، أو يورد الشبهات عليه الزائغون، والتأويل الذي يوكل القرآن إليه حضرة الفاضل الدكتور متحد لا فرق بينهما؛ إلا أن هذا الأخير يكون من الرب الذي يفعل ويأمر بالحكمة والعدل. فليتأمل الناظرون
ولينصفا أخونا الدكتور الفاضل، ثم ليدلنا على مورد شبهات غير المسلمين الصحيح:
أهو على من يقول بوقوع النسخ في القرآن للمصلحة الراجحة والحكمة العادلة، أم على من يعترف بصحة شبهتهم، ثم يعدل إلى التأويل المذموم الذي لم يأذن الله به، ولا دل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.
وليعلم القراء الكرام أن ما اعترض به علينا في نسخ الأحكام غير المسلمين،
هو وإن كان فاسدًا كما سيأتي، إلا أنه وارد عليه أيضًا؛ لأنه قائل بوقوع ذلك في
السنة، بل السنة القولية منسوخة عنده كما صرح بذلك مرات، وناسخ ذلك احتمال
تقدير سبب من جملة احتمالات؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه المختلف
في رفعه ووقعه، المعارض بما هو أصح وأصرح منه ومتأخر عنه كل ذلك، مع
ترك العلة والسبب المنصوص في ذلك، كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على
وجوب العمل بالسنن القولية النبوية، فانتظره.
فإذا عرفت ذلك، لم يبق مما ذكرته من شبهات غير المسلمين ما يخصنا
الجواب عنه دونه؛ إلا ما يورد على نسخ اللفظ فقط.
(الوجه الثاني) أن مثل هذه الشبهات فاسدة في نفسها، لا يصح أن يوردها
إلا من كان لا يجوِّز النسخ في الشرائع مطلقًا؛ أي ولا يجوز نسخ شريعة نبي
متأخر لشريعة نبي متقدم عنه مطلقًا، حتى ولا من بعض الوجوه في حكم من
الأحكام؛ لأن مَن جوَّز ذلك في شيء مخصوص، لزمه تجويزه فيما سواه إذا وجدت
العلة أو نظيرها، وبالأولى فيما هي به أولى. فإذا جاز نسخ شريعة نبي لشريعة
نبي قبله، فمن باب أولى جواز نسخ بعض شريعة لبعضها الآخر؛ لأن نسخ دين
النبي المتقدم وشريعته الثابتة المقررة عند أمته وأتباعه أشق وأبعد من كل بعيد عن
معتقداتهم الموروثة، لا سيما إذا كان قد تدين بها أنبياء كثيرون؛ لأن ما جاء به
العدد الكثير، قد تستبعد بعض العقول نسخه بما جاء به الواحد - فما يسلمه الدكتور
الفاضل من النسخ هو أولى بإيراد الشبهات مما ينكره - ولما كان نسخ بعض
الشريعة لبعضها الآخر، يكون منوطًا بمناسبة الأحكام لأفراد معتنقيها المعينين
كان كلما كثروا تتجدد الأحكام، وتعدل على الحد الوسط المشترك بين أكثر مجموع
الأمة؛ ليكون الدين شريعة عامة، فلهذا ونحوه كان النسخ في الشريعة الواحدة لطفًا
حسنًا، وعليه فالنسخ في شريعة أي نبي من الأنبياء حين حياته أبعد عن اعتراض
المعترضين عليه منه فيها بعد ثبوتها، فثبت أن حكم نسخ شريعة لشريعة أو بعضها
لبعضها سيان مطلقًا، إن لم نقل جواز ذلك في الأخير أظهر والله أعلم.
ثم نقول لمن يجوز النسخ مطلقًا: إنا لا نسلم أن النسخ لا يكون إلا لنقص أو
عيب في المنسوخ، بحيث يستلزم نقص الشارع - ومعاذ الله من ذلك - لأنا نقول:
إن النسخ في الأديان لازم ومساوق لترقي نوع الإنسان، فلنا: ترقٍّ ديني، وترقٍّ
طبيعي. ولا يكون الأول إلا لحكمة ومصلحة راجحة. فالحكم الثاني الناسخ يوجد
عندما تكون الأمة مستعدة له، وتخطو إلى التقدم من المقام الأول الذي يحسن أن
تنتهي مدة الحكم المنسوخ بجوازها له؛ لأن ما يناسب البشر في أول نشأتهم قد لا
يناسبهم، بل قد يجب أن لا يكلفوه في أوان كمالهم، وما كانت الأمم السالفة محجور
عنه لمصلحة سد الذريعة، قد يجب في هذه الأزمان رفع حجرهم عنه؛ إذ لو كلف
الجهال ونحوهم ما يتسع له العلماء، للزم وضع الشيء في غير موضعه المناسب
له، وهذا من لازمه قلب الحقائق، ولو حجر على العقلاء البحث في الحقائق
المستعدين لإدراكها وتقديرها قدرها لكان في ذلك الظلم المنزه ربنا عنه، ولو كلف
الضعيف عقلاً أو جسمًا ما لا يطيقه هو، أو ما لا يطيقه إلا من هو أكمل منه لكان
كذلك، وإذا استحال كل ذلك، فلا شك أن حالات الأمم السالفة واستعداداتهم،
تخالف حالات الأمم واستعداداتهم اليوم، فتكليف بني الإنسان اليوم بشرائع أولئك أو
العكس، أقل حالاته أن يكون تكليفًا بما لا يناسب النشوء الفطري والترقي التعليمي،
وحينئذ لو كان ذلك، تكون أحكام الدين من باب تكليف ما لا يطاق، أو من باب
الحجر على المستعد عما هو مستعد له، فيكون الدين سدًّا دون العلوم والمعارف.
ولو أطلق للأولين الحرية، وأذن لهم بولوج أبواب هي مجهولة لديهم، أو لم
يستعدوا لمعرفتها، لكان ذكر تعزيرًا لهم وتكليفًا لما لا يطيقونه، وما كان كذلك فالله
لا يرضى بقاءه، بل لا بد من تغيير وتبديل فيه مساوقين لترقي معارف البشر،
وهذا هو حقيقة النسخ، وما ذكرناه هو سببه وحكمته في الشرائع، فالنسخ لا يكون
لعيب ونقص في المنسوخ، ولا جهل الشارع - تعالى عما يقول الظالمون - بل
يكون لاستعداد المكلفين لما هو خير لهم في الحال أو الاستقبال، ونحو ذلك مما لا
يخلو عن زيادة الخيرية التي ذكر الله أنه لا بد منها في النسخ، فالنسخ يكون قبل
فحش التفاوت في مناسبة المنسوخ لحالة المكلفين، كما ذكرنا ذلك في رسالتنا
السابقة.
فثبت بما ذكرناه وما لم نذكره من الحجج البينة؛ أن النسخ في الشرائع لازم
ومستحسن عقلاً، وكذلك هو واقع فعلاً وثبت ذلك نقلاً، فإن كثيرًا من شرائع
الأنبياء قد نسخت واندثرت، وأنسيت شرائع أنبياء بعدهم، وذلك ظاهر لا نطيل
بذكره، وإن أبى المعترضون لزمهم فوق ما قدمناه من المجالات، أن تكون شرائع
الله المحكمة المحتم على البشر قبولها وامتثالها والإيمان بها متضاربة متناقضة،
وذلك بأن يجب على الشخص الواحد المؤمن بجميعها فعل الشيء الواحد وتركه في
آن واحد، وهو محال من الله وعلى العباد.
والأديان والشرائع قبل الإسلام وقع فيها كثير من الخلط والقلب - أما التكاليف
والصعوبات الشاقة، والكلمات الموهمة خلاف الواقع، والحكايات المستبعدة في
كتبهم الدينية، فمما أوجب على العقلاء منهم ومن غيرهم الجزم بأن تلك الكتب قد
وقع فيها من التحريف والتبديل، ما أوجب أن يحكم بعدم الوثوق بها، وما كان
كذلك فمن اللازم أن لا يبقى دينًا للبشر إلى آخر الدهر - ولذا ونحوه قال نبينا صلى
عليه وسلم (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) الحديث، أفليس من اللازم أن يبدل الله بهذه
الشرائع شريعة عادلة محكمة محفوظة عن تغيير المبدلين وعبث العابثين؟ إن تلك
الكتب وشرائعها لا تصح وهي بالحالة التي عرفت حجة لله على عباده، فأرسل الله
محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأيده بالمعجزات الباهرات والآيات
البينات، فما من دليل يستدل به على رسالة رسول من الأنبياء والرسل السابقين؛
إلا وقد أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بمثله وبأظهر وأوضح منه، وصح لدينا نقلاً
لا يعتريه شك بأسانيد صحيحة متواترة متصلة ، ولولا شهادة الله في كتابه القرآن
وشهادة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في خطابه بصحة معجزات الرسل
السابقين، لم تبلغ تلك النقول في شرائط النقل والقصص فيها إلى مرتبة الظن
فضلاً عن اليقين؛ لأنها لو وزنت بميزان التحقيق في شرائط النقل، لم تتحصل
منها ما يصح اعتباره مسندًا متصلاً عن النقلة المعروفين بشروط الرواية.
وبناءً على ما ذكرناه نقول: إذا كان وجود النسخ في تلك الشرائع غير قادح
فيها لكونها قد أيدت بالمعجزات - فهكذا وجود النسخ في الإسلام أو في القرآن،
لا يصح أن يكون قادحًا في صحته عن الله - تعالى - لما عرفت. وأيضًا فمن
يقدح بذلك في دين الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يكون في الحقيقة
قادحًا في صحة دين من تقدم من الأنبياء عليهم السلام، من حيث يعلم أولا يعلم،
رضي أم أبى.
ونقول في الجواب أيضًا (الوجه الرابع) : ما يدري هؤلاء المشككون أن
النسخ الواقع في شريعة الإسلام أو في القرآن، قد كان سببه تلك التهم التي
أوردها؟ فهل عندهم نقل يؤيدها ويصححها، أو دلالة عقل تعينت على ما ذكروه،
أم هو احتمال فرضوه، وأوهام توهموها، أو مماراة، أو معاندة أنتجتها الأحقاد
الموروثة؟ وهل هذا الاحتمال متعين، فما الدليل عليه؟ وهل يصح أن يقوم مقامه
احتمال من احتمالات غيره ينقض مزعومكم أم لا؟ وحينئذ لا يصح أن يدفع الثابت
ويرد باحتمال من احتمالات هذا حالها. وإذا كان النسخ في التشريع والأديان لازمًا
عقلاً وواقعًا حتمًا، يكون مستحسنًا كذلك نقلاً، وكانت رسالة نبينا صلى الله عليه
وسلم ثابتة بالحجج اليقينية بأصح ما يمكن أن تثبت بها رسالة أي رسول فتعين
ذلك الاحتمال والوهم، وحاله ما عرفت مع وجود ما يدفعه ويكذبه، باطل لا يجوز
لعاقل أن يلتفت إليه أو يعتني بإيراده.
أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء أن صار يلعب
بعقول أصحابه، فجعلهم يقبلون منه ما لا يُقبَل من غيره. فالجواب عنه أن محمدًا
صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي - لم يكن من أهل الحيل والدهاء، وإنما كان
من الأنبياء الأتقياء، وقد عرف بالصدق والوفاء، حتى صار ذلك وصفه الثابت
حتى عند أعدائه، أما أصحابه فقد عرفوا صدقه وصحة دينه بالدلائل الصحيحة
الثابتة، وهم لم يصدقوه فيما جاء من النسخ وغيره لضعف في عقولهم، وهو ما
جاء بما في دينه من النسخ بدعًا مما جاء به المرسلون قبله، وإذا كان كذلك فمن
البهت أن يقال: إن أصحابه صاروا يصدقون ويقبلون منه ما لا يقبل من غيره؛
لأن نقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يأت إلا بما يأتي به المرسلون، ولم يقبل عنه
أصحابه إلا ما يقبل عن المرسلين، وإلا لانقلب الأمر، وكان النسخ في الشرائع
محالاً، وقدمت فساده عقلاً وشرعًا.
فبما ذكرناه يعرف الناظر فساد تلك الشبهة، وأنها في غير محلها، وأنها لا
يتعين ورودها على شريعة دون غيرها من الشرائع، بل لو صح إيرادها على
بعض الشرائع السابقة لركاكة ما عرف من تلك الشرائع، وعدم صلاحيته لتدين
جميع البشر إلى آخر الأبد، وللوهن في نقلها وضبطها - فإن صحة توجيهها على
الإسلام ضرب من المحال، ونقص عن الكمال؛ لما في القرآن من الدلائل
والبراهين على صحة كل أحكامه وشرائعه، وما كان فيه من منسوخ وناسخ موجود
فقد ذكر سببه وحكمته بالصراحة تارة، وبالتضمن والالتزام أخرى، يعرف ذلك
بطرق يعرفها من تلقى فهمه عمن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، فمنها أن يذكر
الحكم الأول مقرونًا بسببه أو بفائدته وغايته، أو غير ذلك مما يصح أن تدرك به
علة هذا الحكم، فإذا نسخه بأن أنزل بعده حكمًا يناقضه بوجه من الوجوه، فهو
يذكر سببه أو غايته، أو غير ذلك مما تعرف به الحكمة في النسخ، وهذا بخلاف
الشرائع السالفة، فإنها وإن كان فيها أشياء من الاستدلال الصحيح، إلا أنه لا يوجد
في كل شيء، ومع ذلك هو لم يبلغ بالاستدلال فيها إلى المراتب الكاملة في التحقيق
كما هي في القرآن ودين الإسلام، ومع ذلك كله نحن لا نحمل ذلك على نقص فيها
كما يقول هؤلاء المعترضون، وإنما نقول: إن تلك قد سبقت فيها الشرائع على
طريقة تناسب عقول البشر واستعدادهم إذ ذاك، وهي غير مؤيدة فناسب أن تكون
كذلك، حتى يترقى الإنسان إلى أعلى مقاماته مما تطوح به إليه خلقته وفطرته
المخصوصة، وحينئذ يناسب أن يشرع له دين بالغ في التحقيق أقصى غاياته،
فكان الأمر كذلك بدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح اليافعي، يرد بها على الدكتور محمد توفيق صدقي ثانية، فأثبتناها على طولها؛ ليأخذ الموضوع حقه من البحث، فإنه من أهم المسائل الدينية في هذا العصر.
الكاتب: معروف الرصافي
التربية والأمهات
أنشدنا الشيخ معروف الرصافي شاعر العراق الاجتماعي لنفسه ببيروت في
المحرم سنة 1327
هي الأخلاق تنبت كالنبات
…
إذا سقيت بماء المكرمات
تقوم إذا تعهدها المربي
…
على ساق الفضيلة مثمرات
وتسمو للمكارم باتساق
…
كما اتسقت أنابيب القناة
وتنعش من صميم المجد روحًا
…
بأزهار لها متضوعات
ولم أر للخلائق من محل
…
يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت
…
بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حسنًا
…
بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايا
…
كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جنان
…
كمثل النبت ينبت في الفلاة
فيا صدر الفتاة رحبت صدرًا
…
فأنت مقر أسنى العاطفات
تراك إذا ضممت الطفل لوحًا
…
يفوق جميع ألواح الحياة
إذا استند الوليد عليك لاحت
…
تصاوير الحنان مصورات
لأخلاق الصبي بك انعكاس
…
كما انعكس الخيال على المرآة
وما ضربات قلبك غير درس
…
لتلقين الخصال الفاضلات
فأول درس تهذيب السجايا
…
يكون عليك يا صدر الفتاة
فكيف نظن بالأبناء خيرًا
…
إذا نشأوا بحضن الجاهلات
وهل يرجى لأطفال كمال
…
إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
فما للأمهات جهلن حتى
…
أتين بكل طياش الحصاة
حنون على الرضيع بغير علم
…
فضاع حنو تلك المرضعات
أأُمَّ المؤمنين إليك نشكو
…
مصيبتنا بجهل المؤمنات
فتلك مصيبة يا أم منها
…
(نكاد نغص بالماء الفرات)
تخذنا بعدك العادات دينًا
…
فأشقى المسلمون المسلمات
فقد سلكوا بهن سبيل خسر
…
وصدوهن عن سبل الحياة
بحيث لزمن قعر البيت حتى
…
نزلن به بمنزلة الأداة
وعدُّوهن أضعف من ذباب
…
بلا جنح وأهون من شذاة
وقالوا شرعة الإسلام تقضي
…
بتفضيل (الذين) على (اللواتي)
وقالوا إن معنى العلم شيء
…
تضيق به صدور الغانيات
وقالوا الجاهلات أعف نفسًا
…
عن الفحشا من المتعلمات
لقد كذبوا على الإسلام كذبًا
…
تزول الشم منه مزلزلات
أليس العلم في الإسلام فرضًا
…
على أبنائه وعلى البنات
وكانت (أمُّنا) في العلم بحرًا
…
تحل لسائليها المشكلات
وعلمها النبي أجل علم
…
فكانت من أجل العالمات
لذا قال ارجعوا أبدًا إليها
…
بثلثي دينكم ذي البينات
وكان العلم تلقينًا فأمسى
…
يحصل بانتياب المدرسات
وبالتقرير من كتب ضخام
…
وبالقلم الممد من الدواة
ألم نر في الحسان الغيد قَبلاً
…
أوانس كاتبات شاعرات
وقد كانت نساء القوم قدمًا
…
يرُحن إلى الحروب مع الغزاة
يكن لهم على الأعداء عونًا
…
ويضمدن الجروح الداميات
وكم منهن من أسرت وذاقت
…
عذاب الهون في أسر العداة
فماذا اليوم ضر لو التفتنا
…
إلى أسلافنا بعض التفات
فهم ساروا بنهج هدًى وسرنا
…
بمنهاج التفرق والشتات
نرى جهل الفتاة لها عفافًا
…
كأن الجهل حصن للفتاة
ونحتقر الحلائل لا لجرم
…
فنؤذيهن أنواع الأذاة
ونلزمهن قعر البيت قهرًا
…
وتحسبهن فيه من الهنات
لئن وأدوا البنات فقد قبرنا
…
جميع نسائنا قبل الممات
حجبناهن عن طلب المعالي
…
فعشن بجهلهن مهتكات
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا
…
لما غدت النساء محجبات
وتهذيب الرجال أجل شرط
…
لجعل نسائهم مهذبات
وما ضر العفيفة كشف وجه
…
بدا بين الأعفاء الأباة
فدًى لخلائق الأعراب نفسي
…
وإن وصفوا لدينا بالجفاة
فكم برزت بحيهم الغواني
…
حواسر غير ما متريبات
وكم خشف بمربعهم وظبي
…
يمر مع الجداية والمهاة
ولولا الجهل ثَمَّ نقلت مرحى
…
لمن ألفوا البداوة في الفلاة
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان)
أهدانا المعلم عبد الحميد الفراهي (من العلماء في الهند) بضع رسائل في
تفسير سور متفرقة من القرآن العزيز، سماها بما ذكر في العنوان ، وهي: سورة
التحريم والقيامة والشمس والعصر والكافرون والمسد أو (تبت) ، وقد ألقينا على
بعض هذه الرسائل لمحة من النظر، فإذا طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير
يشترك مع طريقنا في القصد إلى المعاني من حيث هي هداية إلهية، دون
المباحث الفنية العربية. ولكنه لا يفسر كل آيات السورة وكلماتها، ولا يتكلم على
ما يفسره بالترتيب، وإنما يتكلم عن المسائل الكلية والمقاصد التي تهدي إليها الآيات
كلامًا عامًّا مبسوطًا مفصلاً معدودًا بالأرقام. فمن فصول تفسير سورة التحريم:
(1)
نظام السورة وموقع آياتها (2) سنة الله في الاحتساب (3) عمود السورة
هو الاحتساب والتشمير له (4) دين الفطرة هو الاعتدال بين الفسق والرهبانية
(5)
تفرق الفسق والرهبانية (6) نزول القرآن حسب أحسن المواقع (7) شأن
نزول هذه السورة حسب الكليات (8) شأن نزول آيتين 1 -2 حسب جزئيات
الواقعة والفوائد الكلية منها وهي ست
…
إلخ. وإن للمؤلف لفهمًا ثاقبًا في القرآن،
وإن له فيه مذاهب في البيان وطرائق في الاستطراد، منها القريب والبعيد، وإنه
لكثير الرجوع باللغة إلى مواردها والصدور عنها ريان من شواهدها، فقد كتب في
تفسير كلمة (صَغَت) من قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: 4) أكثر من صفحة، على أنه قد صنف كتابًا في مفردات القرآن كما
فعل الراغب الأصفهاني 0 وإن أدري أفسر القرآن كله على هذا النمط إذ هو يشتغل
بذلك الآن، ويريد طبع تفسير كل سورة عند إتمامها. وقد رأيت فيما قرأت ذكر
كتب أخرى له في القرآن والدين: كالمفردات وتاريخ القرآن والأمثال الإلهية
وأصول الشرائع، فعسى أن يتفضل بإخبارنا عنها، أهي تامة أم لا؟ أطبع منها
شيء أم لا؟ .
هذا، وقد أرسل إلينا عدة نسخ من تفسير بعض السور؛ لأجل بيعها عندنا،
وهي مطبوعة طبعًا حجريًّا عن خط فارسي حسن، فمن أحب أن يطلع عليها
فليطلبها من إدارة المنار، وثمن تفسير سورة التحريم قرشان، وما عداه فثمنه قرش
أو قرش ونصف.
***
(رحلة الحبشة)
هذه الرحلة من أحسن الرحلات أسلوبًا وفائدة وفكاهة، ألفها بالتركية صادق
باشا المؤيد العظم الفريق الأول بالجيش العثماني للسلطان عبد الحميد بأمره، وهو
الذي أرسله إلى نجاشي الحبش بكتاب منه، فكتب ما رآه وشاهده في طريقه وفي
البلاد والمواقع التي نزل بها لا سيما الصومال، وما ارتآه واستنبطه من المسائل
العسكرية والاجتماعية وما علمه من التقليد والعادات، مع شيء من كل فن، وذكر
في آخرها الوقائع الحربية بين إيطاليا والحبشة مفصلة، وختمها بذكر من نال
شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الحبش رجالاً ونساء وقد ترجمها
بالعربية رفيق بك العظم وحقي بك العظم ، وطبعتها شركة طبع الكتب العربية
على النسق الذي طبعت به في التركية، مزينة بالصور والرسوم ومنها صورة
النجاشي بلباسه الرسمي، ومتصلاً بها خريطتان: إحداهما رسم فيها الطريق الذي
مر به، والثانية رسمت فيها بلاد الحبش ، وقد زادت صفحات هذه الرحلة على
320، وثمنها اثنى عشر قرشًا صحيحًا.
وإننا ننقل شيئًا من كلامه عن مسلمي الصومال وتعلقهم بالدولة العلية. قال
في سياق كلامه عن جيبوتي حاضرة مستعمرة الصومال الفرنسية ما نصه:
(ومنذ خرجنا إلى البر، أخذ الأهالي وكلهم من المسلمين، يفدون علينا
أفواجًا مرحبين بنا بعبارات الاحترام والتعظيم، ولم يكتفوا بذلك، بل انتظرونا
بينما كنا عند الوالي (آتو يوسف) خارج المحل، وعندما خرجنا رافقونا
مهللين مكبرين، واستمروا كذلك كلما نخرج يرافقوننا من محل إلى آخر،
وينتهزون كل فرصة لإظهار سرورهم العظيم من ورودنا لثغرهم، فإذا طلبنا مركبة
يجري العشرات منهم لإحضارها، واذا سألناهم الطريق يقدم مئات أنفسهم للقيام
بخدمتنا، وما كنا نحتاج لهم؛ لأن الوالي كان عقب وصولنا عين سكرتيره ليكون
(مهما ندارا) لنا مدة إقامتنا في جيبوتي. ولكن اعتذرت عن ذلك شاكرًا إنسانيته،
واكتفيت بجنود الشرطة الذين خصصهم لخدمتنا.
وبعد قليل من وصولنا الفندق، تكأكأ المسلمون بعضهم على بعض في
الردحة الكائنة أمام الفندق، وأخذ يزداد عددهم كثيرًا، فكانوا لا يقتنعون برؤية
الوفد المرسل من قبل خليفة الإسلام مرة واحدة، بل كانوا يريدون أن يروه كثيرًا
على قدر استطاعتهم، واستمر الزحام على هذا المنوال أمام المنزل إلى ما بعد
العشاء) .
ثم ذكر أنه قبل السفر من جيبوتي، آذنه خادم الفندق بقدوم رؤساء بعض
القبائل لزيارة الوفد السلطاني، قال:
هذا، وقد غاب الخادم قليلاً ثم جاء ومعه الزائرون، وكان عددهم ثمانية،
وهم رؤساء قبيلتي عبسا ودانجالي، وهم سمر الوجوه، لون البعض منهم يميل
للجوزي، وكلهم طوال القامة متناسبو الأعضاء، تجللهم سمات الوقار والمهابة،
ويلبس البعض قميصًا طويلاً، وعلى رأسه طاقية، والبعض ليس عليه سوى
(فوطة) وهو مكشوف الرأس. وشعرهم الكث فوق رؤوسهم يشبه العمامة
المدورة الكبيرة، يضعون في خلاله سهمًا طويلاً مصنوعًا من أغصان الأشجار مثل:
(الدبوس) الذي يربط به السيدات الغربيات قبعاتهن على شعورهن. ويستعملون
هذا السهم لحك جلد رؤوسهم عند اللزوم؛ لأنه لا يمكن وصول أصابعهم لجلد
رؤوسهم بسبب كثافة الشعر. وكان بعضهم وهم الذين كانوا يترددون على الحجاز
يتكلم اللغة العربية جيدًا، والباقون لا يعرفون منها إلا قليلاً.
وبعد المصافحة والسلام، أخذوا يدعون وهم وقوف على الأقدام للحضرة
العلية السلطانية، وأبلغني أنه سيصل مساء وفود من طرف القبائل القريبة من
جيبوتي؛ للتسليم على الوفد السلطاني، ثم جلسوا فصاروا يسألون عن أحوال
الآستانة؛ مستفسرين عن عدد سكانها، وعن مساجدها الجامعة، والمحلات
المباركة فيها، وعن الوجهة التي أقصدها وسبب سفري إليها.
(وكسوة هؤلاء الرؤساء بسيطة جدًّا، والبعض منهم حافي القدمين،
والبعض يلبس في رجله نعلاً مثل النعال الحجازية. ومع كل ذلك ترى الإنسان
يشعر بهيبتهم ووقارهم حال رؤيته لهم. وسمات الشجاعة والبسالة الظاهرة على
وجوههم تجعل كلاًّ منهم شبه تمثال للحرب والكفاح صنع من (البرونز) .
بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، إذا جاء الموسيو بونهور والي الصومال
الفرنسية؛ لرد الزيارة ومعه حاشية، والكل مرتدون أرديتهم الرسمية، وكان يمشي
أمام مركبة الوالي فارسان من جنود الشرطة فلما رأى الوالي المومأ إليه رؤساء
القبائل الصومالية، هش في وجوههم وصافحهم جميعًا يدًا بيد، وسأل عن أحوالهم
وصحتهم، ولم يمض قليل من وصول الوالي، حتى جاء أيضًا (آتو يوسف)
قنصل الحبشة في جيبوتي، وبعد أن مكث الوالي برهة استأذن بالذهاب مذكرًا إياي
بالاجتماع عنده في دار الحكومة مساء؛ لحضور المأدبة التي أعدها كرامًا للوفد
السلطاني، وقد كان الوالي دعاني ومن كان معي لهذه المأدبة يوم وصولنا إلى
جيبوتي) .
ثم قال بعد كلام في حال البلد وشؤونها:
(في الساعة العاشرة على الحساب الشرقي، سمعت أنغامًا وأصواتًا آتية من
بعيد، وبينما أنا أتفكر في ما عسى أن يكون ذلك، إذ أخبرت بورود وفد قبائل
عبسا، فخرجت إلى شرفة الفندق، فرأيت جمهورًا من الناس نحوًا من خمسمائة
ذوي ألوان نحاسية، كبيري الأجسام، متناسبي الأعضاء، مسلحين بالحراب
والهراوات، ويكبرون مرة، وينشدون الأناشيد الحربية مرة أخرى، وجماهير
الناس تمشي معهم محتاطين بهم للتفرج عليهم، وبعد أن وصلوا أمام الفندق، أخذوا
يسلمون علينا بلسانهم، ولما انتهوا من السلام تحلقوا، وصاروا يغنون ويرقصون،
والبعض منهم كانوا يتبارزون داخل تلك الحلقة، ويمثلون حروبهم بأصوات خشنة
مدهشة بأوضاع خفيفة وسرعة عجيبة، مما يدل على أنهم أقوام حربيون أولو بأس
شديد وميل للحرب والطعان، وبعد ذهاب هذا الوفد أتى وفد الدانغاليين، وبعدهم
وصلت وفود العرب الوطنيين بطبولهم وزمورهم، ثم انصرف الجميع شاكرين لما
لقوه منا من الإكرام، وكانت قد دنت الساعة الثامنة على الحساب الإفرنجي،
فارتديت الكسوة الرسمية البيضاء، وذهبت أنا ورفيقي؛ لحضور المأدبة التي دعينا
إليها) اهـ المراد.
وفيه من العبرة أن للدولة العلية وسلطانها نفوذاً معنويًّا في نفوس جميع
المسلمين، لم تحسن الانتفاع منه ولا النفع به في الماضي، فعسى أن تنتفع به في
هذا العهد الجديد الذي دخلنا فيه، وهو آخر الرجاء في حياة هذه الدولة، فعسى أن
لا يقطعه أصحاب النفوذ بالمنازعات الجنسية والأهواء الشخصية. وفيه أيضًا أن
الوالي الفرنسي يعامل أولئك الناس الذين يعدهم متوحشين بالاحترام؛ ليؤنسهم
بحكمه، ويأمن جانبهم، ويكسب مودتهم، ودولتنا تحتقر أمثالهم في اليمن والحجاز
والعراق، فيتبدل حبهم لها بغضًا، وميلهم إليها نفورًا وإعراضًا، فعسى أن لا
تعود إلى ذلك في هذا الزمان.
وقد انتقدنا على الرحلة ذكر الشهر الذي سافر فيه المؤلف (وهو نيسان) دون
ذكر السنة في أولها، وجريانه على ذلك في أثنائها، حتى انتهت في 12 تموز
(يوليو) ، ولكن يعرف القارئ أن الرحلة كانت سنة 1896 م من ترجمة براءة
الوسام الذي أهداه النجاشي إلى صادق باشا، وترجمة المكتوبات التي أرسلها إليه
نظار النجاشي وآل بيته.
***
(عقود الجوهر في تراجم من لهم 50 تصنيفًا فمائة فأكثر)
نشرنا في آخر الجزء الماضي إعلانًا لجميل بك العظم محاسب المعارف
ببيروت عنوانه (ذيل لكشف الظنون) علم منه أنه يعني منذ 16 سنة بجمع ما فات
صاحب كشف الظنون من أسماء الكتب، وما حدث بعده منها. وقد استحسن في
أثناء بحثه أن يضع كتابًا في تراجم المكثرين من التصنيف الذين لهم خمسون مصنفًا
فمائة فأكثر، وقد أتم الجزء الأول من هذا الكتاب وسماه (عقود الجوهر) وطبعه،
وهو يذكر للعالم ترجمة مختصرة ثم يذكر مصنفاته مرتبة على حروف، فجزاه الله
خيرًا ، وقد اقترحت عليه في بيروت أن يجعل الذيل رأسًا، فيؤلف كتابًا مستقلاًّ في
أسماء الكتب والفنون، فعسى أن يلقى من المساعدة ما يرجح ذلك عنده.
***
(الاشتقاق والتعريب)
قد علم قراء المنار في العام الماضي، ما كان من أعضاء نادي دار العلوم من
المناظرات في مسألة التعريب ، وقد عنى الشيخ عبد القادر أفندي المغربي أحد
محرري جريدة المؤيد في أثناء ذلك، بوضع كتاب مستقل في المسألة، وطبعه في
هذا العام، فبلغ زهاء 150 صفحة بقطع كتاب الإسلام والنصرانية. وقد ترجم
المؤلف كتابه بقوله فيه: يبحث في ما يعرض للغة العربية من تكاثر كلماتها
بواسطتي الاشتقاق والتعريب، وأن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من
اللغات، وأن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام والاستشهاد على ذلك،
فهو إذًا مؤيد الرأي القائلين بجواز التعريب والتصرف في اللغة بحسب الحاجة،
بل توسع في ذلك بما لا يوافقونه كلهم عليه فيما يظن، ودعم كلامه بضروب من
الأمثلة والشواهد والدلائل، لم يسبقه إليها الباحثون، وقال في أواخر الكتاب ما
نصه:
نتائج وملاحظات
قد تحصل معنا أن الكلمات التي تستعمل اليوم في اللغة، وينطق بها
المتكلمون بتلك اللغة - قسمان: قسم عربي محض، وقسم دخيل ، والدخيل أنواع
منه ما أدخل أهل اللغة أنفسهم إلى لغتهم قبل الإسلام؛ كسندس إبريق. ويسمى في
الاصطلاح معربًا ، ومنه ما أدخله المولدون في صدر الإسلام ويسمى مولدًا ، ومنه
ما أدخله المحدثون بعد هذين الدورين ويسمي محدثًا أو عاميًّا ، والطريقة في إحداث
النوعين الآخرين المولد والعامي - قد تكون الاشتقاق: كالعربية والبارود والفسقية
قد تكون التعريب: كالبوس والبازهر والماهية، وقد تكون التصرف في الاستعمال
بأن نستعمل الكلمة على خلاف المعنى المستعملة فيه عند العرب: كالقطر
والقطائف.
والدخيل بأنواعه الثلاثة لا يحط من قدر الكلام العربي إذا وقع فيه، وإن كان
في أصله غير عربي؛ لما قدمناه من الأدلة على ذلك عند الكلام على التعريب،
والأدلة المذكورة تصلح أن تكون مقدمات منطقية نتيجتها (أن الكلمات العربية
المعربة عربية أو بقوة العربية) ، حتى لا تكون ثَمَّ فرق في صحة الاستعمال بينها
وبين تلك التي تكون عربية الأصل: بحيث يصح لك أن تستعمل كلمة (رصاص)
الأعجمية المعربة في كل موضع تستعمل فيه كلمة (صرفان) العربية. وما يدرينا
أن صرفان وأمثالها من الألفاظ القديمة التي نحسبها عربية والتي لا رائحة للاشتقاق
من مادة عربية غير عربية في أصلها، وإنما هي دخيلة.
وقد ذكرنا في جملة تلك الأدلة دليلاً لا نزاع في صدق دلالته: وهو أن علماء
البادية أنفسهم، حصروا شروط فصاحة المفرد في ثلاثة أمور: خلوصه من تنافر
الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس، ولم يشترطوا في فصاحته قط أن
يكون عربيًّا قحًّا، لا شائبة فيه للعجمية.
إذا راعيت في الكلمة الدخيلة التي تودعها كلامك خلوصها مما ذكره علماء
البلاغة، كان كلامك فصيح المفردات ، وعليك بعد ذلك أن تراعي سائر ما اشترطه
أولئك العلماء في فصاحة الكلام وبلاغته. حتى إذا فعلت كان كلامك فصيحًا بليغًا.
لا يكون كلامك فصيحًا: إذا أودعته من الكلمات العربية ما كان غريبًا عن
أفهام المخاطبين، أو ما تنبو عنه أذواقهم وتتجافى طباعهم، مثل أن تقول: (وكان
الطهاة يغرفون ألوان الطعام بالفشليل، والفشليل كلمة معربة عن قفليز الأعجمية ،
ومعناها المعرفة كما لا يكون فصيحًا إذا أودعته من الكلمات العربية المحضة ما
كان من بابه تلك الكلمات: كأن تقول: (أتانا مختالاً في مشيته. منفشلاً للحيته)
تعني: منفشًا لها. أو تقول: (لحاه الله من رجل عفنجش) أي فظ جافي الطباع.
من هذا القبيل الكلمات الإنكليزية أو الألمانية مثلاً التي تكون مخارج حروفها صعبة
متنافرة، يتعذر أو يتعسر علينا النطق بها. ولم نعهد مثلها في مخارج لغتنا.
حتى إذا اضطررنا إلى إدخال كلمة من هذا الصنف في لغتنا، كان علينا حينئذ أن
نشذبها ونهذبها، ونوفق بينها وبين أوزان لغتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ كي
تواتينا ويسهل علينا النطق بها. وإلا كان علينا أن نهجرها، ونعد الكلام الذي
يتضمنها غير فصيح. كما إذا تضمن كلمة متنافرة مثلها من الكلمات العربية الأصل
كالهعخع وهو اسم نبات. قيل لأعرابي: أين تركت ناقتك؟ قال: تركتها ترعى
الهعخع. وكأن تقول لآخر: إياك أن تتزوج الهُمَّقعة بضم الهاء وتشديد الميم
المفتوحة. تعني الحمقاء الورهاء [1] .
واعلم أن الكلمات الدخيلة في لغتنا مهما كان أصلها، ترجع إلى قسمين: قسم
مدلوله الجوهر والأعيان مثل نرجس ولجام. وقسم مدلوله المعاني والأحداث مثل
البوس، فكلمات القسم الأول إذا شاعت بيننا وحلَّت في أسماعنا وتداولتها الخاصة
كما تداولتها العامة، وتنزهت عن أن تكون من (ألفاظ السفلة) كما سيجىء في
قول ابن المقفع - ينبغي أن يجوز لنا استعمالها وإدماجها في كلامنا؛ لأن الكلمة
التي من هذا القبيل إما أن لا يكون لها مرادف في لغتنا أو لها مرادف مهجور،
وحينئذ يكون الوجه في استعمالها ظاهرًا. وعذرنا فيه مقبولاً 0 وإما أن يكون لتلك
الكلمة مرادف معروف ومشهور، فيكون لنا الحق في أن نستعملها أيضًا؛ اقتداءً
بأهل اللغة أنفسهم الذين كانوا يتركون كلماتهم العربية إلى مرادفاتها من الكلمات
المعربة الدخيلة، مثال ذلك كلمة (كوسج) الأعجمية، فإنهم لا يكادون يطلقون
على الكوسج سواها. وقلما تراهم يستعملون كلمة الأثط العربية بل إذا وردت هذه
في كلامهم فسروها بالكوسج؛ لكونها أشهر منها وأعلق بأذهان الناس، كما يفسر
شراح الحديث كلمتي (الدجر) و (اللياء) العربيتين بكلمة اللوبياء الأعجمية
المعربة.
وقد كثر استعمال الدخيل والإعراض عن الأصيل في كلامهم، كثرة تشعر
بأن هذا الصنيع طبيعي في اللغة وضرورة لا يمكن دفعها. بل يشبه أن يكون قياسيًّا
لأهل اللغة من ورائه غاية محمودة: هي توسيع نطاق لغتهم وتسهيل أمرها على
ممارسها.
هذا في كلمات القسم الأول الذي مدلوله الجواهر والأعيان. أما القسم الثاني
الذي تدل كلماته على المعاني والأحداث كالبوس، فهذا ربما ضر الاستكثار منه فيما
أظن إذ يكون مدرجة لضياع اللغة ومسخها وتحويلها عن أصلها. وقلما نجد
العرب نقلوا إلى لغتهم فعلاً أو مصدرًا أو أسلوبًا خاصًّا من أساليب كلام الأعاجم.
وشاهد ذلك معاجم اللغة ودواوين آدابها، وإن كان شيء من ذلك فهو قليل جدًّا
ككلمتي (الهرج ، والنفاق) الحبشيتين [2] .
وأكثر ما كان حدوث هذا النوع من الكلمات في زمن ترجمة الاصطلاحات
العلمية في العصر العباسي. أما في زمن الجاهلية فلعله لم يتخط القبائل التي عاشت
مع الأعاجم وكثر امتزاجها بهم: كغسان ولخم وجذام. ومثل هذا لا يصلح حجة
للقياس والجواز العام نعم، إن اللغة بمجموعها جواهر وأحداثًا محولة عن لغة
أعجمية كما أثبتناه في صدر هذا الكتاب. ولكن هذا في تحول اللغة وتولدها
المتوغل في القدم. لا في التحول التدريجي الذي يفهم من إطلاق كلمة التعريب.
والذي كان يحصل على ألسنة العرب بعد أن قامت لغتهم بنفسها واستقلت بأصولها
وقواعدها، فإنهم إذا ذاك ما كانوا يرجعون في وضع كلمات الأحداث والمعاني إلى
الاستعانة بلغات غيرهم. وإنما يرجعون إلى فضل ذكائهم وذلاقة لسانهم. وحسن
طريقة الاشتقاق في لغتهم. فهم يضعون أو يشتقون للمعاني التي تجول في نفوسهم
من الكلمات ما يغنيهم عن التطفل في ذلك على سواهم. أما الجواهر والأعيان فقد
يتعذر أو يتعسر عليهم أن يضعوا لها كلمات. بعد أن ضرب المستبضعون والتجار
في طول جزيرتهم وعرضها. وهم ينادون باسم الخيار واللوبيا والباذنجان،
والكوب والإبريق، والمسك والبنفسج والسندس والإستبرق، والفيروز والبلور
والجام والدانق، والدرهم والدينار والعربون، الي غير ذلك من أسماء الأدوات
والفرش والماعون. وقد ضاق ذرع العرب بهذه الأسماء وأعجزتهم كثرتها،
فاضطروا إلى أن يرحبوا بها، ويلقون حبلها على غاربها. اهـ المراد منه.
وثمن الكتاب خمسة قروش، وهو يباع في المكاتب المشهورة.
_________
(1)
المنار: إن بعض ما مثل به من الغريب، ليس مما يثقل على اللسان كمنفشل ولكنه غير مألوف لعدم صقله بالاستعمال فهو لا ينافي الفصاحة وما كان ثقيلاً كالهعخع الذي يذكرونه في كتب البلاغة، إنما ينافي مثله الفصاحة ويكره استعماله إذا كان له مرادف يقوم مقامه، والأحسن استعماله عند الحاجة إليه، ورأيت أكثر أدباء عصرنا غافلين عن هذا وذاك.
(2)
المنار: الكلمتان عربيتان: ومعنى الأولى الفتنة التي يحدث فيها تداخل واضطراب وقتل، وقول أبي موسى: إن الهرج في لسان الحبشة القتل لا يدل على أن العرب أخذتها عن الحبشة، وربما كان العكس 0 والثانية مشتقة من النفقاء (راجع ص 885م11) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(نصيحة لمسلمي بيروت عامةً وفتيانهم الشجعان خاصةً)
إنني في كلامي عن البلاد السورية قد فضلتكم على غيركم، ورجوت منكم
لخير البلاد ما لم أرجُه من سواكم، وإنما كتبت ما اعتقدت، بحسب ما رأيت
واختبرت؛ تنشيطًا للعاملين، وتنبيهًا للخاملين، ذلك بأنني رأيت من احترام الحرية
عندكم، ما لم أر مثله في طرابلس ولا دمشق ولا غيرهما من البلاد، ورأيت فيكم
حركة إلى العلم والتربية، لم أر نظيرها - على ضعفها - في غير بلدكم، فحمدت
الله - تعالى -على ذلك وحمدتكم.
ثم إنني أقمت في بلدكم سبعة أسابيع متصلة بعد تينكم الزيارتين المتعاقبتين،
فرأيت فيه أمرًا استنكرته وحزنت لأجله حزنًا شديدًا، فأحببت أن أنصح لكم فيه
كتابة، كما نصحت فيه لكثير منكم مشافهة وخطابة؛ عسى أن تكون الكتابة أعم
وأنفع، ولا أقول: إن هذا الأمر المنتقد خاص بكم، وإنما أرجو أن ترجعوا عنه
بمجرد النصيحة، وربما بقي عند غيركم إلى أن تتكون الحكومة الجديدة وتستقر،
فترجعهم عنه بالقوة القاهرة، إن لم يرجعوا خوفًا منها.
ذلك الأمر المنكر: هو ما ذكرته في آخر خطاب ألقيته في نادي الجامعة
العثمانية عندكم (ونشرت محصله في هذا الجزء) ؛ وأعني به إزعاج الحرية
الشخصية في بعض الأوقات لا سيما حرية أصحاب الصحف. وقد حمدكم العقلاء؛
لاستنكاركم حادثة الشام، وحملكم على المفسدين الذين أثاروا الفتنة فيها؛ كراهية
لحرية العلم والاستقلال في فهمه ونشره. ولكن جرائد الشام الآن أوسع حرية من
جرائدكم، كما يعلم ذلك جميع القراء منكم، فهل ترضون بهذا الانقلاب؟
كاد يقع الخصام بل الالتحام بين طائفتين منكم؛ لأن شيطانًا من شياطين
الإنس وسوس إلى بعضهم: أن جريدة كذا نشرت آية من القرآن الكريم، ونشر
القرآن في الصحف إهانة له، فيجب أن يهان صاحبها حتى لا يعود إلى ذلك. ذكر
ذلك في مجتمع فيه كثير من العامة والخاصة، فاشتد في الإنكار بعض الشبان،
فانبرى للدفاع عن صاحب الجريدة آخرون من أبناء حيه، فتساهل الأولون،
وانتهى الكلام بانتداب رجلين لسؤال صاحب الجريدة عن حقيقة الأمر، ولما جاءهم
للسؤال كنت عنده، وكان هو قد خرج لحاجة، فراجعنا جريدته أولاً، فلم نجد فيها
شيئًا من القرآن، وأقنعتهما بأن الإهانة لا تكون إلا بالقصد، وأن من يقصد إهانة
القرآن بعمل عمله يصير به مرتدًّا لا عاصيًا فقط، ولا يقع هذا من مسلم، وإنما
يكتب الآيات من يكتبها؛ لأجل أن يكون في كلامه روح ربانية مؤثرة ينفع بها
القارئين. وقلت لهما: إن جميع جرائد المسلمين في مصر وفي بيروت وغيرها من
البلاد تزين بعض كلامها بالآيات الكريمة وتناولت من جرائد كانت بجانبي نسخة من
المؤيد، فأطلعتهما على عدة آيات فيها، بعضها في خطبة لأحد الأساتذة بنظارة
المعارف المصرية، ومازلت بهما حتى خرجا مقتنعين بأن من من حرك هذه
الفتنة لم يكن مخلصًا في قوله، وقبَّلا يدي بعد أن كان حديثهما معي حديث الخصم
مع الخصم، فدل ذلك على حسن نيتهما.
ثم إن صاحب جريدة أخرى كتب في جريدته أن المسلمين مقصرون فيما
يجب عليهم من العناية بالتربية والتعليم، وما تقتضيه حال العصر من سعة الثروة،
وأن جيرانهم وخلطاءهم من النصارى قد سبقوهم في هذا المضمار. فوسوس شيطان
التفريق إلى بعض الفتيان المتحمسين قال: إن صاحب جريدة كذا قد أهان المسلمين
وفضل النصارى عليهم، فاضطربوا وغضبوا، وأخذ بعضهم نسخًا من بائع تلك
الجريدة فمزقها، وحاول طائفة منهم إهانة الكاتب بل أهانه بعضهم بالفعل، وطاف
آخرون على بعض المشتركين بالجريدة، فرغبوا إليهم أن يقطعوا اشتراكهم فيها.
وقد رأيت شابًّا يتأثر صاحب هذه الجريدة في بعض الشوارع، فلما رآني
استوقفته وتحدثت معه، ثم تركته تبعني، وسألني عما كتبه عن المسلمين فقلت له:
كتب كيت وكيت؛ ليحث المسلمين على إنشاء المدارس والعناية بتربية أولادهم،
حتى يكونوا أرقى الأمم وأعلمها، وعلى تحصيل الثروة؛ ليكونوا من أغنى الناس
وأعزهم. وأقنعته بأنه لا يعقل أن يكون قصد إهانة أهل دينه الذين يهان بهوانهم،
ويعتز بعزتهم، ويشرف بشرفهم، من غير أن يكون له فائدة في ذلك، ولا مجال
للقول بأن له فائدة أو ربحًا من الإهانة، ثم ذكرت له شيئًا من مفاسد هذا الشقاق
الذي يلقبه بعض أهل الأهواء بين المسلمين، وهو أضر عليهم لا سيما في هذا
الوقت من كل ما يتصور أن يضرهم. فانثنى مقتنعًا شاكرًا.
هذا ما تركت عليه بيروت يوم سافرت منها، وقد دخلت القاهرة ليلة الخميس
وفي اليوم الثاني من وصولي إليها صليت الجمعة في أحد المساجد، فإذا بالخطيب
فيه يصدع الناس بوعظ يقول فيه ما معناه: إنكم قد تركتم الإسلام، وأين الدليل
على إسلامكم وأنت تعملون كذا وكذا، حتى قال: وتشبهت نساؤكن بالعاهرات،
فقلت في نفسي: لو كان هذا الخطيب في بيروت لأنزلوه عن المنبر بالقوة، ومنعوه
من إتمام الخطبة.
مع هذا كله أقول الآن كما قلت من قبل: إن مسلمي بيروت أقرب إلى الخير
والاستعداد للترقي من غيرهم، وأبعد عن الفتن التي تحول دون الأعمال النافعة،
وأكثر ما ينتقد عليهم مما ذكر يقع منهم بحسن النية غالبًا، لا أعرف فيهم رجلاً واحدًا
يحب إثارة الفتن بسوء نية، ولعلة يندر أن يوجد له أقتال ونظراء في ذلك.
فالذي ننصح به لهم ولغيرهم هو: أن يعلموا أنه لا شيء أضر على الأمم من
التفرق والشقاق لأجل الخلاف في الفهم والرأي، سواء كان في أمر الدين أو أمر
الدنيا، فضرر أكبر الكبائر - كالقتل والزنا وشهادة الزور - هو دون ضرر التفرق
والشقاق في الأمة؛ لأن هذا الجرم هو المانع من وحدة الأمة وعزتها وقوتها، وهي
متى قويت تقدر على منع سائر الجرائم، ومتى كانت ضعيفة بالتخاذل لا تقدر على
منع شيء من المفاسد، ولا على إقامة شيء من المصالح. ولذلك توعد الله - تعالى-
على التفرق والخلاف بما لم يتوعد على غيره، بل جعل المتفرقين في الدين براء
من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً
لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وأنزل يوم تلاحى نفر من الأوس
والخزرج، وذكروا ما كان من مشاقة بعضهم لبعض يوم بعاث {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103-105) .
فالمتدبر للقرآن يرى أنه تعالى ينهانا ويحظر علينا التفرق والخلاف، ويحتم
علينا أن نكون إخوة متحابين، ويفرض علينا مع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ومن أهان أخاه واحتقره أو آذاه؛ لأنه قال أو كتب ما يخالف رأيه، لا
يكون آمرًا بالمعروف، وهل يوجد أحد من الناس يقول: إن الإهانة والإيذاء من
المعروف؟ ؟ وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه بأن يجادل المشركين بالتي هي
أحسن، فهل يرضى منا أن نجادل إخواننا المؤمنين بالتي هي أسوأ وأقبح؟ أما ما
قال الله عز وجل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) أما قال مع ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن
كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
إن الله تعالى ما ذكر فرضية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مع النهي عن التفرق والاختلاف؛ إلا لأن هذه الفريضة هي سياج وحدة
الأمة وحفاظها، فإقامتها تمنع التفرق، كما قال الأستاذ الإمام: فإذا جعلنا الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفريق والخلاف والعداوة بين المسلمين، نكون
قد قلبنا مقصد الدين، ونقضنا ميثاقه، وقطعنا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدنا
في الأرض {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن
يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) .
للأمر بالمعرف والنهي عن المنكر شروط وآداب، فصلناها في التفسير
المنشور في الجزئين الثامن والتاسع من مجلد المنار العاشر، ولا يصلح لها على
الإطلاق إلا أهل العلم والعرفان فأي إفساد في الدين والدنيا شر من إغراء العامة
بالافتيات على أهل العلم، وحملة الأقلام، والتصدي لأمرهم ونهيهم. بل وجد من
شياطين الإفساد والتفريق من إغراء العامة بمنع بعض خطباء المساجد من خطبة
الجمعة! ! حدثني بذلك بعض شبان بيروت، فقلت له: إن الخطبة فريضة دينية
كالصلاة، فهل يجوز لنا أن نمنع مسلمًا من أداء الصلاة؛ لأننا غضبنا منه بحق أو
بباطل؟ إذا جاز لنا هذا، جاز لنا أن نمنع كل من أذنب ذنبًا من أداء الصلاة
والصيام والزكاة والحج، وأن نشترط العصمة في كل طاعة من الطاعات. ولا
يبيح لنا ديننا أن نقول بعصمة أحد بعد الأنبياء، وقد ختم الله تعالى ببعثة نبينا
صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم، ولم يقل أحد من المسلمين الذين يعتد أحد من
بعده؛ إلا ما قاله الإمامية من الشيعة في الأئمة الاثني عشر من آل بيت النبي
بإسلامهم بعصمة عليه وعليهم السلام.
فعلم مما بيناه: أن التصدي لإهانة الناس الذين يظن أو يعلم أنهم أخطأوا هو
من المفاسد المحرمة شرعًا، والقبيحة عقلاً، وكل من يغري بها شيطان رجيم يجب
عصيانه، والبعد عنه، والاستعاذة بالله من شره. والاجتماع لأجل هذه الجريمة
والتعاون عليها يزيد في قبحها وإثمها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: 2) .
بعد هذا كله، أقول لفتيان بيروت الذين يعرفون بلقب (الأبضايات) : إنكم
أيها الشجعان البواسل، قد عطَّرتم الأرجاء بمحمدة عظيمة، ظهرت منكم في أيام
إعلان الدستور، ولا تزالون تحافظون عليها، حتى أثنى عليكم العقلاء في غير
بلادكم، بما لم يثنوا به على سواكم؛ ألا وهي محاسنة خلطائكم وعشرائكم في وطنكم
من المشاركين لكم فيما عدا الدين من شؤون الحياة. فهل يليق بكم بعد فضيلة
مسالمة هؤلاء أن تتلوثوا برذيلة معاداة من يشاركم في كل شيء حتى في الدين،
فتكونوا كمن نزل فيه قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) ؟ حاشاكم أن ترضوا بذلك عالمين به،
وإنما يغشكم الغاشون، فلا تكونوا آلة لهم في أهوائهم.
لا أقول: إنه ينبغي أن تخدموا بلدكم بإتقان كل واحد منهم لعمله فقط، فإنكم
تستطيعون أكثر من ذلك. إنكم تستطيعون أن تتعاونوا دائمًا على منع العدوان،
حتى يصير نادرًا، وتتعاونوا على إصلاح ذات البين عندما يقع شقاق أو خصام بين
اثنين أو جماعتين. ولكنكم لا تقدرون على الهيمنة على العلماء والسياسيين،
والمراقبة على الخطباء والمحررين، ونفع الأمة بإيقاف هؤلاء عند حدود لا
يتعدونها. وإنكم إذا تصديتم لذلك تضرون الأمة ضررًا عظيمًا. ولا تستقلوا ما قلت:
إنكم لا تستطيعونه؛ فإنه أمر عظيم مقدم على كل أمر؛ لأنه يتعلق بالأمن
والراحة العمومية، وهو أول شيء تطالب به الحكومة، فإذا قمتم في بيروت بعمل
لا تزال الحكومة مقصرة فيه في كثير من البلاد، فإنكم تستحقون من الناس الثناء
الجميل، ومن الله الثواب الجزيل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رحلة صاحب المجلة في سورية
(4)
حمص وحالها الاجتماعي:
سافرت في اليوم الثاني من شوال من بعلبك إلى حمص، والمسافة بينهما في
القطار الحديدي ثلاث ساعات، وقد وصل القطار إلى محطة حمص الساعة 8.45
دقيقة مساء، فإذا بالصديق الكريم والولي الحميم السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي
ينتظرني فيها مع طائفة من أهل العلم وكرام البلد في مقدمتهم الشيخ أحمد نبهان
الذي حببه إلينا على البعد ما نمي إلينا من عقله وحبه للإصلاح مع علمه وحسن
سيرته.
أقمت في حمص أربع ليال وثلاثة أيام في دار الزهراوي، ولقيت فيها أكثر
أهل العلم والمكانة من المسلمين والنصارى، إذ كانت الدارغاصَّة بهم ليلاً ونهارًا،
وقد رأيت في هذه البلد من الوفاق بين الفريقين وحسن الألفة، ما لم أر له نظيرًا
في سائر البلاد السورية ولا بيروت، فإن جل ما مدحناه من أهل بيروت هو ترك
التقاتل والتسافك، ولا يزال كل فريق بعيدًا عن الآخر في المعاشرة والمعاملة إلا ما
لا يخلو منه مكان بحكم طبيعة الاجتماع وحاجة بعض الناس إلى بعض، حتى إنني
قلت لكثيرين منهم: إنني أرى الوفاق الذي حمدناه لكم على البعد سلبيًّا لا إيجابيًّا،
وصرحت بذلك في نادي الجامعة العثمانية، ودعوت الناس في خطبة خطبتها في
ذلك إلى التزاور والتعامل وغير ذلك من أعمال الوفاق الإيجابي.
وقد كنا توهمنا ونحن بمصر أن الشقاق بين مسلمي حمص ونصاراها شديد؛
لحادثة جرت في الاحتفال بعيد الحرية كبرتها الجرائد، فوجدنا الأمر على ضد ما
كتب في ذلك. فإنني ما رأيت في بيت من بيوت طرابلس ولا بيروت مثلما رأيت
في بيت الزهراوي من اجتماع الفريقين كل ليلة من ليالي الشتاء للسمر ومبادلة
الآراء.
ثم إنني لم أر في حمص ما رأيت في غيرها من الاضطراب والاعتصاب
والافتيات على الحكام، والتبرم من جمعية الاتحاد والترقي. ومن أسباب ذلك أن
أعضاء لجنة الجمعية المركزية كانت مؤلفة من أناس مؤتلفين متعارفين، لا ينقم
الناس منهم شيئًا، ولا يشكون منهم إهانة ولا شذوذًا، وقلما اتفق هذا للجنة أخرى
كما يعلم مما نكتبه بعد عن الجمعية.
نعم إنه ينتقد على أهل حمص ما ينتقد على أهل طرابلس من الخمول
والسكون، فهم لم يشرعوا في عمل مفيد للبلاد ، وقد حثثت طائفة من الوجهاء على
تأليف جمعية خيرية إسلامية؛ لأجل إنشاء المدارس الأهلية، ومساعدة الفقراء على
تربية أولادهم وتعليمهم، فألفيت منهم ارتياحًا واستحسانًا، وقد مرت الشهور ولم
يشرعوا في العمل. ولكننا لم نيأس من همتهم وغيرتهم، فعسى أن يسمع منهم عن
قريب ما تقر به العين.
هذا وإن عمران حمص ينمو نموًّا عظيمًا، والزراعة والصناعة تتقدم فيها
تقدمًا مبينًا. ولكنها متخلفة عن طرابلس في ترف الحضارة، وإن كانت سابقة لها
في مضمار العمران، بل هي وسط من التأنق في الأطعمة بين مثل طرابلس
وبيروت ودمشق، وبين القرى الكبيرة التي يوجد فيها أغنياء يعيشون في بلهنية،
فالظاهر أن التأنق في حمص خاص ببعض أهل السعة والبيوت المطروقة، وإن
الفقير في طرابلس ليتنوق في طعامه ما لا يتنوق الأغنياء في كثير من المدن.
وإني لأعلم أن المصري المقيم في القاهرة نفسها الذي يزيد دخله في الشهر على
دخل الطرابلسي في السنة، لا يأكل من الحلوى في السنة كلها بقدر ما يأكل
الطرابلسي منها في شهر واحد، فقلة التنوق في الأطعمة بحمص محمدة لها عندي
إذا كانت تحفظ ثروتها من التلف في غير ذلك من ضروب السرف، وتجعل حظًّا
منها عظيمًا للتعليم والتربية.
طرابلس أيضًا
سافرنا من حمص قبيل الفجر من يوم السبت سادس شوال (31اكتوبر) في
مركبة من مركبات (شركة الشوسة) فوصلنا إلى طرابلس بعد العصر، وطفقت
أتهيأ للسفر إلى مصر، وكنت عازمًا على السفر في يوم السبت التالي لهذا السبت
(13 شوال و7 نوفمبر) . ولكن عرض ما حال دون ذلك.
جمعية خيرية إسلامية بطرابلس
وفي يوم الأربعاء (10 شوال) رغبت إلى مفتي طرابلس أن يقوم بتأليف
جمعية خيرية إسلامية كالجمعية التي بمصر، وذكرت له موضوعها وأعمالها
ووجوه الحاجة إلى مثلها في طرابلس، وأهمها إنشاء المدارس لتعليم أولاد الفقراء
على نفقة الجمعية، وأولاد الأغنياء بالأجرة. فأجاب بأنه مستعد لذلك بماله وحاله
واستحسن أن أدعو الوجهاء والأغنياء إلى ذلك، فقلت له: أنت كبير البلد وزعيمها
وأنا قد صرت غريبًا أو كالغريب؛ لأنني مسافر بعد ثلاث، فإذا لم تقم أنت بهذا
العمل لا ينجح. ثم رضي بأن يكون هو الداعي لهم إلى الاجتماع، على أنهم متى
اجتمعوا أخطبُ فيهم، فإن أجابوا الدعوة التي أوضِّحُها لهم، أُبَيِّن وجه الحاجة إليها
كان هو أول العاملين والمساعدين في التنفيذ.
وأقول ههنا: إن رشيد أفندي كرمي مفتي طرابلس على كونه سيد بلده،
وأوسع أهلها ثروة وجاهًا؛ هو أقرب وجهائها وأغنيائها إلى الخير، وأبعدهم عن
كل شر، وأطيبهم نفسًا، وأبسطهم مع القصد والروية يدًا، كما يظهر ذلك لمن
يعاشره، وخلافًا لما عليه أكثر الأغنياء في بلادنا، فهو لا يدع لطالب الإصلاح في
العلم أو العمل حجة عليه، بل يجيب كل داعٍ إلى خير كعبد الرحمن باشا اليوسفي
في دمشق. ولكن لا يقدم واحد منهم على ابتكار العمل والنهوض به، بل يقولان
مثلما كان يقول هنا حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -: أوجدوا العمل وطالبوني
بالمساعدة أجبكم إليها. وإنما كان هذا يساعد بالعمل، وذانك يساعدان بالمال فهما
خير أغنياء بلادهم.
وكان عذر حسن باشا عاصم في عدم الإقدام على الابتكار وإيجاد
(المشروعات) : هو عدم الثقة بإجابة الناس وثباتهم على العمل. ولابن اليوسف في
دمشق وابن كرامي في طرابلس مع مثل هذا العذر أعذار أخرى؛ ككثرة
أعمالهما، وما لا حاجة إلى بيانه الآن من حال البلاد وغير ذلك.
ذهبت في ذلك اليوم (الأربعاء) إلى القلمون، فهيأت ثيابي وحاجي
وأرسلتها إلى الميناء في يوم الجمعة، وعدت إلى طرابلس مع كثرة الأمطار مساء؛
لأن المفتي كان وعدني بجمع الوجهاء ليلة السبت؛ لأجل تأسيس الجمعية الخيرية،
فألفيته قد أرجأ دعوتهم؛ للاشتغال بانتخاب المبعوث عن طرابلس؛ لأن الولاية
أمرت بإتمام الانتخاب يوم السبت، ولكثرة الأمطار التي كان يظن أنها تحول دون
عودتي من القلمون على قرب المسافة، وقال: إن أقرب وقت يمكن أن يجتمعوا
فيه، إذا نحن دعوناهم بعد انتخاب المبعوث غدًا هو ليلة الثلاثاء، فرأيت أن أرجئ
السفر أسبوعًا؛ لأجل إتمام هذا العمل الشريف.
ملخص خطبته
وفي ليلة الثلاثاء اجتمع في دار عمر باشا المحمدي نحو من عشرين رجلاً؛
إجابة لدعوة المفتي، وهم من وجهاء لواء طرابلس لا المدينة نفسها فقط. فخطبت
فيهم خطبة بينت فيها فوائد الجمعيات وأنواعها وتأثيرها في ترقية البشر في العلوم
والأعمال الدينية والدنيوية، وكون الخيرية منها من الضروريات التي لا يخلو منها
بلد من البلاد المرتقية، حتى إن الرجل الإفرنجي إذا مر في سياحته على بلد وأراد
أن يبذل شيئًا من ماله لمساعده فقراء أهله، فإنه إنما يرسله إلى الجمعية الخيرية في
ذلك البلد، وربما وضع أحدهم حوالة مالية في كتاب وكتب عليه (الجمعية الخيرية)
ووضعه في صندوق البريد؛ من غير أن يسأل هل يوجد في هذا البلد جمعية
خيرية أم لا؟ كأن الجمعيات الخيرية من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن يخلو
بلد منها. وذكرت ذلك المشعوذ الذي جاء القاهرة، وأراد بعد أن ربح بألعابه فيها
ربحًا عظيمًا؛ أن يخصص ليلة يجعل دخلها للجمعية الخيرية الإسلامية فيها، فكان
ذلك سبب تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية.
ثم قلت: أيها السادة، إن حكومتكم قد دخلت في طور جديد، فصارت
ديمقراطية أمرها بيد الشعب بعد أن كانت استبدادية شبه الأرستقراطية؛ بما
للأغنياء والشرفاء من النفوذ فيها. واعلموا أن كثيرًا من الأحرار الذين انقلبت
السلطة الاستبدادية بسعيهم متطرفون في الديمقراطية، وأن معظم الأحكام ستكون
في أيديهم عاجلاً أو آجلاً، وأن الشعب سيشعر بهذا، فندب إليه كراهية الكبراء
والأغنياء فيكرههم، وتنفخ فيه روح الاشتراكية فيهيج عليهم بالفعل، فإذا جاء
طرابلس متصرف متطرف من الديمقراطيين الذين أشرت إليهم، وكان والي الولاية
منهم أيضًا، فاعلموا أن ما تعودتموه من الجاه والكرامة في وطنكم لا يبقى لكم؛ إلا
إذا كان الشعب يحبكم بتحببكم إليه قبل ذلك، وإلا دهوركم أسقطكم كما فعلت قبله
الشعوب الإفرنجية بأولئك النبلاء الذين كانوا يملكون أوروبا؛ ويتصرفون فيها
تصرفًا لم تصلوا إلى مثله من كونت ودوق ومركيز، ثم يقوم من طبقات الشعب
الدنيا من يتولى الزعامة في البلاد بحق أو بغير حق. وما أظن أن صدوركم تنشرح
لتلك الحال، ولا أن أعينكم تبتهج برؤيته. وإنني أحب أن تكونوا أنتم زعماء بلدكم
في زمن الحرية وتحت ظل الدستور؛ بأن تتحببوا إلى الشعب مذ اليوم بنشر
التربية والتعليم فيه، ومواساة الفقراء والمساكين من أهله.
إنني لا أحب الأرستقراطية وإن كنت من بيت شريف، وإنني مازلت من
دعاة الديمقراطية بلسان السياسة ولسان الدين، وإنما أميل إلى بقاء زعامة وطني
في وجهائه وإياكم أعني؛ لاعتقادي أنه لا يوجد في دهمائه من يصلح للزعامة كما
وجد في فرنسا عندما صارت ديمقراطية.
الفرق بيننا وبين فرنسا بعيد، إن فرنسا كانت قبل ثورتها المشهورة قد
استعدت ما لم نستعد بمثله نحن اليوم، حتى نبغ فيها من دهماء الشعب من
يصلحون للزعامة: بعلومهم وأعمالهم وآرائهم وأخلاقهم.
إنني لعلمي بهذا الفرق، ولما رأيت في بلاد مصر التي تمتعت بالحرية قبل
بلادنا من العبر وهبوط قوم وصعود آخرين، أقول ما أقول عن خبرة وبصيرة
وأحب أن نعتبر نحن العثمانيين بحال الأمة الإنكليزية التي هي أعرق الأمم في
الحرية وأكثرهن استفادة منها، فهي الأمة التي حافظت على كرامة النبلاء وحرمة
البيوتات فيها بعد الديمقراطية الراسخة، واستفادت من ذلك كثيرًا. ورأى أن إسقاط
الشعب لكرامة أصحاب البيوتات منا، وتسلق أفراد الطبقات الدنيا للزعامة فينا مع
ما هم عليه من الجهل يقف في طريق نهضتنا، وإن عناية وجهائنا بحفظ كرامتهم
وحرصهم على أن يكونوا هم زعماء الشعب، يكون أسرع في تقدمه إذا هم أتوا
البيوت من أبوابها، فإنهم في الغالب على شيء من الأخلاق والعلم أو الاختبار.
ثم قلت: إن خدمة الأمة والتحبب إليها، إنما يكونان بالتعاون على تربية
أولادها، وتعليمهم ما به قوام حياتهم، ومواساة المنكوبين والمعوزين من فقرائها،
وذلك لا يتيسر إلا بتأليف جمعية خيرية، يجعل معظم ريعها لإنشاء المدارس وباقية
لإعانة المنكوبين والمعوزين، وهذا ما أدعوكم إلى الاكتتاب له بلسان فضيلة المفتي
الحريص على هذا العمل المبرور، الراغب في هذا السعي المشكور، وسيجمعكم
في ليلة أخرى؛ لأجل المذاكرة في القانون الذي يوضع لذلك، وانتخاب الأعضاء
العاملين. ثم شرعنا في الاكتتاب، وافتتحه المفتي في ورقة كتبت في أعلاها ما
نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) .
هذا بيان ما تبرع به الذوات المذكورة أسماؤهم بخطوطهم أدناه؛ لتأسيس
جمعية خيرية إسلامية في طرابلس الشام؛ لنشر التعليم الديني والدنيوي على
الطريقة العصرية؛ ولإعانة المصابين والمنكوبين المعوزين بمقتضى قانون يجري
العمل بموجبه بعد إقرار المكتتبين له في اجتماع خاص، وقد جرى هذا في ليلة 16
شوال سنة 1326 للهجرة الشريفة.
أسماء المكتتبين لتأسيس جمعية خيرية إسلامية بطرابلس الشام
ونذكر أسماء المكتتبين مع الألقاب، وهم كتبوها مجردة كما هي العادة،
ونرتبها على حسب قيمة الاكتتاب.
ليرة عثمانية
100 مفتي اللواء رشيد أفندي كرامي.
100 عمر باشا المحمد من أعيان اللواء.
030 عثمان باشا المحمد.
020 علي باشا المحمد.
020 مصطفى أفندي عز الدين من كبار التجار.
010 عبد القادر باشا الملا رئيس شركة الترام والشوسي.
005 إبراهيم بك الأحمد من الأعيان.
ليرة عثمانية
005 أحمد أفندي سلطان وكيل الدعاوى (المحامي) .
005 خير الدين بك عدره من كبار التجار.
005 عبد الحي أفندي الملك من الوجهاء.
005 عبد القادر أفندي القباني البيروتي الشهير (وكان في طرابلس) .
005 عبد القادر أفندي الذوق من كبار التجار.
005 محمد فؤاد أفندي الذوق.
005 محمد سعيد بك (مميز قلم متكوبجي الولاية) الذي كان وكيل
المتصرف يومئذ.
005 محمد كامل بك البحيري صاحب جريدة طرابلس.
003 عبد اللطيف أفندي الغلاييني وكيل الدعاوى.
003 محمود أفندي الحداد من التجار.
002 الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ رئيس كتاب المحكمة الشرعية.
002 صبحي بك شريف.
001 عبد الرحمن أفندي أديب من التجار.
336 المجموع
وقد وعدني بعض هؤلاء بأن يدفعوا أكثر مما كتبوا، منهم مصطفى أفندي
عز الدين، والشيخ إسماعيل أفندي الحافظ، كما وعد بعض من حضر وكتب اسمه
ولم يعين مبلغًا كعبد الله أفندي الثمين من كبار الوجهاء أصحاب النفوذ الأدبي في
اللواء وعضو مجلس الإدارة الآن.
هذا وإن الذين أجابوا الدعوة وحضروا الاجتماع هم زهاء خُمْس من دعاهم
المفتي ، وقد أَبَى حضورها بعض المفتخرين بالمجد التليد الذين يرون أنهم
يستغنون به عن المجد الطريف، ومنهم من صار يسعى بعد ذلك في إبطال العمل
ويثبط عنه، وكان لسعيهم هذا تأثير أوقف التنفيذ إلى أجل، ولولا ذلك لما ذكرت
من أمر هذه الجمعية إلا أن جماعة من أهل الفضل في طرابلس أسسوا جمعية
خيرية إسلامية، فلهم الشكر والثناء.
يوجد في كل بلد أفراد مجردون من حب الخير، ويرون أنهم أهل لأن
يوصفوا بكل خير، ويؤلمهم منظر الخير في غيرهم؛ لأنه بعمله تحلى بما أعوزهم
وأعجزهم، فهم يقعدون بكل طريق من طرق الخير يصدون عنها ويبغونها عوجًا.
لأجل هؤلاء أحب مفتي طرابلس أن لا تؤسس الجمعية الخيرية إلا بعد دعوة جميع
الوجهاء، حتى لا يعتذر بعد ذلك أعداء الخير بأنهم لا يساعدون هذا العمل؛ لأنهم
لم يدعوا إليه عند التأسيس، ونِعْم ما أحب وما رأى.
على أن بعض من دُعِي ولم يجب ممن ذكرنا وصفهم، انتدبوا لإحباط العمل
والتثبيط عنه، حتى إن منهم من لم يستح من مخاطبة المفتي نفسه بذلك، ولما لم
يجد وجهًا وجيهًا للتثبيط قال له: إنه لا ينبغي لسماحتكم أن تقوموا بهذه الجمعية عن
دعوة فلان، فأجابه المفتي جواب العاقل الفاضل، فقال أولاً: إن هذا العمل خير لا
ريب في نفعه وفائدته، فسواء كان من دعاني إليه دوني أو مثلي أو فوقي لا فرق
في ذلك، وثانيًا: أن الداعي إلى ذلك هو واحد منا، ومن أهل العلم والشرف فينا،
وليس له منفعة شخصية ولا غرض ذاتي حمله عليه، ولا هو يريد الإقامة في هذه
البلاد، فنقول: إنه ينفرد بشرف العمل فيه حبًّا بالشهرة
…
إلخ.
إنني لما علمت بمثل هذا القول الذي قيل للمفتي ولغيره، كففت عن السعي
فيما كنت آخذًا فيه من تأليف لجنة مؤقتة؛ لإدارة العمل والدعوة إليه إلى أن يشترك
في الجمعية عدد كثير تتألف منه الجمعية العمومية التي تنظر في القانون؛ وتنتخب
من أفرادها أعضاء الإدارة. وكنت أسعى إلى من أظن فيهم الخير في بيوتهم
ومحال عملهم. وإنما كففت لأرى ماذا يصنع المعذرون أو المثبطون، هل يتفقون
مع المفتي وينهضون لعمل أم يرتاحون إلى السكوت عنه؛ لأنه هو المقصود لهم
بالذات؟ فتبين بعد ذلك أنهم لا يريدون إلا إحباط العمل؛ لأنهم لا يعلمون الخير،
ولا يحبون أن يعمله غيرهم.
وقد كتبت في مذكرتي في أوائل شهر ذي القعدة ما نصه: ذكر لي غير واحد
من الوجهاء أن نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية بطرابلس لا يرجى، وأن الذين
اكتتبوا إنما استحيوا مني، وهم لا يعتقدون أنهم يدفعون شيئًا، بل قالوا: إن المفتي
نفسه يسايرني مسايرة بأن سيبذل جهده؛ وهو يعتقد أن التقصير سيظهر من غيره.
وألح عليَّ (فلان) بأن أترك التشبث بالجمعية. وظهر لي أنه يرى أن ذلك
ينفر القوم مني؛ من حيث لا أستفيد مما أريد شيئًا
…
إلخ ما كتبته في شأن أفراد
معينين، من قائل ومقول فيه.
أكتب هذا ليعلم أصحاب النية الصالحة في طرابلس كالمفتي وغيره السبب
في اكتفائي بعد ذلك بانتقاء نفر ممن يرجى نجدتهم لإدارة الجمعية موقتًا، وإيذان
المفتي بذلك في يوم الأربعاء 23 ذي القعدة (16 ديسمبر. ك1) بعد دعوة كل
واحد منهم على حدته ووعده لي ببذل الجهد في ذلك إلا واحدًا منهم (وهو محمود
أفندي الملا) ، قال: إنه لا يدخل في العمل إلا بعد أن يشرعوا فيه بالفعل. وإن
لي رجاء قويًّا في همة المفتي وغيرته وهمة أولئك الأنجاد؛ بأن ينهضوا بهذه
الجمعية نهضة صالحة بعد هدوء الاضطراب الذي أحدثه ضعف الحكومة الجديدة
والاستواء على حال ثابتة. وإنني أساعدهم بالقلم من هنا، وأكون عونًا لهم على
اليائسين الذين لم أكتب ما كتبت الآن؛ إلا ليعلموا أن كيدهم في تضليل {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
حقوقنا المهضومة ونائب طرابلس الشرعي:
لقد علم القاصي والداني من عثماني وغير عثماني؛ أن حكومة الاستبداد
الماضية، قد أسرفت في الجور على بيتنا وظلم أهلينا؛ انتقامًا مني (راجع فاتحة
السنة الثانية عشرة في الجزء الماضي) ، وكان من ذلك الظلم أنه لما توفي والدنا
تغمده الله برحمته، صرت أنا المستحق بعده للتولي على جامع القلمون الذي جدده
فيها جدنا الثالث؛ بحسب نظام التوجيهات الناطق وفاقًا للشرع بأن يوجه ما ينحل
عن الوالد من الوظائف المتعلقة بالأوقاف إلى أكبر أولاده. ولكن حكومة الرشوة
والاستبداد وجهت تولية مسجدنا على رجل آخر اسمه عثمان النصري، واشتهر أنه
أعطى القاضي (نوري أفندي) على ذلك أربعين ليرة، ثم أعطاه رجل آخر اسمه
الشيخ محمود حسن - على ما شاع وذاع - سبعين أو ثمانين ليرة، فعزل عثمان
النصري بعد دعوى ملفقة، ووجه التولية على محمود حسن.
فلما أردت السفر من طرابلس إلى مصر، قدمت دعوى إلى المحكمة
الشرعية ملخصها؛ أن تولية محمود حسن على جامع القلمون غير صحيحة، وإنني
أنا صاحب الحق في هذه التولية، فأطلب توجيهها عليَّ عملاً بالنظام، وإذا فرضنا
أن توليته صحيحة، فإنني أثبت خيانته بترك معاهد الوقف عرضة للخراب وترك
عمارة ما خرب منها في زمن توليته، والزيادة في النفقات والنقص من الريع.
ووكلت عني وكيلين شرعيين ثم تهيأت للسفر، فحدث ما ذكر آنفًا من التشبث
بتأسيس جمعية خيرية، ثم جاء نبأ برقي بأن نيابة طرابلس (أي قضاءها الشرعي)
وجهت إلى عبد المجيد أفندي الجعفري وأنه سيسافر من الآستانة قاصدًا طرابلس،
ثم لم يلبث أن حضر.
عرضت الدعوى على هذا النائب فقال لي: إنني أقول لك وإن كان لا ينبغي
للقاضي أن يصرح برأيه قبل الحكم: إن حقك ظاهر، وإنني سأعيده لك بعد
استيفاء المعاملة الشرعية ولما كنت على ثقة من ظهور هذا الحق، اعتقدت أن
الدعوى تنتهي في أسبوع أو أسبوعين، فأجلت السفر وتابعت سير الدعوى بنفسي،
وأنا أظن في كل أسبوع أنني أفرغ فيه من الدعوى، وأسافر في الذي بعده، وكنت
عازمًا على الإقامة في سورية خمسة أسابيع فقط؛ لكثرة شغلي في مصر، فأقمت
ستة أشهر والدعوى على حالها، يزيدها النائب كل يوم تعقيدًا.
إنني لم أكد أجالس هذا القاضي مرتين أو ثلاثًا؛ إلا وقد جزمت بأنه سيهان
في طرابلس إهانة لم يسبق لها نظير، فكنت حريصًا على إنجاز قضيتي قبل ظهور
حقيقة حاله التي تقتضي ما توقعته بالفراسة، وكاشفت به غير واحد. ولكن هذا
القاضي لا ينجز عملاً لمن يعتمد مثلي في نيل حقه على أنه محق وقادر على إثبات
حقه.
أنشأ هذا القاضي يؤجل جلسات الدعوى، ويحث وكيلي الخصمين على كتابة
ما شاءا في جريدتها، ويماطل في قراءة ما كتبنا، وقد ثبت لديه أن تولية المدعى
عليه غير صحيحة، وأنه خائن تارك للعمارة الواجبة شرعًا، كما تبين بالكشف من
قبل المحكمة وشهادة الشهود، ومع هذا لم يحكم بشيء حتى آن الأوان وضج
الألوف من الناس بالشكوى منه، واجتمعوا عند المحكمة وهم ألوف ينادون فليسقط
القاضي الخائن المرتكب، وشكوا أمره للمشيخة الإسلامية فأمرت بالتحقيق وهم
يشكون منه أمورًا كثيرة ذكرت في جريدة لسان الحال وغيرها، منها التطويل في
المرافعات وعدم الحكم فيها بعد انتهائها كما حدث معنا، حتى امتنع الوكلاء
(المحامون) عن المجيء إلى المحكمة، ومنها أنه قد يحكم ثم يرجع بحكمه بعد
كتابته، ومنها كراهته للحكومة الدستورية، واعتزازه بكونه من جمعية (فدا كاران
ملت) ، وقد علمنا بعد ذلك أنه كان نائبًا في صيدا فأحدث فيها فتنة حتي هرب منها
ليلاً، وإن ذلك شأنه في كل بلد كان فيها حاكمًا.
لها بقية
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر
لم تكد تستقر قدمنا بمصر بعد عودتنا من سورية (في الأسبوع الأخير من
هذا الشهر) ، حتى صخ سمعنا نبأ عزم الحكومة على العمل بقانون المطبوعات
الذي وضع عقب الثورة العرابية؛ لئلا تعيد الجرائد ذلك التهييج سيرته الأولى، ثم
سمعنا أن هذا كان عن اتفاق بين الإمارة المصرية والحكومة الإنكليزية، وأن نظار
الحكومة المصرية لم يكن لهم به من علم إلا أن يكون رئيسهم الجديد بطرس باشا
غالي، وأنهم عندما فوجئوا بطلب تقرير ذلك القانون أَبَوا، وفضلوا الاستقالة على
ذلك، وروت بعض الجرائد الإفرنجية أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف، ومحمد
سعيد باشا ناظر الداخلية، هما اللذان عارضا وكادا يستقيلان، ثم أُقنعا فلم
يستقيلا، وأن الوزارة لم ترض أخيرًا بتنفيذ ذلك القانون إلا بعد تعديل ما واتفاق
على عدم التضييق به على المطبوعات، ولا المراقبة على الكتب التي تطبع، ولا
المطابع التي تطبعها، وإنما نخص المراقبة بالجرائد؛ لتمنعها من الإسراف في
الطعن والهجاء الذي لم يسلم منه الأمير ولا رجال الحكومة فضلاً عن غيرهم، ومن
تهييج الناس على الأعمال التي قد تحدث الاضطراب، وتثير السخط العام على
الحكومة. لقد كان وقع نبأ هذا القانون أليمًا شديدًا على رجال الصحافة وغيرهم،
ويخشون أن يكون مبدأ لشر أعظم منه إلا من هم على رأي السلطة التي أعادته.
كان للإدارة الإنكليزية في مصر مزيتان عظيمتان لا نزاع فيهما، ويقول
الكثيرون: إنه لم يكن لها من مزية سواهما، ألا وهما يسر البلاد المالي وحرية
الطباعة، وقد ذهبت العسرة المالية منذ سنتين بالمزية الأولى، وكانت إنكلترا قادرة
على تفريجها كما فرجت عسرة أمريكا التي هي أعظم منها بكثير من الأضعاف،
فإذا زالت المزية الثانية بقانون المطبوعات القديم الجديد، فأية مزية تبقى لهم في
مصر، يمنون بها على البلاد، ويفاخرون بها الأمم، وكلا الأمرين حدث بعد
مغادرة لورد كرومر لمصر وهو الذي كان صاحب المزيتين، على أن الحزب
الوطني وجرائده وأكثر الجرائد الأخرى ومنها المؤيد، كادوا يحصرون شكواهم من
الاحتلال في شخصه، فصار أكثرهم اليوم يتمثل بقول الشاعر:
رب يوم بكيت منه فلما
…
صرت في غيره بكيت عليه
_________