المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خطبة خطيبة مصرية على النساء - مجلة المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (12)

- ‌المحرم - 1327ه

- ‌فاتحة السنة الثانية عشرة

- ‌خطاب صاحب المنارعلى طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

- ‌المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

- ‌الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

- ‌تنبيهُ الجرائد السوريةإلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةوما قيل فيه

- ‌الحجاز بعد الدستور [*]

- ‌العام الهجري الجديد

- ‌خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]

- ‌جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

- ‌نهضة الأزهريين

- ‌ندوة العلماء الهندية

- ‌لقب حاكم المسلمين

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌ذيل لكشف الظنون

- ‌صفر - 1327ه

- ‌أوراق اليانصيب وسندات المصارف

- ‌دين المستقبلوهل يكفر من له رأي فيه

- ‌تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد

- ‌منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

- ‌فتاوى المنار

- ‌تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [

- ‌خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

- ‌الحرية واستقلال الفكر

- ‌خوارق العادات في الإسلام [*]

- ‌التربية والأمهات

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر

- ‌ربيع أول - 1327ه

- ‌مسألة خلق القرآن وقدمه

- ‌جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

- ‌القضاء والقدر

- ‌الدولة العثمانية بعد الدستوروجمعية الاتحاد والترقي

- ‌الدستوروجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

- ‌ربيع الآخر - 1327ه

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌أسئلة من الجبل الأسود

- ‌الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر

- ‌إحدى الكبر وكبرى العبر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الأولى - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الانقلاب الميمونوأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

- ‌الذكر ورابطة النقشبندية

- ‌النساء والحجاب والتعليم

- ‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الآخر - 1327ه

- ‌الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها

- ‌خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

- ‌أم كلثومبنت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌عهدٌ موضوعٌزعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى

- ‌رسم المصحف

- ‌بحث في خطبة العقيلة المصرية

- ‌الجزية وتجنيد أهل الذمة

- ‌التعصب الديني في أوربا

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌رجب - 1327ه

- ‌التعصب الديني عند الإفرنج

- ‌الجنسيات العثمانيةواللغتين العربية والتركية

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌خطبة في عيد الدستور

- ‌عيد الدستور بمصر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1327ه

- ‌البلاغ المبين

- ‌اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين

- ‌الدستور والحرية والدين الإسلامي

- ‌استشارة غير المسلمينوالاستعانة بهم في الحرب

- ‌أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

- ‌نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

- ‌المدرسة الكليةالأمريكانية في بيروت

- ‌رمضان - 1327ه

- ‌النسخ وأخبار الآحاد

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌الأخبار والآراء

- ‌كتاب التوسل والوسيلة

- ‌فتن رمضان في دمشق الشام

- ‌شوال - 1327ه

- ‌الصوفية والفقراء [*]

- ‌الشيعة والمسلمون

- ‌مكة المكرمة والجرائد العربية [*]

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

- ‌ذو القعدة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أبو حامد الغزالي [*](7)

- ‌تعصب أوربا الديني والحج

- ‌الشيعة وتعدد الزوجات

- ‌الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]

- ‌حركة الإصلاح في جاوة

- ‌مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو الحجة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أسباب سقوط الدولة الأموية [*]

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

- ‌خاتمة السنة الثانية عشرة

الفصل: ‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

الكاتب: باحثة البادية

‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

نشرت الجريدة مقالات مفيدة في شؤون النساء والبيوت لكاتبة مصرية مسلمة لقبّت نفسها بهذا اللقب (باحثة بالبادية) ثم إنها دعت بلسان الجريدة

النساء إلى سماع خطبة لها في شؤونهن مع الرجال فأجاب دعوتها مئات منهن

فاجتمعن يوم جمعة في نادي حزب الأمة، وسمعن منها هذه الخطبة.

أيتها السيدات: أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرون، يؤلمها ما يؤلم

مجموعكن، وتجذل بما تجذلن به، وأحيي فيكن كرم النفس؛ لتفضلكن بتلبية

الدعوة لسماع خطبتي. إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما

أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن، والإنسان يخطئ ويصيب. فمن رأت

في خطبتي رأيًا مخالفًا لما تعتقد، أو أحبت المناقشة في نقطة ما فلتتفضل بإبداء

ما يعِنّ لها بعد انتهاء كلامي.

أيتها السيدات: ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف

الأزياء ومستحسن الزينات. وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه،

ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها ، فقد عمت الشكوى منا، وكثرت كذلك شكوانا

من الرجال. فأي الفريقين محق في دعواه؟ وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد

التذمر والشكوى؟ لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه، يقول المثل العربي: (لا

دخان بلا نار) ، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: (إن الآراء التي

تظهر لنا خطأ، لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من

الصحة والصواب) إذن فنحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها،

كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة وما

سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. فهم يعزون هذه الحالة؛ لنقص في تربيتنا وعوج

في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء

المسئولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في

مصر، وهو أمر لا ننظر إليه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم

يخلق الله الرجل والمرأة ليتباغضا، ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى

الآخر فيعمر الكون؛ إذ في ائتلافهما بقاؤه ولو انفرد الرجال في بقعة من الأرض

وانعزلت النساء إلى أخرى، لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.

تُدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح

للبقاء في الدنيا النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون

بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره - لعارضتها بقولي: ولأجل من

تُتجشم تلك الصعاب، ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟ إذا قلنا

النساء لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء؟ لقلت: ومن أين يأتي النشء، ولا

أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولا نتوسع بالافتراضات

والمتوهمات، فقد كان الله قادرًا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على

خلق مثله. ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو: مثال سيدنا عيسى

عليه السلام. فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم، أو الشمس والماء

للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء، فإن اللبن بالتحليل يحتوي

الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون

برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات

الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدريج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل

جسم حي نامٍ، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة على

لطافتها وصغر حجمها تحتوي شكلين مختلفين من العروق: أحدهما لقاح للآخر،

كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع، وسلط عليه الريح تسفيه

إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريًّا نبت ونما وصار شجرًا مما وقع منه،

فنظام التوالد هذا مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونبات، لا شك فيه ألبتة،

وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله، وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون

واحدًا أو بفرق قليل جدًّا، هذا دليل على أن الله خلق رجلاً لكل امرأة، هذا بقطع

النظر عن الحروب وغيرها مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق، إذن فمحاولة

الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية

الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونُزيل سوء التفاهم

والتحزب؛ لتحل بدلهما الثقة والإنصاف؛ ولنبحث أولاً في نقط الخلاف.

يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها

فليت شعري، ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا، كانت المرأة في العهد السابق؛

تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل والنسيج فأبطلوا عملها

من هذا القبيل، كانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على

الرحى بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما يسمونه (الطابونة)

واستخدموا فيها الرجال، فأراحونا من ذلك العمل الكثير. ولكنهم عطلوا لنا عملاً

ثانيًا. كانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها فتفننوا لنا آلة للخياطة،

يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون

لرجالنا ولأولادنا، فأدوا لنا بذلك عملاً ثالثًا، كنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات

بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير،

فتنظف الرياش والأثاث، كانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن أو لبيوت

سادتهن، فاخترع الرجال القُصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب،

فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله وتذهب

لتملأ من النهر، وقد يكون بعيدا؟ أو هل يعقل أن مدنية ترى خبز (الطابونة)

نظيفًا طريًّا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية

لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه، أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له، أو وحيدة

لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من

امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بلى

إنهن يستعضن عن الرحى بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر

(بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.

ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال؛

لتسد كثيرًا من أعمالنا، أو لأقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح

ضروريًّا؛ لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في

بعض أشغالهم، فإن الجزاء الحق من جنس العمل.

على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راق له أن يكون

طبيبًا، وعمرو ارتأى أن يكون تاجرًا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له:

لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرًا، وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن

يصير طبيبًا؟ كلا، فكل له حرية يفعل ما يشاء، ولا ضرر ولا ضرار، أو هل

يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترف هذه المهنة من غيره؛ لأنه كان يكتسب ربح

بلد بأكمله، فجاء له هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟ ولو جاز ذلك قوة

لما صح أن يجوز شرعًا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس

روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءًا كبيرًا من

أعمالنا، فهل نقتل الوقت بالكسل، أو نبحث عن عمل يشغلنا؟ لاغرو أننا نفعل

الثاني، ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم

أن نشغل النصف الآخر بما تميل إليه نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن

يمنعنا عنه الرجال؛ بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم.

لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل

وتربية الأولاد، إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات، كلا.

ولكن إذا وجد منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن، فإن الحرية الشخصية

تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على

ترك الشغل؛ ويتذرعون بذلك إلى جعلها حجة علينا. ولكن من النساء من لم

تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات

زوجها أو طلقها، ولم تجد عائلاً يقيم أوَدَها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها،

وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات

أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل

هؤلاء عن القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهن قائمًا بمعاشهن؟ على أن الحمل والولادة

إذ كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي، فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا

وأي رجل قوي لم يمرض، ولم ينقطع عن عمله أحيانًا؟

يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش

فليت شعري، أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟ من أين لهم معرفة ذلك والجزم

به، ولم يصدر به كتاب؟ نعم.. إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال،

ولكن اشتغال أفراد قلائل منا بالعلوم لا يخل ذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم

بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء

السعي وراء القوت، لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا

الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام

كالبرابرة مثلاً، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم، ويتجشم نساؤهم مشقة

الزرع والقلع، حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها. وهاهم نساء الفلاحين

والصعايدة يساعدون رجالهم في حرث الارض وزرعها، وبعضهم يقمن بأكثر

أشغال الفلاحين؛ كالتسميد، والدراس، وحمل المحصولات، ودق السنابل

والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي، ورفع المياه بما يسمونة بالقطوة، وغير

ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضِّياع (العِزب) ورأت

أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء وأصحاء

فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها ، وما

ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة؛ إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا

فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسًا. أليست المرأة القروية كأختها

المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟ هل ترْتَبن في أن امرأة من

المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال:

إننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير

فيه. حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأميركا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك

آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير. ذلك

نتيجة استعمالهم لها، وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه؛ لتستمع زئير السباع

وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم. كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى

من حواسنا بكثير؛ فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد. أما نحن فلا ولم يكذب

من قال: إن الوظيفة تُكوِّن العضو. هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة

السمع بعد فقد حاسة البصر، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد

تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استبعدنا الرجال قرونًا طوالاً حتى خيم على

عقولنا الصدأ، وعلى أجسامنا الضعف. يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم

أجسامًا وعقولاً؟ إنهم لو انصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ، وأنه

لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً. وليتفضل أحدهم باختبارنا

عما استنبطه من تلك القواعد؟ أو ليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان

الأول إلى الآن، ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين

والرومان. نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم. ولكني لو

كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومب لما تعذر عليّ أنا أيضًا أن أكتشف

أميركا. وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة. ولكن كان منهن النابغات

في العلوم والسياسة والفنون الجميلة أي: فيما سمح لهن بممارسته، وبعضهن فُقن

الرجال في الفروسية والشجاعة كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر

بن الخطاب، وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من

أسر الروم، وجان دراك التي قادت جيش الفرنسيس بعد انكساره أمام الإنكليز،

فشجعتهم على استمرار القتال، وأصلت محاربي وطنها حربًا عوانًا. ولن أضرب

مثلاً بالنساء اللاتي تولين المُلك فأحسنَّ سياسته: ككاترينا ملكة روسيا، وإيزابلا

ملكة أسبانيا، وإليزابث ملكة إنكلترا، وكيلوباترة، وشجرة الدر امرأة الملك

الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر، فقد يقول معارضونا: إنه دبره لهن

الوزراء وهم رجال على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين كالملكة فكتوريا

مثلاً، أو لهلمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.

إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات، فقول بعضهم بالاقتصارعلى هذا،

وذاك مثبط للهمة، ورجوع إلى الوراء، في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم

الآن؛ لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا

عن الاستمرارعلى الدرس الكثير، فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة

الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا، فليقروا عيونًا، ولينعموا بالاً،

فإن ما يتخوفون منه بعيد. وإذا فرض واشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى

تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تُقَلد وظيفة أو تشتغل خارجًا، وإنما تفعله لإطفاء

شوق النفس للعلم أو الشهرة، ولما نفعله. فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة، ولا بتقلد

الوظائف الحكومية، أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟

أظن ذلك مستحيلاً. على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت، فلن ينسيها ذلك

أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت

مسؤوليتها. ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكي طفل الواحدة منهن ساعات

وهي تسمعه ولا تتحرك إليه. فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضًا تحضير القضايا أو

الاشتغال بالتحرير والقراءة.

ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلاًّ

لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لايتأتى إلا

من سليم لعليل، أو من جليل لحقير. فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن

نكون أحد هذين.

قال قائلهم: لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع؛ لأنهن لن

يحتجن لأكثر منها. فمن أين له أننا لن نودع نقودنا في مصرف، أو نبيع وثيقة

(كمبيالة) أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟ إنه إذا ادعي بذلك تفضيل

الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضًا، لقلنا: لم تصح هذه

الفراسة، فقد أظهر الواقع غير ذلك. أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة في التعلم،

فذلك ما لا أفهمه؛ لأني أعتبر اللغات كلها نافعة، ولو وجدت من يعلمني البربرية أو

الصينية لتعلمتها. إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها

ملأى بذلك. أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال، فيجب أن نشكر للدكتور

نظمي اهتمامه بها وحثه عليهما.

أيتها السيدات: العلم منير للعقل على أي حال، سواء عمل به أو لم يعمل،

فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسياحة. ولكن نعلم مواقع

البلاد وأبعادها، إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته؛ ولكنه لا يشتغل به في صناعته.

كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها؛ ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن

يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول، فهل نقول لهم إذا كنتم لن

تتملكوا في تلك الأمم، فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها. نسمع في هذه

الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة وأن

حصن اسكودار تأخر في التسليم، ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما

يهيئونا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار؟ لو لم يكن للعلم لذة في

ذاته، لما اشتغل بتحصيله الملوك وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين، ولا بحارة،

ولا سائقي قاطرات. وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق

الأزهار فقط، أم التي تعرفهما أيضًا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق

زوجها المريض بالسكر أو جسمها السمين الذي تريد تضميره، وهل وجود أُصُص

(قصاري) الزرع في حجرتها ليلاً صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضرٌّ بهما؟ فهذه

تعرف تدبير المنزل وتلك تعلمه ، ولكن زيادة واحدة بعلم النبات تحفظ لها صحتها

وصحة عيالها من التلف، فضلاً عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم، نحن

نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا الشبان لا شك؛ نتيجة جهل أمهاتنا،

فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: (لا يلدغ المؤمن من جحر

مرتين) .

إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها، فإن المنزل له

تأثير خاص على الأطفال، وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم،

فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم؛

لتكون الصلة شديدة بينه وبينها 0 فتعلمنا الحالي ناقص، يجب أن يزاد عليه لا أن

ينقص منه.

أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا؛ فهو ما ينسبونه خطأ للتعليم،

وحقهم أن ينسبوه للتربية. يرى كثيرون أن العلم يهذب، ولكني لا أعتقد ذلك، بل

أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط. ودليلي

على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم. وأن

الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فريقين كل على حدة، فتتعلم الفرقتان

الكتاب. ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية، فهذا

ناشئ من تأثير روح العلم في تلاميذه لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت

الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد، والعلم لا يختلف.

يظن بعض الناس أن أحسن التربية تقبيل أيدي الزائرات، وتكتيف

اليدين خضوعًا. ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة. التربية الحسنة هي التي تؤهل

الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: (ما هلك امرؤعرف قدر

نفسه) .

التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير إذا استحق

الاحترام، حتى ولو كان عدوًّا. فالتعلم لم يفسد أخلاق الفتيات، وإنما هي التربية

الناقصة. تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولما

كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال، فقد وجب علينا أن

نضاعف مجهوداتنا؛ لإصلاح شأن أنفسنا أولاً ثم إصلاح النشء، ولا يتم ذلك في

لحظة كما قد يتوهم، ومن الظلم أن نلقي مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن

المدارس لها تأثير في التربية. ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.

ومن عيوبنا نحن النساء، أننا لا نكترث كثيرًا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد

تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة، قال أكثرنا ما لها ولهذا، أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا

وغير ذلك من الألفاظ.

ومن عيوبنا السخرية والتهكم، فكثير منا تنتقد من تصادفه، وتعيب عليه لا

لعيب حقيقي يستدعي الانتقاد. ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته، فربما انتقدت في

ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين، ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه

منتقدًا، فإذا رأت امرأة سمينة قالت: إنها (كالبرميل) وكيف على ساقيها، وإذا

وجدت سيدة قليلة الكلام قالت: إنها متكبرة، وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرًا عابت

عليها وقالت: إنها تتصنع الخفة.

ومن عيوبنا الصلف والاغترار، كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها. ولكني

كنت أخلط فيها وألحن كثيرًا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ،

وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد، ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها

أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمنني بالذكاء، فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي

وصرت أفتخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها

كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها، وأعطاني

كتابًا فيه شعر، فأدهشني أكثر؛ لأني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا

إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها، فإذا كان تركني ولم يبين لي خطئي، فربما

كنت استرسلت في الغرور، والإنسان مهما بلغ من العلم فإنه لا يزال يقبل الزيادة

فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلاً إزاء ما يجهل؛ كالبحر تستعظم منه ما

رأيت، وما لم تره أعظم. وكيف أصلح خطئي اذا كنت لا أشعر به، ولا أقبل

نصيحة من يراه.

يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات وحق لهم؛ لأننا خرجنا عن المألوف

والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب. ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفورًا، لا أريد

أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدًا لا حجابًا، فقد كانت

السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها، لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة

على الأعناق، ولا أريد سفور الأوربيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا، إن

نصف إزارنا السفلي اليوم مِرْط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب، ولا مع

معناها، ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر، كان

الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة، فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ

عليه تكمش بسيط؛ ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق

وسطة ونقصر رأسه، وأخيرًا فصل له كمان، وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس

إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف

الرأس أو أكثره، فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس، أما البرقع

فأشف من قلب الطفل. ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم،

والملابس والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا مع المئزر

الحالي وقد أصبح (فستانًا) يُظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلاً عن أن

بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيًّا وأحمر، الأولى أن لا نسميه مئزرًا بل

(فستانًا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أحشم لأنه

على الأقل لا يسترعي النظر، هبي أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة، فإذا

كان تفنن بعضنا هذا يراد به التحيل على الخروج بلا إزار، فليس عليهم فيه من

حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس

للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو) المسمى

(Gachepoussive) عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل

الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما روت لي إحدى

السيدات للخروج إلى المحلات القريبة. ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه

حتى نمسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح، لو أننا متربيات

من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له لأقررت بالسفور لمن تهواه.

ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى

من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا، إننا

سرعان ما نقلد، وقل أن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها

للملكات والأميرات، فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات، ولعل الشعراء

يعدلون عن كنايتهم الملكات بـ (ياربة التاج) فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن

على أن تَفَنُّنَنَا في المئزر الحالي هو ذاته تقليد للأوربيات. ولكنا فُقناهن في

التبرج، فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس

ما شاءت في البيت أو في السهرات. ولكننا بخلاف ذلك، نظل أمام أزواجنا بجلباب

بسيط جدًّا، ثم إذا خرجت إحدانا عمدت لأحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها

بالمصوغات، وأفرغت عليها زجاجات العطر الطيب، وياليتها تقتصر على

ذلك بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان، وتصبغه بمختلف الألوان، وتتكسر

في مشيتها كأنها الخيزران، فتفتن المارة أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها فتنتهم.

إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء

القصد. ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن، ومظهرهن لايدل عليه؟

حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا

إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا، ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون

مساعداً على فساد صحتنا أو سببا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو

رحبة طلقة الهواء، وكنت فرغت من العمل، وأحسست من نفسي بملل أو كسل،

فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل، ولم يَحبسه في

صناديق مكتوب عليها (خصوصي للرجال) وإنما يجب أن نختار الاعتدال، وأن

لا نخرج للنزهة وحدنا؛ اجتنابًا للقيل والقال، وأن لانمشي الهوينا وأن لا نلتفت

يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس غير

الموجود لها عينة يمكن جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني، أو

يدعني أشتري ما أريد؟ وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلاً، فهل أختار الجهل

أو السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات، على أنه ليس هناك ما

يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه، وهل نحن في إسلامنا

أعرق أصلاً من السيدة نفيسة والسيدة سكينة رضي الله عنهما وقد كانتا

تجتمعان بالعلماء والشعراء؟ وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب لا يمكن إحدى

النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض، وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال

أم أستشفيه فيشفيني؟

إن حبس المصرية تفريط، وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح لأن

تقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج

عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.

بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص

الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتة في

تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية

لا يقبلها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من محاضرة

الرجال والنساء ورقصهم معًا؟ أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين)

بصدورعارية، يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح) ؟ إن ذلك مناف للدين

الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا،

ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات؛ اللاتي إذ شجعناهن بسكوتنا،

فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.

وعلى ذكر الحجاب والعادات، أذكركن بمسألة تئنّ منها السعادة، وتكاد تندثر

في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد

للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي صلى الله

عليه وسلم والصحابة يفعلون غيره، وهو مُتبع عند جميع الأمم بأسرها، والأمة

المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا

فهو من محاسن الاتفاق (الصُّدف) وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير

أحدهما الآخر، ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إن إحدانا إذ اتفق ورأت

عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها، فإنها لا تصبر على

مجالستها فضلاً عن النظر اليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على

مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغربية

لحظة واحدة في غير بيتها؟ يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة

الخطيبين زمنا؛ ليتمكن كلاهما من استطلاع طلع صاحبه؛ ولكني أصرح

باستهجان هذه العادة، وأعتقد أنها مبنية على وهم، لا على أساس متين. إذ من

نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب. وإذا أحب الإنسان شخصًا لم ير

عيوبه ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى

غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتفشل ريحهما. إنما الطريقة التي أود عرضها

على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة، وقبل

العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها، وتكون في أبسط لباسها.

قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر قليلاً، لا

تكفي بأن يقف الواحد على أخلاق الآخر. ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر

الواحد باجتذاب دم الآخر له أولاً، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق

من العينين ومن الحركات والسكنات، فيتبين إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا أو

سكينًا وغير ذلك. أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما، فيجب أن يسأل عنها

من المعارف والجيران والخدم وغيرهم. وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق

تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج، يجب على

الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته

أو موكلته. لربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها. ولكن كل شيء يخال لنا

صعبًا عند الابتداء فيه، وإذا مارسناه سهل وذل، على أننا إذا كنا نعتقد بفساد

طريقتنا القديمة، ونتألم منها، ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدًا لنا

مقلالا لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس، وما أشد إثمنًا،

وما أبعدنا عن قول الشاعر:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد

حياة لنفسي مثل أن أتقدما

وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة، لا هي من الدين

ولا من الحكمة، وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة، تكاد تقتلعها

صرصر تلك العادة العاتية؟! وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق وأشرف على

التلف، فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى؛ لئلا يكون بها مسمار

فيجرح أصبعه، فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من

المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما، ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة

أننا ربما لا نعجبه، أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من

تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة، فكيف يفعله في

اختيار قرين.

إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثيرًا منهم إلى الأوربيات،

فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها، على أن يقترن

ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت) . وليعذرني صديقاتي الغربيات على

هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن، وإنما هن يعرفن قبلنا: أن امرأة ذات

حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها، فضلاً

عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها، وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضي أننا نعيب

مدنية الآخرين. قسمًا بالله لو جاء البارون روتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة

كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريًّا (يخطبها) لما رد بغير الخيبة، فإذا لم

نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا، لم نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضًا،

فنقع في احتلالين: احتلال الرجال واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما؛ لأن

الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء

شديدات التعلق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها

وصاحبها حولها، فيفسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من

بلدنا بخفي حنين، وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق كثير [*] .

بعض رجالنا يفضلون عنا الأوربيات لتدبيرهن. حقيقةً أن الفقيرة منهن

ترتدي بلباس نظيف مرتب، وترين بيتها على قلة أثاثه نظيفًا مرتبًا، وطعامها لذيذًا

متنوعًا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء

ضباط الإنكليز ماشيات في الطرق بلباسهن التيل الأبيض البسيط، وأولادهن

لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء، ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في

شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (والدادات) ، أما سائر

أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال. ولكن هل من تتزوج منهن مصريًّا تدبر

له، كما كانت تفعل لو كان زوجها أوربيًّا؟ كلا، والحس يؤيد ما أقول. فإن أغلب

رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن واتباعهن أهواءهن.

فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة

له يعمل بإشارتها، وحسبت أنه ملزم بالصرف على ما تشتهي وجلبه لها، حتى

ولو كان في الصين، فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري، وإذن ضاعت

أفضليتها من هذا القبيل. وبعضهم يدعي أنه يفضلها؛ لأنه يمكنها الخروج معه في

نزهه وروحاته وغدواته، ولا أظن الرجل يحب أن تراقبه زوجته وتلزمه لزوم

الظل، فإنه داعية للملل على أنه لو كان هذا الرأي صحيحًا، لما تأخر أكثرنا عن

تنفيذه، وأنا أول من تفعله. ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما

يفوقها علينا إلا أمرًا واحدًا لا أرانا نحسنه؛ لأننا لم نمارسه ولا أريد أن نمارسه؛

ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب، وفي نصب الشباك للرجال، فإذا صادت

بحركاتها وغنة صوتها مصريًّا، فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غربيًّا قبله

فهل يقبل وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم أن تطعمه طبيخًا حقيقة لذيذًا، ولكنها

أنضجته على نار غيره، وكرع فيه قبله خلق كثير.

وبفرض أن الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلاً عن أختها الغربية، فلماذا لا

يرشدها بعلها إلى مواضع خطئها بالرفق، ويريها ما يجب وما لا يحب، وإن أحب

شيء عند الزوجين المتحدين؛ أن يبذل أحدهما وسعه ليرضي الآخر. فانصراف

شبابنا لتلقي العلوم الحديثة بأوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها، فكما

يتعلمون لنفع أنفسهم، يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضًا؛ وإلا فلو

اتبع كل واحد يرى عيبًا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد خل، ومن

ذا الذي ترضى سجاياه كلها، فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه

صالحًا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان فصانع الحرير

الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها، وجب أن يشتري الآلات اللازمة

لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته

الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلاً، وأبطل آخر، فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي

قضينا على مدنيتنا، والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة. فشبابنا

يدعون أنهم يأتون بنساء أوربا؛ لأنهم رأوهن أرقى من نساء مصر، إذن يجب أن

يحضروا لنا تلاميذ أوربا؛ لأنهم أرقى من تلاميذ مصر، وعمال أوربا أرقى من

عمال مصر؛ لأن النظرية واحدة، فماذا تكون الحال لو تم ذلك؟ وهل إذا سافرت

زوجة مصرية لأوربا، ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرًا من مثلهم

في مصر، أيصح أن تترك أولادها، وتأتي بغيرهم من الغربين أم تجتهد لتجميلهم

وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟ وإذا كانت أحط فتاة غربية تتزوج مصريًّا

يتبرأ منها أهلها، أفنرضى نحن عنها وقد شغلت محل فتاة منا، وصار زوجها مثالاً

لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بنشاط المرأة الغربية وأقدمها، وأول من

يحترم من تستحق الاحترام منهن. ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة

الوطن، والمصلحة العامة فوق الإعجاب. وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق

ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون

ظلمًا لنا، ولا إجحافًا بحقوقنا.

يؤلمني أن درجة احترام الرجال لنا ليست بالدرجة التي تجب، وإذا بحثنا

وجدنا أننا نحن اللاتي وضعنا أنفسنا في هذا الموضع غير الحسن؛ لأن الإنسان

ينزله الناس في المنزلة التي يختارها هو لنفسه ويسير عليها، كما قال زهير:

(ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) لا يكرم المرء نفسه بأن يقول: سعادتي وحضرتي، أو

البك والباشا على نفسه كبعض الجهلاء الذين تصلهم رتب جديدة، وإنما لا يستهين

بذاته فيهينها، ويشعر عن نفسه بالضعة فيهينه الغير أيضًا، فهل نحن نضع أنفسنا

في الموضع اللائق بها؟ كلا. يحكى أن أحد الخلفاء بينما كان يروض نفسه في

الطريق إذ سمع صوتًا في خربة، فاتجه نحوه، فوجد فيها زبَّالاً يقول:

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها

وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال له: وأي إكرام لنفسك وأنت تحمل التراب والأقذاز؟ قال: نعم، أفعل

ذلك لأكفي نفسي مهانة السؤال من مثلك. إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببًا عظيمًا في

قلة احترام الرجل إيانا، أيعتبر رجل عاقل امرأة تعتقد في السحر والشعوذة وكرامة

الأموات، وتجعل من الدلالات والبلانات بل ومن الشياطين عليها سلطانًا؟ أيحترم

المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها، ومصوغات صاحبتها، وجهاز فلانة،

وأخبار علانة؟ هذا فضلاً عما انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعف منه وأقل ذكاء.

إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن،

فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعلم الصحيح، فإذا حسنت

تربيتنا، وتعلمنا علمًا حقًّا لا قشور بعض اللغات الأجنبية، و (دوري ص فاسول)

والعلم يشمل أيضًا تدبير المنزل والصحة وتربية الأطفال. وإذا تركنا الخلاعة

في الطريق جانبًا، وإذا برهنا لأزواجنا بحسن سلوكنا، وقيامنا بواجباتنا حق القيام

إنا آدميون نشعر، وإن لنا نفوسًا لا تقل عن نفوسهم، فلا نسمح لهم بحال من

الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا، إذا فعلنا كل ذلك، فمن أين يجد الرجل

العادل طريقًا لاحتقارنا؟ أما غير العادل فكان حريًّا بنا لا نقبل الزواج منه.

يرقينا أن نطرح الكسل أرضًا، فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على

(الشلتة) كل النهار أو الخروج للزيارات، كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا،

ونفخ في شراع حبرنا فلم نقو على ضبط جماحنا. والتي تعرف القراءة منا ففيم

تقضي أوقات فراغها؟ في قراءة الروايات فقط، فهلا قرأت قانون الصحة أو

بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟

إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا، فيجب

أن نبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا. والمتأمل يرى لأول نظرة: أن الطبقات

العاملة هي الأقوى صحة، والأكثر نشاطًا، والأنجب نسلاً. ألا ترين إلى أولاد

(الذوات) فأكثرهم مرضى، أو نحفاء يتأثرون لأقل العوارض، مع ما يبذل له

آباؤهم من الاعتناء بهم، بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلاً؛ فإنهم في إهمال شديد من

والدتهم. العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم، ويقوي العضل، ويبعث على

النشاط ، والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها، وإن الأمة الألمانية

لشاهد حسي على ما أقول؛ فإن التعداد يظهر أن النسل هناك يزداد بسرعة هائلة،

حتى ضاق رحب ألمانيا بأهلها، فأخذوا يبحثون عن أرض يستعمرونها؛ ليصرفوا

فيها الزائد من السكان، والذين زاروا أوروبا أخبروا أن أهل تلك البلد مجدون،

نشطون رجالاً ونساء، بعكس المرأة الفرنسية: فإن ترفها الزائد كان سببًا في قلة

نسلها فضلاً عن انصراف كثير من تلك الأمة عن الزواج، وقد بح صوت

الاقتصاديين والاجتماعيين في الندء على مواطنيهم بالاعتدال واتباع الطريق القويم.

لاحظت وأنا في البادية أن بين نساء البدو ورجالهم كثيرًا من العجائز ممن

بلغوا الثمانين والمائة، وقد رأى معظمهم أربعة أعقاب من ذريته، مع إني لم أرى

في القاهرة ولا في المدن الأخرى ما يشبه ذلك. ولا شك أن هذا نتيجة عيشتهم

الطبيعية واعتدالهم، فإنهمم كلهم مبكرون في كل شيء: في الاستيقاظ، وفي النوم

وفي تناول الأغذية. وكلهم عاملون، ولم أر بينهم امرأة واحدة حتى من نساء

أغنيائهم تقضي النهار بالكسل كما نقضيه نحن، فإذا كان الفلاسفة والأطباء يبحثون

عن إكسير الحياة، فها أنا قد اكتشفته: هو العمل والاعتدال في المعيشة أو العيش.

ولعل في هذا القدر من المرأة كفاية اليوم.

بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه، ولو كان لي

حق التشريع، لأصدرت اللائحة الآتية:

(المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح أي: تعاليم القرآن والسنة

الصحيحة.

(المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم

الأولي إجباريًّا في كل الطبقات.

(المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملاً، وقانون الصحة

وتربية الأطفال، والإسعافات الوقتية في الطب.

(المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعليم الطب بأكمله وفن التعليم،

حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.

(المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن

تريد.

(المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق، والجد في العمل،

والصبر، وغيره من الفضائل.

(المادة السابعة) اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل

أن يجتمعا بحضور محرم.

(المادة الثامنة) اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.

(المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن، والاستغناء عن الغريب

من الأشياء والناس بقدر الإمكان.

(المادة العاشرة) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.

(المنار)

نرجئ رأينا في هذه الخطبة إلى الجزء السادس، ولكن لا نرجئ الثناء على

الخطيبة التي كانت في هذا العصر أول مذكرة لنا بخطيبات سلفنا من الصحابيات

فمن دونهن.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) لعلها أرادت أن تتمثل بالآية [إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ](إبراهيم: 19) .

ص: 353

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين

لليافعي

(4)

بحث أحاديث الآحاد وهل هي من أصول الدين

قال الفاضل حفظه الله: الكلمة الرابعة بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد

اليقين. ونحن نقول: هذه دعوى قد سبقه بها كثير ممن لم يبعد غوره في طلب هذه

المسألة، وكان الأجدر بهؤلاء الباحثين أن يبحثوا عن جري الإنسان النظري

الطبيعي، أهو مفطورعلى الصدق والتصديق، أم على الكذب والتكذيب؟ إن من

أمعن النظر وحققه، وجرب الواقع ومحصه، يرى أن الانسان مجبول على قول

الصدق، ومفطورعلى تصديق كل ما سمع. هذه هي حالته الطبيعية؛ لما نرى أن

الصغار الذين هم في حالة السذاجة وعلى الجري الفطري الطبيعي الذين لم تملهم

الحوادث والطوارئ والأحوال المكتسبة - لا يكادون يكذبون خبرًا ولا يكذبون في

خبر. نعم، قد نرى من بعضهم في بعض الأحيان ما يشوش هذا الخلق الطاهر؛

كالذهول والنسيان؛ ولكننا إذا اعتنينا بهذه النكتة السوداء المكدرة لصفاء هذا

المجراء الطاهر المستقيم، نرى ذلك مرضًا من الأمراض العارضة المختلفة

باختلاف أسبابها، وباختلاف المتأثر والقابل، فالنسيان بأقسامه؛ قد يظن بعض

الناس أنه لازم طبيعي للبشر، وليس الأمر كذلك، وإنما هو مرض أو أشبه

بالمرض، ويصح أن يقال: إن كل ما انتقش في الحافظة لا يزول ويمحى بالكلية،

وإنما إذ صرفت همة الإنسان وقصده الشواغل، فهو يذهل عن بعض ما انتقش في

حفظه، فإذا استعجل وترك التفتيش عما في الخزانة المحكمة المصونة، ولم يميز

ما يأخذ منها، فربما ركبت له هذه الحركة الفكرية الخفية الغير المنتظمة صورة بدل

صورة، أو صورة مركبة مما في هذه الخزانة لما قدمنا أو لأنه ضعف أخذه لها

حين حفظها لضعف قصده ونحوه، وحينئذ إذا أراد أن يخبر عن ذلك وقع في خبره

الخلل. ودواء ذلك صدق القصد ابتداء واستمرارًا وانتهاء أي: وحينما يريد أن

يحدث بذلك. وذلك يكون بالمراجعة والمذاكرة مع من يشاركه في ذلك، وعلى

الأقل بالرجوع إلى نحو كتاب؛ دفعًا للطوارئ التي تتناوبه وتشوش استمرار شعوره

بما حفظ. يوضح ذلك أن الإنسان كثيرًا ما يتذكر ما نسيه، والوجدان شاهد ذلك 0

وكما أن الذهول يكون فيما حفظه الإنسان، كذلك يكون فيما يتلقاه ويشاهده في

الخارج والواقع. وانتقاش الأشياء في الحفظ يختلف قوة وضعفًا باختلاف الاستعداد

والتوجه، وقوة الاكتساب حين الأخذ. فظهر بذلك أن النسيان ليس بوصف ذاتي

لكل إنسان لا ينفك عنه؛ إذ لو كان كذلك لم تحفظ شيئًا؛ لامتناع قيام الشيء الذاتي

ونقيضه بمحل واحد، فالقوة التي تحفظ بها ليست هي قوة النسيان ولا سببه، وإنما

النسيان ذهولنا عن تمييز ما حفظناه لسبب ما - مما قدمناه- وإذا كان الصدق

والتصديق هو أصل الفطرة، فما يعارضه من نسيان وكذب، فإنما يكون لأسباب

طوارئ وعوارض لمن انحرف ومال عن مقتضى الفطرة الطبيعية، وقد عرفت

دواء النسيان ودواء الكذب الذي لا يضاهيه دواء: هو استشعار خوف الله المطلع

على كل خفية. وعليه فلا يبعد أن يقول: يمكن أن يكون مضى على البشر زمان

لا يعرفون فيه غير الصدق والتصديق؛ لعدم أسبابه أو ضعفها 0 وعليه فما نراه من

تصديق بعضهم بعضًا في جميع شؤونهم هو إرث بقاء، ولذا نراهم يستهجنون

الكذب والكذابين، حتى رسخت قباحته وصارت من الضروريات، واستحسنوا

الصدق حتى صار من المستحسنات وبما قررناه يثبت: أن الاصل في أخبار الآحاد

هو إفادة العلم واليقين. إلا إن فساد الأخلاق قد غير من ذلك كثيرًا ممن خرج عن

الفطرة وعن الدين. لكن لا يجب أن لا يبقى من ذلك شيء يفيد الصدق، إذا كان

المخبر والمخبر ممن تهذبت فطرتهم، وقوي تمكنهم بالدين مع استعمالهم لجميع

الأدوية المانعة لطروّ مرض النسيان، فليتأمل الناظر.

فقول الفاضل: (إن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين) إن أراد أن بعضها لا تفيد

ذلك لضعف حامله؛ إما لأنه عُرف بالخلط والخبط في أخباره، أو لأنه كان مظنة

لذلك؛ فهو صحيح في بعض الحالات لا في بعضها الآخر، حيث يعلم أنه يشارك

المخبر في مضرة الكذب، وأنه لا غرض له فيه، أو أنه يخاف عقاب المخبر إن

كذب عليه، ففي هذه الصورة قد يفيد خبر الواحد الفاسق الظن الراجح أو العلم

لبعض الناس؛ ولذلك لم يأمر الله برد خبره ولا قوله إلا بعد التبين ، وإن أراد

حضرته أن كل فرد فرد من أخبار الآحاد وأحاديثهم لا تفيد كل فرد فرد من المخبَرين

(بفتح الباء) العلم، فالواقع والعقل يكذب هذه الدعوة. ولا عبرة بقول من تقدمه

بهذا الإطلاق كائنًا من كان. نقول ذلك إيثارًا للحق والحقيقة غير طاعنين في ذواتهم

وفضلهم.

إنه مهما قال من خالف ما ذهبنا إليه، ومهما جهد في التشكيك والتشويش مما

يظن أنه تحقيق، فإنه لا يستطيع أن يغير الفطرة التي لا يكاد أن يخرج عنها فرد

من البشر مختارًا أو ملجأ، وإن من خالفنا فإنه لا وجود لخلافه لا في الواقع ونفس

الأمر، ولا في الاعتقاد، وخلافه لا يتحقق بأكثر من الوجود في القول والعبارة؛

لأن الإنسان ملجأ بالضرورة في أكثر شئونه إن لم نقل في كلها إلى من يعتمد عليه

في التعاون، ولا واسطة لذلك تقوم مقام الإفهام والتفاهم في الأمر والأخبار.

ولما كان الإنسان مدنيًّا بالطبع، كان التصديق في الإفهام والتفاهم طبيعيًّا له.

ولما كان الارتفاق والاجتماع البشري يشتمل على كثير من العلوم أكثرها ضروري

له، فمن اشترط لهذه العلوم غير طرقها، كان محصل قوله ونتيجته إنكار هذه

العلوم وإهمالها الذي من لازمه تفكيك هذا الاجتماع البشري، ومحو علوم هذا

الارتفاق وهو غالط. ومنشأ هذا الغلط أخذ المتأخر قول من تقدمه أصلاً ثابتًا بدون

نقد، وتثبت فيه كما يقال: إن العلم واحد لا يكون بعضه أقوى من بعض، أو إنه

لا يقبل الزيادة والنقصان، أو إنه لا يتفاوت في جزئياته أي: لا يتفاوت في من قام

به من الأشخاص، أو أن الطرق المؤدية إليه شرائطها واحدة، وإن مقدماتها لا

تقبل احتمال التغير، حتى بفرض المانع الذي لم يتحقق وجوده، ونحن لا نقبل هذه

الأقوال ونحوها على إطلاقها، لكن بعد التفصيل والتقييد. فمن اشترط في علم

المعلوم تحقق علته وسببه في نفس الأمر، وصفاته ولوازمه كذلك، وعدم الموانع

كذلك، فقد كلف نفسه ما لا تطيقه، وطمع فيما يكاد أن لا يكون للبشر فيه مطمع،

والعبرة عندنا في ذلك اطمئنان النفس، فإن كان ذلك كسبيًّا فلا بد من بذل الجهد في

الدليل بحسب الاستطاعة. والحاصل أن العلوم كثيرة والطرق المؤدية إليها كذلك؛

وهي مختلفة وطرقها كذلك، ولكل شرائط لا يمكن التزامها في الأخرى، فعلوم

الاجتماع والارتفاق: كاللغات ومتعلقاتها، وعلوم الشرائع والأديان وملحقاتها،

وكذلك علوم الآثار والتاريخ والطب، ونحو ذلك، لا يمكن كل أحد أن يكتسبها

بالعقل أو بالحواس مباشرة ودائمًا، فلا بد من الواسطة، فنشترط فيها أن تكون مما

تطمئن النفس إليها لا مطلقًا، بل بعد بذل الجهد المستطاع، وبناء على ذلك فمن

بلغه حديث ولم يقصر عادة ثم اطمأنت إليه نفسه، فقد حصل له العلم واليقين، ولا

عبرة باحتمالات لم تشوش جزمه، واطمئنان نفسه، والمسلمون تطمئن أنفسهم إلى

هذه الأحاديث المكتوبة عن الثقات الضابطين والأئمة العارفين، فهي تفيد أكثرهم

العلم.

ونقول لحضرة الفاضل ومن قال بقوله: ما دليلكم على أن أحاديث الآحاد لا

تفيد اليقين؟ فإذا قال: إن كل فرد فرد من البشر يجوز منه وعليه الكذب والذهول

والنسيان، وكل من جاز عليه ذلك جاز أن ينسى الخبر ويكذب فيه، واستنتج أن

كل فرد فرد من البشر يجوز أن ينسى خبره أو يكذب فيه. فإذًا ترتب على ذلك

كبرى وهي: كل من كان كذلك فخبره يحتمل أن يكون منسيًّا أو محفوظًا، وكذبًا

أو صدقًا، فالنتيجة أن كل فرد من البشر يحتمل أن يكون خبره منسيًّا أو

محفوظًا، وكذبًا أو صدقًا. هذا غاية ما يمكن أن يقولوه في الاستدلال، وهو كما

تراه يفيد أن خبر كل فرد فرد يحتمل الصدق والكذب. ونحن لا نسلم صحة الكبرى

التي أسس عليها، وأهل المنطق لم يقولوا بذلك، بل قالوا: القضية قول يصح أن

يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب. ولم يتعرضوا لنسبة ذلك إلى المخبر فتفكر.

وما ذكره الفاضل - حفظه الله - فإما أن يكون مراده: أنها لا تفيد اليقين في

حد ذاتها أعم من الواقع والذهن، وإما أن يريد أنها لا تفيد ذلك في أحدهما. وعلى

كل تقدير فهو ترجيح لأحد الاحتمالين بلا مرجح؛ لأن لا دليله يفيد ولا ينتج إلا أنه

يمكن أن تفيد اليقين، ويمكن أن لا تفيده، كما أن صريحه أنه يحتمل أن تكون

الأخبار صادقة ويحتمل أن تكون كاذبة فالاقتصار على أحد الاحتمالين مغالطة،

وهذا إن سلم إنما يكون قبل الاختيار والفحص في المعنيات الخارجية. أما إذا نظر

في ذلك وفرضناها في الخارج فهي لا تكون إلا صادقة أو كاذبة. فإن قال: مرادنا

أن ما كان محتملاً للصدق والكذب لا يفيدنا أحدهما اليقين بذاته، فصح قولنا: خبر

الآحاد لا يفيدنا اليقين، كما أنه لا يفيدنا نقيضه. قلنا: هذا لا يصح إلا بعد ثبوت

وتسليم أشياء كثيرة: فمنها ثبوت أن كل فرد من المخبرين (بفتح الباء) يجب

أن يستشعر احتمال النسيان والذهول والكذب وجوازه في كل أخبار المخبرين

(بكسر الياء) ودون القول بوجوب ذلك ووجوده في الواقع كذلك خرط القتاد،

لجواز أن يكون فيهم من لا يستشعر ذلك أصلاً أو يستشعرها. لكنها تكون عنده

ضعيفة بحيث لا تمنعه عن التصديق بخبر الآحاد؛ لأن الواقع والمشاهد أن أكثر

الناس يجزم بخبر الآحاد ويصدقون بها. وما ذلك إلا لما ذكرناه وأنه دليل على

صحة ما قدمناه؛ من أن من فطرة الإنسان وطبيعته الصدق والتصديق، وأن ما

يعرض لذلك من احتمال النسيان والكذب طوارئ عارضة نادرة، والنادر قل أن

يلتفت إليه في أكثر أمور العامة وأكثر الناس عامةً.

وأيضًا هذه الطوارئ العارضة، قد عرف الناس أنها لا تكون إلا لأسباب:

إما أعراض للكاذب، أو تقصير في الضبط والحفظ، وما لم يقو احتمال وجودها لا

تقوى أن تكون مانعة للجزم والتصديق بالخبر إلى غير ذلك. فإن أبى إلا المناقشة،

وقال: لا عبرة بالعوام إذا كان التحقيق عند المحققين أن هذه الاحتمالات عارضة

ومانعة عن التصديق بأخبار الآحاد. قلنا: يلزمك أولاً - أن كل ما يجزم به العوام

من كل ما أدركوه كذلك أن لا يكون علمًا في حقهم، وثانيًا - أنا لا نسلم اتفاق

المحققين على ما ذكرت، بل أكثرهم يعطون كل خبر مما يوجد في الخارج ما

يستحقه، وهم يعلمون أن بعض المخبرين صادقون وبعضهم كاذبون وكذلك أخبارهم

إن سلمنا أن بعضهم يقول: إن خبر الآحاد يفيد الظن الراجح أو إنه لا يفيد العلم،

فإنما يقول: إن ذلك شأنه في حد ذاته لا بالنظر إلى حال المخبرين والواقع في

نفس الأمر. وإن أراد بعضهم غير ذلك فقوله عندنا ركيك، ولا بد أن يكون فعله

وعمله يكذب قوله، ولا خير في قول يكذبه فعل قائله.

ونقول أيضًا: إنا لا نسلم الصغرى التي أسست عليها دليلك لا كلية ولا دائمة

بيانه أن الكاذب لا يجب أن يكذب دائمًا، ونحن يمكن أن نميز كذبه في بعض

الأحيان، وإذا كان يجوز أن نعرف ما يحتمل أن يكون كذبًا وما لا يحتمل، لم تصح

أن تصدق الصغرى كلية دائمة، وإذا كان يوجد كثير من الناس أهل كمال وفضائل

لا يكذبون، ونحن نعرفهم بسيماهم وبالتجربة الصحيحة، بطل صدق الكذب في

أخبار الآحاد كلية، فالأخبار التي لا تؤخذ إلا من مثل هؤلاء لا يصح أن يفرض

فيها احتمال كذب الراوي، فهي صادقة وسالمة عن أن يشوشها احتمال الكذب.

أما احتمال الذهول والنسيان فقد قررنا أنه: إما أن يكون سببه مرض طارئ

وحادث، ومن كان مصابًا بمرض في حافظته لا بد وأن يكثر ذهوله ونسيانه، ومن

كان كذلك حاله فهو يعرف لكل من عاشره وخالطه، وإما أن يكون سببه تقصير في

الحفظ والضبط، وهذا يعرفه من قارنه وصاحبه في الطلب والتلقي حين المذاكرة

والمراجعة. وكل من عرف بما ذكرناه فحديثه مردود عند أهل الحديث، إلا أن

الثاني قد يتقوى بالشواهد والقرائن في بعض الحالات، فظهر أنه مع ندور طروء

هذه العوارض، يمكن أن نميز من تكون هذه الاحتمالات في أخباره ومن لا.

ونقول: إذا صح أن يوجد في البشر من يجب أن يكون صادقًا لتُقاه وورعه

وعدالته، ولا نظن أن حضرة الدكتور ينكر وجود هؤلاء بالكلية، فإذا سلم قلنا له

إنه يمكن الاحتراز عن الذهول والنسيان بأشياء وطرق كثيرة: كالمراجعة

والمذاكرة والكتابة والدرس والتدريس وكثرة الحاجة إلى العمل. وهذه موانع للنسيان

ومعينة على الحفظ مع سلامة المحل وصدق القصد، وهذه من المجربات الذي اتفق

على تجريبها كل الناس وشهدوا بصحتها، فمن نازعنا في ذلك ألزمناه أن يطعن في

جميع المجربات، بل في المحسوسات بلازمات لا محيص له عنها إن شاء الله.

فظهر ظهورًا لا غبار عليه أن قول المعارض الفاضل - حفظه الله -: إن كل فرد

فرد من البشر الآحاد يجوز عليه الذهول والنسيان في خبره، لا يصح لا دائمًا ولا

كلية، لا في المخبرين (بالكسر) ولا في المخبرين (بالفتح) ولا في الخبر كذلك

كما تقدم، وإذا بطل دليلهم ثبت أن بعض أخبار الآحاد تفيد بعض الناس العلم وهو

المراد.

ونقول: إن من ذهب إلى أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين- أي العلم - فقد خالف

البرهان وخالف ما اتفق عليه الناس في جميع شؤونهم. ألا ترى اعتماد كل فرد منهم

واطمئنانه إلى خبر أبيه وأمه، وزوجه وإخوانه، وأقاربه وأقرانه، وأصدقائه

وجيرانه، وغيرهم. ونراهم يرسلون أموالهم مع هؤلاء، ومع الخدم والأعوان

والأولاد الصغار المميزين؛ اعتمادًا ووثوقًا بأخبارهم، لا فرق بين المرسل والمرسل

إليه، يكون ذلك مع الاطمئنان الكامل، والطمأنينة لا توجد مع احتمال النقيض. إن

التاجر ونحوه، والمرابي البخيل المقتر يعتمد على مثل ذلك في معاملاته ومراسلاته،

وفي مصدره ومورده من أموره وثروته التي هي عند بعضهم أعز عليه من نفسه،

فلولا حصول العلم الذي تطمئن إليه نفسه لم يقدرعلى فعل وترك ما ترك؛ اعتمادًا

على أخبار لا يثق بها، بل هي تحتمل الصدق والكذب، مثل من ذكرناهم جميع

البشر في جميع شئونهم، فإذا رأينا من يشكك بالقول دون الفعل يبدي احتمالات قد

تصدق على بعض الأخبار بعد تعيينها، فهل يصح أن نقول: يجب أن تكون جميع

الأخبار كذلك، في الواقع تحتمل ذلك، أو أن نقول: إنه لا يوجد من يصدق بأخبار

الآحاد وتفيده اليقين؟ وهل يجوز لنا اعتماد قول هذا القائل لاسيما إذا كان قوله

يخالفه فعله؟ وهل يوجد فرد من البشر سليم العقل لا يحصل له العلم، ولا يعتمد

على خبر الآحاد في جميع حالاته.

نحن لا ننكر أنه يكون في بعض أخبار الآحاد ما يفيد الظن، بل بعضها لا تفيد

أكثر من الشك، وبعضها نقطع بكذبه إلا أنا لا نكابر الواقع، ونقول: إن كل فرد

فرد دائمًا لا يفيد العلم واليقين مطلقًا لما عرفت أنا إن قلنا بهذا القول فقد أسأنا

الظن بأفراد الإنسان كلهم حتى الأمراء والعلماء، ولئن جزمنا بذلك فمع مخالفتنا

للعقل، فإنا لا يمكنا أن نعيش بينهم بعيشة طيبة. ومن الأدلة على ما ذكرناه فوق

ما تقدم؛ أن الله أرسل أكثر رسله فردًا فردًا ولم يرسلهم دفعة إلى الناس كجمع

التواتر الذي يزعمه التواترية؛ وما ذلك إلا لأن خبر الآحاد الذي ذكرناه قد يفيد

العلم. فإن قيل: إن الرسول مؤيد بالمعجزة، قلنا: إن التأييد بالمعجزة إنما يكون

في بعض الأحيان. وأيضًا ليست هي شرطًا في الإرسال؛ لأنها إنما تكون إذا وجد

الجاحد المكذب أو من حصل له الشك أو نحوه. أما على قول التواترية فذلك لا

يصح، ومن لازمه أن لا يحكموا بإيمان من آمن برسول من رسل الله عليهم السلام

إلا بعد أن يرى المعجزة أو غيره بها عدد التواتر، ويتحقق أنها معجزة لأن ما سوى

ذلك لا يفيد العلم واليقين. لكنه خلاف المعلوم بالضرورة من سيد الأنبياء - عليهم

السلام - وخلاف ما علمناه بالضرورة من تلقي البشر عنهم وتصديقهم، والإيمان بهم

وبشرائعهم.

أفليس من المعلوم أن الرجل الواحد من البدو الأعراب وغيرهم، كان يأتي

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم

يحكم بإيمانه، وأكثر أولئك وغالبهم لم يروا معجزة ولم يسألوا عنها، غايته أن

بعضهم له فراسة تدله على أن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم صادق؛ لأنه يدعو

إلى البر والعدل، فبذلك حصل لأكثرهم الإيمان، وبعضهم حَلَّفَ النبيَّ صلى الله

عليه وسلم واكتفى بذلك، حيث اطمأنت إليه نفسه، وأولئك أعلى المؤمنين بعد

الأنبياء إيمانًا، حتى إنهم بذلوا أنفسهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا؛ ولتكون

كلمة الله هي العليا. إن من يشترط التواتر في إفادة الأخبارِ العلمَ واليقينَ، يلزمه

أن يقول: إن هؤلاء السادات لا يصح إيمانهم، وإنهم لم يحصل لهم إيمانا. نحن لا

نقول: إن حضرة الدكتور يقول ذلك ويلتزمه لا هو ولا من وافقه من العلماء،

يقولون: إن أخبار الآحاد تفيد الظن، ولكنا نقول: إن اختياره ذلك تبعًا لهم هفوة

من لازمها ما ذكرناه، وما استلزم الباطل فهو مثله ويجب الرجوع عنه.

ونقول أيضًا: لو صح ما قلتم، لم يصح أن يوصف أحد من أفراد البشر غير

المعصومين بأنه صادق؛ لأن المتكلم بغير الواقع في الأخبارلا يكون صادقًا،

والقول بذلك يناقض ما دل عليه القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ

الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) ، وأخبر بأنه ينجي الصادقين بصدقهم، فوصفهم

بالصدق، وأنه ينجيهم بصدقهم الموجود، ومدح الذي جاء بالصدق والذي صدق به،

وأن الصدق ينفع يوم القيامة، ومدح الصادقين والصادقات، وذم وتوعد الذي

يكذب بالصدق إذا جاءه والذي يعرض عن الصدق. وبعض هذه الآيات هي وإن

كان سبب نزولها خاصًّا. لكن في العدول إلى الألفاظ العامة ما يؤيد ما تقرر عند

أهل الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 0 فظهر بذلك أن الصادق

والصدق الذي هو العلم موجود، وأنا مأمورون بقبول ذلك واتباعه، وما ذكره الله

مما قدمناه: إنما هو الصادق والصدق من الآحاد ولو كان العام واليقين والصدق لا

يحصل إلا من أخبار الجموع المتواترة لم يصح أن يوصف الواحد والاثنين، بل

ولا العدد المعين بصفة الصدق، وهذا بين البطلان عرفًا وعادة ونقلاً وعقلاً.

لا ندري ما العذر المقبول لمن سمع قوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) إذا رد خبر الصادق الذي قد عرف صدقه وأنه من الصادقين

العدول؟ فإن قيل كيف نعرف أنه صادق، وصدق الشخص في بعض الأمور مما

يصح أن يخفى علينا؟ قلت: قدمنا الكلام في أنه هل يمكن أن نعرف الكذب

والكاذب أم لا؟ وسيأتي مزيد كلام عليه، أما كون الشخص ممن عرف بالصدق

فذلك بين، وهو لا يسمى صادقًا إلا بعد أن يعرف بالتجربة ويتصف بالتقوى؛ لأن

التصديق والإيمان قد اعتبر معرفتها بالدلائل الظاهرة، وذلك من باب الاستدلال

بالأثرعلى المؤثر، وبلازم الشيء على الشيء، كما قال تعالى: ?? {فَإِنْ

عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ} (الممتحنة: 10) الآية، ونحن لا

نعلم ما في القلوب، لكن لما كان الإيمان بالأنبياء وشرائعهم من لوازمه أشياء ظاهرة،

يتعين أن لا يوجد بعضها إلا بسبب الإيمان، ساغ أن يستدل بها على وجود

الإيمان، فكان العلم بها علمًا بالإيمان.

ونقول أيضًا: إن الله - جل وعلا - كما أمرنا بأن نصدق الصادقين، لم

يأمرنا برد خبر الفاسق بمجرد سماعه، بل أمرنا بالتبين كما قال تعالى: {إِن

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) الآية، وفي ذلك من الحقائق الدقيقة

والجليلة ما لا يقدر قدره إلا من رزقه الله الفهم في كتابه، كما قال بعضهم: كأنه

تعالى يعلمنا ويرشدنا إلى قواعد هي من أصول العدل، وأنفع خلال الاجتماع

والارتفاق، وأعظم أسباب الظفر والسلامة، فقوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ

فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) هو أمر بالتأني والتبصر في خبر الفاسق صراحة،

وإلى ما شاركه وماثله من بعض الوجوه إشارة؛ وما ذلك إلا لأن الفاسق قد يصدق،

فلا يليق أن يهمل خبره بالكلية، بل لا بد من التنبه والحزامة والاستعداد، فلا نبقى

في غفلة وسبات ربما أضرت بنا، ولا نصدقه فيما يضر بمن أخبر عنهم؛ لئلا

نندم على ما فرط منا؛ ولئلا نخسر مودة أعوان وأنصار ونحوهم، والتبين والتأني

في نحو ما ذكرناه هو؛ كالاقتصاد في الأخذ والعطاء ونحوه من أمور الثروة

والاقتصاد.

قلت: ولما كان المخبر لا يخلو؛ إما أن يكون معتبرًا في الرواية وهو الثقة

الضابط أو لا يكون كذلك وهو الفاسق في الأخبار والرواية. وإما أن يكون بين بين

وهو غير المعروف حاله، فالثاني صرح بحكمه في هذه الآية، ولما كان مفهوم

حكم الفاسق يتناول الشيئين اللذين ذكرناهما لم يوجب التبين والتأني، بل ترك ذلك

إلى عرفنا وما تطمئن إليه أنفسنا، وهذه حكمة بالغة في تأسيس القواعد تفهم من

حكم واقعة شخصية معينة في القرآن. ومن جهة أخرى نحن إذا عرفنا حكم الفاسق

فكأنه نبه به على حكم مقابله وهو: الضابط الثقة العدل؛ لأنه قد انغرس في الفطر

والعقول أن الشيء يعطى نقيض حكم مقابله، وذلك مقتضى التقابل. ومفهوم الأمر

بالتبين. إما النهي عنه كما عرفت وهو حكم المقابل، وإما الندب إلى عدمه، وإما

الإباحة، وإما الإرشاد إلى أن حكم ذلك راجع إلى العرف وما تطمئن إليه النفس كما

قدمنا ذلك، وعلى كل تقدير فمفهوم هذه الآية مخالف لما ذهب إليه حضرة الفاضل:

من أن أخبارالآحاد لا تفيد اليقين، أو أنها تفيد الظن المذموم، وذلك ظاهر لا نطيل

بتفصيل وجوهه.

نحن أشرنا إلى الاحتجاج بعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر

الأنبياء عليهم السلام في إرسالهم الآحاد للتبليغ عنهم، وتلك حجة لا مناص لمن

يشترط التواتر في ذلك عنها، وحضرة الدكتور الفاضل لم يجب عن ذلك ولا عن

غيره بجواب شافٍ، فأما قولك: إن أولئك كانوا نوابًا وولاة أمور ولاهم الرسول

صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر كذلك، بل فيهم من ليس كذلك. ولو سلم فليس

طاعة ولاة الأمور في الدينيات بآكد من طاعة العلماء. بل المعروف من دين

الإسلام أن من لم يعلم شيئًا، فالواجب عليه أن يسأل أهل العلم لا فرق في ذلك بين

أمير ومأمور، على أنه قد دل القرآن الكريم على وجوب الدعوة إلى دين الله، وقد

تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بذلك، وقد أجاز وأمر بالتبليغ عنه

إجازة عامة لكل أحد؛ بشرط أن لا يكذب عليه، وكل عالم هو في الحقيقة نائب في

التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وطاعته فيما يبلغ عن الله ورسوله صلى الله

عليه وسلم واجبة.

أما قول الفاضل فوجوب طاعتهم إنما هي لأنهم ولاة أمور. فجوابه إنا لم

يكن بحثنا في وجوب الطاعة، وإنما البحث في التصديق بالخبر في أمر ديني

محض، ومن المعروف شرعًا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، على أنه

قد اختلف المفسرون في المراد من أولي الأمر في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فمنهم من قال: هم الأمراء، ومنهم من قال:

هم العلماء. أما قوله: إن الرسول يمكن أن يعلمه الله بالوحي فيتدارك الخلل في

أقرب وقت إلى آخره، فنقول: هذا لا يمنع استدلالنا على وجوب العمل بأخبار

الآحاد؛ لأنه إذا وجب التصديق على المرسل إليهم، أو من بلغهم الحكم، فاستدراك

ذلك بالتكذيب والعزل ونحوه لا يضرنا في الاستدلال؛ لأنه على كل تقدير وقع

للمخبرين (بالفتح) العلم بخبر هؤلاء، وعلى الأقل وجب عليهم العمل بذلك وهو

المطلوب. ونقول أيضًا: إنه لم يتبين بالوحي كذب هؤلاء كمن مات النبي صلى

الله عليه وسلم وهو على ولايته، أيا ترى ماذا يفعل الناس؟ أليس من لازم ذلك

أنك ألصقت بالدين تهمة شنيعة وهي: وجوب طاعة الأمراء في كل شيء حتى

الدينيات المحضة، وهذا مما لم يوجبه لأنفسهم الأمراء المستبدون، وإنما يتداخلون

في هذه الأمور بتوسط فتاوى العلماء، فيا خيبة الأحرار، وياللبشرى للمستبدين من

رواج هذا المذهب، ولنكتف بالتنبيه على مثل ذلك لظهور فساده، فإن دعت حاجة

عدنا بالتفصيل التام لهذا المقام، إن شاء الله.

ونقول أيضًا: إنه قد تواتر النقل الذي لم يشذ عنه فرد من الأمة الإسلامية،

أن الأصحاب الكرام رضي الله عنهم قد احتجوا على من بعدهم وبعضهم على بعض

بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان العمل لا يجب بخبر الآحاد، ولا

يلزم التصديق به، لم يسغ لأحد منهم الاستدلال والإنكار واللوم إلا إذا كان معه عدد

كثير يؤيدون خبره، بأن يكونوا مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيث

يكن ذلك لا من المخبر ولا المخبر (بالفتح) علم أن من اشترط التواتر في

وجوب العمل بالأخبار، قد خالف طريقهم التي درجوا ومضوا عليها وأمرهم الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم بسلوكها في التبليغ، ولو كان ما زعمه حضرة

الدكتور الفاضل صحيحًا لا نسد باب التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال حضرة الفاضل في الكلمة الرابعة: أولاً - قد يكون الراوي كذوبًا

لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح إلى آخره، وأقول: إن أراد أن ذلك قد يكون شاذًّا

ونادرًا، وأن أهل الحديث يعرفون ذلك، فذلك مسلَّم، وقد وجد من هذا حاله ليشكك

المسلمين في الرواية وغيرها، وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لكن

أهل الحديث قد عرفوا هؤلاء وكشفوا عن حالهم، ومن كان بهذه الصفة هو مهما

بالغ في التستر، فلا يمكنه أن يروج حيلته عليهم؛ لأنه لم يعرف بعد الفحص أن

أحدًا من أئمة الحديث اعتمد ووثق من بان أن حاله كذلك، فمثل من هذا حاله إنما

يعمد إلى العوام، حيث يكون بعيدًا عن العارفين من أهل الحديث، فحديثه لو وجد

فإنما يوجد فيما يتتبعونه من الشواذ المناكير ونحوها التي إذا كتبوها يفردون لها كتبًا

مخصوصة؛ لئلا يغتر بها أحد من العامة في العمل بها، أما في الرواية المعتبرة

عندهم فمثل ذلك معروف تركه، ومن عرف طريقة المحدثين في الأخذ والتحمل

والأداء؛ وشرائطهم في الرواية والرواة الذين يطلقون على ما رووه الصحة

والتحسين، يعرف أنه لا يمكن الدخيل أن يدس فيه كذبًا أو يروج فيه زورًا، ومن

ذا الذي يمكنه أن يمضي كل عمره في التستر وكتمان جميع أسراره، حتى من

أصدقائه وخلانه الذين يمكن أن تفلت على أحدهم ساقطة من أمره. إنه لا يمكنه

إرضاء الناس كلهم؛ ليستروا عليه لاسيما أهل الورع، على أنه إن كان لأحد الناس

القدرة على ذلك، فإن لأهل الحديث طرقًا يعرف بها حال أمثال هؤلاء؛ لأن من

شرط الراوي الثقة: أن يكون معروف الاسم والنسب، والذي لا يعرف كذلك هو

مجهول عندهم. وأما ما يرى من أن بعض الرواة غير منسوب في بعض كتب

المحدثين، فذلك نادر وهم لا يكتفون بذلك إلا فيمن عرف حاله، ومن تتبع ذلك

عرفه.

ولهم طريق أخرى في معرفة المتستر المشار إليه، وذلك بمعرفة بلده ومنشئه

وأخرى أن يكون ممن عرف بالطلب والأخذ عن أهل هذا الفن المشهورين، قال

بعضهم: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون لا يؤخذ عنهم الحديث، يقال: إنهم ليس

من أهله، وأخرى: وهي أن لا يكون ما يرويه مخالفًا لما رواه المعروفون عن ذلك

الشيخ، وأخرى: وهي أنه لا بد يكون الراوي ممن عرف بالفهم والمعرفة وكثرة

السماع والمذاكرة، وأخرى: وهي ما إذا كان لذلك الشيخ رواة فشُرط أن لا يتفرد

برواية شيء دونهم، وأخرى أن لا تكون في مروياته نكارة. أقول: والمنافق الذي

يريد أن يشكك المسلمين ويشوش عليهم دينهم لا يسلم من وجود النكارة في حديثه؛

لأن ذلك غرضه الذي تظاهر بالصلاح والتقوى لأجله، وإن لم يفعل فتستره لم يعد

عليه بفائدة، فظهر أن ما يسميه أهل الحديث بالصحة، وما يعتمدون عليه في

الاحتجاج، لا يصح أن يوجد فيه ما يروى عن المنافقين، ولا ما هو مكذوب لا

أصل له، وفوق كل ذلك لطف الله وعفوه عن الخطأ والنسيان {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن

نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) وقد صح أن الله قال: (قد قبلت) .

أما تجويز كون بعض الرواة قد يخطئ المراد إذا حدث بالمعنى، فجوابه أنهم

رحمهم الله لم يهملوا ذلك، بل اشترطوا للتحديث بالمعنى شروطًا لا يمكن لأحد

منهم أن يروي الحديث بالمعنى بدونها: فمنها أن يكون ممن عرف بمعرفة معاني

الحديث، ذا اقتدارعلى اختيار الألفاظ العربية الصالحة لذلك، فإن قيل: كيف

نعرف أنه فعل الواجب المشروط. قلت: لأنه ثقة ضابط من أهل الصدق والإيمان

فهو يتحرى الصواب؛ تدينًا وخوفًا من الله، تعالى. فلا بد - والحالة هذه - أن

يرى ما هذا حاله، إما بالشك أو أنه إذا أوجس من نفسه قصورًا في التعبير، يصرح

بأن هذا نقل بالمعنى؛ كأن يقول أظن معناه كذا، وحينئذ ينظر حال الراوي المذكور،

فإن كان ممن عرف بالمعرفة مستكملاً للشروط قبل حديثه وإلا رد، وفوق كل ذلك

نعرف خطأه إن أخطأ في التعبير بالمعنى؛ بأن ننظر في الأحاديث التي رواها عن

شيخه غير هذا الراوي، فإن وافق معناها معناه وإلا عد حديثه من الشواذ أو

المناكير، فهذه طريقة فوق ما تقدم تشترط عندهم في من يحدث بالمعنى، وبها

يعرف خطؤه إذا ضعفت معرفته المشروطة بعض الضعف، وبذلك يكون مطعونًا،

فإن كثر منه ذلك تركها. فلا خوف على الحديث من الكذب ونحوه، وقد نقاه الأئمة

الكبار والحفاظ الأبرار، وكتبوه بعد التحري وكمال الفحص مطابقًا لشرائطهم،

ولبعضهم شرائط أكثر من غيرها، وما ذكرناه هو المجمع عليه عندهم وهذه الكتب

التي كتبوها قد نقلتها عنهم الأمة نقلاً عامًّا، وأجمع أهل العلم بعد الفحص على أكثر

الصحيح، ووسموا كل حديث بسمته وبينوا حاله، وقربوا البعيد لمن يريده بغاية

السهولة، وبما ذكرناه يندفع كل طعن يمكن أن يقال.

قال: وقد ينسى شيئًا مما سمعه ويقع في الغفلة بسبب ذلك بدون أن يشعر به.

وقد قدمنا الكلام على مسألة النسيان، ونقول: أولاً - إن الأئمة الحفاظ الثقات

والعدول الأثبات لا يكاد مسلم يسيئ الظن بحيث يتهمهم بإهمال ما سمعوه من حديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يعرضوه للذهول والنسيان؛ لأنا نعلم من

اعتنى وتعهد ما سمعه بالمذاكرة والمراجعة ونحوها كالكتابة؛ فإذا حدث مع كمال

الاحتياط والأناة والتأني والتبيين، لا يقبل العقل عدم شعوره بالنسيان البعيد التوقع؛

إن وقع علمنا ذلك بالتجربة الصحيحة المطردة التي أجمع عليها البشر كلهم كما

قدمنا الكلام على ذلك، إن من يقع له السهو في أمر ما، فإنا جازمون بأنه لم يقع له

ذلك إلا بتقصير وقع منه فليتهم نفسه. ولذا قلنا غير مرة: إن الراوي الثقة إن وقع

له سهو نادر فهو يذكر المروي بالشك، ما لم يتبين.

إن من لم يكن بالحالة التي عرفت ليس عند أهل الحديث من الأثبات، فهم لا

يأخذون بحديثه ولا يصححونه ولا يقبلون مروياته، فما فرضه الفاضل إنما يكون

في غير رواة الحديث الصحيح المحتج به، فالإيراد ليس في محله وليس رجال

الحديث الصحيح إلا مثل من قد جربته من خلانك الذين طالت صحبتك معهم، حتى

عرفتهم وعرفت صدقهم ونصحهم، فإذا أرسلت أحد هؤلاء برسالة تلقاها منك حتى

حفظها، ثم لم يزل يرددها على لسانه وقلبه، فإن كان له شريك فهو يتذاكر في ذلك

معه أو يتصفحها في مكتوب عنده، أفلا يكون مطمئنًّا بخبره عنك من عرف حاله

مثل معرفتك؟ فإذا كان خبر مثل هذا مما تطمئن النفس إليه، ولا يقبل التشكيك فيه،

فما بالك برجال ثقات، ضباط، علماء، أتقياء، حفظوا حديث رسول الله صلى

الله عليه وسلم، وجعلوه شغلهم لا يرحلون ولا يقيمون إلا في خدمته، وحفظه،

وتنقيته مما يشوبه، قد انقطعوا لذلك، ووقفوا أنفسهم عليه بالكتابة، والمراجعة،

والمذاكرة، والدرس، والتدريس، والدعوة إليه، والعمل به، يأتمرون بأمره،

وينتهون وينهون لنهيه، صدقوا بخبره، ووعظوا واتعظوا بعبره، امتلأت قلوبهم

رهبةً وخوفًا من مخالفته، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم معتقدين أنه هو الدين،

الذي هو حق اليقين.

فإن قيل هذا معروف، ولكن الكتابة كانت نادرة في زمن الصحابة، قلت:

إن كثيرًا من الصحابة كان يكتب أو يستكتب، والبعض الآخر مع كمالهم في الحفظ

والاحتياط زيادة عن غيرهم، فالذي يروى عنهم قليل بالنسبة إلى المكثرين الذين

يكتبون منهم والذين تبعوهم بإحسان رضي الله عنهم، فذلك القليل لا يمكن أن

يحدثوا به مع الذهول بدون أن يشعروا بما فيه من الخلل والنسيان، وليس ما تراه

من الأحاديث هو مرويًّا عن واحد منهم، وإنما هو مروي عن مجموعهم، أما ما

نقله الفاضل حفظه عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ فهو لا يدل على مدعى

الفاضل وغايته إن صح أن يكون جرحًا في من عناه، على أنه يحتمل التأويل؛

لأنه لم يعين المجروح ولا وجه جرح معين، وعمران المذكور رضي الله عنه قد

حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث كثيرة، قال: إن حفظ الأحاديث

إذا كانت طويلةً - إلى قوله - عسير جدًّا، وخصوصًا إذا ألقيت مرة واحدة.

وأقول: لم يوجد حديث واحد من الأحاديث الصحاح طويل مفرط، حتى إنه يندر

أن يوجد فيها ما يقارب المفصل من سور القرآن في الطول، والنبي صلى الله عليه

وسلم لم يلق عليهم هذه الأحاديث دفعةً واحدةً، ولا الرواة يأخذونها عن المشايخ كذلك

بل كان صلى الله عليه وسلم يتخولهم الموعظة، وتارة قد يعيد لهم معنى ما حدثهم به

في الأيام الماضية، فمن سمع ما كان قد سمعه تذكره وأتقنه، ومن سمع جديدًا

حفظه هو أو غيره، وكان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلمة حتى يقولوا ليته سكت،

وعادته المطردة أنه كان يكرر الكلمة ثلاثًا لتحفظ عنه، وهم رضوان الله عليهم

يتدارسون ويتذاكرون ما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجلسون لذلك في

المسجد حلقًا، وكان يتناوبون الحضور لأخذ العلم منه صلى الله عليه وسلم، وإذا

غزا كان يأخذ من كل فرقة منهم طائفة؛ ليخبروا إخوانهم إذا رجعوا إليهم، مع ذلك

كله هم أزكى العرب وأصقلهم أذهانًا، وغير خاف ما امتاز به العرب من قوة الحفظ

وصفاء الأذهان والذكاء المفرط، حتى إنهم كانوا يحفظون القصائد الطوال التي

تنشر في المواسم مرة واحدة لأول وهلة، فهل يستبعد أحد أن يحفظ الواحد من

الصحابة رضي الله عنهم الجملة القليلة من الأحاديث التي يلقيها عليهم الرسول

صلى الله عليه وسلم متفرقة في أيام وسنين وأعوام كثيرة؛ وهم بالصفة التي عرفت،

وهم مع ذلك لا يزالون يتذكرونها تارة من نفس قائلها صلى الله عليه وسلم،

وتارة من أقرانهم وإخوانهم وأصحابهم للعمل والإرشاد وغير ذلك كما تقدم ،

والأحاديث إنما رويت عن مجموعهم رضي الله عنهم، على أن المكثرين منهم قد

صح أنهم كانوا كتبوا واستكتبوا ما سمعوه وحفظوه عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم وبعضهم عن بعض، وكتابتهم لم تكن ككتاب يصنف في هذا الزمان، وإنما

كانوا يكتبون ذلك وقعات، كلما سمعوا شيئًا كتبوه، وبعضها أشبه بدفاتر التجار

اليوم. فاعتراضات حضرة الفاضل الثاني والخامس والسادس؛ هي في الحقيقة

ليست بواردة على ما عندنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي

واردة على أحاديث فرضية قدرها الفاضل في ذهنه، وليس الحقيقة والواقع في

الرواية عندنا إلا ما عرفناك فانتبه ولا تغفل.

هذه الاعتراضات هي أشبه شيء بما إذا رأى بعض الناس بناء عظيمًا كمنارة

وقال: كيف نصبت هذه، ومن الذي حملها فنصبها دفعة واحدة، فإذا أخذ هذا

العجبُ، فإنما ذلك لعدم علمه، ولو دري أنها إنما بنيت بالتدريج لم يكن كذلك، كما

يقال: إذا عرف السبب زال العجب.

هذا وإنه ليسوؤنا من حضرة الفاضل حفظه الله إيراد مثل هذه المغالطات مع

علمه بما ذكرناه، ونحن لم نكن نظن أنه بهذه المثابة، وكذلك عجلته على ما ذكر:

من أنه يريد أن يطبع رسالة فيما نحن بصدده؛ قبل أن تتم المناظرة ويتبين له

الصواب من الخطأ، فنرجو من حضرته أن لا يطبع ذلك إلا بعد انتهاء المناظرة،

وبعد أن يتكلم مع شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا؛ لأجل أن يصلح ما شاء أن

يصلحه، على أن الدين الحق لا يعدم أنصارًا، والله المستعان.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 371