الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجنسيات العثمانية
واللغتين العربية والتركية
إن من شؤون مدنية هذا العصر المحافظة على أجناس الموجودات حسية
كانت أو معنوية، فترى الغربيين أئمة هذه المدنية إذا رأوا نوعًا من الحيوانات
الأرضية أو الجوية أو المائية أخذ في النقص حتى خيف من انقراضه، حرموا
صيده إن كان مما يؤكل، وقتله إن كان مما لا يؤكل، وإن كان ضارًّا كما يحافظون
على العاديات والآثار القديمة جميعًا، ونراهم أيضًا يرغبون في بقاء نموذج من
الأديان والمذاهب الدينية وغير الدينية، واللغات المستعملة وغير المستعملة، حتى
إنهم أحيوا بعض اللغات التى ماتت وبقي أثرها، وجعلوا يتدارسونها ويتنافسون في
معرفتها.
ما كان لهذه المدنية أن تحافظ على أجناس الحيوان والجماد وتسمح بانقراض
بعض أجناس الناس [1] ، بل هي أشد محافظة على أجناس الناس ومقوّمات
جنيستهم من اللغة وغيرها، واعْتَبِرْ ذلك بالأجناس المكونة لمملكة النمسا
(الإمبراطورية) تَلْقَهُ واضحًا جليًّا.
كان الجنس في العصور الماضية ينقرض بانقراض أفراده كلهم أو جلهم
بالموتان والأوبئة أو بالحرب، وما يعقب الأغلب فيها من العبودية والذل الذي
يقلل النسل رويدًا رويدًا، حتى لا يبقى منهم أحد أو يبقى منهم حثالة ممزقة في
الأرض، لا تسمى شعبًا ولا تعد قبيلة.
وهنا ضرب من ضروب انقراض الجنس يتحقق بانحلال رابطة الجنسية
وزوالها، لا بانقراض الأشخاص وانقطاع الأنساب وهو أن يدخل الجنس في دينِ
جنسٍ آخر أو لغته فيمتزج به ويلابسه في تقاليده وعاداته، حتى يذوب فيه
ويصير من عناصره المكونة لذاته، كما امتزجت الأجناس السورية في الجنس
العربي باللغة في جميع الأفراد وبالدين في أكثرهم، ونسيت جنسيتهم النسبية
وزالت جنسيتهم اللغوية، وصاروا كلهم عربًا.
هذا النوع من زوال الجنس أو الجنسية هو من الترقي والكمال في الإنسانية
لا من النقص أو المرض الذي يعرض لها؛ لأن الإنسان عالم اجتماعي فكلما اتسع
نطاق الاجتماع وقل التفرق والانقسام فيه زادت الإنسانية كمالاً، ولهذا يرى حكماء
الاجتماع أن منتهى الكمال البشري في هذه الحياة أن يكون الناس كلهم أمة واحدة لا
يفرق بينهم نسب ولا لغة ولا وطن ولا دين، ويستحيل أن يتحولوا إلى هذا دفعة
واحدة، وإنما يكون مثل هذا باندغام بعض الأجناس في بعض بالتدريج البطيء، وإن
الأمم الكبرى التي تجتهد بنشر لغاتها وآدابها في أرجاء العالم تطمع كل واحدة منها في
أن تكون لغتها هي لغة البشر كلهم في المستقبل البعيد؛ لكي يكون لها الإمامة وبقاء
التاريخ والذكر في الزمن المستقبل على ما يكون لها من السبق إلى الاستفادة من
توسيع دائرة جنسيتها في الحال. ولا ينافي هذا ما نشاهد عليه الإنكليز - وهم أطمع
الأمم في هذه الغاية - من شدة محافظتهم على جنسيتهم وغلوهم في أثرتهم لما عليه
الإنسان من الحرص والبخل بمميزاته وخصائصه، سواء كانت شخصية أو قومية،
وإن هذا البحث ليتسع لتفصيل ليس هذا المقال بموضعه، وإنما ذكرناه فيه تمهيدًا
ومقدمة لا مقصدًا. وعندي أن الإسلام يرمي إلى هذه الجامعة العامة [2] .
ومن فروع هذا المبحث التي لا مندوحة عن ذكرها في باب التمهيد؛ أن هذا
النوع الكمالي من زوال الجنسيات أو تحول بعضها إلى بعض، لا يكاد يرضى
شعب من الشعوب بأن يكون هو المدغم في غيره لأجل تحقيقه، فضلاً عن أن
يرضى بذلك إيثارًا لمقومات جنس آخر على مقومات جنسيته، وسبب ذلك ما
ذكرناه آنفًا من حرص الإنسان على خصائصه ومميزاته؛ وإن كانت ضارة كبعض
التقاليد والعادات، وإنما له طريقان: أحدهما الغلب والقهر، وطبيعة المدنية
الحاضرة تأباه؛ لما ذكرناه في فاتحة الكلام. وثانيهما التحالف والاتحاد في المصالح
والمنافع، بحيث يأخذ كل جنس من الآخر أمثل ما عنده بمقتضى سنة الانتخاب
الطبيعي، إلى أن تغلب مقومات جنسية أحدهما في مجموعها على مقومات جنسية
الآخر، ويصيران جنسًا واحدًا وهو ما يطمع فيه بعض الغربيين في مستعمراتهم:
كفرنسا في الجزائر، والشعوب العثمانية أحوج إليه ولن يكونوا أمة واحدة بدونه.
ينتج ما تقدم من المقدمات أن الدولة العثمانية لا تستطيع في هذا العصر أن تحل
رابطة جنس من الأجناس التي تتكون منها أمتها بالقهر والإكراه، ولا بالخلابة
والإقناع، بل سبيلها اللاحب أن تؤلف بينها في المنافع والمرافق، والمصالح
والوظائف، وتوحدها بجنسية الشريعة والقانون، دون جنسية اللغة والدين، حتى
يتمازج منها ما هو مستعد للمزج، وينبذ مزاج وحدتها الجديدة من لا يقبل ذلك من
الأجناس كما ينبذ مزاج الجسم المعتدل ما عساه يدخل فيه من الأجسام الغربية.
أعني بهذا النبذ - واللبيب يفهم - ما تقتضيه طبيعة الاجتماع من ذلك، لا أن
الدولة نفسها تنفي من بلادها الآن بعض الأجناس. ذلك أن الجنس الذي لا تقبل
طبيعته الوحدة العثمانية التي ذكرناها (كجنس الروم فيما يظهر) ؛ لجذب جنسية
أخرى هي أقوى منها في حقه، يتسلل أكثر أفراده في بلادها بالهجرة أو سبب آخر،
ويتصلون بجنسهم الذي تربطهم به عدة روابط؛ لكونه أقوى على جذبهم من الجنس
الذي يرتبطون فيه برابطة واحدة.
أما تنازع البقاء بين الجنسيات اللغوية في الشعوب العثمانية الذي ينتهي
باستيفاء طوره الاجتماعي إلى تغلب الأمثل، فسيكون على أشده بين العربية
والتركية؛ لأنهما اللغتان الحيتان للشعبين الكبيرين في الأمة، والأولى منهما لغة
الدين يكفله منصب الخلافة. والثانية لغة السلطنة الرسمية، وليس للغات سائر
الشعوب شركة في هذه المزايا.
إن الأرمن شعب صغير وعهده قريب بتدوين لغته وجعلها لغة علمية، ولا
يطمع أحد من عقلائه بنشر هذه اللغة في شعب آخر، فهي لغة قاصرة محصورة
غير قابلة لحياة النشر والامتداد؛ لعدم الحاجة إليها عند غير أهلها. واللغة التركية
مزاحمة لها فيهم أنفسهم، فهي أملك لألسنتهم من لغتهم.
وأما الألبان والأكراد: فهم حتى اليوم لم يدونوا لغتيهم، ويجعلوهما لغة علم،
ولا يطمعون في نشرهما وتحويل أحد من الشعوب الأخرى إليهما، والتركية مزاحمة
لهما في الشعبين وكذا العربية لا سيما في بعض بلاد الأكراد؛ كالسليمانية وغيرها،
ثم إن الدين يجذبهم إلى هذه، والإرادة تجذبهم إلى تلك، فزيادة عناية كل شعب من
هذين الشعبين بلغته ومحاولته إحياءها تقليدا لما ذكرناه من طبيعة المدنية الغربية لهذا
العهد، لا يفيده إلا أثقالاً تعوقه عن تحصيل العلوم، ومجاراة غيره بالترقي فيها؛
لأنه إن ترك العربية قصر في دينه الذي هو أعز شيء عليه، وإن ترك التركية قصر
في عثمانيته وما يترتب عليها من الفوائد، فلم يبق إلا أنه يضيع بعض زمن
التحصيل في دراسة لغته القومية، ولا أرى العقلاء منهم يطمعون في تأسيس دولة؛
لأنهم يعلمون أنه لا فرق في ذلك بين شعبيهما وبين الشعب الأرمني؛ من حيث إنه
طمع في غير مطمع يضر الطامع ويضر الدولة، فيقوى عليهما الطامعون فيهما،
ولَضرر الشعب الصغير من أكبر ضرر الأمة الكبيرة. على أنَّ محاولة تمزيق السلطة
محرم في الإسلام، فالشعب الإسلامي الذي يفارق الجماعة يجني على دينه وعلى
دنياه، فالتنازع الحقيقي في لغات الشعوب العثمانية إنما هو بين العربية والتركية.
يرى بعض الترك الغالين في عصبية الجنس أنه ينبغي للدولة أن تجعل اللغة
التركية وحدها لغة التعليم، وتلزم جميع العثمانيين بتعلمها، وتجعلها اللغة الرسمية
في جميع معاملات الحكومة حتى التقاضي والمرافعة في المحاكم، إلى أن تحول
العرب فمن دونهم من العثمانيين إلى الجنسية التركية. ويظنون أن هذا أمر ممكن
حتى في عصر الدستور وما ظنهم هذا إلا إثم وغرور.
ويرى بعض العرب بنزعة دينية وبعضهم بنزعة جنسية أنه ينبغي للدولة أن
تجعل اللغة العربية هي لغة العلم، ثم تجعلها بعد انتشارها اللغة الرسمية؛ لأنها لغة
الشعب الأكبر من الشعوب العثمانية ولغة الدين لجميع مسلميها ومسلمي سائر الآفاق
الذين يرتبطون معها برابطة الخلافة، ويغفلون عما بيناه في القسم التمهيدي من هذا
المقال من شأن المحافظة على الجنسية، لاسيما في شعب يرى لنفسه حق السيادة،
فإن تنازل عنها بالدستور فإنه يصعب عليه أن يترك من مميزاته ما حفظ لنفسه الحق
في استبقائه بنص القانون الأساسي، وهي جعل لغته هي اللغة الرسمية للدولة.
إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة
بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر،
فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين
بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان
باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم عز وجل
وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح رضي الله عنهم
وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين رحمهم الله
والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله
بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل
خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من
الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس
الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها
لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه
يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها
المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه
الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة
تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي
بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام
العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية.
هذه المرجحات لا تعزب عن علم أذكياء المفكرين من الترك، ولو كان أمر
الأقوام والشعوب مما يُتّبع فيه البرهان إذا ظهر لكان حل هذه المسألة من أهون
الأمور. ولكن الأقوام والجماعات تتبع الشعور والوجدان دون العقل والبرهان بل
يقول الفيلسوف الاجتماعي جوستاف لبون: إنها لا تعقل ولا تطيق سماع الدليل،
فلا مطمع إذًا في رضاء الشعب التركي بجعل العربية لغة العلم في الدولة كلها مهما
كان في ذلك من الفوائد وأمن الغوائل؛ لا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه
العصبيات الجنسية في أوربا من عهد نابليون إلى اليوم، وسرت عدواها إلى البلاد
المجاورة لها.
إذا كنا لا نجد سبيلاً إلى توحيد اللغة؛ لاجتناء فوائده فكيف السبيل إلى اتقاء
غوائل التنازع بين اللغتين السائدتين، وما يتبعه من تحريك عصبية الجنسين الذي
هو أشد الأخطار على الدولة في العهد الذي يجب الإنفاق فيه على تعزيزها
وإعلاء شأنها، والتأليف بين أجناسها وعناصرها جهد المستطاع.
يقول أكثر الباحثين المستقلين من الأجانب والعثمانيين: إن لحل هذا المشكل
طريقًا معبَّدًا ومثالاً متبعًا لا يحتاج معه إلى النظر والاستدلال؛ وهو ما عليه
سلطنة النمسا، فينبغي أن يكون العرب والترك في الدولة العثمانية كشعبي النمسا
والمجر، وأن يكون سائر العناصر العثمانية كسائر العناصر في تلك الإمبراطورية.
أراني بهذا قد وصلت إلى بحث لم أكن أرمي إليه، وطرقت بابًا لا غرض لي
الآن بالدخول فيه؛ باب البحث في المسألة التي يعّبرون عنها بالمركزية
واللامركزية التي هي موضوع الخلاف بين الحزبين السياسيين الطبيعيين فينا وهما:
حزب الاتحاديين وحزب الأحرار، فلندع تنازعهما للزمان يبرم فيه حكمه، ولنعد
إلى موضوع اللغتين فنختم الكلام فيه برأيين؛ أحدهما: ما نراه يرضي المفكرين
ودعاة العلم والسياسة من العرب، والآخر: لأحد المفكرين والخبراء من الترك ولا
ندري أيرضيهم أم لا.
(الرأي الأول) هو أن يكون تعليم كل من الشعبين في المدارس الابتدائية
الرسمية بلغته، وأن يكون تعلم اللغتين إلزاميًا في جميع مدارس الحكومة الثانوية
والعالية، وأن يكون تعليم العلوم في بلاد العرب بالعربية، وفي بلاد الترك بالتركية،
وأن تكون جميع معاملات الحكومة كل ولاية من ولايتهما بلغتها، ويكون في
الولايات العربية قلم ترجمة؛ لأجل مخاطبة العاصمة وتلقي الخطابات منها بالتركية،
وأما سائر الأجناس فيعلمون العلوم بالتركية؛ لأن أكثرهم يعرفها إلا من كان منهم
في الولايات العربية، فإنه يكون تابعًا لأهل ولايته، فإن لم يتيسر تنفيذ هذا الرأي
في مدة هذا الدور الأول لمجلس الأمة، فالرجاء فيما بعده قوي إذا كان الترك كما
نظن يحبون الوفاق. وقد بينا من قبل حاجة الترك إلى تعلم العربية في الجزء
الثاني (راجع ص 111 م 12) .
(الرأي الثاني) وهو لعبيد الله أفندي مبعوث أزمير أودعه في مقالات له في
التعليم نشرها في جريدة (تصوير أفكار) ، وترجمته بعض صحف بيروت ومصر،
وهذه خلاصته ننقلها عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية قال: أرى خير حل
لمشكلة لغة العلم هو أن يتخذ الأتراك التركية لسانًا علميًا لهم، وأن تؤسس بحماية
الحكومة وتحت مراقبتها مراكز علمية عربية في قواعد الأقطار العربية مثل:
دمشق وأم القرى ودار السلام تسعى في إنهاض علوم الحضارة العربية التي أخذت
تنحط وتضمحل منذ انقرضت السلطنة العربية.
وبذلك تنتشر العلوم والفنون بين الأتراك بلسانهم، وتحفظ الحضارة العربية
وترقى بلسانها الخاص من جهة وبما ينقل منها إلى التركية من جهة أخرى، وينجو
الأتراك من الجهل بالدين، وينهضون من هُوّة التعصب الأعمى التي لا يزالون
ساقطين فيها إلى اليوم، وإن الحكومة لتقدّر الخلافة حينئذ حق قدرها، وتقوم بأعباء
واجباتها، ولو أن الدولة أدركت هذا الحل من قبل وعملت به لكثر سواد الترك
الذين يعرفون العربية، والعرب الذين يتكلمون بالتركية، ولَتحول لسان جميع
العناصر العثمانية: كالروم والأرنؤوط والأرمن وغيرهم بقوة العلم منذ ثلاثة قرون
أو أربعة إلى لسان الترك؛ لسان المعارف والحضارة [3] .
اضطرني إلى استطراد هذه المسألة مع أنها خارجة عن مبحث المدارس ما
أراه من لزوم تنبيه الأذهان إلى أن من الممكن بل من الواجب اتخاذ التدابير التي
سردْتُها، وإني لست أرى واسطة أحسن من هذه تقطع ألسنة الذين أصبح دينهم في
هذه الأيام الضرب على نغمات الخلافة.
وإن منع دخول المؤيد وغيره من الأوراق المضرة إلى الولايات العربية لا
فائدة له؛ بل ربما زاد انتباه الناس إلى مطالعته.
ليس نشر العلم في الولايات العربية باللغة التركية من الممكن كما أنه ليس
بالمعقول؛ بل العربية فقط تمكن إشاعة العلم ثمّة، وإنّ من الواجب حماية اللغة التي
تريد تعميم العلم بها بين أمة (العرب) ، وحماية الأفاضل أيضًا من أهلها. وإن
إصلاح مدارس القسطنطينية لا يعد حماية للغة العربية؛ لأن إصلاح هذه وتعليم العلم
بها من أقرب طريق، لا يكون إلا بتأسيس مدارس علمية في القطر العراقي
والقطر السوري والقطر الحجازي، وإنشاء مجامع علمية عربية هنالك أعضاؤها
من العرب وموظفون بصورة رسمية.
ومتى تم ذلك نبغ بتلك الأقطار في القريب العاجل، فحول العلم وأرهاط
الفضل وزحف إليهم أصحاب المزايا في الشرق والغرب وفي مصر والسودان، فلا
يمضي الزمن اليسير حتى تنتقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بكل فروعها،
وسوف تندم الخلافة العثمانية إذا لم تكن هي المتوسطة لهذا النقل والقائدة لهذه
الحركة.
وفضلاً عن ذلك، فإن دولة كالخلافة الإسلامية وسلطنة كالسلطنة العثمانية
تحكم بلاد العرب الذين لا نزال نستنير بأنوار علمهم وفضلهم، لا يمكنها الاكتفاء
بالقسطنطينية وحدها مركزًا علميًا لهذا الملك الطويل العريض، فإن مكة عاصمة
المسلمين أجمعين، وبغداد دار الخلفاء ومنشأ العلوم الإسلامية، ودمشق عاصمة
الخلافة الأموية وأكبر مدن السوريين الذين نهضوا بمعارف مصر ومطبوعاتها
وصحافتها في هذا العصر الأخير، هذه المدن الثلاث يجب أن تكون مراكز عالية
مهمة في هذه السلطنة، وعندئذ يخلف الأئمة البصريين والكوفيين القدماء ببضع
سنين أئمة وأساتذة عراقيون وسوريون وحجازيون، يجعلون دولتنا مدنية نصيرة
للعلم واللغات حتى إذا ما امتد لسان إلى الخلافة يسلقها العلم. اهـ بعبارة الاتحاد.
(المنار)
كنا نتمنى لو اطلعنا على رأيه في المدارس عامة، وإننا نقتبس بعد هذا مقالة
تاريخية في الموضوع من مجلة المقتبس الشهيرة فيها رأي ثالث في المسألة، وهذا
نصها:
العربية والتركية
أصيبت الأمة بعد سقوط دولة بني العباس بفتور غريب في العلم والآراء؛ لِما
عاينته من أهاويل الحروب والفتن، ولَمَّا قامت الدولة العثمانية فجمعت تحت لوائها
الأقطار المختلفة نظرت إلى الأقطار العربية من الوجهة السياسية ولم تُعن بها
ولا بغيرها من الوجهة العلمية الاجتماعية شأنها في عامة أدوارها وأقطارها، ولم
يشذ عن ذلك إلا مصر، فكانت أشبه بمملكة مستقلة حتى بعد استيلاء العثمانيين
عليها، وبعيد أن قامت الدولة تؤسس لها مدارس في العاصمة والولايات؛ لتعلم
العلوم الحديثة، وتستبدل النور بالظلمة والعلم بالجهل، قام محمد علي والي مصر
فنزع القطر المصري من المماليك في الظاهر ومن الدولة في الباطن، وأنشأ فيه
مدارس عربية، وتوفر بدلالة جماعة من مستشرقي الفرنسيس النبهاء على ترجمة
الكتب العلمية من اللغات الأوربية، فانتعشت اللغة العربية في مصر فقط، وظلت
كهف العرب، عنها يأخذون علومهم وموطن الطباعة والكتب والصحف، وبأنوارها
يستضيئون؛ وذلك لغناها العظيم وتاريخها المجيد القديم.
بقي الأمل في نهوض العربية محصورًا في مصر؛ لأن الشام والعراق
والجزيرة والحجاز واليمن ونجد وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش أمست
في فتور، وقد أنشئت في تونس وسورية بعض المدارس والمطابع تدرس بالعربية
وتطبع اللازم من الكتب العربية. لكنها لم يمض على تأسيسها بضع سنين حتى
أطفأت شعلتها؛ بما أصاب سورية من بلاء المراقبة وما أصاب تونس من الاحتلال
الفرنسوي والمراقبة واحتلال الغريب مما يقتل روح العلم وينزع حياة النهضة
القومية، وقد أوشكت مصر أن تصاب بضعف لغتها لما احتلها الإنكليز، لولا أن
قامت الأمة وطلبت جعل العربية لغة المدارس الابتدائية والثانوية، فلم تر الحكومة
بدًا من إجابة طلبها.
أما هذه الديار فكان أول ما انصرفت إليه الوجوه [4] بعد إعادة القانون
الأساسي العثماني مسائل التعليم، فالتركية لسان الدولة الرسمي تريد أن تعلمه
جميع العناصر العثمانية؛ ليجيء منهم في المستقبل مزيج واحد وتقوى وحدتهم
السياسية، وقد نشرت نظارة المعارف برنامجها، ولم نشهد فيه ذكرًا للعربية في
المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، بل قالت: إن تعليم العلوم بالتركية للذكور
والإناث وللصغار والكبار وللعرب والترك والروم والأرمن والبلغار والأرناؤد،
حتى إن المبادئ البسيطة سمحت بتعليمها من العربية تدرس في كتب ألفها أتراك
باللغة التركية، فأدرك بعض الباحثين في أحوال البلاد والعناصر أن غرض
الحكومة من هذه الخطة (تتريك) العرب وغيرهم، وهو عمل إذا كان نافعًا من
حيث السياسة فلا نفع فيه من حيث الاجتماع والعلم خصوصًا بعد أن رأينا أصغر
الشعوب الأوربية تحافظ على لغتها الأصلية محافظتها على أعراضها وأموالها
وأرواحها.
لا بد للحكومة أن تجعل التعليم إجباريًّا في المملكة، فإذا جعلته باللغة التركية
ولم تراع حالة كل قطر ولغة أهله تسوء العاقبة، ولا تأتي الشجرة التي تريد غرسها
الآن بثمرة جَنِية، بل يكون شأن البلاد العقم في العلم والفكر، ومن لم يتعلم العلوم
بلغته هيهات أن يأتي منه عضو يفيد أمته وبلاده، وإذا فعلت الدولة ذلك الآن فتكون
في عهدها الدستوري أظلم منها في عهدها الاستبدادي، وتكون حكومة مصر أرفق
بأهل مصر من حكومتنا بنا؛ لأنها منا، فينتظر عن يدها الكثير، وتلك ليست منهم
وكل شيء تأتي به يعد كبيرًا.
وبَعْدُ؛ فإنْ كانت الحكومة العثمانية لم تنشط للغة العربية في الماضي مع أنها
لغة الدين والآداب والحضارة، فهي لم تضع العقاب في سبيلها مباشرة. ولكن
الغلطة الفظيعة التي ارتكبتها ولا يغفرها لها التاريخ هو أن القائمين بأعبائها منذ
البَدء جعلوا اللغة التركية لغة الدولة الرسمية خلافًا لما جرت عليه دول الإسلام
السالفة: كدولة المصامدة البربر في الغرب الأقصى والأدنى، ودولة الجراكسة في
مصر والشام، ودولة آل أيوب سلجوق التركية في العراق والجزيرة، ودولة بني
بويه الفارسية، ودولة آل أيوب الكردية في مصر والشام والحجاز واليمن وغيرها
من الدول التي طرحت لغاتها وعمدت إلى اتخاذ اللغة العربية لغة الحكومة والدولة،
فكان الجراكسة والبربر والفرس والأكراد والأتراك يتخلون عن لغاتهم
مختارين، ولا يستعملون في الرسميات غير العربية لغة البيان والعلوم. أما الترك
فجروا على غير سنة الدول السالفة، فلم يروا من المصلحة تعلم لغة عامة المسلمين
في مشارق الأرض ومغربها، واكتفوا بلغة ملفقة بدوية ما برحوا يتوفرون منذ
قرون على إصلاحها، وهيهات أن تكون كما يحبون.
ولما جاء السلطان سليم فاتح مصر والشام، وكان على شيء من المعرفة
يحسن العربية كما يحسن الفارسية والتركية، أحب أن يتلافى الغلط الذي سارت
عليه دولته، وأن يجعل اللغة العربية لغتها الرسمية أسوة بالدول الإسلامية البائدة،
فقام عليه بعض ضعاف العقول من أهل دولته، وأرادوه على العدول عن رأيه مخافة
أن تندثر لغتهم، بل تخلصًا من أن يتعلموا لغة غيرها، فكان عملهم هذا من جملة
السدود التي حالت دون آل عثمان وبسط أيديهم على الممالك الإسلامية المجاورة لهم
واللغة العربية أعظم رابطة بين المسلمين.
ولقد كانت الدولة ولا تزال تُعلَّم في مدارسها الرسمية العربية كما تعلم الفارسية؛
وذلك لأن التركية مزيج من هاتين اللغتين، وبدون معرفة قليل من اللغتين، لا
يتأتى لتركي أن يكتب كتابة صحيحة في لغته، فكان شأنها من بعض الوجوه شأن
المدارس في أوربا، لا تزال إلى اليوم تعلم اللاتينية واليونانية؛ لأنهما أصل لغات
أوربا، وإن كانتا بادتا أو كادتا، ولكن مدارس أوربا أخرجت كتابًا بهذين اللغتين،
ولم نعهد من مدارس الحكومة العثمانية كاتبًا بالعربية أو الفارسية، هذا والتركية
ليست لغة دين، ولا لغة علم، ولا لغة حضارة قديمة، ولا مدنية معروفة
كالعربية التي شهد أهل الأرض بأمجاد أهلها وحضاراتهم. ومن الغريب أنه لم ينبغ
في الدولة العثمانية كاتب عربي من أصل تركي على حين نبغ وينبغ من الفرس
والأكراد وغيرهم أناس يؤلفون بالعربية، فتحسبهم عربًا خلصًا، وإنك لتقرأ
العجمة في كلام ابن كمال باشا وكاتب جلبي وطاشكو بريلي، وغيرهم من الأتراك
الذين عانوا القلم العربي وعدوا في المصنفين ما لا تقرأه في كلام الراغب الأصفهاني
وأبي بكر الخوارزمي وحجة الإسلام الغزالي، بل إن هؤلاء على منشأهم الفارسي
كانوا أئمة الإنشاء العربي.
إذا تعلم أبناؤنا اليوم على الطريقة التركية، لا يلبثون أن يجيئوا أتراكًا،
ويتقنون التركية كأرقى أبنائها، وبذلك لا يخدمون أبناء لغتهم أدنى خدمة، وقد
رأينا معظم الذين تعلموا من أبناء سورية والعراق في المدارس الرسمية، لا
يحسنون التكلم بالعربية العامية فضلاً عن أن يكتبوا سطرين صحيحين بلغتهم، بل
ربما رأيتهم يمزجون المصطلحات التركية وبعض الألفاظ التركية بينا هم يكلمونك
بالعربية، فكان شأنهم في هذا شأن أكثر التوانسة والجزائريين من سكان المدن،
يتكلمون بعربية تكاد تكون أقرب إلى الإفرنجية؛ لما خالطها من الألفاظ الفرنسية
والأسبانية والطليانية.
وقد رأى العقلاء أن أحسن حل لمسألة اللغة العربية في المدارس الرسمية
وأسلمه عاقبة على أجيال الدولة المختلفة هو أن يجعل تدريس العلوم المادية كلها
باللغة العربية: كالطبيعيات والرياضيات والفلك والكيمياء والطب، وأن تجعل
العلوم السياسية كلها باللغة التركية: كالجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحقوق
والاجتماع، وبذلك لا يقع حيف على العرب وهم نصف الدولة أو يزيدون، ولغتهم
أفضل لغات سائر العناصر العثمانية، والمستقبل كفيل بحل هذه المعضلة العلمية.
_________
(1)
نستعمل لفظ الجنس والأجناس هنا بمعناه اللغوي والعرفي لا المنطقي، فالمنطقي يسمى جنس الترك أو الروم مثلاً صنفًا من نوع الإنسان الذي هو من جنس الحيوان، على أن الأجناس مراتب عند المناطقة منها: العالي والمتوسط والسافل، فتدخل فيها الأنواع والأصناف.
(2)
سنبين هذا المعنى في مقدمة التفسير إن شاء الله.
(3)
إن لسان الترك لم يكن لسان علوم وحضارة، وإنما كان يمكن تنفيذ ذلك وقتئذ بالعربية، كما حاول السلطان سليم.
(4)
المنار: لعله سقط من هنا كلمة (فيها) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقرير [1]
عن امتحان مدرسة المعلمين الناصرية
في العام الدراسي 1908 الداخل في سنة 1909
صاحب السعادة سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية حضرتاري.
قبل كل شيء أقدم إلى سعادتكم أكمل الشكر والامتنان على أن جعلتموني
موضع الثقة، فاخترتموني لرئاسة امتحان هذه المدرسة التي هي في نظري من
أهم المدارس وأفيدها لهذا القطر، ولهذا قد دققت البحث واختبرت كل شيء في
الامتحان بنفسي، وإني عارض ما علمته بالتفصيل.
(أ) رأيت أن وقت الامتحان الذي حدد لهذه المدرسة غير ملائم لحالتها؛
لأنه قد زاحمه قبله امتحان الشهادة الثانوية، وشاركه في زمنه امتحان مدرسة
الحقوق الخديوية، ونشأ عن ذلك تعطيل في العمل؛ لأن من انتقتهم النظارة
للامتحان فيها كان أكثرهم مشتغلاً بامتحان الشهادة وتلاوة أوراقه، واضطررنا
لتأجيل الامتحان في التربية العملية عن وقته المعين في الجدول، وهو أول مايو
سنة 1909 إلى ما بعد 16 منه، وأجهد الممتحنون أنفسهم في أول النهار وبعد
الظهر، حتى أتموا عملهم بمشقة عظيمة في أوقات هذا الحر الشديد.
فلهذا ولقلة العمال الذين يوثق بعملهم، أرى أن يجعل موعد امتحان هذه
المدرسة في الأعوام المقبلة من أول مايو كما وقع ذلك في بعض السنين.
(ب) لاحظت أن كون الامتحان بنمر سرية، قد أوجب زيادة العمل على
العمال، واستدعى إيجاد عمال في حين الاحتياج إلى عملهم في موضع آخر؛
لتزاحم الامتحانات في وقت واحد، ولو كانت الفائدة من جعله سريًّا توازي هذه
الأتعاب وتلك المضايقة في إيجاد العمال لهان الخطب. ولكني وزنت النفع والضر
في ذلك فوجدت الثاني أكثر بكثير، وغاية ما يقال في النفع: إن كون الامتحان
بالنمر السرية يجعل النظارة في اطمئنان من عدم وجود الغرض فيه؛ إذ يقرأ
الممتحن ورقة لا يعرف كاتبها، فيقدر لها درجتها بالضبط، وهذا النفع وإن كان
يكون حقيقيًّا في بعض الأوقات ليس بمطرد؛ لأنه ليس كل ممتحن يعمل فيه
الغرض، وفضلاً عن ذلك فقد يوجد شيء من التساهل مع الامتحان بالنمر السرية
يقوم مقام الغرض أو يفوقه؛ لأن الممتحن كلما قرأ ورقة ووجدها غير صالحة،
سأل عن النمرة التي يمكن أن يمر بها الطالب، ولا يكون ساقطًا فيعطيها للورقة
وهو جازم بأنه لا يستحقها؛ لأجل أن ينجو الطالب من السقوط، وذلك استعمالاً
للشفقة، وإذا أسأنا الظن قلنا: إن الممتحن تحت نظره أشخاص، يجب أن يمروا،
فيخاف أن يكون صاحب الورقة الساقطة منهم، فيمر الكل حتى يمر صاحبه بسلام
وهذا أكبر في الضرر من استعمال الغرض لشخص مخصوص بالرجاء المعتاد في
هذه البلاد، وبين أوراق الامتحان في كل علم أوراق منحطة جدًّا، وضع لها
الممتحنون الدرجات التي تقتضي مرور كاتبها فقط: كنمرة (عشرين) فيما نمرته
الحقيقة (40) ، و (25) فيما نمرته (50) ، و (15) فيما نمرته (30) ،
وهكذا ولسعادتكم أن تأخذوا نموذجًا من تلك الأوراق المكتوبة عليها مثل هذه النمر،
فتجدوها على ما وصفناه، وأيضًا فإن الامتحان بالنمر السرية في هذه المدرسة؛
وهي من المدارس المخصوصة العالية تفرقة بينها وبين أختها مدرسة الحقوق
الخديوية، ولا فرق بينهما في الواقع، ونفس الأمر فلم يكون الامتحان في الحقوق
جهريًّا وفي المعلمين سريًّا، على أننا لم نسمع بأن طالبًا في الحقوق مع الامتحان
الجهري نجح للغرض، ولا بأن طالبًا تأخر بقصد الإضرار به.
ولهذا فإني أرى أن يكون الامتحان في هذه المدرسة أيضًا جهريًّا، فيقل التعب
وتزول تلك الأضرار ويسهل وجود العمال، ويعرفون أنهم موضع الثقة فيعملون
على ما يزيدها، وأنهم ليسوا موضعًا للريبة، فيعتادوا النزاهة والتخلي عن
الغموض، وهذا من حسن التربية وإعلاء النفوس بمكان عظيم.
(ج) لاحظت أثناء تأدية الامتحان الشفهي في علوم: النحو والصرف
والطبيعيات وتقويم البلدان ما لا يكاد يصدق، وذلك أن الشخص الواحد يكون
شخصين متبايني الصفات والإدراك في وقتين مختلفين أمام ممتحنين في علمين،
وهذا وإن كان وجد في قليل من الأشخاص. ولكنه مما يستدعي النظر والالتفات
والبحث عن الأسباب، رأيت بنفسي أحد الطلبة يؤدي الامتحان الشفهي أمام الشيخ
حمزة فتح الله؛ فإذا سأله عن تطبيق قاعدة، أو إعراب جملة، أو تعيين محل اسم
من الإعراب، أو عن أصل الكلمة وما صارت إليه بعد القلب أو الإبدال، بحث
عن الجواب في جوانب السماوات وشاسع الآفاق، فإذا نبه إلى أن الجواب قريب
منه اعتراه ذهول، حتى صار لا يدرك البديهي من القول، ورأيته بعينه وهو أمام
علي بك بهجت يؤدي الامتحان في تقويم البلدان، فوجدته رجلاً ثابت الجنان منطلق
اللسان يعبر عما يريد بقوة، ولا يعتريه انزعاج. رأيت هذا في أكثر من واحد ومن
اثنين، وإني أحقق بعد أن أطلت الأخذ والرد والبحث؛ أن هذا الداء كان متأصلاً
في بعض أولئك الأشخاص من أصل التعليم؛ لأن قاعدته في الأزهر كثرة
الاحتمالات في العبارة الواحدة، واستعمال المعلم للتشكيك والإكثار من الاعتراضات
اللفظية، وقد تعودوا أن لا يعرضوا فكرهم على أحد سواهم، فإذا سئل هذا المتعلم
على هذه الطريقة حار في أمره ، فلا يدري أي الاحتمالات يذكر، وأيها يكون
موافقًا لذوق السائل فيترك كما قدمناه. وأما العلوم الأخرى: فإنها خلو من هذه العلة
الثقيلة؛ علة الاحتمالات والتشكيك، فإذا سئل فيها قال ما يعلمه منها جازمًا بما
يقول والجزم في العلم هو قاعدة كل خير، وهو الأساس المتين في نجاح التعليم.
ولا يقال: إن هذا الفرق بين هذا الطالب وهو أمام الشيخ حمزة وبينه وهو
أمام بهجت بك جاء من عوارض أخرى مثل: وجود من يهابه زائدًا على من
يمتحنه، فإنني كنت موجودًا مع هذا الطالب أمام الاثنين، وإذا قيل: إن الفرق جاء
من كيفية توجيه الأسئلة، فإنني كنت أبسط السؤال له وهو عند الشيخ حمزة بطريقة
هي غاية في السهولة والوضوح، وقد لاحظ حضرة الشيخ حمزة فتح الله هذا
المعنى من بعض الطلبة، فأشار إليه في تقريره المقدم إليّ منه حيث قال: (ولذلك
لا أجد بدًّا من سرد نموذج مما طغى به من كثير منهم بنانه وبيانه، ويراعه
ولسانه، مما لا تعقل نسبته لأمثالهم إلا لفرط ذهول استحكم. فأما في الشفوي فكما
سمعتم من البعض حتى عذرتموه بحصر الهيبة في معترك الامتحان؛ ولذا أقتصر
على ما خطه بنانهم في الأوراق التي صححتها) .
ظهر مما تقدم أن العيب في هذا الموضوع إنما هو في كيفية التعليم وفي
بعض الكتب، لا في شخص المتعلم، والنظارة مسؤولة عن إصلاح هذا العيب.
والطريقة التي أراها نافعة في هذا الباب هي انتقاء الطلاب حين الدخول انتقاء
كاملاً في: نباهتهم ومعلوماتهم وسيرتهم، وليس من الضروري أن نتوسع في العدد
فبدلاً عن أن نأخذ ستين منهم أربعون ناقصون، نأخذ عشرين كاملين إذا تخرجوا
تخرجوا رجالاً ذوي قدرة على العمل، وقدوة للمتعلمين في كمال الأخلاق. أما إذا
تخرج من الستين خمسون وكان منهم ثلاثون ناقصين، فقد أدخلنا في عداد المعلمين
أشخاصًا غير صالحين، وكانت النتيجة مساواة الصالح بالطالح، والخلط بين
الضار والنافع، وعندي أن يقال: إننا لا نخرج كل سنة إلا عشرين كاملين خير
من أن يقال: إننا نخرج كل سنة طائفة كبيرة لا يمكنها في مجموعها القيام بوظيفتها
حق القيام، على أنه قد مضى وقت الاحتياج إلى الإكثار من المعلمين بقطع النظر
عن الكامل والناقص، وجاء الوقت الذي يجب فيه التقليل من المعلمين حتى
نصادف الخيرين منهم.
ويمكن أن تجمع النظارة لجنة؛ لتقرر مقدار الحاجة إلى المعلمين في كل سنة
وتقرر بناء على ذلك انتقاء الطلبة وشروط الدخول، وأرى أن يكون في أول ما
تنظر إليه اللجنة؛ أن الطالب لا يكون قد أمضى زمنًا طويلاً في الأزهر بين تلك
الاحتمالات والشكوك [2]، ولا بُدَّ حينئذ أي: إذا تقررت هذه القاعدة أن تطيل
النظارة زمن وجودهم في المدرسة، حتى يتغير وضعهم بالمرة، ويسبكوا سبكًا
جديدًا، فيكون المتخرج منهم مفكرًا مستنتجًا، تَرَبَّتْ فيه ملكةُ القيام بالنفس، فيمكنه
العمل بما تعلم، وأن يفيد المتعلمين، ويبثَّ فيهم روحَ العلم الحقيقي وروح التربية
الحقة، فإن الذي ينقص المعلمين اليوم هو التفكر والاستنتاج، فإذا أخذنا الطلبة من
الآن فصاعدًا ممن لم يمضوا مدة طويلة في الأزهر، وعوضنا عليهم تلك المدة في
المدرسة، وصلنا إلى نتيجة حسنة قطعًا، وتخرج من هذه المدرسة العدد المجيد
لعمله وإن كان قليلاً، فهو خير من عدد كبير جله ممن لا يجيد العمل ولا يحسن
التعليم.
على ذكر هذا الذي تقدم أقول: إنني امتحنت طلاب السنة الرابعة من مدرسة
الحقوق كما امتحنت مدرسة المعلمين، فإذا مدرسة الحقوق في موضوعها متقدمة
وفي طلابها جرأة على القول أمام أي ممتحن، وبالطبع لم تكن لهم هذه الجرأة إلا
من أصل التعليم، فلو أصلح التعليم في مدرسة المعلمين لوجد من خرجيها من يفوق
متخرجي الحقوق؛ لأن في مدرسة المعلمين تتوفر العلوم العربية والمنطقية، وكلها
مما يوجب القوة في الحجة، والطلاقة في اللسان، والتوسع في البيان.
(د) لاحظت أن بعض العلوم كآداب اللغة والتاريخ تتفق فيها كتابات الطلبة
عند الامتحان اتفاقًا يكاد يكون تامًا من كثير من الوجوه، فعلمت من ذلك أنهم لا
يعتمدون على قوة الكتابة والإنشاء، ولو كانوا كذلك لاختلفت العبارات، فإن
المنشئ يمكنه أن يعبر عما علم في موضوع واحد بعبارات مختلفة الأسلوب، وإن
كانت متفقة الموضوع، وهذا العيب يكاد يكون عامًّا في المدارس التي امتحنتها،
وإن اختلفت التلامذة في ذلك بعض الاختلاف، ولاحظت أيضًا في أمر التطبيق ما
يصح أن ألفت النظارة إليه، ويقول حضرات الممتحنين كلهم في الاعتذار عن
بعض النقص الذي يوجد فيه. إن علته إنما هي تضييق الزمن، وهذه تقاريرهم
مجمعة على كثرة العلوم وقلة الزمان، وبعضها يشير إلى قلة الزمن المحدد للعلم
بالنظر لموضوعه وفائدته كعلوم العربية وعلوم الشريعة التي هي المقصود الأصلي
من تأسيس هذه المدرسة، وكأنهم يرمون إلى النظر في أمر البروجرام ولزوم تعديله
على مقتضى وضع المدرسة وما يناسبها من العلوم.
إني بما قدمته في فقرة (ج) من الكلام في أمر الانتقاء للدخول وشروطه،
والأخذ ممن قلَّ زمنهم في الأزهر وتعويضهم زمنًا في المدرسة أستغني عن
الذهاب مع حضرات الأساتذة الممتحنين إلى النظر في أمر البروجرام، فإنه بعد أن
يتقرر الأمر على ما تقدم، يستغنى موقتًا عن التعديل فيه، ومع ذلك فلو رأت
النظارة أن تنيط اللجنة التي تؤلف للغرض المتقدم بالنظر أيضًا في تحديد العلوم
على الوجه المناسب لموضوع المدرسة، ومدة الدراسة، وعدد الدروس في كل علم
وما يبقى من العلوم وما يحذف، لكان ذلك خيرًا ومفيدًا للعلم والتعليم.
يدخل في باب التطبيق وجودته صناعة الإنشاء، وحيث إني كنت ممتحنًا فيه
هذا العام أيضًا، فإني أقدم هذه الملاحظة بمثابة تقرير مني على إفراده في امتحان
الإنشاء.
رأيت السنة كلها وعدد طلابها (56) نفسًا، لم يجز ولا واحدًا منهم الدرجة
العليا، ولم ينل القريب منها إلا عدد قليل. أما الباقون فمنهم كثير أخذ نصف
الدرجات المقررة، وهذا فيه ما فيه على ما قلناه، ومنهم من زاد عليه زيادات
تتردد بين (26) و (39) . وقد قال لي الشيخ أحمد السكندري مدرس هذا الفن
(وهو الذي كان يقرأ لي ما كتبوه) : إن هذه الفرقة كلها كانت عندي في طول السنة
متوسطة لا عالية، وقوله هذا هو قول العارف الممارس، ولا يؤخذ عليه أنه هو
المدرس لهذا الفن، ربما قاله حتى لا يلحقه نقصهم؛ لأن الرجل معروف بالعمل
وبالصدق في الأقوال، وإني موافق على قوله هذا. وأقرر أن هذه السنة في
الإنشاء أقل من سابقاتها، ولا يمكنني أن أنسب ضعفهم إلى صعوبة موضوع
الإنشاء، فإنني سألتهم سؤالاً يكون كل منهم معه حرًّا في اختيار الموضوع الذي
يجيد الكتابة فيه، وكان عندهم من الوقت ساعتان. ومضمون السؤال أن كل طالب
يختار فضيلة من الفضائل ويحث على العمل بها قومًا مخصوصين، فكان مقتضى
هذه الحرية أن تجيء كتابة كل منهم في غاية الإجادة، ولا يكون هذا إلا
إذا كانوا يحسنون صناعة الإنشاء.
(هـ) يستخلص مما تقدم أن هذه المدرسة يجب أن يكون لها مقام
مخصوص بين المدارس العالية؛ لأن الغرض منها كما هو ظاهر من نص المادة
الأولى من قانونها هو؛ تخرج معلمين مصريين للغة العربية، وكل ما يدرس بها
في المدارس التابعة لنظارة المعارف العمومية، وهذا الغرض هو أعظم غرض
تتوجه إليه فكرة من يريد إصلاح التعليم، ولا فائدة أكبر من إيجاد هؤلاء المعلمين
إيجادًا حقيقيًا، وهو لا يكون إلا بإصلاح النظام الذي يتخرج بمقتضاه أولئك
المعلمون، فإننا في غاية الاحتياج إلى كونهم من النوابغ لا أن يكونوا كثيرين،
فيجب انتقاء الطلاب وانتقاء الأساتذة لهم وإيجاد المناسبة بين علومها وزمانها،
وهذه المدرسة لا تقل في الأهمية عن أختها شقيقتها مدرسة القضاء الشرعي،
وزمان الدراسة في هذه الأخيرة هو تسع سنوات، فليس من ضرر أن تجعل مدة
الدراسة في مدرسة المعلمين ست سنوات، وبهذا ننصف إحدى الشقيقتين نوعًا، إن
لم نتمكن من إنصافها بالتمام.
(و) هذه الملاحظات لا تنافي أننا نذكر لهذه المدرسة حسناتها السابقة من
يوم نشأتها إلى الآن، وأنها أفادت البلاد والتعليم واللغة العربية بما لا يُحصى من
الفوائد، فإنني شغوف بتقدم هذه المدرسة أكثر مما هي عليه وحصولها على درجة
تجعلها في أعين القائمين بأمر التعليم في المقام الأول من الاعتبار، ولا تمنعنا هذه
الملاحظات أيضًا من أن نذكر المدرسة في هذه السنة بالنتيجة الحسنة التي حصلت
عليها في هذا الامتحان الأخير وهي؛ أنه لم يسقط من السنة الرابعة سوى تسعة من
(56)
، فيكون النجاح باعتبار (84) في المائة تقريبًا، وإن سبب سقوطهم كان
علم الرياضة فقط في سبعة منهم، وعلم الرياضة مع نقص في بعض متوسطات
المجموعات في الاثنين، وإن الساقطين في السنة الثالثة خمسة فقط، والساقطين في
السنة الثانية ستة فقط، ولم يسقط في السنة الأولى ولا واحد، ولم يسقط في
التحضيرية سوى واحد، وقد ذكر حضرات الممتحنين في تقاريرهم شهادات طبية.
وذكروا معاذير فيما وجدوا من بعض التقصير، فنسبوا ما يوجد منه لضيق
الزمن في الغالب، وللامتحان في شيء قد تركوه زمنًا طويلاً. وهذه ملخصات
تقارير حضراتهم أذكرها بغاية الإيجاز مع إلفات النظر إلى ما جاء في كل منها
من التفصيل، ولي أمل شديد في أن سعادة ناظر المعارف الذي عود المصلحة
العمومية عنايته بها، يعير هذه الملاحظات جانبًا من التفاته، فتتجه المدرسة إلى
الكمال الأكمل المطلوب لها مني ومن أمثالي - وفقه الله لخير البلاد والعباد.
***
وهذه هي نموذجات التقارير
(تقرير حضرة الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله ممتحن النحو والصرف في
السنة الرابعة تحريريًّا وشفهيًا، وتحريريًّا في علم المعاني وفي جميع علوم البلاغة
للثانية، والعروض والقافية للسنتين الثالثة والأولى) قال: (إنهم أحسنوا فيما عدا
النحو والصرف كل الإحسان، ولا أنقم منهم إلا وضع الهمزات على ألفات الوصل
وقال: إنهم أجادوا في استحضار القواعد وجمع شتيتها والتعبير عنها بعبارات سلسة
والتمثيل بدون تقيد بما في الكتب واستحضار الشواهد، ثم سرد نموذجًا من هفواتهم
في علم النحو والصرف ورسم الحروف، واستنتج أن حالة الجميع حسنة، وقال:
إنه يعوزهم في علمي النحو والصرف زيادة العناية بالتمرين العملي، وأثنى عليهم
جميعًا فيما يتعلق بعلوم البلاغة والعروض.
(تقرير حضرة الشيخ النواميسي ممتحن السنة الرابعة في المنطق والسنة
الثالثة في الفقه والأصول) قال: النتيجة في هذا العام حسنة، وإن كان يوجد
تقصير من بعضهم في الإجابة خصوصًا في علم الأصول؛ فربما كان ذلك ناشئًا من
كثرة المواد التي تظهر أنها عبء، إلى آخر ما قاله ولفت النظر إليه.
(تقرير ذهني باشا ممتحن الرياضة والهيئة مع جناب المستر تويدي) قال:
امتحنت التلامذة في مسائل موافقة للبروجرام، وبيَّن الناجحين في كل واحد من
الحساب والجبر والهندسة على حدته والناجحين في الكل على العموم، ومدح الطلبة
على سلوكهم في الامتحان، والنتيجة هي ما قلنا سابقًا من أن الساقطين في الرياضة
تسعة.
(تقرير حضرة الشيخ الطوخي في التوحيد والتفسير والحديث) قال:
أتجاسر على الاستلفات إلى كثرة المقررات في العلوم بجداول التدريس، وصعوبة
بعض الكتب المقررة لتدريس بعض علوم المجموعة الشرعية، وعدم كفاية الزمن
المحدود لتدريسها. ويظهر من بين السطور في تقريره أن الطلبة كانوا يعجزون
عن النجاح لولا مجهوداتهم، فأوجه نظر سعادتهم إلى ما يريده الشيخ الطوخي.
(تقارير التربية العلمية والعملية) تشير إلى أن الحال محتاج إلى تحسين،
وطلب الشيخ شريف زيادة علم النفس في المدرسة، حتى يكمل نظام التربية العملي،
وأنا لا أوفقه عليه؛ لاعتبارات كثيرة أهمها قلة عدد الراسخين في هذا العلم الذين
يُنتفع منهم فيه.
(تقرير علي بك بهجت في التاريخ والجغرافيا) مدح التلامذة في أنهم
أقلعوا عن عادة الكتابة من المحفوظات، ومدحهم على ما حصَّلوه، ومدح أساتذتهم
على ما علَّموه، أشار إلى أن زميله يريد إلفات نظر المدرس للجغرافيا إلى العناية
بالرسم.
(تقرير جعفر بك في الخط) قال: إن الطلبة ينقصهم كثرة التمرين خارجًا
عن النموذجات التي تمرنوا فيها.
(تقرير ممتحن العلوم الطبيعية) قال: إن إجابات الطلبة كانت جيدة في
العلوم الطبيعية وأحسن منها في الكيمياء، فإنهم لم يعرفوا ما هي الكهربائية
الديناميكية، واقترح تنقيح البرنامج الحالي وجَعْله أرقى مما هو عليه الآن.
(تقرير ممتحن فن الرسم) قال: إن (12 ونصف) تحصلوا على (70)
في المائة من الدرجة النهائية، وقال: إن عدد الفرقة كان كثيرًا بالنسبة لموضوع
الرسم على تختة التباشير، وطلب تخصيص ساعتين في الأسبوع للرسم؛ لأن
زمنه الحالي قليل.
(تقرير معلم الجمباز) قال: إن النتيجة مرضية، وأثنى على نشاط الطلبة
وعَمَلِهم بما يُلْقى عليهم من التعاليم.
_________
(1)
ننشر هذا التقرير لما فيه من الفوائد الدقيقة المتعلقة بفن التعليم وحاله فى مدرسة من أرقى المدارس المصرية وأهمها عندنا بيان سوء أثر تعليم الأزهر في نفوس طلابه؛ من حيث إدراك المسائل ومن حيث بيانها، وهو ما شرحه صاحب التقرير الشيخ عبد الكريم سلمان الشهير، العضو في المحكمة الشرعية العليا، في مسألة (ج) فعسى أن يكون فيه عبرةً لمديري نظام الأزهر، كما نحب له ونرضى.
(2)
المنار: لما عرَّفت الشيخ عبد العزيز جاويش للأستاذ الإمام سألني عن درجة تحصيله في أوربا ودار العلوم قلت: إني لم أقف على ذلك لقرب العهد بحضوره من أوروبا، ولم أعاشره قبلها كثيرًا، فقال: سله عن مدة إقامته في الأزهر، فإن كان أقام زمنًا طويلاً فيه، فما أرى أنه حصَّل شيئًا تُرجى فائدته؛ لأن طول الإقامة في الأزهر تضعف الاستعداد للعلم، حتى قد تذهب به، وإن كانت إقامته فيه قصيرة فهو عندي محل رجاء.
الكاتب: صالح بن علي اليافعي
رد الشبهات على النسخ
وكون السنة من الدين
لليافعي
(6)
بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين
قال في الأحاديث ما خلاصته: إنه لا يبعد أن يكون بعضها موضوعًا، وإن
ما غلب على الظن أن يكون له أصل صحيح، كان شريعة خاصة بأحوال خاصة
وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام
…
إلى قوله: وما جاء في القرآن هو الشرع
العام لكل زمان ومكان؛ ولذلك لم يأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه، ثم قال:
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن تدوينها؛ كي لا تكون
خالدة بينهم كالقرآن الشريف
…
إلى قوله: لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه
الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز.
وأقول: إن ما كان موضوعًا، فقد بينه النقاد بُدور العلم ونجوم الهدى
رحمهم الله ومن سلك الطرق المؤدية عرفه، والصحيح قد بينوه على اختلاف
مراتبه وهو كثير، وشريعة الله ودينه هو ما في الكتاب والسنة والنبوية، والعجب أن
الدكتور الفاضل قد ذكر في رسالته هذه أن في الكتاب كثيرًا من الأحكام الخاصة
ثم هو ينكرها هاهنا، ونحن نعلم أن فيه: المخصوص والمقيد، والمجمل والمبين.
والأحاديث وإن كان قد يوجد فيها بعض ذلك إلا أن ما فيها من ذلك هو أقل مما في
القرآن، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن تدوينها قد قدمنا الكلام عليه، والمسلمون
قد أحسنوا التوفيق بين الأحاديث وآيات الكتاب، وما اعترض به حضرته قد عرفت
الجواب عنه.
أما قوله: وإني لأعجب من أهل الحديث، وقوله: فكأنه يجب على كل مسلم
بمجرد ما يسمع أقوالاً منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفني حياته
في معرفة أحوال رجالها، والوقوف على أمورهم
…
إلى قوله: فأي حرج في
الدين أكبر من هذا، وخصوصًا كلما طال العهد إلى آخره.
وأقول: الأمر أيسر وأسهل مما ظن الفاضل، فالمتأهل للنظر قد سهل الله له
الأمر بما قد صنفه العلماء من الأصول وما جمعوه من الصحاح التي قد هذبت،
ونقيت، وقربت، واختصرت، على أن الجد والاجتهاد في تحصيلها هو من أفضل
الطاعات وأولى ما أنفقت له نفائس الأوقات: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96) فسد الزمان، وتركت الأديان، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا
بالله، فلتكن منكم أمة يدعون إلى الخير. أما العوام فلا حرج عليهم ولا تضييق،
وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) أي:
اسألوهم عن دين الله لا عن آرائهم المخالفة له، فمن أجاب بغير ما شرعه الله أو
بما يخالف ما شرعه فليس هو من أهل الذكر الذين أحال الله عباده إلى سؤالهم، بل
هو من أهل الرأي المذموم، ولا ندري ما مراد الفاضل بهذا والله المستعان.
قال حضرة الفاضل - حفظه الله - في الكلمة السابعة من رسالته: السنة في
اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، إلى أن قال: وهناك فرق
عظيم بين لفظ السنة ولفظ الأحاديث، ويجب على كل باحث أن يدرس هذا الفرق
جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط، وقال: أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة
فهي من اصطلاح المتأخرين، إلى أن قال: والسنة لا تكون إلا عملية.
وأقول: إن الله قد أمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن
الاتباع يدل على امتثال أمره فيما قال صلى الله عليه وسلم، ونحن لا ننكر أن
الاتباع لغة يكون في الفعل أكثر منه القول. أما كون ذلك هو العرف الشرعي فلا
نسلمه، وإذا كانت السنة هي الخلطة والطريقة كما قال حضرته فلا شك أن الخطة
يكون أصلها القول، والطريق والطريقة والسبيل معناها واحد، وقد قال تعالى:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)
والدعاء قول وقد سماه سبيلاً، والفاروق الخليفة الثاني رضي الله عنه قال:
أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن
يردوها فاستبقوا الرأي، وفي رواية واستحوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم
فعارضوا برأيهم فإياكم وإياهم، وفي رواية أخرى إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم
أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. قلت:
وهذه الآثار سواء كانت موقوفة حقيقة، أو قد سمعها من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فإنه رضي الله عنه قد سمى الأحاديث سننا، وبذلك يظهر أن تسمية
الأحاديث سننًا ليس هو اصطلاح متأخر، وقد روي وصح عن غيره نحو ذلك،
وهو كثير، على أنَّا نقول أيضًا: إن الله كما أمر باتباعه في سننه صلى الله عليه
وسلم، كذلك قد أمر ورغب وأكد بطاعته، والطاعة إنما تكون في أمره القولي
حقيقة، وقد ذكرنا ذلك وما يقاربه ويضارعه بما لا مزيد عليه في رسالتنا السابقة.
قال: ولو كانت واجبة الاتباع لعلمها الناس جميعًا في عصره - صلى الله عليه
وسلم - وجروا عليها في أعمالهم، وقال: وهذا أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا
لجميع البشر إلى آخره، وأقول: لا يلزم ذلك لأن جميعهم لم يعلموا القرآن أيضًا،
ولم يجروا في فهمه على طريقة واحدة في كل مسألة مسألة وواقعة واقعة، وهذا
الخليفة عمر رضي الله عنه من كبارهم، قد خفي عليه أمر الصداق وهو موجود
في القرآن، فلما قرأت عليه المرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) قال: (رجل أخطأ وامرأة أصابت) فاشتراط استوائهم
في العلم والعمل، واتفاقهم على جميع الأحكام شرط لغو لم يقل به أحد من المسلمين
كلهم، ولم يكن لحضرة الدكتور- حفظه الله - فيه سلف، لا في العمل، ولا العلم
بالقرآن، ولا في السنة وإذا كان الأمر في القرآن كما عرفت، وقد امتاز بأنه
كلام الرب بلفظه، وهم مأمورون بتبليغ لفظه للإعجاز ومتعبدون بتلاوته في الصلاة
ونحوها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأه عليهم في الصلوات الجهرية
ونحوها وهم كذلك، كل ذلك وهم لم يتفقوا على جميع أحكامه، ولا على العمل
بجميعها كما عرفت، فكيف يصح أن يشترط ذلك في الحديث، وهو إنما هو في
المرتبة الثانية؟ أفليس من الجائز أن يقول صلى الله عليه وسلم قولاً
ويُحدّث بحديث أو يحكم بحكم فلا يسمعه ولا يحضره إلا بعضهم، فيخفى على
الآخرين؟ على أن بعض الأحاديث قد عمل بها واتفق عليها أهل الحل والعقد منهم
رضي الله عنهم، وقد حدثت أمور وقائع فرجعوا فيها إلى العمل بالحديث، وإذا
صح عندهم الحديث فلم يكونوا يتأخرون عن العمل به، وأيضًا أقول بلا مجازفة:
قَلَّ أن يوجد حديث يصلح للاحتجاج به إلا وقد عمل به منهم عدد، ومن لم يعمل
به فنحن نعلم ونقطع بأنه لم يبلغه، أو لم يصح عنده، وذلك بديهي مدة عملهم
فلا إيراد ولا شبهة، فيتأمل فيما قدمناه من الحجج والله أعلم.
فالأحاديث الصحيحة قد جرى عليها العمل بلا انقطاع إلى يومنا هذا. أما
الخلاف في الدلالات والترجيح وتقديم بعض الأدلة على بعض في موارد الخلاف
والتعارض فهو واقع في القرآن والحديث، يعرف ذلك من اختبره، وعليه فلا
يصلح ذلك دليلاً على أن الشرع موقت بزمان دون زمان، وحال دون حال.
ونحن قد قلنا في رسالتنا السابقة: إن جميع الأحاديث المتفق على صحتها أو
التي صححها أو احتج بها أهل الكتب المشهورة، قد تلقتها الأمة بالقبول فلا نعيد
الكلام خوف الإطالة.
قال الفاضل - حفظه الله - في الكلمة الثامنة من رسالته:
(1)
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ما معناه: إن الأحاديث الواردة
في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها، وأقول: أولاً: إن الدكتور الفاضل
إذا أخذ هذه المقالة عن الإمام أحمد رحمه الله، وضم إليها أن جميع السنن لا
تقبل ولا يجب العمل بها، فماذا يبقى بين أيدي المسلمين من بيان الدين ومجملات
القرآن، وعليه فلا يبقى إلا العمل بالرأي، وقد عرفت ما فيه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) قلت: والذين عرفوا الإمام أحمد وأقواله،
إنما حملوا قوله على أنه لم يصح عنده في ذلك شيء مرفوع؛ لأن عامة ما يروى
إنما هي المراسيل، وقد قال غيره من الأئمة: إن حكم أكثر الموقوفات في ذلك
الرفع، وعدم علمه لا ينفي أن يكون هناك شيء كثير مرفوع لم يبلغه، على أنه قد
نقل عنه في الإتقان؛ أنه قال أي الإمام أحمد: بمصر صحيفة في التفسير رواها
علي بن أبى طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا.
وما قاله الإمام أحمد رحمه الله لا يفيد الدكتور الفاضل شيئًا، وفرق بين ما
ذهب إليه الدكتور وما يدل عليه قول الإمام أحمد رحمه الله آمين، ولو أردنا أن
نورد عن الإمام ما قال في وجوب اتباع الأحاديث لاستدعى ذلك مجلدًا كبيرًا،
وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله، كلاهما على نقيض مذهب الفاضل الدكتور،
وقول الإمام الشافعي رحمه الله في النسخ إنما هو من نوع الكلام، فيما إذا
تعارضت الأدلة ?
أما ما نقل عن أهل الظاهر فليس كما قال، ولم نَرَ من نَقَلَ عنهم عدم وجوب
العمل بها، كيف ومذهبهم إنما اشتهر بالعمل بالقرآن والحديث فقط؛ ولذا يقال لهم
أهل الظاهر، إنما ينقل عن بعضهم أنه منع تخصص الكتاب بالكتاب وهو مبني
على اصطلاح متأخر اعتمدوه، والحق خلافه. نعم؛ نقل عن إمامهم داود - رحمه
الله - أن المتواتر من السنة يعارض الكتاب، ولا يخصص أحدهما الآخر؛ أي:
فهو يتوقف حتى يعلم التاريخ، وحينئذ يكون ذلك عنده من مسائل النسخ لا
التخصيص. وأما آحاد السنة الصحاح فلا نعرف لهم خلافًا منقولاً نقلاً موثقًا أنهم
منعوا تخصيصها للقرآن. وبذلك تعرف أن قولهم إنما هو مخالف ومناقض لمذهب
الأخ الفاضل الدكتور- حفظه الله.
قال: قال جمهور الأصوليين: إنها ظنية، وأقول: قد قدمنا الكلام على ذلك
وأن الحق غير ذلك، على أنهم مجمعون على وجوب اتباعها.
قال: وقال جمهور المسلمين: إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد. وأقول:
كونهم الجمهور غير مسلم. بل الجمهور من عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى يومنا هذا على خلاف ذلك، على أنه لا يجب أن نعتمد ونتدين بأقوال
الرجال، إلا إذا وافقت الصواب من السنة والكتاب.
قال: قال كثير من الأئمة كالقاضي عياض: إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل
الدنيوية المحضة، وأقول: قد سبقهم إلى ذلك سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
- فيما صح عنه. لكنه لا يدل ما زعمه حضرة الفاضل ولا يؤيد مذهبه.
قال: وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير جدًّا،
وفي بعض الأحوال مستحيل. قلت: أمّا أنَّ أحدًا منهم قال: إن تمييزه مستحيل
فغير مُسلَّم. وأما الكثير فلا بأس وهم قد ميزوا ذلك وظهر أمر الله.
وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة فإن صح ذلك كان بحسب اطلاعه، لا إنه في
نفس الأمر كذلك، وإمام الأحناف رحمه الله قد استفاض عنه وجوب تقديم
الحديث الضعيف على الرأي، فهو وأتباعه الصادقون على نقيض ما يذهب إليه
الفاضل الدكتور.
وما نقل عن الإمام مالك رحمه الله فليس مما نحن بصدده، وإنما هو من
باب ترجيح أحد الدليلين إذا تعارضا، وهو لا يدل على ما ذهب الفاضل الدكتور
حتى ولا من باب الإشارة، ومذهب الإمام مالك رحمه الله معروف في إيجاب
العمل بالأحاديث الصحاح.
قال: أجمع المسلمون على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها. قلت: إن
من أنكر ذلك؛ لأنه لم يصح لديه فالأمر كذلك، ونحن نقول بذلك. وأمَّا مَنْ رَدَّ ما
عَرَفَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلا مسوغ، فهو كافر برسالة محمد
صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إن تناقضها كثير إلى آخره، جوابه: إن ذلك إنما هو في نظر بعض
الناس ودعوى الكثرة، والاستحالة في التوفيق غير مسلم، وقوله: قام الدليل الحسي
إلى آخره، جوابه أننا لا نسلم ذلك. وقوله: لم يجمعها الصحابة
…
إلخ، قدمنا
الكلام عليه.
قال: لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر، أقول ذلك غير لازم وهو لا يضرنا،
والشيء لا يكون متواترًا إلا إذا تواتر بل قصد وتواطى، وإنما يكون متواترًا
بالاتفاق (كذا) .
قال: إنهم نهوا عن كتابتها وأحرقوا ما كتبوه منها، وأقول: قدمنا الكلام على
الكتابة. وأما الإحراق فهو لم يكن لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى
المدعي البيان بما يعين ويدل على مراده.
قال: قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه، أقول: إن صح ذلك فإنما هو
عن بعضهم؛ وسببه كما قال خوف الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيقع المكثر في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن من يقال إنه
كره ذلك عمر رضي الله عنه، فقد روي عنه الجم الغفير أحاديث كثيرة، وقد
قدمنا بعض قوله في الأحاديث، وإن غيره فعليه بيانه على أن كراهة الإكثار من
التحديث لون وما ذهب إليه الدكتور الفاضل لون آخر، فلا حجة له في ذلك، فتأمل.
قال: كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا
…
إلخ، وأقول ذلك غير مسلم على أن
التحديث القليل الذي يسلمه هو حجة عليه ينقض مذهبه، ونحن نقول: إن عدم
الإكثار له أسباب كثيرة ليس هذا موضع بسطها.
قال: من كان من الصحابة رضي الله عنهم كثير الحديث ملوه وزجروه
كما فعل عمر رضي الله عنه بأبي هريرة رضي الله عنه، وأقول أبو
هريرة من الثفات ومن الصحابة الكرام، وكلام عمر له أسباب غير ما يريده
الدكتور الفاضل، وقد عرفت بعض كلام عمر رضي الله عنه وهو من أكثر
الصحابة أمرًا باتباع الحديث والسنة، وقد حدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأحاديث كثيرة.
قال: إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها. قلت: بل قل: اتفقوا
على كثير من ذلك، وهذا إن صح أن يقال فإنما كان قبل أن تدون، أما بعد أن
صنفت ودونت، فقد اتفق الحفاظ والأئمة المتأخرون على قبول تصحيح ما وُسِمَ
بالصحة في الكتب المشهورة، وما بقي فيه بعض اختلاف فهو طفيف يمكن
المنصف تمييزه.
قال: لم يعتن المسلمون بحفظها كما حفظوا القرآن. أقول: لا يلزم ذلك ولا
يضرنا، ونحن لم نقل: إنه يلزم لها في الحفظ اللفظي ما يلزم ويجب للقرآن، على
أنه قد اعتنى بحفظها كثير من الأئمة والقادة وأهل القرائح الوقادة الذائدون عن الدين،
كما أخبر بهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. فجزاهم الله عن هذه الأمة خير
الجزاء، ورحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم آمين، وصلى الله وسلم على رسوله
الأمين إلى يوم الدين.
هذا جواب ما كتبه الدكتور الفاضل بغاية الاختصار، وأنا أرجو حضرة شيخ
الإسلام أن يطبع ذلك في المنار الأغر ولو دفعات متفرقة، فإنه قد رغب فيه كثير من
قراء المنار ومن ينظره بعين الاعتبار، وألتمس من حضرته أن يصلح ما فيه من
الخطأ والزلل؛ لأني كتبته بعجلة بعد أن كنت أردت الإعراض عن الجواب. ولكن
إرضاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم للإخوان الكرام الذين رغبوا في ذلك.
كتبت ذلك ارتجالاً وألتمس من حضرة شيخ الإسلام أن يذكر ملخص رأيه، وكذلك
ألتمس من علماء الإسلام حفظهم الله وأيد بهم الدين أن يتكلموا ولو بالتصويب
والتخطئة، فإن الزمان -كما ترون- أهله أول ما يبادرون إلى حب الخلاف ولو
لأضعف الشبهات. فنسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله وآله إلى يوم الدين.
…
...
…
...
…
... قال ذلك بفمه وكتبه بقلمه
…
...
…
...
…
الحقير: صالح بن علي بن ناصر اليافعي
(المنار)
إننا نشكر لصديقنا الأستاذ اليافعي غَيْرَتَهُ على السنة السنية وعنايته بالدفاع
عنها في هذا الزمن، الذي عاد الإسلام فيه غريبًا كما بدأ، ونسأل الله تعالى أن
يجعلنا وإياه من الغرباء الذين يظهرون السنن، كما ورد في بعض روايات الحديث
ثم نشكر له حسن ظنه بنا؛ ومنه أمره إيانا بإصلاح ما عساه يوجد في كلامه من
خطأ وزلل، وإطراؤه إيانا بالألقاب والنعوت التي لا نستحقها.
أما رأينا في المسائل التي جرت المناظرة فيها بينه وبين صديقنا الدكتور
محمد توفيق أفندي صدقي؛ فلا نرى أن نبحث في جزئياتها بالتفصيل؛ لما في ذلك
من التطويل الذي يمله القراء، ويعسر على أكثرهم ضبطه وربطه بأصله، ومن
كان مستقل الفهم غير مقلد في العلم قلما يوافق رأيه رأي واحد من المختلفين أو
المتناظرين في مثل هذه المسائل، بل يرى أن كل واحد أخطأ في بعض
المسائل وأصاب في بعضها، وهذا هو رأينا في جزئيات كلام صديقَيْنا المتناظرَيْن ،
وأما المسائل الثلاث الكلية التي هي أقطاب هذه المناظرة وهي: مسألة النسخ،
ومسألة العمل بالأحاديث، وإفادة أخبار الآحاد العلم أو الظن، فسنقول فيها قولاً
مختصرًا مفيدًا إن شاء الله تعالى، ونرجو أن يكون ذلك في الجزء السابع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________