الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية
المدرسة الكلية الأمريكانية
المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت كسائر مدارس الجمعيات النصرانية في
الشرق، غرض مؤسسيها منها جعل العلم وسيلةً إلى الدين، ولبعضها غرض سياسي
أيضًا، فهي طريق من طرق الدعوة إلى مذاهب مؤسسيها في دينهم ، ولهم وسائل
أخرى: كالمستشفيات والمكتبات وحجرات القراءة يبثون فيها دعوتهم، وينشرون
بها مذهبهم، إلا أن المدارس الأمريكانية أحسن من غيرها تعليمًا، وأعلى تأديبًا،
وأشد استقلالاً، وأقل تعصبًا على المخالفين في الدين والسياسة؛ إذ ليس لأمريكا
مطمع في هذه البلاد؛ ولكن قد تؤيد هذه المدارس سياسة إنكلترا.
إن عقلاء المسلمين يقدرون غيرة مؤسسي هذه الجمعيات الدينية حق قدرها،
ويعرفون مقدار المستخدمين فيها لنشر دينهم، والتوسل إليه بالوسائل النافعة
للناس في أجسامهم وعقولهم، ويتمنون لو يوجد في أمتهم الإسلامية أسخياء أجواد،
يبذلون المال لنشر الإسلام مع العلم النافع الذي هو أساس بنيانه، والعمل الصالح
(كالمستشفيات) الذي هو أقوى أركانه ، وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة
إلى هذه المدارس التي أسست على دعوة النصرانية؛ لما فيها من العلم، ويعلمون
بما فيها من الضرر لأولادهم في الدين ، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على
عقائد النشء الجديد يمنع من الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع
والمقتضي.
فمنهم من يرجح المقتضي من غير تفكير في عواقب المانع؛ لأن الشعور
بالحاجة إلى العلم قد استحوذت على فكره، حتى حال بينه وبين سلطان قلبه ، ومن
يرجحه لاعتقاده أن المسلم لا يكون نصرانيًّا؛ لأن الدين قد سار على سنة الارتقاء
تبعًا لاستعداد البشر، فكان الإسلام منتهى ارتقائه، وهو الدين المعروف تاريخه،
المتواتر كتابه، المحفوظ سند سنته، ومن وصل إلى الدرجة العليا في شيء لا
يرضى لنفسه أن يهبط إلى ما دونها ، ولذلك يبذل دعاة النصرانية الألوف المكررة
من الدنانير في دعوة المسلمين إلى دينهم بالأساليب العجيبة، ويقضون السنين
الكثيرة في البلد من بلادهم، ولا ينجحون باستمالة رجل واحد وإرجاعه عن
الإسلام! وإن كانوا يوهمون جمعياتهم التي تمدهم بالمال، فيكتبون إليها في كل عام
أنه قد تنصر في هذه السنة على أيدينا فلان وفلان، ويذكرون أسماءً سموها
بأقلامهم لم يعرف مسمياتها الزمان ، ولكن الإسلام يجذب إلى رحابه الفسيح في كل
سنة ألوفًا من الناس بغير دعوة ولا ترغيب ، كترغيب دعاة الإنكليز والأمريكان،
ولا ترهيب كترهيب دعاة الروس في بلادهم! .
نعم ربما يقذف الفقر في كل حقبة من الزمن برجل من المسلمين جنسيةً لا
حقيقةً، فيلقيه في ملجأ من ملاجئهم، أو فناء من أفنيتهم، فيسهل له العوز انتحال
اسم من أسمائهم، أو لقب من ألقابهم، وربما أغراه المال بأن يكون داعيًا من
دعاتهم كما فعل (أرميا الحزين) الذي استجاب لرقيتهم بمصر، ثم فضحهم وهو
يبشر لهم في الجزائر؛ إذ كتب مقالات في المؤيد بيَّن فيها أنهم يدَّعون في كل بلد
إسلامي نجاح دعوتهم في غيره، ويدعون في تقاريرهم التي يرسلونها إلى جمعياتهم
أنهم ناجحون في كل بلد، والغالب فيمن يجنح لهم أن يعود إلى الإسلام ولو بعد
حين.
وقال السيد جمال الدين الأفغاني في بيان سبب إخفاق دعوة المبشرين بين
مسلمي الهند: إن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة،
فإنه يقرر الإيمان بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - دون ما زاده الغلو
على ذلك، ويزيد على ذلك الإيمان بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - وبما جاء به
مصدقًا لما قبله.
وحدثني شاكر بك الذي كان رئيسًا للجزاء بطرابلس الشام من بضع عشرة
سنة، أنه كان في بلدة ليس فيها مدرسة للبنات إلا جمعية للراهبات، فوضع بنتًا له
فيها فرأتها أمها يومًا ترسم شكل الصليب على وجهها أو صدرها، فوجمت
وامتعضت، وشكت وبكت، وقالت: لا بد من إخراجها من هذه المدرسة ، قال:
فهونت عليها الأمر، وكنت أقول لها: جانم إن ابن المسلم لا يكون نصرانيًّا أبدًا،
ولم أقبل توسلها إليَّ بإخراجها، وقد تعلمت حتى أتمت تعليمها عند الراهبات،
وهي الآن تقرأ القرآن الشريف وتصلي وتصوم، ولم يضرها حرص الراهبات
على تنصيرها.
هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه المدارس الدينية،
ومنهم من يرجح المانع على المقتضي، كما هو المعتمد في المسألة عند أهل
الأصول، كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل
…
فأكرموه مثلما يرتضي
فقلت لما لم يكن عاملاً
…
تعارض المانع والمقتضي
ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها، وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يظن
أنه منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا
إلا إذا قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مجمع عليه معلوم من الدين
بالضرورة ، ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم: كالأولاد
الذين يوضعون في هذه المدارس، أن يسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون
عندنا كفرًا وردةً، وأهونها أن تكون معصيةً، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ
منا، ومات قبل أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء
الراسخين مات مرتدًّا، لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا
مات أبوه أو أمه أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون
أيضًا: إن بعض فقهائنا صرح بأن الرضا بالكفر كفر، فإذا رضينا بشيء من ذلك
نكون نحن مرتدين أيضًا.
وهذا الذي يتخوفونه على دينهم ليس ببعيد عن مدارس الكاثوليك
والأرثوذكس ولا سيما مدارس الجزويت، كما بلغنا من مصادر كثيرة تصل إلى
درجة التواتر المعنوي؛ من أنهم يلزمون أولاد المسلمين بجميع تقاليدهم الدينية
حتى تعظيم الصور، والتماثيل، والاستغاثة بالقديسين، وذلك في حكم الإسلام شرك
نعتقد أنه طرأ على النصرانية بعد المسيح عليه السلام وحوارييه عليهم
الرضوان بعدة قرون ، وإن كان القرآن لا يدخلهم في لقب المشركين ولا نحن
نخاطبهم به؛ لأنهم يتبرأون منه ويتأذون به، وإيذاؤهم محرم علينا سواء كانوا
ذميين أو معاهدين، وقد بينا ذلك في المنار أكثر من مرة ، أما ما ذكرناه في هذا
المقال فبيان لما يعتقده المتساهلون وغير المتساهلين منا، نرجو أن يكون سببًا
لحسن التفاهم بيننا وبين العقلاء المعتدلين منهم: كعمدة المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت.
قد قلنا في أول المقال: إن مدارس الأمريكان أقل تعصبًا على المخالفين،
وقد جرى بيني وبين أحد أساتذة المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت حديث في
الخلاف الذي جرى بين تلاميذ المسلمين وعمدة المدرسة على دخول الكنيسة؛
لسماع الوعظ الديني. إذ امتنع التلاميذ من الدخول بعدما صارت الحكومة العثمانية
دستوريةً حرةً، وأصرت المدرسة على إلزامهم أحد الأمرين: إما الاستمرار على
دخول الكنيسة كما كان الأمر على عهد الحكومة الاستبدادية، وإما الخروج من
المدرسة وترك التعلم فيها ، فاجتمعوا وتقاسموا لنثبتن على رأينا: لا ندخل ولا
نخرج، حتى رفع الأمر إلى الآستانة، وبعد مراجعة حكومتنا هناك لسفير الولايات
المتحدة، تقرر بينهما ما بلغته نظارة الداخلية لوالي بيروت وهو أنه لا يلزم
المسلمين دخولُ الكنيسة، بل يجب أن يبنى لهم مسجد يصلون فيه ، وأن السفير
بلغ معتمد (قنصل) حكومته في بيروت ذلك؛ ليبلغه المدرسة الكلية ، وقد كان
الحديث بيني وبين ذلك الأستاذ قبل ورود هذا البلاغ من الآستانة، وحضره جماعة
من فضلاء النصارى.
قال الأستاذ ما معناه: إن المدرسة الكلية لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال
الدينية التي يقررها بعض مذاهب النصرانية، ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم
التي تخالف مذاهب مؤسسيها، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق مع كل دين،
وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في نفوسهم تقوى الله وحب الفضيلة،
وتبعدهم عن الإلحاد والتعطيل، فإن المؤسسين لها من أهل الدين والمحافظة عليه
أهم مقاصدهم ، وإن المكان الذي تلقى فيه المواعظ الدينية ليس كنيسة مؤسسة لأجل
العبادة، بل هو مكان تلقى فيه الخطب العلمية والأدبية وغيرها، ويعزف الحسان
فيه بآلات الموسيقى.
(قال) : فهل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين دخول هذا المكان،
ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟
قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل، ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم من أمور الدين فيها وكذا
في خارجها: إما محرم وإما كفر، في تفصيل لهم في ذلك ، فلعل تلاميذكم يعتقدون
أن دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن
كان لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت، ليس معبدًا
دينيًّا، ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام.
(ثم قلت) : إن احترام النظام في المدارس والبيوت وكل مكان ركن عظيم
من أركان التربية، ومن لم يتربَّ على احترام النظام والتزامه لا يكون رجلاً عظيمًا
نافعًا لأمته ووطنه ، ولكن احترام الاعتقاد والضمير أقدس وأعلى من احترام النظام،
فإن من لا يحترم اعتقاد نفسه يكون منافقًا لا يوثق به في شيء من الأشياء. وإن
إكراه التلميذ في ذلك أشد إفسادًا لأخلاقه من كل ما يخطر في البال أنه يفسد الأخلاق؛
إذ لا يرجى ممن لا يحترم اعتقاده أن يحترم أسرته ولا أمته، فضلاً عن احترامه
لمن لا يتصل به في وشيجة رحم ولا مصلحة وطن.
(قلت) : إنني إذا رأيت إنسانًا يعتقد بأن هذه البلاطة من الرخام (وأشرت
إلى بلاطة في الأرض) تنفع وتضر، ورأيته يعبدها ويحترمها، فإنني لا أجيز
لنفسي أن أكرهه على دوسها والوطء عليها، ولا أن آمره بذلك إلا بعد أن أقنعه
ببطلان اعتقاده فيها ، وقد وقع لي واقعة في ذلك: وهي أن رجلاً أخبرني بأن
خصمًا لي في محاكمة شرعية حمله كتابًا إلى آخر، وسألني ماذا يفعل فيه، وأنا
أعلم أنه يطيعني في كل ما آمره به، وأن في الكتاب حجةً لي على خصمي تصلح
فصلاً للنزاع، وتوفر عليَّ وقتًا طويلاً ونفقةً كثيرةً، ولو شئت لأخذت الكتاب فإن
حامله لا يخالف أمري، ومع هذا لم أستحل أن آمره بالخيانة.
ولما حدثت مشكلة القضاء الشرعي بمصر من زهاء عشر سنين، وعزم
الإنكليز على إلزام الخديوي بعزل القاضي المولى من السلطان، وتولية قاضٍ
مصري مكانه كره الخديوي ذلك ، ولكنه لم يهتد إلى المخرج منه، فطلب أن يجيء
الأستاذ الإمام من القاهرة إلى الإسكندرية (وكان الخديوي في مصطافه فيها) ،
فجاء رحمه الله ليلاً، وقابل الأمير في الصباح، فقال له: إنني طلبتك بلسان
البرق؛ لأستشيرك في مشكلة القاضي، وبعد خروجك من هنا سيدخل لورد كرومر؛
لأجل أن يكلمني في وجوب عزل جمال الدين أفندي، وتولية أحد علماء مصر
منصب قضاء مصر الشرعي ، وسيجتمع بعد ذهابه مجلس النظار هنا؛ لتقرير ذلك،
فبماذا أدفع اللورد بحسب رأيك؟ فقال الأستاذ: إن الإنكليز من أشد خلق الله
احترامًا لحرية الضمير والاعتقاد؛ حتى إنهم ربما ذكروا ذلك في قوانينهم، فإنهم
لما وضعوا قانون التلقيح للوقاية من الجدري، كان من مواده أنه يجبر عليه كل أحد
إلا من يقول: إن ضميره لا يجيز له ذلك، فإذا كنتم تعتقدون أن تولية القاضي من
حقوق السلطان وأنه لا يجوز لكم أن تعينوا القاضي من قبلكم، فيكفي في إقناع
اللورد بالرجوع عن طلبه، أن يقول له أفندينا: إن ضميري لا يسمح لي بذلك؛
لأنني أعتقد أن هذا حق السلطان وحده، فمتى سمع هذا الجواب يذعن له، ولا
يمكن لمثل لورد كرومر في تربيته الإنكليزية العالية أن يقول لكم: خالفوا ضميركم ،
وقد كان الأمر كما قال الأستاذ، وبذلك انحلت المشكلة بعد أن كان عزل قاضي
السلطان قد صار في الأمر المقضي الذي لا مراجعة فيه، حتى إن جمال الدين
أفندي باع داره، وتهيأ للسفر من مصر إلى الآستانة.
هذا ما أجبت به أحد أساتذة المدرسة الكلية، وقد استحسنه من سمعه،
واعترفوا بأن من إفساد الأخلاق أن يؤمر الإنسان بفعل ما يعتقد أنه قبيح أو محرم
عليه، ثم جاءني بعض تلاميذ الكلية من المسلمين، وسألوني عن رأيي في مسألتهم
وسألتهم عن سببها وعلتها، فاستفدت من المراجعة ما يأتي:
(1)
إن التلاميذ يُلزمون الدخول كل يوم الكنيسة (Chapel) ، والمكث
ربع أو ثلث ساعة؛ لسماع نبذة من العهد الجديد أو العهد العتيق، تختم بالدعاء
الذي يعبرون عنه بالصلاة، وكل يوم أحد ثلاث مرات، يمكثون كل مرة زهاء
ساعة ونصف.
(2)
إنه يوجد في المدرسة جمعية أرمنية لتلاميذ الأرمن، وجمعية يونانية
لليونانيين، وجمعية للمصريين من المسلمين والنصارى، وجمعية مسيحية تسمى
جمعية الشبان المسيحيين، وجمعية لليهود.
(3)
طلب التلاميذ المسلمون إنشاء جمعية إسلامية؛ تبحث في ترقي
المسلمين مع عدم الخوض في السياسة، فرفض طلبهم.
(4)
طلبوا أن يجتمعوا ليلة المولد النبوي؛ للبحث في سبب الاحتفال في
مثل ذلك اليوم وما يحسن فيه، فمنعوا ، فهذا هو السبب لتألب المسلمين ، وذكر لي
عبارات شاذةً في الطعن في الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، سقطت من بعض رجال
المدرسة الأمريكانيين، هاجت النفوس، وأعدتها للحركة التي ظهرت بعد ذلك
عندما جاء وقتها، ولا نذكرها في هذا المقال؛ لأنها ليست من نظام المدرسة ولا
من أعمالها المطردة.
بعد هذا كله نقول: إن مؤسسي المدرسة بأموالهم ومديري شؤونها والمعلمين
فيها كلهم من أهل الفضل والخير، والعلم بطبائع الأمم وأخلاق البشر وأحوال
الاجتماع، فهم يعلمون أن الظلم (ومنه منع المسلمين من الاجتماع كاليهود بَلهَ
النصارى) ينتج في المستقبل ضد ما يراد منه في الحال، وإن الأمم لا ترهق في
زمن الدستور والحرية، بما كانت ترهقه في زمن الاستبداد والعبودية، فكان عليهم
أن يتذكروا هذا فيلينوا ويتسامحوا مع التلاميذ المسلمين عند امتناعهم عن دخول
الكنيسة، ثم يستميلوهم إلى احترام المدرسة بالعدل والمساواة بينهم، وبين غيرهم
من الملل والشعوب في تأليف الجمعيات، بأن يأذنوا لهم بتأليف جمعية إسلامية.
فإن الرئيس الذي لا يعدل لا يطاع بالاحترام، وكيف يطالب بالنظام من يتعصب
ويحابي في النظام، ثم يجعلون تلك المواعظ خاليةً مما يخالف الإسلام ويعارضه،
ويقنعون أولئك التلاميذ بأن حضورها بهذه الصفة لا يحظره الإسلام فيكون نفاقًا
وما أسهل ذلك عليهم إذا جاؤوه من بابه.
إن جميع من في المدرسة الكلية من الرؤساء والمعلمين، يعلمون أن ما يلقى
فيها من المواعظ عادةً لا يَرُدُّ المسلم عن الإسلام إلى النصرانية؛ ولكنه لا يخلو من
نوع من الألفة والمودة وتقريب الطوائف بعضها من بعض، وهذا المقصد العالي
الذي يسعى إليه الحكماء الذين يخدمون الإنسانية خدمةً خالصةً من شوائب السياسة
والهوى ، فإذا كان رؤساء المدرسة يرمون إلى هذا الغرض فعليهم أن يتذكروا أن
الرمي إليه عن قوس العزة والإدلال، والإكراه والإذلال، هو الذي يطيش سهمه،
ويفضي إلى ضد ما يراد منه، وأن الحب لا يكون بالغضب، وإنما التحبب داعية
الحب.
بلغني أنهم يقولون: إن المدرسة مسيحية أنشئت بمال المسيحيين؛ لأجل بث
الدين المسيحي، فمن لم يرض بدخول الكنيسة، وتلقي التعليم المسيحي فيها فلا
يدخلن مدرستنا، وهذا القول على مخالفته لفحوى ما سمعته من أحد معلمي المدرسة
يمكن أن يقوله بعض رؤساء المدرسة؛ احتجاجًا وانتصارًا لأنفسهم، وما أظن أن
جميع أولي الشأن في المدرسة؛ يرضون بأن يكون فصل الخطاب في المسألة
حرمان المسلمين من المدرسة، أو إخضاعهم لما سبق بيانه من المعاملة التي تنفر
القلوب، وتورث العداوة والبغضاء، والتعصب الذميم.
وصفوة الكلام في هذا المقام أنه يتعذر على المدرسة الآن إلزام من فيها من
المسلمين ما ذكروا، بعدما اجتمعوا وتقاسموا، واتفقت حكومة الآستانة مع سفارة
الولايات المتحدة على عدم جواز ذلك ، وأن أمامها في السنة الآتية أحد أمرين: إما
التساهل والتسامح في قبول التلاميذ المسلمين؛ لتأليف النفوس وجذب القلوب
بعضها لبعض، والاكتفاء من الخدمة الدينية بهذا المقدار، مع ترقية العقول بالعلم،
والنفوس بالتربية الأدبية الاجتماعية ، وإما عدم قبول المسلمين في مدرستهم وهم
أحرار مختارون في ذلك.
فإن اختاروا الأمر الأول حمدهم المسلمون وحمدتهم الإنسانية، وكانوا أقرب
إلى مقصد الدين الحقيقي الذي لا خلاف فيه بين المسيحية والإسلامية، وهي خير
البشر وتآلفهم، وإن اختاروا الأمر الثاني فإنهم يعلمون المسلمين درسًا جديدًا،
قد يضرهم ويضر من يعيش معهم من جهة تباعد القلوب، وقوة التعصب الذي
يشكو منه محبو التأليف والتوفيق؛ ولكنه ينفعهم من جهة أخرى بما ينهض من
هممهم، ويرفع من نفوسهم ويدفعها إلى الاعتماد على ذاتها، ومباراتهم في تأليف
الجمعيات الدينية لإنشاء أمثال هذه المدارس لأنفسهم.
سيقولون: إن المسلمين لا يستطيعون الآن إنشاء مدارس: كالمدرسة الكلية،
بل كثيرًا ما قالوا؛ ولكن هذا القول لا حجة له إلا ما يعهده من بخل أغنياء المسلمين
بالمال في سبيل العلم والدين ، وهذا عرض لا يدوم، فها نحن أولاء نرى إخواننا
المصريين قد بدؤوا يبذلون الألوف من الدنانير لإنشاء المدارس، وقد سبقهم إلى
ذلك مسلمو الهند ومسلمو روسيا ، وقد دبت الحياة في المملكة العثمانية، فيرجى أن
تسبق غيرها في هذا المضمار لمكانتها العالية من سائر بلاد المسلمين.
إن مسلمي العثمانيين لا بد أن ينشطوا في هذا العصر من عقالهم، ويعلموا أن
التعليم الأجنبي المحض مهما عظم نفعه لا يؤمن ضرره، فإنه إن خلا من الطعن
في الإسلام أو تفضيل غيره عليه، فإنه لا يخلو من إضعاف للعاطفة الملية، وحل
للرابطة القومية؛ فإنه يحول مجاري الفكر في العلوم ومهابَّ أهواء النفوس في
الأخلاق والآداب إلى جهة المعلمين والمربين من الأجانب، فيجعل عقول نابتتنا
وقلوبهم ملكًا لهم، أو وقفًا عليهم، أو مجذوبةً إليهم، أو مفضلةً لمقومات أمتهم على
غيرها ، وبذلك ينقص من مقومات أمتنا ومن احترامها في نفوس نابتتنا بمقدار ما
يزيد في نفوسها من عظمتهم، فلا نطمع في مجاراتهم ومباراتهم، فضلاً عن
مسابقتهم ومقاومتهم، بل نكون دائماً عيالاً عليهم، ناهيك بما في العلوم من الشبهات
على الدين التي يسهل دفعها عن الإسلام، لو كان المعلمون عارفين بحقيقته،
واردين عين شريعته.
فهذه العلوم التي تؤخذ من هذه المدارس، لا تكون حياةً حقيقيةً لأمتنا إلا بعد
أن يصير زمام التعليم والتربية في أيدينا، فيجب على تلاميذنا في المدرسة الكلية
الأمريكانية في بيروت وعلى أمثالهم في غيرها؛ أن يعدوا أنفسهم ليكونوا عونًا لنا
على ذلك بإتقان أساليب التعليم ونقل العلوم إلى لغتنا، وسيرون من الأمة نهضةً
مباركةً في إمدادهم بالمال، وأن لا يكرهوا ما يرون من هضم حقوقهم، وعدم
مساواتهم برفاقهم من أبناء الملل الأخرى، فإن هذه المعاملة هي التي تحرك غيرتهم
وتجمع كلمتهم، فليتقبلوها بسعة الصدر، وإطالة الفكر، وحسن المعاملة، وكثرة
المجاملة، وطاعة النظام، ولين الكلام، والتواصي بالحق والصبر، حتى تكون
حجتهم هي الناهضة، وعاقبتهم هي الحسنى {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) .
_________