المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إحدى الكبر وكبرى العبر - مجلة المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (12)

- ‌المحرم - 1327ه

- ‌فاتحة السنة الثانية عشرة

- ‌خطاب صاحب المنارعلى طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

- ‌المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

- ‌الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

- ‌تنبيهُ الجرائد السوريةإلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةوما قيل فيه

- ‌الحجاز بعد الدستور [*]

- ‌العام الهجري الجديد

- ‌خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]

- ‌جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

- ‌نهضة الأزهريين

- ‌ندوة العلماء الهندية

- ‌لقب حاكم المسلمين

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌ذيل لكشف الظنون

- ‌صفر - 1327ه

- ‌أوراق اليانصيب وسندات المصارف

- ‌دين المستقبلوهل يكفر من له رأي فيه

- ‌تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد

- ‌منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

- ‌فتاوى المنار

- ‌تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [

- ‌خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

- ‌الحرية واستقلال الفكر

- ‌خوارق العادات في الإسلام [*]

- ‌التربية والأمهات

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر

- ‌ربيع أول - 1327ه

- ‌مسألة خلق القرآن وقدمه

- ‌جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

- ‌القضاء والقدر

- ‌الدولة العثمانية بعد الدستوروجمعية الاتحاد والترقي

- ‌الدستوروجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

- ‌ربيع الآخر - 1327ه

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌أسئلة من الجبل الأسود

- ‌الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر

- ‌إحدى الكبر وكبرى العبر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الأولى - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الانقلاب الميمونوأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

- ‌الذكر ورابطة النقشبندية

- ‌النساء والحجاب والتعليم

- ‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الآخر - 1327ه

- ‌الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها

- ‌خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

- ‌أم كلثومبنت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌عهدٌ موضوعٌزعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى

- ‌رسم المصحف

- ‌بحث في خطبة العقيلة المصرية

- ‌الجزية وتجنيد أهل الذمة

- ‌التعصب الديني في أوربا

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌رجب - 1327ه

- ‌التعصب الديني عند الإفرنج

- ‌الجنسيات العثمانيةواللغتين العربية والتركية

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌خطبة في عيد الدستور

- ‌عيد الدستور بمصر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1327ه

- ‌البلاغ المبين

- ‌اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين

- ‌الدستور والحرية والدين الإسلامي

- ‌استشارة غير المسلمينوالاستعانة بهم في الحرب

- ‌أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

- ‌نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

- ‌المدرسة الكليةالأمريكانية في بيروت

- ‌رمضان - 1327ه

- ‌النسخ وأخبار الآحاد

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌الأخبار والآراء

- ‌كتاب التوسل والوسيلة

- ‌فتن رمضان في دمشق الشام

- ‌شوال - 1327ه

- ‌الصوفية والفقراء [*]

- ‌الشيعة والمسلمون

- ‌مكة المكرمة والجرائد العربية [*]

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

- ‌ذو القعدة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أبو حامد الغزالي [*](7)

- ‌تعصب أوربا الديني والحج

- ‌الشيعة وتعدد الزوجات

- ‌الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]

- ‌حركة الإصلاح في جاوة

- ‌مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو الحجة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أسباب سقوط الدولة الأموية [*]

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

- ‌خاتمة السنة الثانية عشرة

الفصل: ‌إحدى الكبر وكبرى العبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إحدى الكبر وكبرى العبر

خلع عبد الحميد خان. نفيه من دار السعادة. وضعه تحت المراقبة العسكرية

ضبط أمواله وذخائره وعقاره. إباحة يلدز للأمة. تولية مولانا السلطان محمد

الخامس.

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن

تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .

جلت قدرة الله ونفذت مشيئته، وغلب قدره وعلت كلمته، جعل الأيام دولاً،

وجعل للدول نواميس وسننًا، فلا مبدل لسننه ولا محول لنواميس خلقه، فلا يغرنك

إملاءه للظالمين، واستدراجه للمفسدين {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ *

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ

يَأْتِيهِمُ العَذَابُ} (إبراهيم: 42-44) .

لا ينفع من قدره حذر، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر، فلا يهولنك ما

ترى من رسوخ الاستبداد، ولا يويئسنك ما تشاهد من غلبة الاستعباد، ولا يفزعنك

ما ترى من الحصون والأجناد، فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده جاور

ضده، وأن شدة الضغط توجب شدة الانفجار، وأن الأعمال بالخواتيم

{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ، {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ

مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ

وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) .

ألا وإن مشيئته في إيتاء الملك ونزعه، وخفض الملك ورفعه، واعتزاز

السلطان وإذلاله، ليست مشيئة استبدادية مغيرة لسننه الاجتماعية، وإنما جعل لكل

شيء سببًا، ولكل أمر مقادير وسننًا، فما من أمة تفرقت كلمتها، وغلب عليها

الجهل بحقوقها، واعتقاد وجوب التقديس لأمرائها وملوكها، وكثر فيها المنافقون،

وقل فيها الصادقون، إلا وابتليت بالمستبدين ومنيت بالظالمين، يسومونها سوء

العذاب، ويقطعون بها الأسباب، فيأكلون الأموال، ويستذلون الرجال، ويجعلون

الحرائر إماء، ليتمتعوا بالمئات من النساء، ويعبثون بالشريعة والقانون، ويجنون

على الأخلاق والآداب، فيذلون أمتهم ويضعفون دولتهم، فإذا استيقظت الأمة من

سباتها، واجتمعت بعد شتاتها، وعرفت حقوقها، وغيرت ما بأنفسها من تقديس

السلاطين، وأرادت أن تجعل الحكم فيها للشريعة والقوانين ، فإن الله يغير ما بها

من الذل والعبودية، فتستبدل بهما العز والحرية، من حيث يذل ظالميها، ويهلك

مذليها {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا

مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) .

لقد صدقنا وعده ووعيده، وأرانا بأعيننا مصداق كتابه، فهذا عبد الحميد خان

وأعوانه وقرناؤه وخصيانه وجواريه وغلمانه قد بغوا في الأرض، وتركوا السنة

والفرض، وعطلوا الشريعة والقوانين، واستبدوا بجميع العثمانيين، وجمعوا

القناطير المقنطرة من الأموال، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال،

وأقاموا حولهم المعاقل والحصون؛ ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليها المظلومون،

{وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي

قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

نعم.. إن في ذلك لكبرى العبر، لمن يعقل ويتدبر {كَلَاّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ

أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن

يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) فقد أدبر ليل الظلم والاستبداد، وأسفر صبح

الدستور، فميز بين الإصلاح والإفساد، وذهب الغي وجاء (الرشاد) ، وكانت هذه

الحركة العثمانية إحدى الكبر، نذيرًا للمستبدين من البشر، تعلمهم أنه لا ينفع حذر

من قدر، كما تعلم من شاء أن يتقدم أو يتأخر من الأمم؛ كيف يكون السير في

الطريق الأمم، وإنما مدار التقدم والتأخرعلى العدل والاستبداد، ورسوخ جذور

إحدى الكلمتين في البلاد، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ

وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن

قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ

الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 24-27) .

لقد ذهبت هذه العبرة بأعذار اليائسين من روح الله، وتعلات القانطين من

رحمة الله الذين يتركون العمل، ويتفيئون ظلال الكسل، إذا غلقت في وجوههم

الأبواب، وتقطعت بهم الأسباب؛ جهلاً بعناية الله بالإنسان وسننه في نظام الأكوان

فها نحن أولاء قد رأينا عبد الحميد خان قد غلق جميع الأبواب التي يتصورالتوصل

منها إلى خلعه، وقطع جميع الأسباب التي يتخيل أنها تفضي إلى أخذه، حتى إنه

منع الاجتماع والجمعيات، وحجرعلى كثير من الألفاظ والاصطلاحات، فأبطل من

المحاكم الشرعية لفظ الحجر والجنون، وأن يحكم بالحجرعلى مجنون، ومنع لفظ

المخالعة والخلع [1] منها، ومما يطبع من كتب الشرع؛ لأنه يذكر بلفظ الخلع

(بالفتح) ، كما أبطل من جميع المطبوعات أمثال هذه الكلمات؛ عبد الحميد،

سلطان. (إلا عند ذكره) مراد. رشاد. ثورة. حرية. جمعية. مبعوثان

إلخ

إلخ، وكان لمراقبي الجرائد في ذلك من الأمر والنهي والإثبات والمحو، ما يضحك

الثكلى، ويبكي اليائس الذي جاءته البشرى، وأمر بحذف دعاء القنوت من كتب

التعليم، وكلمة خلع النعلين مما يطبع من كتب الفقه والحديث؛ لئلا يخطر خلعه في

البال، عند ذكر خلع النعال، أو يسبق فهم المتعلمين أو المصلين، أن كلمة

(ونخلع من يفجرك) في القنوت، توجب خلع الفجارمن السلاطين، هكذا رأيناه قد

اتقى كل شيء إلا الله {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} (القصص:

81) ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة: 270) .

عز عليه أن يسلب بالدستور والحرية ما كان ينتحله من صفات الربوبية؛

ككونه يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا حدود

لأمره ونهيه، يحمد على السراء والضراء:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع،

ويخفض ويرفع، يسلب من يشاء ما يشاء، ويقتل من أراد متى أراد، ويبعد من

يكره، ويقرب من يحب، فرأى بعد الدستور أن أمر الشريعة والدستور فوق أمره،

وأن نفوذ جمعية الاتحاد والترقي فوق نفوذه، وأن الألسنة والأقلام التي كانت

مكرهة على ترتيل آيات إطرائه ترتيلاً، والتسبيح بحمده بكرة وأصيلاً، صارت

تسمي أعماله ووقائع عصره بأسمائها، بعد أن كانت تطلق عليها أسماء أضدادها،

إذ كانت تسمي الظلم عدلاً، والنقص فضلاً، والجهل علمًا، والسفاهة حلمًا،

والباطل حقًّا، والكذب صدقًا، والإفساد إصلاحًا، والخسر فلاحًا والتخريب عمرانًا،

والإساءة إحسانًا، إلى غير ذلك.

راعه أن يكون بشرًا يوصف بصفات البشر، وأن تكون رعيته من جنسه لا

من الغنم والبقر، فضاق بهذا الدستور صدرًا، وعجز عن مبارزته جهرًا، فلجأ إلى

الكيد والاحتيال، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال، فألف بها

الجمعية المحمدية، وبث دعاتها في العاصمة وجميع الولايات العثمانية، فطفقوا

يوسوسون لعامة المسلمين: أن الدستور مناف للدين، وأن جمعية الاتحاد تريد بث

التعطيل والإلحاد، وتحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة أوربية، بل بثوا فتنهم

في الجيش فشقوه نصفين، ودبروا مكيدةً لإيقاع المذابح بين العنصرين: (المسلمين

والنصارى) ، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ

الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) أما لو وقعت الواقعة، وقرعت الدولة هذه القارعة؛

لرجت الأرض رجًّا، وبست البلاد بسًّا [1] فكانت هباء منبثًّا [2] ولكن لطف الله بهذه

الأمة، وأراد إنقاذ هذه الدولة فانهتك الستر، وانكشف السر، وظهرت بوادر الثورة

على الدستور في القسطنطينية، قبل أن تصل دعاتها إلى جميع الولايات العثمانية،

فقتل الثائرون بعض أعضاء مجلس النواب، ودمروا على نادي جمعية الاتحاد،

فتبروا ما علوا تتبيرًا، وكادوا يدمرون المعاهد تدميرًا، فأرز [3] أهل التدبير إلى

سلانيك وهي مصدر الدستور، ومطلع هذا النور، واستصرخوا ذلك الجيش

المنصور، فلباهم سليل الفاروق، مبادرًا إلى فتح فروق، والقضاء الأخيرعلى

الاستبداد، واصطلام آخر جرثومة له في البلاد، والتنكيل بما له من الأحزاب

والأنصار {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ

وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: 10)[4] .

عبأ (محمود) الأمة، و (شوكة) الملة، تلك الكتائب الشعواء، وهي

كالقضاء المنزل من السماء، فكان هو منها كما قال شوقي من قبل في مدح جيش

عبد الحميد تبعًا لمدحه:

يقود سراياها ويحمي لواءها

سديد المرائي في الحروب مجرب

يجيء بها حينًا ويرجع مرةً

كما تدفع اللج البحار وتجذب

ويرمي بها كالبحر من كل جانب

فكل خميس لجة تتضرب

وينفذها من كل شعب فتلتقي

كما يتلاقى العارض المتشعب

ويجعل ميقاتًا لها تنبري له

كما دار يلقى عقرب السير عقرب

فظلت عيون الحر حيرى لما ترى

نواظر ما تأتي الليوث وتغرب

تبالغ بالرامي وتزهو ما رمى

وتعجب بالقواد والجند أعجب

أو كما قال اليوم يخاطب هذا الجيش، مفتخرًا بعمله في أخذ عبد الحميد

وخلعه:

يا أيها الجيش الذي

لا بالدعيّ ولا الفخور

يخفى فإن ريع الحمى

لفت البرية بالظهور

كالليث يسرف في الفعا

ل وليس يسرف في الزئير

الخاطب العلياء بالـ

أرواح غالية المهور

عند المهيمن ما جرى

في الحق من دمك الطهور

يتلو الزمان صحيفة

غراء مذهبة السطور

في مدح (أنورك) الجري

وفي (نيازيك) الجسور

(ياشوكت) الإسلام بل

يا فاتح البلد العسير

وابن الأكارم من بني

(عمر) الكريم على (البشير)

القابضين على الصليـ

ـل كجدهم وعلى الصرير

هل كان جدك في ردا

ئك يوم زحفك والكرور

فقنصت صياد الأسو

د وصدت قناص النسور

وأخذت (يلدز) عنوة

وملكت عنقاء الثغور

نعم.. كرَّ الفاروقي بجيشه وعيون الأمم الأجنبية شاخصة إليه، وقلوب

الشعوب العثمانية محومة عليه، وزحف على الآستانة مصوبًا مدفعه ممتشقًا حسامه

، فلقيته جنود عبد الحميد، وكانت الحرب كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، فطل الأخ

دم أخيه، وخرق القريب صدر قريبه، فكانت جنودنا كما قال البحتري:

إذا اشتجرت يومًا ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

ولكن شتان ما بين الباعثين، وما أبعد ما بين الداعيتين، ففريق ينصر الملة

بنصر الشورى والدستور، ويحمي الأمة بحماية مجلس المبعوثين. وفريق ينصر

الاستبداد بنصر ذلك الشبح البال، والمسرف العال، والخؤن الغال {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ

بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران: 13) .

أيد الله الحق على الباطل، ومكن جند الدستور من تلك الحصون والمعاقل،

حتى كأن قائده يحمل سيف جده عمر، الذي كتب الله له النصر والظفر، فكان هو

الفاروق الفاصل، بين العدل والظلم، والحق والباطل، وقد أعجب أهل الحرب في

أوربا بسرعة حركته، وحسن تعبئته، كما أعجب أهل السياسة بإحكامه للنظام،

وحفظه للأمن، وفرح العثمانيون بنصر الله الدستورعلى الاستبداد، وحكم الشورى

على حكم الأفراد {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ

* يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) .

سقطت (يلدز) ذات الحصون المشيدة، والملاجئ المتعددة بعد أن حاصرها

جيش الدستور، وقطع عنها الزاد والماء والنور، وفيها أربعة آلاف من النساء

والغلمان والخصيان والأعوان، والحرس الداخلي والحجاب، والخدم والكتاب،

والسواس والحوذية، والأريسيين والبستانية، كانوا يأكلون كل يوم ما تشتهيه

الأنفس من أصناف الألوان، ويتمتعون بما أحبوا من بنات ألحان ومعتقات الدنان،

وقد استعد عبد الحميد فيها لكل شيء إلا الحصار، فإنه لم يكن في الحسبان -

وسبحان من لا يشغله شأن عن شأن - أراد أن يجعلها كجنة الخلد، فإذا هي يوم

الحصار دون جنة آدم في الأرض، فقد قال الله لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا

تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (طه: 118-119) وقد جاع وظمئ

في جنة عبد الحميد حتى الغادات، وصار من فيها كالسوائم يقتاتون بورق النبات،

نعم.. ذاقت يلدز طعم الجوع بعد أن كانت مئات الموائد توزع من فضلاتها على

الجموع، وتجيع الألوف من الجنود وغير الجنود، وذاقت لباس الخوف والرعب،

بعد أن كانت تخيف جميع الشعب، فصارت عبرة للمعتبرين، ومثلاً للآخرين

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ

بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112)

ولما ضيق عليها الحصار، ارتفع الصراخ والعويل، ممن قال فيهن شاعر

النيل:

أين الأوانس في ذراها

من ملائكة وحور

المترعات من النعيم

الراويات من السرور

العائرات من الدلال

الناهضات من الغرور

الآمرات على الولاة

الناهيات على (الصدور)

الناعمات الطيبات

العرف أمثال الزهور

الذاهلات عن الزمان

بنشوة العيش النضير

المشرفات وما انتقلن

على الممالك والبحور

أمضى نفوذا من (زبيدة)

في الإمارة والأمير

بين الرفارف والمشارف

والزخارف والحرير

في مسكن فوق السماك

وفوق غارات المغير

بين المعاقل والقنا

والخيل والجم الغفير

سموه (يلدز) والأفو

ل نهاية (النجم) المنير

دارت عليهن الدوائر

في المخادع والخدور

أمسين في رق القبيل

وبتن في أسر العشير

ما ينتهين من الصلا

ة ضراعة ومن النذور

يطلبن نصرة ربـ

ـهن وربهن بلا نصير

ولماذا صار ربهن عبد الحميد بلا نصير، ولا ولي ولا ظهير. الجواب من

سورة الشورى التي كان يمقتها: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الشورى: 8) ، ومنها {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ

* وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (الشورى: 30-31) .

بعد أن ضيق جيش الدستور على يلدز الحصار، خيرها بين التسليم وبين

السيف والنار، فعلم ذلك العاهل، أنه جاء الحق وزهق الباطل، فأمر بالتسليم

مدعيًا إيثار السلام على الحرب والصدام، وأن العسكر المهاجم كالحرس من أولاده

لا فرق بين الداعم والهادم لاستبداده، فسلم من كان فيها من الجيش سلاحه وذخائره

مأسورًا، ثم خرج منها مذمومًا مدحورًا، وخرج وراءه رؤساء الموظفين والكتاب

والقرناء، فالخصيان والخدم فالنساء، كان عسكر الدستور يخرج كل فريق،

فيعرف غير النساء منهم فردًا فردًا، ويحصيهم بالمقابلة على الجداول التي بيده عدًّا

ثم يرسلهم محفوظين إلى المواضع التي أعدها لهم، إلى أن يصدر الحكم العمري

الفاروقي فيهم، بل ذلك حكم الله وسننه في نظام الاجتماع {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ

وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) وصدق عليهم بعد إباحة يلدز للأمة، ما نزل في

فرعون وقومه {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا

فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا

كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: 25-29) .

وقد وضع الفاروقي فروق تحت الأحكام العرفية، وشكل فيها المحاكم العسكرية

لمحاكمة منفذي الفتنة الحميدية؛ لإبطال حكومة الشورى الشرعية، وإعادة الأحكام

الشخصية الوثنية، وهذا أمر لا بد منه، ولا تقوم المصلحة العامة إلا به، والقتل

بهذه الأحكام العسكرية، هو من قبيل ما يطلق عليه الفقهاء اسم الأحكام السياسية،

وقد صرحوا بأنه يجوز قتل الثلث لإصلاح الثلثين، فإن قيل: إنها أحكام ربما

تصيب بعض البرآء، قلنا: وقد يقع مثل ذلك في أحكام القضاء {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ

تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 25) .

وقد كان من أمر الولايات العثمانية عندما علمت بكيد عبد الحميد خان للحكومة

الدستورية: أن كتبت إلى مجلس الأمة بوجوب خلعه، ونفض اليد من بيعته،

وإعلامه بأن الجنود مستعدة لمحاربته، والأهالي يتطوعون مع الجيش لمساعدته،

فلما أمن المجلس بأس ذلك السلطان، اجتمع المبعوثون والأعيان، واستفتوا شيخ

الإسلام، في خلع عبد الحميد وتولية رشاد، وهذه ترجمة الاستفتاء والفتوى بالعربية:

(إذا حذف زيد أمير المؤمنين بعض المسائل الشرعية المهمة من كتب

الشرع المقدسة، ومنع ومزق وأحرق الكتب المذكورة، وبذَّر وأسرف في بيت

المال بدون مسوغ شرعي، وقتل وسجن ونفى رعاياه بدون سبب شرعي وتعود

ارتكاب غير ذلك من المظالم الأخرى، ثم بعد أن أقسم بأن يرجع إلى الصلاح حنث

بيمينه، وأصرعلى إحداث فتن عظيمة تخل تمام الإخلال بانتظام أمور المسلمين

وأحوالهم، وحرض على المذابح، وإذا كانت الأخبار تتوالى من جميع أنحاء البلاد

الإسلامية طالبة خلعه؛ تخلصًا من ذلك الجور، وكان في بقائه ضرر محقق، وفي

زواله صلاح ملحوظ، فهل يجب تنفيذ ما يرجحه أرباب الحل والعقد وأولو الأمر؛

من إلزامه التنازل عن السلطنة والخلافة أو خلعه؟

(الجواب) : نعم.

...

...

...

...

كتبه الفقير السيد

...

...

...

...

محمد ضياء الدين

...

...

...

...

... عفي عنه

بعدما تناول هذه الفتوى شيخ الإسلام التي هي أصح فتوى صدرت في هذه

الأزمان؛ لرد الشأن فيها إلى أولي الأمر، كما أمر القرآن، اختار أولو الأمر من

المبعوثين والأعيان، أن يخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني؛ لأنه ثبت لديهم أنه

يصدق عليه ما ذكر في الاستفتاء من المظالم والمخازي، وأن يبايعوا بالخلافة

والسلطنة محمد رشاد أفندي ولي عهد المملكة. وهذه ترجمة قرار المجلس بالعربية.

في الساعة السادسة والنصف من يوم الثلاثاء، وهو السابع من شهر ربيع

الآخر سنة 1327 الموافق 14 نيسان سنة 1325 (مالية) ؛ تقرر في جلسة

المجلس الوطني العثماني المؤلف من مجلسي الأعيان والمبعوثين خلع السلطان عبد

الحميد الثاني، وإسناد السلطنة والخلافة إلى ولي العهد محمد رشاد أفندي باسم

(محمد الخامس) ، وذلك بناء على اختيار الخلع على التنازل الاختياري بالاقتراع

وهما الحلان المبينان في الفتوى المذيلة بتوقيع شيخ الإسلام محمد ضياء الدين

أفندي المتلوة في الجلسة.

ثم إن المجلس أرسل وفدين؛ لتبليغ قراره للسلطانين؛ ليعلما أن الأمر لأولي

الأمر، لا لرجل واحد يسمى ولي الأمر؛ لأن الله تعالى أسند في كتابه إلى الجمع،

ولم يسنده قط إلى الفرد؛ وليكون لأول عبرة للمستبدين الظالمين، والآخر سلفًا

ومثلاً للدستوريين الآخرين، فبلغ الوفدان القرارين ولسان الحال، يرتل قول الملك

المتعال {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ

وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) .

دخلوا على عبد الحميد الجبار، الحقود المنتقم القهار، وهو في مأمنه الذي

ملأه بالمسدسات، وجعل فيه الملاجئ والمغارات والمُدَّخَلات، وله في كل حجرة

منه تمثال يمثله في حال من الأحوال، فمنها النائم على السرر المرفوعة، ومنها

المتكئ على الأرائك الموضوعة، ومنها المكب على كتابته، ومنها الممثل لقراءته

يحتاط بذلك لخيانة الجنود والأحراس، وغفلة الرقباء والأرصاد، حتى إذا ما دمر

عليه محتال، يحاول الفتك والاغتيال واتفق أن اهتدى إلى بعض حجراته التي يأرز

إليها في خلواته، يغره التمثال فيهجم عليه، فينفذ رصاص المسدسات الحميدية من

بين كتفيه، وإن عبد الحميد لا يخطئ المرمى، فقد تمرن على الرمي حتى صار

كبني ثعل أو أرمى دخلوا عليه فما وارته مخابئه ولا حمته مسدساته، ولا دافعت عنه

رجاله، ولا أغنت عنه أمواله، بل غلب على هذا المخلوع الجبن الخالع، فإذا هو

خاضع خانع، قد خرس لسان مقاله وقرأ لسان حاله {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا

أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة: 27-29) يتمنى لو كانت مكيدته

قضت على الدستور، وجعلت زعماءه وأنصاره من سكان القبور، ثم طلب أن يبقوا

عليه كما أبقى على أخيه مراد، ويحسنوا إليه لأنه بريء مما وقع من الفساد! ! ،

وطفق يلوك أباطيل الأعذار، ولو كان صادقًا لما انتهى إلى هذا (القرار) {أَمْ

نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) .

لماذا خضع وذل عبد الحميد وهو الجبار العنيد لذلك الوفد الذي لم يكن معه

غير ثلاثة من ضباط الجند؟ أتواضعًا كتواضع الخلفاء، أم هي شنشة الجبناء، إن

قدروا بغوا وعتوا، وإن عجزوا ذلوا وعنوا؟ أهذا هو السلطان المستبد، القاسي

المتكبر، الحريص على حياته، المحافظ بقوة الدولة ومالها على شخصه، هو

بعينه عبد الحميد، الذي دخل عليه وفد مجلس الأمة من غير معارضة ولا تفتيش،

فوقف أمامهم خاضعًا ضارعًا متوسلاً، يسألهم الإبقاء عليه، وترك روحه العزيزة

بين جنبيه؟ !

سبحانك اللهم ما أجل حكمتك، وما أعدل سنتك، ما أصدق وعدك ووعيدك،

فقد بينت لنا أن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وقلت {أَوَ لَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ

قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: 21) .

أين تلك القوة القاهرة، أين تلك الإرادة النافذة، أين تلك العظمة والكبرياء،

أين ذلك الشم والإباء، أين ذلك المسرف الغال؟ ، أين ذلك المعجب المختال، أين

السلطان عبد الحميد، الذي ظن أنه يبقى فعالاً لما يريد، فلم يكن يقبل أن يوجد في

المملكة من يقول: هذا نافع في السياسة وهذا ضار، وهذا حلال في تصرف الإدارة

وهذا حرام. أين السلطان عبد الحميد، الذي جعل نفسه هو الملك وهو الأمة، هو

القانون وهو الشريعة، الذي كان يرى أن الملك ملكه، والزمان غلامه، والناس عبيده

أو عباده، وأن له الحق أن يحرف كتب دينهم، وأن يغير أسفار تاريخهم وتاريخ

غيرهم. وإن عليهم أن يقابلوا إساءته بالشكر، وظلمه بالرضا والحمد، أين

السلطان عبد الحميد، الذي كان لا ينزل إلى موكب صلاة الجمعة في الأسبوع، إلا

بين صفوف من الجيوش كالبنيان المرصوص، فيحرم الصلاة على الألوف

من المسلين لأجل صلاته، التي يجعلها عنوانًا على خلافته، فيتزلف إليه فيها

بآيات معينة من القرآن، لا يتجرأ أن يتلو غيرها قارئ ولا خطيب ولا إمام،

ولو قرأ قارئ على مسمعه آية من الآيات التي تنذر الظالمين بالهلاك والدمار،

وتؤذنهم بالزوال والبوار، لأخذ منه باليمين، ولقطع منه الوتين، أو زجه في

ظلمات السجن، أو نفاه من الأرض. أين عبد الحميد الذي كان يزور الخرقة

النبوية الشريفة تذكيرًا للمسلمين بأنه هو الخليفة، فتحرس له الجنود طريقه إليها

طول السنة، فإذا قرب الموعد، أخليت من جانبيها الفنادق والدكاكين والأمكنة،

وغلقت الأبواب والنوافذ والكوى، وحشرت الجنود تملأ ما بين الرجا إلى الرجا؛

لئلا يطمع أحد بالدنو إليه، أو يكون في مكان أعلى منه {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ

وَمَا كَسَبَ} (المسد: 2) ، ولا وقاه ما أكدى وما وهب، ولا نفعه رأي ثقاته،

ولا سلاح حماته، بل سلمت فئته الباغية المغرورة، لفئة الدستور المنصورة،

وذم هو عمل منفذي فتنته، وتبرأ منهم، وزعم أنه كره عملهم. ولكن عجز

عنهم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ

لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا

لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 48) .

بعد أسبوعين من خلع عبد الحميد، أنفذ الفاروقي حكم أولي الأمر بنفيه إلى

سلانيك، وأُخْرِجَ معه من دار السعادة اثنان من صغار أولاده، وإحدى عشرة امرأة

من جواريه ونسائه، وجيء به إلى محطة سكة الحديد تخفر مركبته مركبات الجنود

وأرسل كذلك مخفورًا في قطار مخصوص، ولما وصل إلى محطة سلانيك، اختار

ركوب إحدى مركبات الأجرة، إلى أن وصل إلى الدار التي أعدت له، وهي دار

ألاتيني باشا قائد الشرطة، وقد أحضر له ولمن معه طعام ذلك المساء من أحد

مطاعم السوق، وطلب قميصًا فاشتريت له أيضًا من السوق، وكان في عامة أوقاته

كاسف البال، كثير الهواجس والأفكار، وقد تضرع إلى القائد الذي استقبله بأن

يضمن له حياته، فهدأ القائد اضطرابه وسكن روعه، ولو كان عبد الحميد صاحب

عزة وإباء، لما حرص في مثل هذه الحال على البقاء ، ولا أقول لفعل ما فعلت

الزباء، على أن البخع والانتحار؛ إذا كان محرمًا في الإسلام، فشدة الحرص على

الحياة ليست من شأن أهل الإيمان، فقد قال تعالى في الذين لا يؤمنون:

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ

سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96) .

أما مولانا السلطان محمد الخامس، فقد بويع في ذلك اليوم بنظارة الحربية

باختيار أولي الأمر ونواب جميع الأمة العثمانية، فإن كان قد قال في حفلة المبايعة:

إنني أول ملك في عهد الدستور والحرية، فإننا نقول: إن مبايعته أول مبايعة

جرت على الصورة الشرعية، فقد كان سلفه يأخذون الملك بمجرد الإرث، وهو قد

ناله باختيار أهل الحل والعقد، وقد بويع بالمصافحة كما بويع الخلفاء الراشدون، لا

بلثم الراحة، وتقبيل الأذيال، كما جرى عليه أسلافه المستبدون، وأول من بايعه

الشريف حيدر بك من أعضاء مجلس الأعيان، ثم الصدر الأعظم وشيخ الإسلام،

ثم نقيب الأشراف، فرئيسا مجلسي الأعيان والنواب، فأعضاء المجلسين، فالأمراء

والضباط، ثم من حضر من خيار الناس، وقد صرح مولانا عقب مبايعته، بأن

كل رغبته ورجائه في سعادة أمته، وبعد عدة أيام حلف في نظارة الحربية يمين

التزام الشريعة والدستور، والمحافظة على حقوق جميع الأمة العثمانية، ثم حلف

أيضًا في مجلس نواب الأمة، كما استحلفهم على الإخلاص لها وله، فأقسموا

طائعين، وأطاعوا مختارين، ودعوا له مخلصين، والأمة من ورائهم تقول آمين،

والعاقبة للمتقين {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} (الرعد: 29) .

ونسأله تعالى: أن يجعل لسان حال سلطاننا الأواب، هذه الآية الكريمة من

الكتاب {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 38) .

_________

(1)

الخلع بالضم الطلاق بعوض، وقد رفع إلى محكمة التمييز إعلام بحكم شرعي في مخالعة فردته إلى المحكمة الابتدائية لأجل تصحيحه بحذف كلمة خلع منه، وقد نبهت إلى ذلك بالأرقام كقولها (مثلاً) يجب تغيير الكملة الرابعة من السطر الثاني والعاشرة من السطر الثالث وهلم جرًّا.

(2)

أي خربت فكانت أجزاء متفتتة، أو سيق أهلها كما تساق الغنم.

(3)

الهباء: الغبار والمنبث المنتشر المتفرق.

(4)

أي اجتمعوا وانضم بعضها إلى بعض كذا فسر الأصمعي الكلمة في الحديث وفي اللسان أرز.

(كجلس) تقبض وتجمع وثبت، ويقال أرز إلى المكان إذا كان مأمنه ومنعته.

(5)

أي ويقال لهم سواء منكم أيها الخارجون على الدستور من أسرّ القول للجنود وغيرهم بالحث على الفتنة ومن جهر به إلخ، والسارب الظاهر البارز كأولئك الجنود العصاة.

ص: 276

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين

لليافعي

(3)

تتمة بحث النسخ

ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول: قد بينا في رسالتنا السابقة بعض حجج ما

ذهبنا إليه، وسنزيد ذلك إيضاحًا، فنقول: إن الكلام إذا سيق، فإنما يساق بمناسبة

المتأخر لما تقدمه وابتني عليه، ودونك ما قبل هذه الآية؛ لتعرف دلالة السياق،

وأن الكلام مسوق في أي شيء؛ أهو في ذكر المعجزات، كما قال الدكتور الفاضل

أم في ذكر الدين وشرائعه وأحكامه، ومن هنا تعرف أن ما ذكرناه عن السلف في

تفسير هذه الآية هو المناسب لسياقها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا

رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن

يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 104-105) ففي أول هذه الآية حذر

المؤمنين من موافقة الكافرين في إطلاق الألفاظ الموهمة؛ كقولهم راعنا، ثم

أخبرهم في آخرها بشدة عداوة الكفار لهم، وأنهم يكرهون نزول الخير إليهم، وذلك

الخير الذي تفضل الله به على عباده المؤمنين: هو الشرع التام الكامل [*] الذي

شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختصه وأمته به، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ

بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 105) - وعلى مناسبة ذلك

قال: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: 106) من هذا الخير: وهو الشرع المحمدي

{مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) فليس من باب تفويت أو إحرامكم بعض

هذا الخير الذي تفضلنا به عليكم، بل نفعل ذلك؛ لنأتيكم بخير منه إذا نسخناه، أو

بمثله إذا قصرتم في حفظه ونسيتموه. أما قوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى آخره، فإنما ذكره في عقب هذه الآية؛ كالدليل

بالشيء على نظيره، وذلك مثل استدلاله جل شأنه على البعث وإمكانه بالخلق

الأول، وبإحيائه الأرض بعد موتها، وقد ذكرنا في رسالتنا السابقة مناسبات أخرى

فارجع إليها، وليتأمل الفاضل في هذا المقام، وليعطه حقه من النظر.

ونقول أيضًا: نحن قد قدمنا وقلنا غير مرة: إنه قد علم من ديننا بالضرورة

أن القول بالرأي في الدين؛ وبالأخص تفسير القرآن، لا يجوز مطلقًا، فما بالك

برأي مخالف لما قاله السلف ولما نقلوه [1] .

ثم نقول لحضرة الدكتور الفاضل: هب أن السلف لم يتكلموا، ولم ينقل عنهم

في تفسير هذه الآية شيء، أفليس الواجب أن نرد كل لفظ إلى أصله، ونحمله على

معناه الحقيقي؟ ولا نقدم على القول بالمجاز ولا نعدل إليه؛ إلا إذا تعين بقرينة،

فإذا عرفت ذلك، نقول: قال في القاموس نسخه: كمنعه أزاله وغيَّره وأبطله،

وأقام شيئًا مقامه، والشيء مسخه، والكتاب كتبه عن معارضة؛ كانتسخه

واستنسخه، المنقول منه نسخة بالضم وما في الخلية حوله إلى غيرها ، انتهى.

والمعنيان الأخيران لا يصح حمل الآية المتنازع في تفسيرها عليهما اتفاقًا،

فلا يبقى إلا الإزالة والتغيير والإبطال، فإذا كان المراد بالآية في قوله تعالى: ما

ننسخ من آية المعجزة، كما يقول حضرة الفاضل، فما معنى إزالتها أو إزالة مثلها

فإنه لا يزال ولا ينقل إلا ما كان ثابتًا في الخارج ، وأما ما يعدم ويفوت بفوات

وانقضاء زمنه، فلا يقال: أزاله ولا يزيله، نعم.. يقال في مجاز اللغة: أزلت

حجته بمعنى بينت كذبها وعدم صحتها، فإذا أريد بالآية المعجزة، فلا يجوز حملها

على معنى الإزالة حقيقة ولا مجازًا، بقي التغيير والإبطال، والقول فيهما كالقول

في الإزالة، وهل يصح أن يقال: إن الله غيَّر وأبطل معجزات الأنبياء السابقين،

فإذا فسد التفسير بحمل الآية على المعجزة، تعين حملها على آيات الإحكام ونحوها

من آيات القرآن؛ لصحة قولنا حكم كذا، وأقمت مقامه حكمًا آخر، أو أزلت الكلمة

وأقمت مقامها كلمة أخرى، فما ذكرناه في تفسير الآية هو الحقيقة التي لا يصلح

إرادة غيرها، بذلك قال السلف كما عرفت ذلك عنهم فيما سلف، ولو جوزنا العدول

عن الحقيقة إلى المجاز بلا قرينة، ولا مرجح للعدول، وسلمنا ما قال: بأن النسخ

قد يكون بمعنى الترك، فكذلك لا يصح إرادة ما قاله الفاضل، ولا يجوز أيضًا؛

لأن ترك الشيء لا يكون إلا إذا أمكن فعل ذلك الشيء نفسه، والمعجزة الفعلية التي

وقعت وانقضى زمنها: كانقلاب عصا موسى عليه السلام حية مثلاً، لا يمكن أن

تعاد نفسها لا سيما مع عدم وجود العصا، فإن قيل: المراد مثلها، قلنا: وهذا

مجاز بتوسط تأويل، ولو سلمناه أيضًا فإنه لا يصح حمل الآية عليه؛ لأنه لا يصح؛

إلا بعد أن يثبت أن الله قدر وكتب في الكتاب الذي كتبه لكل مدة مضروبة بأن سيؤيد

محمدًا صلى الله عليه وسلم بمثل تلك المعجزات الماضية مماثلة من كل

الوجوه، فإذ قدر أنه عدل عن ذلك إلى ما يماثلها من بعض الوجوه، جاز أن يقال:

ترك هذا المثل لهذا المثل، ولا يخفى أن الهجوم على ذلك بلا توقيف جراءة

واستبداد على الله.

فإن قيل: لا نقول إنه ترك ما كتب، وقدر أنه يؤيد به محمدًا صلى الله عليه

وسلم كما ذكرتم، قلنا: إن تنظير الدكتور للنسخ في هذه الآية بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ

مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) صريح فيما ذكرنا فساده.

ونقول أيضًا: إن ما هو نحو المعجزات من الأفعال التي مضت وانقضت هي

الآن معدومة، فإن قيل: المراد مثالها الموجود في بعض الأذهان، فيجوز تركه، قلنا

ذلك ممنوع؛ لأن الموجود في الأذهان المذكورة، إنما هو التصديق بتلك المعجزات

ونسخه إنما يكون بنقضه وتكذيبه وهو محال أيضًا ما في أذهانهم، لو أوجده الله

في الخارج؛ فهو لا يكون إلا نفس المعجزات الماضية التي قد عدمت، والأفعال

التي قد وقعت لا يمكن أن تعاد نفسها، وما كان كذلك فلا يقال: إنه تركه، وعليه

فالنسخ بمعنى الترك، لا يمكن أن يفرض إلا فيما يماثل من بعض الوجوه ما حفظه

بعض الناس من معجزات الأنبياء، وحينئذ لا يكون المنسوخ في الآية ما قد وجد،

ولا مثاله الموجود في أذهانهم، بل هو ما يماثل مثاله من بعض الوجوه، وهذا إنما

هو معدوم؛ لأنه غير موجود في الأعيان ولا في الأذهان، ومعلوم أن الله لم يرد

أنه نسخ أو ترك المعدوم المطلق، أو أنه أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بخير

منه أو مثله؛ لأن الخيرية والمثلية لا يوصف بها المعدوم، فظهر بذلك أن المعنى

الذي حمل الآية عليه حضرة الفاضل لا يصح إلا فرضه في المعدوم المطلق وسياق

الكلام ومعناه يأبى ذلك، وإلا للزم وصح أن يقال: إن كل ما أوجده الله فهو بدل

ومثل ومسبب عن ترك معدوم مطلق، لم يقدر في كتاب، وهذا لم يقله أحد.

هذا بعض ما نقوله في المنسوخ الذي ذكره الله في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ

أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقد عرفت أنه لا يصح أن يفرض شيئًا مما قدمنا

بيانه. أما معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم: فلا شك أنها قد وفت وقامت بتأييد

رسالته صلى الله عليه وسلم، كما قد وفت معجزات الأنبياء السابقين بتأييد رسالاتهم

وزيادة. لكن إطلاق أن هذا ناسخ لهذا لا يصح في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ

مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقوله (فكل آية من آيات الأنبياء السابقين إلى

قوله: قد أتى الله بمثلها في الإقناع والهداية أو بخير منها، قلت: نعم.. والأمر

كذلك إلا أنا قد قدمنا فساد فرض المنسوخ بمعنى المعجزة، وعليه فما أتى الله ومنَّ

به على نبينا من المعجزات، فليس بدلاً عن معجزات الأنبياء السابقين؛ على معنى

أن تكون ناسخة لتلك، ولو كان كل معجزة لنبي متأخر ناسخة لمعجزات من تقدمه،

لكانت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لمعجزات عيسى عليه الصلاة

والسلام، ومعجزات عيسى عليه السلام ناسخة لمعجزات من تقدمه، وهلم جرًّا ،

وعليه فما أتى به محمد من المعجزات؛ لا تكون بدلاً لكل معجزات الأنبياء السابقين

وإلا للزم نسخ المنسوخ حين هو منسوخ [2] .

ونقول أيضًا: يلزم الفاضل المذكور في الأدلة المتعددة المختلفة الحقائق

على صحة المدلولات المتماثلات، والمدلول الواحد تصحيح إطلاق أن كل واحد

منها ناسخ للآخر، فليتأمل الناظر وليحكم بما شاء بشرط الإنصاف.

أما قول الفاضل الممدوح: وإذا كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل

أتى تعالى بدل الآيات المنسوخة بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف

نسخ كثيرًا من أحكام القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ وأقول: قد عرفت أنه لا

يمكن حمل ذلك على غير آيات الأحكام، ونقول: نعم.. إنه قد عوضنا بدل كل آية

نسخها ورفعها بما هو مثلها وأفضل منها، وذلك موجود في هذا القرآن الذي بين

أيدينا. أما قوله: فكيف نسخ كثيرًا من القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ فجوابه أنه

لم يفضل أحد أحكام القرآن على أحكام السنة؛ لأن الكل من الله، والحكم الناسخ

سواء كان في القرآن أو في السنة، هو أكثر خيرًا من المنسوخ، ولا تفاوت في

نفس الحكم إلا أن هذا يكون أصح من هذا، كما سيأتي بيانه. نعم ألفاظ القرآن هي

أفضل من ألفاظ الأحاديث، ولم يقل أحد أن لفظ الحديث ناسخ للفظ القرآن، فما

أراد إيراده غير وارد، فتأمل.

ونحن قدمنا الكلام في اختلاف العلماء في النسخ فارجع إليه، فمن يجوز نسخ

القرآن بالسنة، بعضهم يقول: إن ذلك جائز لكنه لم يقع، وأما من يقول منهم

بوقوعه فلهم أن يفرقوا بين نسخ الآية ونسخ حكمها؛ بأن يقولوا: إنه من المعلوم

بالضرورة أن الدين كله سواء كان قرآنًا أو وحيًا غير قرآن - وهو السنة - إنما

عرفناه بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرفنا صدقه وصحة نبوته

ورسالته، فلا يجوز لنا أن نقبل بعض ما جاء به، ونترك البعض الآخر؛ إذ لو

فعلنا ذلك لكنا مكذبين له صلى الله عليه وسلم في ذلك البعض، وذلك كفر في دين

الله، وبه كما قال تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) بناء عليه يجوز أن يكون بعض أحكام السنة خيرًا من الحكم

المنسوخ الذي كان في القرآن، وإذا كان المراد بالخيرية أن يأتي بخير منها أي ببدل

ذي مصلحة راجحة، فلا قباحة في أن يقوم الحديث النبوي بدلاً عن لفظ آية

وحكمها معًا.

أما الوصية للوالدين والأقربين الوارثين فالجمهور يقولون: إن الناسخ لها إنما

هي آية المواريث، والسنة مبينة وشارحة لذلك الناسخ. هذا بعض أجوبتهم، وهو

مانع ودافع لكل إيراد، قلت الإيراد الصحيح في الآية: إنما يتوجه على مذهب

حضرة الدكتور الفاضل؛ لأنه إذا منع النسخ في القرآن مطلقًا به أو بالسنة، لزمه

أن الواجب للوالدين الوصية، والنصيب الذي فرضه الله لكل واحد منهما في آية

المواريث، وحينئذ يعترض عليه، ويقال: إنه إما أن يكون ما فرضه لها وافيًا

بحقها، أو ليس بواف بحقهما وعلى كل تقدير. إما أن يلزم النقص أو الظلم [**] لا

يقال: إن الوصية إنما ندب إليها ولم يوجبها؛ لأنا نقول: إن الاعتراض وارد على

الاستحباب أيضًا، على أن في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 180) في

أول الآية وقوله: {حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 180) في آخرها دلالة ظاهرة

لا يعتريها شك، ونص في الوجوب فالاعتراضات الواردة الصحيحة إنما ترد على

مذهب الفاضل الدكتور.

قال الفاضل: وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؛ كقوله عشر

رضعات معلومات يحرمن الذي نسخ على زعمهم بقوله: خمس رضعات معلومات

ثم نسخ لفظ هذا الأخير، ولم يأت بدله؟ قلت: والجواب من وجوه، وهو يختلف

باختلاف مشارب الناس في هذا الموضع.

(الأول) من لم يشترط التواتر في نقل القرآن، وهؤلاء يقولون: إن آية

(؟) الخمس الرضعات المعلومات هي آية (؟) من القرآن الكريم، وهي

محفوظة بهذه الرواية ونحوها، ولها عندهم حكم القرآن المتلو، ومن يقول بذلك فلا

يرد عليه اعتراض حضرة الدكتور الفاضل ههنا من أصله، فإن كان يرد عليهم

اعتراضات أخرى، فإنهم قد أجابوا عنها.

(الثاني) قول من يقول: إن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وناسخه لا يكون

إلا قرآنًا أو سنة كذلك.

(الثالث) إنا نختار أن نقول: لا شك أن العشر الرضعات قد ثبت أنهن كن

فيما نزل من القرآن الكريم، وثبت إنهن نسخن، ونقل المنسوخ لا يشترط فيه

التواتر؛ لأن اشتراط التواتر في القرآن إنما التزمه من التزمه؛ لأن من خالف

الإجماع يكون شاذًّا مخالفًا لما نقله جميع الصحابة، من حصرهم القرآن المحكم في

هذا المصحف الموجود بين أيدينا، وإذا صرح وقيد الناقل أن ذلك قد نسخ لفظه أو

وحكمه فلا شك أن ذلك يخرجه عن الشذوذ، فلا يكون مخالفًا للمتفق عليه من القرآن

لجواز أن يكون الصحابة رضي الله عنهم تركوا نقله؛ لكونه منسوخًا لفظًا.

بقي البحث في الناسخ؛ وهو الخمس المعلومات، ثم هذه الخمس المعلومات،

هل هن قرآن محكم باقٍ لفظه وحكمه، أم ليس هن بقرآن؟ وقد قدمنا قول من لم

يشترط التواتر، وبعض من يشترط التواتر يقبل الحكم ولا يقبل القرآنية، فمن

يقول: إن القرآنية المنقولة بنقل الواحد ونحوه إذا خالفت المصحف كانت شاذة،

فمخالفة الجمهور أسقطت القرآنية؛ لاحتمال أن يكون الراوي الواحد ونحوه نقل ما

كان منسوخًا لفظه، ولم يعلم بنسخ لفظه أو أنه ظن أن ذلك قرآن. أما الحكم

المتضمنة له تلك الرواية فهو غير معارض بنقل الجمهور للقرآن، وباب الحكم غير

باب اللفظ والقرآنية، فمن هنا قالوا بقبول الحكم ورد القرآنية فتفكر.

وآية عدد الرضعات المرفوعة المنسوخة؛ هي ليست في الحقيقة مما يصح أن

يورد عليها ما أورده، الفاضل يعرف ذلك بجمع أطراف الرواية، ودونك ذلك روي

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن (عشر رضعات

معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم

وهن فيما يقرأ من القرآن، رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي لفظ قالت: وهي

تذكر الذي يحرم من الرضاعة: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل

أيضًا خمس معلومات، رواه مسلم. وفي لفظ قالت: نزل في القرآن عشر

رضعات معلومات، فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات،

فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمرعلى ذلك، رواه الترمذي وفي لفظ كان

فيما أنزل الله عز وجل من القرآن ثم سقط، لا يحرم إلا عشر رضعات أو

خمس معلومات، رواه ابن ماجه ، والناظر يرى أن الصديقة رضي الله عنها لم تذكر لا الناسخ ولا المنسوخ بلفظه ولا سياقه، ولم تبين محله، نعم..

روايتها ظاهرة في أن عدد الرضعات كان قرآنًا في الجملة، وبعضها ظاهرة في أن

العشر نسخن بالخمس، ورواية الترمذي هي صحيحة؛ ولا تتبين دلالتها على أن

الخمس التي هي بدل عن العشر أنها كانت قرآنًا، ولا تدل على أن النسخ وقع

بالخمس أيضًا، وبناء على ما تقدم فقولها رضي الله عنها: فتوفي رسول الله

صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن أي: إن بعض من لم يبلغه النسخ

كان يقرأ ذلك؛ وهو مع شذوذه عما نقل الجمهور لم يثبت قراءته في المصحف،

ولعله رجع عن ذلك، ثم يحتمل كلامها أن من بقي يقرأ كان يقرأ العشر والخمس

معًا، أو أنه كان يقرأ الخمس فقط؛ ظانًّا أن ذلك لم ينسخ، وهذا الاحتمال الأخير

بعيد. فهذه احتمالات ، وأما حديث ابن ماجه عنها؛ فظاهر أن العشر أو الخمس

إنما هو آية واحدة، ودلت هذه الرواية على أن الكل رفع وبناء على ذلك إن من

لازم نسخ العشر، أن تنسخ الخمس معها وترفع برفعها لكونها جزءًا من آية، ولأن

الخمس إنما هن معطوفات على العامل في العشر فهي منسوخة بالتبع؛ لعدم

جواز بقاء لفظها بعد نسخ أول الآية، وإلا لبقيت غير معلومة المعنى، ومثل ذلك

لا يجوز بقاؤه أو وجوده في القرآن، فاندفع ما أورده الدكتور الفاضل؛ فقوله في

حديث مسلم رحمه الله ثم نسخن بخمس معلومات أي: بقاء حكم جزء الآية المرفوع

لفظه بالتبع، وهي الخمس المعلومات ناسخ للعشر المقصود رفعها، ونسخ حكمها

بالأصالة والذات وبقي بعض من لم يبلغه رفعها ونسخها يقرأها هكذا: لا يحرم إلا

عشر رضعات أو خمس معلومات.

قلت: وقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) يصح أن

نقول: إنه بدل عن هذا المرفوع، ورواية أم المؤمنين رضي الله عنها قد أثبتت أن

حكم العدد محكم، فتحريم الأمهات المرضعات في هذه الآية وارد في رضاعة

معلومة؛ وهي الخمس الرضعات. وعائشة رضي الله عنها يتعين أن تكون سمعت

من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن هذا كله منسوخ حكمه ولفظه،

وناسخ ذلك الإطلاق في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) فما وصل الجوف هو الرضاع المحرم، ومنهم من قال: إن الله

أطلق تحريم المرضعة، والمرجع في ذلك إلى السنة، وقد ورد أن المصة

والمصتين، والرضعة والرضعتين، والإملاجة والإملاجتين لا تحرم. وحديث

عائشة رضي الله عنها فيه إناطة التحريم بخمس معلومات، فوجب المرجع

إليه فيما نعتقد، وقدمنا توجيهه، بذلك اندفع اعتراض الدكتور الفاضل أيضًا، وثبت

أن الناسخ لذلك هو القرآن مفسرًا المراد منه بالسنة أو بما له حكم السنة، وظهر بما

قدمناه أيضًا النكتة في نسخ لفظ الخمس، والله أعلم.

وأما آية الرجم فقد قدمنا الجواب عن رفع لفظها وحكمته فلا نعيده. وإذ قد

فرغنا عن جواب كل إيرادات الفاضل في مسألة النسخ، فلنشرع في الجواب عما

أورده من الشبهات على وجوب العمل بأحاديث الآحاد الصحاح فنقول.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) المنار: الكلام صريح في بيان سبب إنكارهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن أهل الكتاب يحسدون العرب فيريدون أن ينزل الوحي على رجل منهم فهم لذلك ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والمشركون ينكرون النبوة من حيث هي فالكلام في النبوة لا في الأحكام الجزئية التي في الوحي وهي أقل ما فيه، والشرع المحمدي عقائد ومعارف إلهية وآداب وعبر وأخلاق كريمة، وأحكام عملية والعقائد هي الأساس والكلام في ركن النبوة منها لأن غيره يبني عليه فالمناسب أن تكون الآية ما يؤيده.

(1)

إن من يفسر آية بغير المروي عن واحد أواثنين وثلاثة من السلف لا يسمى مخالفًا للسلف لا سيما إذا اختلفوا وإلا لكان جميع العلماء مخالفين للسلف حتى الأئمة المشهورين وإنما مخالفة السلف المذمومة هي مخالفة سنتهم التي جروا عليها في أمر الدين والابتداع فيه.

(2)

المنار: كل هذه اللوازم التي أوردها ممنوعة، ويمكن إيراد معنى المماثلة من كل الوجوه أو بعضها على التفسير المشهور للآية، وأن من يفسر الآية هنا بما يؤيد الله به الأنبياء كأبي مسلم لا يقول إذا أزال الله ما يؤيد به بعض رسله من آية في زمن رسول آخر وأيده بغيرها فإنه يكون ناسخًا للسابقة باللاحقة بل يقولون إن المعنى إذا لم يؤيد الرسول المتأخر بآية المتقدم بأن أزال تلك الآية وما أراد إعادتها فإنه يؤيده بمثلها أو بخير منها في إثبات الرسالة. ويمكن أن يفسر لفظ النسخ على هذا الرأي بما ورد في المأثور الذي هو القرآن خطًّا ومعنى فيعرفها الناس أو ننسها الناس بترك الإعلام بها فإننا نأتي بخير منها أو مثلها في تأييد رسلنا، وبذلك يبطل قول بعض الكافرين {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 5) ما في معناه مما حكاه الله تعالى عن المعاندين.

(**) ورد عن عليٍّ وابن عباس وهما أعلم السلف بالتفسير أن الآية خاصة بمن لم يرث ويمكن للدكتور أن يقول به وهو ليس ممن ينكر التخصص وإن سمي نسخًا على أنه يمكن منع استلزام الظلم والنقص بجعل الوصية خاصة من وجه آخر كأن يكون بعض الورثة فقيرًا عاجزًا عن الكسب وبعضهم غنيًّا فيوصي للعاجز الفقير.

ص: 289