المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خوارق العادات في الإسلام [*] - مجلة المنار - جـ ١٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (12)

- ‌المحرم - 1327ه

- ‌فاتحة السنة الثانية عشرة

- ‌خطاب صاحب المنارعلى طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

- ‌المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

- ‌الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

- ‌تنبيهُ الجرائد السوريةإلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*]

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةوما قيل فيه

- ‌الحجاز بعد الدستور [*]

- ‌العام الهجري الجديد

- ‌خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*]

- ‌جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

- ‌نهضة الأزهريين

- ‌ندوة العلماء الهندية

- ‌لقب حاكم المسلمين

- ‌التاريخ الهجري الشمسي

- ‌ذيل لكشف الظنون

- ‌صفر - 1327ه

- ‌أوراق اليانصيب وسندات المصارف

- ‌دين المستقبلوهل يكفر من له رأي فيه

- ‌تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد

- ‌منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

- ‌فتاوى المنار

- ‌تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [

- ‌خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

- ‌الحرية واستقلال الفكر

- ‌خوارق العادات في الإسلام [*]

- ‌التربية والأمهات

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر

- ‌ربيع أول - 1327ه

- ‌مسألة خلق القرآن وقدمه

- ‌جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

- ‌القضاء والقدر

- ‌الدولة العثمانية بعد الدستوروجمعية الاتحاد والترقي

- ‌الدستوروجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

- ‌ربيع الآخر - 1327ه

- ‌أسئلة من جاوه

- ‌أسئلة من الجبل الأسود

- ‌الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر

- ‌إحدى الكبر وكبرى العبر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الأولى - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌الانقلاب الميمونوأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

- ‌الذكر ورابطة النقشبندية

- ‌النساء والحجاب والتعليم

- ‌خطبة خطيبة مصرية على النساء

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الآخر - 1327ه

- ‌الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها

- ‌خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

- ‌أم كلثومبنت النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌عهدٌ موضوعٌزعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى

- ‌رسم المصحف

- ‌بحث في خطبة العقيلة المصرية

- ‌الجزية وتجنيد أهل الذمة

- ‌التعصب الديني في أوربا

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌رجب - 1327ه

- ‌التعصب الديني عند الإفرنج

- ‌الجنسيات العثمانيةواللغتين العربية والتركية

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌خطبة في عيد الدستور

- ‌عيد الدستور بمصر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌شعبان - 1327ه

- ‌البلاغ المبين

- ‌اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين

- ‌الدستور والحرية والدين الإسلامي

- ‌استشارة غير المسلمينوالاستعانة بهم في الحرب

- ‌أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

- ‌نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

- ‌المدرسة الكليةالأمريكانية في بيروت

- ‌رمضان - 1327ه

- ‌النسخ وأخبار الآحاد

- ‌الانقلاب العثماني الميمون

- ‌الأخبار والآراء

- ‌كتاب التوسل والوسيلة

- ‌فتن رمضان في دمشق الشام

- ‌شوال - 1327ه

- ‌الصوفية والفقراء [*]

- ‌الشيعة والمسلمون

- ‌مكة المكرمة والجرائد العربية [*]

- ‌إيضاح وانتقاد

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

- ‌ذو القعدة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أبو حامد الغزالي [*](7)

- ‌تعصب أوربا الديني والحج

- ‌الشيعة وتعدد الزوجات

- ‌الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*]

- ‌حركة الإصلاح في جاوة

- ‌مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو الحجة - 1327ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌العرب والترك [*]

- ‌أسباب سقوط الدولة الأموية [*]

- ‌المطبوعات الجديدة

- ‌التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

- ‌خاتمة السنة الثانية عشرة

الفصل: ‌خوارق العادات في الإسلام [*]

الكاتب: محمد توفيق صدقي

‌خوارق العادات في الإسلام [*]

(أطوار البشر والمعجزات - المعجزات العقلية والحسية - علم الغيب -

التنويم المغنطيسي - استحضار الأرواح - الكهانة - الأحلام - السنن الكونية

والمعجزات - جرائم الأمم والأفراد والعقوبات الإلهية عليها) .

أتى على الإنسان حين من الدهر، كان في طور أشبه بطور الطفولية،

فسادت الأوهام والخرافات على العقول البشرية، وكثر بين الناس الدجالون

والمحتالون، والسَّحرة والمشعوذون، وملكوا نواصي الناس بإفكهم وكذبهم،

وصاروا يتصرفون في جميع أمورهم، فما كان أحد يقدم على عملٍ ما إلا بعد

مشاورتهم والاسترشاد برأيهم، فكان الناس في أيديهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً

عقول فاسدة، وأراء كاسدة، وأفهام ساذجة، وبصائر قاصرة، وجهل وأوهام،

وخرافات وخزعبلات تقيمهم وتقعدهم، وتفرحهم وتحزنهم، فإذا برق بارقٌ من

السماء ارتجفوا واضطربوا، وإذا نزلت صاعقة من السحاب ماجوا وارتعبوا، وإذا

أصابهم مرض ما، علقوا لدفعه الأوراق أو استنجدوا براقٍ، وإذا نظر إلى بنيهم

ناظر حوطوهم بالتمائم، وأطلقوا حولهم بخور المباخر، إذا كسفت الشمس أو

خسف القمر، صاحوا ودقوا الدفوف وقرعوا الطبول؛ لإرضاء آلهتهم على ما

يزعمون، إلى غير ذلك من الأوهام والأباطيل.

هذا كان شأن الجماهير إلا من شذ منهم وندر، وأضاء الله عقله بشيء من

نور العلم، ومع ذلك ما كان يسلم عقله من جميع ترهاتهم.

سار الله - تعالى - مع تلك الأمم في هذا الطور سير الأب الحكيم مع أبنائه

في طفوليتهم، فأكثر فيهم الهادين والمرشدين، والأنبياء والمرسلين، فأكثروا من

وعظهم ونصحهم وإنذارهم ووعدهم ووعيدهم ، وخذلوا من كانوا متسلطين على

عقولهم من السحرة والمشعوذين؛ بما أجراه الله على أيديهم من المعجزات، وأظهره

لهم من الآيات البينات التي تركت السحرة مغلوبين على أمرهم حيارى في شأنهم،

ولولا تلك الآيات لما قدر الأنبياء على تخليص أممهم من حبائل الدجالين والمحتالين،

بل الأبالسة والشياطين، فكانوا إذا ظهرت تلك المعجزات بهرت منهم العقول،

وحيرت الأفكار، وأعجزت السحرة، وأدهشت الناس، فيخضع المستعد منهم لهيبة

من ظهرت على أيديهم. فيؤمنون له ويتبعونه، ويطيعونه فيما يأمرهم به {وَمَا

نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) ، ثم يأخذ الله المعاندين الذين خالفوا

ضمائرهم، وكابروا عقولهم وأبصارهم، ولم يميزوا بين الغالب والمغلوب،

والصادق والكذوب، بأنواع من العقوبات تناسب أحوالهم جزاء لهم وعبرة لغيرهم؛

لعلهم يرشدون.

مضت الأيام والأعوام، وتوالت القرون والأجيال، وانتقل البشر من حال إلى

حال، وارتقوا من طور إلى طور ، فأخذت العقول تستنير، والأفكار تضيء

والسحر يضمحل، والأنبياء من بينهم تقل، حتى ختمت النبوة ببعثة سيد الأنبياء

والمرسلين، وأكبر الهادين والمصلحين.

كان البشر في عهد البعثة المحمدية، قد خرجوا من طور الطفولية إلى سن

الرشد، فأصبحوا لا يناسبهم من الدلائل والبراهين ما كان يناسبهم في القرون

الأولى، وقل فيهم تأثير المحتالين والدجالين والسحرة والمشعوذين 0 وصاروا

يرجون الهداية من طريقها، فساعدهم الإسلام على ذلك، ونهج بهم منهجًا لم يسبقه

به دين من قبل، فجعل الحجج العملية والدلائل العقلية رائده في جميع دعاويه،

وعليها معتمده في كل مبانيه، وقلل من شأن المعجزات الحسية بقدر الإمكان، حتى

لا تكون عقبة في رقي عقل الإنسان في مستقبل الزمان، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن

يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) فإن البشر في عهد النبوة المحمدية، أخذوا يدركون قيمة

المعجزات الحسية، وأنها لا علاقة بينها وبين دعوى النبوة، وأنها لا يسهل تميزها

عن غيرها من أعمال السحرة والمشعوذين، والصناع الماهرين، وأنها إن أقنعت

تلك العقول القديمة، وأرهبت تلك النفوس وهي صغيرة وحملتها على الإيمان،

فإنها أصبحت لا تغني العقل فتيلاً، ولا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، وإن الدليل إن لم

يكن له من العقل أكبر نصير، فهو أضعف ضعيف. ومن كان يطلب من النبي

صلى الله عليه وسلم تلك المعجزات، فما كان يريد بها إلا الإعنات والإعجاز،

والسخرية والاستهزاء، وإلا فإن أمامه من البراهين والآيات ما يشفي علة النفوس،

ويروي غلة العقول {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ

لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) وأما ما أظهره الله - تعالى -

على يديه من المعجزات الحسية، فلم يكن يراد به إلا إفحام المعاندين المستهزئين،

والزيادة في تثبيت المهتدين. وقد كان جل اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم في

إثبات دعوته على القرآن وحده. كما يتضح ذلك لمن تدبر آياته. فإنه هو المعجزة

التي تلتئم مع الدعوة، وتعلو بالعقل إلى مستوى العلم والفهم، وتناسب حال الأجيال

من بعده، فلا تقف عقبة في سبيل نظرياتهم وتفكيرهم، ومعلوماتهم واختراعاتهم،

ولا تلتبس عليهم بحيل الدجالين وتدليس المحتالين، ولا بكذب القصاصين وإفك

الراوين، وتخيل الواهمين، واختراع الكاذبين، بل تساعدهم على البحث،

وتحضهم على التفكير والنقد، والتمحيص والاستدلال والاستنتاج.

فببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ختم عصر العجائب والغرائب، وبدأ عصر

العلم والعقل، فهو الحد بين العصرين، فلذا كانت معجزاته تشمل هذا وذاك، وكان

أجلها وأكبرها والباقي منها وهو القرآن مناسبًا لزمنه-عليه السلام، ولكل ما أتى

بعده من الأزمان فلا يناسبها غيره.

وكما ختم عصر المعجزات، وتمت النبوات، كذلك أغلق باب الكهانة،

فكأن الله - تعالى - في العصر الأول والبشر في طور الطفولية كان يتجلى

لأبصارهم، وفي العصر الثاني وهم في طور الرجولية صار يتجلى لبصائرهم أكثر

مما يتجلى لأبصارهم. فإن بصائرهم في العصر الأول كانت ضعيفة لصغرها فلا

تتحمل أن تراه، فلذا كان يظهر لأبصارهم بأنبيائه ورسله الكثيرين، وآياته

ومعجزاته، وبعض مخلوقاته: كالجن الذين كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى

فيخبرون به بعض البشر؛ وذلك لأن الأب مع أطفاله يكثر التكلم معهم، وتأديبهم،

وتهذيبهم، وترغيبهم، وترهيبهم، ومكافأتهم بالماديات، أو معاقبتهم على حسب ما

يبدو منهم. فإذا صاروا رجالاً كف عن ذلك، واكتفى بإبداء بعض تعاليمه العامة

وإرشاداته المكتسبة من طول التجربة والاختبار، وتركهم يستعملون عقولهم فيما

يرونه صالحًا لهم، كذلك فعل الله تعالى (وله المثل الأعلى) بعد أن بلغ الإنسان

رشده، أعطاه الشريعة العامة والقواعد الثابتة، وأباح له التصرف في الأمور

بحسب ما يرشده إليه عقله، فبعد أن كان يوحي للأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً في

كل جزئية من جزئيات الأمور، اكتفى الآن بما في القرآن الشريف من القواعد

العامة والأصول الثابتة، فإنها - مع ما يوحيه إلينا العقل - كافية لهدايتنا في جميع

الأمور بعد أن بلغنا رشدنا.

لذلك أغلق الله - تعالى - باب الوحي والمعجزات والكهانة، وأخبرنا بذلك كله

صريحًا في الكتاب العزيز، فلم يبق لمحتال علينا ولا لمشعوذ أدنى وسيلة، وبذلك

خلص العقل البشري من الأوهام والخرافات والترهات، وأصبح طريق العلم أمامه

واضحًا لا يحجبه عنه حاجب، ولا يقف أمامه فيه واقف. ولكي لا يبقى هناك ثلمة

في نفس أحد من المؤمنين، يصل إليه منها شيطان من الشياطين، نَصَّ الكتاب

العزيز نصًّا صريحًا لا يقبل التأويل على أن الغيب علمه عند الله لا يعلمه إلا هو،

وأن الأمور كلها بيد الله، يصرفها كما يشاء لا يراعي فيها مجاملة أحد من عباده،

فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ إِلَاّ

مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ

نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثل ذلك في القرآن كثير

يصعب أن يستقصى في مثل هذه المقالة.

يقول واهم: إذا كان الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، فما بال التنويم المغنطيسي

واستحضار الأرواح، والأحلام الصادقة تكشف كثيرًا من الغيب، وكانت الكهانة

تكشف كثيرًا منه من قبل؟

فاعلم أن الشخص في حالة التنويم المغنطيسي لا يمكنه أن يعلم شيئًا مما لم

يوجد، فلا يمكنه أن يطلع على الغيب؛ أي: لا يمكنه أن يعرف شيئًا مما لم يكن له

وجود، وهو في تلك الحالة المخصوصة، وغاية الأمر أنه لا يحجبه عن رؤيا

بعض الموجودات حاجب؛ لصفاء روحه عن كدورة المادة إذ ذاك، ومن هنا تتسع

دائرة معلوماته عن بعض الموجودات، فيمكنه أن يخبر بالقياس أو الاستنتاج مما

علم عن بعض أشياء قبل وقوعها: كالأمراض التي ستصيبه مثلاً بعد وقوفه على

حالته الجسمية، كما يخبر الطبيب عن بعض الأشياء المرضية قبل حصولها؛

لمعرفته الأمراض وأسبابها ومسبباتها وأعراضها، وكما يخبر الفلكي عن الكسوف

والخسوف قبل وقوعهما؛ أي: إن الشيء إذا لم يكن موجودًا فلا يمكن العلم بوقوعه

إلا قياسًا أو استنتاجًا واستنباطًا من موجود، وإلا فالغيب (وهو ما غاب عن

الإنسان لعدم وجوده مطلقا أو لعدم وجود ما يستدل به عليه) علمه عند الله لا يعلمه

إلا هو، ولا يعلمه أحد من عباده إلا إذا أطلع هو (جل شأنه) أحدًا على شيء منه

فيخبر به، ويفشو بين الناس، كما أطلع الله رسله (الملائكة والأنبياء) على بعض

الغيب، فعلموا وعلمه الناس منهم، وكما كان يعلم بعض ذلك بعض الجن قبل إبطال

الكهانة، واستراق السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر، فيخيل للناس

أنهم يعلمون الغيب، والحقيقة أنهم أُخبروا بما أخبروا به، ولنا الآن في مسألة

استحضار الأرواح دليل قاطع حسي على إمكان اتصال البشر (ومنهم الكهنة)

بالعوالم الأخرى الروحية (ومنهم الملائكة والشياطين) ، وبذلك يمكن البشر

الاطلاع على بعض المغيبات من هذه الطريق، كما يمكنهم أن يطلعوا على بعضه

في طريق الأحلام الصادقة، فإنها من بقايا الوحي إلى بعض النفوس الصافية،

وفيها يُري الله - تعالى - بعض عباده شيئًا مما سيكون بإرادته، كما كان يوحي

إلى الأنبياء من قبل، وليس للبشر في معرفة شيء من ذلك اختيار، بل هو شيء

يفعله الله متي شاء، وكيف شاء.

أمَّا عِلم أحد من تلقاء ذاته (أي: بدون وحي أو سماع من غيره) وبغيب

حقيقي (أي: لا يستدل عليه من موجود) فهو محال، إلا على الله الفاعل المختار

الذي يفعل ما يشاء متى شاء، وكما شاء. ودعوى معرفة أحد غيره الغيب دعوى

باطلة كاذبة، لا يمكن لأحد الجزم بوقوع شيء من الغيب باليقين، وما يقع منه

مطابقًا للخبر، فلا يكون إلا اتفاقًا ما لم يكن موحى به.

فالغيب المنفي علمه في القرآن الشريف هو هذا الذي ذكرناه، أي: الغيب

الحقيقي لا مطلق الغيب. فإن الغيب أمر اعتباري، فما غاب عنك لا يغيب عن

غيرك، وما لم تعرفه لجهلك بشيء ما، يعرفه غيرك ممن علم هذا الشيء أما مسألة

إنكار المعجزات بسبب مخالفتها لما اعتاد الناس، فهي من السخافة بمكان

نعم، إن سنن الله - تعالى - في هذا العالم لا تتبدل ولا تتغير، كما نطق به

القرآن الشريف في عدة مواضع منه. ولكن خرق العادة ليس خرقًا للسنة، فإن من

سنة الله إيجاد الشواذ في كثير من الأشياء المعتادة، إذا اقتضت حكمته ذلك. ولذلك

نشاهد في عالمي الحيوان والنبات من الشواذ التي يسمونها (الفلتات الطبيعية) ما

يصعب حصره، وما قال أحد بأن هذه الشواذ خارقة لسنن الكون ونواميس الوجود،

وإن كانت خارقة للمعتاد. ولو سألتهم عن حكمة وجودها أو عن كيفية خلقتها،

لعجزوا عن الجواب. أما نحن فنقول: إن الحكمة في وجود مثل هذه الأشياء الشاذة

هي أن الله - تعالى - يريد أن يرينا شيئًا من مبلغ قدرته وعظمته وأن قدرته

تعالى لا تقف عند الحد الذي تعهدناه، بل هي أوسع من أن تحيط بها مداركنا. وأما

كيفية خلق هذه الشواذ والعلل المباشرة لتوليدها، فإنا نجهلها الآن كمال الجهل،

وربما علمنا عنها شيئًا في المستقبل. كذلك نحن نعلم حكمة إيجاد الله تعالى

للمعجزات؛ وهي أنها تخيف الناس، وتلجئهم إلى الاحتماء بالأنبياء، فيتعلقون بهم

ويؤمنون لهم ويتبعونهم، فتصلح حالهم. وتنفرهم من أعمال السحرة والمشعوذين

وتبعدهم عنهم. ولكنا إلى الآن لا يمكننا أن نفهم كيفية إيجادها، ولا الأسباب التي

تنشئها، وغاية ما نقول: إنه هكذا أوجدتها القدرة الإلهية، كما يقول الطبيعي عن

الشواذ هكذا وجدت، إن كان عقله لا يدرك كيفية وجودها.

قد يقول قائل: إن هناك فرقًا عظيمًا بين المعجزات وبين هذه الشواذ الطبيعية التي

اتخذتها مثالاً لها، فالمعجزات لا يشاهدها أحد الآن، بخلاف الشواذ فإنها تشاهد كل

يوم، فإن كانت المعجزات حقيقية وجارية على سنن الكون، فلم انقطعت الآن؟ ؟

ونقول: أما انقطاع المعجزات فهو لانقضاء زمن الأنبياء، ولو وجد داعٍ لها

الآن لوجدت، كما أن كثيرًا من الشواذ في العالم الطبيعي قد انقرضت الآن؛

لانقراض الحيوانات والنباتات التي كانت تظهر فيها. فكأن سنة الله - تعالى - في

هذا العالم هي إذا وجدت الحكمة لظهور المعجزات تظهر، ولو وجدت بعض

أنواع من الحيوانات والنباتات البائدة، لوجد فيها من الشواذ المخصوصة في

خلقتها وكيفية معيشتها ما يدهشنا الآن، ويعد من العجائب والغرائب. وقد كانت

الأحياء في مبدأ أمرها تتولد من الجمادات مباشرة؛ وهو ما يسمونه (التولد

الذاتي) ، وقامت البراهين القطعية على ذلك، والآن لا يوجد شيء منه مطلقًا، فلم

ينكره المنكرون لانقضاء عهده الآن، كما انقضى زمن المعجزات؟ ؟ إن هذا لأمر

عجاب! !

بقيت كلمة واحدة تتمة لهذا الموضوع؛ وهي أننا قلنا فيما سبق ما معناه: إن

الله - تعالى - كان يؤدب الأمم السابقة ببعض أنواع من العقوبات المادية،

كالخسف والمسخ والقحط، فهل ما يقع الآن بالأمم من ذلك هو جزاء لهم على

أعمالهم أم لا؟

الجواب: إن ما يفهم من القرآن الشريف هو أن ما يقع بالأمم من المصائب

المهلكة؛ هو عقوبة لهم على أعمالهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا

مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، وكذلك ما يصيب الأشخاص من المصائب؛ هو في

الغالب جزاء لهم على ذنب ارتكبوه {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 14) ، {وَمَا

أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) ولكن لا يفهم من ذلك أن

جميع المصائب هي سبب ما كسبه الإنسان، بل إن ذلك بحسب الغالب؛ فإن الآية

لا تدل على التعميم، وإذا فهم منها العموم فإنه يخصص بمثل قوله تعالى

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (البقرة: 155) الآية. أي إن بعض المصائب قد يراد بها الاختبار أو غيره لا

العقوبة، كما أن قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (النمل: 23) لا يراد به

ظاهره، مع أنه صرح في إفادة الكلية من قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ} (الشورى: 30) الآية. فالله تعالى لم يترك البشر في هذا الطور - طور العلم

والعقل - بدون مراقبة ومجازاة لهم على أعمالهم كلا، بل هو أرحم من الأب الحكيم

لا يترك أبناءه إذا كبروا بدون تأديب لهم إذا كثر إجرامهم، بل قد يتداخل في

أمورهم ويعاقبهم على ما يجرمون. فلا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون.

(المنار)

اتبع الدكتور فيما ذكر من ترقي الدين رسالة التوحيد، وهذا هو الأصل في

نسخ الشرائع الذي يحتج به عليه الشيخ صالح اليافعي في الرسالة التي بعد هذه وهو

لا ينكره، ويرد عليه أن الخوارق لم تنقطع ولكنها لم تعد حجة للدين في هذا العصر

كالعصور الأولى.

_________

(*) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي الطبيب بسجن طره.

ص: 118

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين [*]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن

سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن

لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ

الرسالة، وأدى الأمانة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فإني قد وقفت على الكلمات التي كتبها في الرد عليَّ حضرة العلامة

والمفضال الفهامة الدكتور محمد توفيق صدقي - وفقنا الله وإياه للهداية والتوفيق

آمين - وحيث إني رأيته لم يأت بدليل جديد، وإنما كرر كتابة ما قد بينت للقارئين

فساده في رسالتي السابقة. أردت اختيار السكوت، وأن أفوض إلى قراء المنار

وغيرهم من علماء الإسلام تولي ترجيح أحد القولين، والحكم بتخطئة أحد

الخصمين بعد الفحص عن أدلة الطرفين. ولكن ألح عليَّ في كتابة جواب الجواب

من يعز عليَّ من أهل البيت الأطهار نخبة الأخيار سيدي أحمد بن حسين العطاس

باعلوي - سلمه الله وحفظه - وكذلك كثير من حزب الله المفلحين المصلحين

الصادقين محبي المنار الأغر، فاستخرت الله واستعنت على كتابة هذه الجملة

المختصرة؛ لأنبه أخانا الفاضل على أن ما كتبه في هذا الرد هو نفس ما كتبه سابقًا

مما قد بينا -ولله الحمد- خطأه، وأيضًا هو لم يبطل شيئًا مما كتبناه في رده لا

بنص نقلي ولا بدليل عقلي.

وأما ما ذكر من شبهات غير المسلمين: فهي مما لا قيمة لها إذا عرضها

الفاحصون على معيار التحقيق، وغاية محصلها أن تكون من أضعف الشبهات التي

ربما تعرض وتعلق بخيالات غير الواقفين على حقيقة دين الإسلام، وها أنا ذا أقدم

للواقفين بيان قيمة كل شبهة أوردها العلامة الممدوح عنهم ووجه دلالتها، ثم أتبع

ذلك بردها، وألتمس من حضرة سيدنا شيخ الإسلام، ومرشد الأنام مولانا السيد

محمد رشيد رضا منشئ المنار، أن يصلح ما فيها من القصور والخطل، وأن ينبه

أحدنا على زلته، ويدل على محل عثرته، ولولا أن بذل النصيحة في الدين واجب

لم أكتب ولا حرفًا واحدًا. ولكن امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناصحوا في

العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم) ،

ولنشرع في المقصود بعون الجواد المعبود فأقول:

قال العلامة الفاضل، سلمه الله ووفقنا وإياه للصواب (الكلمة الأولى في

تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن) إلى آخر ما نقل

عنهم، وحاصله أنهم اعترضوا على صحة دين الإسلام ورسالة سيدنا محمد صلى

الله عليه وسلم بوجود النسخ الذي يسلمه المسلمون في القرآن؛ لأنه - أي النسخ -

لا يكون إلا إذا كان المنسوخ ناقصًا ومعيبًا، إما في مغزاه أي غاياته أو معناه أي

مدلول لفظه، أو بلاغته المخل بإعجازه، أو أن الحكم لا يرضاه الناس، أو أنه لا

ينفعهم، أو أنه قد يضر بمصلحتهم.

فمحصل ما ذكروه أن النسخ لا يكون إلا لذلك، وكأنهم يريدون أن صدور ذلك

من الرب واجب الوجود محال، واستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون دين الإسلام

منزلاً من الرب؛ أي لوقوع ذلك فيه، واعتذروا عن قبول العقلاء لذلك؛ بأن سببه

كمال محمد صلى الله عليه وسلم في الدهاء والتحيل، بحيث صار يلعب بعقول

الصحابة. وذكر عنهم ما ملخصه وحاصله أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتم له

ما أراد من التشريع إلا بعد إصلاح ما وقع في دينه من العيب والنقص، وإبدال ما

انتقده عليه المنتقدون، أو عارضه المعارضون، أو عرف أنه يكون كذلك ولو بعد

حين؛ ولذلك تعلق بدهائه إلى إخفاء عيبه وعيب دينه، بتجويز وترويج مسألة

النسخ في قرآنه، ونقل عنهم أنهم قالوا: وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من

القرآن آيات كثيرة، جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وكأنهم يريدون بذلك أنه

كما أنه يستحيل بزعمهم أن يكون القرآن منزلاً من الله، فهو أيضًا غير محفوظ،

ولم ينقل إلينا كله. ودعوى المسلمين أن ذلك مما نسخ الله لفظه تحكم غير مقبول؛

إذ لم يقدر المسلمون على تعليل ذلك بعلة معقولة - ونقل عنهم أيضًا أنهم يزعمون:

أن ما بقي من القرآن في أحكامه شطط، وأن عباراته متناقضة مختلفة وذكر

عنهم اعتراضًا على بعض أجوبة المسلمين التي ذكرناها في رسالتنا السابقة؛

لتسوغ نسخ لفظ القرآن، حيث قلنا: ما أدَّى وظيفته لا يلزم بقاؤه، فنقل عنهم في

معارضة ذلك: أن القرآن مشتمل على مسائل خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم

وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه. قال: فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ

الآيات التي أدت وظيفتها، وانقضى زمنها، وما حكمة آية الرجم مثلاً مع بقاء

حكمها في شريعة المسلمين! ! انتهى.

أقول: والكلام على ما أورده عنهم من وجوه:

(أحدها) أن نقول: إن بعض هذه الشبهات كقوله: وما بقي من القرآن بعد

هذا التصحيح والتنقيح، تجد شططًا في كثير من أحكامه، فضلاً عما في عباراته

من المتناقضات والاختلافات إلى آخره، لا ترد علينا ولا على من يقول إن القرآن

الموجود فيه ناسخ ومنسوخ، وإنما ترد على خصوص مذهب الدكتور وهو لا

ينفصل عن هذه الإيرادات، ولا يستقيم مذهبه إلا إذا سلك مسلك التأويل المتناقض

لظاهر الدلالات في هذه المواضع، والتأويل إذا صار لا يصح إلا بحيث يكون

المعنى المؤول إليه، إنما يدل عليه بألفاظ غير ما عبر الله به عنه، فهو يكون لا

محالة من باب التبديل والتحريف للذين ذم الله أهلهما ونهى عنهما، وكما أن مثل

هذا التأويل مردود عند أهل الحق من المسلمين، فغير المسلمين أيضًا لا يقتنعون به،

وهو أعظم منفر لهم عن الإسلام؛ لجواز أن يعتقدوا أن ذلك إصلاح خلل،

وتكميل نقص في القرآن والدين - فاعتراضاتهم السابقة على النسخ هي واردة على

مثل هذا التأويل، وقبولهم تكذيب ما نقله المسلمون فيما تقدم ضرب من المحال.

أما نحن القائلون بجواز النسخ في الأديان، ووقوعه في القرآن، فلا ترد

علينا هذه الشبهات لا في الدين، ولا في خصوص القرآن. وإنما يلزمنا الاستدلال

على جواز النسخ عقلاً، ويحسن منا إذا بينا حسنه وحكمته في المورد المعين،

ومن قصر عن إدراك ذلك، فلا يضره ذلك ولا يضر الدين أيضًا - لأن جهلنا بالشيء

لا يستلزم عدمه في الواقع - وإنما يضر لو كان بعض ما علمنا أنه من الدين مخالفًا

للحقيقة في نفس الأمر، وليس في الإسلام شيء من ذلك. وفضلاً عن

الإيرادات والشبهات الواردة على دين أو مذهب مؤلف من هذه التأويلات

المنفرات لمن يريد انتحاله؛ التي لو أردنا إيرادها لطال بها الكلام، فإن مدلول

النسخ الذي يمكن أن ينكر وقوعه المنازعون، أو يورد الشبهات عليه الزائغون، والتأويل الذي يوكل القرآن إليه حضرة الفاضل الدكتور متحد لا فرق بينهما؛ إلا أن هذا الأخير يكون من الرب الذي يفعل ويأمر بالحكمة والعدل. فليتأمل الناظرون

ولينصفا أخونا الدكتور الفاضل، ثم ليدلنا على مورد شبهات غير المسلمين الصحيح:

أهو على من يقول بوقوع النسخ في القرآن للمصلحة الراجحة والحكمة العادلة، أم على من يعترف بصحة شبهتهم، ثم يعدل إلى التأويل المذموم الذي لم يأذن الله به، ولا دل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم.

وليعلم القراء الكرام أن ما اعترض به علينا في نسخ الأحكام غير المسلمين،

هو وإن كان فاسدًا كما سيأتي، إلا أنه وارد عليه أيضًا؛ لأنه قائل بوقوع ذلك في

السنة، بل السنة القولية منسوخة عنده كما صرح بذلك مرات، وناسخ ذلك احتمال

تقدير سبب من جملة احتمالات؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه المختلف

في رفعه ووقعه، المعارض بما هو أصح وأصرح منه ومتأخر عنه كل ذلك، مع

ترك العلة والسبب المنصوص في ذلك، كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على

وجوب العمل بالسنن القولية النبوية، فانتظره.

فإذا عرفت ذلك، لم يبق مما ذكرته من شبهات غير المسلمين ما يخصنا

الجواب عنه دونه؛ إلا ما يورد على نسخ اللفظ فقط.

(الوجه الثاني) أن مثل هذه الشبهات فاسدة في نفسها، لا يصح أن يوردها

إلا من كان لا يجوِّز النسخ في الشرائع مطلقًا؛ أي ولا يجوز نسخ شريعة نبي

متأخر لشريعة نبي متقدم عنه مطلقًا، حتى ولا من بعض الوجوه في حكم من

الأحكام؛ لأن مَن جوَّز ذلك في شيء مخصوص، لزمه تجويزه فيما سواه إذا وجدت

العلة أو نظيرها، وبالأولى فيما هي به أولى. فإذا جاز نسخ شريعة نبي لشريعة

نبي قبله، فمن باب أولى جواز نسخ بعض شريعة لبعضها الآخر؛ لأن نسخ دين

النبي المتقدم وشريعته الثابتة المقررة عند أمته وأتباعه أشق وأبعد من كل بعيد عن

معتقداتهم الموروثة، لا سيما إذا كان قد تدين بها أنبياء كثيرون؛ لأن ما جاء به

العدد الكثير، قد تستبعد بعض العقول نسخه بما جاء به الواحد - فما يسلمه الدكتور

الفاضل من النسخ هو أولى بإيراد الشبهات مما ينكره - ولما كان نسخ بعض

الشريعة لبعضها الآخر، يكون منوطًا بمناسبة الأحكام لأفراد معتنقيها المعينين

كان كلما كثروا تتجدد الأحكام، وتعدل على الحد الوسط المشترك بين أكثر مجموع

الأمة؛ ليكون الدين شريعة عامة، فلهذا ونحوه كان النسخ في الشريعة الواحدة لطفًا

حسنًا، وعليه فالنسخ في شريعة أي نبي من الأنبياء حين حياته أبعد عن اعتراض

المعترضين عليه منه فيها بعد ثبوتها، فثبت أن حكم نسخ شريعة لشريعة أو بعضها

لبعضها سيان مطلقًا، إن لم نقل جواز ذلك في الأخير أظهر والله أعلم.

ثم نقول لمن يجوز النسخ مطلقًا: إنا لا نسلم أن النسخ لا يكون إلا لنقص أو

عيب في المنسوخ، بحيث يستلزم نقص الشارع - ومعاذ الله من ذلك - لأنا نقول:

إن النسخ في الأديان لازم ومساوق لترقي نوع الإنسان، فلنا: ترقٍّ ديني، وترقٍّ

طبيعي. ولا يكون الأول إلا لحكمة ومصلحة راجحة. فالحكم الثاني الناسخ يوجد

عندما تكون الأمة مستعدة له، وتخطو إلى التقدم من المقام الأول الذي يحسن أن

تنتهي مدة الحكم المنسوخ بجوازها له؛ لأن ما يناسب البشر في أول نشأتهم قد لا

يناسبهم، بل قد يجب أن لا يكلفوه في أوان كمالهم، وما كانت الأمم السالفة محجور

عنه لمصلحة سد الذريعة، قد يجب في هذه الأزمان رفع حجرهم عنه؛ إذ لو كلف

الجهال ونحوهم ما يتسع له العلماء، للزم وضع الشيء في غير موضعه المناسب

له، وهذا من لازمه قلب الحقائق، ولو حجر على العقلاء البحث في الحقائق

المستعدين لإدراكها وتقديرها قدرها لكان في ذلك الظلم المنزه ربنا عنه، ولو كلف

الضعيف عقلاً أو جسمًا ما لا يطيقه هو، أو ما لا يطيقه إلا من هو أكمل منه لكان

كذلك، وإذا استحال كل ذلك، فلا شك أن حالات الأمم السالفة واستعداداتهم،

تخالف حالات الأمم واستعداداتهم اليوم، فتكليف بني الإنسان اليوم بشرائع أولئك أو

العكس، أقل حالاته أن يكون تكليفًا بما لا يناسب النشوء الفطري والترقي التعليمي،

وحينئذ لو كان ذلك، تكون أحكام الدين من باب تكليف ما لا يطاق، أو من باب

الحجر على المستعد عما هو مستعد له، فيكون الدين سدًّا دون العلوم والمعارف.

ولو أطلق للأولين الحرية، وأذن لهم بولوج أبواب هي مجهولة لديهم، أو لم

يستعدوا لمعرفتها، لكان ذكر تعزيرًا لهم وتكليفًا لما لا يطيقونه، وما كان كذلك فالله

لا يرضى بقاءه، بل لا بد من تغيير وتبديل فيه مساوقين لترقي معارف البشر،

وهذا هو حقيقة النسخ، وما ذكرناه هو سببه وحكمته في الشرائع، فالنسخ لا يكون

لعيب ونقص في المنسوخ، ولا جهل الشارع - تعالى عما يقول الظالمون - بل

يكون لاستعداد المكلفين لما هو خير لهم في الحال أو الاستقبال، ونحو ذلك مما لا

يخلو عن زيادة الخيرية التي ذكر الله أنه لا بد منها في النسخ، فالنسخ يكون قبل

فحش التفاوت في مناسبة المنسوخ لحالة المكلفين، كما ذكرنا ذلك في رسالتنا

السابقة.

فثبت بما ذكرناه وما لم نذكره من الحجج البينة؛ أن النسخ في الشرائع لازم

ومستحسن عقلاً، وكذلك هو واقع فعلاً وثبت ذلك نقلاً، فإن كثيرًا من شرائع

الأنبياء قد نسخت واندثرت، وأنسيت شرائع أنبياء بعدهم، وذلك ظاهر لا نطيل

بذكره، وإن أبى المعترضون لزمهم فوق ما قدمناه من المجالات، أن تكون شرائع

الله المحكمة المحتم على البشر قبولها وامتثالها والإيمان بها متضاربة متناقضة،

وذلك بأن يجب على الشخص الواحد المؤمن بجميعها فعل الشيء الواحد وتركه في

آن واحد، وهو محال من الله وعلى العباد.

والأديان والشرائع قبل الإسلام وقع فيها كثير من الخلط والقلب - أما التكاليف

والصعوبات الشاقة، والكلمات الموهمة خلاف الواقع، والحكايات المستبعدة في

كتبهم الدينية، فمما أوجب على العقلاء منهم ومن غيرهم الجزم بأن تلك الكتب قد

وقع فيها من التحريف والتبديل، ما أوجب أن يحكم بعدم الوثوق بها، وما كان

كذلك فمن اللازم أن لا يبقى دينًا للبشر إلى آخر الدهر - ولذا ونحوه قال نبينا صلى

عليه وسلم (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) الحديث، أفليس من اللازم أن يبدل الله بهذه

الشرائع شريعة عادلة محكمة محفوظة عن تغيير المبدلين وعبث العابثين؟ إن تلك

الكتب وشرائعها لا تصح وهي بالحالة التي عرفت حجة لله على عباده، فأرسل الله

محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأيده بالمعجزات الباهرات والآيات

البينات، فما من دليل يستدل به على رسالة رسول من الأنبياء والرسل السابقين؛

إلا وقد أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بمثله وبأظهر وأوضح منه، وصح لدينا نقلاً

لا يعتريه شك بأسانيد صحيحة متواترة متصلة ، ولولا شهادة الله في كتابه القرآن

وشهادة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في خطابه بصحة معجزات الرسل

السابقين، لم تبلغ تلك النقول في شرائط النقل والقصص فيها إلى مرتبة الظن

فضلاً عن اليقين؛ لأنها لو وزنت بميزان التحقيق في شرائط النقل، لم تتحصل

منها ما يصح اعتباره مسندًا متصلاً عن النقلة المعروفين بشروط الرواية.

وبناءً على ما ذكرناه نقول: إذا كان وجود النسخ في تلك الشرائع غير قادح

فيها لكونها قد أيدت بالمعجزات - فهكذا وجود النسخ في الإسلام أو في القرآن،

لا يصح أن يكون قادحًا في صحته عن الله - تعالى - لما عرفت. وأيضًا فمن

يقدح بذلك في دين الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، يكون في الحقيقة

قادحًا في صحة دين من تقدم من الأنبياء عليهم السلام، من حيث يعلم أولا يعلم،

رضي أم أبى.

ونقول في الجواب أيضًا (الوجه الرابع) : ما يدري هؤلاء المشككون أن

النسخ الواقع في شريعة الإسلام أو في القرآن، قد كان سببه تلك التهم التي

أوردها؟ فهل عندهم نقل يؤيدها ويصححها، أو دلالة عقل تعينت على ما ذكروه،

أم هو احتمال فرضوه، وأوهام توهموها، أو مماراة، أو معاندة أنتجتها الأحقاد

الموروثة؟ وهل هذا الاحتمال متعين، فما الدليل عليه؟ وهل يصح أن يقوم مقامه

احتمال من احتمالات غيره ينقض مزعومكم أم لا؟ وحينئذ لا يصح أن يدفع الثابت

ويرد باحتمال من احتمالات هذا حالها. وإذا كان النسخ في التشريع والأديان لازمًا

عقلاً وواقعًا حتمًا، يكون مستحسنًا كذلك نقلاً، وكانت رسالة نبينا صلى الله عليه

وسلم ثابتة بالحجج اليقينية بأصح ما يمكن أن تثبت بها رسالة أي رسول فتعين

ذلك الاحتمال والوهم، وحاله ما عرفت مع وجود ما يدفعه ويكذبه، باطل لا يجوز

لعاقل أن يلتفت إليه أو يعتني بإيراده.

أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء أن صار يلعب

بعقول أصحابه، فجعلهم يقبلون منه ما لا يُقبَل من غيره. فالجواب عنه أن محمدًا

صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي - لم يكن من أهل الحيل والدهاء، وإنما كان

من الأنبياء الأتقياء، وقد عرف بالصدق والوفاء، حتى صار ذلك وصفه الثابت

حتى عند أعدائه، أما أصحابه فقد عرفوا صدقه وصحة دينه بالدلائل الصحيحة

الثابتة، وهم لم يصدقوه فيما جاء من النسخ وغيره لضعف في عقولهم، وهو ما

جاء بما في دينه من النسخ بدعًا مما جاء به المرسلون قبله، وإذا كان كذلك فمن

البهت أن يقال: إن أصحابه صاروا يصدقون ويقبلون منه ما لا يقبل من غيره؛

لأن نقول: هو صلى الله عليه وسلم لم يأت إلا بما يأتي به المرسلون، ولم يقبل عنه

أصحابه إلا ما يقبل عن المرسلين، وإلا لانقلب الأمر، وكان النسخ في الشرائع

محالاً، وقدمت فساده عقلاً وشرعًا.

فبما ذكرناه يعرف الناظر فساد تلك الشبهة، وأنها في غير محلها، وأنها لا

يتعين ورودها على شريعة دون غيرها من الشرائع، بل لو صح إيرادها على

بعض الشرائع السابقة لركاكة ما عرف من تلك الشرائع، وعدم صلاحيته لتدين

جميع البشر إلى آخر الأبد، وللوهن في نقلها وضبطها - فإن صحة توجيهها على

الإسلام ضرب من المحال، ونقص عن الكمال؛ لما في القرآن من الدلائل

والبراهين على صحة كل أحكامه وشرائعه، وما كان فيه من منسوخ وناسخ موجود

فقد ذكر سببه وحكمته بالصراحة تارة، وبالتضمن والالتزام أخرى، يعرف ذلك

بطرق يعرفها من تلقى فهمه عمن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، فمنها أن يذكر

الحكم الأول مقرونًا بسببه أو بفائدته وغايته، أو غير ذلك مما يصح أن تدرك به

علة هذا الحكم، فإذا نسخه بأن أنزل بعده حكمًا يناقضه بوجه من الوجوه، فهو

يذكر سببه أو غايته، أو غير ذلك مما تعرف به الحكمة في النسخ، وهذا بخلاف

الشرائع السالفة، فإنها وإن كان فيها أشياء من الاستدلال الصحيح، إلا أنه لا يوجد

في كل شيء، ومع ذلك هو لم يبلغ بالاستدلال فيها إلى المراتب الكاملة في التحقيق

كما هي في القرآن ودين الإسلام، ومع ذلك كله نحن لا نحمل ذلك على نقص فيها

كما يقول هؤلاء المعترضون، وإنما نقول: إن تلك قد سبقت فيها الشرائع على

طريقة تناسب عقول البشر واستعدادهم إذ ذاك، وهي غير مؤيدة فناسب أن تكون

كذلك، حتى يترقى الإنسان إلى أعلى مقاماته مما تطوح به إليه خلقته وفطرته

المخصوصة، وحينئذ يناسب أن يشرع له دين بالغ في التحقيق أقصى غاياته،

فكان الأمر كذلك بدين محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه.

لها بقية

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح اليافعي، يرد بها على الدكتور محمد توفيق صدقي ثانية، فأثبتناها على طولها؛ ليأخذ الموضوع حقه من البحث، فإنه من أهم المسائل الدينية في هذا العصر.

ص: 125