المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (8)

- ‌غرة المحرم - 1323ه

- ‌فاتحة السنة الثامنة

- ‌فتاوى المنار

- ‌رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌الأخبار والآراء

- ‌تقريظ المنار

- ‌16 المحرم - 1323ه

- ‌حياة الأمم وموتها

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌تقويم المؤيد لعام 1323

- ‌الأخبار والآراء

- ‌الشيخ عبد الباقي الأفغاني(وفاته)

- ‌غرة صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(1)

- ‌التحكيم بين الزوجين في الشقاق

- ‌(الأرض)دليل حركتها من القرآن

- ‌شهادة غير المسلم وخبره

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالدوغيرها من البدع

- ‌أحوال المغرب الأقصى

- ‌غرة ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(3)

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(4)

- ‌تزويج الشريفة بغير كفءوسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم

- ‌مصرف الهدايا والنذورلأضرحة الأولياء

- ‌تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن

- ‌رش القبر بالماء

- ‌شعر الرأسحلقة أو تركه

- ‌صلاة الظهر بعد الجمعةوالخلاف في الدين

- ‌التقريظ

- ‌رأي رجل عظيم في المسلمين والمناروترك الأستاذ الإمام للأزهر

- ‌صدى الحادثة في أورباأو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمامفي الإصلاح

- ‌الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد عليوالإيماء لانفصال مصر عن تركيا

- ‌غرة ربيع الثاني - 1323ه

- ‌ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

- ‌عذاب القبر

- ‌الحكمة في إنزال القرآن

- ‌استطراد في حفاظ القرآن بمصروحادثة جديدة

- ‌التقريظ

- ‌حضرموت واليمن

- ‌تنازع الدول في جزيرة العرب

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌استدراك

- ‌16 ربيع الثاني - 1323ه

- ‌الاتصال بين الآيات والسوروجمع القرآن

- ‌بلاد روسيا دار حرب أو إسلاموالروسيون كتابيون أم وثنيون

- ‌عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهموإن خالفت الحديث الصحيح

- ‌إيراد على ترك التقليد

- ‌خرافة في سبب تحريم الخمر

- ‌التقريظ

- ‌انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمرفي آل سعود

- ‌لائحة المساجد وما أنفذ منها

- ‌محاربة الوهم للعلمأو تأثير السعاية في الدولة العثمانية

- ‌حذر حكومة مدينة حلب من الثورة

- ‌الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الوفدان الفرنسي والألمانيفي بلاد العرب

- ‌جمعية العروة الوثقى الخيرية

- ‌غرة جمادى الأول - 1323ه

- ‌المسلمون والقبط [*]أو آية الموت وآية الحياة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تاريخ دول العرب والإسلام

- ‌كتاب زهر الربيعفي المعاني والبيان والبديع

- ‌الروزنامة التونسية

- ‌تذكار المهاجر

- ‌أنباء سوريا المزعجة- الدولة والرعية

- ‌نظرة في المبارزة

- ‌إصلاح الطرق الصوفية

- ‌مرض الأستاذ الإمام

- ‌اعتذار للقراء الكرام

- ‌إعذار بعد اعتذار

- ‌رأي غريب في عاقبة السُّكر

- ‌افتخار جريدتياللواء والعالم الإسلامي بالكذب

- ‌16 جمادى الأولى - 1323ه

- ‌مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(1)

- ‌غرة جمادى الآخر - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(2)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شكر واعتذار

- ‌16 جمادى الآخر - 1323ه

- ‌مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيمفي الأستاذ الإمام رضي الله عنه

- ‌المنار الإسلامي واللواء الوطني

- ‌مشروع بناء مسجد في باريس

- ‌غرة رجب - 1323ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المجلد الأول من كتابأشهر مشاهير الإسلام

- ‌تاريخ التمدن الإسلامي

- ‌مرشد الهداياتإلى واجبات الحلاقين والدايات

- ‌ديوان الرافعي

- ‌حقوق المرأة في الإسلام

- ‌كتاب الرسائل الزينبية

- ‌تبرج النساء في مصر

- ‌خنوثة الرجال وفسوقهم

- ‌الحداد والمآتم

- ‌16 رجب - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(4)

- ‌المصاب العظيمبوالدنا البر الرحيم

- ‌نعيه إلينا وتعزيتنا عنه

- ‌غرة شعبان - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(5)

- ‌تزويج الشريفة بغير شريفوفضل أهل البيت

- ‌ضمان البضاعةوسلع التجارة والسيكارتو

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌تأبين الأستاذ الإمام

- ‌كتاب تعزية من عالم إنكليزي

- ‌16 شعبان - 1323ه

- ‌مذهب السلفوطريقة الحنابلة في التأليف

- ‌إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاءومعاملتهم

- ‌لعن معاوية والترضي عنهوفيه حكم اللعن مطلقًا

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌تاريخ الأستاذ الإمام

- ‌شكر بعد شكر

- ‌غرة رمضان - 1323ه

- ‌نموذج آخرمن شرح عقيدة السفاريني

- ‌الحياة الزوجية(6)

- ‌أسئلة من سنغافوره

- ‌دعوى الرقيقةبعد موت السيد أنها أم ولد له

- ‌تفسير.. (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة)

- ‌أسئلة من الجزائر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البداوة من باب الآثار الأدبية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 رمضان - 1323ه

- ‌الدين في نظر العقل الصحيح(4)

- ‌(دعوة اليابان إلى الإسلام)

- ‌نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط

- ‌تاريخ الإصلاح في الأزهرأو أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تفسير الفاتحة ومُشْكِلات القرآن

- ‌إحصاء رسميلخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة

- ‌تبرج النساء وأنصار الحجاب

- ‌موعظة وعبرة في وفاة حرة

- ‌غرة شوال - 1323ه

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 شوال - 1323ه

- ‌الدينفي نظر العقل الصحيح(6)

- ‌روابط الجنسية والحياة المليةوفلسفة الاجتماع البشري

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ذو القعدة - 1323ه

- ‌الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شيخ الأزهروزينة الكسوة والمحمل،حكم الفرجة عليهما

- ‌16 ذو القعدة - 1323ه

- ‌تجارة الرقيقوأحكامه في الإسلام

- ‌أسئلة من دمياطتتعلق بقصة المولد النبوي

- ‌تعليم اللغات

- ‌مسلمو الصين والإسلام في اليابان

- ‌غرة ذو الحجة - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(5)

- ‌تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية

- ‌قصة المولد لدبيع

- ‌فائدة عظيمةفي بحث العمل بالحديث الضعيف

- ‌إزالة وهم

- ‌أبونا آدم ومذهب دارونمن باب الانتقاد على المنار

- ‌16 ذو الحجة - 1323ه

- ‌اشتراطالولي في النكاح

- ‌طعام أهل الكتاب ومجاملتهم

- ‌مسألة خلق أبينا آدم

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الثامنة

- ‌شرط الاشتراك في السنة التاسعة

- ‌كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار

الفصل: ‌16 رجب - 1323ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد

الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر

أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي

أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:

70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا

أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ

ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ

فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .

تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين

ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً

مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً

يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،

وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي

النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا

يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .

ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن

يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين

استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء

المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس

بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في

كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى

و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ

إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .

ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم

وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته

في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد

نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير

والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء

الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،

وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام

الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،

وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-

إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،

ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من

الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في

أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل

والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه

قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،

وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف

عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام

مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة

نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ

مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .

أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو

إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال

من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع

لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،

إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام

أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .

أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد

أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم

والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر

إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة

الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد

بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان

ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار

وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من

عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين

يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل

المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية

والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه

يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى

اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .

دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني

اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن

والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،

وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم

من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون

ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون

أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرًى

مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ

لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ

الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .

لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في

كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على

أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟

لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك

إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل

فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ

بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ

فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .

إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة

لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:

ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان

والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور

وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من

ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ

الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في

قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم

مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،

التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا

وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ

وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا

أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية

إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن

الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة

منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،

إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن

المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده

يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة

للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي

الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ

الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .

يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد

المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة

بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة

زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن

يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على

جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة

الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء

بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في

المخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن

دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)

وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض

غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس

وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في

قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا

{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .

وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب

القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا

الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه:(صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من

الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب.

ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها

(س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن

عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:

الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة

الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي

الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،

أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا

الحديث الشريف؟

(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي

هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد

على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء

هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه:(يشرِّكانه)

بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ

لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ

أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،

وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا

ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:

إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة

مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن

الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في

طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه

على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم

تقليدًا أعمى.

ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل

ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله

اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله

عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!

وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا

أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة

ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير

بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة

قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن

أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى

المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.

أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس

أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف

الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته

لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛

ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره

وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل

عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،

كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على

الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما

أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.

والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار

الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل

لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير

من هذا الجزء شيء من ذلك.

ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق

مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم

وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى

باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ

آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14)، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في

هذا الجزء.

فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله

تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية

حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة

كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به

على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر

عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو

شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس

الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -

على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،

فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا

بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب

القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل

شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما

أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه

بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما

يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم

مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ

ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن

طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين

استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.

فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه

وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من

الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق

والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه

أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا

(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله

أعلم.

***

اختلاف المذاهب في الأحكام

وشهادة أوربي للإسلام

(س2) ح. ح. في الجبل الأسود:

فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل

التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين

الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي

الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،

ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف

لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض

وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند

الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت

لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.

(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي

لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛

إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛

ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له

صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:

إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو

الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة

الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد

المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا

بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات

الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل

فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في

آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .

أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون

بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى

السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء

من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى

أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها

آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن

الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي

يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه

وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما

إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.

***

نتف ريش الطائر

(س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في

شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل

الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف

ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت

هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في

تنظيفه؟

(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا

يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب

الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من

غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر

تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،

فينبغي تنبيههم له.

***

الصيد بالبندق والرَّصَاص

(س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت

الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة

مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية

عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة

فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون

هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما

في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا

في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟

(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده

فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد

بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.

وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،

وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،

وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا

وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في

المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب

ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق

والرصاص فهو كذلك.

***

الجبر والقدر

(س5) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:

ما حيلة العبد والأقدار جارية

عليه في كل حال أيها الرائي

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا

ركينًا للمسلمين.

(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما

تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته

يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم

من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا

كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع

الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة

الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن

شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها

ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة

ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب

المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق

عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل

حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين

فهو من المجانين.

_________

ص: 18

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

البحث الثالث

في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله

اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف

الرحيم، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:

كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا

على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي

الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ

قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات

ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،

وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا

يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:

(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف

ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام

رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ

وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس رضي الله عنه: (ما منا

إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى

الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -

جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب

والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.

ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم

فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.

وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى

ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، ثم قال: {فَإِذَا

قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً

لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد

انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم

يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه

قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب

ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل

على ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه

إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان

بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)

رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن

المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله

ابن بر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار

في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي

شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا

صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق

بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار

مطلق غير مقيد.

وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك

ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول

بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه

وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.

هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة

الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا

عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها

لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما

هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد

في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -

صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل

منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .

فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة

وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها

سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد

روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك

الشعراني في (كشف الغمة) .

وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من

الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] :

عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا

يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر

رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا

وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي

رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانفض الناس إلا

اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا

إلخ) رواه أحمد والبخاري،

فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا

يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن

النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير

صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم

بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل

أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم

يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد

الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .

ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم

الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد

الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم

يثبت ذلك وهاك النصوص:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم

رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن

ماجه وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)

رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن

الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل

للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي

وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم

الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما

ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .

فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل

إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،

وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار

الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن

كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن

شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو

امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر

المسافر) .

وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث

النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه

المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى

ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير

بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب

صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح

للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ

وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول

عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من

كان محبًا للحقيقة منهم.

قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة

الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو

نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره

بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك

والخير في الاتباع والشر في الابتداع.

(الخلاصة)

اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن

الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا

مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على

التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه

بدقة وإنصاف، والله أعلم.

هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،

فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة

الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة

الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم

خالصة لوجهك الكريم.

_________

(*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت. اهـ منه.

(1)

اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم.

(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا

الخطبة فهي سنة فقط؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة)، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال:(أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ، قال أربعون رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم صحتها، بأقل من العدد المذكور؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، ولذا قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا رضي الله عنه (والظاهر أن العدد المذكور ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك اختلفت مذاهب العلماء في العدد، فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الجمعة تصح من الواحد وذهب إبراهيم النخعي، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين، وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري رضي الله عنهما إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث.

ص: 24

الكاتب: محمد الخضري

‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير

ابن جرير الطبري

تابع لما قبله

(73)

تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي

لوى يده الله الذي هو غالبه

ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149

وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا

والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة.

(74)

وإن مهاجرين تكنفاه

لعمر الله قد خطيا وحابا

ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا:

وإن مهاجرين تكنفا غدا

بيد لقد خطئا وخابا

وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا:

وإن مهاجرين تكيفاه غدا

بيد لقد خطئا وخابا

(75)

رمى فأخطأ والأقدار غالبة

فانصعن والويل هجيراه والحرب

في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب

فانصعن.

(76)

فلم أر معشرًا أسروا هديا

ولم أر جار بيت بستباء

في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) .

(77)

أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا:

أسيئي بنا أو أحسني

لاملولة ولا معلنة أن تعلني

(78)

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا:

وليلة ذات دجى سريت

ولم يردني عن سراها ليت

وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا.

(79)

كأن لها في الأرض نسيًا تقصه

على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ

في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا:

..................

إذا ما غدت وإن تحدث تبلت

والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر

(80)

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء دِرَر

في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا:

سلام الله وريحانه

وجته وسمادرته 7

وبعد البيت:

غمام ينزل رزق العباد

فأحيا البلاد وطاب الشجر

(81)

يا حبذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النساج

في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا:

ياحبذا القمر والليل ساج

وطرق مثل ملا النساج

(82)

وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة

ولكن عرايا في السنين الجوائح

في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا.

(83)

فهممت أن أغشى إليها محجرا

فلمثلها يغشى إليه المحجر

في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت:

ذهبت بعقلك ريطة مطوية

وهي التي يهدى بها لو تنشر

(84)

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا

والعصم من شعف العقول القادر

ورد في موضعين:

(1)

في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا:

................

والعصم من سعف العقول الفادر

(2)

في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول.

(85)

هنالك لا أرجو حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر

في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط.

(86)

وإن كلابًا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل

المعنى والوزن.

(87)

وظلت بأعراف تعالت كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا:

مسبِّبة قُب البطون كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا:

وأضحت تغالي بالستار كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها.

والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو:

وظلت بأعراف كأن عيونها

إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز

(88)

لقد مريتكم لو أن ردتكم

يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي

في الخامس ص 72 وكتب هكذا:

وقد نظرتكم لو إن درتكم

يومًا بحي به مسحي وأساسي

(89)

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام إلا تلك الدهاريس

ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك

(إلا ملك) .

(90)

مالك ترغين ولا ترغوا الخلف

وتضجرين والمطي معترف

في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا:

مالك ترعين ولا ترعوا الخلف

(91)

ناجٍ طواه الأين مما وجفا

طيّ الليالي زلفًا فزلفا

... سماوة الهلال حتى أحقوقفا

والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) .

(92)

إن سميرًا أرى عشيرته

قد حدبوا دونه وقد أنفوا

إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا

في الرابع ص23 وكتبا هكذا:

إن سميرًا أرى عشيرته قد

حدثوا دونه وقد أبقوا

إن يكن الظن صادقي ببني

النجار لم يطعمو الذي علقوا

والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي.

(93)

تخوف السير منها تامكًا قردًا

كما تخوف عود النبعة السفن

ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط.

(94)

تنشطته كل مغلاة الوهق

مضبورة قرواء هرجاب فُنُق

ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد

الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء:

الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب

كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية

الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله:

وقائم الأعماق خاوي المخترق

(95)

حسبت بغام راحلتي عناقًا

وما هي ويب غيرك بالعناق

فلو أني رميتك من قريب

لعاقك عن دعاء الذئب عاق

ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني

ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي:

نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب

عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا:

ولو أني رميتك من بعيد

(96)

لئن حللت بجوّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد.

(97)

أقول له والرمح يأطر متنه

تأمل خفافًا إنني أناذلكا

ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل

تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر

فصارت هكذا ياطر.

(98)

طمحت بنظرة فرأيت منها

تحيت الخدر واضعة القرام

ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا:

تحينت الحذر ناصعة القوام

وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة.

(99)

وحليل غانية تركت مجدلاً

تمكو فريصته كشدق الأعلم

من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة.

(100)

عرفت المنتأى وعرفت منها

مطايا القدر كالحدا الجثوم

ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا:

عرفت الصبا وعرفت منها

مطايا العذر كالحدا الجثوم

(101)

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا:

خضب اللبان رأسه بالعظلم

(102)

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا:

رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع

ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في

الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى

بعض.

(103)

مأويّ ياربتما غارة

شعواء كاللذعة بالميسم

ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا:

ياربتما غارة شعواء

كاللذاعة بالميسم

(104)

حواء قرحاء أشراطية وكفت

فيها الذهاب وحفتها البراعيم

ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا:

حوى فرحًا سراطيه وكفت

فيها الذّهاب وحفتها البراعيم

(105)

تقول إذ درأت لها وضبني

أهذا دينه أبدًا وديني

ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا

أقول وقد درأت لها وضني

وهذا دينه أبدا وديني

(106)

مهلاً بني عمنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا.

(107)

إن شرخ لشاب والشعر

الأسود لم يعاصَ كان جنونا

ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط

لا معنى له.

(108)

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرجل الحزين

ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى

والوزن.

(109)

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

...

...

خيرًا بها كأننا جافونا

وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من

تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا:

ومن أي دهماء إذ توصينا 7

خيرًا بها كأنهم خافونا

ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ والانتقاد

(خواطر الخواطر)

مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان

يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة

وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات

بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر

بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع

معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات

في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار

الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش

صحيحة.

***

(طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر)

كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية

السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من

العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة

اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على

ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم

والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا

العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني

كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري

ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب

لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء

وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في

مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش

عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر)

فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما

هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا

قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) .

ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن

(والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة

تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في

هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم

وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت

ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا

فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم

عليهم أكثر.

الجرائد والجامعة الإسلامية:

وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية

إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء

بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) .

أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة

الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها

المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو

مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد

دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت

أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها

جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن

بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين.

وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي

تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل

تجتمع معها.

سوريا والحجاز والسياسة:

وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه

السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن

سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا.

ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل

عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك)

المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول

من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا

حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش

في البحر.

وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها

وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل

الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله.

***

(كمال بلاغة العربية)

في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية،

أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته،

وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء

والمحبوب) .

والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع

مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة

بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية.

***

(الرياض)

صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي

في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها

خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر

عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها.

***

(التربية)

مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من

8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة

فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية

وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه:

البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة

من زهرة.

لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع

الشريط في الخل قبل استعماله.

ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء

واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه.

***

(جريدة العجائب)

أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه

بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها

على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من

الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم.

***

(ديوان أبي تمام الطائي)

لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير

مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن

محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة

المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت

والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في

500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية

صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل

هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت،

وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.

_________

ص: 35

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(سنتنا الجديدة)

نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا

مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين

السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح

يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير.

***

(شرط الاشتراك في المنار)

المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك

فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل

الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء

السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار

كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد

موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض

الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن

وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة

وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة

كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع

العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم

أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم.

***

(فهرس المنار أو فهارسه)

جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم

توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا

لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره

مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المنار

جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء

والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله:

لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث

السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت

بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل

من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت

إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون.

سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار

بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك

الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم

بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن

عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم

الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه

الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في

الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى.

وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في

الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم

فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه

(الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات،

ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن

نكون من الشاكرين.

...

...

...

...

(سوري شمالي)

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حياة الأمم وموتها

إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط

ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف

على الأخرى.

يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع

العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة

النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة

بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه

أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في

أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من

جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل

عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله.

الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء

للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها

وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج

إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من

الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود.

قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛

فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً

وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا

أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي

يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول

يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في

كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا

مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر

الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة

حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل

شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من

سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة

ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا

يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها

الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين،

والأخرى في أسفل سافلين.

يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب

التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه

يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم

يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا

يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو

ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،

والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه

الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو،

وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر

ويذل.

ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين

المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما

هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع

وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن

اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع

العدد الكثير.

ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة

صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من

تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا

بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين

وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها

ومخازي فاقديها.

التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في

الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل،

ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو

الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي

الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم

وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على

كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير

ثروة الكاسب إلى الكمال.

لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة

الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه

أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه

الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا

إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد،

وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر

والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على

المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد

وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال.

روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل،

فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير

إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة

للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب،

وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي

تفسد.

كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من

النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل،

والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك

أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى

إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية،

وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية.

تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا

تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر

على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت

أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها

أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة

الضلال فهلكت.

إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ

الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه

أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة

المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين،

ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة

سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره

وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره،

والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور

الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب

الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به،

وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير

ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى

تبقي حثالة بهم تبسل الأمة.

لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت

هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة

كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة

كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة

المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل

في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي

تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني،

على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء

ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن

السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي

يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية.

ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح

يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي

من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار،

وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية

والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي عالم أزهري في العلماء

وحالهم في مصر

وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى

مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في

درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على

اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا

بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا

يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء

الأوربيين)

إلخ.

وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون

العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك

وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور

الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني

عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة

في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها.

ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس

الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي

في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه:

(ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا

التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن

يعود على الأمة منه فائدة تذكر) .

(على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم

لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام)

إلخ.

ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن

هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من

النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها

إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ.

ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا

الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك

حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك

ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية

والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) .

ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة

السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على

تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها،

بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور

الدنيئة)

إلخ.

وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى

بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا

من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة،

تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات

الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم

ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم

تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين

والشواهد على ذلك كثيرة) .

إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في

وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن

في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة

الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي

أن يصرح بذلك هنا.

ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما

(ص 33) :

(أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن

سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ

والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا،

حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم

وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء

والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من

يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل

الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس

هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر

إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من

يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا

كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل

إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى

أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار.

ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله

ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية

وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى

أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس

كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا

كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل،

وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت

تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى

على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير

من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله

الآن. اهـ.

ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم

القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى.

ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر

من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز

والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك

بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم

وقال في (ص42) :

(لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب

التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس

في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه

الطبع السليم) اهـ.

ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن

يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم

قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على

ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر

الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم

واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا

يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع

عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على

معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية

بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

العامة تستعمل الرضوخ بمعنى الخضوع والامتثال، وهو المراد هنا، وإلا فالرضخ في اللغة هو العطاء القليل، ولا يصح في هذا السياق.

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقويم المؤيد لعام 1323

هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر

بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار

إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له،

والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد

يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن

فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها،

وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب

من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل

طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق رحمه الله والباي

الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(الأزهر: مشيخته وإدارته)

ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من

الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة

مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده

الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق

مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ

ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في

الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد

الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق

الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو

الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في

استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى

شيئًا.

أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة

ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ

محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم

البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على

الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد

ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم

ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل

الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال

الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد

الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه

مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء

هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن

الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها

كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله

أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه

لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل

الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره

بقرناء الخير والله على كل شيء قدير.

***

(غرض الحكومة الخديوية من الأزهر)

قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة

من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين.

ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال

المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة

لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة

الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع

الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في

كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه

المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور.

وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة

الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه

يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر

في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته،

ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في

التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة

خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر

الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي

الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل،

على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر

الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض

آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) .

***

(مقام الإفتاء)

جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل

داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا

يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل

الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في

إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ

حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى

لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة

ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية.

***

(المعرض الزراعي)

ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في

عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل

إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على

غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها

معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم

والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد

زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات

فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر

منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن

محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات

بهيئة وجهت إليها الأنظار.

تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج

الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح

سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة

بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.

_________

ص: 76

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ عبد الباقي الأفغاني

(وفاته)

نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في

صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه

ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى

كان يقول:

(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي

نعيًا وترجمة:

فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل

النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من

غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون

على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من

هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،

ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين

متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من

سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة

علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.

(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،

والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.

(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات

للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا

المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون

هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد

من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو

أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا

واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة

فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء

هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان

منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.

ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا

هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا

انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما

يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم

الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.

كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،

فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن

زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر

مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.

نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في

غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس

هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في

البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض

البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب

إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو

القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا

مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.

مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان

يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي

أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين

وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان

لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.

_________

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(1)

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً

وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) .

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:28) .

الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع

فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية

تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة

واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم

بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده

لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم

مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .

هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها

العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها

الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا

يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة

والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل

في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع.

الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس

الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب

الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما

وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين

اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس

به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما

حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي

التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى

ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو

عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن

الإحساس بالحاجة إلى التعاون.

لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري،

فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى

الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى

ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا

معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم

والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها

وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم

أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن.

يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها

وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك،

فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته

إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من

سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا

للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل

من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل

المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة

إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو

الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما

يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما

تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل

وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين.

والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية

على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها

الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا

رصينًا.

إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة

من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع

والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي

للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا

المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن

من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو

إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة

بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من

الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على

المصالح حتى تبلغ المدى؟

معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق،

والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت

الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية.

لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع

العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من

الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى

وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل

من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير

على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن

فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى.

إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه

عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل

على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا

العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد،

ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف

أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي

الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما

صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية

ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان

من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما.

ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت

مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛

إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها.

حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال

وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها

سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد

بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين

وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه

الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي

واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون

الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون

حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال

معناها.

يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما

يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف:

189) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى

جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في

بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو

أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا،

ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود

الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في

حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر،

راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن

هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في

هذه الحياة.

والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما

كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة

في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف

باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار،

واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل

البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة،

وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛

التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي

بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد

الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها

وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم

هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى

الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر

مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون

من ورائه.

***

اختيار الزوج:

جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في

الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل

في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن

النفس لا تسكن وترتاح لمن يباينها في صفاتها ويخالفها في عاداتها. ولكن الناس

قلما يجرون على المصلحة الحقيقية في أعمالهم الاختيارية؛ لأن اللذة عندهم ليس

لها حدود طبيعية يقفون عندها وإنما تعرف الحدود بالشرع والعقل، والشرع يؤخذ

بالتعلُّم والاقتداء، والعقل ينمو بالتجارب والاختبار؛ لذلك تختلف الحدود في

نظر الأفراد وترى بعض الناس يبني اختياره على الهوى والميل إلى الجمال،

وبعضهم يُحكِّم المصلحة ويجعل مناطها الجاه والمال، فالأصل في اختيار المرأة عند

الأمم الجاهلة الفاسدة الأخلاق، هو الحسن والجمال اتباعًا لهوى النفس المستلذ، أو

الثروة والجاه إيثارًا للمصلحة الموهومة.

أكثر ما يقع التخير بالحسن أو الاستحسان من طائفتين: (أولاهما) الشبان

الأغرار الذين يتوهمون أن عاطفة الهوى لمن رأى أحدهم فاستحسن وأحب تدوم، فإذا

هو اقترن بمن أحب كان له نشوة سرور دائمة؛ فيعيش مغبوطًا ناعم البال قرير

العين يرى الملك ملكه، والزمان غلامه، وهيهات ما يتوهم، ولكن أنى له أن يفهم

ذلك وهو محكوم بشعوره ووجدانه، تعبث به الخواطر وتقوده الأماني التي يوليها عليه

ذلك الشعور، ثم أنى له أن يعرف سيرة الناس الذين سبقوه في تحكيم الهوى واتباع

لمحات العيون، وطاعة هواجس النفوس؛ فتزوجوا بمن استحسنوا ولم يلبث أن

تحوَّل الاستحسان استقباحًا، والحب العارض مقتًا وبغضًا.

الحسن والجمال من الأعراض التي يسرع إليها الزوال، ثم إن سلطانهما على

القلب الواحد لا يدوم، أو لا يطول إلا إذا صار عشقًا خياليًّا؛ يخطف القلب

من عالم الحسن ويزج به في عالم الخيال، وهذا الضرب من العشق لا يكون مع

ملك الاستمتاع بالمحبوب. على أن هوى الأغرار لا يتقد بالحسن الرائع، والجمال

البارع، قل لهؤلاء الأغرار ليست تلك العاطفية الرقيقة التي وجدتم عند إرسال

الطرْف إلى الوجه الذي استملحتم، هي أثرًا طبيعيًّا لشيء ثابت في ذلك الوجه؛

فتقولوا: إن العلة تلازم المعلول، بل هي شيء كامن في النفس تحركه وتهزه في

أحد الصنفين رؤية الآخر في صورة تعجب، وقد يضعف ذلك الشيء في وقت

ما، وقد تمل الصورة المحركة له، أو تعرض للعين صورة أخرى فتبطل حركتها

وتنسخ آيتها، فالاعتماد في هناء العيش وسعادة الزوجية على الاستملاح الاستحسان

الذي تحدثه النظرة العَجْلَى اعتماد على ركن غير شديد.

والطائفة الثانية: هي طائفة المترفين الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع والتنقل في

الشهوات واللذات، وهم أعرق في البهيمية من الطائفة الأولى؛ لأن الشاب الغر

يكتفي في اختيار الزوج بملحة طرفه، وخفقة قلبه، دون الوقوف على أخلاق من

أعجب بصورتها، وخفق قلبه عند رؤيتها، ولا على سيرتها وسيرة أهلها وعشيرتها

لتعرف المنبت والنبات. قد يتفق أن تكون الفتاة التي اختارها مشاكلة له في طبعه

قريبة منه في أخلاقه وعاده؛ فيعيش معها عيشة راضية، وتسكن نفس كل منهما

إلى الآخر ويقيمان بإقامة هذا الركن الأول ركني الزوجية الآخرين - المودة

والرحمة - بحسب حالهما وطبقتهما في الأمة.

وأما المترفون الذواقون من الأمراء، وأهل الثراء، ومن تسري إليهم سمومهم

ممن دونهم، فهم أشقى الناس في بيوتهم، وما أشقى نساءهم بهم؛ ذلك أن أحدهم لا

يلبث أن يمل من تزوج بها لحسنها، أو يستهويه حسن آخر؛ فيهوي إليه وهكذا

يتبع مواقع الحسن الجديد؛ ويوغل في المحرمات فلا يكون زوجًا حقيقيًّا للأولى ولا

لغيرها، وإنما هو شقي بشهوته ومُشْقٍ لمن يتصل به؛ فإن المرأة عنده إما أن تفسد

كفساده؛ فتكون من الذواقات؛ وما أسهل ذلك على ذات الجمال البارع التي قلما

يسلم مثلها مع تطلع الفساق المترفين إليها وافتتانها هي بنفسها، وإما أن تعيش في

نكد، وتظل في كبد، وكلا الأمرين شقاء للبيوت وشقاء للأمة. فهذا إجمال يكشف

للمتفكر عن وجه الخطأ في جعل استحسان الصورة والإعجاب بالجسم أصلاً لتخير

المرأة زوجًا، وأمَّا جعله أصلاً لتخير المرأة للرجل، فذاك مما لا حاجة إلى بيان فساده

وخطأ الذاهب إليه.

يقول قائلون: (إن النظر رسول القلب، وإن الاستحسان علة الحب، والحب

هو علة ذلك السكون الذي هو ركن السعادة وسر حقيقة الزوجية) فإن لم يكن

عينه فهو علة له أو أثر من آثاره، فما بالك تطلق القول في تخطئة من يُحكِّم

استحسان الصورة، وميل القلب في الاختيار؛ كأنك تؤيد عادة مسلمي المدن الذين

يتزوجون غالبًا على السماع، غافلاً عما يتبع هذه العادة من التنافر بين الزوجين

لأول وهلة، وما يُرزآن به من الخصام والجفوة. ونقول: إننا قد بينَّا أن استحسان

الصورة، وميل القلب إلى ما يرضي العين مما لا بقاء له ولا ثبات لِمَا يُبنى عليه،

وإنما البقاء والثبات للحب الذي علته تعارف الأرواح، ومشاكلة الطباع، ولا ننكر

مع هذا أن حسن الصورة، وجمال الخلقة له أثر عظيم في نفوس عشاق المعاني؛

ربما يفوق أثره في نفوس عشاق الصور، ولكنه عندهم في الدرجة الثانية، بل

يقرب في ذوقهم من المحسنات العارضة كالثياب والحُلي؛ فإن سليم الطبع لا تسكن

نفسه إلى دوام معاشرة رث الثياب وسخها، ويأنف طبعه من الطعام الطيب في

الإناء الخبيث. وإن من الناس من تشمئز نفسه وتنفر من بعض العيوب الخلقية؛

فإذا هي فاجأته في وجه من اختير له زوجًا يلابسه ويمازجه حتى يتحد معه أتم اتحاد؛

يوشك أن تنكمش نفسه انكماشًا يتعذر معه الالتحام والالتئام، لذلك كان من السنة

في الإسلام أن لا يتزوج المرء إلا بعد الرؤية، وما جرى عليه المسلمون في أكثر

المدن أو جميعها مخالف للفطرة والشريعة جميعًا، ولكن حكم العادات أقوى سلطانًا

على نفوس الجماهير من كل حكم يخالفه.

على أن من يطلب الازدواج لإقامة سنة الفطرة، لا لمجرد إرضاء الشهوة،

ولا لأجل التنقل في معاهد اللذة، فقلما يخون الوصف رغبته فيما يحب من حسن

الصورة وجمال الخلقة، ولعلنا لو أحصينا عدد الأزواج الذين مقتوا أزواجهم استقباحًا لصورهن لَمَا وجدنا فرقًا كبيرًا بين من تزوج منهم عن رؤية ومن تزوج

عن سماع فإن للرؤية نظرًا خادعًا ليس معه للرَّوِيَّة مجال. والسماع يتثبت فيه

ويتروَّى حتى يغني عن النظر في كثير من الأحوال.

ويقولون في انتقاد ما عليه أكثر مسلمي المدن من التشدد في الحجاب: إن

الحاجة إلى رؤية الرجل من يريد الاقتران بها للوقوف على طباعها وأخلاقها

وعادها - أشد منها لمعرفة حسنها وجمالها، بل لا بد لمعرفة الأخلاق والطباع من

المعاشرة زمنًا طويلاً، ونقول: إن هذا هو الذي يظهر بادي الرأي، وأما ما

يظهر بعد التدقيق والتمحيص فهو أنه يتعسر أو يتعذر على الشاب أن يعرف

حقيقة أخلاق الشابة وطباعها ورغائبها من المعاشرة بقصد الخطبة؛ فإن ما يتنازع

الفتاة من ضروب الشعور والوجدان إذا كانت بمرأى من الفتى ومسمع يخرج بها عن حال الاعتدال الطبيعي الذي طبعت عليه، فلا يكون الحكم عليها صحيحًا؛

لأن حجابًا طبيعيًّا أسدل على أخلاقها وسجايها، ثم إن من وراء هذا الحجاب أو من

أمامه حجابًا آخر صناعيًّا، وهو ما يكون من التكلف والتصنع؛ لتكون أمام الفتى

بالمظهر الذي تظن أنه يرضيه ويجذب قلبه، فالعمدة إذن في معرفة الآداب

والأخلاق هي الوقوف على حال المنبت والعشيرة وخبر الصادق الذي يحسن النقد

ويميز بين ما يرغب فيه وما يرغب عنه.

وقد يسهل على الخلطاء والجيران من العشائر أن يعرف فتيانهم أخلاق فتياتهم

بالاختبار الصحيح؛ إذا لم يكن هناك مقدمات، ولا وسائل تشعر برغبة المختبر في

تزوج من يلاحظ أحوالها ويتنقد أعمالها، وقلما يكون هذا في المدن إلا

بين الأقربين. وحدثني السيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله أن أهل

الآستانة إذا رضوا بالخاطب دعوه إلى دارهم، وجمعوا بينه وبين بنتهم في

مجلسهم فيراها وتراه ويسمع كلٌّ حديثَ الآخر وتسأله عن آثاره الأدبية والعلمية

ثم يكون العقد بعد ذلك.

جملة القول: إن الذين يعتمدون على مجرد استحسان الصور في تخير

الأزواج ضالون، لا يُرجى لهم أن يُكوِّنوا بيوتًا -عائلات - تكون أعضاء حية

عاملة لأمة عزيزة؛ وسيأتي بيان حال من يبني اختياره على طلب المال والثروة،

ثم من يبني اختياره على ما يجب أن يُبْنى عليه الاختيار، وقد ذكر بعضه في هذه

المقالة تمهيدًا واستطرادًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التحكيم بين الزوجين في الشقاق

(س6) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) :

أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف

علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره

وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب

الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية

الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة رضي الله عنه عدم التفريق

وقول الإمام محمد رضي الله عنه التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل،

وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد

والشافعي في أحد قوليه رضي الله عنهم فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا

كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة

يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله

تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: 35) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير

أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين

ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن

علي رضي الله عنه فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان

في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛

فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل

التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل

(الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن

يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو

من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:

19) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ

ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: 231) الآية.

والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد

الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا

الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك.

هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ

إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر

الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة.

(ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف

شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق

(جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد

أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن

يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن

الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا

غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان

فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع.

وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني

قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما

فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين:

تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن

تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل:

أما الفرقة فلا، فقال علي رضي الله عنه: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي

أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه

الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا

رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛

فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت

المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن

يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك

الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره

الراضي، وليس في قول ابن عباس رضي الله عنهما شيء لا يفهم من الآية

إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه

شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين

بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت

إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه

الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه

به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير

{إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: 35) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات

البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا

التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة

من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي،

وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن

الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) وهذا

نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء

وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في

البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان

شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: 35) ،

أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) لاقتصاره على ذكر

الإصلاح دون التفريق. اهـ

وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم

الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر

الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا

للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون.

على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في

الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه

الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب

المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه

السنة كان له أجر المصلحين.

_________

ص: 100

الكاتب: محمد رشيد رضا

(الأرض)

دليل حركتها من القرآن

(س 7) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى:

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: 54) دليلاً على دوران الأرض،

ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛

فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة

المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني رحمه الله دليلاً على حركة الأرض

قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) الآية وفصَّل ذلك

وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى،

ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية

على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما

هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير

الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا.

وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية

الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام -

لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان -

رحمه الله سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول

والفروع وهذه عبارته:

(ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ

تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:

88) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في

هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في

الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة،

وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: 88) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون

الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى:(وعد الله)

و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا

يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب

إليه، وقوله:{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) كالبرهان على إتقانه

والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول

إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ

العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد

وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل

على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله،

ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية

الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها

لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: 88) حال عن

المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا

استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى

وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في

الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله

شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال

معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو

عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة

إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم

المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع

وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع

ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من

تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم،

وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم

للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته،

وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير.

واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا

فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86) ، اعتراض

في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة،

كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز

في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من

هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي

الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان

وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها

بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا

أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم

يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع

عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد

أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا

يسلم من تحريف.

(ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54)

ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض

يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه

يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن

نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو

الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) يشعر بأن هذه

الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن

العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران

الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي

يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو 52 مليونًا من

الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية

تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار

إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا

الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض،

ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه

الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور.

وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا

الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان

عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام

عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس

النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من

بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا

عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في

إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور

آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى

نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن

الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه

مستدلين به على علمه وحكمته ، وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث

موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين

بمخالفة كتابه المبين.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شهادة غير المسلم وخبره

(س8) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في

بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته

ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا

الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا

القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه

من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم.

(ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ

مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: 106) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ

فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة

فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما

وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري

في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من

بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [1] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم،

فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [2] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم

وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه

فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) وروى أبو داود والدارقطني

بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين

حضرته الوفاة بدقوقا [3] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين

من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته

ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله -

صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا

غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.

ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من

العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير

السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا

التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر

القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم

بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) معناه من غير

أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال

بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم،

ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) ،

قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم

لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان

عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء

والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن

الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا

ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ

آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: 106) خاص؛ فإنه

أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في

السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام

لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان

تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم)

اهـ.

ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على

المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى،

ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام

غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال

من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر

.. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد

قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب

) إلخ.

أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض

الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي

يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت

القرينة على كذبه لا يعمل بقوله.

ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم

الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام

الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين

المعروفين

بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره

بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما

جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ،

على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد،

وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين.

وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن

مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف

اصطلاحات الفنون:

الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا

إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام

على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين:

وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح

القدير وهو (في مجلس الحكم) .

_________

(1)

الرجل السهمي اسمه بزيل (كزبير) لا بديل بالدال أو الراء كما قيل، وتميم وعدى كانا نصرانيين وقد سرقا الجام من متاع الرجل ولم يعلما أنه كتب ورقة بجميع ما أودعهما.

(2)

المخوص بتشديد الواو المنقوش بما يشبه الخوص وهو مما يعنى به الآن في علب الفضة وآنيتها وما يوضع في رؤوس العصي منها.

(3)

هي بفتح الدال وضم القاف وسكون الواو أو القصر بلد بين بغداد وأرية.

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي عالم أزهري في العلماء

تابع لما قبله

وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه:

ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى

الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء

ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء

جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد

من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير.

ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني

القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين.

تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم

بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس

الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن

يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من

الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال

بالعلم وتشييد دور واسعة لهم.

ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني

هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم

الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين

الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق

إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون

المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا

المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة،

ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل

العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص

رواية مثلا.

ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا

يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره،

وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون

المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في

ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح

هذا الكون.

على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء

مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب

ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه

مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين

بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما

وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم

والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال،

والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو

بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة

وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات

الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى

مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو

تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب

في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع

عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم

الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ

وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد.

وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن

ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر

أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر

في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في

صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم

مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل

قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة

من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من

الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية.

والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية

التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال

الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في

آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث

لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما

أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه

الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك

به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق

بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم

القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة

اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم

الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة،

ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛

فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل،

وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من

ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء

حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة

والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل،

يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح

الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من

قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة

في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى،

ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون.

وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق

سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ

حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح

الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية

والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق

جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه

السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر.

هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال

والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر

وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح

فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني.

بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء

إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن

سينا وفقه أبي حنيفة

إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال

ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء

أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه

وغلطه وتحريفه.

(المنار)

هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض

الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما

كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع،

وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس

ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح

ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها

(كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى

مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد

اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له

ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين.

وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني

والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح،

وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات،

فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت

ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط

المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.

_________

(*) المنار: الدوي: هو صوت النحل، وكذا صوت الذباب والريح، وأما الأزيز فإنه صوت المِرْجَل (القِدْر) عند الغليان، ويقال أيضا أزيز الرعد.

ص: 110

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(كليلة ودِمنة)

لهذا الكتاب من الشهرة ما يُغني عن التعريف به، والتنويه بما فيه من الحِكَم

الرائعة، والآداب العالية؛ في العبارة البليغة والأسلوب الرفيع. قلما يوجد كاتب

مجيد في هذه اللغة لم يكن كتاب كليلة ودمنة من مادته، وهو من الكتب التي عُنيت

نظارة المعارف في مصر بطبعها وأوجبت على تلامذة مدارسها مطالعته؛ ليكون

عونًا لهم على تحصيل مَلَكَة الإنشاء والتحرير، وليستفيدوا من آدابه وحكمه ما

يفيدهم في أنفسهم، كما يفيدهم بعبارته في أقلامهم وألسنتهم. وقد طبع غير مرة في

مصر وبيروت وأوربا، ولكن كل طباعته عاطلة من حلي الصور التي وضعت

في أصله لتمثيل ما فيه من الحوادث والأمثال، أو لأجل (زيادة الأنس للقلوب،

وشدة الحرص عن المكتوب) كما قال ابن المقفع مترجم الكتاب حتى عثر الشيخ

أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت على نسخة خطية من

الكتاب مزينة بالصور في مكتبة الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق الشام

كتب عليها (إن نسخها قد تم في العاشر جمادى الأولى - سنة ست وثمانين بعد

الألف على يد أبي المنا بن نسيم النقاش) ، وعدد الصور فيها 86 فأخذ نسخه وكلف

بعضه مهرة الصناع الأوربيين بنقلها إلى الزنك ليطبع عنها فجاءت كأصلها وطبع

الكتاب بالصور واضعًا كل صورة في مكانها من الأصل وقد عني بمقابلة هذه النسخة

على النسخة المطبوعة في باريس سنة 1816 م والنسخة المطبوعة في مصر سنة

1297 هـ والنسخ المطبوعة في بيروت. قال: (اخترت منها ما كان أقربها من

الأصل وأبعدها عن التحريف والتبديل وأسلمها من الزياد والنقصان) ولهذه الصور

فائدة تاريخية؛ لأنها تمثل لنا أزياء تلك العصور الذي وضع فيها الفيلسوف الهندي

كتابه، وشيئًا من عاداتهم، وفائدة صناعية من حيث فن الرسم والتصوير، والقارئ

يرى أن هذه النسخة أحسن نسخ الكتاب، وهي مشكولة ومضبوطة، ثم النسخة منها

عشرة قروش صحيحة وأجرة البريد قرشان وتطب من إدارة المنار بمصر.

***

(جواب أهل الإيمان في تفاضل آي القرآن)

سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد تقي الدين بن تيمية الشهير عما ورد في

الحديث من أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن وعما

ورد في سور أخرى من التفضيل. فأجاب بجواب مطول فيه فوائد كثيرة لا توجد في

غيره، وطبع في هذه الأيام فكان كتابًا مؤلفًا من 132 صفحة، ومن مباحث

الكتاب بيان معنى المعادلة والتفاضل في القرآن، وما ورد في الفاتحة وأحكام

المذاهب في قراءتها في الصلاة، وبيان كون قصة موسى أعظم قصص الأنبياء في

القرآن، وبيان سبب عدم تكرير قصة يوسف، وغير ذلك من الكلام في قصص الأنبياء ومنها مباحث في القرآن، وكونه غير مخلوق، وفي النسخ مباحث

في التوحيد والاعتقاد والتفسير. وقد طبع على نفقه الشيخ عبد الرحمن زين

الدار الحلبي فجزاه الله خيرًا.

***

(خطب الأعظمي)

قرَّظنا في الجزء الرابع والعشرين من المجلد السابع ما طبع من هذه الخطب،

وانتقدنا على الخطيب الشدة في التعبير في بعض المواضع؛ لعلمنا بأنها تهيج عليه

بعض الجامدين على ما هم عليه الزاعمين أن كتمان عيوب الأمة والسكوت على ما

وصلت من الانحطاط واجب لئلا يطلع الأجانب على نقصنا فيحقرونا أو لأنه لا يصح

أن نبين أن المسلمين الآن منحطون عن الكافرين، ولغير ذلك من الشبه الواهية،

وقد وقع ذلك من بعض أهل الجمود في الهند وأما الذين اطلعوا على نموذج الخطب

في مصر فلم نسمع عنهم انتقادًا؛ لأنهم تعودوا على سماع وقراءة أمثال هذه الزواجر،

وإنني لا أدري أي القطرين أشد جمودًا على الحال السيئة التي وصل إليها

المسلمون: القطر المصري أم القطر الهندي، ولكنني أعلم أن في كل منهما

أنصارًا كثيرين لمن ينادي بالإصلاح ويندد بالتقاليد والعادات الضارة في أمر الدين

وأمر الدنيا، مهما غلظ وشدد، ومن يقل منهم بوجوب إلانة القول فإنما يريد الرفق

بأهل الجمود لعلهم ينجذبون إلى الحق بسهولة ولا يريد أن الشدة في غير محلها أو

غير نافعة.

وأحسن القول عند طلاب الإصلاح ما كان تأليفًا بين المسلمين، وهو أقبحه

عند الجامدين، كما ترى فيما يلي.

***

(أهل السنة والشيعة)

إن العلماء الراسخين من هاتين الطائفتين لا يقولون بأن مخالفهم في المذاهب

كافر خارج من الملة، وأهل السنة يذكرون في كتب العقائد أنهم لا يكفرون أحدًا من

أهل القبلة، وإن أتى بشيء مما يعدونه كفرًا متأولاً فيه، ولا شك أن الشيعة يؤمنون

بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويشهدون (أن لا إله إلا

الله وأن محمدًا رسول الله) وأن كل ما جاء به من أمر الدين حق ويقيمون الصلاة،

ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلاً،

ومع هذا كله تجد من المتعصبين الذين يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) من

يحكم بكفرهم، وأهل السنة والجماعة أحرص على الجمع بين أهل القبلة منهم

على التفريق، ومن القواعد عند بعض فقهائهم - وحبذا هذه القاعدة - أنه إذا وجد مئة

قول صحيح في تكفير مسلم بقول أو عمل أو اعتقاد وقول واحد ضعيف بعدم تكفيره

فالواجب أن يفتى بالقول الضعيف.

لهذا نتعجب أشد التعجب ما بلغنا عن بعض المشايخ المتفقهين في الهند أنهم

كفروا الشيخ عبد الحق الأعظمي؛ لأنه عبر في خطبة له عن الشيعة بقوله:

(إخواننا) وقد يوجد في مصر من يطلق هذه الكلمة على النصارى أو اليهود، ولا

يكفره أحد؛ للعلم بأنه يعني بلفظ الإخوان أخوة الإنسانية، لا أخوة الدين، ولا

وجه لتكفيره، إلا إذا علم أنه يعتقد أن عقائد النصارى وعباداتهم هي عين عقائد

الإسلام، وأنها حق ومرضية عند الله تعالى مثلها؛ لأنه بذلك يكون مكذبًا للقرآن،

وخارجًا خروجًا حقيقيًّا عما جاء به النبي من أصول الإيمان، وأما إذا أراد

مجرد المجاملة كما يجاملوننا بمثل هذا اللفظ، ولا يعنون به أننا على الحق من غير

ملاحظة أمر الدين، ولا أمر أخوة الإنسانية فإنه لا يحكم بكفره مادام يعتقد أن دينه

هو الحق ولا ينكر شيئًا من أصوله المجمع عليها المعلوم بالضرورة أنها منه.

يظن هؤلاء الشيوخ الغافلون المغرورون بخضوع العوام لأقوالهم من غير دليل

ولا برهان أن الإغلاظ على المخالف لمذهبهم، والغلو في عداوته من أسباب تأييد

الإسلام وأهله وخذلان الكفر وحزبه، والبدعة وفرقها، والحق الذي لا مِرْية فيه هو

أن الغلو في الخلاف والعنف في المقاومة هو الذي يغري كل ذي رأي أو مذهب أو

دين بالتعصب فيه، والجمود عليه والدفاع عنه من غير تأمل في كونه حقًّا أو باطلاً

بل لمجرد مقاومة المخالفين، وبذلك تكون الخسارة على صاحب الحق من المختلفين

لأنه لولا الغلظة والتعصب لنظر كل فريق فيما عند المخالف له نظر إنصاف،

والإنصاف أقوى أعوان الحق وأنصاره، ولو جرت القرون الأولى بالإسلام على

طريق الغلظة والشدة في مقاومة المخالف ومجادلته لما انتشر في الخافقين ذلك

الانتشار السريع.

هؤلاء الشيوخ الغالون في التعصب على كل من يخالف آراءهم أو آراء

شيوخهم في مذاهبهم أعدى أعداء الجماعة والسنة؛ لأنهم أقدر من غيرهم على تفريق

الكلمة، فهم يهدمون بناء الوحدة الإسلامية في حزب المحافظين على القديم بشبهة تأييد المذهب ومن ورائهم المتفرنجون يهدمونه بشبهة تأييد الوطنية؛ فالهدم واقع

على بناء الإسلام من داخله ومن خارجه، ولا نصير له إلا فئة تحاول الجمع

والتأليف بحمل أهل المذاهب المختلفة على تحكيم الكتاب العزيز والسنة المتواترة

فيما شجر بينهم وأن يعذر كل فريق منهم الآخر فيما وراء ذلك من الأمور

التي فيها للنظر والاجتهاد مجال، وبإقناع المتعصبين للوطنية بأن الاتحاد على

عمارة الأوطان لا يقطع الأخوة بين أهل الإسلام والإيمان، فنسأل الله أن

ينصر هذا الحزب ويؤيده على أعداء أنفسهم وأعداء ملتهم بأن يوفقهم

للدخول في السلم كافة واجتناب خطوات الشيطان الرجيم.

***

(مناظرة مَتَّى بن يونس وابن سعيد السيرافي)

كان بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي مناظرة في

المفاضلة بين المنطق والنحو وكان الفلج فيها لأبي سعيد في محفل حافل بالعلماء

والفضلاء؛ فأدلى بحجة على أن النحو قد يغني عن المنطق، وأن المنطق لا يغني

عن النحو، ولا شك أن (مَتَّى) قد عجز عن بيان فائدة المنطق، وأن بعض ما قاله

(أبو سعيد) في حجاجه لا يخلو من المغالطة ولكنه في بلاغته وقوة عارضته قد

اختلب خصمه الذي كان عييًّا حصرًا، لا يقدر أن يبين ما يعلم حق البيان.

والمناظرة من رواية أبي حيان التوحيدي وهي بعبارة انتهت إليها البلاغة، وبراعة

الأسلوب، وقد عني بطبعها صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق الأستاذ

بمدرسة أكسفورد الجامعة، وطبع معها ترجمتها بالإنكليزية له، والطبعة العربية لا

تخلو من تحريف قليل يعرف أكثره مما وضع في الهامش من اختلاف النسخ فنثني

على همة الدكتور لعنايته بخدمة لغتنا ثناء حسنًا.

***

(الهدى)

مجلة إسلامية علمية أدبية عمرانية إصلاحية تصدر في غرة كل شهر عربي

لمديرها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ومدير المجلة المدرسية وقد

صدر الجزء الأول منها في غرة المحرم الماضي في 28 صفحة كبيرة، وفيها بعد

فاتحة المجلة وبيان منهاجها (دعوة شريفة يخاطب بها الكاتب علماء هذه

الأمة بوجوب مقاومة البدع الغاشية، وجمع كلمة الأمة المتفرقة، ومقالة في آراء

حكماء العرب في المعدن والنبات والحيوان والإنسان، ومقالة في العلوم الاجتماعية

لأحد طلبة مدرسة الحقوق ونبذة عن مسلمي القزان، وخطرات في الإصلاح،

وقصائد لبعض شعراء العصر. وقيمة الاشتراك فيها للمصريين 40 ولغيرهم 12

فرنكًا، فنتمنى لهذا المجلة التوفيق والثبات.

***

(الصحافة)

جريدة أسبوعية تصدر في القاهرة لصاحبها ومحررها مصطفى أفندي توفيق الجراحي مؤلفة من ثمان صفحات بشكل الجريدة الرسمية، وتطبع على ورق جيد،

وهي من أحسن الجرائد الأسبوعية بمصر نزاهة واعتدلاً، وقيمة الاشتراك

فيها 70 قرشًا في مصر و22 فرنكًا في غيرها،فنتمنى لها التوفيق والنجاح.

***

(الهجرة)

جريدة أسبوعية تصدر في طنطا لصاحبها ومدير سياستها عبد الرحمن

أفندي الذهبي وهي كسابقتها في مقدمة الجرائد الأسبوعية موضوعًا على حداثة عهدهما وقد قرأنا فيها مقالات مفيدة ولكننا نحب أن يُعنى بتصحيحها فيما يأتي أكثر

من العناية به فيما مضى. وقيمة الاشتراك فيها مئة قرش في القطر المصري و30 فرنكًا في سائر الأقطار فنتمنى لها الثبات والانتشار.

_________

ص: 114

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البدع والخرافات

والتقاليد والعادات

كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد

رسم الخطاب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس

تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل

بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من

الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بالهداية وهداني

إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل

بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها

إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل

للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة -

الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار.

(1)

زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من

مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل

الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله سبحانه وتعالى في العمل مع أنه بريء من

ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في

أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن

الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة

أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية.

(2)

الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم

مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما

يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة

محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة

حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر

المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها

ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا

رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من

المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم

الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم.

(3)

أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا

الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة

الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن

غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن

يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية

التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء

المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس

عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع

مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى

حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة.

(4)

الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم

وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله

يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ

***

(المنار)

اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين

من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد

بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في

مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى

لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور

الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء

المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات

الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في

تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه

أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء

الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى

من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع

الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ

لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛

وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم

بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من

دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من

الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

_________

ص: 119

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(2)

اختيار المرأة لِمَالِها:

إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان

مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق

الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط

السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال

وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا

مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت

بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا

حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن

يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن

أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا

مداهنًا.

يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في

نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون

له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين

اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به

معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي

هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة

للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا

بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم

آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا

يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد

بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية

والاجتماعية؟

يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية

فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي

ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم

عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين)

وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم،

وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على

التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن

نطقت مخالفة.

لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول

عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا

للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر

وآيات للمتفكرين.

وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق

وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان

صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون

على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين

مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري

بذلك أحد منهما قبل الاقتران.

ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون

الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش

كما قلنا آنفًا.

الطريقة المثلى في الاختيار:

يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله

تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم

مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقوله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ

أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74)، وقوله - جل ثناؤه -:

{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) وهذه الصفات بعضها بدنية،

وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما

يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض.

أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة

البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء

حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى

ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن

الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق

فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى

الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب،

(وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال

البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة

الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا

للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة.

قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا

من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم

يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو

النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة

لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق

رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة

التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه.

وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما

الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة.

وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق

بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في

الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم

قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء

حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في

اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق

يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة

للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز

ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات

العفة، قال:

فأول إحساني إليكم تخيري

لماجدة الأعراق باد عفافها

ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛

لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من

غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر

الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من

محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها

من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من

سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي

الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط

العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق.

ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص

والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين

يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق

ويحيط به الشقاء.

وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص

والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون

البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء

وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون،

ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم

والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير

المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم،

إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة

النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على

طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في

داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه

ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل

يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن

على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون

نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم

تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له.

ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا

يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر

عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة.

كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة

معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب

الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر

على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه

الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا

ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة

فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما

صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت.

ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع

بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار

الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه،

ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر

أن جماهير الشبان المحترمين لا يرغبون في غير المهذبة القادرة على إدارة المنزل،

وإقامة النظام فيه؛ بادر الناس إلى تربية بناتهم على الطريقة المرغوب فيها؛ لأن

الفتيات يطلبن الفتيان دائمًا بلسان الحال والاستعداد، فكل ما يشكو منه بعض الشبان

المهذبين من سوء تربية البنات؛ سببه سوء تربية البنين في الجمهور.

وإن لي كلمة قلتها ثم علمت أن للأوربيين كلمة تخالفها؛ فأذكرهما هنا.

أما كلمتهم فهي: (كما يريد النساء يكون الرجال) وأما كلمتي فيه (كما يريد

الرجال يكون النساء) والدليل على هذا أن النساء لا استقلال لهن في أنفسهن

وإنما هن تبع للرجال عند جميع الأمم.

يولد للزوجين غلام وجارية؛ فيربيان الغلام على أن يكون رجلاً مستقلاًّ ببيت

كبيتهما، وعلى أن ينهض بكفالتهما عند الكبر أو العجز إذا كان فقيرين، ويربيان

الجارية على أن تكون تابعة لرجل يتزوج بها فيعولها ويكفلها فيكتفيان أمرها. ينشأ

في الغلام من أول سن الإدراك شعور الاستقلال بنفسه وحاجة غيره إليه، وينشأ في

الجارية شعور القصور والحاجة إلى كفالة رجل غريب مجهول ستكون تابعة له.

ومن التقاليد العامة في أمتنا وفي غيرها أن هَمَّ النساء الأكبر هو: أن يكن بحيث

يحبهن الرجال ويرغبون فيهن؛ لأنهن في حاجة إلى كفالتهم ولا يسهل عليهن طلبهم

إلا بلسان الاستعداد، وكونهن كما يحبون ويرغبون كما قلنا آنفًا، ثم إن الوالدين

اللذين يربيان الغلام والجارية يعلمان أن تزويج الجارية أعسر عليهما من تزويج

الغلام؛ من حيث إنه لا عار عليهما ولا عليه في التماس امرأة بالطلب والبحث؛ ولا

ممن هم دونهم، وأنه من العار العظيم أن يبحثا عن زوج لبنتهما، ويعرضاها على

الرجال، وإن كانوا من الأكفاء، وأشد من ذلك عارًا أن تبحث هي عن الزوج

وتعرض نفسها على من تظن أنه يرضاها، وإن الشرف والمصلحة محصوران في

تعريضها للخاطبين بتربيتها على ما يحب الأكْفاء ويرضون. نعم، إن الأوربيين قد

حاولوا تربية النساء على الاستقلال وتعليمهن طرق الكسب وجعلوا للبنات رأيًا في

اختيار الأزواج، ولكنهم لم يخرجوا عن جعل المرأة تابعة للرجل ولم يقدروا على

جعل أكثر النساء مستقلات في معيشتهن، غنيات عن الرجال، بل هم الذين يربون

بناتهم على ما يرغب فيه جمهور فتيانهم، ويَخْطبُون الزوج بالحال وبالمال جميعًا،

ويشعرون من سعادة الحياة الزوجية بما لا يشعر بمثله من لم يبلغوا شأْوهم في الحياة

الاجتماعية، وللجارية المخطوبة عندهم مقام رفيع، ولربة البيت مكانة عالية ولأم

الأولاد المقام الأعلى، إنما قالوا كلمتهم تلك للترغيب في تعليم المرأة؛ إذ لا يقدر

الرجال على إتقان التربية إلا بإسعاد النساء لهم عليها، ثم إن هذه التربية الاستقلالية

قد أضرت بالنساء أنفسهن حتى كثرت أصوات الكاتبات منهن بالشكوى منهما، ونقلنا

بعض ما كتب في المجلد الرابع فليراجع.

***

الدين والأخلاق:

ملاك تهذيب الأخلاق وقوام الملكات الدين؛ فلو رُبِّي البنات تربية دينية

صحيحة لتم لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدرًا لمحاسن الأعمال، وقرة أعين

للرجال، وقد عرفت الأمم الحية ذلك؛ فعنيت بتربية البنات على آداب الدين

وأخلاقه وأعماله على فساد عقائد الكثيرين من علمائها وحكمائها؛ ذلك بأن هؤلاء

الذين رأوا في دينهم ما لا ينطبق على علمهم القطعي فتركوا الدين للعلم يعتقدون أن

الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن هذا الروح هو الأصل في الحياة

الزوجية والحياة القومية لاسيما في النساء والناشئين؛ فإذا هو زال تعذر الاستغناء

عنه أو استبدال غيره به؛ كالشرف والعلم بالمصلحة. والذين جروا على هذه

الطريقة من نصارى الشرق يتحامون الانتقاد على الدين في حضرة النساء، وإن

كانوا لا يعتقدون ولا يؤمنون لئلا يتسرب الشك والارتياب إلى نفوس النساء، بل

أخبرني بعض علمائهم وأدبائهم المشهورين أنهم يكونون في النادي أو السامر ينتقدون

بعض رجال الدين منهم؛ فتدخل إحدى النساء فيحولون الحديث لكيلا تسمع انتقادهم

فيقل احترام الدين من نفسها ويضعف الشعور به في قلبها. ولا تجد جزءاً من هذه

العناية عند المسلمين الذين جهلوا الدين فأهملوه، بل ولا عند الذين سلم

اعتقادهم وحسن عملهم. وكل ما عند النساء المسلمات من الدين فهو من تقليد

الذين نشأن فيهم وتربين بينهم ليس للرجل فيه عناية ولا عمل، ويا ليت فساق قومنا

وزَنَادِقَتهم يكتفون بإهمال تربية النساء على آداب الدين، وتعليمهن أحكامه، ولا

يُظهرون لهن ما هم عليه من الفساد والإلحاد، فقد حدثني كثيرون من الثقات

المختبرين أن كثيرًا من المسلمين (الجغرافيين)[*] يجتمعون مع عيالهم لطعام الغداء

بعد الظهر في شهر رمضان، وأن منهم من يتزوج بالمرأة فيكرهها على

شرب الخمر معه، وأخبرني شيخ من أهل القاهرة أن رجل تزوج ببنت من أقاربه -

أي أقارب الشيخ- فدعاها إلى شرب الخمر معه فأبت ولما أعياه إلزامها طلقها.

وأغرب من هذا ما يتحدثون به عن بعض أصحاب البيوت أو البيوتات من إشراك

البنات مع الرجال في معاقرة الخمر، ومن إحضار أهل الرقص والعزف من

الرجال والنساء إلى البيوت واجتماعهم في بعض الحجرات على المعاقرة

والمخاصرة، والنساء يسمعن وينظرن من وراء السجوف والأستار.

يظن الكثيرون من فساق البلاد المشرقية أن الدين في أوربا قد صار نسيًا

منسيًّا، وأن ذلك لم يزد أممها إلا ارتقاء؛ لأنه أثر الارتقاء؛ وذلك أن هؤلاء لا

تتوجه نفوسهم ولا يهديهم استعدادهم إلا لمعرفة أمثالهم، والصواب أن أكثر أهل

أوربا متدينون، وإنما أبطلوا التقاليد النصرانية التي تنافي العمران والارتقاء؛ لأنها

ليست إلا من وضع الرؤساء؛ وهم مع ذلك أشد الناس تعصبًا لدينهم، وعلى من

يخالف دينهم، ولا ينافي ذلك كثرة الفسق في بلادهم لا سيما التي تغلب فيها

الكاثوليكية كفرنسا وإيطاليا؛ فإن من الأسباب في ذلك المذهب -الذي يعد من

أصوله-: أن القسوس والرؤساء يغفرون الذنوب، كما أن من أسبابه: الحرية

الشخصية، وعدم النكير، وإباحة الخمر (أم الخبائث) ولقد يسهل على الفاسق أن

يجد كثيرًا من الفاسقين والفاسقات في كل المدن العظيمة في الأرض، حتى ما كان

فيها الفسق منكرًا وممنوعًا إظهاره لا يراه إلا الباحثون عنه ومن بحث عن شيء مما

لا يخلو العمران منه وجده؛ فإذا هو قصر همه عليه، ظن أن كل النساء أو جلهم

على مذهبه فيه.

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

أهل فرنسا أقل الأوربيين تمسكًا بالدين؛ لتطرفهم في الحرية والجمهورية التي

يرون سلطة الكنيسة الكاثوليكية خطرًا عليها، ولذلك قاوموا جمعيات القسيسين

ومدارسهم، وقد سألت فرنسيًّا عن تدين قومه، فقال: (أكثرنا متدين يحب الله ولكن

لا نحب الكنسية) .

إذا فرضنا أن تعميم التعليم والتربية على حب الوطن والآداب القومية قد يغني

عن الدين في إصلاح حال البيوت والجمعيات؛ فأوربا هي التي يمكنها أن تستغني

عنه بذلك ولكنها لم تقل بذلك ولم تُعمل به، ولا أدري بماذا يستغني المسلمون عن

آدابهم الدينية التي أمسوا لا يبالون بها. هل الرابطة الوطنية التي يلفظ بها مصطفي

كامل وأضرابه من الأَحْدَاث المتفرنجين كافية في هذه الأمة التي غلب عليها الجهل

والأمية، ووقع معظم أوطانهم في قبضة الدول الأجنبية - لأن تصلح ما أفسد الزمان

فيها من الآداب الشخصية والروابط الزوجية لتكوِّن منها أمة عزيزة قوية، وهل

يكفي في نفخ روح هذه الحياة الوطنية أن ينعق ناعق في الأمة بمدحها، وإن لم

يسمع نعاقه إلا قليل ولم يفهم مراده منهم إلا أقل القليل، وأكثر من فهم ومن لمن

يفهم، يرى أن النفاق وسيلة للدرهم؟

ومن العجائب أن هؤلاء الأحداث المتفرنجين يهذون أحيانًا أو كثيرًا بالكلام في

الأمة والملة، ويشكون بالقول من سوء الحال وخطر الاستقبال ثم لا ينتبهون

لوجوب بث روح الدين في البيوت، وتربية النساء على أعماله وآدابه ليربوا

الأطفال عليها، بل تراهم بسيرتهم عونًا للجهل على إفساد بقايا الدين التقليدية؛ إذ

لا يتعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا يعملون بما هو معلوم منه بالضرورة، ولا

يسألون عن دين من يخطبونها؛ وإنما يسألون: هل تعلمت لغة أجنبية؟ هل تعلمت

العزف على البيانو والعود؟ هل عندها مال كثير يساعدنا على المصيف في أوربا

والتمتع بلذاتها؟ ، وأعجب من هذه أنهم يدَّعون أحيانًا الانتصار للدين بذم أوربا

وذكر طمعها في بلاد المسلمين، واعتدائها على استقلالهم وعلى دينهم بما تبعثه من

الكتب والدعاة إلى النصرانية. ويزول هذا العجب إذا عرف سببه، وهو مخادعة

المسلمين بإيهامهم خدمة الملة لينفحوهم بالدرهم والدينار، وأنَّى يخدم الملة من لا

يفهم كتابها، ولا يعرف سنتها، ولا يتحقق بعقائدها ولا يقيم عباداتها، ولا يتخلق

بأخلاقها، بل أخذ عن أوربا من الأخلاق والعادات ما يفرق به كلمتها، ويبطل به

وحدتها، وينسخ به شِرعتها، ثم هو يشكو منها ومن آثارها في إفساد النابتة

ومجموع الأمة! .

وجملة القول: إن الحياة الزوجية في المسلمين لا يمكن أن تكون سعيدة في

نفسها ووسيلة لارتقاء الأمة وتعزيزها إلا إذا كان الزوجان معتصمين بحبل الدين،

مستمسكين بعروته في الأخلاق والآداب والأعمال؛ ليكونا قدوة لأولادهما في ذلك.

وإن الخطر الذي يهدد المسلمين وينذرهم بزوال سلطتهم من الأرض لا يزول إلا

بصلاح حال البيوت الأدبية على هذا الوجه. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (تنكح

المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)

رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا الترمذي عن أبي هريرة، ولكن مَنْ لنا

مَنْ يُصلح لنا أخلاقنا، وآدابنا الدينية، وليس لنا زعماء ولا سراة من أهل الدين

والحكمة. وإذا ظهر فينا زعيم فإننا لضعف استعدادنا لا ننتفع به، بل يُحَكِّم فيه

جمهورنا كلام الأَحْداث المغرورين، الذين يضرهم ويفضحهم ما يدعو إليه من إحياء

روح الدين!.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نعبر على المسلمين الذين ليسوا على شيء من الإسلام بالمسلمين الجغرافيين؛ لأن الإحصاء الذي يذكر في كتب الجغرافية يعدهم منهم، وقد نبهنا على هذا من قبل.

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حقوق الذميين ومعاملة الأجانب

(س 9) أ. م. في سراي بوسنة: كتب محمد فريد وجدي في كتابه

(تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) في بحث واجبات المسلمين بالنسبة

للذميين، أي أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين في صحيفة 86 (وقد ترك لنا

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم أُسوة يجب أن نأتسي بها في

معاملة الأجانب عن ديننا ومخالفي معتقداتنا؛ فإنه عليه أشرف التحية والسلام كان

يحضر ولائمهم ويغشى مجالسهم، ويشيع جنائزهم، ويعزيهم على مصائبهم) .

ونحن لم نطلع على ذلك في كتاب غير كتابه المذكور ولا ندري: أيجوز ذلك

أم لا؟ وخصوصًا تشييع جنائزهم، فإنه صلي الله عليه وسلم على ما نعلم نُهِيَ عن

ذلك بقوله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وهذا وإن نزل في حق الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛

إلا أنه يدخل فيهم سائر الكفار قياسًا بدليل قوله عز وجل عقيب ذلك: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84) فجئنا إلى حضرتكم سائلين

أن تبينوا لنا: هل صح أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما نقلنا آنفًا من الكتاب

المذكور، وهل جاز لنا أن نفعل ذلك اقتداء بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن

صح ذلك وجاز لنا أن نفعل؛ فما هو الجواب عن الآية الكريمة المذكورة؟ أفيدونا

بذلك آجركم الله تعالى.

(ج) ما ذكره فريد أفندي في كتابه غير صحيح على إطلاقه، وقد بيَّنا غير

مرة أنه لا يجوز الاعتماد على ما يُذكر في الكتب من الأحاديث والسنة إلا إذا كانت

مَعْزُوَّة إلى مخرِّجيها من المحدثين؛ ليعرف صحيحها من غيره، وعبارة فريد أفندي

تدل على أن ما ذكره كان سنة متبعة، ولو كان كذلك لاتفق الفقهاء أو أهل الأثر

منهم على القول بوجوبها أو سنيتها. نعم ورد في العيادة حديث صحيح ذكرناه في

المجلد السابع وفيه حديث ضعيف عند البيهقي عن أنس (كان إذا عاد رجلاً على

غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي كيف أنت يا نصراني) ولا

يُحتج به. وأي حجة لنا على حسن معاملة المخالفين لنا في الدين أقوى من قوله

تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن

تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8)

إلخ، ومن إباحة طعام أهل الكتاب

والتزوج منهم، ومن وجوب حماية الذمي والمعاهد وغير ذلك مما هو معلوم فلا

حاجة إلى أن نعزو إلى السنة ما ليس منها، ونوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله

تعالى عليهم مما ذكر في السؤال.

أما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات} (التوبة: 84) الآية،

فهو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة والاستدلال به على

تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر، ولم أر أحدًا من علماء السلف

وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من

الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله {وَلَا

تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء بل نقل

بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو

ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم

على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له

أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. وقد ذكرنا في المجلد

الماضي وغيره كثيرًا من أحكام معاملات المسلمين لغيرهم وفيها من التساهل ما

نفتخر به على جميع الملل، فلتراجع.

***

العدالة العامة

وحكمة الله في الناس

(س10) ومنه: ربما يقع البحث عن (الواجب الوجود تعالى وتقدس)

وأوصافه الشريفة وخصوصًا كمال عدله ورحمته تعالى، فيوجد من الشاكين

المشككين من يقول: لو كان الله موصوفًا بكمال العدل لما جعل بعض الناس مؤمنين

وبعضهم كافرين وجعل مأوى الطائفة الأولى الجنة والآخرة جهنم، فإذا أجيب له عن

ذلك بما أجبتم في واحد من أعداد المنار وهو أن الله تعالى لم يخلق كافراً قط إلى

آخر ما قلتم وأقنع بذلك أورد اعتراضًا آخر يقول فيه: نعم سلمنا أنه لم يخلق كافرًا

قط كما قلتم، لكن ليس من العدل أن يجعل بعض الناس مولودًا من الأبوين المؤمنين

اللذين يكونان سبب إيمانه وفي ديار الإسلام التي أكثر أهاليها أهل الإسلام والناشئ

بينهم في العادة يتخذ دينًا ومذهبًا مثل دينهم ومذهبهم، وأن يجعل البعض الآخر

مولودًا عن الأبوين الكافرين اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وفي دار أهل

الكفر الذين بمجاورتهم والنشوء بينهم يكون هو في العادة مثلهم فرب رجل مؤمن

لو ولد من الأبوين الكافرين وخصوصًا في دار أهل الكفر لم يكن مؤمنًا بل قلما

يتصور ذلك وبالعكس؛ رُبَّ رجل كافر لو ولده أبوان مؤمنان، وخصوصًا لو نشأ

بين أهل الإسلام كان مسلمًا ولم يكن كافرًا. فسهّل لبعضهم الدخول إلى الإسلام

ووعده الجنة وصعب ذلك للبعض الآخر وأوعده بجهنم.

وإذا جيء إلى البحث عن كمال رحمته تعالى يقول: إما أنه تعالى ليس

متصفًا بكمال الرحمة، وإما أنه لا يدخل أو لا يخلد أحدًا في النار؛ فإن تخليد

التعذيب لا سيما بالنار التي هي أشد التعذيب الذي إذا ذكر اقشعر جلد الرجل المدني

لا يليق بإنسان، بل يخرجه عن أن يكون رحيمًا وبالطريق الأولى عن أن يكون

متصفًا بكمال الرحمة؛ فكيف يليق ذلك بالبارئ تعالى الذي نقول في حقه: إن أعمالنا

لا تضره ولا تنفعه؟ فنحن أتينا مسرعين إلى باب جنابكم راجين أن تشفوا غليل

صدورنا بحديد الرد على الاعتراضات المذكورة للشاكين المشككين وتروونا بزلال

أجوبتكم الشافية الوافية التي تكون حججًا ساطعة للموحدين، دامغة للذين امتلأت

قلوبهم بشبهات الطبيعيين والدهريين، وخلت عن اليقين المخصوص بالمؤمنين،

لا زلتم ملجأ وملاذًا للمحتاجين، إلى الاستنارة بنور علم الدين المبين، وموردًا للذين

صدورهم ظمأى، وطبيبًا للذين قلوبهم مرضى، قاهرًا للذين أفئدتهم هواء.

(ج) ترى في كتب الصوفية كلمة جليلة يرونها حديثًا عن النبي - صلى الله

تعالى عليه وسلم - ويقول المحدثون إنها لم ترو حديثًا وإنما هي ليحيى بن معاذ

الرازي رحمه الله تعالى، وهي (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولا يعرف علو

قدر هذه الكلمة إلا من عرف نفسه وعرف ربه فإن كانت ليحيى فلله در يحيى. من

عرف نفسه بعرفان معنى الإنسان وما خص به من المزايا والمقومات لا يصدر عنه

مثل ذلك الاعتراض الذي يهذي به جهلاء الماديين أو المقلدين الذين قال في مثلهم

الشاعر:

عمي القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

لا ينكر هؤلاء المعترضون أن الإنسان أرقى المخلوقات المعروفة في هذا

العالم ثم إنهم على اعترافهم بفضل الإنسان، وسموّ الحكمة في خلقه وتقويمه ينبذون

من الأقوال ما يستلزم الاعتراض على خلق الإنسان والاعتراف بأن عدمه خير من

وجوده.

ثم إن لاعتراضهم سببًا آخر وهو الجهل بمعنى ما ورد من إثابة المحسنين

وعقاب المجرمين إذا ظنوا أنه من قبيل عقاب الحكام لمن يخالف أوامرهم وقوانينهم

انتقامًا منهم، والحق أن ما ورد في القرآن من ذلك هو كالشرح لما أودعه الله تعالى

في خلق الإنسان من المزايا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والنتيجة أن ذلك الاعتراض جهل بالحقيقة

وجهل بالشريعة.

بيان ذلك أن الإنسان خلق مستعدًّا لارتقاء وكمال في عقله وروحه غير محددين،

على أن يكون ارتقاؤه بسعيه وعمله الاختياري كما خلق مستعدًّا لأن يهبط بسعيه

واختياره إلى أخس دركة من الشر والرذيلة. هكذا خلق الإنسان كما هو معروف لنا

في أنفسنا وفيما نراه في أفراد جنسنا وجمعياته، ولم يخلق حيوانًا محضًا كسائر

أنواع الحيوان محدود الإدراك والقوى ملهما طلب ما تقوم به حياته الحيوانية

واجتناب ما لا حاجة له به في تقويمها، ولا ملكًا روحانيًّا كامل الخلقة محدود القوى

لا أثر لعلمه في ارتقائه ولا في تدليه، فالإنسان نوع من أنواع الحقائق الممكنة تعلقت

قدرة الله تعالى بإيجاده فوجد على ما نعلم من الاستعداد غير المتناهي الذي تظهر

آثاره جيلاً بعد جيل، ولو لم يوجد الله تعالى هذه الحقيقة لكان العالم ناقصًا، ولم يكن

فيه شيء من هذه الآثار البديعة التي ظهر وسيظهر بها من سنن الله تعالى وحكمه في

خلقه ما لم يكن يظهر لولا هذا النوع المكرم؛ لأن الحكمة الأزلية قضت بأن تكون

آثار مخلوق مختار في عمله غير محدود في قواه وتصرّفه.

لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم تخلق قوة من قواه البدنية والروحية عبثًا فكل قوة

منها آلة لاكتساب الخير والسعي في أسباب الرقي؛ إذا لم يُفْرِط ولم يُفَرِّط في

استعمالها. وقد جعل الله له ميزانين يعرف بهما القسط في الوزن من التفريط وهو

الخسران والإفراط وهو الطغيان وهما العقل والدين. فمن كان له اعتراض على قوة

من قوى الإنسان أو مزية من مزاياه يزعم أنها تنافي العدل الإلهي أو الرحمة العامة

فإننا مستعدون لكشف الشبهة له في اعتراضه وإثبات أن تلك القوة آية من آيات

العدل والحكمة وأثر من آثار الفضل والرحمة.

بعد التسليم بأن الإنسان أثر من آثار الحكمة والرحمة ننظر في تأثير عمله في

نفسه التي هي حقيقتة وجوهره، كما أن البدن صورته ومظهره فنجد أن من تلك

الأعمال ما ترتقي به النفس في معارفها وصفاتها وهو ما تكتسبه من العقائد الصحيحة

والمعارف الحقيقية ومن عمل الخير والبر، ومنها ما هو بضد ذلك والمرتقون هم

الأبرار، والآخرون هم الفجار، وإذ انتهينا إلى هذا الحد من بيان حقيقة الإنسان.

فإننا نذكر مسألة الكفر والإيمان، ونذكر بعدها مسألة الرحمة والعذاب متجنبين

التطويل والإطناب، لما سبق لنا من تكرير الدخول في هذا الباب فنقول:

بينا غير مرة أن عقائد الإسلام هي مرقاة للعقل وآدابه وعباداته مرقاة للنفس

وأحكامه مرقاة للاجتماع وقد ذكرنا هذا المعنى في تفسير: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ

فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ

فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) من هذا الجزء. فمن دُعِيَ إلى هذه الأصول دعوة

صحيحة، فلم ينظر فيها أو نظر فظهر له الحق فعانده ولم يتبعه يكن في غاية

الانحطاط العقلي والنفسي ونهاية البعد عن الحق والخير والتوغل في الباطل والشر

وهو ما يعبر عنه بالكفر والجحود وهو الجاني على نفسه بمعاندة الحق والخير

ورفض سلم الترقي، وأما من لم تبلغه هذه الدعوة على وجهها الصحيح الذي يحرك

إلى النظر ومن بلغته فنظر فيها بالإخلاص ولم تظهر له حقيقتها فهو غير معاند

للحق ولا كاره بسوء اختيار للخير. وعلامة مثله أن يتبع ما يظهر له أنه الحق

ويعمل بما يراه من الخير بحسب فهمه واجتهاده، ولكنه مع هذا لا بد أن يكون منحط

العقل والإدراك؛ إذ عُرض عليه أرقى العقائد وأسمى الفضائل وأعدل الشرائع فلم

يهتد إلى فهم مكانة هذه الأصول فلا يكون ارتقاؤه من فهم هذه الأصول

وتقبلها وكمل نفسه بها. فالناس طبقات في الارتقاء العقلي والروحي أرقاها طبقة

المؤمنين الكاملين و (قليل ما هم) ، وأسفلها طبقة الذين ينبذون الحق لا يحفلون به

ولا ينظرون في دعوته أو يعاندونه ويجحدونه كراهة وعداء لأهله وبينهما طبقات من

الناس كالذين يقبلون الدعوة ولا يقومون بحقوقها كما يجب والذين لم تبلغهم الدعوة

بالمرة. وقد أرشدنا الدين إلى أن الناس يكونون في النشأة الآخرة في دارين

إحداهما دار نعيم ورضوان، والثانية دار آلام وخذلان سميت الأولى الجنة؛ لأن فيها

جنات وبساتين، لا بمعنى أنها بستان واحد فقط، وسميت الثانية النار والجحيم، لا

بمعنى أنها كلها جذوة نار ملتهبة، بل ورد أن فيها زمهريرًا. وأنهما دارا خلود

للسعداء والأشقياء، وكلاهما من عالم الغيب لا يجوز لنا البحث عن حقيقتهما والتحكم

في بيان كُنهما كما هو مقرَّر في علم العقائد من وجوب التفويض في أمر

الآخرة وعالم الغيب.

وخلاصة القول: إن الإنسان خلق مستعدًّا لقبول الحق والباطل، ولعمل الخير

والشر، وهو مختار في أفعاله التي بها يترقى في عقله وروحه؛ وكمالها ما أرشد

إليه الدين الحق أو يتردى فيهما؛ وغاية ترديه الجحود والكفر. وإن خلق الإنسان

على هذه الصفة التي هو عليها من أبدع حكم الله وعدله، وإن هذا النظام والإحكام

سيكون من أثره سعادة المرتقي بالإيمان الكامل والعمل الصالح في الحياة الآخرة،

وشقاوة الكافر المجرم في النشأة الثانية، وكل ذلك نتيجة عمل الفريقين وأثر سعيهما

كما يتنعم العالم الحكيم باللذات العقلية، والمعارف الصحيحة، والأخلاق الكريمة في

هذه الحياة؛ من حيث يكون الجاهل الشرير في عذاب أليم من وساوسه وهواجسه

ومفاسد أخلاقه. فالجزاء في الدنيا وفي الآخرة كله عدل ورحمة؛ لأنه أثر النظام

والحكمة، فالاعتراض على تفاوتهم في الآخرة كالاعتراض على تفاوتهم في الدنيا:

{وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (هود: 101){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) .

وقد بينا هذه المعاني مرات كثيرة في التفسير وفي غير التفسير، وكنا نود أن

نكتب هذا الجواب في وقت صفاء وسعة ليكون أتم بيانًا، ولكن زارنا عند الكتابة

أناس شغلونا بالقيل والقال؛ فإن خفي عن السائل شيء أو أحب زيادة البيان فيه

فليكتب إلينا ثانية، والله الموفق.

_________

ص: 150

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد

وغيرها من البدع

كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد

سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به

في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي

حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛

لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد

أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر

المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه

ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن

حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على

عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص

112 من الفتاوى الحديثية:

وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في

هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في

فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم

لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين

النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا

(تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة

التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا

يضر ذلك؟

فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير

كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه،

وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى)

وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة

المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع

شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا

فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى في

الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر

فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر

وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة

تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون

الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله

تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على

أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن الله تعالى

يباهي بكم الملائكة) .

وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن

الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم

الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول

السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز

قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي

صلى الله عليه وسلم وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب

إلخ.

وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه

فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع

المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع

لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع

المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي

الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على

الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو

نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور

ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي

الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ.

وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر

معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع

عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا.

وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب

النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي

الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم

في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال

يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ

الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله

الموفق.

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال المغرب الأقصى

كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي:

أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد

من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته

تقرير مطالبه الآتية:

(1)

ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من 100 أورطة.

(2)

أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة

وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية.

(3)

أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين.

(4)

مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين.

(5)

تعيين مستشارين فرنسويين للمالية.

ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من

أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير

الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض

طلبات السفير.

ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن

اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل

إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل

الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا

لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها

وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من

حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه.

هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن

الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي

حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت

من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط،

والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير

الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من

(50000)

جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود

ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي

المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة

جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون

المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي

بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس

ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ......) والناس ينتظرون

من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على

الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول

إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من

السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر

هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية

نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور.

أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر

الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية.

ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح

المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان

والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس

فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير

الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح

المدارس ولا إصلاح بدونها! !

رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة

إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية

القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن

ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية

المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم

يكتف بالرد عليكم.

هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي

إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون

نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي

إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) .

اهـ.

(المنار)

إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك

لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ

بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما

يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا

لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك

كرامة لمولاي إدريس رحمه الله فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور

العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار

مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في

حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي

خسر بها الروس نحو150رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع

ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من

فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما

بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا

وبالاً عليهم.

_________

ص: 158

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(3)

وأما العلم فلا يشترطه في المرأة أحد في بلادنا إلا ثلة من المتعلمين

والمتأدبين على الطريقة الإفرنجية، وقليل من العارفين بكُنه مدنية الإفرنج الذين

يقدرون محاسنها قدرها، وإن لم يتعلموا على طريقتهم. ولا يزال أكثر المسلمين لا

يعقلون لتعليم المرأة فائدة، بل يرونه ضارًّا من جهة واحدة هي عندهم لا تُوازَن ولا

تُقابَل بشيء إلا وتكون أربى منه وأكبر، وهي أن البنت المتعلمة تجرَأ على الرجال،

وتقدم على مكاتبة من تميل إليه من الشبان، وإنه ليوجد في المتعلمات لهذا العهد

من يُحكى عنهن ذلك، ومثل هذه الحكايات تسري، وتذيع بسرعة البرق وتؤخذ

بالتسليم، ويجري فيها القياس للقطع بأن علتها التعلم، وأنه حيث وجدت العلة لزمها

المعلول لا محالة. ولا يمكن إقناع العامة بأن العلم ليس علة لمكاتبة البنات للشبان

يلزم من وجودها الوجود، وإنما هو شرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده

وجود ولا عدم؛ لأن العامة لا تفهم مثل هذه الحجج وخاصة النساء، فالعمدة في

إقناعهم بمزايا تعليم النبات هو ظهور أثره الحسن في المتعلمات بمصر وتونس

وسوريا وغيرها من الأقطار،ولم يظهر. على أن التقليد يفعل في الأمم ما لا

يفعل الإقناع؛ وأشد الناس استعدادًا وقبولاً له الشعب المصري، وإذا وُجد في

أمرائه وكبرائه عناية بتعليم البنات تقليدًا للإفرنج الذين يُعاشرون ويُمازجون، فلا بد

أن يَعُمَّ التقليد جميع الطبقات، وقد ظهرت بوادر ذلك منذ أعوام، وهي تنمو مع

السنين والأيام، فالآباء والأمهات صاروا ينبذون بناتهم إلى المدارس،

وهم لا يدرون ماذا يتعلمن ولا يعرفون ما المصلحة في ذلك إلا أن البنت المتعلمة

يرغب فيها الخاطبون الأغنياء ما لا يرغبون في غيرها، ثم إنهم بهذا الاندفاع لا

يميزون بين مدرسة إسلامية أو غيرها، ولا يفكرون في خطر إفساد عقيدة البنت

وتحويلها عن دينها أو عادات قومها وخلائقهم المميزة لهم، ولا في كونها تطرح الحياء

وتتجرأ على مكاتبة الرجال - كما يعتقدون - لأن تيار التقليد الجارف لا تقف في

طريقه هذه الخواطر إن هي طافت بهذه العقول الضعيفة، والقلوب الميتة التي أعوزتها البصيرة والعزيمة، فلم تجدهما في وراثة ولا تربية. وفي هذا الاندفاع

خطر عظيم على الأمة، كنا ولا نزال نحدث الناس به؛ فيقبله المعتدلون وينبذه

الغلاة في التفرنج، وقد أتيح لنا في هذه الأيام ما يقنعهم وهو ما قاله اللورد كرومر في

تقريره عن مصر لسنة 1904، وإننا نذكره هنا لأن بحثنا في الحياة الزوجية إنما

هو من حيث هي ركن لحياة الأمة وسعادتها أو عكس ذلك. قال:

تعليم البنات

(كثيرًا ما أسمع الناس يقيمون الحجج والأقيسة على حمل بعض المسائل

السياسية والإدارية في بَر مصر ويبنونها على فرض أن المصريين لا يزالون

متصفين اليوم بصفات أجدادهم وخصائصهم. وعندي أن هذه الحجج والأقيسة لا

تخلو من سفسطة. فالتغير حاصل ولست أقصد أن أعظمه أو أبالغ فيه، وإنما أقول:

إنه لا يمكن أن كل خلق وصفة من الأخلاق والصفات القومية يتغير تغيرًا تامًّا في

ربع قرن، ولو أمكن ذلك لما كان مستحسنًا؛ لأنه يخشى في مثل هذا التغير السريع

أن يذهب الحَسَنُ من الأمة بجَرِيرَةِ الرديء. ولكن ليكن معلومًا عند الحكام

المصريين وعند كل من له اتصال بأمور مصر أن هناك قوات عاملة قد أثرت في

أخلاق المصريين القومية فغيرتها بعض التغير، وستغيرها أكثر من ذلك على مر

الأيام. وهذه القوات العاملة معظمها يعمل تَدْرِيجًا ويغير رويدًا رويدًا حتى لقد يخفى

عمله عن عيون المراقبين في بعض الأحوال، ولكن بعضها يعمل سريعًا، حتى لقد

غيَّر تغييرًا ظاهرًا محسوسًا.

ومن الشواهد على ذلك تعليم البنات؛ فإن الرأي العام المصري تغير في

هذه الأعوام الأخيرة تغيرًا كليًّا في هذه المسألة الجوهرية العظيمة الشأن. ومما

يزيدنا استعظامًا لهذا التغير في الرأي العام أنه آخر ما كان الناس - حتى الذين

يراقبون منهم أخلاق أهل الشرق أدق مراقبة - يتوقعون حدوثه بمثل ما حدث من

السرعة؛ نظرًا إلى الآراء المعهودة عن مقام المرأة في بلاد مصر. ولكن مصر بلاد

العجائب والغرائب، فلا عجب إذا كَذَّبَ أهلها نبوءات المصلحين الاجتماعيين

بتحولهم عن حال إلى حال؛ تحولاً لم يكن يخطر على بال، فقد كانوا منذ عشر

سنوات لا يُبالون بتعليم البنات، بل ربما استخفُّوا به واستنكفوا منه، ولذلك كانت

كتاتيبهم خالية من بناتهم سنة 1900 ما عدا 271 كُتَّابًا من جملتها الكتاتيب التي

تحت مراقبة الحكومة. وكان عدد كل البنات اللواتي يتعلمن فيها 2050 بنتًا، أما

في سنة 1904 فبلغ عدد الكتاتيب التي يتعلمن فيها 1748 كُتابًا، وبلغ عددهن فيها

10462 بنتًا. وأبلغ من ذلك أن 100 بنت طلبن دخول المدارس الابتدائية العالية

ومدارس تعليم المعلمات بالقاهرة في السنة الماضية؛ فلم يُجَبن إلى طلبهن لعدم

وجود محل لهن فيها. فأحسن خدمة يخدم بها المصريون المعارف والتعليم في

بلادهم تقوم بإنشاء مدارس ابتدائية منظمة للبنات في بنادر القطر.

هذا وإن قلة المعلمات المدربات على التعليم أفضت إلى تأخير تعليم البنات

في جميع فروعه، ولكن العقبات في هذا السبيل أسهل من العقبات التي في سبيل

وجود المعلمين المدربين على التعليم؛ فإن عند نظارة المعارف في المدارس

الابتدائية العالية والكتاتيب عددًا قليلاً من البنات المسلمات الممرنات على التعليم.

وعليه يتسع نطاق تعليم البنات شيئًا فشيئًا وفي مدرسة المعلمات الآن 15 تلميذة

ينتهي معظمهن منها في الثلاث سنوات القادمة، وينتظمن في سلك المعلمات. وقد

أخبرت أنهن متى انتهين من المدرسة لم يعسر وجود غيرهن من اللواتي يدرسن

مكانهن.

أما مقدار ما تؤثره هذه النهضة لتعليم البنات في أفكار الجيل المقبل من

بنات مصر وفي أخلاقهن ومقامهن فستُظهره لنا الأيام على مر الأعوام. على أنه إذا

تأتَّى عنها تغيير في مقامهن فالمأمول أن هذا التغيير يكون تدريجًا، وعسى أن

المصلحين الاجتماعيين - من أبناء مصر- يحفظون في أذهانهم قول مَثلهم العربي

(العجلة من الشيطان والتأني من الله) وعلى الأخص في هذه المسألة أكثر مما في

غيرها؛ لأن العجلة فيها يمكن أن تؤدي إلى طامة أدبية عظيمة، على أنه إذا لم

يتغير مقام المرأة المصرية تغيرًا تدريجيًّا فمهما قلد المصريون أهل التمدن الأوربي

ظاهرًا فهيهات أن يتشربوا روح التمدن الأوربي الصحيح بأحسن مظاهره حقيقة)

اهـ كلام اللورد.

فلينظر وليتأمل القارئ البصير كيف عَدَّ هذا السياسي الحكيم تحويل أهل

مصر بسرعة من حال إلى حال في هذه المسألة من العجائب والغرائب، التي لم

تكن تخطر في بال أحد من علماء الاجتماع وكيف أشار إلى أن هذه العجلة شيطانية

ونقول: إن نصيحته هذه للمصلحين من أبناء مصر سيحفظها له التاريخ ويذكرها له

في المستقبل مقرونة بإجلال الفضيلة والإخلاص لا سيما إذا كان إثم الانقلاب المنتظر

أكبر من نفعه كما يتوقع.

كانت حال النساء في أوربا على أسوء ما يخطر في بال البشر من المهانة

والاحتقار ولذلك كان ما يسمونه (رد الفعل) في التحول والانقلاب عظيمًا؛ فبعد أن

كانوا يعتقدون أن المرأة ليست من البشر، وإنما هي حيوان دون الإنسان وفوق

سائر الحيوانات، وبعد أن كانوا يَسُومُونها الخسف، حتى حرموا عليها أكل اللحم،

ومنعوها الكلام والضحك في حضرة الرجال، وأوجبوا عليها السمع والطاعة لزوجها

في كل شيء، ولو كان ضارًّا أو خسيسًا أو شاقًّا لا يطاق؛ أطلقوا لها العنان تتعلم ما

تشاء، وتعمل ما تشاء، وتتهتك كما تشاء وتحكم كما تشاء، حتى صارت تشارك

الرجال في أعمالهم الخاصة خارج البيوت فأهمل من أمر نظام البيوت بقدر ذلك ولا

غنى للبيوت عن النساء، وكل عمل خارجها فهو مستغن بالرجال عنهن، وانتهى

الأمر بكثيرات منهن إلى اختيار التبتل فرارًا من أثقال الزوجية، وناهيك بانتشار

البغاء، وشيوع الفاحشة وما في ذلك من المفاسد والمضرات.

وقد أنشأ العلماء والحكماء يشعرون بخطر هذا الإطلاق لصنف لا همَّ لأفراده

غير الزينة والراحة، واتباع هوى النفس؛ لأن وجدانهن أقوى من عقلهن، ولكن كل

ما يتعلق بصفات الأمم وشؤونها لا يظهر نفعه أو ضرره، ولا يمكن إيجاده أو منعه

إلا في زمن طويل.

ليس من غرضنا في هذا المقال أن نبحث عن أحوال الأمم في انتقالها وتحول

أحوالها، ولا عن حال النساء في أوربا، ومنافع تعليمهن ومضاره، وإنما غرضنا

أن نبين أن العلم الذي ينبغي أن تعرفه المرأة هو ما لا يخرج بها عن كونها امرأة

وهو ما تكون به قرة عين وخير سكن للرجل المتعلم يحسن معها به عيشه ويكون

عونًا لها على تهذيب ولده وإدارة شئون بيته لا ما تكون به فيلسوفة ولا سياسية ولا

صانعة، وهذا ما اختارته أرقى دول أوربا في العلوم والمعارف، وهي دولة ألمانيا

التي ينسب إليها بعض دول أوربا التقصير في تعليم النساء وستضطر كل الدول إلى

سلوك سبيلها في يوم من الأيام.

ليس البيت مملكة فيتوقف عمرانه على العلوم العالية والفنون الصناعية

والزراعية والتجارة، وتتوقف إدارته على معرفة الشرائع والقوانين، وليست

العلاقة بين البيوت كالعلاقة بين الدول فتضطر ربَّة البيت في حفظ حقوقه إلى

التوغل في السياسة والفنون العسكرية، حسب المرأة أن تتقن لغة أمتها وتعرف

آدابها وأن تعرف الحساب وعلم تدبير المنزل، وعلم حفظ الصحة، وعلم الأخلاق

وعلم التربية، وأن يكون هذان العلمان قائمين على أساس الدين مقرونين بمعرفة

عقائده وآدابه وأحكامه والتاريخ العام بالإجمال، وتاريخ أمتها وبلادها بالتفصيل وعلم

تقويم البلدان وعلم الاقتصاد. ثم مبادئ وموضوعات سائر العلوم وفوائدها بقوة

الإجمال، وأن تعرف الطبخ والخياطة والتطريز وما يتصل بذلك، ولا يصدنها عن

هذا أنها من بيوت الأغنياء الذين لا يطبخون طعامهم ولا يخيطون ثيابهم بأيديهم؛ فإن

علمها بذلك وتمرنها عليه نافع بل ضروري، وقد بلغنا أن قيصرة روسيا تحسن

الطبخ والخياطة وكانت فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند تنسج وتخيط

وتطرز، فهذا كمال للنساء إن لم يعملن به فعليهن أن يعلمن كيف يعملن في بيوتهن

ويعرفن نفقته ودرجة جودته، ويحسنّ المراقبة والرياسة على الخدم التي تقوم به.

أما معرفة موضوعات وغايات العلوم والفنون المتداولة في الأمم الحية فلها

فوائد، منها: أن لا تكون عدوة أو كارهة لشيء نافع لقومها فإن من جهل شيئًا عاداه

وكرهه، وأن الإنسان يكون ناقصًا بمقدار ما يجهل من المضار والمنافع. ومنها أن

تعرف قيمة زوجها إذا هي تزوجت بمن يشتغل بعلم أو فن مما يجهل النساء

تفصيله، فإذا رأته يشتغل بتجارب زراعية أو كيماوية مثلاً عرفت فضله في ذلك

ورجت له من الفائدة ما تكون عونًا له على عمله. فإن المرأة التي تجهل قيمة

زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله

إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة

بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين

بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية التي بيَّنّا معناها في النبذة

الأولى. ومن تلك الفوائد أن يكون لها رأي فيما تنصرف وجهة أولادها لإتقانه من

العلوم والفنون بعد التعليم الابتدائي والثاني. وكثيراً ما يموت الوالد وتكون المرأة

هي القيِّمة على أولادها منه فينبغي أن تعرف وجهتهم في المدرسة وغايتهم في

التعليم لتحسن القيام عليهم.

وأما فائدة اللغة وآدابها فهي بديهية لمن يقول بالتعليم، فالمرأة التي لا تفهم لغة أمتها العلمية الأدبية تكون بمنزلة البهائم لا تشعر إلا بالحاجات الجزئية التي أودع

الشعور بها في فطرة كل حيوان، ويكون سكون الرجل العالم الأريب إليها بمقدار

الداعية الحيوانية إلى ملامستها في وقت هذه الداعية، وتكون في سائر الأوقات

كَلاًّ عليه وبلاءً ومصابًا؛ إذ يراها مباينة له في إنسانيته لا تشاركه في حسن

تصوره، ودقة مداركه، ورقة شعوره بالمعاني الأدبية والأفكار الاجتماعية،

ويرى إقناعها بالمسائل المعقولة والمصلحة القطعية متعذرًا أو متعسرًا عليه؛

لأنها ليس لها لغة تعبر عما وراء الضروريات التي يدور عليها كلام العامة، ثم إنه

إذا سافر تنقطع الصلة بينه وبينها لا يكتب إليها ولا تكتب إليه فيما يتعلق بشؤون

البيت ومصلحة العشيرة إلا إعلامًا بالصحة واستعلامًا عنها ونحو ذلك، ويتعذر

عليه أن يشعرها بما يشعر به في سفره من لذة وألم وسرور وكآبة كما يتعذر

عليها ذلك.

وأما فائدة الحساب فلا يجهلها أحد في البشر؛ إلا أن يكون بعض أهل الأزهر

فالمرأة التي تعرفه يمكنها أن تضبط نفقات البيت على القاعدة التي يسمونها

الميزانية، فتجعل الخرج على نسبة إلى الدخل معروفة، فهو عون على الاقتصاد.

وقلما توجد امرأة في الأرض لا تشتري ولا تبيع شيئًا، ولا تعامل أحدًا بالمال،

والنساء اللواتي يملكن المال والعقار والأرض والعروض كثيرات، والإسلام جعل

لهن حق التصرف في أموالهن فالمرأة التي لا تعرف الحساب تكون عرضة للخطأ في

كل معاملة مالية؛ فيغشها البائع والمشتري والوكيل والأجير، ويطمع في اغتيال

مالها زوجها السفيه، ويعبث به ولدها الصغير.

وأما الاقتصاد الذي يعد الحساب من وسائله؛ فهو روح المعاملة وأُسّ النظام

ومِلاك المعيشة ودعامة السعادة. فإذا لم تكن ربة البيت عارفة بهذا الفن عاملة به فلا

يستقيم للمعيشة حال، بل تكون مضطربة بين أمواج الحوادث يتقاذفها اليسر والعسر،

ويتناوبها الغِنى والفقر، وليس الرجل بمغن في اقتصاده عن اقتصاد المرأة عن

رضى واقتناع، ولا رضى ولا اقتناع إلا بالعلم والمعرفة؛ بأن مصلحتها ومصلحة

بيتها في الاقتصاد. ألم تر أن معظم المال يذهب في سرف النساء وخيلائهن، ألم

تسمع أنين الرجال وأطيطهم من ثقل النفقة على ما يبتدع النساء كل حين من الأزياء،

والتنقل في ضروب الحلي والحلل؟ ألم تعلم بأنهن لا يعذرن الرجل؛ إذا قال: لا

أستطيع، لا أقدر، لا أملك، بل ينغصن عيشه، ويسلبن راحته، أو يبذل لهن ما

يطلبن ولو استدانه بالربا الفاحش أو باع لأجله الغالي النفيس بالثمن البخس؟

هذا مما تعرف، فهل لك أن تضم إلى معرفة الداء معرفة العلاج؛ وهو أن

تتزوج بامرأة كاتبة، حاسبة، مقتصدة، وتجعل للبيت بالاتفاق معها ميزانية يكون

الخرج فيها جزءًا من الدخل، وتكون هي المنفقة والقيمة، كما تجعل لأرضك

وعقارك ميزانية تكون أنت المنفِّذ لها، وبذلك تكون امرأتك مقتنعة بأن ما وفر من

الدخل في الحال هو عُدة لها ولأولادها في الاستقبال.

جَرَّبَ كثير من الرجال هذا العلاج فوجدوه نافعًا مفيدًا، ومنهم من أسعده الحظ

به على غير علم بفائدته؛ فأصاب السعادة عفوًا. أعرف رجلاً مسرفًا كان يضيع

كسبه الكثير بغير عقل ولا حساب، ويضطر إلى الدَّيْن حتى أخذ الدَّيْن بتلابيبه؛ لأنه

كان جاهلاً سكورًا فتزوج بفتاة كانت يهودية وأسلمت إسلامًا صحيحًا؛ فما عتم أن

حسُنت حاله فقلَّ سَرفه، وحسن عمله، وقضى دينه ثم صارت له ثروة مدَّخرة.

وحُدثت عن رجل في مصر له راتب من الحكومة لم يكن كافيًا لسعته في نفقاته

الشخصية؛ فتزوج بفتاة متعلمة مهذبة؛ فهو يعيش معها في هناء ونعيم ويقتصد من

راتبه شيئًا يدخره للمستقبل المجهول، بل أعرف غير واحد من الفقراء جعلوا كسبهم

في أيدي نسائهم فكانوا معهن في عيشة راضية يزيد فيها دخلهم على نفقتهم زيادة لها

شأن عندهم.

وإنني أظن أنه يصعب على أكثر النساء أن يبذلن جميع ما في أيديهن من

المال في الأمور الزائدة على الضروريات أو الحاجيات، ولكن يسهل عليهن أن

يبذلن أكثر مما في أيدي أزواجهن إذا كانت النفقة بيده. فالمرأة الجاهلة تقدر على

الحياة الاقتصادية في بيت فقير ولا تقدر على ذلك في بيت غني ولا متوسط إلا

بالعلم وحسن التربية.

وأما علم حفظ الصحة: فهو ضروري لكل إنسان سواء كان يعيش منفردًا أو

زوجًا أو صاحب عيال، ورئيس عشيرة؛ فمن عرف هذا العلم سهل عليه التوقي

من أكثر الأمراض والأوبئة، ووقاية من يعوله منها؛ وإذا هو أصيب بمرض فإنه

يحسن وصفه وبيان أسبابه وكيفية سيره للطبيب؛ فيكون أكبر عون له على

تشخصيه ومعرفة حقيقته، ثم إنه يحسن العمل بما يأمره به الطبيب من المعالجة فربة

البيت الجاهلة بهذا العلم تكون بلاء على نفسها وعلى زوجها وأولادها، ولا يمكن أن

تقل الأمراض والأدواء في أمة إلا إذا تعلم نساؤها هذا العلم، فكم من طفل فتك به

المرض لجهل أمه بمداواة صحته، وكم من امرأة قتلت ولدها أو زوجها بنفس

الأدوية التي وصفها الطبيب لشفائه لجهلها بأسمائها وبمقادير ما يعطى المريض منها.

ولقد يتعسر على المريض العالم أن يحسن معالجة نفسه في بيت قيِّمته جاهلة؛ لأن

أي عمل في البيت لا يتم إلا بها.

وأما علم الأخلاق فهو عون للإنسان على تكميل نفسه في الكبر، وعلم التربية

يتوقف عليه؛ لأن من لا يعرف قوى النفس وكيفية تكوين ملكاتها وانطباع أخلاقها

وطريقة تأديبها وآثار صفاتها ووجدانها فهو لا يعرف معنى الإنسان أو هو ليس

بإنسان كامل؛ فيتعذر عليه تكميل غيره بحسن التربية التي هي أهم ما يجب على

المرأة وأعلى ما يطلب منها.

ويدخل كل ما تقدم في علم تدبير المنزل ما عدا مبادئ الفنون وعلم اللغة التي

هي وسيلة كل علم؛ لأن المراد بتدبير المنزل سياسة أهله وموضوعه حقوق كل من

الزوجين على الآخر وحقوقهما على الأولاد والخدم، وحقوق هؤلاء عليهم وطريق

قيام كل بما يطلبه منه. والمرأة هي ربة البيت ومديرة نظامه؛ فينبغي أن تكون

عارفة بما عليها، ومرشدة للأولاد والخدم إلى ما يجب عليهم تحت رعايتها لينتظم

شأن البيت فتكون العيشة راضية، وليتربى الأولاد بالقدوة الصالحة فيكونوا

أعضاء صحيحة عاملة في الأمة.

ومعرفة التاريخ وتقويم البلدان هي التي تودع حب الأمة في القلب، وتبعث

فيه روح الغيرة؛ فإذا كانت المرأة جاهلة بتاريخ أمتها ومكانتها من غيرها فهي لا

تشعر بأنها عضو من جسد أمة كبيرة، لها حقوق يجب على الأفراد القيام بها،

وعلى الوالدين تربية أولادهم على احترامها، والتنافس في المسابقة إليها، واعتقاد

أنها دعامة الشرف وركن العزة والسيادة. يكون الإنسان كبير النفس، وعظيم الهمة

إذا كان يشعر بأن وجوده غير محصور في مساحة جسمه الصغير، وإنما

هو واسع بروحه المنبثة في عالم كبير يسمى الأمة تعمل له كما يعمل كل عضو في

جسده لمصلحة الجسد كله. ويكون أكبر وأعظم إذا كان يشعر بأن وجوده أوسع

وأرقى؛ لأنه خلق ليعمل ما يفيد البشر كلهم بالتقريب، والجمع بين المختلفين

والتأليف بين المتنافرين وغير ذلك من الأعمال أو يبث العلوم التي ينتفع منها

الجميع. ويكون الإنسان حيوانًا حقيرًا ضيق الوجود؛ إذا كان علمه وعمله مُوَجَّهَيْن

لخدمة شخصه ومن عساه يتصل به اتصالاً محسوسًا كأهله وعشيرته. ومن كانت

هذه حاله فإنه لا يرجى منه أن يربي أولادًا ينفعون أمتهم ووطنهم أو ينفعون الناس

أجمعين. لذلك كان لا بد لكل إنسان من ذكر أو أنثى أن يعرف التاريخ ليتسع

وجوده بقدر استعداده لعله يربي من ينفع الأمة والناس. وعلم تقويم

البلدان في معنى التاريخ، بل هو منه في الأصل ثم صار أصلاً مستقلاًّ، تلك

إشارة إلى ما يطلب من كمال المرأة وتُختار لأجله. وسنكتب كلمة في اختيار

المرأة للرجل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 161

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

(أسئلة من السيد محمد بن يحيى الصقلي الحسيني من بلاد الجزائر)

قال بعد رسوم الخطاب: لما نظرنا إلى إرشاداتكم العديدة غير المتناهية

وبحثكم وتضلعكم في العلوم الدينية الإسلامية وتحققنا بعلو مكانتكم في ذلك جزمنا بأن

فيكم الكفاية لمن يريد الحصول على استفادة بأكمل بيان وأبلغ عبارة فتعلقت آمالنا

بحضرتكم وكتبنا هذا لفضيلتكم، والرجاء من الله ثم منكم أن تفيدونا ومن نفعكم لا

تحرمونا.

تقبيل أيدي العلماء

(س9) ما قولكم دام نفعكم في تقبيل العامة كبيرهم وصغيرهم غنيهم

وفقيرهم لأيدي العلماء، وتذللهم لهم حتى جعلوا ذلك من أهم الواجبات الدينية أفيدونا

هل ذلك من آداب ديننا الإسلامي الحنيف أم لا؟

(ج) إذا اعتقد العوام أن تقبيل أيدي العلماء من الواجبات الدينية كان تقبيلها

معصية يجب نهيهم عنها، ويحرم على العلماء تمكينهم منها؛ لأنهم زادوا في الدين

ما ليس منه، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، ولقد كان النبي- صلى الله تعالى

عليه وآله وسلم - يتحامى المواظبة على بعض العبادات المندوبة كصلاة التراويح؛

لئلا تعتقد العامة أنها واجبة. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود (فدنونا من النبي

فقبلنا يده) ولكن لم تمض السنة عنه ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين بتقبيل

أيدي العلماء، فهي عادة من العادات المباحة ما لم تُعتقد مشروعيتها، وكونها من

الدين.ولا حاجة لإطالة البحث في هذا؛ فإنه مما لا يختلف فيه عالم بدين الإسلام. وإننا نشكر للسائل حسن ظنه على ضعفنا وعجزنا.

***

نذر الذبائح على أضرحة الأولياء

والتوسل بهم

(س10) ومنه: وما قولكم في الذبائح على أضرحة الأولياء لسبب نذر، أو

لرجاء دفع مضرة أو غيرها؟ وكذلك التوسل ببابهم والرجاء منهم نحو قول أهل

فاس عند معاينة مكروه نازل بهم: ما دام ضريح مولاي إدريس في وسط بلدنا فلا

نخاف؛ لأنه يذود عن بلدة فاس خصوصًا وعن قطره المغربي عمومًا، وهو

ورجال المغرب (صالحو الموتى) يحفظوننا من غائلة العدو ونفوذه، وأقوالهم من

هذا القبيل كثيرة، أفيدونا بما يشفي الغليل عن هذا القبيل؛ ليعم إرشادكم كافة

الموحدين الحنفيين؟ ودمتم كعبة للقصاد، مأجورين من رب العباد.

(ج) الذبح على القبور بدعة أخذها بعض المسلمين عن أهل الكتاب وهؤلاء

أخذوها عن الوثنيين؛ إذ كانت الذبائح لأوثانهم وأصنامهم من أركان دينهم وأعظم

عباداتهم، نعم كانت القرابين عبادة في شريعة موسى عليه السلام وما هي إلا

للتقرب إلى الله وحده لا إلى شيء، ولا إلى شخص عظيم كما هي عند الوثنيين في

الأصل، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز الذبح لغير الله تعالى تقربًا إليه، أو

تعظيمًا له، أو رجاء فيه؛ لأن هذا من الوثنية، وقد صرح الفقهاء بأن من فعل ذلك

على سبيل العبادة يكون مرتدًا عن الإسلام، والعبادة هي الخضوع والتعظيم لمن

تعتقد فيه السلطة الغيبية التي وراء الأسباب؛ فإن وجد هذا المعنى كان الذبح للولي

أو عنده كفرًا، وإن لم يوجد كان معصية؛ لأنه يدخل في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ويستحق صاحبه اللعن من رسول الله في

حديث علي - كرم الله وجهه - عند أحمد ومسلم والنسائي (لعن الله من ذبح لغير

الله) . وقال في الإقناع وشرحه ما نصه:

(ويكره الذبح عند القبر والأكل منه) لخبر أنس: (لا عقر في الإسلام) ،

رواه أحمد بإسناد صحيح قال في الفروع: رواه أحمد وأبو داود وقال عبد الرزاق:

وكانوا (أي في الجاهلية) يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال أحمد في رواية

المروذي: (كانوا إذا مات الميت نحروا جزورًا فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك

وفسره غير واحد بغير هذا (قال الشيخ) يحرم الذبح والتضحية (عند القبر) ولو

نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به كما يأتي في نذر المكروه والمحرم (فلو

شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا) اهـ.

نقول: وأنت ترى من الأدلة أن القول بالتحريم هو الراجح، وإن أريد

بالكراهية ما كان للتحريم، ومما ورد في النذر حديث عائشة عند أحمد والبخاري

وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله

فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وحديث ثابت بن الضحاك عند أبي داود

والطبراني (وقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده)، قال: إن رجلاً أتى النبي

صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة (بضم الموحدة:

موضع) فقال: كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان

فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله

ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقد يتوهم بعض الجاهلين من العامة أن النهي عن الذبح

لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي تحريم الذبح لتعظيم أولياء المسلمين. ونقول:

(أولاً) إن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة.

(ثانيا) إن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى في مثل هذا العمل

الذي أراد به الخير والبر؛ لأن ذلك من الإشراك ولا يقبل الله تعالى من العمل إلا

ما كان خالصًا لوجهه، ومما ورد في ذلك بخصوص النذر حديث عمرو بن شعيب

عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به

وجه الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص،

وسكت عنه وفي معناه روايات أخرى. و (ثالثاً) إن كثيرًا من أئمة السلف

الفقهاء، صرحوا بأن ما يذبحه النصراني لكنيسة، أو مكان، أو رجل مُعَظَّم

عندهم يحل لنا، ولكن لم يقل أحد بأن ما يذبحه المسلم لمُعَظّم عنده يؤكل، بل

أجمعوا على تحريمه وإثم فاعله. وإن قام في نفسه معنى العبادة كطلب ما لا

يُطلب إلا من الله تعالى كان مرتدًّا كما تقدم.

وأما ما يسمونه التوسل فقد بسطنا القول فيه مرات كثيرة في كل مجلد من

مجلدات المنار فليراجع ذلك السائل في مواضعه من المجلد السابع وغيره، مسترشدًا

في الفهرس بكلمة التوسل من حرف التاء، وبكلمة قبور من حرف القاف ويجد في

العدد السابق كلامًا عن اعتقاد أهل فاس بمولاي إدريس، وغرورهم في ذلك. ولكن

هذه الاعتقادات المبنية على وعث البدع والتقاليد لا تثبت أمام سيول الحقائق، فهذا

سلطان مراكش قد اضطرب وخاف سقوط ملكه فلم يكتف باللجأ إلى إدريس، بل

أشرك معه ملكًا نصرانيًّا يعتز به ويستعين به على فرنسا وهو عاهل ألمانيا، وقد

أرسل إليه عند زيارته طنجة هدية تساوي مئتي ألف جنيه، ولو كان موقنًا بحماية

قبر إدريس للمملكة؛ لكان غنيًّا عن ذلك، ولماذا لم يَحْمِ إدريس البلاد من الفتن التي

أنهكتها وكانت حجة فرنسا في التصدي لها؟

***

قصة المولد للشيخ إبراهيم الرياحي التونسي

(س11) أحد القراء (بتونس) : اشتبه على بعض الناس طعنكم في

بعض أعداد المنار بروايات قصص المولد النبوي، وقد وجهت لكم في البريد نسخة

من مولد الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة 1266هـ، وهي الرواية

المُعتمدة رسميًّا في تونس، فهل لكم أن تنظروا فيها وتنبهوا على ما فيها من الغلط؟

(ج) إن هذه القصة كغيرها من حيث وجود الموضوعات والواهيات فيها،

ولكنها في اختصارها وعزوِ بعض الروايات فيها أمثل من غيرها، ولعلنا نذكر تخريج

هذه الروايات في جزء آخر. وهذا قوله في أول القصة (ص 4) (إن أول ما

خلق الله نور هذا النبي الأواه) لم تصح به رواية وأقوى الروايات وأكثرها في

بدء الخلق أن أول شيء خلقه الله القلم. وكذلك ما ذكره في خلق آدم غير صحيح

ومثله ما في (ص5) من نطق الدواب وبشارة أهل البحار وانقلاب الأصنام وما

ذكر عن آمنة وغير ذلك. وكان يجب الاستغناء عن هذه الروايات بالمناقب والآثار

التي هي أوضح من النهار.

_________

ص: 191

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(هداية أستاذ للإسلام)

(نقلها عبد الرحمن أفندي شهبندر من مجلة الملل الصادرة في مارس (آذار)

سنة 1905 إلى العربية) .

لدينا الآن رسالتان بقلم الأستاذ نشكنتايا دهيايا الرئيس الماضي لكلية حيدر

أباد (وأستاذ التاريخ في كلية مهراجا في ميسوري) والأولى منهما موضوعها لماذا

انتحلتُ الإسلام والثانية محمد نبي الإسلام وقد أصبح اسم المؤلف بعد إسلامه

محمد عزيز الدين وهو من العلماء والأفاضل الذين ساحوا في البلاد زمنًا طويلاً،

ودرسوا الأديان المختلفة وفي الرسالة الأولى ذكر أسباب هدايته واتخاذه الإسلام

دينًا لا يبارى في الصحة والسلامة.

كان المؤلف في أول أمره كثير الإعجاب بمذهب العقليين لكنه لم يلبث أن

تحول؛ لأن هذا المذهب لم يرو له غليلاً، فأخذ في درس الدين البوذي وأعجب

بظاهر رفعته الأخلاقية؛ لكنه وجده أخيرًا على عكس طبيعة البشر؛ فمَلَّه وكان ذلك

أثناء وجوده في البلاد الألمانية حيث ألقى خطابين موضوعهما البوذية بلغة تلك البلاد،

ومن ثم ذهب إلى باريس وبطرسبرج وبعدما تعلم الإفرنسية أعجب بـ (رنان)

وكان من تأثير ذلك أنه أخذ في درس لغات الساميين وأديانهم وكرس قسمًا

عظيمًا من حياته لدرس المقابلة بين الأديان العظيمة يعني اليهودية والزردشتية

والبرهمية من الجهة الواحدة والبوذية والنصرانية والإسلام من الجهة الأخرى ووقف

في سبيله إلى التنصر مسألة الفداء، ومسألة الهلاك الأبدي وما يضاف إليهما في

الكاثولوكية من اعتقاد العصمة البابوية، والتحول في العشاء الرباني ثم رجع إلى

البلاد الهندية على هذه الحال من تبلبل الفكر وهنالك فرغ نفسه مدة لدرس الرياضة

(التصوف) لكنه عاد منها أيضًا غير مقتنع، ولم يعط البوذية والإسلام حقهما في

الدرس حتى ذلك الحين فدرس الأولى منهما، ثم جاء إلى الإسلام الذي استماله

أخيرًا، وأثر في نفسه أثرًا باقيًا، وكان قد شعر بصحته منذ مدة طويلة لكن الظروف

الخارجية منعته من التصريح بذلك، حتى الثامن والعشرين من شهر آب (أغسطس)

حين صرح في محفل بدخوله في الإسلام برسالته (لماذا انتحلتُ الإسلام) .

وبنى رضاه بالإسلام على ثلاثة أسباب رئيسة: (1) صحة أخبار الإسلام

وأنه الدين التاريخي الوحيد. (2) موافقته للعقل. (3) أنه عملي (لا خيالي)

ويقول في رسالته: إن ميدانه التاريخي قد أثر حتى في أعداء محمد وأتباعه

واستشهد بكلام للأستاذ (بسورث سمث) ذكر في خطبه وهو: (إننا في الحقيقة

نعرف بعض نتف من تاريخ المسيح، ولكن أنى لنا من يكشف الحجاب عن السنين

الثلاثين التي أعدت الطريق إلى الثلاث....... .، وفي الإسلام كل شيء على

خلاف ذلك. هنا يقوم التاريخ بدلا من الغامض المظلم....... . وهنا لا تضل

المرء نفسه أو غيره من الناس لأن نور النهار يسطع على كل ما يمكن أن يصل إليه) .

والنقطة الثانية في بحثه: جَرْي الإسلام على قواعد العقل، وقد ذكر القاعدتين

الأساسيتين في الدين (توحيد الله ورسالة النبي محمد) وقال: يجب على كل

صحيح عاقل أن ينقاد لهذه الحقيقة البسيطة الجليلة، وهي توحيد الله الخالص (لا

كتوحيد اليهود الذين جعلوه إلهًا خاصًّا بهم) ، ولا يوجد في الإسلام تعاليم مثل

(ثلاثة في واحد) أو ثلاثين مليونًا من الآلهة.

ولا يرد قاعدة الرسالة النبوية باحث لأنه (متى نُسِيَتْ الحقائق الأساسية التي

تبنى عليها الحياة الأخلاقية الدينية أو أُبهمت، ومتى أصبح الإنسان مفرطًا في حب

دنياه طامعًا سيئ الأخلاق؛ ماديًّا بحتًا يظهر في تاريخ الأمم أناس أخلاقيون أحيتهم

الروح الخالصة في مولدهم ونشأتهم حتى يصبحوا أنبياء ورسلاً لله، ووظيفتهم

تذكير الناس ما كانوا نسوه وإحياء ما كانوا فقدوه) ، ويضاف إلى ذلك كله أن

الإسلام على طبق حياة الإنسان العملية. وربما توهم الناس في بعض الأحيان أن

تعاليم بوذا والمسيح على أحسن الكمال، لكن هذا خطأ، وهذه التعاليم أشبه

بالكمالات الباردة الواردة في القصص والروايات، وربما كان فيها (جمال شعري)

إلا أنه لا يعد طريقة لحكم الإنسان المدني الصناعي على صحة التعاليم والمبادئ،

فمن الواجب علينا أن ننظر إلى حاجات البشر أولاً، ثم نحكم على كمال التعاليم

بالنسبة لفائدتها. وعلى هذا المبدأ تمامًا (يعني النظر إلى حاجات البشر) أباح

الإسلام تعدد الزوجات. وسنن الزواج في هذا الدين أقرب للعمل وأشد موافقة

لحاجات الجمعية البشرية، وأجلب لترقيها من الجهة الأخلاقية الروحية (يعرض

بانتشار الفحش في البلاد الغربية إلى حد لا يوصف) ولمبادئ الإسلام الأخرى هذا

الحظ من الرفعة والمكانة.

وذكر في رسالته الثانية: (محمد نبي الإسلام) مختصرات من حياة النبي -

صلى الله عليه وسلم ونبذًا من التحويل المدهش الذي أجراه في العالم، وفي الختام

يجيب الكاتب عن اعتراضات المتقدمين المتعصبين. (قالت المجلة) ونحن نلفت

أنظار المسلمين إلى هاتين الرسالتين، وكذلك كل طلاب الحقائق وتطلبان من محل

(لوزاك وشركاه) في لندن أو من (شوز رثمات) في حيدر أباد الدكن.

***

(الدولة العلية في نجد وخوف الفتنة)

جاءنا من بلاد العرب رسالة كتبها رجل كبير من أهل نجد في (غرة

صَفَر) يخبرنا فيها بمعنى ما وصل إلينا قبل من طرق ضعيفة ويزيدنا خبرًا

ورأيًا، قال -حفظه الله - ما ملخصه: أرسلت الدولة إلى الشيخ عبد الرحمن

الفيصل بأن يواجه والي البصرة مع (الشيخ مبارك) فتوجه الشيخ عبد

الرحمن من نجد إلى أطراف الزبير وطلع الشيخ مبارك والتقوا مع الوالي على

مسافة ساعتين من بلد سيدنا الزبير وقدّم الشيخ عبد الرحمن الطاعة لمولانا

أمير المؤمنين وكذّب جميع ما نسب إليه، وأنه خاضع لأوامر مولانا أمير

المؤمنين؛ إلا أن ابن رشيد ليس له يد على أهل نجد وبعد ذلك توجه الوالي

إلى البصرة وبلغ الآستانة ما كان، وليلة 9 ذي الحجة وصل تلغراف من

أمير المؤمنين بتولية الشيخ عبد الرحمن على نجد، ورفع يد ابن رشيد وبأن

يكون في القصيم عسكر (رسم طاعة) وأمرهم راجع إلى الشيخ عبد الرحمن

وابنه عبد العزيز آل سعود وبلغ الوالي عبد الرحمن وبعد ذلك مشى العسكر

الذي كان بأطراف النجف إلى نجد وهو ستة توابير، وفي نجد عند ابن رشيد

ثلاثة توابير وبهذا السبب صار عند أهل نجد شك في ممشى العسكر زيادة

على ما في نجد (والجميع حدر نظر ان رشيد) والمشير بنفسه طلع ومعه

ابن هذال الشيخ عنزه وشوشوا أهل نجد واستعدوا للفتنة إن كان العسكر جاء

محاربًا، وإن كان مصلحًا فلا حاجة إلى هذه الكثرة. والظاهر أن الفتنة لا تسكن

على هذه الحال. وعبد الرحمن ما توجه إلى نجد بل تربص بالكويت

ينتظر نتيجة وصول العسكر إلى أهل القصيم، وابنه عبد العزيز الظاهر أنه

جهز غزوانه (أي غزاته) ونحر القصيم (قصده) وأهل القصيم مستعدون.

نسأل الله أن يطفئ الفتن ويصلح أحوال المسلمين وحسبنا الله على من أيقظ الفتن

بينهم، وإلا فأي شيء للدولة من المصالح في نجد ولكن يغرهم المفسدون

بالدسائس الفاسدة حتى يلجئوا أهل نجد إليها إذا لم يكن لها علاج وننتظر الحوادث

ونرجو الله يصلح الأحوال ويبصر الدولة بما فيه صلاح المسلمين.

(المنار)

لم يذكر الكاتب ماذا كان بين الوالي والشيخ مبارك صاحب الكويت

وقد بلغنا من مصدر آخر دون هذا المصدر أن الشيخ قال للوالي إنه خاضع

للدولة ونادم على تورطه مع الإنكليز. ولكن الدولة قد أعوزتها السياسة

الحكيمة في هذا الزمان ولذلك غلبتها سياسة الأجانب في البلاد التي لا يوجد

فيها أحد يميل إليهم أو يعبأ بمدنيتهم كاليمن وحضرموت والكويت. وإننا كما

بدأنا النصيحة لها نعيدها ونؤكدها بأن تتحامى مثار سوء ظن أهل نجد بها،

وأن لا تحدث نفسها بمعاملتهم بالقوة وتحكيم رجالها وقوانينها فيهم، وأن لا

تخادعهم كما يخادع الأعداء، بل يجب أن تقبل الطاعة من آل سعود وتعتقد

صدقهم وتمضي الأمر بولاية الشيخ عبد الرحمن على نجد ظاهرًا وباطنًا

وتتفق معه على عدد العسكر الذي تحب أن تجعله في القصيم وإلا كان عملها

هو المنذر بالخطر الذي تريد تلافيه به. وقد جاء أمس في برقيات روتر أن

الباب العالي سأل ناظر خارجية إنكلترا عن البوارج الإنكليزية الراسية في

ميناء الكويت فأجاب بأنه لم يأته نبأ عنها، وأنه لا يقبل البحث معه فيها،

على أن البوارج أنزلت العسكر فاحتلت الكويت. وننصح للشيخ عبد

الرحمن أن لا يبني على سوء الظن وأن يخابر الدولة في مسألة كثرة العسكر

ويقنعها بعدم الحاجة إليه ويتوقى الفتنة لئلا يؤل الأمر إلى ما يندم هو والدولة

عليه، وتلحق نجد بغيرها ولات حين مندم.

***

(المسلمون في روسيا)

ثار الشعب الروسي القح الأرثوذكسي العريق على حكومة القيصر الذي

يسمى في التقاليد الروسية الأب الصغير - أي الرب - صاحب السلطة الدينية

الإلهية، وثارت أيضًا سائر الشعوب كالأرمن واليهود والفيلنديين، وأما المسلمون

فكانوا أشد العناصر الروسية مسالمة للحكومة ولكنهم طالبوا بحقوقهم ومنحتهم

الحكومة ما اختلفت فيه الروايات ففي جرائد أوربا أن مفتي القزان الذي يدعى شيخ

الإسلام (وهو محمد يار سلطانوف) دعي من أورنبورج إلى بطرسبرج وأمرته

نظارة الداخلية بأن يرفع تقريرًا يبين فيه مطالب المسلمين فطلب ما يأتي ملخصًا

بناء على منشور القيصر الصادر في 12 ديسمبر سنة 1904 الناطق بأنه عزم على

منح الرعايا غير الأرثوذكس جميع الحقوق التي يتمتع بها الروسيون وهو:

(1)

أن يعطى المسلمون الذين ينالون الشهادات من المدارس الروسية حق

التدريس بالمدارس غير الإسلامية كمدارس الحكومة.

(2)

أن يعطى من يُتِمّ منهم الدارسة في المدارس الثانية حق التعلم في

المدارس الروسية العالية.

(3)

تعيين أئمة لتوابير العسكر المسلمين لأجل أن يؤدوا الفرائض الدينية

في موتاهم وأحيائهم، وقال: إن القرعة العسكرية تتناول في السنة نحو 40 ألفاً من

المسلمين، وأن القيصر كان أمر بتعيين أئمة لهم ولم ينفذ ذلك! .

(4)

إلغاء ما توجبه المادتان 154و 157 من القانون المدني (المجلد الثاني)

من عدم السماح للمسلمين بإنشاء مسجد إلا بإذن الأسقف الأرثوذكسي في الجهة

التي يراد إنشاؤه بها.

(5)

منع اضطهاد الولاة والحكام لرجال الدين كعزل والي أوفا لإمامي

مسجدين من مساجد المدينة في حادثة 16 أغسطس سنة 1904 بدون ذنب ولا

محاكمة بل افتئاتًا عليهما بأنهما ليسا أهلاً لوظيفتها على أنه أعادهما بعد ثلاثة أشهر.

(6)

إعادة إدارة المدارس والمكاتب (الكتاتيب) الإسلامية أنإلى رجال الدين

المسلمين وكذلك ملجأ الصبيان والبنات في أوفا وقال: إن هذا ما كان متبعًا إلى سنة

1870 وبعدها أخذت نظارة المعارف على نفسها حق مراقبة التعليم فتأخر التعليم

الإسلامي وقل التبرع له بقلة الثقة به.

(7)

جعل النظامات والقوانين الموضوعة للمسلمين متحدة موافقة للزمان،

وقال: إن النظام لمسلمي أورنبورغ باق علي ما وضع عليه في أوائل القرن

الماضي مع أن الحكومة سنَّت أخيرا لمسلمي القوقاس قانونًا أمثل منه.

(8)

إعفاء رجال الدين من الخدمة العسكرية ما داموا يؤدون وظائفهم وفقاً

للمادة 1231 من القانون العسكري الذي وضع سنة 1857 التي استبدلت في القانون

الجديد بمادة خصت فائدتها برجال الدين المسيحي ومعلمي المدارس منهم وإن كان

لفظها عامًّا؛ ذلك أن هذا القانون يطلب الشبان للقرعة في الحادية والعشرين والقانون

المدني لا يبيح تعيين إمام لمسجد إلا إذا كان بالغا الخامسة والعشرين ونتيجة ذلك ألا

يعين الإمام إلا بعد الخدمة العسكرية. وقال: إن كثيرين من طلاب العلم يساقون إلى

العسكرية قسرًا، وأنه كتب إلى الحكومة في ذلك مرارًا، فلم تسمع له. هذا ما نقله

بريد أوربا ولم يذكر ماذا أجيب منه ولكن كتب إلينا أحد مسلمي روسيا ما يأتي وقد

حذفنا منه رسم الخطاب والمقدمة قال:

إن المسلمين الروسيين قد أرسلوا وفودًا من الولايات المختلفة إلى عاصمة

الروسية (بترسبورغ) كما أن شيخ الإسلام القزاني (محمد يار سلطانوف) قد

ذهب نفسه إلى بترسبورغ وطلب من حكومتهم إعادة حقوقهم الدينية التي قد وهبت

لهم أولاً. ثم كادت أن تسلب سلبًا كليًّا، بل سلبت حقيقة، فما بقي للمشيخة

الإسلامية إلا اسم يذكر في الألسن وهيكل مخيل في الهواء.

والآن قد شاع الخبر وذاع بأن الحكومة قد سمحت لهم ببعض ما طلبوه من

حقوقهم المسلوبة. وهي هذه:

(1)

أن النكاح والطلاق وتقسيم التركات ونصب الإمام وعزله يكون تحت إدارة المشيخة الإسلامية كما كان.

(2)

رُخص للذين أكرهوا من المسلمي على التنصر منذ سنة 1842 فتنصروا بعدما أحرق أكثر إخوانهم بالنار أن يرجعوا إلى دينهم الإسلام (وإذا فصلت أحوالهم يرتعش كل مسلم بوجوده وتكاد أن تخرج روحه) .

(3)

رخص للوثينين مثل (آر) و (جرمش) أن يسلموا أو يقبلوا أي دين شاءوا، ومعلوم أن أكثرهم كانو ايتدينون بدين الإسلام وكثيرًا ما استرحموا من الحكومة أن تسمح لهم بأن يلحقوا بالمشيخة الإسلامية، ولكن مُنعوا، وبنيت الكنائس في قراهم، وألزمهم القسيسون بتعلم دين النصرانية إلزامًا، وأكرهوهم عليه إكراهًا.

(4)

أن طائفة القزان ستلحق بإدارة المشيخة القزانية كما كانوا أولاً، ثم قد فصلوا بدسائس القسوس وسعيهم، حتى أن الحكومة سمتهم أهل الظن ونزعت عنهم ثياب الإسلام.

(5)

أن إلزام الأئمة والمدرسين بتعلم اللغة الروسية قد رُفع (ومع ذلك ترى المسلمين يتعلمون اللغة الروسية ويجعلون قانون المعارف الزمانية منطبقًا على برواغرام أوربة والروسية) .

(6)

أن المشيخة الإسلامية ستدعو العلماء الأجلاء والمدرسين النبهاء لينظموا قانون (بروغرام) المكاتب والمدارس الدينية الإسلامية وسيرسلون وفدًا إلى بترسبورغ) اهـ.

هذا ما كتبه لنا (ض. ك) وأتبعه باقتراح له ضاق عنه هذا الجزء، والناظر

فيما طلبه شيخ الإسلام يرى أنه لو لم يكن مطَّلعًا على قوانين الدولة وواقفًا على

أعمالها لما عرف ماذا يطلب ولكن من يطالب شيخ الأزهر أو طائفة من علمائه هنا

بمطالعة القوانين التي يعلَّمون أو يحكمون بها أو يحكم بها إخوانهم المسلمون في بلاد

أخرى يعد عند الأزهريين وعند الذين يجاهدون لإبقائهم في سباتهم عدوًّا للإسلام

والمسلمين، فليتأمل ويعتبر المعتبرون.

***

(ألمانيا في مستعمراتها الإفريقية)

نشرنا في العدد العشرين من المجلد السابع من هذه المجلة (المنار) أنه كتب

إلينا بعض من حضر المعرض الذي أقامته الحكومة الألمانية في دار السلام قاعدة

مستعمراتها في شرقي أفريقية أن الحكومة تمنع العرب من ركوب العربات، وأنها

هدمت المسجد الجامع وأعطت المسلمين جزاءً حقيرًا عنه ثم منعته

إلخ، وكان

ما ساءنا من ذلك هو السبب في قولنا: إن ألمانيا ليست أمثل من فرنسا في

مستعمراتها، وقد اطلعت الوكالة السياسية لدولة ألمانيا في مصر على ما كتبناه فاهتمت

به وكتبت إلى حكومة دولتها في دار السلام تسألها عن صحة ذلك فجاءها

الجواب بأن مسألة منع العرب من ركوب العربات لا أصل لها، وأما هدم المسجد

فإنما كان بطلب المسلمين أنفسهم لبعده عن بيوتهم وقد أبدلتهم الحكومة مكانًا آخر

قريبًا وزادتهم على ذلك مالاً وافرًا. وقد أبلغتنا الوكالة الألمانية ذلك، فنحن ننشره

شاكرين لها اعتناءها بالبحث وراء الحقيقة، كما أننا نؤمل أن نسمع دائما ما يسرنا عن حكومتها في مستعمراتها، فما استُعمرت البلاد بمثل العدل والإنصاف.

***

(نابتة الأزهر والأستاذ الإمام)

لقد كبر على نابتة الأزهر ترك الأستاذ الإمام له، وذكرت الجرائد اليومية أن

نحو 500 أو 600 منهم كتبوا إليه عريضة يستعطفونه بها ليعود إلى التدريس فيه.

ونقول: إن منهم من كتب يسترشده في أمره، وقد اطلعنا على صورة كتاب لبعضهم

فرأينا أن ننشره على انتقادنا قوله (كلهم شر) ليرى القراء حسن عبارة وأفكار

تلامذته الذين يشكون الجهل، قال بعد رسم الخطاب:

(إنني نظرت في أمري بعد أن قضيت ما قضيت في الجامع الأزهر

وأضعت ما أضعت من صحتي وشبابي في طلب العلم، فلم أجد ثمنًا لما بذلت إلا

حشدًا من الصور والخيالات لا يضيء البصيرة، ولا يبعث العزيمة، ولا يعد

للسعادة في الحياة الدنيا ولا في الآخرة

ليت الحوادث باعتني الذي أخذت

مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي

طلبت السبيل إلى الكمال والعلم النافع فما وجدت الدليل ولا اهتديت إلى

السبيل، وكيف أطلب الخير من بين معشر أعيذك يا مولاي كلهم شر، وقد هدتني

إليك خاتمة المطاف وفاتحة الألطاف فجئتك أسألك أن تعلمني مما علمك الله وأن لا

تكلني إلى رأيي.

وها أنا ذا أبسط يد الرجاء إليك، ولم أبسط لغيرك يدًا، وأرفع إليك أمنيتي

في الحياة، وقد وضعت أملي ببابك، ومثلك من لا يخيب ببابه الأمل. اهـ

_________

ص: 194

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(4)

اختيار المرأة للرجل:

إن الشروط التي تعتبر ضرورية في اختيار المرأة زوجًا يجب أن تعتبر

ضرورية أيضًا في اختيار الرجل زوجًا وهي: صحة الجسم، وصحة النفس أعني

حسن الخلق والاستقامة وصحة العقل وهذه لازمة لما قبلها. ويزاد القدرة على النفقة

اللائقة -كما يقول الفقهاء- أو القدرة على الاستقلال بإنشاء عشيرة أو أسرة -كما

يقول الحكماء - وهو ما يريده العوامّ بقولهم: (فلان قادر على فتح بيت) والقدرة

على النفقة اللائقة بحال المرأة تختلف بحسب طبقتها، فزيد يستطيع كفاية من نشأت

في بيت النّعمة والترف، وعمرو يستطيع أن يمون من نبتت في أرض الفاقة

والشظف، والناس أصناف وطبقات، والله فضل بعضهم على بعض درجات،

وهذا الشرط هو ركن الكفاءة الركين في نظر أكثر النساء وعُرف أكثر الأولياء؛

وإن شئت قلت في عرف جميع الناس؛ لأن رضاء امرأة بزوج غير قادر على

كفايتها مما تعودت من طعام وكسوة وخدمة نادر لا يُعتد به. والمراد الغنية أحرص

من الفقيرة على التزوج بالغني؛ لأنها وأهلها يحتقرون الفقير وما زال الأغنياء

يتعايرون بمصاهرة من ينزل عن درجاتهم في الثروة إلا أن يعلوهم بمجد أثيل، أو

جاه عريض، فيمت إليهم بشرف صاعد أو جد مساعد، ومن رفعه المال لا يلبث أن

يمد عنقه إلى الجاه، ويحاول أن يصيبه بتنصي أهل السؤدد [*] وتذري ذوي المجد

المؤثل، لا سيما من قل من هؤلاء مالهم، وساءت في الثروة حالهم، فالمال

والشرف إذا انفردا كان كل منها شفيعًا للآخر، ومن جمع بينهما لا يكاد يرضى

بمصاهرة من فاته أحدهما، إلا إذا لم يجد له صهرًا مثله. وإنك لتجد من العوانس

في بيوتات المجد والغنى ما لا تجد في بيوت المتوسطين وأكواخ الفقراء والمعوزين،

وذلك خِطْء كبير. وعتو عظيم.

تعذر المرأة ويعذر وليها وذوو قرابتها إذا لم يرضوا بصهر يعجز عن كفايتها لأن المرأة ضعيفة الاستقلال قليلة الاحتمال، إذا مسها العوز والإقلال، لا تستقر من القلق على حال، ثم إنها ولوع بالحلية فخور بالزينة هلوع عند الحاجة، ضجور

من الشدة، فهي أحوج من الرجل إلى الكفاية، وأشد تطلعًا إلى السعة والزيادة، وإن

قومها ليألمون لإعوازها ما لا يألمون لعوز الرجل منهم وهو وارث مجدهم، وحافظ

نسبهم، ونصيرهم عند الشدة، وغوثهم عند الحاجة - لما انطوت عليه نفوسهم من

الثقة باستقلاله، وجدارته بإصابة المخرج من إقلاله، وما أودعته قلوبهم من الشعور

برقة حاشيتها دون التحمل وضيق مذاهبها عن التحول، وإن حظ الولدان

والأقربين وغيرهم من الرحمة والحنان، والخوف، والإشفاق، والحزن

والامتعاض والغضاضة والنعرة، وغير ذلك من ضروب الشعور والوجدان إنما

يكون على مقدار الداعية الطبيعية لذلك فيهم. قيل لبعضهم أي ولدك أحب إليك؟ فقال

صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، وسقيمهم حتى يبرأ.

يشبه أن يكون الناس عندنا ماديين فإنهم يعنون بالبحث عن ثروة من يخطب

إليهم ظانين أن سعادة بنتهم وهناء عيشها مقرونان بمال من يتزوج بها، وقلما

يبحثون عن دينه وأخلاقه وآدابه. ذلك بأنهم يجهلون (أن السعادة في النفس لا في اليد

أو الجيب) يغفلون عن حال الجم الغفير من أصحاب الجيوب الملأى

والقلوب المرضى الذين شقيت بهم نساؤهم، فهن يتمنين لو كانوا فقراء الجيوب

أغنياء القلوب بالعفة والوفاء والحب والإخلاص، إذًا لكنَّ أنعم بالاً وأقر عينًا وأهنأ

عيشًا، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إلا من هذب نفسَه الإيمان والتقوى؛

وإن من طغيان الغنى، إذا لم يقترن بالأدب والتقى، أن يغير صاحبه زوجه وسكنه

ويتغير عليها يغيرها باتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان، ويتغير عليها إذا زارت أو زارها الأهل والجيران، فيعذبها بالغيرة عذاب الضعف، أو يضارّها

ليضيق عليها من غير ذنب، وإنما هو ملل الذوَّاقين، وتنقل المسرفين، ومن

وراء ذلك أن إرشاده عسير، والانتصاف منه عزيز، لا سيما في بلاد فسدت

حكوماتها، وأكل السحت قضائها، فأين السعادة والهناء في مصاهرة أمثال هؤلاء؟

يسهل على الرجل المسلم أن يتخير من ربات الخدور من ترضيه فيعرف عنها من

وراء الحجاب كل ما يحب أن يعرفه ويعسر على الفتيات أن يعرفن ما تجب

معرفته لصحة تخير الزوج وإن فارقن الحجال وعاشرن الرجال؛ لأن المرأة

سريعة التصور سريعة التأثر، سريعة الحكم، سريعة الانخداع، فهي لهذا قليلة

الروية كثيرة الخطأ لا سيما إذا كانت عذراء، خاضعة لسلطان الحياء، تخدعها

النظرة، وتتجاذبها الغرة، ولذلك حظرت الشريعة الإسلامية على المرأة أن تزوج

نفسها، وجعلت أمرها في ذلك إلى وليها وإليها؛ لا بد من رضاهما معًا؛ على أنها

منحتها من حقوق التصرف في أموالها ما لم تمنحه لها شريعة سواها، بل تجد معظم

البشر من جميع الشعوب والقبائل المختلفة في الملل والنحل متفقون على استقباح

استقلال المرأة بتزويج نفسها، وعلى وجوب تفويض أمرها في ذلك إلى أوليائها

وعصبتها، ومنهم من لا يتقيد باستئذانها، واستئمارها - كما أمر الإسلام - بل كثرت

هذه العادة في المسلمين على ما ورد عن الشارع من الأوامر باستئذان البنت في أمر

زواجها واستئذان أمها أيضًا فليس للولي أن يستبد بذلك؛ فيزوجها بمن تكره ولو كان

أبًا أو جدًّا.

يحسب أكثر الرجال أن للحسن والجمال سلطانًا على قلوب النساء لا يدع فيه

لغيره أمرًا ولا نهيًا، وإن شغف النساء بالحسن يعلو شغف الرجال به؛ فلو أطلقت

لهن الحرية في تخير الأزواج لما اخترن إلا ذا الوجه الجميل والطرف الكحيل، وإن

كان خسيس الأبوين صفر اليدين عادم الفضيلتين: فضيلة العلم والأدب، هذا هو

الوجه في الحجر عليهن أن يتخيرن لأنفسهن، فإنهن يتبعن الهوى دون المصلحة

فيصبحن على ما فعلن نادمات بعد أن يقاسين من استبداد سلطان الجمال، ما لا طاقة

لهن به ولا احتمال، وهذا الحسبان خطأ سببه قياس أحد الصنفين على الآخر. وهو

السبب في تصدي حسان الوجوه من الشبان لتصبي النساء وإغوائهن، وقد يعد

نجاحهم في التصبي دليلاً على صحة القياس وما هو بدليل إلا عند من يجهل التعليل.

إن الفتنة بالجمال أولع بالرجال منها بالنساء فيقل في النساء من فتنت بجمال

الرجال كامرأة عزيز مصر وصواحبها ولا يتناول الإحصاء عدد الرجال الذين فتنوا

بجمال النساء كبني عذرة وأمثال بني عذرة من جميع القبائل والشعوب، هذا هو

السبب عندي في شكوى الرجال من قلة الوفاء في النساء. إنما يفتن المرأة من الرجال

تحببه إليها فهي مجنونة في حب الحب أي حب أن يحبها الرجل كما قالت علية بنت

المهدي حكاية عن نحيزة صنفها * تحبب فإن الحب داعية الحب * فهن يفتن

بالرجال على قدر تصبِّيهم لهن وتحببهم إليهن إذا هن صدقن، وأمن الخلابة

والحيلة، وما أسرع تصديق الفتاة الغر لوحي العيون، وانخداعها بقول الزور للود

الممذوق، والحب المصنوع، بل هي فتنة لا تكاد تسلم منها العوان، التي مارست

الرجال وعرفت الزمان.

قرأت قصة (رواية) في امرأة كانت تدعى (فاتنة باريس) وكانت تهوي

إليها أفئدة الرجال، وتمطرها سحائب الأموال، فتفوز لديها آمال وتخيب آمال،

حتى إذا ما عرض لها مرض حال له لونها، وحال بين طلاب التمتع وبينها،

انفض من حولها الناس إلا رجلاً واحدًا كان الحب قد أخذه عن نفسه، وران على

عقله وحسه، ثم اختطفه من طبيعة الرجال، وطار به في فضاء الخيال، ولم تلبث

المرأة أن أفاقت من غشية المرض فلم تر من تلك الجموع إلا ذلك الرجل فاعتقدت

أنه محب لها مخلص في حبه فاصطنعته لنفسها، وثابت على يديه إلى رشدها،

وهجرت الرجال وهاجرت معه من باريس إلى أريافها وهناك تزوجت به ومكنته من

جميع ما تملك.

هذا الذي ذكرته من افتتان النساء بالتحبب والتصبي هو العلة الأولى فيما هو

معروف بين الناس من ميل نساء المدن إلى المتورّنين والمتطرّسين، وزهدهن في

أهل العلم والدين، فهن يعتقدن أن هؤلاء في شغل عنهن، وأن أولئك لم يبالغن في

التطيب والتزين إلا لأجلهن، ثم صار ذلك عادة موروثة فيهن، وقد فشت هذه العادة

السوء في بيوت المترفين من أهل مصر وغيرها حتى إن العذارى ليقترحن أن يغير

الخاطب لهن زيه العلمي إن كان عالمًا، وقد يكون هذا التغيير وَبَالاً عليهن بعد

الزواج؛ لأنه يسهل على صاحبه الدخول في بيوت الفسق التي تخرب بيتهما وتوقع

بينهما. أما أهل البادية ومن في حكمهم فإن نساءهم لا يملن إلا لمن اشتهر بالشجاعة،

والشهامة، والرجولية، والكرم، وبهذه الصفات يتقرب الرجال إلى النساء عندهم،

ولو وجد في المدن شبان يعرفن بهذه الصفات لما فضل النساء عليهن أحدا؛ فإن

من صفات الفطرة أن تحب المرأة من الرجل ما هو من شأن الرجولية والعكس

بالعكس، وهذا الذي يحكى عن نساء الأمصار من ولعهن بالمخنثين ومن يقرب منهم

هو من فساد الفطرة. وقد كان من حسن تربية النساء في بلاد الإنكليز أنهن قربن

من الفطرة السليمة، فقد اقترح عليهن في بعض الجرائد أن يذكرن أحب صفات

الرجال إليهن فكان الجواب من أكثر من أجبن ناطقًا بحب صفات الرجولية من

الشجاعة والاستقلال والسلطة عليهن.

يقول أناس: إن الحب بين الزوجين هو الأساس الذي تقوم عليه جميع أركان

سعادة الحياة الزوجية؛ فإذا كان قويًّا راسخًا فلا يضر هذه الحياة ضعف الأركان، وإذا

كان غير قوي فإن الأركان لا تلبث أن تسقط، فيجب أن يؤذن للعذارى والأيامى

بمعاشرة العزاب على أعين أهليهن، ومراقبتهم ليتخيرن منهم من يبيعهن قلبه،

ويصفيهن حبه، وقد سبق القول في بحث تخير الرجل للمرأة بأن هذه المعاشرة

ليست سبيلاً موصلة إلى الأمنية التي يتمنون. وإذا كان يعسر على الرجل أن يعرف

قلب المرأة بمثل هذه المعاشرة التي يقصد بها الخطبة، أفلا يكون وصول المرأة إلى

قلب الرجل أعسر لا سيما إذا كانت فتاة غرًّا؟ ونزيد هنا أن كثرة معاشرة أفراد كل

من الصنفين للآخر يحبب إليهم التنقل في هذه الرياض ويزينه في قلوبهم حتى إذا ما

ازدوج اثنان منهم عن حب ثم فتر الحب للملل؛ أو لما عساه يبدو لأحدهما أو كليهما

مما لم يكن في الحسبان تحن القلوب إلى من كانت عرفت بالمعاشرة وتجنح إلى

التنقل ولا يعسر ذلك على من سبق له التمرن عليه والأنس به.

الحب هو الركن الأول أو الأساس للسعادة الزوجية، وهو السكون المذكور في

الآية الحكيمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم:

21) أو هو علته وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده، ولكننا نزيد على ما قلنا هناك أن

دوام الحب وسكون القلب إنما يرجى بين زوجين لم يتعود الرجل منهما معاشرة

النساء ولا المرأة معاشرة الرجال؛ إذا كان اختيار كل منهما للآخر على الوجه الذي

بينا؛ فإن علة سكون كل منهما إلى الآخر ثابتة في أصل الفطرة، وإنما يجب

التخير للحذر من الصفات العارضة التي تشارك الفطرة في الاستحسان أو الاستهجان

ولا شيء أقطع لرابطة الزوجية وأذهب بسعادتها من ميل أحد الزوجين أو كل

منهما إلى غير زوجه ميلاً للمعنى الخاص بالزوجية.

إن الحب الذي يكون للزوجين برابطة الزوجية نفسها هو الحب الذي يُرجى

دوامه إذا رُوعي في عقد الرابطة صحة الجسم والنفس والتقارب في العادات والتأدب

بأدب الدين، وأهم هذه الآداب عفة الزوجين ورضى كل منها بالآخر نصيبًا له لا

يفضي إلى سواه، ذلك بأن النزعة الطبيعية في كل من الصنفين إلى الآخر مبهمة

مضطربة في أصل الفطرة؛ فإذا تعينت في اثنين فأفضى بعضهما إلى بعض وقد

وطَّنا أنفسهما على إقامة سنة الفطرة والدين بإحصان كل منهما للآخر وعدم التطلع

إلى سواه فهناك السكون التام والحب الخالص وليس وراء الفطرة والدين مطلع لهناء

العيش وسعادة الحياة، ولكن هذا الإنسان يخرج عن سنتهما ليتمتع بالهناء وسعادة

الحياة فيضل ويشقى.

يقول غير المسلم: إن حب الزوجية لا يكاد يتذوق حلاوته الزوجان المسلمان

لأن المرأة تكون مهددة دائما بأحد الأمرين الطلاق أو الضرة. ونجيب عن هذا القول

من وجهين، أحدهما: دفعه بقول مثله في الزوجين النصرانيين، ومن في حكمهما.

وثانيهما: البحث فيه وتعرف حقه من باطله. أما الأول فإن الزوجين اللذين يرى

أحدهما أنه ملزم بالآخر، إلزاما إجباريًّا جعله كالوهق في عنقه، والوقر على كاهله،

فإنه يمله ويستثقله فلا تسكن نفسه إليه، ولا تقر عينه به، ولا يخلص وده له،

وإن كان قد رضي به قبل العقد انخداعًا بما ينخدع به الشباب، أو ذهابًا وراء الطمع

في مال أو جاه، فالمرأة تلج في الزهو والصلف، وتتمادى في المخيلة والسرف،

والرجل يتجرع مرارة الصبر ولا يكاد يسيغه، وينشد استقلال الرجال فلا يجده،

وربما لجأ إلى السلوة باتخاذ الأخدان، أو الاختلاف إلى ذلك المكان.. إن كان،

وليس هذا القول من تخيل الشعر بل هو الحقيقة حكاية عن شعور أهلها فقد سمعت

أحد فضلاء الإنكليز، وهم أحسن الأوربيين حالاً في الحياة الزوجية، يقول ما مثاله:

إن تحريم الطلاق ومنعه يشعر الرجل بأنه ملزم بالمرأة، مجبور على وُدِّها،

والتحبب إليها لا فضل له في ذلك، وما أعصى الحب والود على الإلزام؛ كما يقول

المثل (حبني غصبًا) وإذا كان يعلم من نفسه القدرة على فراقها؛ فإنه يكون على

فطرته وأدبه في معاملتها يشعر بالسرور والارتياح لاختيار المعاملة الحسنة التي هي

مناط السعادة الزوجية، فهذا هو شعور المهذبين الممنوعين من الطلاق، فما بالك

بغير المهذبين الذين يعجزون عن مكابرة شعورهم، وتكلف المحاسنة لمن يرتبط بهم،

وللمرأة مع الفريقين شعوران مختلفان أحدهما الضعف والعجز وبها ترى نفسها

أسيرة للرجل، وثانيهما أنه لابد للرجل منها ولا قدرة له على الانفصال عنها،

والأثر الطبيعي لهذين الشعورين هو الكيد من جهة والصلف والعناد من جهة أخرى،

ولا يقال: إن هذه فلسفة لا يصدقها الواقع فإنه إن كذبها في الزوجين المتشاكلين في

الطباع المتناسبين بالتهذيب؛ فإنه يصدقها في الأزواج الذين خانهم الحظ؛ فلم

يمنحهم المشاكلة والتناسب لا سيما؛ إذا كانت المرأة عاقرًا، أو ظهرت آيات الخيانة

من أحد الزوجين أو كل منهما للآخر. ناهيك بالمرأة العاقر عند ملك أو أمير قد

جعل الحكم إرثاً في ذريته أو غني عظيم يعز عليه أن لا يكون له وارث يتمتع بماله.

وأما الوجه الثاني: وهو البحث في فَرَق المرأة وحذرها من الطلاق أو

الضرة، فقد يقال فيه أنه يكون من أسباب تحببها إلى الرجل، وعنايتها بمرضاته

وأن هذا السبب للتآلف يقابله في الرجل حذره من خسارة المال إذا أراد استبدال

زوج بزوج؛ لأن الشرع يوجب عليه أن يمتع المتروكة بما تنفقه على نفسها مدة

العدة التي لا يباح لها الزواج فيها، وهذه خسارة فوق خسارة المهر وما عساه يكون

مع المرأة من متاع وأثاث وماعون، أو يكون لها من مال تسعفه به أو تدخره لولده،

ثم إنه لابد أن يبذل للزوج الجديدة المهر اللائق بها. وهذان السببان في حرص كل

من الزوجين على التعلق بالآخر يدعمان سكون النفس الفطري في كل منها إلى

الآخر. على أن الطلاق والمضارة بزواج أخرى هو خلاف الأصل الذي عليها

الأكثرون من المسلمين، وإننا لنعلم أن الأكثرين من المتزوجين في بلادنا لا يخطر

في بال الرجل منهم، ولا المرأة أمر الطلاق، أو المضارة أعني أن الرجل لا ينويه،

والمرأة لا تتوقعه منه، وأن أكثر الذين يقع منهم الطلاق من غوغاء المسلمين؛

فإنما يقع منهم على سبيل المنع من شيء، كأن يقول واحدهم: عليه الطلاق إن فعل

كذا أو إن فعلت كذا ونحو ذلك. وما كان من ذلك تعليقًا حقيقيًّا على فعل المرأة

وهو الأكثر، يجعل الطلاق في يدها كما هو في يده فيشتركان فيه وقد ذهب الكثير

من الأوربيين إلى صحة الطلاق من كل من الزوجين وهذا شيء منه. ومن أئمة

السلف من يقول بعدم وقوع الطلاق بأيمان اللجاج وكل لفظ لا يقصد به حل عقدة

الزوجية قصدًا صحيحًا، وعليه بعض علماء الحنابلة ولو حرر المسلمون مسائل

الطلاق من غير التزام مذهب بأن يأخذوا من مجموع كلام الأئمة ما يوافق النصوص

المنطبقة على المصلحة العامة لما كان يقع الطلاق من المسلمين إلا مثل ما يقع ممن

قلدهم فيه من الإفرنج. ولعله يكون في بعض البلاد الإسلامية أقل منه في بعض

بلاد الإفرنج بل هو الآن أقل في بعض البلاد.

نعم، لا ننكر أن المسلمين في بلاد مصر قد أسرفوا في الطلاق وفي التزوج

بأكثر من واحدة فساءت حالة الحياة الزوجية فيهم وفي أمثالهم ممن على شاكلتهم وإن

قلوا وأنهم في ذلك على غير ما يحب الإسلام، ويرضى كما يعلمون في الطلاق

وكما بينا في حكم تعدد الزوجات وشرطه في المجلد الماضي، ولكن سوء هذه الحال

خاص بالمسرفين من أهلها وبمن يقربون منهم بما يروعون نساءهم ويوقعون الريب

في قلوبهن بكثرة الحديث في التزوج وإظهار الميل إلى بعض العذارى أو الأيامى

بالقول أو الفعل. وقد مرضت الفطرة في هؤلاء واعتل مرشدها، وهو الدين حتى

كان انحلال الرابطة الزوجية بعض أعراض ذلك المرض الذي فقد علاجه، فهم لا

يذوقون للحياة الزوجية طعمًا، ولو لم يروعوا نساءهم بالطلاق والمضارة إلا أن

يقيموا وجههم للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإن السعادة الزوجية

كغيرها من ضروب السعادة لا تكاد تناول إلا بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب التي

جاء بها الدين، ولذلك قال المصلح الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (إذا جاءكم

من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) .. إلخ (رواه الترمذي والليث بن سعد) ومن

يطلب السعادة بغير ذلك فهو من الخاسرين.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تنصى القوم: تزوج في نواصيهم أي أشرافهم، ومثله (تذراهم) أي تزوج في ذروتهم.

ص: 208

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تزويج الشريفة بغير كفء

وسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم

(س 14 ،15) ض. ع أحد المشتركين بالمنار في (سنغافورة) : قاضٍ

زَوَّجَ شريفة علوية صحيحة النسب شهيرته، برجل هندي مجهول النسب، شهد له

اثنان عند القاضي قالا: في بلدنا يقولون سيد. وبعد الفحص عارض ذلك القاضي

العلماء العارفون حتى اتضح بطلان العقد وفساده عند الجميع وعند القاضي أيضًا؛

فأبى الرجوع إلى الحق والاعتراف بفساد العقد وساعده رجل آخر جهلاً، وهوًى

وتعنتًا، حتى أن المساعد لما روجع بما يقوله الشرع والعلماء وأحضرت له الكتب

طفق يسب العلماء، وقال لمن عارضه اطرح هذه الكتب في إستك (قالها بالعبارة

العامية المبتذلة) فالمؤمل من فضلكم الجواب مبسوطًا على قوله اطرح هذه الكتب

في.. ..؛ فالمسألة واقعة حال والرجل والمرأة مقترنان حتى الآن سفاحًا، وعندنا

بسنغافورة اختلفت الأجوبة فمن قائل بكفر المساعد وغيره، ولا يرضى الجميع إلا

بجوابكم فانشروا جواب سؤالنا على صفحات مجلتكم المنار لا زلتم ذخرًا للخاص

والعام وناصرين لشريعة أفضل الأنام عليه الصلاة والسلام.

(ج) نشرنا في الجزء العاشر من المجلد السابع مقالة في الكفاءة بينا فيها أن

الكفاءة في النسب من المسائل الاجتهادية، وأن العبرة فيها بالتعيير وعدمه، ولذلك

صرح بعض الفقهاء بأن الشريف غير المشهور بالشرف ليس كفؤًا للشهيرة

بالشرف، والظاهر من السؤال أن الواقعة لو ثبت فيها شرف الهندي لكانت من هذا

القبيل ولا حاجة لبسط القول في هذا المقام بعد العلم بأن العلماء العارفين حاجوا

القاضي حتى حجوه واقتنع ببطلان العقد ولكنه لم يرجع إليه. ثم إنكم لم تذكروا في

السؤال هل كان لهذه الشريفة ولي أم لا؛ فإن لم يكن لها ولي وكانت هي راضية

بهذا الزوج فالعقد صحيح؛ لأنها أسقطت حق الكفاءة وليس لها أولياء يلحقهم العار

بزواجها من غير الكفؤ فيعارضوا فيه. وإن كان لها ولي فكيف زوجها القاضي بدون

إذن وليها، وهل عارض الولي أم لا؟ كان ينبغي بيان ذلك.

وأما سب ذلك الجاهل للعلماء وإهانته للكتب الدينية فهو من أكبر المعاصي

لأنه يسقط احترام العلم والدين وأهلهما من نفوس الجاهلين، ويجرئ السفهاء على

الفضلاء، حتى تكون الأمة فوضى ليس فيها كبير يحترم لفضله، ولا صغير يؤمن

بجهله، ولا يتجه كون ذلك من الكفر إلا إذا احتفت به القرائن والدلائل على أنه قال

ما قال في كتب الدين وحملتها هزؤًا بالدين نفسه؛ لأن غير معتقد به. وقد أفتى

بعض فقهاء الحنفية بِرِدَّة من يحقر علماء الدين أو كتبه ونصوصه، حتى قالوا: إن

من يعطى الفتوى فيلقيها في الأرض ازدراء واحتقارًا يكفر. ولما ذكر ابن حجر من

الشافعية قاعدة: (أن من الردة كل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من

كافر عدّ من ذلك قوله: أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها

اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة، قال بعضهم أو قذر ظاهر)

إلخ

ثم، قال فيما سرده من أعمال الردة: أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين

على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا، أو يلعب استخفافًا، أو قال:

(قصعة ثريد خير من العلم) استخفافًا أيضًا، ويشترطون في كون هذه الأعمال كفرًا

أن لا تدل قرينة على عذر صاحبها، أو تأوله لا خلاف بينهم في هذا.

والتحقيق أن الكفر هو إنكار شيء مما علم من الدين بالضرورة، وكان مجمعًا

عليه، ومثله تكذيب شيء من الدين يعتقد المكذب له أنه مما جاء به الشارع، أو

اعتقاد قبحه وبطلانه؛ لأن كل ذلك تخطئة للرسول فيما جاء به عن الله تعالى. وما

ذكر الفقهاء من المكفرات غير ذلك؛ فهو في رأيهم يرجع إليه؛ لأنه دليل عليه، أو

لازم له أو ملزوم، ولذلك رد بعضهم منه ما قاله بعض لا سيما ما كان كفرا باللزوم

وقد قالوا (إن لازم المذهب ليس بمذهب) واتفقوا على أن التأول يمنع التكفير فإذا

أتى إنسان بشيء عدوه كفرًا وردة، فذكر أن له تأويلاً يتفق مع اعتقاده بأن جميع ما

جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين حق امتنع الحكم بردته،

وقالوا: إذا وجد مئة دليل أو قول على كفر أحد وقام دليل أو قول واحد على عدم

كفره يعمل بالواحد لأنه يجب درء الحدود بالشبهات والتباعد عن التكفير ما أمكن.

ولكن هذا لا يمنع من تشديد التعزيز على من كانت الشبهة على كفره أقوى لا سيما

إذا كانت أقواله وأفعاله المشتبه في كونها كفرًا مما يفتن العامة ويضر بالناس، والله

أعلم.

_________

ص: 215

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصرف الهدايا والنذور

لأضرحة الأولياء

(س16) السيد عوض جمعان سعيدان في (سنغافورة) : أرجو من سيادتكم

الإفادة عما يأتي ولكم من الله الفضل. سيدي من المشهور أن عند قبور بعض

الأولياء صناديق حديد يضع فيهن من يريد قضاء حاجته شيئًا من الدراهم، وعندنا

كثير من هذه القبور خصوصًا في جهة (جاوا) ، وتوجد تلك الصناديق عند نهاية

الشهر ملآنة بالدراهم ينفق منها القائمون بحراستها ما يقوم بنفقة المقام والباقي

يصرف على ورثة الولي إن كان له قرابة، وقد التمس مني أحد الإخوان بإلحاح أن

أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا نشره في أحد أعداد المنار والجواب عليه بما

يمكن العمل به، وهو هل يجوز للورثة أخذ تلك الدراهم مع العلم بأن طالب الحاجة

لا يقصد تقديم تلك الدراهم للورثة أو غيرهم بل يقصد بها أن تكون لذلك الولي فقط،

أفيدونا لا زلتم مؤيَّدين وبعين العناية ملحوظين.

(ج) الميت لا يملك فيكون ملكه لورثته؛ فإذا كانت الحال كما ذكرتم في

السؤال فلا يجوز لقرابة صاحب الضريح أكل ما يُلقى في الصندوق من المال لا بعد

الإنفاق على القبر ولا قبله، وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من

إيقاد السرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه؛ لأن النبي -صلى

الله عليه وآله وسلم - قد نهى عن ذلك ولعن فاعله، وقد عد العلماء اللعنة علامة على

أن الذنب من الكبائر، ومنها حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأبو

داود والترمذي وحسنه والنسائي وفي إسناده أبو صالح بازام أو باذان تُكلم فيه.

وما قاله ابن عباس تشهد له الأحاديث الصحيحة سواء سمع منه أبو صالح أم لا، ففي

حديث الصحيحين (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي رواية:

(لعن) بدل (قاتل) وقد فسرت هذه بتلك، وفي حديث مسلم أن النبي قال ذلك في

مرض موته وزاد (فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وفي رواية في

الصحيحين (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا)

إلخ

ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه والنسائي قال

(نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى

عليه) وفي رواية أخرى: (وأن يكتب عليه) وقد ذكرنا من قبل هذه الأحاديث،

وغيرها فمن شاء فليراجعه، أو ليراجع ما كتبه ابن حجر في بيان الكبيرة الثالثة

و4 و5 و6 و8 والتسعين من الزواجر فإنه بحث في كفر الذين يعظمون قبور

الصالحين تعظيمًا يشبه العبادة كما هو المعروف في زماننا.

أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهمًا أنهم يستميلون بها

أصحاب القبور لتُقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب

على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها، ويُبَيِّن لهم حكم الله في ذلك، ولكن من

يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل، ويشركون فيها من يشركون. وقاعدة الفقهاء

في الأموال التي لا يعرف لها مالك أن ترصد لمصالح المسلمين العامة، ومن للمسلمين

بمن يقوم بمصالحهم العامة وليس لهم حكومة إسلامية تلتزم الشرع وتقيمه في كل

أعمالها وأحكامها، وليس لهم زعماء وسراة يرجعون إلى رأيهم وإرشادهم، فحسبنا

الله وإياه نسأل أن يهيئ لنا من يقوم بأمر ديننا قبل أن نكون من الهالكين الميئوس

منهم.

_________

ص: 217

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن

(س 17) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) : ما قول أئمتنا الشافعية فيما

يأتي: هل يسن للملقن أن يجلس قدام وجه الميت، أو فوق رأسه، أو وراءه، أو

يفرق بين كون الميت رجلاً أو امرأة.

(ج) هذه المسألة مما يؤخذ فيه بالاتباع ويبعد فيها القياس، والأخبار والآثار

الواردة فيها ضعيفة، ولكن قد استحب أصحاب الشافعي الأخذ بها. والوارد أن يقف

الملقن عند الرأس. أخرج الطبراني في الكبير وعبد العزيز الحنبلي في الشافي وابن

منده في كتاب الروح وابن عساكر والديلمي عن سعيد بن عبد الله الأزدي عن

أبي إمامة قال (وفي رواية شهدت أبا إمامة وهو في النزع فقال يا سعيد) : إذا أنا

مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلام - أن نصنع بموتانا

أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب

على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدًا ثم

ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية،

فإنه يستوي قاعدًا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثالثة فإنه يقول:

أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا

شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام

دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا؛ فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد

صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته) وفي لفظ: ويكون الله

حجيجه دونهما. فقال رجل يا رسول الله؛ فإن لم يعرف اسم أمه قال: (فلينسبه إلى حواء) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وإسناده صالح وقد قوَّاه الضياء في

أحكامه، ولكنهم تكلموا في سعيد راويه، وفي إسناده عاصم بن عبد الله وهو

ضعيف وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه ابن منده بلفظ آخر

ورووا آثارًا بمعناه لا محل لذكرها هنا وإنما المقصود بيان أن الرواية صريحة

في أن الملقِّن يقوم عند رأس القبر. وقد ورد في أحاديث القيام عند القبر للدعاء

بالتثبيت أنه يستحب أن يقف مستقبلاً وجه الميت.

ولا وجه لقياس الوقوف للتلقين أو الدعاء؛ على الوقوف للصلاة قبل الدفن إذا

فرقوا فيه بين الذكر والأنثى؛ لمكان النص ولوجود الفرق، والله أعلم.

_________

ص: 219

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رش القبر بالماء

(س18) ومنه: رش القبر بالماء مستحب، هل هو عام لكل وقت أم خاص

بعد الدفن؟

(ج) ذكروا رش القبر بالماء في أحكام الدفن، وعللوه بما عللوا به وضع

الحصباء عليه وهو لا تذهب الرياح بالتراب وهو دليل على أن المراد رشه بعد الدفن

وعليه العمل، والأصل فيه ما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع عليه حصباء،

وروى البيهقي أن بلال بن رباح رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالماء، وفي

إسناده الواقدي، تكلموا فيه.

_________

ص: 220

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شعر الرأس

حلقة أو تركه

(س19) ومنه: تبقية الشعر في الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه

كما في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فهل لها كيفية مخصوصة أم لا؟

(ج) إن إرسال الشعر وحلقه من العادات لا من العبادات، إلا ما يكون في

النسك من الحلق أو التقصير، نعم إنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم

حلق في غير النسك وكذلك الصحابة كانوا يرسلون شعورهم، وكان ذلك من عادتهم

ولم يكونوا يعدونه دينًا، ويعجبني قول الغزالي في الإحياء (ولا بأس بحلقة لمن

أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرَجِّله إلا إذا تركه قزعًا أي قِطَعًا، وهو

دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك

شعارًا لهم؛ فإنه إذا لم يكن شريفًا كان ذلك تلبيسًا) اهـ. وهو يريد بأن المؤدَّب

بآداب الدين لا ينبغي أن يتشبه بالسفهاء؛ كأهل الشطارة ولا بمن يلزم من

تشبهه بهم تلبيس على الناس وغش لهم، وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس

وكونه مخالفًا للسنة؛ لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج؛ فإذا أخذنا

بإطلاقهم كان اللوم في ترك هذه السنة موجِّهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم

يحلقون بل ينكرون على من لم يحلق وهم مخطئون.

نعم، إن من أرسل شعره بنية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في

عاداته الشريفة كان ذلك مزيد كمال في دينه؛ إذا كان مقتديًا بسننه الدينية، ومتحرِّيًا

التخلق بأخلاقه الكريمة، وقد ورد في أحاديث الشمائل بأن شعره كان إلى أنصاف

أذنيه، وكان لا يتجاوز شحمة أذنيه غالبًا، وقد يصل إلى منكبيه، وقد سدل ثم فرق

فأما السَّدْل فهو أن يرسل الشخص شعره من ورائه وعلى جبينه أي يتركه على

طبيعته، وأما الفَرق فهو أن يجعله إلى جانيه وزعم بعض العلماء أن السدل نسخ

بالفرق ولا تقوم له حجة.

وقد جرى أكثر الإفرنج وبعض المتفرنجين في هذا العصر على سنة إرسال

الشعر وفرقه، أريت إذا فعل ذلك شيخ الأزهر أو بعض شيوخه المشهورين. ألا

يعد هذا عند العامة وبعض من يعدونهم من الخاصة خرقًا لسياج الدين؟ بلى، إن حكم العادات نافذ في العلماء والجهلاء، وهو كثيرًا ما يزيد في الدين ما ليس منه في

شيء وينقص منه ما هو من سننه التي لا خلاف فيها، ولا تبعد في طلب المثال

فهو بين يديك، وفي أسئلتك وما قبلها. فمشايخ الأزهر يقرءون في شمائل

نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على من يفعل ذلك من أهل

العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم وكان شيخًا للأزهر قائلاً: إنك من أهل العلم لا

يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه، فحججته بالسنة فحاجني بأن ذلك شعار

العلماء الآن.

_________

ص: 220

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صلاة الظهر بعد الجمعة

والخلاف في الدين

(س20) ومنه: هل يجوز لأحد أن ينهى أهل بلدتنا (سنغافورة) وأشباهها

كما حدث الآن عن إعادة الظهر بعد الجمعة أم لا يجوز؟ لأنهم يعتقدون أنها سنة

متمسكين بقول العلامة ابن حجر الهيتمي في الجمعة من الإيعاب بعد كلام قرره فيه:

وعلى كل فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه لحاجة ولم يعلم سبق جمعته

للكل أن يعيدوها ظهرًا خروجًا من هذا الخلاف

إلخ، ولأنه أي النهي يوقعهم في

محظورات منها وقوعهم في أعراض أهل العلم الذين أمروهم بإعادتها وأعادوها

بأنفسهم في تلك البلدة وغِيبتهم كبيرة بالإجماع، ومنها مفاسد آخر كالنزاع والشقاق

المتولد بين أهل تلك البلدة بسبب الطعن في علمائهم المتقدمين وغير ذلك فيكون هذا

الرجل سببًا لذلك، نعوذ بالله من غضبه.

(ج) تعلمون أن الخلاف واقع بين علماء الشافعية بعضهم مع بعض وبين

علماء سائر المذاهب، كما وقع بين الأئمة ومن فوق الأئمة من علماء الصحابة -

رضي الله عن الجميع - ولا شك أن كل من ذهب إلى شيء فهو يرى مخالفه فيه

مخطئًا، ومن كان غير معصوم فهو عرضة للخطأ، وقد نقل عن الصحابة والأئمة

أنهم أخطأوا في مسائل ثم ظهر لهم الصواب فرجعوا إليه، ومنها ما هو أهم في الدين

من إعادة الظهر بعد الجمعة احتياطًا أو غير احتياط فإذا كان هذا سببًا للوقوع في

أعراضهم فمن يسلم لنا. قالوا: إن ابن عباس رجع في آخر حياته عن القول بجواز

المتعة فهل كان هذا سببًا للوقوع في عرضه ممن كانوا سمعوا منه الفتوى بالجواز

وعملوا بها؟ هل كان أهل العراق يقعون في عرض الإمام الشافعي؛ لأنه يرجع عن

مذهبه القديم بعدما عاد إلى مصر. كلا إن هذا من عمل السفهاء، وما كان لأهل العلم

أن يحفلوا بقدح هؤلاء السفهاء، ولا بمدحهم فيتركوا بيان العلم والدين لأجلهم، وهذه

سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق. يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا

تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ

أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ

أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) فعلى المؤمن بل من خواص المؤمن أن يأخذ

بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لوم لائم ولا خوض آثم وإذا

كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد

أمره بذلك عالم فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته وهو

يستحق الدعاء والثناء لا السب والطعن.

وإذا حاسب السائل نفسه ورجع إلى وجدانه يتبين له أن الذي أكبر هذه المسألة

في نفسه وفي نفوس الكثيرين من أهل سنغافورة وجاوه هو تعودهم صلاة الظهر بعد

الجمعة، فالأمر من قبيل حكم سلطان العادة الذي ذكرناه في جواب السؤال السابق،

وإلا فلو كان المسلمون يهتمون كل هذا الاهتمام بكل مسألة حتى ما قاله بعض الفقهاء

المتأخرين: إنها من الاحتياط؛ لكان اهتمامهم بما أجمعت عليه الأمة من المحرمات،

والمكروهات والواجبات والمندوبات أعظم وأشد وأين هم من ذلك؟ فو الذي

أحيا سلفهم بإتباع الحق حيث كان، والاعتصام به بقدر الإمكان، وأماتهم بابتداع

البدع، والتفرق في الدين إلى شِيَع، لو أنهم كانوا يعلمون بما أجمعت عليه الأمة؛

لكانوا في هذا العالم هم السادة الأئمة، ولكانت الأمم التي أزالت ملكهم وورثت

عزهم، تابعة لهم خاضعة لأمرهم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية.

هذا هو رأينا في الخلاف في هذه المسألة الاحتياطية التي كبرت عند بعض

أهل سنغافورة وجاوه، حتى عدها بعض أهل الهوى والجهل منهم فتنة من فتن

المنار الذي بيَّن حكم الله فيها؛ إذ كتب واحد أو اثنان منهم لأمثالهم من أصحاب

الجرائد الذين لا يصلون ظهرًا ولا عصرًا، ولا يفهمون كتابًا وسنة، يستفتحون بهم

على المنار ويطلبون منهم الرد عليه أو تحريض العلماء على ذلك، والمنار يطلب

في كل عام غير مرة من كل عالم يرى فيه شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة أن يكتب به

إليه. وقد زعم الكاتبان أن المنار هو الذي فرَّق بين الناس في الدين وجرَّأهم على

سب الأئمة والسلف، والمنار هو الداعي لإزالة الخلاف بالاعتصام بالكتاب والسنة

والاقتداء بالسلف ولا نعرف داعيًا إلى ذلك بالقول والكتابة والنشر غيره ففي أي جزء

وفي آية صحيفة منه تكلم في السلف والأئمة؟ {إِنْ هَذَا إِلَاّ اخْتِلاقٌ} (ص: 7)

يُعرف منه أن المشاغبين في مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة لا يتبعون إلا الهوى؛

فإن الكذب والبهتان والغيبة لا سيما لخدمة الدين وأهل البيت النبوي من أكبر

المحرمات بإجماع المسلمين، وأما صلاة الظهر بعد الجمعة فهي مسألة خلافية بينَّا

الحق فيها من قبل. فهل من الاحتياط الذي قاله ابن حجر أن يكذبوا ويغتابوا

ويخوضوا في أعراض العلماء ويلصقوا ذلك بغيرهم.

قد أطلت القول في هذه المسألة؛ لأن الناس قد اهتموا بها عندكم أكثر مما

تستحق، وهؤلاء أهل مصر أكثرهم شافعية ولم يهتموا لها بعض الاهتمام وهذه سنة

الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضرر

ويتركون عظائم الأمور ولا يبالون بها أرأيت أيها الأخ السائل أيهتم

قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون بمن يصلي الظهر بعد الجمعة احتياطًا ويتركها لاعتقاد أنه لم يكلف بها وفاقًا لأكثر المسلمين؟ إذا كان

هؤلاء قد تركوا كل ما حرَّمه وكرهه الدين وقاموا بكل ما قدروا عليه من أحكام الدين

فرائضه وسننه وآدابه لأنفسهم ولأمتهم فلهم الحق في الاهتمام بهذه المسألة، وإنني

أعتقد حينئذ أنهم يكونون سعداء مرضيين عند الله صلوا الظهر بعد الجمعة، أم لم

يصلوها، وإن كانوا قد قصروا في شيء من الفرائض والسنن المتفق عليها أو

يرتكبون شيئًا من المحرمات التي لا خلاف فيها فزعمهم الاهتمام والعناية بالدين؛

لأجل مسألة خلافية لم يقل بها إلا الأقلون من المسلمين زعم باطل لا سبب له إلا

التمسك بالعادة والتعصب على المخالف بغيًا وانتصارًا للنفس.

والخلاصة: أن من اعتقد أن شيئًا غير مشروع فعليه أو فله أن يبينه للناس

غير مُبَالٍ بِلَغَط اللاغطين، واختلاف الجاهلين، والله ولي المتقين.

أما سؤالكم في سماع الدعوى في بيع الرهن؛ فليس من موضوع المنار البحث

في الأحكام القضائية غير الدينية، وظاهر أن الدعوى لا تسمع ممن سكت عنها المدة

التي حددها الإمام أو نائبه.

_________

ص: 221

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ

(الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)

رسالة لعلي بك أبي الفتوح من علماء القوانين العاملين بها في نيابة محكمة

الاستئناف بمصر ابتدأها بقوله: (لا يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم

أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من

التمدن والترقي درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط الموجودة في القوانين

الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وإنما هي بمثابة الاختراعات

المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد، ولكن الباحث في

الفقه الإسلامي ولو قليلاً لا يلبث أن يغيّر هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا وصلوا

في الرفاهية وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلَّما يجاريهم فيه

أحد إلا أن صعوبة كتب المتأخرين وكيفية تأليفها، وما هي عليه من التعقيد قد

أوصدت الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء غير المنقطعين

لدراستها، ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد التآليف لقديمة؛

لأنها أسهل موردًا وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد وبعدها عن المشاغبات اللفظية،

وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل ولا حساب للوقت.

(أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة

182 هجرية وقد ألف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمنين هارون الرشيد، وفيه من

النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا

المؤلف الصغير الحجم على دُرَر كثيرة لا أبخل بنظمها في هذه المقالة حتى يرى

المسلمون وخصوصًا المشتغلون منهم بالقوانين الإفرنجية أن المتقدم لم يترك شيئًا

للمتأخر، ولعلهم ينكبُّون على دراسة الشريعة والآداب؛ لأنهما لا ينافيان العصر

الحاضر ولا المدنية الحديثة إذا فُهِمَا حق الفهم ودُرِسَا بعقل وتمييز.

وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع

اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر

احترامًا في النفوس وأكثر موافقة لأخلاق وعوائد من وضعت لهم) اهـ.

ثم ذكر مسائل من كتاب الخراج وذكر ما ورد بمعناها في القوانين الحديثة

واستخرج العبر منها، وقال: إن أهل القوانين يظنون أن هذه المسائل من أوضاع

علماء أوربا المتأخرين؛ فهذه الرسالة مفيدة للمتعلمين في المدارس النظامية بمصر

وأوربا الذين لم يتلقوا شيئًا من علوم الشريعة فهم يغمطونها للجهل، وهذا الذي ذكره

قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير، ومفيدة لعلماء الأزهر، وأمثالهم من

المتعلمين على طريقتهم إن كانوا يقرءون ويعتبرون بما تبين لهم من سوء أثر هذه

الكتب المتأخرة التي اختاروها للتدريس، وأثر طريقة التعليم المتمعجة التي يتعسفون

فيها فإن ذلك أقوى أسباب بُعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم.

أما تعجب الكاتب من جدارة الحكومات الإسلامية بأخذ قوانينها وأحكامها من

الشريعة الغراء، فيقال فيه: إنه لو كان في الدنيا حكومات إسلامية لما كان لهم

معدل عن الشريعة، وهل من معنى لكون الحكومة إسلامية إلا كون تشكيلها

وأحكامها على حسب الشريعة. وهل توصف بالإسلامية الحكومة الاستبدادية

الشخصية التي يُنْشئها أو يرثها رجل يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يتقيد من

شريعة الإسلام بشيء إلا ما لا يرى بدًا منه في إخضاع العامة لسلطته أو ما يراه

موافقا لمصلحته؟ هذه مجلة الأحكام العدلية التي ألفتها لجنة من علماء المسلمين هي

أحسن من القانون المدني الفرنسي، وقد أمر السلطان العثماني بالعمل بها عندما

أسس نظام العدلية، وأبطل به الامتيازات الأجنبية، فلماذا لم تتبعه الحكومة

الخديوية، بل اختارت على أحكام الشريعة الإسلامية قانون الحكومة الفرنسوية.

كلنا يعرف السبب في ذلك وهو طمع إسماعيل باشا بالاستقلال والانفصال عن

الدولة بمساعدة أوربا التي يتزلف إليه باتباع مدنيتها فانظر ماذا حل به وباستقلاله.

والرسالة قد طبعت فنحث القراء على طلبها ومطالعتها.

***

(شرح التلخيص وطريق البلاغة وكتبها)

ساءت طرق التعليم في المدارس الإسلامية بعد ضعف العلم بضعف الأمة،

وساء اختيار المعلمين للكتب؛ فصارت العلوم في المسلمين رسومًا منها الدارس

ومنها المائل. ثم تلاشى من العلوم ما لا يقوم بالرسم؛ لأنه أشبه بالروح منه بالجسم.

كعلم البلاغة الذي هو ذوق معنوي، وشعور روحاني، تطبع بملكته النفس؛ ثم

يظهر أثره في الحس، وهذه الكتب التي اختارها المتأخرون هي شروح لمتون

جعلت مذكرة لأصول المسائل، ومهمات القواعد؛ فكانت مناقشات في ألفاظها،

واستنباطات في عباراتها، تقطع على من ابتلي بها طريق التحصيل. وتضله عن

سواء السبيل، وأشهر هذه المتون متن التلخيص للشيخ جلال الدين محمد بن عبد

الرحمن القزويني الخطيب بدمشق الذي اختصر به كتاب المفتاح لأبي يعقوب يوسف

السكاكي. وقد كان البلغاء المتقدمون الذين انتهت إليهم البلاغة والقدرة على البيان

يأتون البلاغة من بابها بما يزاولون من قراءة الكلام البليغ وتفهم معانيه، والتفطن

لأساليبه ومناحيه، حتى إذا ما أحس الإمام عبد القاهر بضعف عناية الناس بفهم

الكلام البليغ ورأى النفوس منصرفة إلى العناية بزخرف اللفظ، وإن عجز عن أداء

المعنى المراد، وقصر عن التأثير المطلوب فوضع كتابيه في (أسرار البلاغة) في

البيان، و (دلائل الإعجاز) في المعاني؛ ليصرف الناس عن المجاهل التي

تعسفوا فيها، ويهديهم إلى الطريق التي ضلوها؛ ولكن جاء بعده السكاكي فاقتبس

من كتابه القواعد والأحكام التي وضعها لإقناع الجاهلين، وتسهيل الغوص على الدرر

للغواصين، فجعل الفن رسمًا محدودًا، واصطلاحات نظرية حظ الذهن منها

بالتصور والتصوير، أكبر من حظ النفس بالتأثر والتأثير، ثم اختصر الخطيب

بتلخيصه ما كتبه السكاكي فكان كتابه أوغل في الرسم والاصطلاح؛ وأبعد عن

النفوذ إلى مواقع التأثر والتأثير من الأوراح، وجاء بعد ذلك سعد الدين التفتازاني

الذي صرف كل ذكائه في ممارسة العلوم النظرية من المنطق والجدل والمناظرة

والفلسفة والكلام؛ فشرح (التلخيص) على طريقته في العلوم النظرية، فخرج

بذلك علم البلاغة عن موضوعه بالكلية، وابتليت كتب السعد بأناس وضعوا عليها

حواشي للبحث في ألفاظها وأساليبها دون البحث في أساليب الكلام البليغ المأثور

فصارت هذه الكتب عقبات أو عواثير في طريق البلاغة بل صرفت الناس عنها؛

وحالت بينهم وبينها.

مرت قرون على المسلمين وهم يتسكعون في ليل من الجهل بهيم حتى إذا

الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هدى الله أناسًا إلى أن يقبسوا اللغة من

مقبسها، ويجنوا البلاغة من مغرسها. وما عتم أن استبان للأزهريين المقصد،

وظهر فيهم الإمام المرشد، ثم طبع الكتابان الجليلان، (أسرار البلاغة ودلائل

الإعجاز) وقرأهما في الأزهر الأستاذ الإمام، فحاول تلامذته الجمع بين العلم

والعمل، وظهر فيهم من فاتوا شيوخهم الآخرين في بلاغة اللسان والقلم، فكتبوا

المقالات والرسائل الأدبية، وتعلقت آمال بعضهم بتأليف الكتب العلمية، وهذا كتاب

شرح التلخيص لواحد منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي.

جرى هذا الشارح في شرحه على أن يبين المراد من الجملة ويدعمها بشيء

مما ينصر جند المعاني على جند المباحث اللفظية التي اعتادها أهل الأزهر مستمدًا

ذلك من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز الذين هما عمدته وعتاده، وفي هذا من جذب

طلاب الأزهر الذين لم يحضروا الكتابين على الأستاذ الإمام إلى جانب البلاغة

الحقيقية ما يرجى معها أن يكون الشرح سلمًا لهم يرتقون به إلى مطالعة الكتابين،

ويهتدون به إلى خير النجدين، وهو ما يطبع البلاغة في النفس، ويظهر أثرها في

عالم الحس، على أنه يكون عونًا لهم على فهم شرح السعد الذي قضي عليهم بتلقيه،

وأداء الامتحان فيه. ومما ينتقد على الشارح أن يأخذ الكلام من أحد الكتابين

(أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فيسنده إلى نفسه وإن كان طويلاً لا تصرف له فيه

وتارة يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا لا يكون عذرًا له أن يترك عَزْوه إلى أبي عذرة

كما فعل بالفصل الذي عقده عبد القاهر في أسرار البلاغة لبيان مواقع التمثيل،

وتأثيره في النفوس؛ فإنه أخذ صفحات من صدور الفصل ووضعها في أول باب

التشبيه متصرفًا في جمل من أولها نقلها من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع،

كأن حق المصنف فيها مضى وانقضى وصارت في مستقبلها إلى مالك آخر.

قال في ص 227:

(اعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وأن تعقيب المعاني به

لاسيما قسم التمثيل منه يكسبها [1] أبهة ويكسبها مَنقبة ويرفع من أقدارها، ويشب من

نارها، ويضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ويدعو القلوب إليها، ويستثير لها

من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا، فإن

كان مدحًا كان أبهى وأفخم)

إلخ، ما لا تصرف فيه وعبارة أسرار البلاغة هكذا

(ص86) :

(واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل في أعقاب المعاني أو برزت

هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة؛

وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك

النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؛

وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم)

إلخ

وما لا تصرف فيه.

وبعد أن نقل بالحرف مواقع التمثيل وتأثيره في كل موقع، وأنشأ ينقل الأمثلة

تصرف فيها وفي الكلام عليها بعض التصرف، وكان غنيًّا عن ذلك كله.

وقد وضع للشرح مقدمة تكلم فيها عن الفصاحة والبلاغة، وعن المؤلفين في

فن البيان، وألم بما يشترط له من علم العربية، ولكن هذه المقدمة كلها أو جُلَّها

مأخوذة من كلام عبد القاهر وغيره، وما كان ينبغي للمؤلف أن يتجاوز في مقدمة

كتاب له أخذ الجملة والجملتين على سبيل التضمين. وأكثر ما أخذه قد سلخه بلفظه

ومعناه فإنك تجد قوله (في ص 7) : (أما النحو فهو معيار) إلى جمل بعده كله

من (ص 23 و 24) من (دلائل الإعجاز) ، ولا نذكر ما قاله في ص 8 من

التمثيل بالآية، وكونه من ص 26 من دلائل الإعجاز أيضًا؛ فإنه ليس من روائع

الكلام التي تملك لقائلها.

ولكن قوله في ص13 في عبد القاهر (وأرهف عليهم لسانًا أخرس الشقاشق،

وأعدم نطق الناطق ، وأسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا)

مأخوذ من قول عبد القاهر في ص 7 من المدخل الذي هو مقدمة دلائل الإعجاز

ولكن فيه شبهة عزو؛ لأنه يحكي عن رأي عبد القاهر.

وقوله في آخر ص 15 ونحو ثلثي ص 16 من دلائل الإعجاز وقوله عقبها:

(وزبدة القول: إلى نحو ثلث ص 17 مأخوذ من ص 34 و 35 من دلائل الإعجاز

وما بعدها مأخوذ من ص 37 منه. والكلام على الآية في ص 18 مأخوذ من ص 36

من دلائل الإعجاز. والكلام على بيت ابن المعتز في ص 19 مأخوذ من 47 منه) .

وقوله في ص 7: (لكن لا بد للمرء قبل ذلك أن يحظى برس من اللغة

ويصيب ذروا من النحو) فهو مأخوذ من فاتحة أساس البلاغة للزمخشري بتصرف

وقوله في ص 3 (لا يقوم بفصاحته لسان ولا يطلع فجه إنسان) هو من كلام

الشريف الرضي في وصف كلام لأمير المؤمنين لما بويع بالمدينة. ومثله قوله في

الصفحة أيضًا (وقبع في كسر بيته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه) فهو من

فاتحة نهج البلاغة للشريف، وقوله فيها قبل العبارتين: (كتب في هذا الفن قبل

الإمام عبد القاهر) إلخ مأخوذ من مقدمتنا لأسرار البلاغة، وكذلك قوله في ص 4

(وهو وإن فاق عبد القاهر في التقسيم والتبويب) إلخ ما قاله في السكاكي فهو منها

بالمعنى لا بالنص.

هذا وإننا نرى أن هذا الشرح مفيد لطلاب علم البلاغة لا سيما الأزهريين منهم

لا يجدون ما يغنيهم عنه، ولا يحسبن أحد أن ذلك الأخذ الذي نبهنا عليه يقلل من

فائدته أو يدل على ضعف مؤلفه. كلا إن الشيخ عبد الرحمن من أحسن نابتة الأزهر

تحصيلاً وفهمًا وكتابة، يدل على ذلك حسن تأليفه لما أخذه وربط بعضه

ببعض، وحسبه أن يختار الجيد النافع وإنما كان من الكمال في العمل، ومن

الأمانة في العلم أن يأخذ المعاني ويستقل بالعبارة حتى إذا احتاج أخذ شيء بنصه

عزاه إلى صاحبه. ولكن لو كانت العبارة كلها له لكان الكتاب أقل فائدة؛ إذ لم

يصل إلى درجة عبد القاهر في التحرير والتحبير. ولعل الذي سهَّل عليه ترك

العزو هو اعتقاده بأن أكثر المؤلفين المتأخرين ليس لهم إلا جمع الأقوال وتنسيقها فإذا

كان منهم من جمع المشاغبات الضارة فهو قد جمع الفرائد النافعة. والكتاب

مطبوع طبعًا جميلاً، وقد جعل ثمنه أربعة قروش صحيحة، وهي قليلة جدًّا بالإضافة

إلى ما أنفق عليه بصرف النظر عما يستفاد منه.

_________

(1)

يقال (كساء الثوب يكسوه) واوي، يقال كسي زيد كرضي فهو كاسٍ ولم ينقل (كسيه) .

ص: 224

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار

وترك الأستاذ الإمام للأزهر

كتب إلينا الكتاب الآتي أحد أعلام الأمة الإسلامية وأركان نهضتها العصرية.

ناظم مدرسة العلوم (الكلية) ومدير جريدتها (على كده انستيوت) الشهيرة

وصاحب المصنفات الكثيرة محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان. فنشرناه

ووصلناه برأينا فيه. قال حفظه الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

غب إهداء سلام ألذ من تغاريد الحمام، وأصفى من قطر الغمام، وأحلى من

صفو المدام، وأشهى من أنفاس الرياض؛ إذ هطل عليها الغمام، وأعبق من روايح

المسك الختام، وأبرق من البدر التمام، وأشرق من الشمس إذ ينقشع عنها الظلام،

أخص به حضرة المولى العلامة النحرير، والعلامة القرم الكبير، مولانا الشيخ

رشيد رضا لم تزل الأقدار تعضده في كل حال. وتصعده للظفر بالأماني والآمال،

ما لمع آل وتكررت الغدو والآصال.

(وبعد) فقد عرفت يا سيدي ما قد أصاب المسلمين من الشرور والفتن،

والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بوداع، وأن النفاق قد أقبل وأشرف

باطلاع، وأن الدين قد استتر وتنكر بوجهه، وتولى بركنه، ونأى بجانبه،

وتطرقت البدع المحدثة، وتسربت الأحداث المستحدثة، ورفعت الأمانة من

المسلمين، وكنست الديانة عن المؤمنين، وبدت الخيانة في حزب سيد المرسلين.

قد أعتم بنا عاتم الفتن وجللتنا حنادس المحن، وغشيتنا غياهب الإحن

وتسربلنا بسرابيل العدم والإملاق، وتقمصنا بقمص الجهل والنفاق، وطحنتنا

الجهالة بكلكلة البلى، وعركنا الجهل فسوانا بتخوم الثرى، لا ننكر من الشر نكرًا،

ولا نعرف من الخير أمرًا، سُلب منا الإخاء، وبدت فينا العداوة والبغضاء،

وسرت فينا الجهالة العمياء، فضربت بذلك علينا المتربة، وحاقت بنا المسغبة،

وجللتنا المعطبة، لا نكترث بما صارت إليه حالنا، ولا نحفل بما تحولت إليه

أحوالنا. ولا نبالي بما خابت منه آمالنا، قوضت عنا خيام المجد والاعتلاء،

وأسرجت لنا رواحل الذل والبلاء؛ وتحولنا عباديد بعد الألفة، وتباديد بعد

اجتماع الكلمة، وتركزت فينا أصول الفرقة، وتشتت اللم وتفرق، وتمزقنا كل

ممزق، يزري بنا العيون، ويزدرينا ريب المنون؛ رحل الإسلام عن عقر

داره، وتربع النفاق في محله وقراره، ومن ثم ترى الاجتماع قد تهدمت

مبانيه، وتبصر الائتلاف قد خوت مرابعه ومغانيه، وتدكدكت من الاتفاق

القنان، وانهدمت منه المصدان [1] وتصرمت أيامه ولياليه، واستبدلت بالانخفاض

معالمه وعواليه، وبالذل والصغار قصوره ومعاليه، خمدت منه كل نار، وانفل

منه كل غرار وعفت منه كل دار، وطمست منه الآثار، وعطل كل فلكه عن المدار،

وكورت شمس علائه، وخسف منه بدر سمائه، وأرجفت منها أرضه العريضة،

واغبرت صفحتها فأضحت مريضة ولم يبق من الإسلام إلا رسم خلق في المقام،

ضمنه كما ضمن الوحي السلام [2] .

يسومنا الأقوام خسفًا من كل جانب، ويستصغرنا الرجال عسفًا على ظهر كل

لاحب، لم يستبق الدهر لنا قوة ولا دولة، ولم يرض لنا إمرة ولا صولة.

وقد كان يعجبني منكم بين تلك الأحوال المزعجة، ويروقني من جنابكم في تلك

الحالات الموجعة المفجعة، ما حباكم الله سبحانه بفضله، واصطفاكم ببره، لاستفراغ

الوسع في إصلاح المسلمين، والاجتهاد البالغ التام في حضهم على النهضة لأمور

الدنيا والدين، وذلك بما كنتم تنشرون من إمضاءات بليغة، وتنشئون من رسالات

بديعة أنيقة، ومكاتبات بهية شهية رشيقة تحضون بها المسلمين على النهضة،

وتحثونهم على الأوبة، إلى ما كانوا عليه من سالف المجد والاعتلاء، وماضي الكرم

والعلياء، وسابق السبق في مضمار العز والعلا، والاقتحام في مفاوز الكرب والبلاء، والاهتمام في استجلاب المجد من كبد السماء، فيا لها ما قد تضمنت

جريدتكم الباهرة الغراء، من عبارات مهذبة، واستعارات مستعذبة، وأساليب

موشحة، وأساجيع مستملحة، فقد وشيتم إذا أنشأتم، وحبرتم حينما عبرتم، وأعجزتم

حينما أوجزتم، وأذهبتم متى أسهبتم، وخرعتم متى اخترعتم، وأنتم بعون الله

قارع هذه الصفاة، وقريع تلك الصفات، وقرن ذاك المجال، وقرين هذا النضال،

وما برحنا ننقل تلك الإمضاءات الأنيقة من مجلتكم الرشيقة، إلى اللغة الهندوستانية،

من العربية العقيانية، وننشرها في مجلتنا الشهيرة (بعلى كده انستيوت) يستفيد

منها إخواننا الجاهلون، ويستضيء بها المستضيئون ويستعين بها من أضر به ريب

المنون، لدفع كل ملمة ملكية، وكشف كل مهمة سياسية.

وقد كان قبل ذلك بمدة تنيف على ثلاثين سنين، قد نشأ في تلك الآفاق

والأرضيين، رجل من أفاخم الأعيان، اسمه السيد أحمد خان، كان رجلاً همته في

إصلاح المسلمين، والغور التام في دفع الصغار والنكبة عن إخوانه في الدين،

وكان رجلاً متنطعًا مِنْطِيقًا ذا لسان، ومنطق وبيان، يعد في مصاقع الخطباء،

وينخرط في سلك بهاليل الأدباء، يبهر الناس بأساليب خطابه، ويستجلب الخلق

ببديع هضابه، ونادر سحه وتسكابه، فبادره العلماء الأعلام، بالسب والشتام،

ورشقوه بنبال العذل والملام ولعنوه على المنابر في جوامع الإسلام على مر الدهور

وكر الأعوام، وأعلنوا بكفره، وأذنوا بالخروج عن ملته، وأفتوا بإباحة دمه، وهو

بعدُ كان لا يكترث بما كان يقع عليه، وما يبالي بما كانوا ينضون له من سيوف

العداوة معه، وكان لا يفتر عن جده واجتهاده والضرب بعصا التسيار في ميادين

بلاده، ولما صبر على كل ذاك الأذى، وتجلد كالبطل الكميّ في ميادين الوغى، لم

يبرح من وطنه، أن تمثل له الظفر وخذا بين يديه وسار من مكامن عطنه.

ولكن قد قل منكم نشر تلك الإمضاءات البديعة في إصلاح المسلمين

واجتهادكم في تحسين أمورهم من الدنيا والدين، منذ حين، وأراكم قد اقتصرتم على

اقتباس جزء يسير من تفسير العَلَم العيلم الرزين، حكيم الإسلام والمسلمين، وفخار

الملة والدين، وسناد العلماء السادة الأساطين، حضرة مولانا الفاضل العلامة الشيخ

محمد بن عبده مفتي الديار المصرية متعنا الله ببقائه ولعمري هو اليوم فارس رجالنا،

ورأس أمانينا وآمالنا، نأمل به الفوز في السعادة القصوى، ونرجو منه الظفر بما

هو غاية إربنا في الحياة الدنيا، من حصول النهضة الأخرى غب النهضة الأولى،

ولا نجد لذلك مثله في جديد تلك الخلقاء الهابطة السفلى [3] .

* * *

وقد أدهشنا خبر هائل وصل إلينا من الجامع الأزهر وأوحشنا وأقلق جل

أصحابنا والأمة وأراق الدماء من الجفون والمقل، وكادت القلوب لها أن تتهبل [4]

وقد انصدعت له الصدور، وتصدعت لها المهج في شلو كل مصدور، وذلك ما

شاع عن هذا الفيلسوف السرسور [5] ، والحلاحل الوقور، والنبراس في ظلمات

الديجور، من رفض ما كان إليه من نظارة الجامع المذكور، أسفًا على ما تجرب

من جفاء أهل عصره، لا سيما علماء مصره، ومساعدة الحضرة الخديوية للعلماء،

وقضائها بخلاف ما كان يرجى من تلك الحضرة الغراء، لما كان أيده الله تعالى يريد

من إشاعة العلوم الحديثة، وإذاعة المعارف والحكم الجديدة، زيادة على ما كان

يجري فيه من دروس العلوم الشرعية، والمسائل الفرعية، ولما لم يصغ أحد إلى

رأيه ومقالته، ولم يكترث رجل إلى ما كان فيه من محض نصاحته، تمثل لنا عند

ذاك اليأس، وتجسد لنا شبح القنوط والإبلاس [6] ، لخمود هذا النبراس، فقد كنا

نظن قبل ذلك أن سوف يحفل به عنا ليل المحن، ويقلع عنا دامس الفتن، وتقوض

عنا خيام البلاء، وتعطف عنا سهام الضراء، ويتنفس علينا صبح الإقبال، ويطلع

على وجهنا فجر الآمال، من أجل ذاك البارع الحكيم المفضال، وكنا نظن أنه قد

توقد في الإسلام مصباح يستوقد منه آلاف ألوف من المصابيح، ومفتاح ينفتح به

مغالق أبواب الفرج والتراويح، ولكن قد تبين الآن أنَّا لم نبرح عرضة للبلاء،

ودرية لرماح الضراء، وجزرًا لسيوف البأساء، مازالت هذه الخضراء تدور على

الغبراء، وما أشبه حال هذا الحكيم الرزين في المصريين، بحال السيد أحمد الذي

أعثرناك على حاله في الهنديين، فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، فإنا لله وإ نا

إليه راجعون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبون} (الشعراء: 227) .

...

...

...

...

... علي كده

...

...

...

...

... (الهند)(محسن الملك)

***

جواب المنار

يريد السيد المحسن حفظه الله بالإمضاءات التي كانت تنشر في المنار، ثم

تركت - تلك المقالات الخطابية التي تمثل للمسلمين ضعفهم الحاضر وتذكرهم

بمجدهم الغابر، وتحثهم على إصلاح شأنهم في الدنيا والدين، والاعتبار بترقي

المعاصرين، وهذا ما كنا نكثر منه في أول نشأة المنار؛ ليكون تمهيدًا يعد النفوس

لقبول ما نعرضه من الرأي في الإصلاح الديني والاجتماعي ولإعمال الفكرة وتوجيه

الهمة إلى السعي والعمل لخدمة الأمة، ولكننا رأينا الناس قد استحسنوه، وكثيرًا

من أصحاب الصحف قد احتذوه وتقلدوه، حتى صار كأنه مقصود لذاته، لا لأجل

عمل من ورائه، ولذلك صرت ترى في الصحف المصرية التي تسمى إسلامية

كلامًا كثيرًا في حال المسلمين حتى من الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا ما يعرف

أجهل السوقة والعوام، وإن ما عنينا به في المدة الأخيرة يشبه أن يكون مقصدًا أو

غرضًا لتلك المقدمات أو الممهدات. ولا يحسبن الأخ الكريم أننا تركناها يأسًا من

صلاح حال المسلمين. أو فرقًا من مناصبة المشاغبين، التي لا بد أن يكون عرفها

من تصدي جريدة المؤيد للوقوع بنا، بعد ما كانت تشيد وتنوِّه بعملنا، كلا إن هذا لا

يزيدنا إلا قوة في الأمل، وهمة في العمل؛ لأن اللوم بطبعه إغراء، والمقاومة من

بواعث الاعتناء، كما رأيتم في فاتحة المنار لهذه السنة. على أن ما ننشره من

الحكم والمواعظ في التفسير، وما نودعه في مطاوي سائر المباحث من التنبيه

والتذكير، هو في معنى تلك المقالات التي تنشدون ولا تخلو من الخطابيات التي

تخطبون، وقد طالبنا غير واحد صريحًا، بمثل ما أمر السيد به تلويحًا، ولذلك

وعدنا في خاتمة السنة السابعة بالعود إلى تلك المقالات في سنتنا الحاضرة، وقد

نشرنا في الجزء الثاني منها مقالة (حياة الأمم وموتها) مقدمة للكتابة في أنواع

الحياة وحالنا فيها، وسيتلو الكتابة في الحياة الزوجية مقالات في الحياة الملية

والوطنية والسياسية. ونرجو من فضل الله وكرمه أن لا نزداد إلا ثباتًا واعتناء

ما دمنا آمنين في سربنا معافين في بدننا قادرين على النفقة على نفسنا وصحيفتنا.

وأما ترك الأستاذ الإمام للأزهر فهو لم يكن من يأس ألمَّ بنفسه الكبيرة، ولا

عن ضعف في همته العلية، ولا لمقاومة علماء الأزهر لما يريده من إصلاح التعليم

أو إضافة علوم جديدة على ما يقرأ في الأزهر من العلوم، وإنما هو ما تنسمتموه

من الجرائد المصرية، ونزيدكم فيه بيانًا بمكاتبة شخصية، وقد ظلم العقلاء عندنا

وعندكم علماء الأزهر فأنزلوهم من درجتهم في العلم والفهم، كما أعطوهم أكثر من

سهمهم من الشعور والأخلاق.

أما ظلمهم إياهم فهو اعتقادهم وقولهم فيهم أنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية

تقوض بناء الدين، وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم

خروج عن صراط السلف المستقيم، وكل هذه الظنون فيهم باطلة؛ فإن من أصحاب

الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية

وغيرها فكيف لا يخافون الكفر والضلال على أفلاذ أكبادهم مع عدم تمكنهم من

العلوم الدينية ويخافون ذلك على طلاب الأزهر المتوغلين في علوم الدين؟ إن هذا

شيء لا يعقل. ثم كيف يطعنون بأكابر علماء الإسلام الأعلام الذين تمكنوا من علوم

الدنيا وصاروا يعدون من الفلاسفة كالإمام الغزالي والإمام الرازي وفلان وفلان؟ ثم

كيف لا يطعنون بدين أكابر أمرائهم وحكامهم في هذا العصر وهم قد تعلموا هذه

العلوم في مدارس مصر وأوربا، وقلما يوجد فيهم من تلقى عقيدة الإسلام ببراهينها أو

عرف مهمات أحكامها ولو غفلاً من دلائلها وحكمها وإن منهم من يصف بعض

هؤلاء الأمراء بالتقوى والصلاح. فظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال فيهم إنهم

يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه وإنهم يجهلون أن الإسلام

جمع بين مصالح الدارين، وأنه دين عام وأن لا دين بعده أوفق لمصلحة جميع

البشر منه مع استلزام هذا لكون الإسلام يتفق مع علوم البشر ومدنيتهم في كل زمان

وإلا كان متضمناً لتكليفهم ما لا يطيقون. نعم إنه يوجد فيهم بعض الأغبياء الذين

يعبث بهم هذا الوهم ولكن الحكم على جميعهم أو أكثرهم بذلك ظلم وجور. وإنني

أقول: إن الأستاذ الإمام لم يقرر في إصلاح الأزهر شيئًا إلا برأي جماعة من كبرائهم

واستحسانهم، وقد نفذ بعض ما طلبه وحاوله برضاهم وموافقتهم وأوقف بعض

الإصلاح للأسباب التي لا أصرح بشرحها بعد رضاهم به واعترافهم بفائدته.

وأما وصفهم بأكثر مما يستحقون من الشعور بالمصلحة وإرادة الخير فهو تابع

لذلك الظلم وهو اعتقاد كثير من العقلاء في مصر وفي أقطار أخرى أن هؤلاء

الناس أعداء الإصلاح الذي عرف سراة الأمة وعقلاؤها شدة الحاجة إليه لما في

قلوبهم من الشعور بضرره، ولما عندهم من الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والغيرة

الملتهبة على الإسلام والمسلمين، وأنهم لا يخافون في ذلك لومة لائم، ولا سطوة

حاكم، ولا حرمانًا من منفعة مالية، أو كسوة تشريف قصيبة، والحق أن هذا

الصنف الشريف الذي كان له من قوة العزيمة بالاتحاد والاتفاق ما يقيم به محمدًا

عليًّا حاكمًا على البلاد المصرية قد استُضعف فضَعُف حتى صار لا يجهر برأيه إلا

إذا أيقن أن قويًّا يمده أو حاكمًا يسنده، وكثيرًا ما يستحسن أمرًا ثم يستهجنه، أو

يستقبح شيئًا ثم يستحسنه، ولقد كان أكابر علماء الأزهر موافقين للشيخ محمد عبده

في كل شيء يقترحه لإصلاح الأزهر أيام كان مؤيدًا بنفوذ الأمير، وإنما كانوا

يرغبون إليه في أن يكون ذلك بالتدريج البطيء؛ لأنهم لم يتعودوه ويثقل على المرء

لا سيما الكبير المضي فيما لم يتعود. ولما بدا للأمير في تأييده ومساعدته وقف كل

اقتراح، وعورض كل إصلاح، حتى لم يبق للحكومة الخديوية ثقة بتخريج القضاة

في ذلك المكان فهي ستبني مدرسة جديدة لتخريجهم فيها ولم يبق لها من العناية

بالأزهر إلا حفظ الأمن فيه كما هو حق كل صنف وكل شيء على الحكومة.

لأجل هذا ترك الأزهر، ولكن آثاره الصالحة لن تتركه فهو قد وضع أساس

النظام الذي قد يضعف تارة ويقوى تارة، وقد يزاد فيه وينقص منه ولكنه لا يزول

وهو قد نفخ في نفوس كثير من الأذكياء فيه روح الشعور بالحاجة إلى إصلاح

التعليم وإصلاح الأخلاق وخدمة الإسلام والمسلمين والسعي في إزالة ما غشيهم من

البدع والفتن فأضعفهم وأذلهم فلن يموت هذا الشعور. ثم إنه لم يزدد إلا رجاء بالله

وهمة في خدمة ملته بالعمل والتدريس والتأليف لا يثنيه عن ذلك ثانٍ إلا ما يلم به

من المرض أحيانًا، شفاه الله ونفع به آمين.

هذا وإن العبرة الكبرى فيما كتب هذا السري الكبير هو إحساس المسلمين

المخلصين الذين يعرفون الإسلام ويغارون عليه بأن الإصلاح إذا ظهر في أي قطر

ففائدته لابد أن تكون عامة لكل البلاد الإسلامية، وأن النور إذا ظهر في هذه الأمة

من أي مطلع؛ فإنه ينبسط على جميع البقاع؛ لأن هذه الأمة أمة واحدة ربها واحد

وكتابها واحد ونبيها واحد، والهداة في دينه على ملة واحدة، وهي ما جاء به نبيه عنه

ومصلحتها لذلك واحدة، فما يضرها يضر جميع المتبعين لها وما ينفعها ينفعهم

أجمعين. لأجل هذا أحس الأحياء من مسلمي الهند بأن ما دهي به الإصلاح في

الأزهر هو مصيبة على الإسلام والمسلمين في جميع الأرض؛ لأنه كان يرجى أن

يكون خيره متى ثبت ونحج عامًّا لجميع مسلمي الأرض ولو بعد حين. فماذا يقول

أولئك الذين يريدون أن يقطعوا أوصال المسلمين بنزغات (الوطنية) الفاسدة في

هذا الإحساس الشريف من إخواننا في الهند وكذا في غيرها كما نشير إليه في النبذة

الآتية.

تأثير ترك الأستاذ الإمام للأزهر في المسلمين

لقد اضطربت قلوب عقلاء المسلمين ووجمت نفوسهم لهذا النبأ في كل قطر،

فقد جاءتنا الكتب والرسائل في ذلك من السودان وسوريا ومن بلاد المغرب والمشرق

ما بين شاكية وباكية منها ما يعرف مرسلوها عذر الإمام، ويرون أن لا عَتْب عليه

ولا ملام لوقوفهم على حقيقة أحوال هذه البلاد فرأيهم في ذلك كرأي أكثر العقلاء

في مصر الذين استشار الإمام بعضهم فأشاروا بوجوب تركه، ومنها ما يتضمن اللوم

لاعتقاد أصحابها أن الأستاذ الإمام قد يئس من إصلاح المسلمين؛ فترك خدمة الملة

مللاً من مقاومة الجامدين أو علمًا بأنهم غير مستعدين، وقد آلمهم ذلك لأنهم يعتقدون

أنه أكبر زعيم للإسلام في هذا العصر وأقوى نصير له في علمائه، ويشعرون بأنهم

يستمدون منه الهمة والغيرة والرأي الصحيح على بُعد الديار وتنائي الأقطار ولا أنكر

أنني أعرف من أذكياء المسلمين الأقربين دارًا، بل ومن المصريين أنفسهم من

سرى إليه شيء من هذا الوهم. وقد آلمني وسيؤلم كل ذي غيرة وشعور قول

(محسن الملك) إن اليأس والقنوط قد تمثل لأهل النهضة الإسلامية في الهند وشعروا

بأن قد طفئ نور الصلاح المنبعث من هذا الإمام فوقعوا في حنادس الظلام يحزننا

ويمضُّنا هذا القول من قوم نعتقد أن نهضتهم أعلى من نهضتنا، وهمتهم أعلى من

همتنا، والأمل فيهم أقوى من الأمل فينا، ولا نفضلهم إلا بهذا الرجل وبإتقان اللغة

العربية؛ لأننا نراهم يرجوننا أكثر مما يرجون أنفسهم كما أنه يسرنا شعورهم

بارتباطهم بنا ولا يأس منا ولا منهم إن شاء الله.

إن من أغرب ما كتب إلينا في هذه الحادثة نبذة لأحد الفضلاء في فاس

وهي: (قد ساءنا وايم الله ما بلغنا من استقالة حضرة جناب الأستاذ الإمام، وعالم

علماء الإسلام، فريد هذا العصر وغرة جبين الدهر، ذروة جهابذة الآفاق،

ونخبة كبراء المصلحين بالاتفاق، مولانا وسيدنا الشيخ محمد عبده أدام الله بقاءه

مرشدًا للعالمين من عضوية إدارة مجلس الأزهر الشريف الذي كان متَّعنا الله

بوجوده مجتهدًا في إصلاحه، كما سائتنا تلك الخطبة..... ولكن {إِن تَنصُرُوا

اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ

سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) وقد كدَّر ورود هذا الخبر جميع محبيكم ومحبي الأستاذ

الإمام، لعلمنا بأنكم من المجدين في إصلاح الأمة الإسلامية)

إلخ.

وإنما كان هذا غريبًا؛ لأن تلك البلاد أبعد بلاد المسلمين عن التفكير في

الإصلاح أو الشعور بالحاجة إليه، ولكن هذه الأفكار قد سرت في كثير من أهلها من

بعض المهاجرين إليهم من المسلمين ومن قراءة بعض الصحف كالمنار. وقد ختم

هذا الكاتب كلامه بقوله (وأدام الله بقاءكم رغمًا عن أنف الجاهلين والمستبدين

والمفسدين والمقلدين) اهـ. ويوشك أن ننشر آراء أخرى في جزء آخر.

_________

(1)

المنار: القنان بالكسر جمع قنة بالضم وهي الجبل الصغير والأكمة والمصدان بالضم جمع مصاد بالفتح وهو أعلى الجبل والهضبة العالية الحمراء.

(2)

المنار: قوله (رسم خلق) بالتحريك أي بال وقوله ضمنه إلخ السلام بالكسر فيه بمعنى الحجارة ومن أمثالهم (أكتم للسر من السلام) ومنها (وحي في حجر) يضرب لمن يكتم سره والمراد أن الرسم البالي الذي بقي من الإسلام هو سر مكتوم خفي غير ظاهر وقد يضرب المثل للشيء الظاهر؛ لأن من معاني الوحي الكتابة والكتابة في الحجر تكون نقشًا ظاهرًا وليس بمراد هنا.

(3)

المنار: الخلقاء مؤنث الأخلاق ومن معناه الأملس وتسمى السماء خلقاء وخلقاء الجبهة مستواها يريد في مستوى هذه الأرض.

(4)

يقال تهبل لعياله واهتبل إذا اكتسب ولعل الكلمة في الأصل تهتبل من هبل ولده واهتبله إذا ثكله.

(5)

السرسور بالضم الفطن العالم الدخال في الأمور والحلاحل السيد في عشيرته الشجاع الركين في مجلسه.

(6)

الإبلاس هو الغم من اليأس والحيرة.

ص: 230

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌صدى الحادثة في أوربا

أو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمام

في الإصلاح

نشرت جريدة اللواء في عدد يوم الخميس (13 ربيع الأول) خبرًا، قالت:

إنه مترجم عن جريدة (الغلوب) الإنكليزية بغير تصرف وهذا نصه بغير تصرف.

(اختلف العلماء من عهد قريب بشأن التعليم في الأزهر وسبب ذلك أن

رئيسهم الشيخ محمد عبده حاول إدخال نظام للتعليم أوسع من النظام الحاضر الذي

وضع من قرون مضت والذي لا يتضمن غير محض تعليم مواد الأجرومية، وقليل

من بعض العلوم الأخرى بقصد تكوين قوة جديدة في الإسلام، ويريد الشيخ محمد

عبده السالف الذكر إدخال العلوم الحديثة في بروغرامه الجديد؛ ليستعين بها العلماء

على اكتساب أرزاقهم من طرق العمل والجد لا الكسل والتواكل.

وقد قاومه العلماء في مشروعه هذا مقاومة شديدة واتصل بنا أنه قال في

حديث له: إن السبب في عدم نجاحه وفشله النهائي راجع إلى محاربة النفوذين

الفرنساوي والإنكليزي السياسيين له، واستشهد بعبارة نشرت في الكتب السياسية

الفرنساوية مؤداها أن سواس فرنسا من الحزب الاستعماري لا يقبلون بوجه من

الوجوه تَنَوُّر المغاربة بنور العلم) اهـ.

ملاحظة المنار

أو انتقاده على ذلك

يعجب المصريون أن يروا في الجرائد الإنكليزية من يخبط في المسائل

المصرية على غير هدى مع وقوف الإنكليز هنا على حقائق الأمور، وذكرنا وذكر

غيرنا ممن قرأ تلك النبذة في جريدة اللواء ما كان أشيع هنا بعد ترك الشيخ محمد

عبده لمجلس إدارة الأزهر من أن بعض المصريين الذين لهم حظ فيما حدث

في الأزهر كلفوا أحد مكاتبي الجرائد الإنكليزية أن يكتب لجريدته التي يكاتبها

شيئًا يفيد معنى ما كتب في بعض الجرائد المصرية التي لها هوى في الحادثة من أن جميع علماء الأزهر مضادون للشيخ محمد عبده فيما يريد من إصلاح التعليم

وزيادة العلوم في الأزهر، ويتضمن شيئا آخر يفيد سخط الإنكليز على الشيخ،

وأتذكر أن بعض الجرائد الأسبوعية في مصر كتبت شيئًا عن هذه الإشاعة وقالت:

إن ذلك سيكتب ثم ينقل في بعض الجرائد المصرية اليومية.

ما لنا ولما أشيع في سبب الكتابة ولما قيل في مصدرها إنما نحن أمام قول

يتضمن خبرين: أحدهما: أن علماء الأزهر كارهون ومقاومون لما يريد الشيخ

محمد عبده من النظام وتوسيع دائرة العلم في الأزهر، وقد بينا في كلامنا على رسالة

(محسن الملك) أن هذا غير صحيح، وأن علماء الأزهر برآء مما يُرمون به من

الغلو في بغض العلم والنظام، والجهل بما يُعلي شأن الإسلام. وثانيهما: أن الشيخ

يقول: إنه لم يخفق فيما حاول من إصلاح الأزهر إلا بمقاومة النفوذين الفرنسي

والإنكليزي له؛ لأن ترقية المسلمين تناقض مصلحتهما في استعمار بلادهم.

ونقول: إن هذا النقل عن الشيخ غير صحيح وإن كان أكثر المسلمين يعتقد بصحة

علته المذكورة.

ولا يعقل أن يقول الشيخ ذلك؛ لأن فرنسا لا نفوذ لها في الأزهر ولا في

مصر فتقاوم، ولأن الإنكليز لم يقاوموه لما هم عليه من الحرية وعدم التعرض

للمصالح الدينية على أن المصريين الذين لم يقدروا حرية الإنكليز حق قدرها. ولم

يعلموا أنها تمثلت مع الفضيلة في اللورد كرومر في أبهج صورها، يتعجبون من

عدم مقاومة الإنكليز لإصلاح الأزهر في السنين الماضية ويظنون أن لهم يدًا في

المقاومة الآن.

أما الشيخ محمد عبده فقد سمعناه غير مرة يقول: إنه ما قصد إلى خدمة

المسلمين في شيء ولقي مقاومة فيه من غيرهم لا من إنكليزي، ولا من إفرنسي،

ولا من قبطي، ولا من شامي. ولا غرو فإن جهل المسلمين وتخاذلهم في هذا العصر

كافيان لإحباط كل سعي لترقية شأنهم لا يحتاجون إلى مساعد في ذلك، ومن يسعى

بعقل لا يقاومه العقلاء.

هذه فرنسا التي كان منهجها في مقاومة تعلم المسلمين في الجزائر أمرًا

معروفًا قد أنشأت ترجع إلى منهج الإنكليز في التساهل، وقد تكلم الشيخ محمد عبده

مع رجالها في تونس والجزائر في مساعدة المسلمين على التعليم فوجد منهم ارتياحًا

إلى ذلك وقد نشرت جريدة (الطان) من عهد قريب مقالة في الاحتفال بمدرسة

الجمعية الخلدونية ذكرت فيها أن مصدر هذه الحركة العلمية في تونس هو الشيخ

محمد عبده وبعض المجلات العلمية المصرية التي تحث المسلمين على الجمع بين

علوم الدنيا والدين، وترد فيها رأي الذي يظنون أن تعليم المسلمين يضر بفرنسا؛

لأن هؤلاء المتعلمين يكونون دعاة لاستقلال البلاد وقيامهم على المستعمرين لها

وترجمت الأهرام مقالة (الطان) فسُرّ بها المسلمون هنا.

_________

ص: 238

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد علي

والإيماء لانفصال مصر عن تركيا

احتفل جماعة من المصريين بتذكار تولية محمد علي باشا على مصر منذ مائة

سنة ميلادية. وقد اعتبروا ابتداء ولايته اختيار المصريين له دون فرمان السلطان

بتوليته الذي كان بعد مثل يوم الاحتفال بشهر وأيام كأنهم يريدون أن هذه الحكومات

استقلت بذاتها من طريق الانتخاب لا بالتبعية للدولة ذات السيادة عليها، وكنا نعهد

بأمثال هؤلاء المحتفلين الحرص على إظهار ربط مصر بالأستانة فما عدا مما

بدا؟

_________

ص: 240

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

(س20) السيد محمد بن عقيل في سنغافورة: اطلعت على جميع ما كتبتم

في ذبائح أهل الكتاب ثم وصل إليَّ من أحد أهل مصر كتاب يسمى التعاديل

الإسلامية في الرد على شيخ الإسلام (يعني الأستاذ الإمام) وكنت قد رأيت منذ نحو

14 عامًا فتوى لشيخنا العلامة السيد سالم بن أحمد العطاس العلوي الحضرمي مفتي

جهور تضارع فتوى شيخ الإسلام، ولكن يختلج في صدري شيء لم يذكره شيخ

الإسلام، ولا غيره فيما أعلم، وهو هل لأهل الإسلام نقل صحيح في التاريخ يفيدنا

بكيفية ذبح أهل الكتاب، أو قتلهم لما يريدون أكله في عصر المصطفى - صلى الله

عليه وعلى آله -؟ فإن وجد فهل يجب قصر حكم الحِلّ على ما كان؛ لأنه المفهوم

ويكون ما توسعوا به بعد ذلك من بدعهم فلا يفيد الحِلّ؟ فلو صح النقل بأنهم كانوا

يعصرون عنق نحو الدجاج ويوقذون نحو البقر لم يبق للمشاغب كلام، والمظنون

أن لأهل الكتاب كيفيات في الذبح في ذلك العصر كما نقل أن لهم في التسمية عند

الذبح عادات، وما صح به النقل لا نزاع فيه؛ فهل ظفرتم بنقل عن شيء من تلك

الكيفيات التي أحل الله لنا طعامهم وهو يعلمها ينجلي به غبار كل إشكال، أفيدونا بما

تعلمون لا زلتم مرشدين.

(ج) بيّنا فيما كتبناه في المجلد السادس في مسألة طعام أهل الكتاب أن

المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق

بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من

عبادات الوثنيين وشعائر المشركين فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه،

ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين

دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة

المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد كما أباح لنا التزوج منهم مع

علمه بما هم عليه من نزغات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا

يُشْرِكُون} (يونس: 18) على أنه حرم علينا التزوج من المشركات

بالنص الصريح ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح بل حرم ما

أُهلّ به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام

قطعي في المشركين وهو لم يمنع من التزوج بالكتابية، ولأجل كون حِل طعام

أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة

صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته

تؤكل مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة فإن ذبيحته لا

تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وما نقلناه في المنار عنه

وعن غيره كاف في هذا الباب، وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا

وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه سبحانه من مجاملتهم

ومحاسنتهم فهذه هي الحكمة في حِل طعامهم لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو

يطبخون بكيفية مخصوصة. ولو كان يجوز لنا أن نقيد نصوص الكتاب المطلقة

بمثل هذا التقييد لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه

مقيد بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر فنتقيد بما كان عليه

أهل العصر الأول في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم

على ذلك وهذا حرج عظيم وتحكُّم لم يقلْ به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم

المطلق أن يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وَجْه للبحث عن عدد الذين

أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صليا

فيه عند التشريع والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.

ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم

تكن في حِل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك وقد سموا الذبيحة موقوذة وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال

قولاً مخالفًا للشرع لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل ولا يميزون بين الحق

والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه وهذه هي لذة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك لم يورد الذين

كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيَّد بالكتاب والسنة وفقه الشريعة وأسرارها

والمأثورعن سلفها لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم واشتغالهم

بالسفاسف وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم ساع في إقالتهم عثرتهم أو إنجائهم من هلكتهم حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم حده، وخذ بما صفا ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له، والله الموفق.

_________

ص: 241

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عذاب القبر

(س21) الشيخ منصور نصار من مجاوري الأزهر: قد سألني بعض

الناس ببلدتنا عما يحصل للميت في قبره من النعيم أو العذاب هل المنعَّم أو المعذَّب

هو الروح فقط أم الروح مع الجسم، فأجبته بما أعلم من نص أثر ابن عمر

والغزالي الموصوف بحجة الإسلام من أن المعذب هو الروح فقط. وقد وقع

اضطراب بيني وبين أهل بلدتي في هذه المسألة، فأرجو من حضرتكم توضيح

الحقيقة على صفحات مناركم الأغر حيث إن الله تعالى نصبكم لخدمة الدين والدفاع

عن شبهات الضالين لا زلتم هادين مهديين.

(ج) قد سبق لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال في المجلد الخامس وبينا أصل

الخلاف في عذاب القبر وأن مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب

والسنة من أحوال الآخرة؛ لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه

ولا تحكم على الغيب؛ إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة، ولو أنكم دعوتم

أهل البلد إلى هذا التسليم لأقفلتم باب الجدل في وجوههم، ولا أقبح من الجدل في

أمر الآخرة الذي لا مجال للعقل ولا للحس فيه، والذين فتحوا هذا الباب هم الذين

فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقامت المعتزلة تقول: إن من الناس من تأكلهم السباع

والحيتان في البحر وتصير أجسامهم أجزاء من أجسام هذه الحيوانات، ومنهم من

يحرق ويذرى رماده، فكيف تقولون يا معشر الأشاعرة: إن في القبر عذابًا على

الروح والجسد؟ والصواب أنه لا عذاب إلا عذاب الآخرة بعد البعث. وقامت

طائفة أخرى تقول: إن الجسم لا إحساس فيه؛ فالحديث الوارد في عذاب القبر يراد

به تعذيب الروح مجردة. ويقول آخرون: الروح لم تعمل السيئات إلا بواسطة

الجسد؛ فلا بد أن يكون العذاب مشتركًا ويصدق ذلك بأن تتصل الروح بجزء أو

أجزاء من البدن ولو كان رميمًا أو داخلاً في بنية حيوان، ويقع العذاب عليهما معا

وهو قول أكثر المسلمين. ثم إن الاشاعرة يقولون: بأن الإعادة في الآخرة تكون

عن عدم بأن ينعدم الجسم من الوجود، ثم يخلقه الله تعالى بذاته ومع أعراضه في

قول، وهذا القول لا يتفق مع القول بأن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، إلا

أن يقال: إنهم استثنوا عَجْب الذَّنَب؛ فقالوا: إنه لا يفنى، فلعلهم يقولون: إن عذاب

القبر يكون على الروح مع اتصالها بعجب الذنب، ولكن قال المزني من

الشافعية: إن عجب الذنب يفنى أيضًا.

فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا

يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول

العقائد التي يكفر منكرها، ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به

وهو أن نقول: إن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر البرزخ

والآخرة حق نؤمن به ونفوِّض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن

الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم، وأن الأجساد لباس وآلات لتوصيل بعض

اللذات والآلام، وأي قول قلت فيه هذه المسألة لا يخرجك من الدين، فعلام التنازع

بين المسلمين.

_________

ص: 256

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحكمة في إنزال القرآن

(س22) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : ما هي الحكمة في

إنزال القرآن الحكيم؟ هل الحكمة بذلك التعبد بتلاوته كما يقول العلماء؟ وهل من

نص قطعي يؤيد قولهم؟ أو لنجعله حانوتًا نبيع منه (عدية يس) ونقرأه على

الموتى ونكتب آياته في آنية ونمحوها بالماء ونتعاطاها لنشفى من داء كذا أو لنقرأه

للتبرك وما هو التبرك؟ ألم يكن هو فهم آياته حق الفهم، والتأدب بآدابه

الكريمة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه {ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) كما

قال جل ثناؤه. أرجو الجواب على صفحات مناركم، ولكم الأجر من ربي وربكم.

(ج) الحكمة من إنزال القرآن مبينة في القرآن ليس فيها شبهة لمن جعلوه

حرفة، بل فيه الحجة واللعنة على من يشترون به ثمنًا قليلاً. وليس فيها نص

قطعي يؤيد قولهم بالتعبد بتلاوته على إطلاقهم الذي يتناقلونه، ولكنهم يستدلون عليه

بأحاديث هم يتفقون على أنها ليست نصوصًا قطعية كالأحاديث التي وردت في كون

تالي القرآن يعطى بكل حرف عشر حسنات ونحو ذلك من الثواب وهناك أحاديث

أخرى في وعيد من يتلو القرآن وهو غافل عن هدايته لا بد من الجمع بينها وبينها،

وإننا نذكر المؤمنين بشيء من الآيات والأحاديث في الحكمة والفائدة

التي أنزل الله لها القرآن؛ لأن أهل الأهواء السياسية والشخصية في مصر قد جعلوا

القرآن في هذه الأيام موضعًا لأهوائهم، فكل يزعم نصره ونصر حفاظه، والله أعلم

بالصادقين، ولا تخفى على الناس آيات المنافقين.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وهاك طائفة من الآيات الكريمة في حكمة تنزيل القرآن:

(1)

{الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1-2)

(2)

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)

(3)

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ

إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) .

(4)

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً

لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً

حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف: 1-3) .

(5)

{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: 1-3) .

(6)

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) .

(7)

{طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) .

(8)

{الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ

يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ

وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً

كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان: 1-7)[*] .

(9)

{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ

لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي

أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 1-5) .

(10)

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً

كَثِيراً} (النساء: 82) .

(11)

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِين} (المؤمنون: 68) .

(12)

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) .

(13)

{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (ص: 29) .

(14)

{هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:

203) .

(15)

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ

وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) .

(16)

{كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ

الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) .

(17)

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى

وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111) .

(18)

{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ

العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد: 37) .

(19)

{هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ

أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم: 52) .

(20)

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) .

(21)

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى

وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} (النحل: 102) .

(22)

{إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ

الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) (وفي هذه السورة آيات أخرى فيها

عبر كبرى) .

(23)

{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ} (مريم: 97) .

(24)

{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ

اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) .

والآيات في هذه المعنى كثيرة، وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل هداية للناس

وبشيرًا للمحسنين في أعمالهم ونذيرًا للمسيئين، وأنه عبرة وتذكرة وموعظة وشفاء

لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله، وبما له على عباده من الحقوق

وما لبعضهم من ذلك على بعض، وأمراض الأخلاق السيئة والعادات الضارة.

وهناك آيات كثيرة في وعيد المعرضين عن هدايته الغافلين عن تدبره والذين

يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وكون هذا من صفات الكافرين، ومن أشد ما نزل في

المؤمنين الأولين على علو كعبهم، وقوة يقينهم، من قوله تعالى في سورة الحديد:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا

كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ذكر الله (وما نَزَلَ من الحق) هو القرآن. قال في الجلالين: إن الآية

نزلت في الصحابة لما أكثروا المزاح، وقال السيوطي في أسباب النزول: إنها

نزلت فيهم بعد أن قدموا المدنية فأصابوا من عيشها بعد ما كان بهم من الجهد وكأنهم

فتروا في العمل. فهذا هو القرآن وهذا وعظه وتربيته للمؤمنين فانظر إلى حفاظه

اليوم وإلى الذين يزعمون أن من تعظيمه وتكريمه أن يكون حافظه أميًّا لا يكلف قراءة

ولا كتابة ولا فهمًا ولا عقلاً ولا تدبرًا ولا تذكرًا ولا تفكرًا بل يكلف أن يتلوه ولو

بغير تجويد، وأن يأكل به أوقاف الأموات ومال الأحياء، أين هم من هدايته وأين

هم مما جاء به؟

وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلّمه وتعليمه،

وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني، وهو معرفة العقائد الصحيحة

والآداب الكاملة، وفقه الأعمال التعبدية والدنيوية التي فصلت السنة كيفياتها أو بينت

صورها. والثاني: فرض كفاية، وهو تبليغه وحفظه لأجل تبليغه بلفظه على

الوجه الذي أدى إليه وبمعناه في الدعوة إلى ما دعا إليه من العقائد والأحكام

والفضائل ليكون الدين بذلك محفوظًا، ولا ينسى أن الترغيب في قراءته وحفظه

يستلزم الترغيب في فهمه والاهتداء به؛ لأنهم كانوا يفهمونه، بل ذلك مما يتضمنه

الترغيب بلفظه. ومنها ما ورد في وعد العاملين به ووعيد المعرضين عنه والواجب

فهم مراد الشارع من مجموع كلامه؛ فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وهذه طائفة

من الأحاديث في ذلك.

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله تعالى

عليه وآله وسلم - قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه

آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت

مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت

مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي

والمراد بالعمل مثل ما يعمل فلان في الأولى هو العمل بالقرآن كما تدل عليه المقابلة،

ورواية ابن عمر في الحديث نفسه (فقام به آناء الليل) إلخ. قالوا: والمراد قام

به تلاوة وطاعة. وفي الحديث رواية أخرى أَبين في المراد، وهي عند البخاري

ومسلم وغيره، وفيها بدل أوتي القرآن (رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها

للناس) والمراد بالحكمة القرآن جمعًا بين الروايات.

(2)

عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري وغيره وفي رواية عنه (إن

أفضلكم) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولا شك أن الجامع بين تعلم

القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا

كان أفضل، وهو ممن عنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا

إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والدعاء إلى الله يقع

بأمور: جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره

من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} (الأنعام: 157) فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلت: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس؛ لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون

معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدردها مَن بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية،

فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئًا محضًا لا يفهم شيئًا من

معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم

عناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا:

حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فيمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل،فلعل

(من) مضمرة في الخبر بعد (إن [1] ) ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في

كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس

مخصوصين خُوطبوا بذلك وكان اللائق بحالهم ذلك أو المراد من المتعلمين من

يُعلِّم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية [2] لأن القرآن خير

الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن. وكيفما كان هو

مخصوص بمن تعلم وعلَّم حيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا اهـ.

(المنار)

هذا كلام الحافظ في معنى الحديث وفيه بيان مراد الثوري بتفضيل

إقراء القرآن على الجهاد؛ إذ لا يمكن أن يكون من لا يفهم القرآن ولا يفيد الناس

أحكامه كالمجاهد في سبيل الله، فانظر أين هذا من زعم بعض الناس أن أمثال

الحافظ للألفاظ في مصر أفضل من المجاهدين بالإجماع فما أجرأ الناس على دعوى

الإجماع بغير علم اعتمادًا على أن العامة تقبل منهم كل قول بغير دليل.

(3)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -

صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم

وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم - أي

لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوه منه - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من

الرمية)

إلخ، رواه البخاري.

(4)

عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وآله

وسلم - أنه قال: (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب

وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة، طعمها طيب ولا

ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر،

ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر) رواه

البخاري ومسلم، وأنت ترى أنه جعل المؤمنين قسمين قسمًا يقرأ ويعمل بما يقرأ وهو

النافع لنفسه ولغيره أو الذي هو طيب في ظاهره وباطنه وإن كان لا ينتفع بظاهره،

ولم يذكر أن من المؤمنين قسمًا آخر وهو الذي يقرأ فقط بل عدّ هذا من المنافقين.

فانظر أين علم الرسول صلى الله عليه وسلم من علم هؤلاء الذين يقولون: إن حفاظ

الألفاظ الذين لا يقصدون بها الاهتداء ولا الإرشاد بل الكسب والاستجداء أئمة في

الدين، وإن من إهانة القرآن أن يقال: إنهم يحتاجون معها إلى العلم بالقراءة

والكتابة أو شيء آخر!!! أعوذ بالله من شر هذا الزمان، الذي عبث فيه الجاهلون

بالسنة والقرآن.

(5)

عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل

حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أبو داود

والبيهقي في (شعب الإيمان) والمعنى: أن الذين يجيئون من بعده يقيمون ظاهر

اللفظ من غير طلب لإقامة عقائد الدين وأحكامه وهدايتهم به، فهو كالذي يقوم القدح

وهو بالكسر السهم الذي لا ريش له ولا نصل فلا تمكن المناضلة به. ومعنى

يتعجلونه ولا يتأجلونه: يطلبون الانتفاع به والأجر عليه في الدنيا لا في الآخرة.

وهذا الحديث يصدق على القراء لأجل الكسب في هذا الزمان، وأوضح منه انطباقًا

عليهم الحديث الآتي.

(6)

عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق،

ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح لا

يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) رواه البيهقي في

(شعب الإيمان) ورزين في كتابه. والذين يعجبهم شأنهم هم الذين يطربون بقراءتهم

أو يستأجرونهم لها والذين يرون الفضيلة والخدمة للإسلام في تكثير سوادهم وشدة

احترامهم.

(7)

عن جابر رضي الله عنهما مرفوعًا إلى النبي - صلى الله

عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن وابتغوا به الله - تعالى - من قبل أن يأتي قوم

يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أحمد وأبو داود.

(8)

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى

الله عليه وسلم -: (اقرأ القرآن ما نهاك؛ فإن لم ينهك فلست تقرؤه) رواه الديلمي

في مسند الفردوس.

(9)

عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(اقرءوا القرآن واسألوا به الله قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس)

رواه أحمد والبيهقي والطبراني.

(10)

عن صهيب رضي الله عنه مرفوعًا (ما آمن بالقرآن من

استحل محارمه) رواه الترمذي.

(11)

عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا (من أخذ على القرآن

أجرًا فذاك حظه من القرآن) رواه أبو نعيم في الحلية.

(12)

عن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا (من قرأ القرآن يتأكل به

الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم) رواه البيهقي.

(13)

عن أبي الدرداء رضي الله عنه -مرفوعًا (من أخذ على تعليم

القرآن قوسًا قلده الله مكانها قوسًا من نار جهنم) رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية.

والطبراني بلفظ آخر، والروايات في القوس متعدد، وكان أُهْدِيَ مقرئ قوسًا فأخذها.

(14)

عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: (من أخذ على تعليم

القرآن أجرًا؛ فقد تعجَّل حسناته في الدنيا والقرآن يحاجه يوم القيامة) رواه أبو نعيم.

(15)

حديث أبي هريرة المرفوع في الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم

النار وفيه: (أنه يقول لله تعالى يوم القيامة تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن،

وأن الله تعالى يقول له: كذبت إنما تعلمت ليقال: إنك عالم وقرأت القرآن ليقال هو

قارئ ثم يسحب على وجهه ويلقى في النار) والأحاديث في العمل بالقرآن وابتغاء

وجه الله تعالى به كثيرة ومنها ما فيه ترغيب في البكاء فنكتفي بهذا القدر، ونذكر

جملة في ذلك من سيرة السلف الصالح الذين كانوا مهتدين بالكتاب والسنة. جاء في

كتاب إحياء علوم الدين الفصل الآتي:

في ذم تلاوة الغافلين

قال أنس بن مالك: رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وقال ميسرة: الغريب

هو القرآن في جوف الفاجر، وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة

القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان حيث عصوا الله

سبحانه بعد القرآن. وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ

قيل له: ما لك ولكلامي، وقال ابن الرماح: ندمت على استظهاري القرآن؛ لأنه

بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة، وقال ابن

مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس

يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا

الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا

مماريًا ولا صيَّاحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي

هذه الأمة قرّاؤها) . وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك

فلست تقرؤه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا آمن بالقرآن مَنْ استحل محارمه)

وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها،

وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقال العلماء: إن البعد ليتلو القرآن

فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18) وهو

ظالم لنفسه، ألا {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) وهو منهم، وقال

الحسن: إنكم اتخذتم قراء القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه

فتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوا رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها

بالليل وينفذونها بالنهار، وقال ابن مسعود: أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا

دراسته عملاً، وإن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفًا وقد

أسقط العمل به وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما لقد عشنا دهرًا

وأحدنا يؤتى الإيما قبل القرآن: فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم

فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم رأيت

رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا

يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره الدقل، وقد ورد في

التوراة: (يا عبدي، أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في

الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفًا حرفًا

حتى لا يفوتك شيء منه وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كم فصّلت لك فيه من القول؟

وكم كررت عليك فيه؟ لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه، أفكنت

أهون من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل

وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك؛ فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه

أومأت إليه أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدِّث لك وأنت معرض بقلبك عني

أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟) اهـ.

وأما علماء الخلف وأئمتهم فهم متفقون مع السف على ذلك قال الإمام محيي

الدين النووي في آداب حملة القرآن ما نصه:

(فصل) وينبغي أن لا يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من

مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع عن أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه

الناس إليه أو نحو ذلك، ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من

بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالاً أو خدمة، وإن قلّ ولو كان على صورة

الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ

الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن

نَّصِيبٍ} (الشورى: 20)، وقال تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا

نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء: 18) الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا

يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو

داود بإسناد صحيح. ومثله كثير إلخ.

وقال: (فصل) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت

معرفته واشتهرت صيانته.

ونكتفي بهذا القليل من الكثير في هذا المقام.

(النتيجة)

علم مما تقدم من الآيات والأحاديث، وآثار السلف الصالح أن القرآن هو

الهداية العظمى، وأن حَمَلته وحُفَّاظه هم أئمة المسلمين ومرشدوهم ولذلك أمر عمر -

رضي الله عنه أن لا يقرئ الناس القرآن إلا عالم بالعربية ليقيم اللفظ فلا يسري

إليه الخطأ والغلط، ويفهم المعنى فيعمل به ويعلم الناس. وقد كان المشتهرون

من الصحابة بإقراء القرآن أكابر علمائهم كعلي وعثمان وأبيّ وزيد بن ثابت وابن

مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري. وممن قرأ على أُبيّ أبو هريرة وابن

عباس. فينبغي الاقتداء بالسلف بأن يكون حفاظ القرآن الذين يؤخذ عنهم هم الذين

ينقطعون لإتقان علوم القرآن اللفظية والمعنوية فيتقنونها. ولا يجوز أخذ القرآن عن

الجاهلين باللغة وبأحكام الدين والمرتكبين للمحرمات والدناءات؛ لأنهم ليسوا عدولاً

يوثق بروايتهم.

_________

(*) إني لأخشى أن تكون الجرائد التي تتكلم في الدين بالهوى لا بالعلم والإخلاص مما يدخل في لهو الحديث هنا.

(1)

أي إن التقدير (أن من أفضلكم) وكثيرا ما يطلق اسم التفضيل على تقدير (من) كحديث

(خيركم خيركم لأهله) .

(2)

أي: إنه افضل من حيثية التعليم لا من كل جهة.

ص: 258

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استطراد في حفاظ القرآن بمصر

وحادثة جديدة

جرت الحكومة المصرية على إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية؛ فكثر

حافظوه لذلك، وهؤلاء الذين يحفظونه لهذا الغرض ولا يريدون به وجه الله تعالى

كما ورد، ولا يلبث الكثيرون منهم بعد سن القرعة العسكرية أن ينسوه إلا من اتخذه

حرفة يكتسب به. ولما أنشأت نظارة المعارف تنظم المكاتب أو الكتاتيب التي يعلم

فيها القرآن أوفدت إليه المفتشين من أهل العلم المتخرجين في الأزهر ثم في دار

العلوم، وقد تبين لهؤلاء أن الكثيرين من الحفاظ الذين انقطعوا لإقراء القرآن لا

يحسنون تلاوته بالتجويد المطلوب شرعًا، وأنهم على جهل ومهانة لا تليق بعملهم.

وقد أقرت الحكومة في مجلس النظار الذي اجتمع في هذا العام برياسة الأمير أن لا

يعفى حافظ القرآن من الخدمة العسكرية من بعد إلا من يمتحن فيظهر أنه حافظ

للقرآن ومحسن لتلاوته بالتجويد الواجب شرعًا، ومتعلم مبادئ القراءة والكتابة التي

يتعلمها الصبيان؛ أي لا يشترط أن يكون الخط جميلاً والإملاء صحيحًا، ولا أن

تكون القراءة بدون لحن، وعارف بالقواعد الأربع الصحاح في الحساب. وغرض

الحكومة من ذلك فيما يظهر أن تكثر عدد الحفاظ الذين يصلحون لإنشاء الكتاتيب

وأن يكونوا محترمين في الجملة بالارتقاء عن الأمية المحضة فينتفع الناس بهم.

ومن عجائب مصر أم العجائب أن قام بعض الناس يكتب المقالات الطويلة في

جريدة المؤيد معزوة إلى أزهري مجهول يحاول إقناع الناس بأن هذا الذي قررته

الحكومة إهانة للقرآن ولحملة القرآن، وحجته أن الذي يحفظ ألفاظ القرآن يجب أن

يستغني بها عن كل شيء حتى ما يعده لتجويد تلاوتها وفهم عبارتها. وكتب مجهول

آخر في المؤيد في تقبيح ما تريده الحكومة. وجريدة المؤيد مؤيدة لهم، ولها معهم

حجة أخرى، وهو أن من تكريم حفاظ القرآن أن يعاملوا كبعض خدمة الكنائس

والأديار الذين يعفون من خدمة العسكرية وهم غير متعلمين! ! وطفقوا يصورون

للعامة أن هذا إهانة للقرآن وأن بعض العظماء في الأمة يذرون الدموع أسفًا وحزنًا

على مصاب الإسلام بإخراج حفاظ القرآن من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة إلى

أدنى مرقاة من سلم العلم والمعرفة. وقد نشرت في المقطم مقالة معزوة إلى أحد

العلماء جاء فيها أن تعلم الفنون العسكرية من فروض الكفاية فلا ينبغي أن يُعَدَّ

إهانة لأهل القرآن، وإذا كان الناس لا يستغنون عن الحفاظ في البلاد والقرى

ليرجعوا إليهم في ضبط القرآن أو أحكامه فالجنود يحتاجون أيضًا إلى الحفاظ في

سفرهم وإقامتهم لمثل ما يحتاج إليهم غيرهم، فقام الأزهري المجهول يهزأ بهذا

القول الحق ويزعم أن الفنون العسكرية ليست مفروضة في مثل هذه البلاد، يشير

إلى أن هذا الغرض سقط عن المسلمين في مصر لاحتلال الإنكليز فيها.

وقد نسي هذا الأزهري -إن كان هنالك أزهري- حكم مذهبه الذي يتلقاه هو

وأمثاله في الأزهر في دخول الأجانب في بلاد المسلمين فاتحين ويعتقدون أنه محكم

يعمل به في كل زمان وهو أن الجهاد عنده يكون حينئذ من الفرائض العينية التي

تجب على كل مكلف حتى مشايخ الأزهر ومجاوريه وكذا النساء في قول، فإن كان

يعتقد أن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وملكوها وصارت في عرفه دار حرب فكيف كتب

ما عزاه المؤيد إليه، وإن كان يعتبر الظاهر الرسمي وهو أن هذه البلاد لا تزال

إسلامية وأن حاكمها هو الأمير عباس باشا حلمي الذي ولاه عليها السلطان عبد

الحميد وأن البلاد دار إسلام وأن الإنكليز فيها معلمون ومصلحون لفساد حكامها حبًّا

في الإنسانية فكيف يزعم أنه طرأ عليها ما أسقط الفرض عن مجموع أهلها حتى

انتقد الاستعداد له؟

لعله عرَّض بذلك التعريض لاعتقاده أن ذلك العالم الذي كتب في المقطم لا

يقدر أن يبين رأي فقهاء الأزهر في هذه المسألة وينشره في المقطم أو في غيره

خوفًا من الإنكليز، وإن كان الإنكليز فوق ما يظن من احترام الحرية الدينية وغير

الدينية؛ لأن نفوذهم لم يكن يمنع الناس من إظهار ما يريدون إظهاره، وإنما هو

بالسماح لهم بذلك؛ لأنهم لا يخافون عاقبة ذلك ما داموا واثقين بأن سيرتهم هي

العون لهم على إرضاء الناس وتفضيلهم إياهم على الظالمين الذين غلُّوا أيديهم عن

الظلم.

ما لنا وللبحث مع المجهولين في أمر الدين، ونحن نعلم مبلغ علمهم وغاية

مرماهم في كتابتهم، وهذا مما نحب الإعراض عن الخوض فيه، ولكن هناك أمرًا

آخر جديرًا بالاعتبار وعرضه على ما تقدم من النصوص، وهو أن الشيخ عبد

الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر كتب إلى نائب أمير البلاد (قائمقام خديوي)

رئيس مجلس النظار كتابًا رسميًّا عن قرار من مجلس إدارة الأزهر يطلب فيه أن

تعدل الحكومة عن مشروع امتحان الحفاظ بما تقدم ذكره، وهذه عبارة الكتاب بعد

حذف رسم الخطاب، منقولة عن المؤيد:

(قد علمنا أن نظارة الحربية وضعت مشروعًا جديدًا لتعديل بعض مواد

قانون القرعة العسكرية وأنه معروض الآن على مجلس شورى القوانين وأنه يقضي

بأن من يحفظ القرآن الشريف ويحسن تلاوته وليس له حرفة سواه لا يعفى من

القرعة العسكرية إلا إذا كانت له دراية بفن الحساب ونحوه.

وحيث إن كتاب الله تعالى (القرآن) هو أفضل الكتب السماوية وهو أساس

دين الإسلام، قد انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته هو من أهم أمور الدين

وأن حَمَلته من أشرف الناس وأولاهم بالاحترام والتكريم، وأن حفظه من فروض

الكفاية، وأن القائمين به كالمجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنه أصل الأصول فكل

شيء يرجع إليه ويتبعه، فهو بمفرده كافٍ لاحترام أهله وتوقيرهم بدون ضم شيء

آخر إليه.

فلذلك وما رأيناه من ميل علماء الأزهر وغيرهم من التحرير لجانب الحكومة

السنية بالتماس العدول عن المشروع الجديد وإبقاء الحال على ما كان عليه قد جرت

المذاكرة في هذا الشأن بمجلس إدارة الأزهر بجلسته المنعقدة يوم الأحد 28 مايو

الجاري فتقرر أن يرفع الأمر إلى عطوفتكم وإلى هيئة الحكومة رجاء العدول عن

هذا المشروع وإبقاء الحال على ما كان؛ احترامًا لكتاب الله تعالى وإجابة لنداء علماء

الأمة، وأن لا يكون الامتحان في نظارة المعارف كما يقتضيه المشروع.

فلهذا اقتضى تحريره ومع الموافقة يرسل من هذا المحرر صورة إلى مجلس

شورى القوانين للعمل بما فيه، أفندم) اهـ.

وهذا الكتاب منتقد من وجوه: (منها) أن عبارته كعبارة بعض الجرائد فيها

ما ينتقد لغة ولا نطيل في هذا. (ومنها) أن الحكومة لم تشترط في إعفاء الحفاظ

من القرعة العسكرية (الدراية بفن الحساب ونحوه) وإنما اشترطت معرفةً ما

بقواعد الحساب الأربع في الصحاح دون الكسور وهو ما يمكن تحصيله في أسبوع

وإتقانه في شهر، ومعرفته كمعرفة الاسم والفعل والحرف في النحو بتمييز بعضها من

بعض بالإجمال، فإن كان العارف بهذه يعد ذا دراية بفن النحو فالعارف بالقواعد

الأربع الصحيحة يعد ذا دراية بفن الحساب. والدراية هي العلم، وقيل: هي أخص

من العلم. ثم إن المفهوم من كلمة (ونحوه) سائر الفنون الرياضية كالجبر والمقابلة

والهندسة وليس شيء من هذا مشروطًا. (ومنها) قوله: انعقد الإجماع على أن

حفظه والتعبد بتلاوته من أهم أمور الدين، وقد علم مما تقدم أن كلاًّ من الحفظ

والتعبد إنما يكونان من مهمات الدين بالشروط والآداب التي فهمت من الآيات،

والأحاديث السابقة وذلك لا يتحقق إلا في الحفاظ وأهل القرآن الذين ينطبق عليهم

معاني الآيات والأحاديث وأقوال العلماء التي تقدمت وهي لا تنطبق على الحفاظ

الأميين الذين لا حظ لهم من القرآن إلا تحريك اللسان بها للكسب أو للعبادة، فأما

تحريكها للكسب فقد علمت ما فيه على أن بعض العلماء أجاز أخذ الأجرة على

تعليمه بعقد صحيح وقلما يصلح للتعليم الأمي المحض الذي لا يعرف ما اشترطته

الحكومة في إعفاء الحفاظ. وأما المتعبد بالقراءة فلا مزية له على القارئ

بالمصحف، بل صرح العلماء بأن القراءة في المصحف أفضل، وروي

الحديث في ذلك، وهذا التعبد عندهم سنة لا فرض كفاية فهو من قبيل الذكر

والتسبيح. فكأن شيخ الأزهر لا يريد إلا إعفاء الحفاظ القائمين بحقوق القرآن وقليل

ما هم وهو خلاف المتبادر من غرض كتابه. (ومنها) قوله: إن القائمين به أي

بالحفظ كالمجاهدين في سبيل الله تعالى والظاهر أن هذا من المجمع عليه في رأي

الشيخ وقد رأيت كلام الحافظ ابن حجر فيه وأنه لا ينطبق على هؤلاء الحفاظ

الجاهلين بمعاني القرآن وإفادتها. (ومنها) قوله: وإنه أصل الأصول فكل شيء

يرجع إليه ويتبعه. وليس حفظ القرآن من غير فهم أصلاً لأصول الدين يرجع إليه

كل شيء، وإنما ذلك القرآن نفسه من حيث فهمه واستنباط الأحكام منه والاهتداء

والإرشاد به، وهؤلاء الحفظة المطلوب امتحانهم بالقراءة من غير اشتراط الصواب

وعدم اللحن ليسوا على شيء من ذلك، فعلم أن دعوى الإجماع على ما فهم من

الكتاب غير صحيحة بل لم يقل أحد من الأئمة بأن أمثال حفاظ الألفاظ الذين يًدعى

واحدهم في مصر بالفقيه لهم تلك المزايا والحقوق والاحترام الديني؛ فالنتيجة المرادة

من كتاب الشيخ المبنية وهي العدول عن المشروع احترامًا لكتاب الله تعالى لا تترتب

على تلك المقدمات، بل تنفيذ المشروع أقرب إلى احترام القرآن وأهله من العدول

عنه؛ لأن اللائق بحَمَلة القرآن أن يكونوا من أهل العلم باللغة والقراءة والكتابة وبل

أن يكونوا أعلى من ذلك كما علم مما تقدم ومما انتقد به الكتاب كونه بقرار مجلس

إدارة الأزهر الذي يعد من مجالس الحكومة وهو مقيد بقانون ليس أن له يتعداه

رسميًّا فكان اللائق أن يكون نصيحة دينية غير رسمية إن كان هناك وجه

للنصيحة.

أرسل الكتاب إلى رئيس النظار وبعد إرساله بيوم نشر المؤيد بتاريخه (وهو

24 ربيع الأول) وعدده الرسمي (وهو نمرة 667) وفي اليوم لنشره اجتمع شيخ

الأزهر ببعض أعضاء مجلس الشورى فسألوه هل في مشروع الحكومة شيء مخالف

للدين فقال: لا، وتذاكروا في كتابه إلى رئيس النظار فقال لهم على ما نقل إلينا أن

الكتاب الذي نشر وكتب لم يكن مطابقًا لم أمر هو به، وأنه رأى فيه بعد النشر ما لم

يكن يعلم واقتنع بأن إرساله كان في غير محله، وبادر إلى ملاقاة رئيس النظار

واعتذر له عن إرسال الكتاب ورغب إليه في (سحبه) وإهماله وحسبانه كأن

لم يكن فقبل الرئيس منه ذلك. وكان هذا من دلائل سلامة قلب الأستاذ شيخ الجامع

وحسن نيته، على أن سحب الكتاب قد ساء الذين سعوا فيه وحملوا الشيخ عليه كما

ساء إرساله جميع العقلاء الذين علموا أن عاقبته لا تكون حسنة، وهو الآن حديث

العامة والخاصة وجميع المسلمين ممتعضون لما صار إليه مجلس إدارة الأزهر من

التأثر بكلام أهل الأهواء الذين يذمون الحسن ويمدحون القبيح ومجاراتهم التي تفضي

إلى ما لا تحمد عقباه.

_________

ص: 267

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ

(كتاب الشعر والشعراء)

هذا الكتاب مشهور عند أهل الأدب المتقدمين والمتأخرين بفائدته وبشهرة

مؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أحد أئمة اللغة والأدب وصاحب

(أدب الكاتب) وغيره من التآليف المفيدة، المتوفى سنة 276هـ، وموضوع

الكتاب ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- بقوله في أوله:

(وهذا كتاب ألفته في الشعر أخبرت فيه عن الشعراء، وأزمانهم، وأقدارهم

وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية

منهم، وعما يُستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء

عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون.

وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها

ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول، وكان قصدي للمشهور

من الشعراء للذين يعرفهم جُلّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في

الغريب والنحو في كتاب الله عز وجل وحديث الرسول، صلى الله عليه

وسلم. فأما من خفي اسمه، وقلّ ذكره، وكسد شعره، فما أقل من هذه الطبقة

(كذا) إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل ولا أعرف لذلك القليل أخبارًا، وإن كنت

أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمي أسماء لا أدل عليها بخبر، أو زمان أو نسب،

أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب)

إلخ ما قاله. وهذا كاف في التعريف

بفضل الكتاب فهو من الكتب التي تطبع ملاكة البلاغة في النفس، وتعدها للإجادة

في الشعر والكتابة. ومن مختار الشعر الذي أورده وهو يحكي عن أخلاق العرب

وشهامتهم قول سعد بن ناشب:

سأغسل عني العار بالسيف جالبًا

عليَّ قضاء الله ما كان جالبا

ويصغر في عيني تلاوي إذا انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

فيا لرزام رشحوا بي مقدمًا

إلى الموت خواضًا إليه الكتائبا

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه

ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه

ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقول محمد بن عمير المعروف بالمقنع الكندي:

ولا أحمل الحقد القديم عليهم

وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

وليسوا إلى نصري سراعًا وإن هم

دعوني إلى نصر أتيتهم شدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

يعيرني بالدَّيْن قومي وإنما

ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

وقد طبع الكتاب على نفقة محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير، وهو

يطلب منه ومن إدارة المنار، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة ما عدا أجرة

البريد.

***

(ديوان الحماسة)

هو مجموع ما اختاره من شعر العرب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر

الشهير، وهو أشهر من نار على علم، وكان الأدباء يتنافسون في استظهاره،

واقتباس جذى البلاغة من ناره، وقلما نبغ شاعر أو أديب، ولم يكن حفظ ديوان

الحماسة أو كثرة مطالعته من أسباب نبوغه. ولما فترت همم المتأخرين عن تلقي

مثله عن كلام العرب فتر الشعر وبرد حتى صار يقف لسماعه شعر صاحب الذوق

وتغثى نفسه عند إنشاده، وإننا نرى في زماننا هذا نهضة في إحياء اللغة نشكر

للوراقين إسعادنا بما يطبعون من الكتب النافعة كهذا الكتاب والكتاب الذي قبله وما

سيذكر بعده، فقد طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية ديوان

الحماسة طبعًا مضبوطًا بالشكل، وفسر في أدنى كل صفحة جميع الأبيات فيها

مختصرًا ذلك من شرح التبريزي المشهور وجعله في مجلد واحد بحجم أصغر من

حجم المنار؛ ليسهل تناوله على الطلاب ويخف حمله على المتأدبين، وجعل ثمنه

اثني عشر قرشًا فقط، فقد اجتمع لمريده المرغِّبان في اقتنائه كثرة الفوائد وقلة

الثمن وهو يطلب من طابعه بِالسكة الجديدة بمصر.

***

(ديوان أبي تمام)

أبو تمام من شعراء الطبقة الأولى من المولدين وجيده أعلى من جيد البحتري

والمتنبي اللذين يقرنان به، ولكن من رديئه ما هو دون رديئهما، ولعله لولا حبّ

الجناس لما ارتكب التكلف، ولما وقع في التعسف؛ فأكثر رديئه في ذلك، وهو عند

أكثر المتأخرين لا يعد رديئًا بل ربما فضَّله عشاق المحسنات اللفظية على سائر

شعره. وهو على كل حال من أهل الرعيل الأول، والذين على بلاغتهم المعول،

وقد احتذاه وأخذ عنه مَنْ بعده حتى المتنبي. وكنت ترى من العجب أن الشعر

ترتقي صناعته في هذه السنين وديوان أبي تمام لا يطبع المرة بعد المرة، وقد أحس

بهذه الحاجة محمد أفندي جمال البيروتي فانتدب لطبعه ورغب إلى الشيخ

محيي الدين الخياط أن يفسر غريبه ويضبطه بالشكل ويصحح طبعه، فأجابه إلى

ذلك، ووضع للديوان مقدمة تكلم فيها عن الشعر بكلام شعري أي بالتخيلات

والتشبيهات، وعلى البلاغة والشعر العصري وعلى وجوب التوسع في اللغة

وقبول الدخيل فيها وتعريبه، وختمها بترجمة أبي تمام. وقد بلغت صفحات الديوان

خمسمائة ونيّف، وثمنه في مصر اثنا عشر قرشًا وأجرة البريد قرشان

وفي سائر البلاد 3 فرنكات ونصف، ويطلب من طابعه ببيروت ومن إدارة مجلة

المنار بمصر.

***

(ديوان ابن نباتة المصري)

جمال الدين محمد بن نباتة المصري من شعراء القرن الثامن كان من أهل العلم

والأدب ومدح الملوك والكبراء والعلماء وهو مشهور بالرقة والسلاسة في شعره

على ما يحب المتأخرون وخاصة المصريين، فإن كلامه أحلى في ذوقهم وأدنى من

استحسانهم ومن ذلك قوله في المقاطيع:

يا مولعًا بملامي حسبك الله

كم ذا تهيج مغرى القلب مضناه

هذا الحبيب وذا فكري وذا جلدي

في راحتيه فقل لي كيف أنساه

إني لأعلم أن الرشد أجمعه

في تركه غير أن النفس تهواه

ساجي اللواحظ خمري مقبله

داجي الذوائب بدري محياه

إن كان للحب شخص فهو مهجته

أو كان للحسن لفظ فهو معناه

أفديه بدرًا بقلب الصب غزوته

وفي السماء برغم الصب لقياه

لو لم يكن ريقه خمرًا ومرشفه

ما عربدت عينه واهتز عطفاه

وله في شعره نكت وكنايات مما يعرف الآن (بالنكت البلدية) لا تسلم من

المجون وابن حجة يطريه في الثناء.

وقد طبعه في هذه الأيام الشيخ محمد القلقيلي وكتب له مقدمة ذكر فيها أن الذي

أسعده على ما همت به رغبته وقصرت دونه يده إبراهيم بك رمزي صاحب مطبعة

ومسبك التمدن، ولعمري إنه قد طبع طبعًا جميلاً على ورق جيد يليق بإتقان رمزي

بك، وبلغت صفحات الديوان 596 صفحة، وقد جعل ثمنه 20 قرشًا، ولمبتاعه

كفلان من الفائدة: أحدهما: الأنس بالديوان والتمتع بمطالعته. وثانيهما: إعانة

طابعه على أعماله الأدبية التي انصرفت همته اليها وأراد رمزي بك إسعاده عليها،

وهو يطلب منه ومن مطبعة التمدن بجوار عابدين.

***

(مجلس سركيس)

سليم أفندي سركيس نشأ في حجر الصحافة حتى ترعرع وشب واكتمل فذاق

حلوها ومرها، وعرف وصلها وهجرها، وفارق فيها الدار والوطن، وهاجر

بالأهل والسكن، فاشتغل بالكتابة في الجرائد ببيروت ومصر وأمريكا ثم عاد

إلى مصر واختار أن ينشئ مجلة يقصر مباحثها على الأفاكِيه والمُلح الأدبية ففعل

فجاءت (مجلة سركيس) وحيدة في موضعها لا يستغنى عنها في هذه البلاد

بصحيفة من نوعها.

وإذا كانت المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والدينية وغيرها من حاجات

أصناف من الناس فالفكاهة من حاجات جميع الناس يرغب فيها العالم والفقيه

والفيلسوف والأديب والعامي والخاصي، ومن ثَمَّ كان الرجاء بنجاح مجلة (سركيس)

قويًّا لا سيما إذا أصاب في مُلَحه ونوادره مواقع الإعجاب من نفوس أبناء هذه

البلاد وهو جدير بذلك لسعة اختباره. والمجلة تصدر في الشهر مرتين وقيمة

الاشتراك فيها 60 قرشًا في مصر و20 فرنكًا في سائر البلاد.

_________

ص: 272

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حضرموت واليمن

نلخص ما يأتي من رسالة صديق لنا في حضرموت قال: كان خروجي إلى

حضرموت من عدن؛ لأني لم أجد مركبًا بحريًّا إذا ذاك، فازددت بذلك علمًا عن تلك

الفيافي والقفار، والبدو، والحضر، والعرب بتلك الجهات ووقفت على أحوالهم

وعاداتهم وحالة الدين واندراسه، ودسائس الإنكليز هناك وما يُنتظر للدولة العلية في

اليمن. قطعت في سيري أرض الفضلي وهي أول دولة من دول العرب هناك تلي

إنكلترا وتواليها، ولها سواحل بالقرب من عدن أشهرها يسمى (شقره) ودولتها

بدوية استبدادية، وعسكرها هم عصبة الملك وقبيلته وهم بدو حربيون، ولها

سياسة، واسم ملكها أحمد بن حسين الفضلي وهو باسط بساط العدل والأمان، ومن

عاداته أنه من سُرق له شيء أو نُهب من بلده يجيئه فيعطيه من خزينته عوض ما

سُرق أو نُهب منه ويذكي هو العيون على المعتدي حتى يظفر به ويسترد منه ما

أخذه، وله راتب سنوي من إنكلترا نحو 12000 روبية ويسمونه (مشاهرة) وقد

وقع بينه وبين الإنكليز تنافر من مدة؛ لأنه طلب سلاحًا مدافع لم تسمح له بذلك.

يليه (يافع) ويقدرون ساكنيه بنحو 75000 ألفا ويجلب منه (يصدر)

الجلود والبن والورس والزعفران والذرة والقمح وغيرهما من الحبوب. وهم بدو

قبائل متفرقة يتحاربون ويتصالحون، ولهم من الإنكليز مرتب، وقد أريدوا على

الدخول في الحماية البريطانية فأبوْا، ولما قاتلوا الإنكليز منذ عامين عاتبهم الباشا

صاحب قحطبة من ولاية الدولة العلية.

يليهم الجبال البيضاء وهي أرض ذات أنهار وخصب، أهلها بدو وهم موالون

لإنكلترا ولهم راتب منها، والعواذل وهم دولة وقصبتهم تسمى (دثينة) وهي خصبة

ذات تربة طيبة، ولم يطاوعوا إنكلترا ولذلك أجلت المهاجرين منهم من عدن

بالسعط لما عارضوا جنوده التي وجهها الإنكليز إلى بلاد العوالق.

يليهم بلاد العوالق وأهلها قبائل لهم دولة من غيرهم ولا نفوذ له (يريد بالدولة

الحاكم) وعاصمتهم أنصاب وهي ذات آثار وبقربها أحجار عليها كتابات حميرية

ولملكهم ورؤساء القبائل مرتبات ولعالمهم (عاتق باكر) الذي له نفوذ هناك حتى

إنه ليجمع الزكاة من البادية راتب شهري من الإنكليز قدره 500 روبية على أنه

يأخذ راتبًا من الدولة العلية، فهو منافق وميله القلبي إلى بريطانيا ولذلك يوسع

نفوذها هناك. أما العوالق فيقدرون عسكرهم الذي يمكنه القتال بنحو 4000 ألف

(كذا في الأصل فإن كان مراده أربعة آلاف كما هو الظاهر فلا حاجة إلى كلمة (ألف)

بعد الرقم ويقرب أن يكون عددهم أربعون بألفا ويبعد أن يكون أربع مائة ألف فما

كتب خطأ نرجو من الكاتب إصلاحه بعد وصول المنار إليه) حدثني بذلك رئيسهم

أخذًا من عددهم في الوقائع (الغزوات) القومية التي حشدهم فيها.

يلي العوالق إلى ناحية الشرق والبحر دولة الواحدي عاصمة حبان وهي بلدة

قديمة أسس جامعها سنة 266 للهجرة وكان بها من العلماء جهابذة فصحاء وقفت

على بعض قصائدهم الفصيحة التي تكاد تسيل انسجامًا، وحالتها اليوم جاهلية وهي

تحت حماية الإنكليز، وقد عقدوا عهدًا على خروجه إليهم (كذا) وساحلهم بالحاف

وقد أخذ نصفه أمير المكلا القعيطي من أخي ملكها شراء، فقامت إنكلترا تعارض فيه

والله يعلم هل يسلم له أم تأخذه إنكلترا.

(وههنا رسم الكاتب صورة تلك البلاد من عدن إلى الشحر وأنصاب العوالق

وكتب عند ذكر (الحج) أن ملكها أحمد فضل العبدي قد باع أرضه من إنكلترا

وله راتب منها. وعند (قحطبة) أنها أول ولاية للدولة العثمانية. وعند ذكر

(الشحر) أنه عند أمير المكلا القعيطي وهو داخل تحت حماية إنكلترا. وعند ذكر

(سبأ) و (مأرب) ملكهما من الأشراف وهو محالف لإنكلترا وله راتب وبينهم

عهود، وقد أوفدت إنكلترا إلى تلك البلاد وفدًا علميًّا فنقلوا رسوم الآثار والكتابات

الحميرية التي على الصخور، والأسطوانات الرخامية الحميرية

إلخ. وقال:

إن من يشاهد نفوذ الإنكليز هناك يعتقد أن الدولة العلية سيتقلص ملكها عن قريب

بسعي أولئك الرجال. ونزيد قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} (الزخرف: 76) فإن عادوا للعدل، عاد الله عليهم بالفضل، ثم قال: على

أنني لم أخبركم ببعض الجبال والمراكز والقبائل فانظروا تروا أنه إذا نشبت الحرب

بين إنكلترا والدولة فإن إنكلترا تأتيها من فوقها ومن أسفل منها. وهذه المراكز

الداخلة تحت حماية إنكلترا أو في محالفتها تسمى باليمن الأسفل إلا الضالع فإنها من

اليمن الأعلى، ونفوذ إنكلترا في اليمن الأسفل يمتد مسافة شهر تقريبا وستمد سكة

حديدية تقطع هذا البر إلى (أنصاب) عاصمة العوالق ثم تمر بعد ذلك في الوادي

التي تحلها كندة ونهد والكرب إلى الكويت. ولم تدع إنكلترا رأسًا من رءوس

القبائل إلا وأعطته مرتبًا جاريًا، وكان تداخلها في هذه البلاد بواسطة واحد من

أبنائها دخل البادية ونشأ فيها فهو يتكلم بلغتها وإذا دخل فيها يلبس لها لباسها الذي

هو من السن إلى الركبة (كذا) ورداء وعمامة وتسميه البادية (عبد الله بن

منصور)

وأهل البادية يتحدثون بعدل إنكلترا وبديانتها التي تمليها عليهم القسوس بعدن،

ولقد حرت من تقريرهم لها إذ لا يعرفون معنى الدين الإسلامي ما هو، وسيكون

لذلك الأثر السيئ في تلك الأقطار إذا خالط أهلها الإنكليز، فالمعارف الدينية معدومة

بالكلية حتى إن هناك العوالق السفلى والمقاتلة منهم يقدرون بنحو 200 لا يعرفون

شيئًا من الدين ونكاحهم إنما هو نهب ينهب الواحد بنت الآخر ويتزوج بها، فإذا

ولدت ذهب أولادها يأتون بالعقد عند أبويها وإنها لتفتخر على من تزوجت

بالتراضي وينكح أحدهم أخته وخالته وزوجة أبيه بعد موته ولا يعرفون النبي،

صلى الله عليه وسلم.

والبادية كلها متسلحة بالسلاح الحديث المكتوب عليه (كارديف) و (مارتين)

و (سن إيتمنس) وإنكلترا مشددة على الخرطوش فلا يصل إليهم إلا بعد الجهد

وهم يشرونه بأثمان باهظة. وإنك لترى أهل البوادي يتسابقون إلى عدن تسابق

الجياع إلى الصقاع والمال ينهال عليهم حتى أن البدوي الذي يقنع بالروبية يعطى

من المائة إلى المائتين بلصه أو بخشيش ويسمونه (فشح) وسأخبركم بأخبار تلك

الجهة على التحقيق وبما للسادة (الشرفاء) من النفوذ هنا ككون كل قبيلة لها

(منصب) منهم أي رئيس روحي يعقد الصلح ويأخذ النذور ويستغاث بجده

المعروف بالولاية.

مكثت في تلك الجهات شهرين في حل وترحال إلى أن وافيت حضرموت

أهلها في الجملة (قبورية) وسأخبركم بحالها وبسياسة أمير المكلا فيما يأتي. أما

واردات المكلا خاصة فهي 350000 جنيه يأخذ عليها الأمير مكسًا باهظًا. وأما

الصادر وهو التنباك والسمك وغيره فنحو 100000 جنيه ولا تزال أساطيل إنكلترا

ومدرعاتها تطوف بهذه السواحل تتنسم الأخبار وعسى أن نوفق هنا للدعوة، فإنا

وجدنا حزبًا يوافق ما نحن عليه وأناسًا يعرفون المنار أكثرهم ممن يتاجرون إلى

جاوه ودولة المكلا (أي أميرها) غائب بالهند وسأوافيكم بما يتجدد. اهـ

المراد منه.

_________

ص: 275

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنازع الدول في جزيرة العرب

كثرت أقوال الجرائد المصرية وغيرها في عناية الإنكليز بتقوية نفوذها في

بلاد العرب، وقد علمنا أنه جاء مصر في هذه الأيام وفد من فرنسا وآخر من ألمانيا

وكل منهما يريد الذهاب من هنا إلى بلاد العرب مستعينًا بالمصريين، فأما الوفد

الفرنسي فإن من أعضائه علي أفندي زكي المصري وكيل المؤيد في باريس وصاحب

المقالات الكثيرة التي تزيد نفوذ فرنسا في بلاد المغرب، وقد سعى صاحب المؤيد

نفسه هنا في مساعدة هذا الوفد الذي سيذهب إلى الخليج الفارسي ويكون وكيل المؤيد

في البصرة مساعدًا له. وأما البعث الألماني فقد استأجر من العربان هنا خمسين ذلولاً

واتخذ له مترجمًا من شبان المصريين بأجرة كبيرة، واشترى كثيرًا من المصاحف

المذهبة والكتب الدينية ووجهته الأمير ابن الرشيد في نجد والعبرة في هذا ظاهرة لكل

عاقل وسيرة الدولة العلية في بلاد العرب معروفة لا حاجة إلى شرحها، والأمر لله

العلي الكبير.

_________

ص: 278

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

وعدنا في آخر المجلد السابع بأن نجيب على بعض الانتقادات التي وردت

علينا في العام الماضي ولم نتمكن من ذكرها والجواب عنها؛ لأن كثرة المسائل

العارضة اضطرتنا إلى الإرجاء، ولكننا نعجل الآن بذكر انتقاد جديد جاءنا من أحد

القراء الفضلاء الواقفين على كُنْه الحال في الجزائر وغيرها من مستعمرات فرنسا

قال بعد الثناء والتحية:

(قد اطلعت في العدد الرابع من المجلد الثامن من مجلة المنار الإسلامية

الغراء ما يأتي: وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في

مستعمراتها بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة

دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاًعليهم. وبعد

أن نظرت في هذا المقال أنا وأصحابي، وتأملنا فيه من جميع أركانه لم نجده إلا غلطًا

عظيمًا، ولم نظن قبل اليوم أن أهل الفضل مثل سيادتكم يقولون كلامًا مساعدًا

لإهلاك خمسة عشر مليونا من المسلمين معاونًا لسياسة الفرنسويين التعساء) .

ثم طفق يعدد سيئات لفرنسا في الجزائر كهدم المساجد وغصب الأرزاق

ومناهضة العرب ونصر اليهود ويبرئ ألمانيا من مثل ذلك ويذكرها بالثناء. وقال:

لا تغتر بكلام الموسيو لوسياني وغيره مع الأستاذ الإمام ولا بتجديد مدرسة لأربعة

ملايين، عدد تلامذتها عشرون، فإنه في عهد الحاكم الجديد جنار كثر الكذب

والتغرير واشتريت بعض الجرائد المصرية.. . بمائتي ألف فرنك لتكون عونًا له في

سياسته ضد الإسلام حول المغرب وتوليته عليه

إلى ما آخر ما قال.

ونحن نخشى أن يكون فهمه لسياسة فرنسا كفهمه لعبارة المنار التي انتقدها فإنه

ليس الغرض منها إلا نصيحة المراكشيين بترك الغرور بالقبور وتوجيه العناية إلى

الاستفادة من تنازع ألمانيا وفرنسا على البلاد على حد قول الشاعر العربي:

تفرقت غنمي يومًا فقلت لها

يا رب سلط عليها الذئب والضبعا

فإن كان يرى الفائدة في استيلاء ألمانيا على مراكش بغضًا بفرنسا فإنه يريد

يشفي غيظه بما يضر المسلمين ويذهب باستقلالهم كما كان بعض المصريين يفعلون

بالسعي لدى فرنسا لإخراج إنكلترا من مصر ولو أخرجتها لحلت محلها. فالذي نوده

نحن أن تبقى البلاد مستقلة ولكن مع سعي حكومتها وزعمائها في عمرانها وإلا كنا

طالبين للخراب والجهل الدائمين وهو طلب لا قيمة له عند الله ولا عند الناس

فالأرض يرثها من هو أصلح لعمارتها شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا، وأما قولي:

إن ألمانيا شر من فرنسا فهو مبني على ما كان كُتِبَ إليَّ من مستعمرتها في شرقي

أفريقية كما بينت ذلك في الجزء الخامس (ص200) فكيف غفل عنه.

أما رأينا في سياسة فرنسا مع المسلمين في مستعمراتها فقد بيناه غير مرة وقلنا:

إنه يستحيل أن يطمئن المسلمون لحكمها ما لم تمنحهم الحرية التامة في الدين

والعلم، وتساعدهم على التعليم والعمران بالفعل لا بالقول ولا بإيهام الجرائد، وإن

سميت إسلامية، وقد سمعنا وقرأنا ما دلَّنا على أنها قد اهتدت إلى هذا الرأي، فإن

كان ذلك حقًّا فسترى حُسن عاقبته وإن كان تمويهًا كما يقول المنتقد فلا يلبث أن

ينكشف، ولكن من يغلو في الانتقاد قلما يؤخذ كلامه بالقبول؛ فليفهم هذا.

_________

ص: 279

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌استدراك

نقلنا في الجزء الماضي ما ترجمته جريدة اللواء عن جريدة الغلوب الإنكليزية

في حادثة ترك الشيخ محمد عبده للأزهر، وقد سقط مما حَكَته الجريدة من كلام الشيخ

لمحدثه هذه الجملة: ثم قال - أي الشيخ - فهل يُسر الإنكليز بتخريجي لهم رجالاً

مستعدين يفهمون حقوقهم ويعرفون كيف يدافعون عنها بقوة مستمدة من العلم

والمعرفة؟ اهـ.

_________

ص: 280

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاتصال بين الآيات والسور

وجمع القرآن

(س23) أ. ت بقزان (روسيا) أعرض عليكم أيها الأستاذ ما اعترض به

عليَّ أحد الروسيين -بعدما ترجمت له تفسير القرآن من مجلتكم المنار الأغر - على

قول الأستاذ بالاتصال بين الآيات والسور، قال: إن المتفق عليه عند علماء

المسلمين أن القرآن نزل إلى الرسول عليه السلام مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة

وأول سورة نزلت {اقْرأْ بِاسْمِ} (العلق: 1) على قول الأكثرين، وهذا المصحف

الذي أوله سورة الفاتحة ليس على ترتيب النزول بل جمع ورتب بهذا الترتيب في

عهد أبي بكر رضي الله عنه فكيف تكون الآيات والسور متصلة مع ما يليها،

على أن بعض الآيات من السورة الواحدة أنزلت بمكة وما يليها بالمدينة وبين

نزولهما عدة سنين؟ وأيضًا كيف جمعوا السور والآيات على الترتيب هل كان

بتعيين من النبي عليه السلام أم لا؟ وهل في هذا خبر متواتر أو مشهور؟

وأنا الحقير أجبت الروسي بقدر وسعي والآن أرفع المسألة إلى حضرتكم راجيًا

منكم الجواب ولكم من الله الأجر والثواب.

(ج) لا خلاف بين المسلمين في أن بعض السور نزل جملة واحدة وبعضها نزل متفرقًا على حسب الوقائع والأحوال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يجمع كل سورة عند اكتمالها ويمليها على كتبة الوحي ويقرِئها القارئين، ولكن جمع السور كلها في مصحف واحد هو الذي كان على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكتبت النسخ ووزعت على الأمصار في خلافة عثمان فعملهم هذا

كان عملاً إجماعيًّا ونقلاً متواترًا، لم يختلفوا في ترتيب السور فضلاً عن ترتيب

الآيات، وإنما تردد عمر أولاً في جمع القرآن في مصحف واحد؛ لأن النبي -

صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ثم وافق منشرح الصدر وكأنه تذكر أن زمنه -

عليه السلام كان كله ظرفًا للوحي، وإنما يكون الجمع بعد التمام، وقد روى ابن

أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً

تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية، وعاش النبي- صلى الله عليه

وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات، فأنت ترى أن تسع ليال في

المرض لا تتسع لجمع القرآن في مصحف واحد، وأنه لم يكن ذلك ضروريًّا فإنه

عليه الصلاة والسلام كان يأمر عند نزول كل آية بأن تلحق بسورة كذا ويعين

موضعها ويقرِئهم السورة بعد تمامها، وكان عالمًا بأن كل ذلك محفوظ في الصدور

وفي الطروس ونحوها مما يكتب عليه، ولو لم يكن هذا الترتيب متفقًا عليه؛ لأنه

مأخوذ عنه صلى الله عليه وسلم بالتواتر لاختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا فلا حاجة

إلى الإطالة بذكر الروايات مع هذه الحجة.

وأما الاتصال بين السور وما فيه من التناسب والتناسق ونكت البلاغة، فهو

تابع للترتيب، وقد علمت أن الترتيب كان مقصودًا بتوقيف من الشارع، وما كان

بالقصد يراعى فيه مثل ذلك، ولو رتبت الآيات كلها على حسب النزول لكان

اتصال بعضها ببعض والتناسب بين المتقدم منها والمتأخر من مثارات العجب التي

يسأل فيها عن السبب، أما وقد رتبت بالقصد وبالتوقيف من الوحي فهي كأنها نزلت

مرة واحدة بهذا الترتيب، فاعتراض الروسي على ما نذكر من وجوه الاتصال

والتناسب بين الآيات مبني على الجهل بأن ترتيب الآيات كان توقيفيًّا، على أنه لو

كان من عمل الصحابة لما كان ذلك فيه غريبًا إلا إذا ثبت أن هذا التناسب قد انتهى

في البلاغة إلى حد الإعجاز فكان بنفسه معجزًا، وليس هذا ببعيد فوجوه الإعجاز في

القرآن كثيرة ومنها هذا الوجه الوجيه. هذا وإن التناسب في اتصال الآيات بعضها

ببعض بيِّن ظاهر لا تكلف فيه ولا تعسف، وليس هو قبيل الدعاوى النظرية فيورد

عليه ما أورد بل هو من الأمور الوجودية الحقيقية، فليفرض ما شاء في جمع

القرآن وترتيبه فهو شيء قد مضى وهذا شيء حاضر لا يمارينَّ فيه إلا مكابر،

وإننا إن شاء الله تعالى سنجرد تفسير المنار ونطبعه على حدته ونضع له مقدمة

نشرح فيها هذه المسائل وأمثالها شرحًا كافيًا، والله الموفق والمعين.

_________

ص: 289

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بلاد روسيا دار حرب أو إسلام

والروسيون كتابيون أم وثنيون

(س24) ومنه: قد اختلف علماؤنا في الروسيا في دارنا هل هي دار حرب

أم دار إسلام، وهل الروسيون كتابيون أم وثنيون؟ نرجو من جنابكم الإفادة بلسان

مجلتكم المنار. عزَّز الله بها المسلمين وأنار.

(ج) قد اختلفت عبارات الفقهاء والمحدثين في تعريف دار الحرب ودار

الإسلام، فلا جرم أن الذين يأخذون العلم من الألفاظ يختلفون في تطبيق تلك الأقوال

على كل دار وكل مملكة، فيمكن أن يقال: إن بعض البلاد التي لا يوجد فيها مسلم

أصلي، ولا حكم فيها للإسلام أنها دار إسلام بناء على قول بعضهم: إن دار

الإسلام هي ما يمكن للمسلم إظهار دينه فيها ولا يخاف فتنة في دينه، فأكثر بلاد

أوربا وأمريكا كذلك ولكنها ليست دار إسلام. وإن كثيرًا من البلاد التي حكامها

مسلمون يفتن المرء فيها عن دينه فلا يقدر على إظهار جميع ما يعتقد ولا أن يعمل

بكل ما يجب عليه، لا سيما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتقاد الأحكام

المخالفة للشرع؛ فهي على قول بعضهم دار حرب. والذي يؤخذ من مجموع

الأقوال التي يعتد بها أن العبرة هنا بظهور الكلمة ونفوذ الحكم، فإذا كانت الأحكام

لأهل الإسلام لا معارض لهم في تنفيذ شريعتهم وإظهار دينهم، وكان غيرهم آمنًا في

سربه بتأمينهم، حرًّا في دينه بسلطتهم وحمايتهم، فالدار التي هذا شأنها دار إسلام

وإلا فهي دار كفر وحرب. ولعلنا نشرح هذه المسألة وما يتعلق بها من حكم الهجرة

وغيره في مقالة مستقلة. وأما الروسيون فهم أهل كتاب وإن شابت عقائدهم الوثنية

وأعمال الشرك؛ لأنهم يؤمنون بالله وبالوحي والأنبياء واليوم الآخر، وتجد تفصيل

هذا البحث في التفسير من الجزء السابع (الماضي) .

_________

ص: 291

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهم

وإن خالفت الحديث الصحيح

(س25) الشيخ صحيح أحمد المصري إمام المسجد الكبير بكلكته الهند: قد

وقف بعض من ينتمي لطلبة العلم الشريف بالهند على قول الأستاذ الإمام في صفحة

336 الجزء (9) من المجلد السابع من مجلتكم الغراء في خلال بيانه ترك

الاهتداء بالكتاب والسنة واستبدال أقوال الناس بهما، ولكننا إذا نظرنا في أقوال

الفقهاء وتشعبها وخلافاتهم وعللها، فإننا نحار في ترجيح بعضها على بعض؛ إذ

نجد بعضها يُحتج عليه بحديث صحيح وهو ظاهر الحكمة معقول المعنى ولكنه غير

معتمد عندهم بل يقولون فيه المدرك قوي ولكنه لا يفتى به، ولماذا؟ لأن فلانًا قال

إلخ فأنكر ذلك واستكبره، وقال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول

مثل ذلك، نعم قد يترك الفقهاء العمل بظاهر الحديث لسبب من الأسباب لكن من بعد

تبين السبب الموجب للعدول عن ظاهره أو عنه بالكلية كمعارضته بحديث آخر مثله

في الصحة أو أصح أو أقل منه في الصحة ولكنه مؤيد بأدلة أخرى، أو بأن الإجماع

أو عمل الصحابة على خلافه، ونحو ذلك، كما أن مالكا روى أحاديث القبض ورفع

اليدين عند الركوع والرفع منه في موطأه وترك العمل بها؛ لأنه أدرك عمل أهل

المدينة على خلافها، وأما ترك الحديث الصحيح بعلة أن فلانا قال فما وقفنا عليه في

شيء من الكتب التي بأيدنا، وتبعه على ذلك جميع المقلدين بكلكته، فلما رأيت القوم

في شك من صحة قول الأستاذ الإمام وكانت غيرة الجنسية والوطنية باعثًا قويًّا على

الانتصار لفضيلته ولم يكن لدي ما أنتصر به لجهلي وعدم وجود الكتب اللازمة

بطرفنا فلم أجد لي ملجأ إلا إرشادكم لا زلتم ملجأ للسائلين فحررت إليكم هذا السؤال.

والغرض من سعادتكم أن تبينوا لنا من القائلون في مثل هذا: المدرك قوي ولكنه لا

يفتى به؛ لأن فلانا قال. من غير بيان وجه العدول عن الحديث، وفي أي كتاب

ذكرت هذه المسألة وأشباهها؟ أدركونا سيدي بالجواب وإلا أصبح علماء الهند في

شك مما ينقل عن الأستاذ الإمام.

(ج) إن ما قاله في تعارض الحديثين هو المذكور في كتب الأصول التي

يرون العمل بأحكامها خاصًّا بالمجتهدين، وقد صرحوا بأنه يجب على المقلد أن

يعمل بقول علماء مذهبه، وإن خالفت الأحاديث الصحيحة التي لا يشك في صحتها

ولا يعرف لها معارضًا، ثم حكموا بأن الاجتهاد ممنوع فيجب على جميع المسلمين

أن يكونوا عالة على ما دوّنه الفقهاء، وإن رأوا فيه ما يخالف السنة الصحيحة فإن

كان المعترض ينكر هذا جئناه بنصوصهم التي لا يجهلها إلا إذا كان لم يقرأ الفقه لا

سيما فقه الحنفية. بل الأمر أعظم من ذلك، فإنهم قبل منع الاجتهاد والأخْذ من

الكتاب والسنة قد اتخذوا لهم أحكامًا عامة جعلوها أصولاً للشريعة، وقالوا: (إن ما

يخالفها من الكتاب والسنة يحمل على النسخ أو على الترجيح أو التأويل) فهم قد

جعلوا الكتاب والسنة فرعًا يُحمل على غيره لا أصلاً يُحمل غيره عليه كما ترى في

أصول الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، وقد ذكرنا قوله وبينا رأينا فيه في المجلد

الخامس وأذكر بعض ما قاله، ويراجعه هناك من يريد التفصيل قال:

(الأصل) (أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على

الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق) وذكر مسائل يمكن أن

تجعل الآيات فيها أصلاً ويستغني عن قاعدته مع بقاء الحكم كما قال أصحابهم،

ثم قال:

(الأصل) (أن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ

أو على أنه معارض بمثله؛ ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به

أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق وإنما يفعل ذلك على حسب قيام

الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه) ،

ثم ذكر أمثلة تحكم فيها بالنسخ مع عدم العلم بالتاريخ وبالمعارضة والتجريح.

وكان يجب أن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل ويعرض قول الأصحاب وأدلتهم

عليهما، فإن وافقت وإلا تركت وعمل بالكتاب والسنة.

ومن فروع هذا الأصل عند المقلدين أنهم يحتجون ببعض الحديث على ما

يوافق قول أصحابهم ويتركون الاحتجاج ببعضه الآخر إذا خالف قولهم، وفي المجلد

السادس من المنار 66 شاهدًا على ذلك فتراجع في الأجزاء 14 و 15 و 16 منه

ومن راجع كتب الحديث يجد كثيرًا من ذلك. وقد استقر رأي أهل التقليد المتأخرين

على أن العلماء طبقات أعلاها المجتهد المطلق: وهو الذي يأخذ الأحكام من

الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زاد الحنفية والاستحسان، وأدناها طبقة الناقلين

عن أهل التصحيح والترجيح في الأحكام المروية في المذهب، وهؤلاء يجب عليهم

الأخذ بأقوال من فوقهم من غير تقيد بمعرفة دليلهم، ويحرم عليهم ترك رواية

المذهب لما يفهمونه من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، وقد صرح بذلك ابن

عابدين وغيره من المؤلفين، فإن كان المعترِض ينكر ذلك ذكرنا له العبارات بنصها

وإن كان يعترف فليخبرنا، هل دلت عبارة التفسير على ما هو أكبر منه؟

ثم بعد هذا كله إن كان يلتمس لهؤلاء القوم عذرًا في هذا، فلماذا لا يلتمس العذر

لمن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل؟ وهو الموافق لما كان عليه السلف الصالح

والأئمة المجتهدون رضوان الله عليهم أجمعين، فقد نقل عن الأربعة وعن غيرهم

التصريح بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم.

_________

ص: 291

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إيراد على ترك التقليد

(26)

(ومنه) : قال ذلك البعض عند قول الأستاذ في الصفحة المذكورة

في السؤال الأول: بل نحن نقول: إنه يجب على ذي الدين أن ينظر دائمًا إلى

كتابه حتى لا يختلط ولا يشتبه عليه شيء من أحكامه ولا يجوز لأحد

إلخ.

يظهر من هذا الصنيع أن مراده ترك التقليد بالكلية والرجوع إلى الكتاب والسنة

وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة المجتهدين، ونحن نقول: الداعي إلى

ذلك لا يخلو عن مقصد حسن يعود نفعه على الأمة أولاً، فإن كان الأول بأن كان

مراده ترك المشاغبات بين المسلمين المؤدية إلى تأخرهم في أمر دينهم ودنياهم؛

فنقول له: هل أنت بعد هذا تُطلق الحرية للأفكار والآراء في الأخذ من الكتاب والسنة

أم تحمل جميع الآراء على اتباع رأي تراه مطابقًا للكتاب والسنة؟ فإن قلت بالأول

وهو الظاهر من صنيعك فإننا نخشى أن تتعدد المذاهب بتعدد الآراء، فإن اتفاق

جميع الآراء على قول واحد غير معقول، وإن قلت بالثاني فقد دعوت إلى ما

انتدبت لإبطاله، وإن كان الثاني فقد دعا إلى ذلك محمد بن عبد الوهاب النجدي من

نحو مائة وخمسين سنة ولم يفد ذلك شيئًا في عقائدنا مع أننا نعلم قطعًا أن أتباع

الأئمة الأربعة كانوا على هدًى من ربهم متبعين لكتاب الله وسنة رسوله إلا ما شذ

عنهما؛ فطريقه إما القياس وإما الإجماع قبل ظهور هذه الدعوى وقبلها دعوة

الوهابي، والحاصل يا سيد أنه لا يخفى على فضيلتكم بما ذكرنا أن الناس بطرفنا قد

اتهموا الأستاذ ومن نقل عنه بأنهم داعون إلى اتباع مذهب النجدي، وترك المذاهب

الأربعة، فالمرجو من سيادتكم أن تبينوا لنا مراد الأستاذ بأن تجيبوا عن

الاعتراضات المتقدمة في قول ذلك البعض لينكشف لنا الغطاء عن خرافات هؤلاء

الأعاجم جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.

(ج) أما زعم المعترض أنه يلزم من تلك العبارات الرجوع إلى الكتاب

والسنة فهو صحيح، وأما قوله: وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة.

فهو غير صحيح على إطلاقه، وإنما المراد عدم تقديم قول فقيه على قول الله

ورسوله، ويمكن الجمع بين الاهتداء بالكتاب والسنة والانتفاع في ذلك بكلام الأئمة

بأن ننظر في أقوالهم ونعرضها على الكتاب والسنة كما أمروا ونستعين بها على

فهمهما، فما وافق أخذنا به وما خالف ضربنا به عُرْضَ الحائط كما قال الإمام

الشافعي رضي الله عنه ولا نجعل كلامهم أصلاً نعرض عليه الكتاب والسنة؛

فإن وافقاه وإلا أوّلناهما أو تركناهما تعللاً باحتمال النسخ، والأصل عدمه باتفاقهم.

وأما سؤال المعترض، هل نطلق الحرية للآراء والأفكار في الأخذ من الكتاب

والسنة، أم نحملهم على رأي واحد وإيراده على كل واحد من طرفي الترديد ما

أورده، فإننا نجيبه عنه بما ليس في حسبانه فنقول: لا شك أن الكلام في المسائل

الخلافية، وقد كان السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين يطلقون الحرية

في المسائل الاجتهادية لكل أحد في المسائل المتعلقة بالشخص لا بالحكومة وكانوا لا

يرون ذلك موجبًا للخلاف والتفريق ولا للتنازع والتقاطع كما حدث بعد التزام

المذاهب والتعصب لها بل كان كل يعذر الآخر فيما خالفه فيه.

وأما المسائل المتعلقة بالسياسة والقضاء لا بالأعمال الشخصية كالعبادة؛ فكانوا

يدعونها إلى الحكام الفقهاء القادرين على استنباط الأحكام، وكان هؤلاء يتشاورون

في الأمر ويردون ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة، ثم

تطبيقه على مصلحة الأمة حتى صار أئمة الجور ثم سلاطين الجهل والبغي هم

الحاكمين. والواجب الآن أن نجمع كلمة المسلمين على المسائل الاجتماعية ونحيي

روح الدين فيهم بهدي الكتاب والسنة ونطلق الحرية لكل مسلم أن يهتدي بالكتاب

والسنة بحسب فهمه، إن كان من أهل الفهم الذين أعدوا له عدته وأولها معرفة العربية

وأساليبها، وما قاله علماء السلف وأئمة الخلف ممحصًا تمحيصًا وكل ذلك مدون في

كتب التفسير والحديث.

وإن لم يكن من أهل الفهم وعرض له أمر كان عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن قول الله ورسوله في ذلك فيرويه له ويبين له معناه كما يسأل الجاهلون الآن عن فهم علماء عصرهم في كتب مذاهبهم. وأما الأحكام المتعلقة بالسياسة

والقضاء وسائر الأمور العامة فالواجب على الأمة أن تعرف الحق الواجب اتباعه فيها

لتلزم به الحكام عند القدرة على ذلك، وإنما القدرة بالعلم والاعتقاد. وليس الحق

الذي تنهض بها الأمة أن تفوِّض به أمرها لرجل واحد عالمًا كان أو جاهلاً

يدَّعي أنه ينتمي إلى مذهب عالم معين يحكم به إن شاء فيسمى عادلاً أو يتركه فيعد

ظالمًا، بل الحق أن يكون إمام المسلمين عالمًا بالكتاب والسنة مقيدًا باستشارة أولي

الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -

يستشيرهم ويعمل برأيهم ولو فيما خالف رأيه، كما فعل في غزوة أحد، وكما كان

الخلفاء الراشدون يستشيرون. ولا محل للتوسع في هذا المقام، وقد فصلنا هذه

المسائل من قبل تفصيلا ولعل المعترض لو اطلع على ما كتبناه من قبل

في هذه المسائل؛ لما ضاق صدره بتلك الجملة الوجيزة وطفق يستنبط منها

ويعترض على ما يستنبط وسنطلعك على مقالات (محاورات المصلح والمقلد) فقد

طبعت على حدتها، وهي من التفصيل الذي نشرناه في المنار وصادف

استحسان العلماء والفضلاء.

وأما قوله: إنه يعلم قطعًا أن أتباع الأئمة الأربعة كانوا كذا وكذا فنقول فيه:

إن المنقول عن الأئمة وأصحابهم تحريم التقليد ومنعه ووجوب الأخذ بالكتاب والسنة

وستجد طائفة من هذه النقول عنهم في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) ولكن لم

يتبعهم في هذا كل ما انتمى إليهم لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة؛ فإن كلام الأئمة

الأولين صار مجهولا حتى للمنقطعين إلى العلم، والأستاذ الإمام يسعى في إحياء

كتبهم وهو رئيس جمعية ألفت لهذا الغرض، وأما العوام فأكثرهم لا يعرف الآن

من الدين إلا بعض المسائل الخلافية بين المذهب الذي يدعيه والمذهب المنتشر في

بلده كانتشار مذهبه المدعى، ثم إن أكثرهم لا يعملون إلا بقليل مما يعلمون من

مسائل الوفاق والخلاف، والمعترض وأمثاله لا يخافون من هذا الضياع للدين ولكنهم

يخافون من الدعوة إلى الكتاب والسنة والاهتداء بهما بحجة الخوف على المذاهب

التي لم يبق منها إلا الجدل فيما بقي من دروس المقلدين الدَّارِسة.

وأما اتهام الأستاذ وغيره بالدعوة إلى مذهب الوهابي؛ فهو من ضيق العطن

وقلة العلم فقد اتخذ المتعصبون اسم الوهابي وصاروا يهددون به الناس، والأستاذ

الإمام لا يدعو إلا إلى الكتاب والسنة فمن اتبعهما فهو المهتدي عنده وعندنا وإن سمي

وهابيًّا، ومن أعرض عنهما فهو الضال وإن سمي نفسه سنيًّا أو أشعريًّا أو حنفيًّا أو

شافعيًّا، وإنما يخاف من النبذ بالألقاب من لا يعرف الله ولا يرجوه بعمله، وإنما

يرجو مرضاة العوام الذين يشتمون كل مخالف لتقاليدهم التي ليس بها من علم إن هم

إلا يخرصون.

وجملة القول: إن من يرغب عن الكتاب والسنة فقد سَفِهَ نفسه وكان بريئًا من

الأئمة، وإن ادعى اتِّباعهم فإنهم حرموا التقليد الأعمى كما ستعرفه تفصيلاً من

الرسالة التي نرسلها إليك، ونرجو أن تكتب إلينا بما يشتبه على المعترض أو عليك.

_________

ص: 294

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خرافة في سبب تحريم الخمر

(س27) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو (أمريكا) دار بيني

وبين جماعة من النصارى حديث أفضى إلى تحريم الخمر فقال أحدهم: لماذا

حرمت الخمر عليكم طائفة المحمدية؟ فأجبته على حسب معرفتي وما كنت أسمعه

شائعًا على ألسنة العامة في سورية قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة: حرم لأجل

ذبح الراهب بحيرا قال: ومن ذبحه؟ قلت: أحد الصحابة الكرام، قال: وهل

تعرف اسمه؟ قلت: كلا، قال: ألم يعرف النبي من نحره؟ قلت: نعم (لعله يريد

لا) فقال الملحد في الدين: لماذا لم يقتله وكيف يسكر النبي - صلى الله عليه

وسلم - ويؤخذ سيفه من جنبه ولا ينبأ بذلك؟ فضاق ذَرْعي، ولما كان للإسلام في

مشارق الأرض ومغاربها صوى ومنار كمنار الطريق أتيتكم في عريضتي هذه كي

تفيدونا، ما سبب تحريم الخمر؟ من قتل الراهب بحيرا ولكم الأجر والثواب من

العزيز الوهاب.

(ج) بعد أن أرسلتم هذا السؤال وصل إليكم الجزء الخامس من المنار الذي

فيه تفسير {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فعلمتم سبب تحريم

الخمر وأنه كان بالتدريج، فلم يكن تأخير الجواب عن هذه الخرافة النصرانية ضائر

بعد ما علمتم الحق، ومن لوازمه زهوق الباطل. أما حكاية قتل الراهب بحيرا فهي

من أكاذيب الرهبان، وقد سمعتها لأول مرة من أحد رهبان دير قزحيا في لبنان،

طَرَقَنَا في ليلة شاتية وكنا في سامرنا (حجرة السهر) بالقلمون فأكرمنا مثواه واجتمع

عليه الصبية وكنت منهم، فقص علينا قصة الراهب بحيرا ووصف من حب النبي

صلى الله عليه وسلم له واصطحابه إياه وتحريمه الخمر لأجله، والقصة في

ذلك أن بعض الصحابة ائتمروا بالراهب وخافوا غضب النبي - صلى الله عليه

وسلم - على قاتله إذا هو عرفه فكادوا له حتى سكروا مع النبي - صلى الله عليه

وسلم (حاشاه من ذلك فإنه لم يشرب الخمر قط) ذات ليلة فأخذ أحد المؤتمرين

سيف النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم مستغرق وقتل به الراهب وأعاده

إلى غمده، فلما استيقظوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا أن

رأى حبيبه الراهب مقتولاً وسأل من قتله؟ قالوا: من كان سيفه ملطخًا بالدم فهو

قاتله فاستلوا سيوفهم فاعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو القاتل في حال

السكر (حاشا لله) فحرم الخمر لأجل ذلك.

وكان غرض الراهب من ذلك أن يبين لنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان

يحب الرهبان ويصطفيهم، وقد كان منا من أجاب الراهب بأن القصة كاذبة لا أصل

لها، وما كنا نظن أنها شائعة، وأن من عامة المسلمين من يصدقها. ولهم أكاذيب

أخرى في هذا الراهب المغمول لا يعرف لها أصل غير اختراع مخيلاتهم حتى زعم

بعضهم أنه هو الذي علَّم النبي صلى الله عليه وسلم الدين والشريعة. والحق

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الراهب بحيرا غير مرة واحدة في الشام،

وكان عليه السلام ابن تسع سنين، وبيان ذلك مفصل في المجلد السادس من المنار

(راجع ص 394منه) وحكى بعض المؤرخين من النصارى أن بحيرا قتلته اليهود،

والصحيح أنه لا يعرف له تاريخ ولم يكن له شأن، وإنما اهتم النصارى بالكلام عنه

بعد أن رأوا في كتب المسلمين أنه بشر بنبوة محمد عليه السلام عند ما رآه مع

عمه بالشام فحولوا الأمر إلى ما علمت.

_________

ص: 297

الكاتب: محمد رشيد رضا

ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم

في أوراق البردي

(س28) محمد أفندي كامل الكاتب بمحكمة (أسيوط) الأهلية: اطلعت

بجريدة مصر في العدد 3804 الصادر يوم الأربعاء 7 يونيه سنة 1905 ضمن

الحوادث المحلية على الفقرة الآتي نصها بالحرف الواحد:

(تفيد أنباء ألمانيا أن رئيس غرفة التجارة في مدينة هدلبرج أعطى مكتبة

المدرسة الجامعة هناك مجموعة من أوراق البردي مكتوبة باللغة العربية وتحتوي

هذه المجموعة على ألف ورقة خطيرة جدًّا يرجع بعضها إلى السنين الأولى من

الهجرة، وكثير من هذه الأوراق يُسفر عن أمور جديرة في تاريخ سيادة الإسلام على

مصر، ولكن الأهم من كل ذلك هو العثور على ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه

وسلم - ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وإن فيها سرًّا جديدًّا يجلو شيئًا من

أسرار التاريخ الغامضة) . اهـ

ولما كان ذلك يهم العالم الإسلامي معرفته والمطلع على هذه الفقرة يستنتج

أمرين:

(أولهما) : أن وجود مثل هذه الكتابة باللغة العربية على ورق البردي الذي

لم يكن معروفًا إلا في زمن الفراعنة - إن صح - كان مما يدعو إلى الظن بأن ذلك

من عمل المدلسين.

(ثانيا) : أن جريدة مصر قالت: إنه وجد بين هذه الأوراق ورقة فيها

ترجمة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وأن

فيها سرًّا جديدًا يجلو شيئًا من أسرار التاريخ الغامضة. على أن مثل هذه الترجمة

إن لم تكن موافقة لما أتى به القرآن والمتواتر بالدليل القطعي عن صاحب الترجمة

صلى الله عليه وسلم فلا بد وأن يكون عدم ذكر هذا السر سرًّا آخر تقصد به

جريدة مصر الإيهام بأن هناك شيئًا يناقض ما عليه المسلمون من العقائد.

فهل للأستاذ علم بتلك الأوراق يرفع النقاب عن ذلك السر الذي أشغل الألباب؟

هذا ما نرجو الجواب عنه على صفحات المنار، زادكم الله بسطة في العلم

والرزق.

(ج) قد كتب إلينا غير واحد فيما نشرته جريدة مصر، وكان منشأ الاهتمام

بذلك توهّم أن كل ما كتب وقدم عهده يصير مسلَّمًا به مقطوعًا بصحته، والصواب

أن ما كتبه الناس في الزمان الماضي هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه

في الزمن الآتي: منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه

ما يكتب عن علم وما يكتب عن ظن وعن جهل. والقاعدة المقررة: (أن المكتوب

كالمسموع لا يوثق به إلا إذا روي بسند متواتر أو سند متصل يُحتج برواته ويُوثق بهم

للعلم بعدالتهم) ، فما عساه يوجد في أوراق البردي المسئول عنها من سيرة النبي -

صلى الله تعالى عليه وسلم - يعرض على المعلوم من الدين بالضرورة أو الرواية

الموثوق بها، فإن وافقه كان له حكمه وإلا ضربنا به عُرْضَ الحائط، ولا نراه شبهة

على المعروف عندنا بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على أن ما في تلك الأوراق كذب

لا قيمة له في التاريخ. أما أوراق البردي فقد استعملت في الإسلام وفي دار الكتب

المصرية أوراق منه أقدم ما عرف تاريخه منها قد كتب في الربع الأخير من القرن

الأول للهجرة، وأحدثه كتب في أوائل القرن الرابع.

_________

ص: 298

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ

(معونة الرحمن في مذهب أبي حنيفة النعمان)

أرجوزة في مذهب الحنفية من نظم الشيخ إسماعيل أحمد الإسلامبولي أصلاً

المصري وطنًا، وقد كتب إلينا صاحبها (بحثت في الكتبخانة مدة على منظومة في

المذهب الحنفي كالألفية في النحو؛ فوجدت منظومات كثيرة منها ما هو أربعة آلاف

بيت ومنها ما هو سبعة آلاف بيت وما بين ذلك، فاستعنت الله ولخصت المذهب في

ألفي بيت، وسميتها كذا، وقد طبعتها بعد أن قرَّظها الشيخ محمد راضي والشيخ

محمد بخيت والشيخ محمد عشري، وتباع النسخة بقرشين في مصر بمكتبة الشيخ

أحمد المليجي قريبًا من الأزهر، وبمكتبة درويش سليمان بالسيدة زينب) إلخ،

وهاك نموذجًا من الأرجوزة من أول كتاب الصلاة.

فرض على مكلف وتطلب

من ابن سبع وابن عشر يضرب

تاركها تكاسلاً يعزر

بحبسه وجحدها مكفر

والصلوات فرضت في خمس

فصل ركعتين قبل الشمس

وأربع العشا وظهر عصر

ثم ثلاثًا مغربًا كالوتر

فالظهر من زوالها حتى ترى

ظلك مثليك بمثل قدرا

والفيء لا يحسب عند القيس

ظل يرى عند وقوف الشمس

والعصر منها للغروب في الأفق

ومغرب منه إلى غيب الشفق

ثم العشا فالوتر لانفلاق

والصبح بين الفجر والإشراق

ولم تجز صلاة فرض أو وجوب

عند شروق واستواء وغروب

وقد وصف الشيخ محمد راضي نظمها بالسهولة في العبارة، والرقة في

الإشارة، ووصفه الشيخ بخيت برقة العبارة ودقة الإشارة.

***

(العقل والدين)

قصة أدبية تاريخية موضوعها حياة موسى المشترع الإسرائيلي العظيم

وتحرير العبرانيين من عبودية المصريين وتأسيس المملكة الإسرائيلية والشريعة

الموسوية ومصادرها، مؤلفها رفول أفندي سعادة صاحب مقالات سوريا والإسلام

التي لم ينس القراء ردنا عليها في السنة الماضية. حاول المؤلف في هذه القصة

إقناع القارئين بأن موسى عليه السلام قد اخترع الشريعة التي جاء بها اختراعًا

اعتمد فيه على ما اقتبسه من الشريعة والديانة المصرية التي تلقاها من أعظم الكهنة

المصريين وأعلمهم. وإننا نقول: إذا جاز للإنسان أن يخترع قصة يعزو فيها أقوالاً

وأعمالاً إلى أناس مجهولين لأجل العبرة والموعظة أو الفكاهة والتسلية -أفلا يجوز

أن يعزو مثل هذا إلى الأنبياء وأهل الشرائع والأديان؛ لأجل زلزلة الاعتقاد بهم أو

إزالته. وقد كنا تنسمنا مما كتبه واضع القصة في الإسلام أنه لا يؤمن بدين من

الأديان فحققت لنا هذه القصة ما كنا قد استنبطناه من كلامه المخترع في الإسلام.

ولست أعرف ما يقصد إليه المؤلف بكلامه في إبطال الأديان ومحاولة إقناع الناس

بأنها وضعية مختلقة، أيظن أن ترك الدين يرقي البشر في آدابهم وأخلاقهم التي هي

منبع سعادتهم وهناء معيشتهم، أم يبتغي بما يكتب الشهرة والانتظام في سلك ملاحدة

الفلسفة؟

أكثر البشر يؤمنون بالدين ومنهم العلماء والفلاسفة وقد ارتاب كثيرون في

دينهم؛ لأنهم وجدوا فيه ما لا يمكن التصديق به سواء كان منه أو مما ألصق به

الرؤساء المتبعون حتى تعذر الفصل بين الأصل والدخيل، ولكن أغلب هؤلاء

المرتابين لم ينكروا فائدة الدين الذي أنكروه ولم يستحلوا تشكيك العامة فيه. وقد قال

أحد الفلاسفة الأوربيين المتأخرين قبل موته: إن هذا الشيء الذي يسمونه دينًا نافع

للبشر وليس عندي من الدلائل العلمية ما يثبته ولا ما ينفيه، والأولى للناس أن

يثبتوا عليه.

إذا أمكن أن يتربى أفراد من الأمة على الفضائل بالعمل وحسن القدوة ومن

غير تلقين للدين، بحيث ينشئون على حب الخير واجتناب الشر، فلا يمكن أن

تتربى الأمة كلها أو أكثرها على ذلك، وأما الدين فيصح أن يكون وازعًا عن الشر

وباعثًا على الخير لجميع الناس؛ إذا عرفوه بروحه وجوهره وأزاحوا عنه غواشي

التقاليد التي غشيته وعلموا أنه سار على سنة الارتقاء كسائر الشئون البشرية فاتبعوا

فيه الهداية الأخيرة التي جاء بها خاتم النبيين، وإلا كان نافعًا للعامة دون الخاصة

فهو على كل حال نافع للناس، فالجهاد لإبطاله بالمرة جناية عظيمة لا تأتي إلا عن

هوى ضار.

يقول رفول أفندي سعادة وأمثاله ممن مرقوا من الدين ثم انبروا لمناضلته: إن

للدين مضرات مشهورة في إفساد عقول الناس بالخرافات وحملهم على عداوة العقل

والعلم النافع، وتقول: عليكم بمحاربة الخرافات والأوهام ومناهضة أهلها من

الأحبار والقسيسين وتربية الأولاد على الاستقلال ودعوا الأنبياء وأصول

تعاليمهم النافعة إن كنتم تحبون أن تفيدوا الناس وإلا فأنتم للشهرة الضارة

تطلبون.

***

(كلم القرآن)

وضع العلماء كتبًا كثيرة في تفسير ألفاظ القرآن الغريبة منها المطول

والمختصر ومنها المنظوم، وقد انبرى في هذه الأيام محمود أفندي شكري كاتب السر

في مديرية المِنيا لوضع كتاب في ذلك، امتاز على غيره بوضع كلم القرآن على

حدتها مفصولا بينها وبين تفسيرها بخط عمودي، وربته على ترتيب السور واعتمد

في تفسير الألفاظ على كتب اللغة غالبًا، وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا

جميلا فبلغت صفحاته 192 وهو يطلب من مؤلفه في المنيا.

***

(الفصول البديعة في أصول الشريعة)

كتاب جديد وضعه محمود أفندي عمر الباجوري لخص فيه كتاب جمع

الجوامع المشهور، وضم إلى ذلك فوائد أخرى فالفصل الأول: في العقيدة، وهي

جمل وجيزة على الطريقة النظرية التي جرى عليها المتكلمون، والفصل الثاني: في

مقدمات أصول الفقه، وسائر الفصول إلى التاسع في مباحث الأصول، والفصل

العاشر في أصول ومسائل أدبية وفلسفية. وصفحات الكتاب تناهز المائة وثمنه

أربعة قروش، ولعله يكون مُرّغبًا للمتخرجين بالمدارس العصرية في النظر في

علوم الأصول الإسلامية لأجل الوقوف على تفصيل ما أجمله هذا المتن الوجيز.

***

(الدروس الابتدائية في المبادئ الجغرافية)

كتاب يدل اسمه على مسماه أودعه مؤلفه سيد أفندي محمد ناظر المدرسة

التحضيرية ما يتعلمه تلاميذ المدارس الابتدائية في السنة الأولى حسب قانون

المعارف. وقد راج هذا الكتاب في المدارس الأهلية لسهولته وحسن وضعه فأعاد

المؤلف طبعه في هذا العام، وزينه بالرسوم التي تشوِّق التلميذ وتعين الأستاذ على

التعليم.

***

(هداية الطلاب إلى حل مسائل الحساب)

عني بوضع هذا الكتاب عبد العزيز أفندي وعلي أفندي صبحي المستخدم في

دار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) وقد طبع الجزء التحضيري منه، وهو

يشتمل على (مسائل محلولة وغيرها، وقوانين عمومية لتلامذة السنة الأولى والثانية

من المدارس الابتدائية حسب آخر بروجرام قررته نظارة المعارف العمومية) ،

وسيتلوه الجزء الثاني لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة، ولا شك أن هذا الكتاب يعين

التلاميذ على إتقان الحساب بالسهولة، فنحثهم على مطالعته وهو ويطلب من مؤلفيه

وثمن النسخة منه 15 مليمًا.

_________

ص: 299

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمر

في آل سعود

قد علم القراء مما قصصنا عليهم من قبل أن ابن رشيد الذي كان متغلبا على

بلاد نجد جار وظلم معتمدًا على أن الدولة تؤيده وتنصره بما كان يوهمها من أن آل

سعود الوهابية يريدون محو سلطتها من بلاد العرب، وهو الذي يؤيد نفوذها، وكان

هو وأنصاره يستعينون على ذلك ببعض رجال الحكومة في البصرة والشام

والحجاز وبعض الجرائد المصرية التي توصف (بإسلامية) فقد حاول هؤلاء

الأنصار إقناع الآستانة أو يلدز بأن آل سعود متفقون مع الأجانب على تمليكهم بلاد

نجد وما كانوا ينطقون ولا يكتبون إلا بأجرة عظيمة يأخذونها من بعض كبار التجار

الأغنياء المشايعين لابن رشيد، فكانوا يوقعون الفتنة بين المسلمين ويغشون دولتهم

وسلطانهم حبًّا في منفعة أنفسهم.

ولما تمكن أهل الغيرة والنجدة من أمراء العرب وغيرهم من إقناع الدولة العلية

بخضوع آل سعود لها وبعدهم عن الفتن والاستظهار بالأجانب لشدة تمسكهم بدينهم،

عمدت الدولة إلى التحقيق، فأرسلت المشير أحمد فيضي باشا إلى نجد ليدعو أهل

البلاد النجدية ورؤساء القبائل إلى الطاعة، ويتبين هل هناك جنود أجنبية كما زعم

الواشون فأجيبت دعوته، وعلم أن آل سعود هم المخلصون الصادقون، وأن ابن

رشيد وأنصاره هم الغاشون المخادعون.

فحصر سلطة ابن رشيد في بلده وعشيرته وجعل عبد الرحمن الفيصل أمير

سائر بلاد نجد وقبائلها فاستراحت الدولة بذلك من الدسائس والمفاسد التي كانت

تسري إلى بلاد نجد من مصر وغيرها، فالشيخ عبد الرحمن الفيصل وولده عبد

العزيز آل سعود لا يعرفان غير بلادهم وسلطانهم ولا علاقة لهم بمصر ولا بغيرها

ولا يبالون بعبث العابثين ولا بدسائس المفسدين. وإننا ننشر هنا ما جاءنا من بلاد

العرب من صور الرسائل التي أرسلها المشير أحمد فيضي باشا إلى أهل نجد

المتهمين وإلى الآستانة وولاية البصرة؛ لأن هذه رسائل رسمية قاطعة لألسنة

الفسدة من أصحاب الجرائد الكاذبة في مصر وغيرهم.

كتاب المشير أحمد فيضي باشا

إلى عُنيزة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

نحمد الله الواحد مستوجب الشكر والحمد، مالك الأمر من قبل ومن بعد،

والصلاة والسلام على نبينا الذي أرسله بالهدى ودين الحق، وعلى آله وأصحابه

أولياء الخلق. وبعد، فإن خليفة الله في الآفاق، الثابت البيعة في الأعناق، مصباح

مشكاة الخلافة، مفتاح باب الرحمة والرأفة، ولي الأمر، المنصوص على طاعته

بلسان الذكر المحكم، سلطان البرين والبحرين عنوان الشرف والإقدام، أمير

المؤمنين، حامي حوزة الدين، إمام الإسلام والمسلمين، مظهر العدل والإحسان،

مصدر اللطف والامتنان؛ حضرة السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان،

مولانا الغازي عبد الحميد خان، قوّى الله شوكته، وفسح كما تهوى الشريعة مملكته،

أمرنا بالسير إليكم مع جنوده الشاهانية المنصورة لإصلاح أحوالكم وبلادكم فامتثلنا

أمره، وعملنا إرادته العالية (كذا) فارتحلنا وجئناكم كما أمر دامت ذاته المقدسة

سعيًا نسير فيكم بسيرته الحسنة صوناً لكم ورعيًا ونبث الإنصاف حسبما يريد فيكم،

ونغضي عما تلف من وقائعكم ومغازيكم، ونعفو كما من شأنه العفو عن الكثير

ونرفع أعلام الإصلاح بين شعوبكم وقبائلكم، ونوصل وسائلكم لباب النجاح على

حسب منازلكم، ولا تحسبوا عدتنا لإراقة دم، ومؤاخذة بما مضى وتقدم، فارقدوا

أمنا، وأطيعوا أولي الأمر منا، وتدبروا {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ

فَلَهَا} (الإسراء: 7) وسابقوا لمرضاته، وتقربوا من ألطافه، أيها المسلمون

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) إنا لا نقضي فيكم

بسوى الكتاب والسنة، ولا نولي أعمالكم من تشب به نار الفتنة، بل نولي عليكم

من تحمدون ولايته، وتقبلون بأحكام روايته، فادخلوا تحت رواق صفح الملك، فعفوه

ممدود السرادق، وولوا ركنه الشديد واستظلوا بطود حلمه الشاهق، واستقبلوا إنعامه

والمنى، واعتصموا بعروته الوثقى {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ

الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120) ولا تتبعوا المجرمين ليمكروا

فيكم {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) عجلوا بالجواب

الصواب، وأرسلوا من تعتمدون عليهم لأجل المواجهة والاستقبال، ولهم منا الرأي

وأمان الله فلا يحصل عليهم سوء ولا مكروه، فاعتمدوا وبالله الاعتماد، والسلام

على من سبح في كفه الجماد، والسلام.

وكتب المشير مثل هذا الكتاب لبريدة، وذلك بعد أن فتش المعاهد التي زعم

ابن رشيد أن فيها عسكرًا من الأجانب وكان مقامه حينئذ في (القوارة) على مسافة

يوم ونصف من عنيزة ويوم بل بعض يوم من بريدة وكتب إمضاءه (مأمور

إصلاحات القصيم مشير) وقد جاءه الجواب ناطقًا بأنهم لم يكونوا عاصين للدولة

فيطيعوا الآن بل هم طائعون من قبل ومن بعد، ولكن الدولة ألبستهم ثوب العصيان

بتزوير ابن رشيد. وأرسل كل أمير معتمدًا من قبله لمواجهة الوالي وكشف الحقائق

فأكرمهم وخلع عليهم، ولما رأى ما يحملون من خطوط الأمراء شد رحله ونزل

بريدة فواجهه أمير البلد صالح بن حسن المهنا فكساه وعاهده وأَمَّرَه على بلاده وترك

عنده خمسين جنديا ولواء عثمانيًّا ثم رحل إلى عنيزة فواجهه الأمير عبد العزيز العبد

الله السليم فلقي منه ما لقي ابن مهنا من اللطف والإكرام وكان كتب إلى عنيزة

الكتاب الآتي جوابًا عن كتابهم إليه.

(الكتاب الثاني من المشير إلى أهل عنيزة)

إلى كافة أكابر وأصاغر أهل عنيزة: الحمد لله ولي الإحسان، والصلاة

والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للأكوان. السلام عليكم ورحمة الله

وبركاته. أما بعد فقد وصل إلينا معتمدكم عبد الله بن محمد القاضي وصحبته

المضبطة المحررة من طرفكم، وعرض طاعتكم وانقيادكم لأوامر حضرة أمير

المؤمنين فصرنا ممنونين لذلك، وحمدنا الله على ما هنالك، ثم نحن بينا له

مقصودنا، وعرفناه كما كتبنا لكم سابقًا مطلوبنا، وهو سيصل إليكم، ويكشف الحال

لديكم، وطلب منا معتمدكم المشار إليه لكم الأمان والعفو عما سلف وعدم تولية ابن

رشيد عليكم، فلكم أمان الله وقد عفونا عما سلف ولا نولي ابن رشيد عليكم ولا نحكم

بغير أحكام الشريعة ليصير معلومكم والسلام، 4 صفر سنة 1323 (الإمضاء)

وقد أطلع المشير أمراء نجد على ترجمة ما أرسله إلى الأستانة وإلى ولاية

البصرة في ذلك وهو كما جاءنا من البلاد العربية.

(ترجمة الرسالة البرقية التي أرسلها المشير إلى باشكاتب المابين الهمايوني)

بمقتضى تعليمات حضرة خليفة رسول من خصوص أهالي القصيم، قد عفا الله

عما سلف منهم وقد أطاعوا وانقادوا لأوامر الدولة العلية، والجميع لازموا الدعوات

بزيادة ودوام عمر وشوكة سلطاننا المعظم، فبناء على هذا فالذين كانوا بالبصرة

وعزموا إلى إستانبول محمد الشبيلي ومحمد وعبد الله الشعبي قد استرحم أقرباؤهم

الذين ساكنين في عنيزة المستظهرين للعفو العمومي أن يشملهم هذا العفو فاعفوا عن

الموصى إليهم وأعيدوهم إلى البصرة وبشَّروهم بالعفو كي يوجب المسرورية، وهذا

المسترحم منكم.

...

...

...

...

... (الإمضاء)

وقد كتب رسائل أخرى إلى والي البصرة وقومندان موقعها العسكري بالعفو

عن أهالي القصيم والأمر بإطلاق المحبوسين ومساعدة المتجرين وهذه ترجمتهم لها:

ترجمة الرسالة الأولى

إلى قومندان البصرة صاحب السعادة حضرة الأفندي

من جملة أهالي القصيم آل الشبيلي وسائرهم حيث استفادوا من العفو العمومي

فليداوموا على أمور تجارتهم وقضاء مصالحهم، ومن سكنة ولاية البصرة سليمان

الشبيلي وأولاده وأعوانه فلا يتعرض لهم بسوء ومن طرفكم أيضًا ابذلوا لهم التأمين

ولا تخلون أحدا (أي لا تدعوا أحدا) من أتباع ووكلاء ابن رشيد يتعرضهم بسوء

من سبب المادة السابقة ولأجل البيان حرر هذا الأمر.

...

...

...

...

... (التوقيع)

ترجمة الرسالة الثانية

الشبيلي محمد السليمان بحسب وصول العساكر الشاهانية إلى القصيم أبرز

من حسن الخدامة في طرفنا، والده الذي في البصرة ووكلاؤه في دائرة الأصول أجروا

في حقهم رعاية مخصوصة وأشغالهم الذي تقع في الحكومة تأمرون بعنايتكم بعنايتكم بترويجها.

...

...

...

...

... (التوقيع)

(المنار)

هذا ما كتب إلينا من البلاد العربية بنصه وقد سرّنا أن الدولة وفّقها الله أرسلت

إلى نجد هذا الرجل الذي سلك مسلك الحكمة وحفظ كرامة الدولة وحقن دماء المسلمين

وأنام الفتنة التي كان أيقظها ابن رشيد، وهذا ما كنا أشرنا به وتمنيناه وليتها وفقت

لمثل ذلك في اليمن قبل استفحال الفتنة واشتغال نيران الثورة، ولكنها لم ترسل إلى

اليمن إلا أهل السلب والنهب المغرورين بقوة الدولة على رعيتها وإن الولد الذي يُربى

بالقسوة والعنف لا ينشأ إلا عاقًّا ينتظر الفرصة للانتقام من مربيه، فليت عمال الدولة

القساة في سوريا وغيرهم يفهمون هذه القاعدة الطبيعية.

_________

ص: 303

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌لائحة المساجد وما أنفذ منها

واضع هذه اللائحة ومقترح إصلاح المساجد معروف، وهو الأستاذ الإمام،

فإنه بعد أن صار عضوًا في مجلس الأوقاف الأعلى، وأشرف على أحوال هذه

المصلحة الإسلامية العظيمة رأى أن غلات الأوقاف تزيد عامًا بعد عام وأن

مرتبات المستخدمين في هذه المصلحة عظيمة تضاهي نفقات مصالح الحكومة،

ورأى من ناحية ثانية أن المساجد التي أوقفت عليها الأوقاف العظيمة مهملة

والمستخدمين فيها من الأئمة والخطباء فمَنْ دونهم لا يرضخ لهم إلا بالقليل جزاء على

خدمتهم، فمنهم من راتبه خمسون قرشًا في الشهر، ومنهم من يعطى أقل من ذلك

والإمام أو الخطيب الذي يرتقي راتبه إلى مئة قرش أو يزيد قليلاً يعد من ذوي

الطبقة العليا، ورأى هذا المصلح - أيده الله بروح منه - أن أكثر المستخدمين في

المساجد لا يقدرون على أداء وظائفهم على وجهها، وأن استبدال القادرين

بالعاجزين متعذر مع قلة الرواتب إذ ينبغي أن يكون الإمام والخطيب من أهل العلم

والخادم منقطعًا للخدمة، قادرًا عليها، ولا يكون هذا مع قلة المرتبات.

أجال هذا المصلح الغيور قداح الفكر في هذه المسألة فرأى أن السعي في

إصلاح حال المساجد يستتبع إصلاحًا آخر وهو خدمة العلم والإعانة عليه بإيجاد مورد

جديد لرزق أهل الأزهر يرغِّب الناس في طلب العلم، ذلك أن أول ما يهم الإنسان

في هذه الحياة الدنيا أمر رزقه، ويرى الناظر في تقلب الزمان أن الأقوات تغلو في

هذا البلد، حتى إن ثمن أكثر الأشياء قد تضاعف في زمن قليل فإذا استمرت هذه

الحال في مصر كان المقام فيها عسيرًا على غير الموسرين وقلت الرغبة في طلب

العلم بالأزهر، هذا ما بعث المصلح على البحث عن أحوال المساجد والمستخدمين

فيها ووضع تلك اللائحة التي اشتهر أمرها، وإنني أثبت ههنا نص لائحته التي

وافق المجلس الأعلى على تنفيذها بعد البحث والتعديل ثم أوقفت بأمر الأمير في

العام الماضي، ونتبعها بما أخذ منها وصدر الأمر في هذا العام بتنفيذه، وهو:

اللائحة الأولى

المادة الأولى: إن هذا الترتيب لا يترتب عليه (رفت) أحد من وظيفته إلا

بوفاته، أو وقوع أمر يستوجب رفتًا حسب الجاري، كما أنه لا يقتضي الإخلال

بشىء من اختصاصاته الحالية.

الباب الأول في ترتيب الخدمة:

(المادة الثانية) توحد الإمامة في جميع المساجد ما عدا الجامع الأزهر

والمساجد التي فيها عدة أماكن يمكن اعتبار كل منها مسجدًا مستقلاًّ، ويجب في هذه

الحالة أن يؤدي الصلاة أحد الأئمة بعد الآخر، ولا يجتمع إمامان للصلاة في آن

واحد إلا إذا اختلفت الأماكن، بحيث لا يشوش أحدهما على الآخر، ومع ذلك فتعدد

الأمكنة لا يستلزم تعدد الأئمة، بل لا يكون ذلك إلا للضرورة.

الإمام: هو رئيس المسجد في جميع شؤونه ما عدا المساجد التي فيها دروس

منتظمة مثل الأزهر وما يلحق به مما يكون له شيخ خاص يديره من حيث هو

مدرسة.

(المادة الثالثة) يقوم الإمام بوظيفة الخطبة والمساجد التي تعدد فيها الأئمة،

وهي المذكورة في المادة الثانية يقوم بالخطبة أوفر الأئمة راتبًا، فإن تساووا في

الراتب قدُم أقدمهم في وظيفة الإمامة.

(المادة الرابعة) توحد وظيفة المؤذنين في كل مسجد إلا عند تعدد المآذن

فيكون لكل مأذنة مؤذن واحد لجميع الأوقات.

(المادة الخامسة) يعين ملاحظ في المساجد التي يُرى لزوم وجود ملاحظ

فيها، وهذا الملاحظ يكون رئيس الخدمة وعليه القيام بمراقبتهم في جميع أعمالهم تحت

رئاسة إمام المسجد.

(المادة السادسة) أعمال الميقاتية تضاف إلى المؤذنين.

(المادة السابعة) يضاف عمل المبلغين إلى المؤذنين وفي مساجد القسم الرابع

التي لا منارة فيها تكون قراءة السورة على المؤذن.

(المادة الثامنة) العمل الذي يؤديه الآن المرقي والمستقبل يعوض بما يعبر

عنه شرعًا بالأذان الثاني ويحول على المؤذنين.

(المادة التاسعة) تالي القرآن في المسجد يعطى ما يرتب له على سبيل

الصلة.

(المادة العاشرة) ملاحظو المساجد هم أمنة عهدتها ويستثنى من ذلك بعض

المساجد التي لها خَزَنَة مخصوصون في جدول الترتيب، ويدخل في وظائف

الملاحظين ما كان للنقيب.

(المادة الحادية عشرة) يدخل تحت لفظ الخدمة أرباب الوظائف الآتية ولا

يقيدون بتسمية: الفراشون، والوقادون، والملاءون، والسقاءون، البوابون،

والسعَاة، وخَدَمَة الأسْبِلة في المساجد وما أشبه ذلك.

(المادة الثانية عشرة) الوظائف الآتية لا علاقة لها بترتيب الخدمة وليس

النظر فيها من عمل المجلس الآن: خدمة الأسبلة المستقلة عن المساجد والفقهاء

والدلايلية، والساعاتية، ومتعهدو السواقي، وخفراء القبور، والترَبِيَّة، والخدمة

المختصون بالأضرحة من جهة كونها أضرحة بأنواعهم، وشيخ الليثية، وقراء

الربعة، وكتبة النذور.

(المادة الثالثة عشر) وظيفة المبخر (البخورجي) تكون من أعمال أحد

الخدمة والمبالغ المرتبة لها تكون من ضمن مرتبه.

(المادة الرابعة عشر) وظيفة الداعي (الدعجي) لا تكون مستقلة وإنما

تضاف إلى عمل أحد موظفي المسجد ومرتبها يحسب من مرتبه.

الباب الثاني في المرتبات:

(المادة الخامسة عشرة) أئمة الجوامع بجميع أنحاء القطر يجعلون أربع درجات:الأولى بثمانية جنيهات، الثانية بخمسة، الثالثة بأربعة، والرابعة بثلاثة.

الملاحظون يكونون بجنيهين، الخزنة يكونون بجنيهين.

المؤذنون ينقسمون إلى أربع درجات:

الأولى: 150قرشًا لمصر والإسكندرية، والثانية 125قرشًا لعواصم

المديريات ومحافظات بورسعيد ودمياط والسويس، والثالثة 100 قرش لعواصم

المراكز والبلاد التي عدد سكانها عشرة آلاف نسمة فما فوق، وإن لم تكن عواصم

مراكز، والرابعة 75 قرشًا لبقية القرى.

سائر الخدمة يكونون كالمؤذنين ما عدا المستثنين مثل خدمة الجامع الأزهر

ونحوه.

قراء القرآن في الجوامع يكونون أربع درجات: الأولى 50 قرشًا، والثانية

40 قرشًا، والثالثة 30 قرشًا، والرابعة 20 قرشًا على حسب درجات الجوامع.

الباب الثالث في شروط التوظيف:

(المادة السادسة عشرة) الإمام يشترط فيه أن يكون عالمًا حائزًا لشهادة

العالمية فإن لم يوجد مرشح حائز لشهادة العالمية يكتفي بشهادة الأهليلة فإن لم يوجد

أيضًا مرشح حائز لشهادة الأهلية ينتخب اللائق بالامتحان على حسب القواعد المتبعة

الآن.

(المادة السابعة عشرة) الملاحظون يشترط فيهم أن يكونوا أقوياء البنية

ويفضل أولاً من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن ثم من يقرأ ويكتب فقط.

(المادة الثامنة عشرة) الخازن يشترط فيه أن يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.

(المادة التاسعة عشرة) المؤذنون يشترط فيهم مثل الملاحظين، ولا يمنع فَقْد

البصر من التوظيف بوظيفة المؤذنين.

(المادة العشرون) يشترط في الخَدَمة أن يكونوا سليمي البنية وأوجه التفصيل

تسري عليهم، وهي المذكورة في الملاحظين.

أحكام عمومية:

(المادة الحادية والعشرون) عدد الموظفين ومرتباتهم في كل مسجد يكون على

حسب الجدول الذي قرره المجلس وأرفق بهذا.

(المادة الثانية والعشرون) إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في عدد

الموظفين عما هو وارد في الجدول فيعطى للزائد ما هو مقرر له بشرط الواقف فقط،

كذلك إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في مرتب أية وظيفة عما هو وارد في

الجدول فتعطى الزيادة بحسب شرط الواقف.

باب توزيع العلاوات:

(المادة الثالثة والعشرون) يلاحظ في إعطاء العلاوات على حسب الترتيب

الجديد في كل مسجد أن لا يتجاوز مجموعها مع ما هو جار صرفه الآن مجموع ما

يخصه على حسب هذا الترتيب:

يبدأ في التوزيع لكل وظيفة على الوجه الآتي:

أولاً: الأئمة الحائزون لدرجة العالمية أو الشهادة الأهلية أو الذين يحصلون

على إحدى هاتين الشهادتين بعد الآن.

ثانيًا: من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن من الملاحظين والمؤذنين والخدمة ثم من

يقرأ ويكتب فقط منهم.

ثالثًا: الخازن الذي يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب.

وحيث إن مبلغ الأحد عشر ألف جنيه لم يكن مقررًا فقط لمساجد القاهرة، بل

لمساجد عموم القطر فيشترط أن لا يزيد مجموع هذه العلاوات هذه السنة في مدينة

القاهرة عن سبعة آلاف جنيه فإن زاد يقطع من كل وظيفة بنسبة الناقص.

إذا بقي شيء من مبلغ سبعة الآلاف جنيه بعد التوزيع على الوجه المشروع

فيما سبق فهذا الباقي يوزع على من يتلوهم ممن هم حائزون لشروط هذا الترتيب.

ومع ذلك إذا خلت في مسجد وظيفة زائدة عن المقرر في هذا الترتيب يوزع

مرتبها لتكملة مرتبات موظفي ذلك المسجد الذي تنطبق عليهم قواعد هذا الترتيب من

جهة العدد المرتب وشروط التوظف.

(المنار)

قد تركنا الجدول الملحق بهذه اللائحة لبيان المستخدمين والمرتبات لهم على

حسب الترتيب الجديد؛ لأنه لم يعمل به، وإنما العمل بالجدول الملحق بالمذكرة الآتية

المبنية على اللائحة الأولى، ولكنها دونها في الفائدة والإصلاح، وهي:

مذكرة

مرفوعة إلى مجلس الأوقاف الأعلى

يعلم حضرات أعضاء المجلس حالة خدمة المساجد وفقرهم وقلة المرتبات

المقررة لهم مقابل خدمة هذه المحلات الطاهرة، وقد ترتب على اهتمام الديوان بشدة

المراقبة في نظافة المساجد، وترتيب إنارتها وأدواتها أن صار أولئك الخدمة

مسئولين عن أعمال كثيرة ربما كانت سببًا للتضيق عليهم في السعي في الكسب

والارتزاق من الخارج، وقد كثرت شكاويهم لجانب المعية السنية وللديوان وعلى

لسان الجرائد المحلية من عدم كفاية مرتباتهم خصوصًا مع غلاء الأسعار في

الوقت الحاضر والتمسوا زيادتها لمساعدتهم في معايشهم وبالبحث في مرتبات هؤلاء

الخدمة تبين أنه عددهم في مساجد مصر وبولاق بلغ 1627 منهم 1360 رواتبهم

تنحصر بين الخمسين والخمسة وسبعين قرشًا فأقل، وهذه (مَاهِيَّة) لا

تنفع فردًا واحدًا في أمور معيشته، فكيف بهم وهم ذوو عائلات.

وحيث إن ميزانية الديوان وارد فيها مبلغ إحدى عشر ألف جنيه لزيادة ماهيات

خدمة المساجد ومخصص منه مبلغ سبة آلاف جنيه لتوزيعه على مساجد مصر على

الطريقة المذكورة في قرار المجلس الصادر بتاريخ 8 فبراير سنة 1904م عن

ترتيب المساجد.

وحيث إن هذا الترتيب صدر لنا أمر عال بتاريه 31 مايو 1904 بإيقاف

تنفيذه لحينما ينظر فيه بطرف جناب ولي النعم الأفخم.

وحيث إن ترك هؤلاء الخدمة بتلك المرتبات القليلة وهم يصيحون ويستغيثون

مما لا يليق بمصلحة خيرية تجود بالكثير من أموالها في وجوه البر والخير وعلى

الفقراء والمساكين وأجدر بها أن تفيض بشيء على من يقيمون شعائر الدين ويقومون

بخدمة تلك المحالّ الطاهرة.

فبناء على ذلك رأينا أن نضع مشروعًا لعلاوة تلك المرتبات، حتى إذا وافق عليه المجلس أنفذ وارتفع الضرر نوعًا عن أولئك المساكين وها هو:

الأئمة والخطباء:

حيث إن الأئمة والخطباء بالمساجد تختلف حالتهم بعضهم عن بعض فقد رؤي

تقييم مرتباتهم إلى ثلاث درجات:

الأولى: الأئمة والخطباء الحائزون لدرجة العالمية وماهية كل منهم أقل من

جنيهين ونصف شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بشرط أن الموجود منهم ولم يكن مكلفًا

بإعطاء دروس لتعليم العوام يكلف به مثل غيره لانتفاع العامة بالأمور الدينية.

الثانية: الأئمة والخطباء الحائزون لشهادة الأهلية وماهية كل منهم أقل من جنيه

وخمسمائة مليم شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بالشرط المتقدم ذكره.

الثالثة: الأئمة والخطباء الغير الحائزين لدرجة العالمية ولا لشهادة الأهلية

وماهية كل منهم أقل من جنيه واحد شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.

(المدرسون) المدرسون الموجودون في بعض المساجد من كان منهم ماهيته

أقل من جنيهين اثنين ونصف شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.

(مشايخ الخدمة) هؤلاء من كان منهم مرتبه أقل من جنيه ونصف يكمل إلى

هذا القدر.

(المؤذنون) من كان منهم ماهيته أقل من سبعمائة وخمسين مليمًا شهريًّا

تكمل إلى هذا القدر ما عدا المؤذنين في المساجد الشهيرة وهي الجامع الأزهر ومسجد

سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيدة فاطمة النبوية والسيدة سكينة

والإمام الشافعي والسلطان أبو العلا فتكون ماهية الواحد منهم جنيهًا شهريًّا.

(قراء السورة) هؤلاء من كان منهم ماهيته أقل من مائتين وخمسين مليمًا

شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.

(وظائف الخَدَمة) الخَدَمة مثل الوقّاد والكناس والبواب والملا وغيرهم من

كان منهم ماهيته أقل من سبعمائة وخمسين مليمًا شهريًّا تكمل إلى هذا القدر.

(متعهدو إقامة الشعائر) المتعهدون المكلفون بالصرف على بعض المساجد من جميع اللوازم ممن كان مرتبه أقل من جنيهين اثنين يكمل إلى هذا القدر.

وبناء على ذلك فالزيادة الممكن إضافتها على مرتبات هؤلاء الخدمة جميعهم بمساجد مصر وبولاق بحسب هذا الترتيب هي ما يأتي:

فمبلغ الستة آلاف وستمائة وثلاثة وثمانين جنيهًا هو اللازم زيادته على

ماهيات خدمة المساجد بمصر على الكيفية التي توضحت ونؤمل التصريح لنا بمبلغ

317 جنيهًا لتوزيعه بمعرفتنا على بعض الوظائف التي لم ينلها شيء من هذه القاعدة

بحسب ما نراه من الضرورة والأهمية فيكون المقتضي التصريح به من المجلس

مبلغ سبعة آلاف جنيه، وهو المخصص لمساجد مصر في القرار السابق.

بناء عليه قد تحررت هذه المذكرة للنظر وتقرير ما يتراءى.

(المنار)

قد نشرنا هذه المذكرة كما وصلت إلينا لم نصلح من لحنها شيئًا وهي مصرحة

بأن الترتيب الأول أوقف بأمر الأمير، وقد كنا ذكرنا هذا وذكرته بعض الجرائد في

وقته وبأن ما عرض في هذه المذكرة على المجلس الأعلى إنما يرفع الضرر عن

المستخدمين في المساجد نوعًا ما فهو جزء من الإصلاح المطلوب في تلك اللائحة،

ويفهم منها أن الرجاء غير مقطوع من تنفيذ الترتيب الأول الذي وضعه الأستاذ

الإمام، وما هي إلا كلمة من الأمير وفقه الله وقد نفذ، ولو كان في مسلمي مصر

عامة وعلماء الأزهر خاصة أمة تهتم بمصالح المسلمين العمومية وتسعى لها سعيها

لأكبروا أمر هذا الإصلاح الذي اقترحه المفتي، وأجمعت كلمتهم على استعطاف

الأمير والشفاعة عنده والإلحاح على جنابه في تنفيذ هذا الإصلاح الذي يحيي بيوت

الله تعالى ويعين على إقامة شعائر الدين على وجهها كما يرغب الناس في طلب

العلوم الدينية ويكون سببًا للانتفاع بها.

وقد ذكرت جريدة المؤيد أن جماعة من المستخدمين في المساجد شكروا للجناب

العالي إيقاف تنفيذ الترتيب الجديد لما فيه من الرحمة بهم ورعاية مصالحهم، وهذا

جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الترتيب يقضي باستبدال العلماء بالجاهلين في الإمام

والخطابة حالا فلا بد من عزلهم ووضع بعض علماء الأزهر في مواضع الخطباء

والأئمة الجاهلين منهم، وليس الأمر كذلك كما رأيت، وإننا نسأل الله تعالى أن يلهم

قلب الأمير تنفيذ الأصل كما ألهمه الرضى بهذا الفرع الذي لا يرفع الضرر كله.

وجملة القول: إن ما عرضه ديوان الأوقاف على مجلسه الأعلى في هذه

المذكرة قد أقره المجلس بعد تنقيح قليل كاشتراط بعض الشروط في وظائف الخدمة،

وصدر الأمر العالي بتنفيذه وسيكون مقدمة لتنفيذ الترتيب الأول إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 307

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌محاربة الوهم للعلم

أو تأثير السعاية في الدولة العثمانية

زار القطر المصري في ربيع هذا العام الحاج محيي الدين بك حمادة فنزل

ضيفًا عند صهره الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم عند ابن أخيه خليل

باشا حمادة في الإسكندرية، وكان الغرض من هذه الزيارة صلة الرحم والاستراحة

من عناء العمل، ولما علم بقرب عودته إلى بيروت السعاة المحّالون الذين يطلق

عليهم لفظ (الجواسيس) في عرف هذا العصر كتبوا إلى (المابين الهمايوني)

يَشُون به، وقد شاع أن مما كتبوه أن هذا الرجل الجليل البعيد عن السياسة بجميع

معانيها يحمل فتوى من صهره بوجوب خلع السلطان، ويحمل كتبًا ضارة يريد

توزيعها في سوريا وقد بلغنا أنه كتب من (المابين) إلى أمير مصر سؤال عن

الحاج محيي الدين وأين نزل وماذا يفعل؟ وأن الأمير ذكر ذلك لخليل باشا حمادة

وأخبره بأنه أجاب (المابين) أحسن جواب وأثنى على الحاج محي الدين ولكن ذلك

لم يغن شيئًا.

ولما عاد الحاج محيي الدين إلى بيروت، وكان ذلك بعد سفر الأمير إلى الآستانة

قبض عليه عند نزوله إلى البلد وأخذ إلى دار الحكومة وفتشت أمتعته وجميع ما

يحمله فلم يروا فيها شيئًا يثير عليه شبه السياسة إلا تفسير جزء (عم يتساءلون)

وأسماء جماعة من فقراء بيروت بإزائها أرقام. فأما التفسير فقد أرسل إلى لجنة

التفتيش بديوان المعارف فقرئ فقيل: إن فيه عبارة ضارة وهي تفسير لفظ الزبانية

في سورة (العلق) بالشرط وأعوان الولاة، على أن هذا التفسير يوجد في جميع كتب

اللغة وكتب التفسير، فلا يبعد أن يمنع دخولها إلى الممالك المحروسة إذا دامت الحال

على ما هي عليه الآن، وأما أسماء الفقراء وما جمع باسمهم من الصدقات فلعل

الحكومة المظفرة المنصورة ظنت أن الغرض منها تأليف حزب للقيام بعمل سياسي

ثم علمت أن الحاج محيي الدين رجل معروف بالبر وعمل الخير يصمد إليه الفقراء

والمعوزون المتعففون وأن ثروته لا تفي بإسعاف كل من يقصد إليه فاغتنم فرصة

وجوده في قطر إسلامي غني للاستعانة بكرام أهله على ما يطلب منه لا سيما لعيال

بعض العساكر الذين يخشى أن يلجئهم العوز إلى الثورة فعمله هذا خدمة جليلة لدولته

ولوطنه. على أنه لولا تداخل سفارة إنكلترا في الآستانة في أمر هذا الرجل لظل

ضيف الحكومة العادلة ولكنه أفرج عنه بأمر السلطان.

الحاج محيي الدين حمادة رجل وجيه عند جميع طبقات الناس من جميع الملل

في بيروت وغيرها، ومحترم عند الحكومة ومشهور بالاستقامة والتقوى والإخلاص

للدولة وقد ناهز الثمانين أو زاد عليها ولم يزن بريبة سياسية ولا غير سياسية، فسماع

حكومة الآستانة لقول مفسد دنيء فيه، ومعاملتها إياه بمثل تلك المعاملة قد نفخ

الرعب في قلوب أهل ولاية بيروت من الرجا إلى الرجا؛ لأن سماع الوشاية في

مثل هذا الرجل ممن لا قيمة لهم يقتضي أن يسمع مثلها في كل أحد وما من أحد إلا

وله عدو أو أعداء لا يأمن أن ينتقموا منه بورقة يكتبونها. وإذا كان القبض على

الحاج محي الدين حمادة قد أظهر فضله وشرفه باهتمام الناس بأمره وإقبال وجهاء

جميع الطوائف على زيارته وتداخل سفارة إنكلترا بطلب الإفراج عنه فغيره لا

يرجو مثل هذه العناية والحفاوة، وما كل الناس كأهل بيروت في الجرأة والإقدام.

حمل هذا الرعب بعض أهل الحذر في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها

من البلاد على إخفاء كتبهم أو على إحراقها بالنار وما عتم أن ظهر أن الحذر كان

غيدرًا (الغيدار هو من يظن سواءً فيصيب) فإن الوشايات كثرت وأنشأت الحكومة

تدمرعلى بيوت الناس (دمر دخل بدون استئذان) وتأخذ جميع ما فيها من الكتب

والأوراق إلى دار العدل والإنصاف وتقبض على من وقعت عليه الشبهة من أهلها

وتحبسه؛ لترى ما يستحق من العقوبة على اقتناء الكتب التي تسميها ضارة أو

ممنوعة، ومن يعرف ما يسمونه ضارًّا أو ممنوعًا ومعرفته متوقفة على تعريفهم به،

وإعلانه للناس وهم يسرونه ويكتمونه إلا عند العقوبة.

بدءوا في طرابلس الشام ببيت الشيخ عبد الرحمن الكمالي فدمروا عليه في

داره وأخذوا كتبه وأوراقه وقبضوا على ولد له من طلاب العلم وحبسوه في دار

الحكومة وفعلوا هذا بآخرين. وكان من مثار الريب بل دلائل سوء القصد عند هذه

الحكومة أن وجدت في الكتب نسختين من صحيح البخاري فاستنبط من ذلك أن

صاحب الكتب قد أخذ على نفسه أن يوزع نسخ البخاري على الناس وذلك لا يكون

إلا بقصد سيئ يضر بالسياسة ويخشى منه الخطر على حكومة العدل والعلم والدين.

ووجدوا قصيدة في مدح رجل يسمى منصورًا فسئل من عنده القصيدة عن منصور

الممدوح أين هو؟ فقال: في جبل لبنان، قيل: كذبت، بل أنت تعني أميرًا في

مصر.

وقد أرسلت حكومة طرابلس وكيل المدعي العمومي (رئيس النيابة)

والمستنطق وبعض شرطتها إلى القلمون فدخلوا دارنا وأخذوا ما فيها من الكتب

والأوراق وقبضوا على شقيقنا السيد إبراهيم أدهم فأودعوه مع الكتب في دار

الحكومة مهد العدل والأمن، وإننا ننتظر ما يكون بعد ذلك من حسن معاملتها لآل

بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخلوا دار علي كسن من القلمون؛ لأن

له ولدًا مجاورًا في الأزهر، ولا أدري ماذا وجدوا فيها ولعلهم لم يجدوا شيئًا، وقد

وقع مثل ذلك في بيروت حتى أن حكومتها فتشت مطبعة الإقبال ومكتبة الإنسي

وأخذت ما فيهما من الكتب للبحث فيها.

لعل من يعتقد أن آفة السلطة المطلقة العلم، يظن أن خوف الناس ورعبهم من

الكتب وتوقعهم العقاب الشديد على اقتنائها آية نجاح هذه السلطة، وقد يكون هذا

الظن ضد الحقيقة فإن مقاومة العلم وإهانة أهله ربما كانتا سببًا في إيقاظ الأذهان

النائمة وإشهاد الأبصار المغضية ما لم تكن تشاهده من مضرات هذه الحكومة بل قد

تكون سببًا لإحفاظ قلوب جميع طبقات الأمة على هذه الحكومة، ومتى حقدت الأمة فلا

يلبث مرجل حقدها أن ينفجر بحوادث الزمان مهما كانت صاغرة مستسلمة وجاهلة

بطرق تغيير الحكومات وقلب الدول. فإن لم تكن لدى حكومتنا عبرة بالأمة الروسية

التي يكاد تعظيمها للقيصر يكون عبادة حقيقية فلتعتبر بالأمة المصرية -التي هي أشد

الأمم استسلامًا للحكام- كيف ثارت في وجه توفيق باشا الذي كان ألين أمراء هذا

البيت عريكة وأبعدهم عن القسوة والطغيان.

إننا نعلم علم اليقين أن أهل سوريا لا يتفكرون في مسألة الجنسية المشئومة ولا

يخطر على بالهم أن يسعوا للاستقلال ويجعلوا حكامهم منهم وأبعد من هذا عن

أذهانهم التفكر في الاتصال بسائر البلاد العربية على أن يكونوا جزءًا من مملكة

عربية مستقلة وإنما أقصى أمانيهم أن تكون حكومتهم العثمانية عادلة معينة لهم على

العلم والترقي، ولكن لا يوجد أحد من البشر يضطهد على فكره واعتقاده ويسلب

الأمن فلا يدري متى يهجم عليه في بيته ويروع به أهله وعياله، ثم يكون راضيًا

من المضطهِدين لا يحب زلزالهم ولا يتمنى زوالهم ولا يسعى في ذلك متى وجد

طريقًا للسعي.

إن هذا الهجوم على البيوت ومؤاخذة الناس على ذنوب لم تكن ذنوبًا إلا

باختراع مخيلات الظالمين ككون الرجل يملك من الكتاب الفلاني نسختين وكونه

يقتني الكتاب الفلاني، وأن سماع الحكام لأقوال الجواسيس والسعاة في مثل ذلك،

كل ذلك يعد من سوالب الأمن، فكل أحد يتوقع في كل ساعة من ليل أو نهار أن

يفاجأ بما فوجئ به سواه.

ارفقوا أيها الحكام المسلطون بهؤلاء الضعفاء الذين مكنكم من ظلمهم تفرّقهم

وما فرقهم إلا عدم وجود ألم شديد عام يجمعهم، فربما كان ظلمكم إياهم هو الجامع

لكلمتهم عليكم. ارحموا فإن الرحمة خير لكم على كل حال، وقد تكون القسوة نافعة

لهم ضارة بكم ولو بعد حين. لا تعلموا الناس ما لم يكونوا يعلمون ولا تذكروهم بما

لم يكونوا يذكرون، واتقوا الله إن كنتم به تؤمنون.

_________

ص: 315

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حذر حكومة مدينة حلب من الثورة

من أخبار حلب أن الحكومة السَّنية أرسلت شرذمة من زبانيتها ليلاً إلى سوق

الباذستان، وهي التي تباع فيها العاديات والأمتعة المستعملة، وفيه كثير من الأسلحة

العتيقة، فأحاط الزبانية بمائة دكان، وأرسلوا إلى أصحابها فحضر بعضهم وفتحوا لهم

دكاكينهم فأخذوا ما فيها من السلاح، ومن لم يحضر كسروا دكانه وأخذوا ما فيها

فاعتقد الناس أن الحكومة خائفة وجلة من رعيتها تحذر أن يقتدوا بالروسيين فيقوموا

عليها طالبين تغيير شكل الحكومة المطلقة وإقامة العدل وإباحة العلم وإطلاق الحرية

للناس، ولولا هذا العمل لم يكن يخطر ببال أحد شيء من ذلك.

ونحن نعتقد أن هذه الأعمال سيندم عليها فاعلوها؛ إذ تأتي بضد ما أرادوا منها

وسيظهر لهم ذلك إذا استمروا عليها، وإننا نود من صميم قلوبنا أن تترك دولتنا

محاربة رعيتها وتنزع من ذهنها وساوس الجرائد الإفرنجية التي تخدعها بإيهامها أن

البلاد مستعدة للخروج عليها لتصرفها بذلك عن اغتنام فرصة انكسار روسيا واشتغال

أوربا بالمنازعات لإصلاح بلادها. وقد نصحنا للدولة مثل هذه النصيحة في فتنة

نجد فظهر صدق قولنا، وتبين بعد الحرب والخصام أن اللين في المعاملة هو الذي

يأتي بالخير ويجمع الكلمة والله الموفق.

_________

ص: 318

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجمعية الخيرية الإسلامية

تنشر هذه الجمعية في كل عام تقريرًا تلخص فيه أعمال مجلس إدارتها في

السنة الماضية، وتذكر فيه ميزانيتها ومشروعاتها للسنة القابلة بعد أن تعرض ذلك

على الجمعية العمومية التي تجتمع في شهر المحرم، وقد حضرنا الاجتماع في هذا

العام ثم أرسل إلينا التقرير بعد طبعه فأرجأنا الكلام فيه إلى الآن.

علم من التقرير أن عدد تلامذة مدارس الجمعية في مصر والإسكندرية وطنطا

وبني مزار وأسيوط والمحلة وبور سعيد 766 تلميذًا منهم 469 يتعلمون

على نفقة الجمعية و 297 تلميذًا يتعلمون على نفقة أنفسهم. وقد بلغ ما أنفقته

الجمعية على مدارسها في السنة الماضية 4639 جنيهًا وكسور الجنيه، وبلغ ما

أخذته من الأجرة على التعليم فيها 842 جنيها ونصف تقريبًا.

وقد بلغ ما حَصَّلته الجمعية من الاشتراكات السنوية في السنة الماضية 1353

جنيهًا؛ لأن المشتركين قد زادوا 80 عضوًا والمساعدين زادوا 20 عضوًا فصار

عدد الأعضاء 518 شخصًا والمساعدين 100 وقيمة اشتراكهم السنوي يبلغ

1836، ولكن منهم من يشترك ويمطل في الدفع، ومنهم من لا يدفع ما يفرضه على

نفسه حتى تيأس الجمعية منه ويأمر الرئيس بمحو اسمه، ولو اتكلت هذه الجمعية

على كرم أغنياء البلاد ومروءتهم لسقطت منذ سنين كما سقط غيرها من الجمعيات

الأدبية والخيرية التي أُسست في هذه البلاد قبلها وبعد تأسيسها، ولكن مؤسسيها

الحكماء قد عرفوا أخلاق أهل بلادهم ودرجة سخاء أغنياهم وثبات أهل بلادهم

فوضعوا في قانون الجمعية مادة لولاها لم تقم للجمعية قائمة وهي أن نصف الإيراد

يجعل للاستغلال والنصف الآخر يصرف على التعليم وإعانة الفقراء، فانظر كيف

صارت على قلة المشتركين فيها تنفق على التعليم وحده أضعاف ما يأتي من

الاشتراك ببركة تلك المادة.

وقد يتعجب الغريب إذا علم أن الجمعية الخيرية الإسلامية الوحيدة في أغنى

الأقطار الإسلامية لم يشترك فيها من نحو عشرة آلاف ألف مسلم إلا 518 وأن أعظم

مبلغ دخل في خزينتها من هؤلاء المشتركين في السنة الماضية لم يزد عن ربع نفقات

الجمعية على التعليم إلا قليلاً، ولكن المصريين الفضلاء العقلاء يرون أن هذه خطوة

كبيرة بالنسبة لضعف الأخلاق في بلادهم وأنه لولا عناية الشيخ محمد

عبده ونفوذه الديني والأدبي ومساعدة أعضاء الجمعية الوجهاء له لما وصلت

الجمعية إلى عشر هذا القدر بأريحية أغنياء القطر وشعورهم الملي والاجتماعي.

فأهل مصر لا يعوزهم إلا الأخلاق كالكرم الحقيقي والثبات والعزيمة، فإذا كثر فيهم أصحاب هذه الأخلاق فانهم ينهضون بذكائهم وثروتهم في زمن قريب.

أما ما أنفقته الجمعية في سنة 1322هـ على الفقراء فنحو 430 جنيهًا، والناتج

لقسم إعانة الفقراء من صافي الإيرادات العمومية بلغ خمس مائة جنيه وثلاثة

جنيهات تقريبًا. ومعظم إيراد الجمعية من أطيانها ومن الاحتفال السنوي في حديقة

الأزبكية، وقد بلغ ما وصل إلى الصندوق من هذا الاحتفال في العام الماضي 1557

جنيهًا.

ولو كان أصحاب الجرائد وأهل الغيرة على الأمة والبلاد يقومون بالدعوة إلى

هذه الجمعية على وجهها لكثر المشتركون والمساعدون والمتبرعون، ولقدرت

الجمعية بذلك على أن تخدم البلاد خدمة لا ترجى من سواها بمال أكثر من

مالها؛ لأن رئيسها ووكيلها والعاملين من أعضاء إدارتها هم خيرة من أنبتت أرض

مصر في هذا العصر وهم يخدمون الجمعية بقدرة وهمة وإخلاص بأموالهم وأنفسهم،

فعسى أن يوفق الله من أراد به الخير إلى هذه الدعوة الصالحة.

_________

ص: 319

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوفدان الفرنسي والألماني

في بلاد العرب

ذكرنا في الجزء الماضي خبر هذين الوفدين كما أخبرنا بعض العربان النجديين

في مصر، ثم إن المخبر أحفى واستقصى فعلم أنه لا وفد إلا الوفد الفرنسي، وأن

أعوانه كانوا يشترون المصاحف والكتب باسم وفد ألماني تورية أو تعمية، وأن وجهة

الوفد نجد من طريق العقبة، وأنه قد سمع أن الحكومة العثمانية قد علمت بالوفد

فانتظرت ريثما دخل في حدود بلادها فردته على أعقابه، وإننا ننتظر التفصيل

في ذلك ولعلنا نقف عليه بعد أيام.

_________

ص: 319

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌جمعية العروة الوثقى الخيرية

أسست هذه الجمعية لأجل نشر التعليم في الإسكندرية فنجحت بهمة أعضائها

الكرام من وجهاء الثغر الإسكندري حتى صار لها خمس عشرة مدرسة: تسع منها

للذكور عدد تلاميذها 1578، وست للبنات عدد تلميذاتها 549، وكان عدد المجموع

في السنة الدراسية الماضية 1575 منهم 911 يتعلمون بأجرة و 664 بغير أجرة،

والمجموع في هذه السنة 2127 منهم 1126 بأجرة و 1001 بلا أجرة، فنرجو لهذه

الجمعية مزيد من النجاح ولعلنا نعود إلى ذكرها في فرصة أخرى.

_________

ص: 320

الكاتب: مسلم غيور

‌المسلمون والقبط [*]

أو آية الموت وآية الحياة

قرأنا في جريدة الوطن القبطية مقالة عنوانها (التعليم الديني والحكومة) بحث

فيها كاتبها في مشروع الحكومة الجديد من إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية

بحثًا قال فيه: إن الحكومة المصرية رأت أن هؤلاء الحفاظ كثروا في هذه الديار كما

كثر الرهبان والشمامسة والقسيسون في كل بلاد نصرانية تعامل خَدَمة الدين معاملة

الحكومة المصرية لهم فأرادت حكومة مصر أن تخص هذا الإعفاء بمن يستحقه،

أي وهو من يتعلم من مبادئ القراءة والكتابة ما يمكنه من خدمة الدين بتعليم القرآن

الكريم وغيره مما يتعلمه الأولاد في المكاتب لا من يدعون أنهم يخدمون الدين والعلم

وهم أبعد الناس عن ذلك. قال الكاتب:

(وظاهر من هذا أن الحكومة المصرية أرادت أن تعلي قدر الدين الإسلامي

بما نوت من الإصلاح؛ لأنها رأت أن الإعفاء بلا تدقيق ولا حساب يجعل الدين

سلاحًا يتسلح به كل طالب للتخلص من الخدمة المفروضة على كل وطني فالذين

يتذرعون بهذه الذريعة ويجعلون أنفسهم من الفقهاء حبًّا في الخداع والتخلص من

خدمة الوطن وليس حبًّا بالعلم والدين، إنما يؤدي فعلهم إلى إسقاط حرمة الدين بين

الناس) إلى أن قال: (فحكومة مصر قصدت خدمة الدين بتنقية صفوفه من الذين

لا يصلحون لخدمته والاشتهار بين الناس باسمه وبإعادته إلى مجده الأول حين كان

العلماء والفقهاء (هم) الذين توفرت فيهم شروط العلم والفقه، وليس الذين هربوا من

واجب وطني وجعلوا الدين حيلة وواسطة للفرار منه) .

جعل الكاتب القبطي الغيور على ملته وقومه هذا الكلام مقدمة وتمهيدًا لمطالبة

الحكومة بأن تعامل خَدمة الدين من القبط كما تريد أن تعامل خَدمة الدين من

المسلمين بأن تشترط في إعفاء الشمامسة والعرفاء وغيرهم من خَدمة الكنيسة، أو

الدير من القرعة العسكرية أن يكونوا متعلمين من مبادئ القراءة والكتابة ما يجعلهم

محترمين في أعين المتعلمين، ويمكنهم من إحسان خدمة الدين. وقال: (إذا كانت

الحكومة تشترط عليهم مثل الذي تريد أن تشترطه على الفقهاء (أي: الحفاظ) فإنها

تحسن إلى الأمة القبطية أكبر إحسان وترقي في درجة الذين يخدمون دين النصرانية

بين رعاياها وهي تخطو خطوة كبرى في سبيل الإصلاح المطلوب للبطركخانات)

ثم أطال في بيان أعمال هؤلاء في خدمة ملتهم، وقال: (إن الأمة القبطية كلها

ألسنة صارخة بمطالبة الحكومة بهذا الإصلاح) .

قرأت هذه المقالة فكان يتمثل لي عند كل جملة منها ما كتب في (المؤيد) من

المقالات الطويلة العريضة والنبذ الموجزة في أخباره المحلية الصارخة بالتألم

والشكوى من مشروع الحكومة: إنه إهانة للدين والقرآن، وتحقير لخَدمة الإسلام،

وإنزال لهم عن مرتبة خَدمة النصرانية في الاحترام، إذ لا تشترط الحكومة في

إعفاء القساوس والرهبان والشمامسة ونحوهم معرفة بالقراءة والكتابة ولا بمبادئ

الحساب ولا بإتقان ما يقرءون من كتب الدين، وتمثل لي بالمقابلة بين ما تشكو منه

الجريدتان الفرق بين آيات الموت وآيات الحياة، الجريدة الإسلامية تشكو من العلم

وتعده إهانة لدينها وهضمًا لحقوق حملة كتابه، وذلك أظهر آيات موت الأمم إن

كانت الأمة على رأي المؤيد أو راضية بقوله وقول من شايعوه على ذلك. والجريدة

القبطية تشكو من الجهد وتعد إقرار خدمة دينها عليه إهانة لهم وتقصيرًا من الحكومة

في مساواتهم بالمسلمين في العناية بدينهم وإعانتهم على إصلاح قومهم وذلك أظهر

آيات الحياة والطائفة القبطية على رأيها لا محالة.

عجبًا للمؤيد يذكر كل سنة في الكلام على نتيجة الامتحان في المدارس سبق

القبط للمسلمين في التعلم؛ إذ المشتغلون والناجحون من الأولين أكثر منهم في

الآخرين ويظهر التبرم والشكوى من ذلك فما باله قام يحارب العلم والتعليم في

مشروع حفظ القرآن ومشروع الكتاتيب؟ إن كان لا يعرف فضيلة العلم لذاته قل أو

كثر، بل يعرفه بميل القائمين بأمر البلاد أو عدمه فيذم ما رغبوا فيه ويمدح ما

رغبوا عنه فليسكت عن الشكوى من قلة المتعلمين من المسلمين؛ لأن جناب اللورد

كرومر الذي بيده أزمّة البلاد يشكو من ذلك في تقاريره كل عام.

إن رغبة القبط فيما يزعم المؤيد أن المسلمين يرغبون عنه، وبكاء الجريدة

القبطية على ما تبكي منه الجريدة الإسلامية هو أدل على الفرق البعيد بين الفريقين

من كثرة عدد المتعلمين في أحدهما وقلته في الآخر؛ لأن الرغبة عن العلم والبكاء منه

أدل على موت الأمة من ترك الكثيرين له؛ إذ يجوز أن يكون الترك لعذر غير

الكراهة والتنوُّر [1] .

كذلك الرغبة في العلم وطلبه والبكاء من فقده أدل على الحياة من مجرد القيام

به من أفراد كثيرة)

إلخ.

...

...

...

...

(مسلم غيور)

(المنار)

إننا لم نقرأ كل ما نشره المؤيد في هذه المسألة ولكننا قرأنا بعضه فلم نره

صوابًا، وفي هذه المقالة حدة في الإنحاء عليه قد استثقلناها فحذفناها ومقصودنا

بالذات المقابلة بين المسلمين والقبط في هذا الأمر لا سيما بعد أن مضى زمن على ما

نشرته جريدة الوطن القبطية؛ فلم نر من القبط من انتقده وما حذفناه ليس منه، وقد

بينا رأينا في المسألة معززًا بالدلائل والبراهين.

_________

(*) أشرت في مقالة (حياة الأمم وموتها) التي نشرت في الجزء الثاني من هذه السنة إلى الفرق بين المسلمين والقبط في العناية بالمعارف وطالما عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين والنصارى عامة، ثم أرجأتها وقد نشرت من عهد قريب مقالة في المقطم تتعلق بالموضوع خاصة بمسألة إعفاء حفاظ القرآن من القرعة العسكرية بإمضاء (مسلم غيور) فأحببت نشرها هنا لما فيها من الذكرى والاعتبار.

(1)

التنور هنا لا معنى له فهو تحريف حتما.

ص: 321

الكاتب: محمد توفيق صدقي

الدين في نظر العقل الصحيح

محمد توفيق صدقي

(1)

قرأت في إحدى المجلات العربية مقالة بقلم أحد طلبة المدارس العالية، ذكر

فيها شيئًا من المذهب المادي في مصير الإنسان وأصله، وتبجح بأن هذا هو معتقده

وأن لا حق بعد ذلك، ولما كانت هذه الأفكار وأمثالها مما يخالج قلوب شبابنا اليوم؛

حتى صار جمهورهم لا يعبأ بعقائد الدين، ويظن أنها ضرب من أساطير الأولين لا

حاجة لعصرنا الحاضر بها تحركت نفسي لكتابة شيء في هذا الموضوع بعد عمل

الفكر وإحالة النظر في أطرافه، وجعلت اعتمادي فيما أقول على البراهين العقلية

الصحيحة التي تنتهي إلى البديهيات بحيث لا تجد فرقًا بينها وبين البراهين

الرياضية؛ لتكون أعظم مؤثر في قلوبهم، وليعلموا أن الدين في حججه يفوق المادية

في نظرياتها وأوهامها. ولإيفاء المقام حقه رأيت أن أبدأ بذكر حكم العقل في المادة

من جهة تركيبها، وتحليلها، وأصلها من حيث الحدوث والقدم، ثم أنتقل إلى

براهين وجود الخالق وما يليق به من الصفات، ثم أتكلم عن الروح والبعث، وأختم

كلامي بأدلة النبوة عمومًا، والمحمدية خصوصًا، وبذلك يتم الاعتقاد الإسلامي،

ويكون الإنسان مؤمنًا بالله واليوم الآخر والنبوة وما أتت به.

المادة وتركيبها:

الأجسام التي نراها شاغلة حيزًا من الفراغ تقبل القسمة إلى أجزاء أصغر منها

وكل جزء يقبل القسمة إلى ما هو أصغر منه، وهكذا فإذا استرسل العقل في القسمة،

فإما أن يقف عند حد أو لا يقف، فإن لم يقف كان ذلك قولاً بأن كل جسم أخذناه

بيدنا وحصرناه بين أصابعنا مركب من أجزاء لا نهاية لها وهذه الأجزاء مهما صغرت

فلا يمكن أن تحصر لعدم تناهيها. لكن هي محصورة بالحس؛ إذًا هذا الفرض باطل.

بقي القول بأن العقل لا بد أن يقف عند حد في القسمة، فهذا الحد إما أن يكون

له امتداد أو ليس له امتداد، فإن كان له امتداد فالعقل يتصور قبوله للقسمة ونرجع

إلى ما قلناه في الشق الأول: إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له. وإذا ثبت هذا

علمت أن جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقًا ولكن لها وضع معين

فهي مثل النقط الهندسية، وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية. هذه

الأجزاء هي ما نسميه بالجواهر الفردة ويسمي حملتها الماديون (بالمادة) أو

(الأثير) وقالوا: إن اجتماع بعضها ببعض على أوضاع مختلفة وبأعداد مختلفة قد

نشأت عنه العناصر الأصلية، فيجوز أن تكون كل ذرة من الأوكسيجين مركبة من

جوهرين مثلا والذرة من عنصر آخر مركبة من ثلاثة أو أربعة وباتحاد العناصر

المختلفة بعضها ببعض تكونت المركبات، وسواء صحت هذه النظريات أو لم تصح

فالشيء الذي لا شك فيه هو وجود الجوهر الفرد وأنه الجزء الذي لا يتجزأ ومنه

تركبت الموجودات.

حدوث المادة:

قلنا: إن الجوهر الفرد هو ما ليس له امتداد، وله وضع معين وهو شيء

وُجودي كل ما كان له وضع معين فالعقل يتصور جواز انتقاله من موضع إلى آخر

وهذا الانتقال هو الحركة، فلو فرضنا أن الجوهر الفرد قديم لتصور العقل إمكان

تحركه من مكان إلى آخر، ولو أمكن ذلك لأمكن وجود حركات في الأزل لا أول لها

وهذا محال؛ لأنه يستلزم جواز تحرك الجوهر حركات لا عدد لها قبل كل حركة،

وكونها لا عدد لها يستلزم أنها لا تحصر، ولا تدخل تحت عد وإتيان الجوهر الفرد

بها يدل على أنه يمكن عدها وعد ما لا يعد تناقض بديهي البطلان؛ إذا ثبت أن

الجوهر لا يجوز أن يتحرك في الأزل، لكن جواز تحركه من لوازم ذاته بحيث لا

يتصور وجوده بدون ذلك الجواز، وحيث إن فرض وجوده في الأزل يؤدينا إلى

المحال، وما يؤدي إلى المحال محال ثبت أنه لا يمكن أن يكون موجودًا في

الأزل، أي إنه حدث بعد أن لم يكن.

وجود الواجب:

يقسّمون المعلوم إلى قسمين: واجب لذاته، وغير واجب لها، فالواجب لذاته

هو ما كان وجوده من لوازم ذاته بحيث لا يمكن أن ينفك عنها. وغير الواجب

قسمان: موجود بالفعل، وغير موجود. وغير الموجود قسمان: جائز وجوده،

ومستحيل. والمستحيل: هو ما لا يمكن وجوده، فكل موجود إما أن يكون واجبًا أو

جائزًا ولا ثالث لهما، أما الواجب فسبق تعريفه وأما الجائز فهو ما جاز عليه الوجود

والعدم ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح، إذا عرفت هذا فنقول:

الجوهر الفرد موجود فإما أن يكون واجبًا أو جائزا لا يمكن أن يكون واجبًا؛

لأنه قد ثبت أنه كان معدومًا في الأزل، والواجب لا يمكن أن ينفك عنه الوجود لا

أزلا ولا أبداً، إذًا هو جائز والجائز لا يمكن أن يرجح وجوده على عدمه إلا بمرجح

والمرجح لا يمكن أن يكون سوى الواجب إذ لم يبق سواه غير المستحيل، إذًا

الواجب موجود قطعًا.

أحكام الواجب:

قد سبق أن الوجود لا ينفك عنه أي: إنه قديم باقٍ، فلا أول لوجوده ولا آخر

له وهذا بمقتضى التعريف السابق. ومن أحكامه أنه ليس له وضع معين ولا جهة

يشار إليه فيه وإلا لتصور العقل جواز تحركه ولو جازت عليه الحركة لكان حادثًا،

ولو كان حادثًا لما كان واجبًا، وحيث ثبت أنه لا وضع ولا جهة له ثبت أنه لا

امتداد له وإلا لشغل حيزًا من الفراغ وتعين له الموضع والجهة.

إذا عرفت هذا علمت أنه لا يجوز عليه الحلول ولا الاتحاد ولا التجسد؛ لأنه

لو حلّ أو اتحد بجسم المسيح على مذهب أو تجسد وظهر بصورة المسيح على

المذهب الآخر كما يقول النصارى لوجبت له الحركة وإلا لما كان للحلول والاتحاد

والتجسد معنى حقيقيًّا تعالى الله عن أن يظهر في مخلوق أو يتصور بصورته.

ومن أحكامه التفرد بالوجود؛ لأنه لو كان هناك واجبان فأكثر وخلق أحدهما

جائزًا من الجائزات فإما أن يبقى الآخر قادرًا على خلق هذا الشيء بعينه أو غير

قادر، فإن بقي قادرًا أمكنه تحصيل الحاصل وهو محال؛ لأنه يستلزم أن يكون

للشيء الواحد وجودات متعددة، وإن لم يبق قادرًا زالت قدرته القديمة عن بعض

الأشياء، والقديم لا يزول؛ لأن قدمه إما أن يكون لذاته أو لشيء آخر قد اقتضى

وجوده، فإن كان قدمه لذاته فلا يمكن أن يزول من الذات ما هو لها وإن كان لغير

ذاته فما دام المقتضي موجودًا فلا يمكن أن يزول المقتضى.

هذا واعلم أن قول النصارى: إنه واحد في الذات،ثلاثة في الأقانيم - مُحال

لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة، فالأول يمتاز بخاصية

الأبوة، والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد، والثالث بالانبثاق، وأن الامتياز بينهم

حقيقي بحيث إن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر. إذا عرفت هذا أقول

الشيء الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته، وإذا ثبت لذاته فهو

ثابت لذات الله تعالى، وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت للأقنوم الآخر وإذا لم

يثبت له لم يثبت لذاته، وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات الله وعليه يكون الشيء

الواحد ثابتًا للذات وغير ثابت لها، فمثلاً: إذا قلنا: إن الابن حلّ أو تجسد أي إن

ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة، ولكن الآب لم يحلّ ولم

يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد، وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة وغير

حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان.

بقي عليّ أن أذكر كلمة صغيرة في القدرة قبل ترك هذا الموضوع وهي أنها لا

تتعلق بالمستحيل. وخلق حوادث في الأزل مستحيل؛ لأنه يستلزم وجود حوادث لا

أول لها وهو باطل وعليه فالقدرة الأزلية لا توجد الحوادث إلا في غير الأزل،

والأزل لا يمكن العقل تصوره فهو ليس مركبًا من لحظات لا أول لها؛ لأن ذلك

أيضًا باطل فلم يكن ثَمَّ دهر ولا زمان بخلاف ما إذا فرضنا أن الجوهر الفرد قديم

فإنه يستلزم جواز وجود الحركات في الأزل وذلك يستلزم تعاقبها وتعاقبها يستلزم

وجود الزمان، أما خلق الحوادث في غير الأزل فلا يستلزم وجود لحظات متعاقبة

ولا وجود متجددات في الأزل.

والخلاصة: أن الواجب قديم باق قدير متفرد بالوجود ليس كمثله شيء، وهو

السميع البصير.

الروح والبعث:

عناصر الجسم الكيماوية معروفة ومشهورة وعناصره (الهستولوجية) هي ما

يسمونه بالخليات، وكل خلية حية بذاتها بحيث يمكن بقاؤها حية بعد انفصالها عن

الجسم مدة من الزمن، وتأتي من الأعمال مثل ما تأتيه في الجسم؛ فمثلاً كرات الدم

البيضاء إذا فصلت عن الجسم ووضعت في وسط مناسب لحياتها تبقى حية مدة

فتتحرك وتتغذى وتنقسم، وليس الأمر قاصرًا على الخليات، بل ما تركب منها من

الأعضاء والعضلات وغيرها؛ وإذا فصل من الجسم يبقى حيًّا مدةً؛ فمثلاً: قلب

الضفدعة يستمر على ضرباته بضع دقائق، وكذا العضلات الأخرى من الجسم

تنقبض وتنبسط إذا نبهت، ثم إن جميع وظائف الجسم وحواسه ومدركاته لها مراكز

مخصوصة في المخ والنخاع الشوكي؛ بحيث إذا أتلف هذا المركز بطلت الوظيفة،

وبين المراكز والأعضاء اتصال بالأعصاب الحساسة والمحركة؛ ولهذه الحقائق

المحسوسة ظن الماديون أن لا معنى للقول بالروح؛ إذ لا أثر لها في الحياة ولا في

غيرها ولو كان هناك شيء يليق أن يسمى روحًا، فالمخ أولى الأشياء بهذه التسمية ثم

إنهم شاهدوا أن الجسم دائم في التغير والانحلال والتركيب بحيث إن جسم الإنسان

في بضع سنين يكون قد تغير كله وأتى بدله جسم آخر. وفسروا شعور الإنسان

بشخصه أنه لم يتغير طول حياته بأن الانطباعات والتأثرات المخصوصة في جوهر

المخ تتجدد في كل مادة. وبعد أن أنكروا ما يسميه علماء الأديان روحًا وأنه شيء

يقوم بذاته، ولا يتغير، وأنه ليس من مادة عالمنا هذا إلى آخره بعد أن أنكروا ذلك

ووجدوا أن جسم الإنسان بعد الموت ينحل ويدخل في تراكيب النباتات والحيوانات

الأخرى، ومن بينها الإنسان قالوا: إذًا البعث مستحيل؛ لأن الإنسان ليس له روح

مخصوصة تممتاز عن جسمه وليس جسمه ثابتًا له بل ربما دخل في جسم إنسان

آخر وعليه فالحشر روحيًّا كان أو جسديًّا ضرب من المحال.

هذا هو ملخص مذهبهم. والناقد البصير يرى أنه مبني على المحسوس

والمعقول إلا في نقطة واحدة هي محور غلطه ومركز شططه وهي قولهم: إن

شعور الإنسان بشخصه من أول العمر إلى آخره ناشئ عن الانطباعات المخصوصة

وتجدّدها في كل مادة تدخل في تركيب مخّه لا لشيء ثابت من أول الحياة إلى آخرها؛

إذًا لا علاقة بيني الآن وبين شخصي بعد بضع سنين سوى الانطباعات

المخصوصة المتماثلة في المادتين. أقول: المتماثلة؛ لأنها لا يمكن أن تكون هي

بعينها؛ لأنها أعراض لا قيام لها بذاتها ولا تنتقل من مادة إلى أخرى فكأنه بعد

مرور بضع سنين على الإنسان يعدم من الوجود ويوجد شخص آخر غيره ومع ذلك

يشعر كل بأنه هو الآخر بعينه لتماثل الانطباعات فيهما ولو سلمنا ذلك فلماذا لا يكون

البعث من هذا القبيل؟ وإذا وجد شخص آخر فيه مثل ما فيَّ من الانطباعات فهل

أشعر بأني أنا هو وهو يشعر بأنه أنا؟ وما الفرق بين هذه وتلك؟ وهل إذا عدم

أحدنا يشعر الآخر بإنه هو الأول بعينه؟ كلا، ثم كلا، إذاً لا بد أن يكون هناك

شيء ثابت في الإنسان من أول الحياة إلى آخرها وبه تتحقق شخصيته ويمتاز

وجوده وسواء كان هذا الشيء من عالمنا هذا أو من عالم آخر فلا يهمنا، وهذا

الشيء هو روح الإنسان وجوهره وحقيقته وحيث إننا لا ندري مكانه ولا كنهه فلا

يمكننا الحكم بأن يدخل في تركيب إنسان آخر، ولم لا يجوز أن يبقى محفوظًا إلى يوم

القيامة ثم يعاد في جسم جديد.

ولا عبرة بالجسم الأول المتبدل المتغير الداخل في تركيب غيرنا بعد انحلاله؛

فإن شخصية الإنسان لا تتحقق به ولا تتوقف عليه. إذا علمت هذا أيقنت أن للإنسان

روحًا بالمعنى المتقدم وكذا لكل حيوان له شعور بشخصه وأن ليس البعث ضربًا من

المحال بل هو من الجائزات، وسنأتي في مقال آخر بأدلة النبوة وصدق ما أتت به

وبعد ذلك نثبت بالبرهان النقلي وجوب البعث يوم القيامة.

...

...

...

...

... الإمضاء

...

...

...

محمد توفيق صدقي

...

...

...

...

الطبيب بسجن طُرى

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 330

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]

يوم 15 يولية - سنة - 186:

(فوائد الشدائد - بذل النفس للمحبوب أول الحب)

كان منا خرق وطيش كادت عواقبه تكون علينا خسارًا مبينًا ذلك أني و (أميل)

و (لولا) خرجنا عشية أمس نتنزه والساحل ممتطين أفراسًا فأوغلنا في مسيرنا

معتسفين، ولا يلبث الإنسان بأدنى بحث في شكل هذه السواحل الظاهري أن يدرك

أن البلاد نشأت من الزلازل الأرضية.

من أسمى الأفهام التي انتهت إليها حكمة العلوم الحديثة على ما أرى [1] إدراك

أن للناس فوائد فيما يُبتلون به من المصائب، فإن لها دخلاً عظيمًا في تكون العالم

المادي.

وما أدراك ما هذه المصائب؟ إذا رُجَّت الأرض رجًّا، وتولاها الاضطراب

عمَّ الفزع كل من على ظهرها ممن يشهدون زلزالها، ورأيت الحيوانات جافلة

حيرى لا تدري ماذا يراد بها.

وإن لمن شهد الزلازل من سكان هذه البلاد قصصًا عنها يروونها للأجانب

تحاكي قصص التوراة، فكأي من قرية كانت بالأمس عامرة سعيدة أصبحت خاوية

على عروشها، فلا يجد الباحث عنها في عرصاتها إلا أطلالاً بالية، ورسومًا دارسة،

وإذا انقضت الزلازل لم يكن للناس حديث مدة الشهر التالي لوقوعها إلا قصصها

المحزنة فمن رجال ذهبت عقولهم من الفزع، وأموال لعبت بها أيدي الضياع،

ونساء وأطفال وشيوخ خرت عليهم بيوتهم فخنقهم ردمها.

لا يسلم تاريخ هذه الرزايا من اختلاط القصص به، فمما يحكيه الناس هنا أنهم

شاهدوا في زلزلة ليلية على وميض البروق المشئوم أن الأرض قد انشقت وبرزت

هياكل قدماء الأنقين [2] من قبورها ثم عادت فغيبت في هذه المهاوي التي ما لبثت

أن التأمت عليها.

سكان شطوط المحيط في هذه البلاد أشد تعرضًا للمعاطب، فإن البحر في بدء

الزلزال يتقهقر عن الأرض كأن قد ملكه الذعر، ثم يعاود الكرة وقد هاج غضبه

واشتد صخبه ولجبه، وهنالك تنكسر أناجر السفن، وتنقطع سلاسلها، وتأخذها

أعاصير الماء فتدور بها دورانًا، وأما جسور المياه فإنها تستسلم لضغط الأمواج

فتفتح أبوابها للخراب والهلاك.

وللبيرويين من المعرفة الصحيحة بما لأرضهم التي استودعوها حياتهم وعيالهم

وآمالهم من ضروب الختل ما يجعلهم في عامة أوقاتهم على حذر منها، فتراهم لا

يذوقون النوم إلا غرارًا مستعدين على الدوام للهبوب من بيوتهم لأقل لغط أو أدنى

رجة سائلين ما الخطب؛ فإذا قيل زلزلة برزوا جميعًا.

على أن لهم بهذا القطر الذي تميد بهم أرضه كلف العاشقين لجماله وخصبه، فإنك

تجد في البقاع المزروعة منه حقول الذرة، وقصب السكر والقطن والفواكه

الأسبانيولية كالبرتقال، والليمون، والرمان، والتين، والزيتون قد ازدوجت بجميع

فواكه المنطقة الحارة كالموز والأناناس؛ فتلك الأرض المتزلزلة حبلى بالحياة فهي

تنمو وتعلو وتتنفس، ولا ينبغي أن ينقم منها أنها في عملها هذا تشوش نظام عمل

الإنسان أحيانا بما لها من صنوف التدمير وضروب التخريب.

الآثار والمدن المجهولة في البيرو

والموازنة بين القوى والأعمال

يوم 28 يوليه سنة - 186

كثيرًا ما نلاقي هنا هنودًا أصليين يشتغل بعضهم بالتماس الثلج من رءوس

الجبال ونقله على ظهور البغال إلى (ليما) حيث يعتبر من أوائل مشتهيات المائدة،

وبعضهم ينقل الملح إليها من سواحل البحر على قطعان اللاما [3] .

ياله من بَوْن بعيد بين ما عليه هؤلاء الهنود الآن من الذل والشقاء وما كانوا

فيه من العظمة والرخاء.

معابد الأنقين التي يرشد أهلها السائح إلى زيارتها، وطريقهم الحربي المشهور

الذي اختطوه لمقاتلتهم، ونظام رَيّهم العجيب الذي كانوا يبلغون به مياه الجداول

الصغيرة إلى الحقول بما كانوا يحتفرونه من الخنادق ليخصبوا به من الأرضين ما

صار بعدهم محلاًّ، كل ذلك مما يحمل على الاعتقاد بأن الأجيال الأصلية التي كانت

متوطنة وسط أمريكا أوقفت في سبيل تقدمها بحلول الجيل الأبيض الذي انقضّ

عليها في بلادها انقضاض العقاب؛ فعاقها عن رقيها، فإنها كانت تسعى إليه، ومن

ذا الذي في استطاعته أن يخبرنا بما كان يحصل لو أنهم أمهلوا حتى بلغوا مثال

تمدنهم الصحيح ربما كان انعكس الأمر، فذهب مثل خريستوف كلومب من حمر

الجلود فاكتشف الدنيا القديمة.

قبائل الهنود التي لم تخضع إلى اليوم للحكومة الأمريكية تحذر ما يقدم لها من

الهدايا وما تدعو به من المزايا على حد قول القائل: (الروم أخشى)[4]

ولم تفلح الحكومة في إرسال الدعاة إليهم لدعوتهم إلى النصرانية، فإنهم

يعلمون أن لفظ إنجيل في فم الأبيض معناه الاستعباد لجيلهم ومصادرتهم في أرضهم

لم يسلم الساحل الذي كنا نتنزه عليه من فعل الزلازل الأرضية التي لا شك في

أنها تبتدئ من سلسلة جبال الإندز [5] ؛ فإن الإنسان فيما يلاقيه هنالك من الشقوق

والأنجاد والأغوار التي لا تلبث بعد انخسافها أن ترتفع، لا يزال يعرف ميدان تكافح

الفواعل النارية.

كانت (لولا) تسير على الساحل وكلها زهو وعجب باستقبالها (أميل) في

بلادها ومرحبتها إياه غير مفكرة في شيء عسى أن يكون من الحبائل تحت هذا

الساحل المتباين الذي دعثرته العواصف والأعاصير، فهمزت جوادها بحدة مفطرة،

وأخذت به شط البحر، وكنا نحن نتبعها ولكن من بُعد لبلادة فَرَسَيْنا على أن (أميل)

لم يلبث أن خف إليه خفة المستيئس لما نبهته هيعاتي إلى الخطر الذي كانت ملاقية

له، فلما بلغ تلك الفارسة المرحة لم تكن إلا على نحو مائة متر من هوة بين

صخرتين؛ كان لا محيص لها من التردي فيها بجوادها مرسلة الشعر في الهواء

مشرعة السوط، فأخذ بعنان فرسها وقسره على التحول يسرة، فرفع يديه قائمًا على

رجليه وحرن، ثم ما لبث أن وقف كأنه أُلهم الوقوف فجأة.

فأما (لولا) فقد اُمتقعت (تغير لون وجهها) وارتعدت فرائصها؛ لأنها كانت

أبصرت الهوة وشكرت (لأميل) همته بأن قبلته تقبيلاً يشف عن الوداعة وسلامة

القلب كالذي يقع من أخت لأخيها.

وفي يقيني أن هذه الحادثة لم تزد شيئًا على ما يضمره كل منهما للآخر من

المحبة والوداد، ولكني أحسب أني لاحظت من عهد حصولها فرقًا دقيقًا في رعايات

(أميل) لها بزيادة تحدبه عليها، فكان بذل النفس للمحبوب أول الحب.

ذلك أمر لا بد أن تكشفه لنا الأيام؛ لأني وهيلانة قد عودنا هذين الغلامين على

أن نصدقهما لمجرد قولهما فلا إخالهما يجسران على غشنا. اهـ

يعتقد بعض أهل (ليما) أن من المدن البيروية أو المكسيكية القديمة ما لا تزال

موجودة لم يبلغها الفاتحون من أسبانيا، وإذا سألتهم أين هذه القرى لا تجد منهم أحدًا

يستطيع أن يجيبك عن هذا السؤال، ثم إذا قلت: كيف أن أحدا من سائحي اليوم لم

يعثر عليها؟ أجابوك: إن هؤلاء الأقوام القدماء سكان تلك المدن مكنوفون من كل

ناحية بالصحاري، والآجام، والمستنقعات، وسلاسل الجبال وغيرها من العقبات

الكثيرة وبذلك حفظوا استقلالهم على أن الوصول إليهم يقتضي وطء قبائل متوحشة

تمنع الأجانب من دخول أرضها؛ وتجزي عليه بالقتل واسمهم الهنود البسلاء

(انديوس براقوس) وهم جيل حربي يسكن الهضاب الواقعة شرقي البيرو

والقونشوس ويقال: إنهم من أكلة لحوم البشر.

ولقد ذهب فريق آخر من البيرويين في دعاويهم إلى ما هو أبعد من ذلك فلم

يقتصروا على القول بوجود المدن المذكورة بل قالوا: إن بعض ركاب التعاسيف

الخاملي الذكر والمترفقين من التجار وطلاب المهن زاروها المرة بعد المرة، ومن

هؤلاء الزوار من انقطع ذكرهم فلم يسمع عنهم شيء، ومنهم من حكوا ما عاينوه

منها، فهم مصدر ما عرف عنها، غير أنهم لبعدهم عن الحضارة بل وعن العلم لم

يخبروا بما اكتشفوه إلا بعض التجار الرحل أو الصيادين، ولم يستطع هؤلاء عن

حكايتهم لما وعوه أن يؤدوا لمن سمعوا منهم إلا أخبارًا مبهمة جدًّا.

والذي ينبغي أن يعتقد في مثل هذه الأحاديث هو أن يحسن قبل نَبْذِها

واعتبارها من الأساطير؛ أن يفكر فيها مرتين؛ لأنها على كل حال ليست بعيدة عن

الحقيقة بعد أن اكتشف استفنس [6] وغيره من السائحين الذين جابوا وسط أمريكا ما

اكتشفوا من الآثار الحقيقية، وبعد الأبحاث التي حصلت وسط الغابات الكثيفة ولم

يشهدها إلا الببغاءات والقردة وخصوصًا بعد أن ثبتت للعالم صحة بعض الآثار

المروية عن الهنود ثبوتًا واضحًا من أطلال القرى المكتشفة مثل قوبان

وقيشي وأوقوزينجو وبالانقا وغيرها من القرى الكثيرة المدفونة تحت جذور الأشجار

من قرون طويلة.

نعم إن موضوع البحث والنظر هاهنا ليس مدنًا بائدة بل هو مدن حية قد يعثر

فيها أن وجدت على تاريخ جيل من أجيال البشر برمته ومعابدهم وآلهتهم وقسيسيهم

وشرائعهم وعوائدهم.

ربما مال (أميل) و (لولا) إذا سمعا مثل هذه الحكايات فاتقدت بها مخيلتهما إلى

أن يباشر البحث عن تلك المدن المجهولة، فإن من هو مثلهما في سن المراهقة لا

يفكر في العقبات ولا يحسب لها حسابًا فهما من هذه الجهة شبيهان بعامة الناس ولو

أني ثبطت عزم هذين القرنين الصغيرين وأخمدت توقد ذهنهما للُمْتُ نفسي على ذلك،

ولكني انتهزت هذه الفرصة فقلت لهما لا يزال في بلاد البيرو كما في غيرها كثير من

الأشياء التي يلزم اكتشافها غير أنه يجب على الإنسان قبل كل شيء أن يعرف

كيف يزن قواه بطبيعة ما يريد مباشرته من الأعمال. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر تابع لما في ص 712م7.

(1)

لقد طاش رأيه فإن القرآن القديم نطق بهذه الحكمة التي رآها حديثة في آيات كثيرة جدًّا ولكنه لا يعلم ذلك.

(2)

الأنقين: جمع أنقى، وهو أحد أشراف قدماء الهنود بأمريكا.

(3)

اللاما: حيوان من حيوانات البيرو بأمريكا يشبه الجمل.

(4)

الروم أخشى: جزء من بيت شعر لشاعر لاتيني أذكر منه شطره الأول ومثاله:

...

الروم أخشى وإن هم قدموا تحفا.

(5)

سلسلة جبال الإندز: هي سلسلة عظيمة من الجبال في أمريكا الجنوبية.

(6)

سائح أمريكي شهير.

ص: 335

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أعمال مجلس إدارة الأزهر

يرى كثير من الناس أن الجرائد في هذا العصر هي بمثابة كتب التاريخ؛

لأنها تتصدى لذكر جميع الحوادث، وتبحث في عللها وأسبابها ونتائجها ومسبباتها

فإذا أراد مؤرخ تأليف تاريخ الأمة، أو بلاد تنشر فيها الجرائد فما عليه إلا أن

يراجعها ويستمد منها إذا كانت حرة لم يستعبدها الحكام المستبدون وعلى هذا الرأي

يمكن لمن يريد كتابة تاريخ حديث للأزهر أن يراجع الجرائد المصرية في دار

الكتب المصرية، ويأخذ عنها ما كتبته عن هذا المكان. ولعله لا يوجد عاقل عارف

بحال هذا القطر يثق بحرية جرائده في نفسها، وتحريها الصواب والحقيقة في

الحوادث المهمة التي لها شأن في تاريخها، وسردها بأسبابها ونتائجها الحقيقية خدمة

للتاريخ، فإن هؤلاء العقلاء يعلمون أن لهذه الجرائد مذاهب شتى وأهواء مختلفة ولا

يعني أصحابها بيان كل شيء له شأن في التاريخ وقلما يوجد فيها من يتحرى الحق

في أكثر ما يكتب بل يكتبون ما يبلغهم على غرة إذا لم يكن مخالفًا لمذاهبهم وإلا

تصرفوا فيه أو سكتوا عنه. هذه مسألة الأزهر قد خاضت فيها الجرائد واختلفت

فيها أقوالها بعضها مع بعض بل اختلفت فيها أقوال الجريدة الواحدة هذه تستحسن

مرة ما كانت تستقبح وتلك تذم اليوم ما كانت تمدح بالأمس، ولو قرأ قارئ جميع ما

كتب عن الأزهر منذ عشر سنين أي منذ تأسيس مجلس الإدارة له ودخوله في طور

النظام - وإن لم يعمل بذلك النظام كله - لرأى أقوالاً مضطربة لا تتجلى منها حقيقة.

والسبب في ذلك أن العامل الحقيقي في هذا النظام هو الشيخ محمد عبده وله حزب

على رأيه يضاده حزب آخر يود أن يبقى كل خلل على ما كان، وقد اختلفت الأهواء لذلك فاختلفت الأقوال وضاعت الحقيقة حتى أن أكثر المصريين القارئين الكاتبين لا

يعرفون حقيقة ما كان عليه الأزهر ولا حقيقة الإصلاح والنظام الذي سعى إليه

الشيخ محمد عبده، فتم له شيء منه بإسعاد الأمير العباس -وفقه الله تعالى-

لمرضاته، بل هم يهيمون في أودية الظنون في هذه المسألة ككثير من أمثالها،

ومنهم الذي يصدقون بعض الجرائد في قولها: إن هذا الإصلاح كان إفسادًا لعقائد

أهل الأزهر.

ظهر في هذه الأيام كتاب جديد اسمه (أعمال مجلس إدارة الأزهر بمصر من

ابتداء تأسيسه سنة 1312 إلى غاية 1322) أي إلى أن استقال من إدارته ذلك

المصلح العظيم والعامل الذي كان يُنسب إليه كل عمل في هذا الجامع مدة وجوده فيه.

إن مؤلف الكتاب لم يذكر اسمه عليه، ولكن كل قارئ له يثق بكل ما كتب فيه،

وإن لم يعرف كاتبه؛ لأنه يرى أنه تاريخ رسمي أو شبه رسمي، فهو قد جرى

على طريقة الجبرتي في البحث عن كل شيء في وقته، وقد تم له ما لم يتم

للجبرتي من التدقيق، فهو يذكر كل مسألة مبينًا تاريخها، وما دار بين الأزهر

ومعية الأمير والحكومة فيها وما وضعه أو قرره مجلس الإدارة إما بالنص وإما

بالمعنى الذي لا يخرج عن مفهوم النص في البيان والتاريخ وعدد الخطاب (النمره)

وغير ذلك من احتياطه وتحريه إن سكت عن بيان ما لم يقف عليه باليقين، وهو

قليل كعدد الطلاب الذين امتحنوا في سنة 1314 فإنه لم يبينه بالجدول الذي

وضعه لذلك.

ومن إنصاف المؤلف أن نسب الأعمال المتفق عليها إلى مجلس الإدارة لا إلى

شيخ الأزهر الذي هو رئيسه ولا إلى بعض الأعضاء بالتعيين، وما كان فيه خلاف

ذكره، وما انفرد به بعض شيوخ الأزهر من سعي أو عمل ذكره كما هو، وقد

خص الأمير بالثناء وبين أنه كان المؤيد والمعضد لكل ما جرى في الأزهر في هذه

المدة ولولاه لم يكن شيء مما كان.

وإننا نذكر عناوين فصول الكتاب ليكون قارئ هذا التقريظ على بينة منه وهي:

(1)

تشكيل مجلس إدارة الأزهر وأسبابه (2) قانون المرتبات (3) حال

الأزهر ومرتبات الشيوخ قبل النظام الجديد (4) إلحاق التعليم في الجامع الأحمدي

بالأزهر (5) إلحاق التعليم في المسجد الدسوقي ودمياط بالأزهر (6) كساوي

التشريف (7) نظام التدريس والامتحان (8) المسامحة أو عطلة الدراسة (9)

مساعدة الجناب العالي على تنفيذ القانون بالملل من الأوقاف (10) نظام التدريس

والامتحان (11) مكافأة امتحان الطلبة (12) مشايخ الأروقة والحارات

والملاحظون (13) فائدة الامتحان والعلوم الحديثة (14) دار الكتب (الكتبخاتة)

في الأزهر (15) إصلاح التعليم (16) نظام الجرايات (17) امتحان التدريس

وشهادة العالمية (18) العلوم والكتب ونظام التدريس (19) مسألة زاوية العميان

(20)

الشيخ حسونة النواوي (21) الشيخ عبد الرحمن القطب (22) الشيخ

سليم مطر البشري (23) جدول مواد التعليم في الأزهر (24) إحصاء أصحاب

الكساوي المظهرية في عشر سنين (25) السيد علي الببلاوي (26) تأخر العلوم

الشرعية بالأزهر (27) تأخر اللغة العربية بالأزهر (28) إلحاق الإسكندرية في

النظام والتعليم بالأزهر (29) الشيخ محمود باشا والشيخ أحمد باشا (30) الشيخ

محمد شاكر (31) مرتبات أولاد العلماء وما تنفقه الحكومة على الأزهر (32)

حالة الأزهر الصحية وتعيين طبيب له (33) إعانة ديون الأوقاف لمعاهد العلم

بالمال (34) محافظة المجلس على حقوق الأزهر وشرفه (35) الشغب الذي

انتهى باستقالة الببلاوي والعضوين العاملين بالمجلس.

وقد فسر طابع الكتاب عبارات مجملة أو مبهمة منه لعل المؤلف ما كان يحب

أن تفسر. يدل اسم الكتاب وعناوين فصوله على أنه تاريخ لهذا الطور الذي دخل

فيه الأزهر منذ عشر سنين وفيه ما هو أهم من ذلك وأكثر فائدة للمسلمين وهو بيان

أخلاق علماء الأزهر وأفكارهم وشئونهم في هذا العصر، فإن لحال هذا الصِنف من

الناس شأنًا عظيمًا في حال الإسلام والمسلمين فهم منها بمنزلة القلب من الجسد إذا

صلح صلحت وإذا فسد فسدت، وهذا هو السبب في شدة عناية الشيخ محمد عبده

بأمر الأزهر وسعيه في إصلاحه واحتمال الشدائد في هذه السبيل على أنه في بلاد لا

تعرف قيمة سعيه حق المعرفة، وإن كان لا يفوق احترامه فيها احترام أحد.

الكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا، وثمن النسخة منه أربعة قروش، وأجرة البريد

قرش واحد وهو يطلب من إدارة المجلة (المنار) ومن مكتبة هندية والمعارف

والهلال وغيرها، وقد أبيح لإدارة المنار أن تبيعه من الأزهريين خاصة بثلاثة

قروش صحيحة ولا شك في أنه سيصادف رواجًا عظيمًا لما فيه من الفوائد

العظيمة.

_________

ص: 340

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تاريخ دول العرب والإسلام

سبق لنا تقريظ الجزء الأول من هذا الكتاب في المجلد الأول من المنار ويسرنا

أن مؤلفه محمد طلعت بك حرب قد أعاد طبعه في هذا العام؛ لأن نسخه الأولى قد

نفدت، وأنه قد شمر عن ساعد الهمة لإتمام تأليف الكتاب وطبعه. ونعيد التذكير

بمباحث الجزء الأول وهو مؤلف من تمهيد وثلاثة أبواب في كل باب منها فصول.

فالتمهيد في حدود بلاد العرب ومواطنها وحاصلاتها، ومناخها، ومساحة الجزيرة،

وتشوف الإفرنج إليها، والباب الأول فيما كانت عليه العرب قبل الإسلام، وفيه

مباحث في طبائع العرب، وأحوالها، وصفاتها، وأقضيتها، وحكوماتها، وأحكامها،

وحروبها، وفي الزواج، والطلاق، والاعتقادات، والخرافات، واللغة، والشعر

والشعراء، والأسواق، والمعارف، والكتابة، والصناعة، والتجارة، والنقود،

والمسكوكات، والموازين.

والفصل الثاني في العرب البائدة، والثالث والرابع في العرب الباقية. والباب

الثاني في العرب بعد الإسلام، وفيه فصلان، الأول: في الوحي والدعوة والهجرة

وملخص السيرة النبوية، والثاني: في القرآن والإسلام، وهو مختتم بفصل نفيس من

رسالة التوحيد للأستاذ الإمام. والكتاب يُطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة المنار

وثمنه ثمانية قروش صاغ.

_________

ص: 343

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب زهر الربيع

في المعاني والبيان والبديع

كان الشيخ أحمد الحملاوي مدرسًا في مدرسة دارالعلوم فطلب منه ناظرها أن

يؤلف كتابًا في البلاغة خاليًا من الحشو والتعقيد جامعًا للقواعد والمسائل المهمة في

الفنون الثلاثة، فبدأ بوضع هذا الكتاب، وحال دون إتمامه نقله إلى مدرسة

المنصورة، ثم أتم تأليفه في سنة 1320 هـ، وكان عُين ناظرًا لمدرسة عثمان باشا

ماهر، وقد طبعه في هذا العام بالمطبعة الأميرية فكانت صفحاته 237. وإننا لكثرة

الشواغل في هذا الصيف لا نرجو أن نجد وقتًا نُطالع فيه بعض أبواب الكتاب لنُبين

مكانته من سائر كتب البلاغة التي هي على نسقه في سرد المسائل مع أمثلتها، ولكن

مزاولة المؤلف للتعليم في المدارس الأميرية بعد تعلمه فيها وفي الأزهر مما يرجح

كون الكتاب مختصرًا مفيدًا سهلاً نافعًا إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 343

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الروزنامة التونسية

محمد ابن الخوجه رئيس قلم المحاسبة بوزارة تونس من سروات التونسيين

وفضلائهم، وهو يضع تقويمًا سنويًّا يسميه الروزنامة التونسية وسنة 1323 هي

السنة الخامسة لهذا التقويم، وقد زادت صفحاته فيها على خمسمائة صفحة من القطع

المتوسط، والكلام فيه على خمسة أقسام: فلكي، وأدبي، وسياسي، وإداري،

وتجاري. وقد ذكر في القسم الأدبي من هذه السنة زيارة رئيس جمهورية فرنسا

لتونس سنة 1321 وزيارة باي تونس لباريس 1322 وما لقيه كل واحد من

الاحتفال والحفاوة، وتاريخ نشأة العلائق بين فرنسا وتونس، وذكر من القسم

السياسي نظام الحماية في تونس والقواعد النظامية فيها، ودوائر الحكومة

وكبار علمائها ورجالها. وتكلم في القسم الإداري على الوزارة، والكتابة العامة،

والإدارة والمجالس الشرعية وجامع الزيتونة الأعظم، والجمعية الخلدونية وغيرها

من الجمعيات والمدارس والمستشفيات، والمجالس، والمصالح الكثيرة، والمعارف،

وجيش الاحتلال والبحرية الفرنسية، والمذاهب والملل، وغير ذلك. فهذه

الروزنامة تاريخ رسمي أو شبه رسمي لتلك المملكة لا يستغني عنه

محب التاريخ وثمنها في تونس خمسة فرنكات وأجرة البريد فرنك واحد.

_________

ص: 344

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تذكار المهاجر

ديوان شعر لقيصر أفندي إبراهيم معلوف اللبناني نظمه في مهاجره

بالبرازيل أيام كان مشتغلاً بجريدة (البرازيل) العربية كتابة وإدارة وكان ينشر ما

ينظمه في جريدته، وبعد أن ترك الجريدة وانصرف إلى الاشتغال بالتجارة جمع تلك

القصائد والمقاطيع وطبعها في ديوان سماه (تذكار المهاجر) وقد تفضل علينا بإهداء

نسخة منه كتب عليها بخطه هذين البيتين بعد ذكر الإهداء إلى المجلة:

لما رأيتك للمعارف ناشرًا

وبكرمة الآداب أفضل عامل

أهديت ديواني لفضلك راجيًا

منك التشرف بانتقاد عادل

وقد كان هذان البيتان سببًا في إرجاء تقريظ الديوان إلى هذا اليوم؛ لأننا كنا

ننتظر فرصة نقرأه فيها بإمعان، وننظر فيه نظر الناقد حتى سنحت لنا الفرصة في

الأسبوع الماضي إذ سافرنا إلى الإسكندرية فجعلنا الديوان رفيق الطريق فقرأنا

مقدمته وكثيرًا من قصائده ومقاطيعه فتجلت علينا روح الناظم في جلباب من الظرف

واللطف والإخلاص يعز على من تجلت عليه فيه أن ينظر إلى أثرها بعين الانتقاد،

دون عيني الحب والوداد.

فأنا أخطب وداده على البعد، وأرغب إليه أن يعفيني من نظرة النقد، وإن

كان لا يقبل من المجلة التي وصفها بالحُرة هذا العذر فليأذن لي بأن أفرض لها النقد وأفرض على نفسي العذر، تقول المجلة: إن هذا الشعر لم يجر على أساليب فحول شعراء العرب الجاهليين، أو المخضرمين، أو المولدين وأقول: لو عني الناظم

باحتذاء مثال أولئك الفحول لَعَلا قوله على أفهام أكثر قراء جريدته؛ لأنهم من

المهاجرين إلى أمريكا لأجل التجارة والكسب، وأكثر القارئين منهم لم يتعلموا غير

مبادئ القراءة والكتابة فهم لا يفهمون شعر بشار بن برد وأبي نواس، ولا شعر

البحتري وأبي تمام، وإنما عني الناظم بما نظم لأجلهم لا لأجل أولئك المعاصرين

لمثل من ذكرنا من المقرمين، وتقول المجلة: إن في الديوان كثيرًا من الألفاظ

والأساليب العامية كان للناظم مندوحة عنها، وأقول: إن أكثر الكتاب

والشعراء المعاصرين يستعمل مثل ذلك لا سيما كتاب الجرائد وأكثرهم يخطئ

وهو يظن أنه مصيب، وصاحبنا يمتاز بأنه عالم أن شعره لم يسلم من ذلك الخطأ،

وقد اعتذر عنه في الصفحة الثالثة عشرة من المقدمة بأنه نظم ما نظم بعيدًا في

بلاد بعيدة عن بلاغة اللغة العربية وأساليبها الشعرية وكتبها اللغوية

إلخ، ما قاله.

ثم إن هذا الديوان يمتاز على الدواوين التي وضعت لجمهور أهل هذا العصر

بأنه لا يختص بالمدح، والنسيب، والرثاء، والهجو، بل جال فيه الناظم في

المسائل الاجتماعية، والموضوعات الأدبية، وهو بداية نظمه؛ فعسى أن نرى في

الجزء الثاني من ديوانه ما هو أرقى معنى وأسلوبًا.

_________

ص: 344

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أنباء سوريا المزعجة

- الدولة والرعية

قد تبين أن حكومة (المابين الهمايوني) في خوف ووجل من سوريا أن تخرج

عليها كاليمن أو مع اليمن، وسوريا أبعد بلادها عن هذا العمل وعن التفكر فيه،

ولكن (المابين) قد صدق فيها تقارير الجواسيس والمفسدين، وأقوال المشاغبين

المحتالين الذين يخوفون (المابين) بما يكتبون من الرسائل والكتب في الدعوة إلى

الاستقلال، وزاد الطين بلة ما تكتبه الجرائد الأوربية في هذه الأيام عن ثورة اليمن

مدعية أنها ثورة مدبرة لها أنصار ودعاة في الحجاز وسوريا وسائر البلاد العربية

وكل ذلك أكاذيب يبغون بها الفتنة وإغراء الحكومة العثمانية برعيتها ليفني المسلمون

أنفسهم بأيديهم.

صدق المابين كل ذلك فأمر الولاة والمتصرفين بالإغارة على بيوت من يظن

أن عندهم كتبًا، أو جرائد، أو رسائل من مصر، وأخذ كل ما يوجد في تلك البيوت

وقراءته كلمة كلمة ومحاسبة أصحابه على كل ما يُشتمّ منه رائحة الشبهة، وقد ذكرنا

في الجزء الماضي بعض هذه الحوادث ثم جاءتنا الجوائب بعده بإنه قد جاء إلى

بيروت لجنة عسكرية ملكية أرسلها السلطان من الآستانة لتتولى التحقيق في هذه

الأمور المهمة ولا تدع بيتًا من بيوت الكبراء إلا وتفتشه، وقد كان من أوائل عملها

الإحاطة بدار عباس أفندي رئيس ملة البابية في عكا ودار الفريق رمزي باشا

وغيرهما وأخذ ما فيها من الأوراق والكتب المشتبه فيها. وقد فعل متصرف

طرابلس مثل ذلك ببيت عبد اللطيف أفندي الغلاييني وبيوت أخرى. وفتشوا في

حمص بيت (قائمقام) نقيب الأشراف، ولا يزال الهجوم على البيوت مستمرًّا في

كل مكان.

وقد بلغنا أن الكتب التي أخذت في بيروت من المكتبة الأنسية ومن طبعة

الإقبال قد اعتبرت من النوع الذي يسمى غير لائق وأنها حولت إلى العدلية وأنه

ورد نبأ برقي من الأستانة إلى بيروت بوجوب العناية والتشديد في شأن ضبط كتب

أبي الهدى أفندي التي وجدت في مطبعة الإقبال.

وإن للحكومة في الكتب والأوراق والجرائد تقسيمًا غريبًا فمنه ما يسمونه

الأوراق المضرة والعقوبة عليه شديدة جدًّا، ومنه ما يسمونه الأوراق الممنوعة وهو

أعم من المضرة إذا أطلق يراد بالعام ما وراء الخاص والعقوبة عليه أخف، ومنه ما

يسمونه غير لائق وهو أهون عندهم، ومن البلاء أن الرعية لا تعرف شيئاً من

حدود هذه الأقسام ورسومها فقد صار ما لم يكن ممنوعًا من قبل من الممنوع أو

الضار والناس لا يشعرون. نوقش عبد اللطيف أفندي الغلاييني الحساب أن وجد

عنده نسخ من مجلة نور الإسلام الدينية التي كانت تنشر في الزقازيق وكان عبد

اللطيف أفندي وكيلاً لها في طرابلس لم يتحرج من ذلك؛ لأنها كانت ترد إليه في

البريد العثماني وعمال البريد هم العالمون بالممنوع من الكتب؛ لأنهم يؤمرون

بإمساكه وعدم إيصاله إلى أربابه.

ولو كانت سوريا مستعدة للخروج على الدولة لا ينقصها إلا الحوادث التي

تؤلم الجمهور وتجمع الكلمة - لخشى أن تكون هذه الأعمال هي السبب في الثورة

والخروج، ولكننا نعلم علم اليقين أن سوريا غير مستعدة لذلك وستعلم ذلك الدولة بعد

هذا التحقيق والتدقيق فتندم أنها آلمت الناس وظلمتهم وذكرتهم بما لم يكن يخطر على

بال أحد منهم.

وأما الذين يكتبون في ذلك ما يكتبون من المنشورات والمقالات في جرائد

البلاد الحرة فلا غرض لهم إلا ابتزاز المال أو الرتب والأوسمة من الدولة كما بينّا

ذلك مرارًا.

وإنه ليؤلم العثماني الغيور أن يرى الإنكليز آمنين على سلطتهم في مصر لا

يبالون بما يقال، ولا بما يكتب، حتى إنهم يعتقدون أنه لم يبق لهم حاجة بجيش

الاحتلال القليل الباقي في البلاد، ويرى دولته في وَجَل شديد من رعيتها فتداوي هذا

الوجل بالتشديد والقوة وهو دواء غريب في بابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم.

ومن أعجب ما يتناقله الناس، مما يوسوس به في هذا الباب الخناس، خوف

(المابين) من مصر والمصريين عامة، والأستاذ الإمام خاصة، والمصريون أشد من

الترك حبًّا فيه، إلا أفراد تعلموا السعاية والتجسس من الآستانة، وكل المصريين

يمقتونهم، والأستاذ الإمام مشغول عن هذه السخافات بخدمة مصر والإسلام، وهو

يعتقد أن السعي من جهة السياسة، لا يأتي إلا بالخيبة والتعاسة، فهو يرى الكلام في

السلطة والخلافة، من قبيل اللغو والسخافة، ومن المضحكات المبكيات أن حكومة

بيروت ظلت ثمانية أيام تفتش في الساحل وتتجسس في البيوت لعلها تعثر على

الشيخ محمد عبده لاعتقادها أنه جاء بيروت مستخفيًا، وأنزلته الباخرة الخديوية في

جهة رأس بيروت وأنه سيتولى زعامة قلب السلطة في سوريا بنفسه، والرجل

مريض لا يقدر على مفارقة سريره الذي ترفرف عليه قلوب العقلاء والفضلاء

مشفقة أن يخترمه حكم القضاء، فتحبط أعمال، وتنقطع آمال، ويخشى من سوء

المآل، هذه حال الرجل هنا وتلك حال الحكومة العثمانية هناك، ولم يشفق عليها

رئيس الجواسيس الذين شغلوها فيكاشفها بالحقيقة التي تسكن روعها، وترأب

صدعها.

قلنا: إن ذلك الخوف من أعجب ما ينقل وما هو بالعجيب ولا بالأعجب،

فإن الدول في مثل هذا الطور الذي وصلت إليه دولتنا -أصلحها الله تعالى-

تبني أكبر من هذا البناء على أساس أوهن من هذا الأساس، بل يفعل الحكم المطلق

في طور الحياة والقوة مثل هذه الفعال، ويفتك بحكم الوشاية بأعظم الرجال، ألم يأتك

نبأ موسى بن نصير في الأندلس وكيف فتح البلاد؟ وكيف ساسه ابنه عبد العزيز

أحسن سياسة؟ ثم كيف كافأه سليمان بن عبد الملك بانتزاعه وولده عبد

الله من السلطة، وقتل ولده عبد العزيز غيلة، سمع وشاية المفسدين فيه؛ فأوعز إلى

من قتله وهو يصلي بالناس صلاة الفجر كما قتل الإمام العادل عمر بن

الخطاب رضي الله عنه وإنا نقص على القراء ما دار بين سليمان وموسى ليعلموا

كيف ظهر لسليمان خطأه ويعتبروا بذلك؟

قال ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة:

قدوم رأس عبد العزيز بن موسى

على سليمان

وذكروا أن سلميان لما ظن أن القوم قد دخلوا الأندلس وفعلوا ما كتب به إليهم

عزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وطنجة والسوس في آخر سنة ثمان وتسعين

في ذي الحجة وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان وموسى بن نصير لا يشعر بقتل

عبد العزيز ابنه، فلما دخلوا على سليمان ووضع الرأس بين يديه بعث إلى موسى

فأتاه فلما جلس وراء القوم قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا موسى؟ قال:

نعم، هذا رأس عبد العزيز بن موسى. فقام الوفد فتكلموا بما تكلموا به. ثم إن

موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يديك يا أمير المؤمنين؛

فرحمة الله عليه؛ فلَعَمْرُ الله ما علمته نهاره إلا صَوَّامًا، وليله إلا قَوَّامًا، شديد الحب

لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير المؤمنين، شديد الرأفة بمن

وليه من المسلمين، فإن عبد العزيز قضى نحبه، فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان

بالحياة شحيحًا، ولا من الموت هائبًا، وليعز على عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن

يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم

بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل، فرد

سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصا المسلمين، المنابذ لأمير

المؤمنين، فمهلاً أيها الشيخ الخَرِف، فقال موسى: والله ما بي من خرف، ولا أنا

عن الحق بذي جَنَف، ولن ترد محاورة الكلام مواضع الحِمَام، أنا أقول كما قال

العبد الصالح {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) فتأذن

في رأسه يا أمير المؤمنين. واغرورقت عيناه؛ فقال له سليمان: نعم، فخذه. فقام

موسى فأخذه وجعله في طرف قميصه الذي كان عليه، ثم أدبر في السماطين فوقع

الطرف الآخر عن منكبيه وهو يجره لا يحفل به ولا يرفعه، فقال له خالد بن الريان:

ارفع ثوبك يا ابن نصير، فالتفت موسى وقال: ما أنت وذاك يا خالد. قال سليمان:

دعه حسبه ما فعلنا به، فلما توارى موسى، قال سليمان: إن في الشيخ لبقية بعد، ثم

إن موسى التفت إلى حبيب بن أبي عبيدة (قاتل ابنه) فكلمه بكلام غليظ حتى ذكر

أمرًا خفيًّا من نسبه فأفحمه.

ثم إن سليمان كشف عن أمر عبد العزيز فألفى ذلك باطلاً، وإن عبد العزيز لم

يزل صحيح الطاعة مستقيم الطريقة، فلما تحقق عند سليمان باطل ما رفع إليه عن

عبد العزيز ندم، وأمر بالوفد فأخرجوا ولم ينظر في شيء من حوائجهم وأهدر موسى

بقية القضية التي كان قاضاه عليها، وكان سليمان قد آلى قبل خلافته لئن ظفر

بالحجاج بن يوسف وموسى بن نصير ليعزلنهما ثم لا يليان معه من أمور الناس شيئًا،

فلما رضي عن موسى جعل يقول: ما ندمت على شيء ندامتي أن لا كنت خلوًا

من اليمين على موسى في أن لا أوليه شيئًا، ما مثل موسى أستغنى عنه. اهـ.

ثم ذكر شيئًا من خبر موسى مع سليمان.

وانظر الفرق العظيم بين عصرنا وعصر بني أمية الذي ما زلنا نشكو منه؛

إذ هم الذين حولوا الحكومة الإسلامية إلى ما يسمى في عرف السياسيين اليوم

بالسلطة المطلقة، فقد بيّن موسى للملك خطأه، ولما ظهر ذلك لسليمان بن عبد الملك

ندم على ما فعل بالرجل وولديه، ولم يكافئ الذين امتثلوا أمره بالظلم إلا بالإعراض

عنهم، فيا ليت حكامنا في هذا العصر يرجعون عن خطئهم إذا ظهر لهم ويعرضون

عمن شايعهم على الظلم ولا يشركونه معهم في رأي ولا حكم. وفي القصة عبرة

بصبر موسى بن نصير عندما فوجئ برأس ولده بين يديه، وولده من يحزن على

مثله الغريب لفضله وشجاعته وحسن إدارته وسياسته، وإننا في هذا المقام نذكر

شيئًا من خبر موسى إتمامًا للعبرة، وليتذكر نابتة عصرنا شيئًا من تاريخ سلفهم الذين

فتحوا البلاد وأحسنوا فيها السياسة وأقاموا العدل على أنهم لم يعرفوا من علوم

السياسة، والقضاء، والإدارة بعض ما يعرف اليوم بعض المحامين المحتالين على

سلب الأموال وإضاعة الحقوق ونصر الأباطيل، أو الموظفين الذين تشكو منهم

السماء والأرض أو بعض الذين يسمونهم (متربين) لأنهم تعلموا في أوربا وهم

الذين أفسدوا أخلاق أمتهم وأغروها بالخمور والفجور والقمار وغير ذلك من أسباب

الدمار حتى فسد بأسها وذهبت سيادتها وإنما الفرق بيننا وبين أولئك السلف الحياة

الملية، والاعتقاد الصحيح، والأخلاق العالية.

خطبة موسى بن نصير في ذات الجماجم:

لما وَلّي عبد العزيز بن مروان موسى بن نصير أفريقية وعزل حسان بن

النعمان الذي ولاه عليها عبد الملك رحل إليها ووافته الجيوش في ذات الجماجم؛ فقام

فيهم خطيبًا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إن أمير المؤمنين أصلحه

الله رأى رأيًا في حسان بن النعمان فولاه ثغركم ووجهه أميرًا عليكم، وإنما الرجل

في الناس بما أظهر، والرأي فيما أقبل وليس فيما أدبر، فلما قدم حسان بن النعمان

على عبد العزيز - أكرمه الله - كفر النعمة، وضيع الشكر ونازع الأمر أهله فغير

الله ما به. وإنما الأمير أصلحه الله صنو أمير المؤمنين وشريكه ومن لا يتهم في

عزمه ورأيه، وقد عزل حسان عنكم وولاني مكانه عليكم ولم يَألُ أن أجهد نفسه في

اختياره لكم، وإنما أنا رجل كأحدكم فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحض على

مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها؛ فإني أخطئ كما تخطئون وأصيب كما

تصيبون، وقد أمر الأمير - أكرمه الله - لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثًا فخذوها هنيئًا

مريئًا، ومن كان له حاجة فليرفعها إلينا وله عندنا قضاؤها على ما عز وهان من

المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .

خطبة موسى بأفريقية:

وذكروا أن موسى لما قدم أفريقية ونظر إلى جبالها، وإلى ما حولها جمع

الناس ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنما كان قبلي

على أفريقية أحد رجلين مسالم يحب العافية ويرضى بالدون من العطية، ويكره أن

يكلم ويحب أن يسلم، أو رجل ضعيف العقيدة، قليل المعرفة، راضٍ بالهوينا،

وليس أخو الحرب إلا من اكتحل السهر، وأحسن النظر، وخاض الغمر، وسمت

به همته، ولم يرض بالدون من الغُنم لينجو ويسلم دون أن يُكْلَم أو يَكْلِم، ويبلغ

النفس عذرها في غير خرق يريده، ولا عنف يقاسيه، متوكلاً في حزمه حازمًا في

عزمه، مستزيدًا في علمه، مستسرًا لأهل الرأي في إحكام رأيه مستحكًا بتجاربه،

ليس بالمتجابن إقحامًا، ولا بالمتخاذل إحجامًا، إن ظفر لم يزده الظفر إلا حذرًا،

وإن نكب أظهر جلادة وصبرًا، راجيًا من الله حسن العاقبة، فذكر بها المؤمنين

ورجاهم إياها لقول الله تعالى: {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) أي الحذرين.

وبعد، فإن كل من كان قبلي كان يعمد إلى العدو الأقصى، ويترك عدوًّا منه أدنى

ينتهز منه الفرصة، ويدل منه على العورة، ويكون عونًا عليه عند النكبة، وايم

الله لا أريم هذه القلاع والجبال الممتنعة، حتى يضع الله أرفعها، ويذل أمنعها،

ويفتحها على المسلمين بعضها أو أجمعها أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.

(المنار)

لا يظنن ظان أن هذا الكلام صادر عن تصورات وخيالات لا أثر لها في النفس،

ولا يشهد لها من قائلها العمل، كما يعلمون عن بعض خطباء هذا العصر، وكتابه

الذين يقتبسون أقوال الناس ويتخيلون عبارات، ثم يؤلفون ذلك على الصورة التي

يظنون أنها تسر الناس، وتطلق ألسنتهم بالثناء عليهم ويسمون ذلك خطبة أو مقالة.

كلا إن موسى هو فاتح بلاد المغرب وبلاد الأندلس، ومؤسس الحكومة الإسلامية

فيهما فعمله خير من قوله، وأخلاقه وآدابه مصدر أعماله، ولا مُرشد له في ذلك إلا

الدين المبين، وقد سأله سليمان بن عبد الملك أسئلة عن سيرته في حربه، فأجابه بما

يدل على فراسته وبعد نظره وسعة اختباره وقوة دينه.

قال له سليمان: ما الذي كنت تفزع إليه في مكان حربك من أمور عدوك؟

قال: التوكل والدعاء إلى الله يا أمير المؤمنين. قال سليمان: هل كنت تمتنع في

الحصون والخنادق أو كنت تخندق حولك؟ قال: كل هذا لم أفعله، قال: فما كنت

تفعل؟ قال: كنت أنزل السهل، وأستشعر الخوف والصبر، وأتحصن بالسيف

والمغفر، وأستعين بالله وأرغب إليه في النصر. قال سليمان: فمن كان من العرب

فرسانك؟ قال: حمير. قال: فأي الخيل رأيت في تلك البلاد أصبر؟ قال أشقرها،

قال: فأي الأمم كانوا أشد قتالاً؟ قال: إنهم يا أمير المؤمنين أكثر مما أصفهم.

قال له: أخبرني عن الروم. قال: أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء

في مواكبهم، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأرعال ترقل في أجبال،

لا يزالون عارًا في هزيمة تكون لهم منجاة، قال: فأخبرني عن البربر، قال: هم

يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب لقاء، ونجدة، وصبرًا وفروسية، وسماحة،

وبادية غير أنهم يا أمير المؤمنين غُدْر. قال فأخبرني عن الأسبان (أهل أسبانيا)

قال: ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. قال: فأخبرني عن الإفرنج، قال:

هناك يا أمير المؤمنين العدد والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة، منهم

العزيز ومنهم الذليل، وكلاًّ قد لقيت بشكلِهِ؛ فمنهم المصالح ومنهم المحارب المقهور،

والعزيز البذوخ. قال: أخبرني كيف كانت الحرب بينك وبينهم أكانت عَقبًا؟ قال:

لا أمير المؤمنين، ما هزمت لي راية قط، ولا نض لي جمع، ولا نكب

المسلمون معي نكبة منذ اقتحمت الأربعين إلى أن شارفت الثمانين، قال: فضحك

سليمان وقال: فأين الراية التي حملتها يوم مرج راهط مع الضحاك؟ قال: تلك يا

أمير المؤمنين زبيرية وإنما عنيت المروانية. قال: صدقت، وأعجبه كلامه.

فليتأمل قومنا اليوم بسيرة سلفهم، ولينظر المتفرنجون في أثرهم، وليقيدوا

أنفسهم بهم ليعلموا، هل صاروا بعدهم إلى تدلٍّ وسقوط، أم إلى رفعة وصعود؟

اللهم إنهم قد ارتقوا في فنون الزينة والتفنن في اللذات الجسدية، غير أنهم تدلوا في

الأخلاق والمزايا الإنسانية، فليحاسبوا أنفسهم إن كانوا يعقلون.

_________

ص: 346

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نظرة في المبارزة

رسالة وجيزة في المبارزة التي اعتادها الإفرنج ومن يقتدي بهم من الشرقيين

كتبها سليم أفندي عواد بين فيها أنواع المبارزة وتاريخها، وحكمها في قوانين الدول

الأوربية واليابان والولايات المتحدة وهي تطلب من مكاتب الإسكندرية، وثمنها

قرش صحيح.

_________

ص: 346

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إصلاح الطرق الصوفية

(مقالة أرسلها شيخ مشايخ الطرق إلى جريدة المؤيد ونقلناها عنها)

من أهم الأشياء التي كان العقلاء يطلبون المبادرة بإصلاحها في الطرق

الصوفية الأمور التي لها مظاهر عمومية والتي لا تحصل بين طائفة من الصوفية أو

بين الرجل منهم ونفسه بل يشترك في رؤيتها والتأثر منها الصوفي وغيره والوطني

والأجنبي معًا، وهذه الأمور أهمها:

1-

المواكب التي كان يراها الناس كل يوم في أزقة المدن، وطرقات القرى

وبلدان الأرياف، وما يتخلل الكثير منها من المنكرات كالموكب الأحمدي وغيره،

وكانت في الأصل موعدًا سنويًّا لاجتماع رجال الطريقة، أو الطرق ثم صارت إلى

هذه الحالة السيئة.

2-

اجتراء البعض على تقليد احتفالات دينية في مكان عمومي أو مجتمع

عمومي بقصد أن يتفرج عليه الحضور كما وقع كثيرًا أمام السياح وفي بعض منازل

الإفرنج في مصر.

3-

الموالد التي تقام وما يصاحبها ويتخللها من الأمور التي تخالف الآداب

الشرعية، وينعكس به الغرض الخيري الموضوع له المولد بالمرة.

4-

والثالث الأذكار التي يقيمها الصوفية في كل محل وناد وكثير منها مُباين

بالمرة للذكر الشرعي المندوب إليه في الكتاب والسنة، وهو توجه المرء إلى الله

تعالى سواء نطق باسمه الكريم أو لم ينطق، قائمًا كان أو قاعدًا، قال تعالى:

{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا

تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ} (الأعراف: 205)، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ

فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) .

فعن الأمر الأول كتبت لعطوفة رئيس الداخلية، وقد تفضل حبًّا منه بالنافع من

الأمر وعمل منشورًا هذا نصه:

(نظارة الداخلية منشور نمرة 80 بتاريخ 11مايو سنة 1905 بعدم عمل مواكب صوفية إلا بإذن من مشيخة الطرق) .

طلب سماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية بمكتوبه لها رقم 27 إبريل سنة

1905 نمرة 99 إنفاذ ما قرره المجلس الصوفي من منع عمل المواكب باسم الصوفية

في القاهرة والأقاليم إلا بإذن من المشيخة؛ لأجل مراقبة ومنع ما يتخللها من الأمور

المغايرة للآداب، وحيث إننا نرى موافقة ذلك فأكدوا بإجراء إيجابه بأنحاء جهتكم

ومرسل بهذا عدد () من نسخ هذا المنشور لتوزيعها على الفروع التابعة إليكم.

سماحتلو حضرة شيخ مشايخ الطرق الصوفية:

هذه صورة ما كتب للمديريات والمحافظات بناء على طلب سماحتكم بشأن

المواكب التي باسم الصوفية، ونأمل أن لا يعطى الإذن بعملها إلا لمن يتحقق أنه

ممن يحافظون على الآداب تمام المحافظة، ولا يقدم على شيء يخل بها، أفندم.

...

...

...

...

ناظر الداخلية

...

...

...

...

مصطفى فهمي

تحريرًا في 11 مايو سنة 1905

ومتى نفذ هذا تمامًا امتنعت كل هذه الموبقات المرذولة وأبطلت المواكب إلا ما

كان لضرورة كالمواكب التي تحصل في المولد النبوي وغيره مع مراعاة الآداب

التامة.

وعن الأمر الثاني، عند تعديل قانون العقوبات المصري في سنة 1904

تكلمت مع اللجنة المكلفة بدرسه في مجلس الشورى في وضع مادة لمنع ذلك،

فوضعتها في ضمن المادة 139 وجعلت العقوبة المجعولة عليها هي الحبس مدة لا

تزيد عن سنة، أو غرامة لا تتجاوز الخمسين جنيهًا مصريًّا.

والسبب في وضع ذلك في قانون العقوبات أن من يفعل ذلك قد لا يكون من

رجال الصوفية فلا يمكن إجراء العقوبات الصوفية عليه.

فإذا أنفذ رجال البوليس هذه المادة والمنشور السابق ذكره حق تنفيذهما امتنع

حصول هذه المنكرات من الآن تمامًا.

وعن الأمر الثالث، وجد أنه لو قيد عدم عمل أي مولد إلا برخصة من

المشيخة العمومية كان في ذلك تضييق وصعوبة على الناس. ولكن وضعت مادة

خصوصية لذلك في لائحة الصوفية الداخلية وهي المادة السادسة من الباب الخامس

قيل فيها (ويشترط أن لا يجاور مكان المولد شيء مما ينافي الآداب الشرعية

كالألعاب والسخريات ونحوها) وكان المولد النبوي في مصر في هذا العام والعام

الماضي مثالاً لذلك.

وتنفيذ هذا الأمر منوط بوكلاء المشيخة في الجهات وبالرأي العام، فحيثما

وجد شيء مغايرًا لذلك فله أن يحيط المشيخة العمومية علمًا به، وهي تجري ما يلزم

حِياله.

وعن الأمر الرابع، اشترط في المادة الثانية من الباب الخامس من اللائحة

الداخلية الصوفية أن يبعد عن الطرق كل من أقام الذكر بهيئة مخلة للآداب الشرعية

كالتمايل المشبه للرقص والتخبط ونحوه، وتنفيذ ذلك يكون بمثل تنفيذ الأمر المتقدم

تماماً. اهـ

(المنار)

يعلم القراء أننا أنشأنا نطالب بإصلاح أهل الطرق منذ أنشأنا المنار، وقبل

إنشائه كنا نطالب شيخ مشايخ الطرق في مصر بذلك، وقد ذكرنا في المنار منذ سنين

أنه وعدنا بذلك مرارًا، وهذا الإصلاح الذي كتب عنه الآن لا يغني فتيلاً، فأما جعل

الاحتفالات بإذن شيخ المشايخ في القاهرة ووكلائه في سائر بلاد القطر فليس بالأمر

المهم، بل خاض الناس وبعض الجرائد في ذلك، وقالوا: إن الإذن لا يعطى إلا لمن

يدفع مبلغًا من المال، وأما وضع القانون العقوبة على الأمر الثاني فهو يجعله كسائر

ما يعاقب عليه لا يأتيه إلا من أمن العقوبة، وما هو من جوهر الطريق، وإنما هو

من إهانته، والأمر المهم ما قال شيخ المشايخ أنه منعه في اللائحة التي وضعها

لمشيخة الطرق، ويظهر من عبارته أنه في ريب من تنفيذها، بل هو معتقد أنها لا

تنفذ؛ لأنه ناطها برأي وكلائه والجماهير، على أن الجماهير كوكلائه جاهلون

يرغبون في هذه البدع.

نعم، إن سُرادق الرقص وأكواخ الزنا قد منعت من المولد النبوي، كما منعت

قبله من مولد الدمرداش، ولكن لا يزال الذكر في المَولِد على ما ينكر شيخ المشايخ،

وهو بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله وفي داره أيضًا، وقد كان الفحش والزنا

وغيرهما من المنكرات في مولد السيد البدوي أعم وأكثر في هذا العام منها في الأعوام

السابقة، وكتب في ذلك كثير من الجرائد فلم تبال مشيخة الطرق بذلك، ولم تعمد

إلى منعه ولا إلى النهي عنه، فلعلنا نجد من شيخ المشايخ همة عملية في إزالة هذه

البدع من بعد تكون بدايتها إبطال الأغاني الغرامية والرقص والتمايل

بالذكر من داره في رمضان، ويا ليته بيّن لنا وجه الضرورة في المواكب التي

تعرض أمامه في المولد النبوي لنعذره على إبقائها.

_________

ص: 353

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مرض الأستاذ الإمام

لقد مرض أستاذنا منذ أشهر مرضًا كنا نظن أنه من الأمراض الهينة التي

كانت تعتاده، ولكن طال الزمان ورأينا كل من عُرِضَ عليه من الأطباء ينهاه عن

الأعمال العقلية وإجهاد الفكر، ويأمره بالحمية والراحة التامة وهو لا يزداد إلا إجهادًا

لنفسه وجهادًا لأمته، وكان موضع المرض المعدة والأمعاء، فانتقل إلى الكبد

فاختلف الأطباء حينئذ بين قائل: إن المعدة هي الأصل والكبد تأثرت منها وقائل:

إن الكبد بتمددها تضغط على المعدة فتمنعها من وظيفتها وأجمعوا على اختلافهم في

أي العضوين هو الأصل على وجوب ترك العمل بتاتًا والتعجيل بالسفر إلى أوربا،

وكل منهم أشار بترجيح بلاد واختيار أطبائها فرضي الأستاذ بالسفر، ولكن لم يرض

القدر إذ كانت السفن الدورية التي تنقل الناس إلى أوربا لا تقبل زيادة على من سبق

إلى أخذ جوازاتها من السائحين والمصطافين إلى 14 من الشهر الإفرنجي الماضي

(يونيو) فأخذ جوازًا وصبر عن السفر، ولكنه لم يصبر عن العمل كدأبه وعادته،

فكان يبيت على فراش الآلام ويغدو إلى محل عمله؛ فينظر في الفتاوى وفي

أعمال مجلس الشورى، ومجلس الأوقاف الأعلى وأعمال الجمعية الخيرية

الإسلامية وأوقاف الحنفية، ويشتغل مع اللجنة التي يرأسها لوضع نظام لمدرسة

القضاء الشرعي، ويحضر امتحان مدرسة دار العلوم وينظر في حاجات العفاة

وطلاب المساعدة، والشفاعة عند الحكام فيقضي حاجاتهم حتى ثقلت عليه وطأة

المرض وعجز عن الخروج واشتدت عليه الآلام حتى كان - والذي خلقه حجة

على هذه الأمة التي زرئت بالكسل والخمول - يشتغل على فراشه عند سكون نوبة

الألم ولم يكن شيء من ذلك الشغل لنفسه ولا لأهله وولده ولكنه للناس، وهل كان

الناس يشفقون عليه ادخارًا له أو تأدبا معه أو عملاً بالذوق الذي به أهل هذا البلد؟

كلا إنهم كانوا يكلفونه النهوض بأثقالهم وقوفًا على سريره وهو مضطجع أو

مستلقٍ عليه، وكان يعمل ما قدر ويعتذر عما يعجز طالبًا الإنظار والإمهال إلى أن

تحسن الحال.

جرى على هذه الحال يعمل للناس والمرض يعمل فيه عمله، وينهك قواه

وينحل جسده، حتى إذا ما دنا موعد سفره رآه بعض الأطباء فقال: إن المرض

ينذر بالخطر ولا يجيز له الإقدام على السفر، فجيء بطبيب آخر؛ فقال قولة الأول،

فكتم هذا القول من عرفه من الأصدقاء وذي القربى، وساروا به في اليوم التالي إلى

الإسكندرية (10 ربيع الآخر) ورآه من ليلته بعض أطبائها؛ فقالوا مثل ما قال

الأولان، وهو لم يعلم بهذا القول بل قيل له: إن الأطباء قالوا: إن جسمك لا يقوى

على مشقة سفر البحر؛ فيجب أن تتربص في الإسكندرية لعلك بتغيير الهواء تجد

قوة تمكنك من السفر، وعند ذلك هيأ له الصديق الوفي محمد بك راسم دار أخيه في

رمل الإسكندرية ونقله إليها.

كانت الجرائد اليومية أذاعت خبر سفر الأستاذ إلى أوربا، ثم ذكرت أنه أرجأ

السفر بأمر الأطباء فعلم القاصي والداني من أهل هذا القطر بمرضه، وظهر من آيات

مكانته في نفوس الناس ما لم يكن يعلم كله، فكان شُغلاً شاغلاً للعقلاء والفضلاء من

جميع الأصناف والطبقات، فكان أمراء البيت الخديوي ومن حضر من نظار

الحكومة لا سيما رئيسهم (القائم مقام الخديوي) وغيرهم من كبراء الأمة يترددون

على الدار التي يقيم فيها المرة بعد المرة، وكان بعض الأمراء يرسلون إليه أطباءهم

وكانت الرسائل ترد كل يوم في البرق والبريد من جميع أنحاء القطرين - مصر

والسودان - تسأل عن صحته، وكلما وجد يومًا راحة تبشر الجرائد بها الأمة

فيصبح الناس مطمئنين فإذا سكتت الجرائد يومًا عن البشارة لجّوا في السؤال

مستخبرين.

أما نحن - معشر أهليه وأقرب أصدقائه ومريديه - فإننا نتراوح بين اليأس

والرجاء إذا رأيناه في راحة من الألم يرجح أملنا حتى إذا ما تألم عظم خوفنا

ووجلنا، فمثلنا في ذلك مثل مقياس الحرارة كل يوم في صعود وهبوط بحسب ما

نرى من حاله، ولا غرو فهو كالهواء لحياتنا المعنوية وكالشمس لأمتنا المسكينة،

ونسأل الله تعالى دفع البلاء واللطف في القضاء، وتعجيل الشفاء، إنه سميع الدعاء.

_________

ص: 355

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتذار للقراء الكرام

لا يجهل أحد من قراء (المنار) صلتنا بالأستاذ الإمام، ولا حاجة لأنْ

نقول: إن مرضه قد شغلنا عن كل شيء؛ فقد كنا نزوره في مصر كل يوم ونمكث

عنده ما شاء الله أن نمكث، ولما سافر إلى الإسكندرية سافرنا معه وأقمنا أيامًا رأينا

فيها حاله حسنت بعض الحسن، فعدنا إلى القاهرة وكتبنا بعض الجزء الثامن، ثم

جئنا الإسكندرية فأقمنا عنده أيامًا كان آخرها خيرًا من أولها، فعدنا إلى القاهرة

وأتممنا الثامن، وكتبنا بعض التاسع، ثم جئنا الإسكندرية وعدنا مرة بعد مرة ولم

نصدر الجزء الثامن؛ لأنه لم يتم إلا وقد جاء موعد التاسع فعزمنا على إصدارهما

معًا، وقد مر على الموعد أيام والعذر ظاهر، ولا شك أن تأخير هذين الجزئين

يستتبع تأخير ما بعدهما أيضًا وهو تأخير لا يضر؛ لأن ما يُكتب في (المنار) لا

يخلقه تأخر الزمان؛ لأنه ليس من الأخبار الطارئة التي تسبقنا الجرائد إليها فتغني

القراء عما نكتبه، وبهذا قد ظهر عذرنا للذين كتبوا إلينا من بلاد كثيرة فلم نجبهم،

ولعله لا يضيع عندنا شيء إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 357

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إعذار بعد اعتذار

أخبرنا محصل (المنار) في القاهرة بأن كثيرًا من المشتركين يقولون له: إنهم

يريدون زيارتنا ودفع قيمة الاشتراك في الإدارة. فنحن نشكر لهؤلاء المحبين رغبتهم

في زيارتنا، ونحن أشد رغبة في التشرف بزيارتهم، ونرجوهم مع ذلك أن يدفعوا

الاشتراك للمحصل؛ لتكون الزيارة بيننا ودية أدبية فقط، ولكي لا يحرم المحصل من

أجرة التحصيل منهم؛ إذ ليس له شيء إلا على ما يحصله بيده، فالدفع إليه أحب إلينا

وأنفع له، فلعل إخواننا الكرام يرضوننا جميعًا.

ثم إنا نذكر السادة المشتركين في القطر المصري والسودان بأن يتفضل أهل

الفضل منهم بإرسال قيمة الاشتراك إلينا بالتحويل على البريد ولا يلجئونا إلى الكتابة

إليهم أو التحويل عليهم، ولا شك أن من يرجع إلى وجدانه ويفكر فيما نحن فيه من

الشواغل يلبي مسرعًا، ويجعلنا له من الشاكرين.

_________

ص: 358

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي غريب في عاقبة السُّكر

جاء في بعض الجرائد أن بعض حكماء أمريكا يرى أن الناس بعد كذا ألفًا من

السنين يصيرون كلهم مجانين؛ بتوارث تأثير السُّكر في دمائهم وأعصابهم؛ فأولاد

السكارى دائمًا مستعدون للجنون فإذا هم اعتادوا مثله على السُّكر جاء أولادهم أشد

استعدادًا له منهم، وهكذا يتسلسل نمو الاستعداد للجنون حتى يصير جنونًا في بعض

طبقات النسل؛ ولذلك يكثر الجنون في الناس عامًا بعد عام، وأكثر ما يصيب

السكورين، فإذا دام انتشار السُّكر، وإقبال الناس على هذه الخمور الكثيرة الأنواع

فإنها يوشك أن تعم البشر بعد ألوف من السنين فيكون كل واحد منهم مستعدًّا للجنون

فيظهر فيهم بالتدريج حتى يغتالهم غول السُّكر أجمعين.

يعد أكثر الناس هذا القول غُلُوًّا في المبالغة، ولكن لا يوجد عاقل عالم ينكر أن

السُّكر يعد النسل للجنون، فهل يتعظ بذلك الفساق وعبيد اللذة، ويخافون على نسلهم

إذا لم يخافوا على أنفسهم من سائر عواقب السكر في الدنيا والآخرة؟ كلا، إن

الإنسان خلق ضعيفًا لا يقوى على مقاومة الشهوة إلا إذا أُدِّبَ تأديبًا دينيًّا من الصغر،

فإنه حينئذ يرجى له أن يقوى على جند الشهوة المحرمة في الغالب، فإن غلبته نفسه

على الإلمام بشيء تذكر الله فلاذ بالتوبة والإنابة.

لقد ران حب اللذة على العقول فأضعف الفكر وختم على القلوب، فأمات

شعور الحق والخير، وصرف الحواس عن الاعتبار بما ترى وتسمع، فكأن هؤلاء

المدمنين لا يظنون أن في السُّكر شيئًا من الضرر، ولذلك يوجد فيهم من يلزم به

أهله وولده ويجمعهم عليه. رأيت في بعض الجرائد أن رجلاً من الأغنياء أخذ ولده

ليلاً إلى بعض ملاهي الأزبكية حيث المقامرة والسكر فطفق الوالد يقامر حتى رأى

ولده يهوم طلبًا للنوم؛ فطلب له كأسًا من الجعة (البيرة) فأنكره الولد وعافه؛ فألحَّ

عليه والده ومربيه حتى شربه بالتدريج وكان ذلك مفتاح الشرور فلم يلبث الولد أن

عاد إلى ذلك حتى اعتاد وانغمس في الفساد وانقطع عن الدرس والمدرسة فيا لله

ولهذه التربية.

آفة هؤلاء الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم فساد الدين، ومن العجائب أن منهم

من يتوهم أن عقله وفكره أرقى من أن يقبل الدين، وأن المتدينين لا يكونون إلا

منحطين في مراتب البشرية، كأن أعلا مراتب البشرية عند هؤلاء السفهاء أن

ينصرف الإنسان إلى اللذات البهيمية فلا يكون بينه وبين الثور والخنزير والقرد

فرق في غير الصورة الجسدية إلا بخروجه هو في طاعة شهواته عن مقتضى

الفطرة والإسراف في كل شيء حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، ولو صح

هذا الرأي لكانت البهائم أفضل من الناس كما هو ظاهر.

_________

ص: 358

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌افتخار جريدتي

اللواء والعالم الإسلامي بالكذب

من القواعد المعروفة أن الإنسان يتكبر إذا كان يشعر في نفسه بأنه وضيع بين

كبراء لا يجاريهم؛ إلا إذا تكلف الظهور بمظهرهم؛ لأن صيغة التكبر تدل على

التكلف. ومن لوازم التكبر الكذب في القول ليتم به التكبر بالفعل، وكأن صاحب

جريدتي اللواء والعالم الإسلامي على غروره بنفسه يشعر بأن جريدته لا قيمة لها

فهو يخترع الرسائل ويدعي أنها جاءته من الهند وجاوه والآستانة، وغيرها من

البلاد، ثم يتبجح ويفتخر بذلك ويدعي أن جريدتيه موضع ثقة الأمم والشعوب

الإسلامية في العالم الإسلامي، ولعلك لا تجد شيئًا من هذا التبجح والتنفج في جريدة

يومية أخرى ولا في جريدة أسبوعية؛ إلا أن يكون بعض ما يسمونه في مصر

بالجرائد الساقطة فالتيمس والتان ونيويورك هرالد وأمثالها تستحي أن تفخر ولو

بكلمة حق؛ لأنها ترى الكمال في أن يفخر بها الناس، لا في أن تفخر هي بنفسها.

وإذا أحببت أن ترى شاهدًا من شواهد رسائل اللواء المكذوبة فراجع العدد

1754 والعدد 1762 تجد في الأول منهما مقالة، وفي الآخر مقالة أخرى زعم أنها

جاءته من جاوه تؤيد ما كتبه في العدد 1754 من جهة، وتستدرك عليه من جهة

أخرى وأنت ترى أن مدة ما بين العددين سبعة أيام، ففي هذا الأسبوع طار عفريت

من الجن بعدد اللواء من القاهرة فقطع البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى جاوه ثم

حمل رسالة من أحد المسلمين هناك وعاد بها إلى إدارة اللواء الأغر، ولولا هذا

العفريت لما وصل اللواء إلى جاوه، وكتب ذلك الكاتب ووصلت رسالته إلى مصر

إلا في زهاء شهرين من الزمان.

يقول الناس في أمثالهم: (إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا) أي لئلا تفتضح عند

الناس فتحتقر، ولكن صاحب الجريدتين قد أَمِنَ من أهل وطنه المحبوب أن يحتقروه

مهما قال وفعل فهو مستغن عن تكلف عناء التذكر والتوفيق بين الكذب السابق

واللاحق.

يسهل على اللواء الأغر أن يكذب في يومه على أمسه، فكيف يطالَب بأن لا

يكذب في أسبوع على ما قبله؟ رأيت بالمصادفة ما نقله عن جريدة الأهرام في

استرجاع شيخ الجامع الأزهر لكتابه الذي أرسله إلى رئيس النظار (القائم مقام

الخديوي) في مسألة إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية. جريدة الأهرام قالت

يوم الجمعة: إن شيخ الجامع اقتنع بأن إرسال ذلك الكتاب لم يكن من الصواب

فاسترجعه رسميًّا وأبطل عدده (نمرته) الرسمي، وجريدة اللواء زعمت في يوم

السبت التالي لتلك الجمعة أن جريدة الأهرام قالت: إن الحكومة كلفت شيخ الجامع

بسحب كتابه. ولم يكن أحد من الناس نسي ما في جريدة الأهرام؛ لأنه لم يمر عليه

سوى ليلة واحدة.

وكأننا ببعض الذين يعرفون كنه اللواء وصاحبه، يعذلوننا على إضاعة

نحو صفحتين من المنار في بيان كذبه، ولعلهم يرجعون عن عذلهم؛ إذا علموا أننا

لا نقصد بهذا إلا الرد على الذين أخبرونا بأن اللواء نشر مقالة من جاوه وأخرى من

كلكته في ذم المنار وطلبوا منا الرد عليهما ليعلموا أننا لا نثق بما يكتب في هذه

الجريدة ولا نقرأه على أنه لم يكن في تلك المقالتين إلا السب والشتم، فلو أنهما

تضمنتا نقل شيء من المنار والرد عليه لبينا للناس الحق في ذلك.

_________

ص: 359

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

مات الأستاذ الإمام، ولو كان كِبَر النفوس، وطهارة الأرواح، وعلو الهمم

مما يحول دون الموت؛ لما مات أبدا، ولكن كل حي يموت إلا الحي القيوم

{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) .

مات الأستاذ الإمام؛ فمات ذلك العلم الواسع، والحكمة البالغة، والحجة

الناطقة، والمعارف الكونية والإلهية، والعلوم الكسبية واللدنية، مع البيان الساحر

والأدب الباهر، والبلاغة التي تمتلك العقول والقلوب، والفصاحة التي تستهوي

الأسماع والنفوس.

مات الأستاذ الإمام، فماتت تلك الأخلاق القدسية، والشمائل المحمدية،

والصدق في القول والفعل، والإخلاص في السر والجهر، والوفاء في القرب والبعد،

والسخاء في العسر واليسر، والعفة في الشباب والكهولة، والحلم عند الغيظ

والمغاضبة، والعفو مع القدرة على المؤاخذة، والتواضع وخفض الجناح للمخلصين،

والشهامة والترفع على المنافقين والمستكبرين، واللين للحق وأهله، والشدة على

الباطل، وجند الشجاعة التي تهابها الأمراء والعظماء، والقناعة التي رفعت رأسه

فوق الرؤساء.

مات الأستاذ الإمام؛ فماتت تلك الأعمال النافعة، والمشروعات الرافعة،

والمساعي الجديدة، والوسائل المفيدة، والاجتهاد في ترقية الأمة، والدفاع عن الملة،

والدعوة إلى التوحيد والتأليف، والاشتغال بأفضل التعليم والتأديب، والتربية

الصحيحة للمريدين، والجمع بين علوم الدنيا والدين، ومواساة البائسين والمعوزين،

وكفالة أولاد الفقراء والمساكين.

مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة، والمقاصد الحميدة، التي كانت

مطوية في ذلك الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الكبير، تلك الآمال التي

تتضاءل دونها همم الملوك والأمراء، وتتصاغر أمامها نفوس الزعماء والأغنياء

الذين هم عن استعمال مواهبهم مصروفون، وعن الثقة بربهم محجوبون، وعن سنته

في خلقه غافلون.

مات الأستاذ الإمام فراع موته الناس، من جميع الطوائف والأجناس، فعلم

علماء الدين، أنهم فقدوا ركنهم الركين، الذي تحمل عنهم رد الشبهات، وغير ذلك

من فروض الكفايات، وعلماء الدنيا، أنهم خسروا ركنهم الأقوى، الذي يدفع عنهم

مطاعن المتعصبين، وتكفير الجامدين، ويثبت أن الإسلام جمع بين المصلحتين،

ولا يتم ذلك إلا بالجمع بين العلمين، وشعر طلاب الإصلاح بأنهم فقدوا إمامهم

العظيم، الذي كملت فيه صفات الزعيم، وأحسَّ الفقراء والمساكين بأنهم رزءوا

بكافل اليتامى وغوث العاجزين، ولم يجهل القائمون بالشؤون العامة شدة وقع هذه

الطامة، وأنهم نكبوا بصاحب الرأي الثاقب، والعمل النافع، مربي الرأي العام في

الشورى والجمعية العمومية، صاحب اليد البيضاء في الأوقاف الإسلامية،

المضطلع بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية، الناهض بأعباء الجمعية الخيرية،

الموفق بين الحكومة والرعية، واعترف أهل الملل بأن مصابه مصاب الإنسانية،

والخسارة الكبرى على العلم والمدنية.

مرض هذا البر الرحيم؛ فكان على فراش الموت يسأل عن بعض الضعفاء،

ويبحث عن مساكن القواعد من النساء، ليواسيهم بالبر من وراء الستر، وقال لي:

إن فلانًا الغريب قد انقطع عن السفر بدَيْن عليه، وإنني مستغن الآن عن مائة جنيه

فإن كانت كافية أرسلتها إليه، ولكنه غاب عن الوجود، قبل أن يقضي لبانته من

البر والجود.

مرض هذا المصلح العظيم فاضطربت الأمة المصرية لمرضه فكانت الدار

التي يمرَّض فيها كعبة العائدين من العلماء والأمراء، والوزراء، والأدباء والفضلاء،

والفقراء، والأغنياء وكان البرق يناجيها كل يوم مع البريد، بالنيابة عن العاجز

والبعيد، سائلين عن صحته، أو مهنئين بما يقال عن راحته، فكان يحمد الله أن

جعل الدهماء من أمته يعرفون لخادمها خدمته، ويشكرون للعامل لها عمله، ويقول

لئن شفيت لأجهدن النفس في خدمتهم أجمعين؛ حتى أكون حرضًا أو أكون من

الهالكين.

مرض الأستاذ الإمام، فلم يعقه المرض عن خدمة المسلمين والإسلام،

واحتضر الأستاذ الإمام، وهو يلتهب غيرة على المسلمين والإسلام.

نقول: مات الأستاذ الإمام؛ فنبدئ القول ونعيده ننصر الحس، ونكابر النفس

فقد كادت تحسب أن موته رؤيا منام، وأضغاث أحلام، وما هو إلا الحق اليقين

ومصير الأولين والآخرين، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا

تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35) .

مات أستاذنا وإمامنا، ولك اللهم البقاء فلا تفتنَّا بعده، ولا تحرمنا أجره،

واغفر اللهم لنا وله.

نعم، إنه قد مات ولكن لم تمت علومه ومعارفه، ومآثره وعوارفه، فلقد ربى

أرواحًا، وأصلح إصلاحًا، وألف كتبًا، وترك علماء وأدبًا، وأمات سننًا سيئة له

أجْرُ إماتتها، وأحيا سننًا حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها، وعلمنا كيف نفهم

القرآن، ونقيم شرائع الإسلام، مع توخي نفع الناس أجمعين، والإخلاص لله رب

العالمين.

مات أستاذنا وإمامنا فكبر علينا موته، ولكنه ربانا على الصبر وعلمنا كيف

نتعزى عنه حتى في مرض موته، فقد كان هجيراه في تلك الكربات والسكرات،

كلمة الله التي أمرنا بتكرارها في الصلوات. (الله أكبر) فلئن كان بفضل الله كبيرًا

فينا فالله أكبر، ولئن كان مرضه وموته كبيرًا علينا فالله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا

بالله العلي العظيم، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) .

لبى دعوة ربه برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة بعد الزوال من يوم

الثلاثاء ثامن جمادى الأولى؛ فنعاه البرق بآلاته الناطقة والكاتبة إلى العاصمة

وغيرها من مدن القطر؛ فاضطربت لنعيه القلوب، وذرفت العيون، واسترجعت

الألسنة وحوقلت، وطفق الناس يعزي بعضهم بعضًا متفقين على أن المصاب به

عام، وأشد وقعه على المسلمين والإسلام، وما كنت تسمع من القريب والغريب،

والبغيض والحبيب، والوطني والأجنبي، والرشيد والغوي، والعالم والجاهل،

والمفضول والفاضل إلا كلمة (خسارة لا تعوض) أو كلمة (عوض الله الأمة

به خيرًا) أو قول الشاعر:

وما كان قيسًا رزءه رزء واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

أو قول الآخر:

ولكن الرزية فَقْد حُرٍّ

يموت لموته خَلق كثير

وقد اجتمع مجلس النظار فقرر أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في

الإسكندرية ومصر، وأن تنقل جثته على قطار خاص إلى العاصمة، ففعلت،

وشاركتها الأمة ونزلاؤها والمحتلون بهذا التشييع الذي لم يسبق مثله لغيره حتى كان

يخيل للمشيع أنه لم يبق أحد من سكان الإسكندرية ولا من سكان القاهرة إلا وقد

حضر ليودع هذا الإمام الوداع الأخير، وقد صُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن

في قرافة المجاورين تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته.

ولما كان المنار هو الداعي إلى الانتفاع بهذا الإمام المصلح في حياته، فجدير

به أن يرشد إلى الاستفادة بسيرته بعد مماته، فلا نطيل في الرثاء والتأبين وإن كان

بالحق، ولكننا نقص على القراء مخلص سيرته مع التزام الصدق؛ ليظهر لهم كيف

تعلم وتربي حتى صار إمامًا حكيمًا، وماذا عمل حتى صار مصلحًا عظيمًا،

وسنضع له تاريخًا مطولاً نفصل فيه ما أجملنا، ونشرح فيه ما لخصنا، ونودعه

كثيرًا من رسائله ومكاتباته، وخطبه ومقالاته، وما كتب به إليه بعض العلماء

والعظماء، وما قاله فيه نوابغ الكتاب والشعراء، وما أبَّنَتْه به الجرائد، وما رثي به

من غُرَر القصائد، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاء الأمة فيه، ويوفقنا

في مصابنا لما يحبه سبحانه ويرضيه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 375

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام

(1)

أصله ونسبه ومولده

هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من مديرية البحيرة في القطر المصري.

وبيت خير الله تركماني الأصل كما أخبرنا الفقيد رحمه الله تعالى ولا أذكر عنه شيئًا

من تاريخ قدوم عشيرتهم إلى القطر المصري إلا أنهم كانوا يقيمون في الخيام وأن

علي باشا مبارك أخبره أن عبد اللطيف البغدادي المؤرخ الشهير ذكر في الرحلة

الكبرى أنه جاء (محلة نصر) ونزل ضيفًا في بيت التركماني، وأمه من عشيرة

كبيرة في مديرية الغربية تعرف بعائلة عثمان وتنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا

عمر بن الخطاب ويقال: إنها من ذريته.

وكان والده شهمًا شجاعًا وقورًا سخي النفس وكانت والدته برة رحيمة

بالمساكين ذكية الفؤاد شديدة الحياء ولا أبعد إذا قلت: إن والديه كانا من أسلم الناس

فطرة وأحسنهم خلقًا. وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة

لا بتعليم المدارس ولا بتأديب المعلمين. وهذا أصل عظيم في استعداد الرجل لما

وصل إليه من الكمال الذي لم نر ولم نسمع بمثله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري

ومسلم.

ولد قدس الله تعالى روحه في أواخر سنة خمس وستين أو ست وستين ومائتين

وألف من الهجرة الشريفة (روايتان من كتابته) في قرية من قرى مديرية الغربية

كان والده هاجر إليها هو وأخوه بهنس فرارًا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر

حكم محمد علي باشا الكبير وكان له قرابة في تلك القرية، وفي أثناء إقامته فيها كان

يتردد إلى بعض القرى القريبة فيها ويتعارف هو وأهلها؛ فأدى ذلك التعارف إلى

المصاهرة إذ تزوج بوالدة الفقيد وهي من قرية تسمى (حصة شبشير) قريبة من

مدينة طنطا وأقام معها في قرية تسمى (شتر) إلى أواخر مدة عباس باشا الأول

والي مصر ثم ألجأته الحوادث بعد ذلك إلى الرجوع إلى بلده وهي قرية تسمى

(محلة نصر) في البحيرة وفيها نشأ وترعرع.

***

تعليمه وتربيته

نشأ كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى ولم يدخل المكتب

لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه وقد كتب هو عن مبدأ تعلمه

وتأدبه ما نصه: (تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي ثم انتقلت إلى دار حافظ

قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه

جميعه في مدة سنتين أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب

آخر ليقرأوا القرآن عند هذا الحافظ ظنًّا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من

أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ

مجاهد رحمه الله لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد وكان

ذلك في سنة 1279 هجرية) .

(ثم في سنة إحدى وثمانين جلست في دروس العلم وبدأت بتلقي شرح

الكفراوي على الأجرُّومية في المسجد الأحمدي بطنطا وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم

شيئًا لرداءة طريقة التعليم فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية

لا نفهمها ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها فأدركني اليأس من النجاح

وهربت من الدرس واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي فأخذني

إلى المسجد الأحمدي وأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا

نجاح لي في طلب العلم ولم يبق عليّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة

الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه فأخذت ما كان

لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم

وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية.

فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا وهي بعينها

طريقته في الأزهر وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم

القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم - سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو

ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم غير أن الأغلب من الطلبة

الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب إلى

أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم

العامة فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده

داعية الاسترشاد ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين

نفع الناس بعلمه.

بعد أن تزوجت بأربعين يومًا جاءني والدي ضحوة نهار وألزمني بالذهاب

إلى طنطا لطلب العلم وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر

ووجدت فرسًا أُحضر فركبته، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية شديد

البأس ليشيعني إلى محطة (إيتاي البارود) التي أركب منها قطار السكة الحديدية

إلى طنطا.

كان اليوم شديد الحر والريح عاصفة ملتهبة سافياء، تحصب الوجه بشبه

الرمضاء، فلم أستطع الاستمرار في السير فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا

طاقة لي بها مع هذه الحرارة ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها أن يخف الحر،

فأبى علي ذلك فتركته وأجريت الفرس هاربًا من مشادته وقلت: إني ذاهب إلى

(كنيسة أدرين) - بلدة غالب سكانها من خؤولة أبي - وقد فرح بي شبان القرية [*]

لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل

منا بصاحبه. أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر وأرادني على السفر فقلت له

خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد وإن شئت قلت لوالدي: إنني سافرت إلى

طنطا فانصرف وأخبر بما أخبر وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يومًا تحولت فيها

حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.

ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى صحراء

ليبيا، ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني والد

الشيخ ظافر المشهور الذي كان قد سكن الأستانة وتوفي بها وتعلم عنده شيئًا من العلم

وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد

حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس

من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة.

وإن هذا الشيخ جاءني صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة وبيده كتاب

يحتوي على رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط

مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره فدفعت طلبه بشدة ولعنت

القراءة ومن يشتغل بها ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته

إلى بعيد لكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت

الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة

تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى

ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية فرميت الكتاب

وانصرفت إليهم. بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه وألح علي في قراءة شيء منه

فقرأت وفسر، ثم تركته إلى اللعب وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول أما اليوم

الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ

فيها فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل بعض العمل فيها فطلبت

منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت

عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة

في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان

معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل

إلى الفهم.

كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية وكثير من

كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل

وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا.

لم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلى ما كنت أحبه من

لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم

وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في

عِشْرة الشيخ رحمه الله فكنت لا أحتمل أن أرى واحدًا منهم بل أفر من لقائهم جميعًا

كما يفر السليم من الأجرب.

في اليوم السابع سألت الشيخ ما هي طريقتكم فقال: طريقتنا الإسلام فقلت أو

ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على

التافه من الأمر ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات

كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم - متاع تلك الدعاوى

الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة

ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا

ورد لنا سوى القرآن تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي

أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها

يفيض الله عليك التفصيل وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بينها.

وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن فلم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد

رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد [1] واتسع لي ما كان

ضيقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان

والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا، وتفرقت عني جميع الهموم ولم

يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس ولم أجد إمامًا

يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من

سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد، - هذا هو

الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ درويش خضر من

أهالي (كنيسة أدرين) من مديرية البحيرة. وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة

في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب عن غريزتي، وكشف لي ما

كان خفي عني مما أودع في فطرتي.

وفي اليوم الخامس عشر مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة نصر) فأخبرني

أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني فعلمت أن سيقول لوالدي أنني لا أزال في الكنيسة

فأصبحت مبكرًا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت

له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لَمَا اقتنع.

ذهبت إلى طنطا وكان ذلك قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادي الآخرة

من سنة 1282 هجرية لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته فعاقه الحزن

عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزية وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام

شرح الشيخ خالد على الأجرومية فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان

يدرسه وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد

لله. وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما

سنتلقاه. وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة كنت أطالع بين الطلبة وأقرر

لهم معاني شرح الزرقاني فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين

يسمونهم بالمجاذيب فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر

البيضاء: فقلت له وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله من جد وجد. ثم

انصرف فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم

في مصر دون طنطا.

وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب

العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت أستغفر الله

إذا كلمت شخصًا كلمة لغير ضرورة. وفي أواخر كل سنة دراسية كنت أذهب إلى

(محلة نصر) لأقيم بها شهرين - من منتصف شعبان إلى منتصف شوال - وكنت

عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشًا قد سبقني إليه فكان يستمر معي

يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري. وكل سنة كان يسألني، ماذا قرأت؟

فأذكر له ما درست فيقول: ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئًا

من مبادئ الهندسة؟ وهكذا وكنت أقول له بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة

في الأزهر فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان، فكنت إذا

رجعت إلى القاهرة ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها فتارة كنت أخطئ في

الطلب وأخرى أصيب إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر

أواخر سنة 1286.

وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287 وأخذت أتلقى عنه بعض

العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك

وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس

في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك

على الشيخ درويش فكان يقول لي: إن الله هو العليم الحكيم ولا علم يفوق

علمه وحكمته وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه

وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة فلا شيء من العلم بممقوت عند الله

ولا شيء من الجهل بمحمود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علمًا وليس في الحقيقة

بعلم كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.

هذا ما كتبه الفقيد عن مبدأ تربيته وتعلمه في ترجمته التي كتبها لي قبل اشتداد

مرضه الأخير، وكان حدثني قبل بشيء من ذلك ومنه أنه لم يكن يواظب على

حضور دروس من لا يفهم أو لا يستفيد منهم وأنه ربما كان يحضر درس أحدهم

وفي يده كتاب آخر يطالع فيه مدة الدرس وأن من شيوخه الذين فهم منهم واستفاد في

أول تحصيله الشيخ محمد البسيوني وأنه بعد الحضور في الأزهر ثلاث سنين مل

الدروس المعتادة كأنه أخذ حظه منها، وصارت نفسه تطلب شيئًا جديدًا وتميل إلى

العلوم العقلية ولكنه حضر جميع الكتب وفهمها ولم يكن يرتاح إلى إعادة شيء منها.

وكان الشيخ حسن الطويل ممتازًا في الأزهر بعلم المنطق فحضره عليه ولم يكن

يشفي ما في نفسه بل كانت تتشوف دائمًا إلى علم غير موجود فكان يبحث في

خزائن الكتب الأزهرية عن طلبته المجهولة فيظفر ببعض الشيء ومما ظفر به

القطب على الشمسية ناقصا. وقرأ الشيخ حسن الطويل لهم شيئا من الفلسفة ولكن لم

يكن يجزم بأن المعنى كذا بل كان الدرس احتمالات أو أشبه بالحرز فيما بينهم حتى

جاء السيد جمال الدين فسكنت إليه نفسه من اضطرابها ووجدت عنده جميع طلبتها،

وأقصى أمنيتها، وأخبرني رحمه الله تعالى أن الذي أخبره بقدوم السيد جمال الدين

هو أحد المجاورين في رواق الشوام قال له إنه جاء مصر عالم أفغاني عظيم وهو

يقيم في خان الخليلي فسر بذلك وأخبر الشيخ حسنا ودعاه إلى زيارته معه فألفياه

يتعشى فدعاهما إلى الأكل معه فاعتذرا فطفق يسألهما عن بعض آيات القرآن وما

قاله المفسرون والصوفية فيها ثم يفسرها لهم، فكان هذا مما ملأ قلب فقيدنا به عجبًا

وشغفه حبًّا؛ لأن التصوف والتفسير هما قرة عينه أو كما قال مفتاح سعادته.

وأخبرني رحمه الله تعالى أنه قرأ على السيد كتاب الزوراء للدواني في

التصوف، وشرح القطب على الشمسية والمطالع وسلم العلوم من كتب المنطق،

والهداية والإشارات وحكمة العين وحكمة الإشراق من الفلسفة، وعقائد الجلال

الدواني والتوضيح مع التلويح في الأصول، والجفميني في الهيئة القديمة وكتابا آخر

في الهيئة الجديدة نسيت اسمه.

ثم إن السيد أرشده كغيره من تلامذته إلى الإنشاء وكتابة المقالات الأدبية

والاجتماعية والسياسية ومرنهم على الخطابة فبرع فقيدنا في ذلك حتى صار أبرع

من أستاذه نفسه؛ لأن عبارة السيد رحمه الله تعالى كانت على متانتها وبلاغتها لم

تصف من كدورة العجمة إلى صفاء الانسجام العربي الخالص كعبارة الشيخ، ثم إن

مجالس السيد في ناديه وسامره كانت كلها مجالس علم وحكمة وأدب وسياسة وقلما

كان يفوت فقيدنا شيء منها إذ كان يلازمه ملازمة ظله وما يستفيده المرء بالمذاكرة

في ساعة لا يستفيده بالدرس في ساعات؛ لأن المدرس يكلفك كل ما يلقيه إليك سواء

كنت تشعر بالحاجة إليه وتعتقد الاستفادة منه أم لا وسواء كنت مستعدًّا لفهمه أم لا،

وأما المذاكرة فهي مشاركة اختيارية في البحث والإنسان لا يختار إلا ما يرى نفسه

محتاجة إليه ومستعدة لفهمه فمثل الدرس يلقى إليك كمثل من يكلفك أن تأكل مقدارًا

معينًا من الأطعمة التي قد تعاف بعضها ولا تستطيع تناولها إلا بكلفة وغثاثة فأنت لا

تتغذى إلا ببعضها والباقي إما أن يضر وإما أن لا ينفع ومثل المذاكرة كالطعام الذي

تشتهيه وتتناول منه ما يكفيك فيكون كله غذاءً نافعًا. وقد قال بعض علماء التربية

من الإفرنج: إنه قلما يفلح من يقيم في مدارس العلم زمنًا طويلاً. ولقد كانت مجالس

أستاذنا الفقيد كمجالس أستاذه (رحمهما الله) تفيض علمًا وحكمةً وأدبًا، ولكن الفصل

بينهما في هذا هو أن السيد كان يلقي الحكمة لكل أحد، وأما الشيخ فكان تخاطب كل

أحد أو كل فريق بما يرى أنه مستعد له ومتوجه إليه، وقد قال لي رحمه الله تعالى:

إن السيد جمال الدين كان يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب

مخاطبة إلى ما يريد وإن لم يكن من أهله وكنت أحسده على ذلك لأنني تؤثر فيَّ حالة

المجلس والوقت فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاًّ، وهكذا الكتابة إلخ

ما قاله وسنذكره في محله من تاريخه إن شاء الله تعالى.

تدريسه ودعوته إلى إصلاح التعليم في الأزهر

كان عفا الله عنه قبل أخذ شهادة التدريس يطالع مع بضع الطلاب الدروس

التي يحضرونها في الأزهر، ثم اتفقت الرغبة على أن يقرأ لطائفة منهم بعض الكتب

فقرأ لهم إيساغوجي في المنطق، ثم شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني مع حواشيه

ثم مقولات السجاعي بحاشية العطار وغير ذلك من الكتب التي لم تكن تقرأ في

الأزهر فكثر سواد المجتمعين عليه، وكان يدعوهم إلى مطالعة ما لم يتعودوا من

الفنون والكتب ويفتح لهم أبواب المذاكرة والمناقشة ليلاً فكانوا يغتالون الليل ولا

يشعرون بطوله وفُتن الأذكياء بحسن بيانه ودقة فهمه وحسده أناس منهم فأحفظوا

عليه قلب الشيخ عليش فكان ما كان من حادثته معه إذ ذهب ابن للشيخ عليش مع

طالب آخر فقالوا: إن فلانًا يقرأ شرح العقائد النسفية وقد رجح في درسه أمس مذهب

المعتزلة على مذهب الأشعرية وكان الشيخ عليش رحمه الله أذنًا يصدق بكل ما سمع،

وكان شديد الغيرة في الدين حديد المزاج سريع الغضب فكبر عليه أن يقرأ أحد

الطلاب مثل ذلك الكتاب الذي لم يكن الشيوخ الكبار يتسامون لقراءته فأرسل إلى

الفقيد فجاءه وهو يقرأ الدرس في المسجد الحسيني فقال الشيخ عليش: بلغني أنك تقرأ

شرح العقائد النسفية درسًا قال نعم. قال الشيخ عليش: وبلغني أنك رجحت مذهب

المعتزلة على مذهب الأشعرية قال إذا كنت أترك تقليد الأشعري فلماذا أقلد المعتزلي

إذًا أترك تقليد الجميع وآخذ بالدليل قال الشيخ عليش: أخبرني الثقة بذلك قال هلم

الثقة الذي يشهد بذلك فليميز أمامنا هنا بين المذهبين وليخبرنا أيهما رجحت، قال

الشيخ عليش: أوَمثلك يفهم شرح العقائد؟ قال الكتاب حاضر وأنا حاضر فسلني إن

شئت. فكبُر على الطلبة الحاضرين مثل هذه المراجعة من طالب للشيخ عليش

المهيب وقال بعضهم: إن هذا يرسل شعره ويجمعه تحت عمامته وأخذ عمامته عن

رأسه ولغط الحاضرون فتركهم الفقيد رحمه الله تعالى وذهب حاسرًا عن رأسه فقال

أناس: إن الشيخ عليشًا ضربه، وقال آخرون: إنه منعه من الدرس وكثرت

الإشاعات والأقوال والرؤى والأحلام فيه وفي السيد جمال الدين، والصواب أن

هذا كل ما حصل وأن الفقيد لم يمتنع من قراءة الدرس ولكنه كان يضع بجانبه

عصا وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا وكان من الشجاعة على ما يعهد

عارفوه كما سنبين ذلك في الكلام على أخلاقه. أما تأثير هذه الحادثة فقد كان أكبر منها

بل كان هو مبدأ خوض بعض الجامدين في دين كل من السيد الحكيم والأستاذ

الإمام رحمهما الله تعالى وسنعقد لذلك فصلاً خاصًّا في تاريخ الفقيد، نبين فيه أنه

لم يسلم أحد من أئمة الدين ولا من كبار الحكماء والصوفية من مثل هذا الطعن

وأنه من مناقب حكيمينا قدس الله روحهما وأن الذين يتشفون بمثل هذا الخوض من

الأعداء والحاسدين ومن يقلدهم من المساكين والمجانين لو عقلوا لكتموه وسعوا في

إزالته.

نعم إن ذلك الخوض والتقول مما نزين به تاريخ هذين الحكيمين ولكن لا ننكر

أن تأثيره السيئ وقع على الأمة الإسلامية عامة وعلى الأزهر خاصة دون الرجلين

اللذين لم يحترم الناس لا سيما عقلاء الأمة الإسلامية في هذا العصر أحدًا من أهل

المشرق كاحترامهم لهما ذلك أنه كان عقبة في سبيل إصلاحهما واستفادة الأمة منهما

وهما مأجوران عند الله تعالى بحسن نيتهما وبذلهما جهد المستطاع في خدمة أمتهما

وملتهما. وقد كاد يترتب على ذلك حرمان فقيدنا من شهادة العالمية ومرتبة التدريس

في الأزهر لولا عدل الشيخ العباسي وإنصافه.

كتب الأستاذ الإمام رحمه الله عن امتحانه ما نصه:

(عرضت نفسي على مجلس الامتحان في 13 جمادى سنة 1294 هجرية

وابتليت في الامتحان أشد الابتلاء لتعصب الأكثر من أعضائه مع المرحوم الشيخ

عليش وكان يعاديني على الغيب اتباعًا لآراء من لا رشد عندهم من بلداء الطلبة،

وكانوا قد أجمعوا أمرهم على أن لا يمنحوني درجة ما في العلم وجرت أمور قبل

الامتحان يطول شرحها، ولكن كان أمر الله أغلب فخرجت من هذا الامتحان بالدرجة

الثانية وصرت مدرسًا من مدرسي الجامع الأزهر وأخذت أقرأ العلوم الكلامية

والمنطقية) إلخ.

وقد أخبرني رحمه الله أن بعض الشيوخ تقاسموا قبل الامتحان يمينًا مؤكدة لا

يأخذنَّ فلان درجة ما ولما وقع الامتحان ورأوا من حسن الجواب عما سألوه فوق ما

كانوا ينتظرون، طفقوا يناقشون ويراجعون، وينتقلون به ويستطردون حتى صار

الامتحان مناظرة، تتولاها المشاغبة والمكابرة، فعند ذلك حلف الشيخ العباسي أنه لم

ير أحدًا امتحن في عصره مثله وأنه لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة

لاستحقها فأراد أحد الشيوخ وأظنه الشيخ الرافعي أن يوفق ويصلح فأخذ الورقة، وكتب له بالدرجة الثانية وطفق يعرضها على إخوانه الذين كانوا متفقين على

حرمانه ليوقعوا عليها فوقعوا ثم أعطوها للشيخ العباسي فأمضاها لهم ولم يحب أن يراجعهم بعد أن رأى منهم ما رأى فظفروا ببعض المطلوب وهو حرمانه من الدرجة الأولى، وما كانوا ضائرين.

طلبه العلم بعد التدريس والدخول في الأعمال

هذا مجمل سيرة الرجل في تلقي العلم عن الشيوخ منذ بدأ إلى أن صار مدرسًا

وإنك لتجد أكثر طلاب العلوم عندنا يعدون أخذ شهادة العالمية غاية التحصيل والتعلم

فلا تتوجه همتهم بعده إلا إلى استغلال العلم وطلب المال به وإحراز الجاه والمكانة

عند الناس بما ينالون به من وظيفة وعمل. وإن صاحبنا لم يسلك مسلكهم بل سار

على سبيل سلفنا الصالح الذين يؤثر عنهم: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، فكان

يقول إلى آخر حياته: إنني لا أزال طالب علم أبتغي المزيد منه في كل يوم. فكان له

في طلب العلم ثلاثة أدوار أولها الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من المناقشة

في عبارات كتب المؤلفين وقراءة المتون مع الشروح والحواشي والتقارير - سلكها

زمنًا حتى ملَّها وتوجهت نفسه إلى علم أعلى وفهم أجلى فقبض الله تعالى له ذلك

العلامة الحكيم السيد جمال الدين فقرأ له علومًا أخرى على طريقة أسهل مسلكًا

وأقرب غاية، فانتاشه من الإخلاد إلى أرض العبارات الركيكة والأساليب الضعيفة،

والاحتمالات البعيدة، ورفعه إلى سماء عرفان الحقيقة والإفصاح عنها بالعبارة

الرشيقة، بعد إطلاقه من قيود تقليد المؤلفين، وتعويده على الحكم باليقين، فهذا هو

الدور الثاني وهو خاص كسابقه بالعلوم الإسلامية التي كتبت باللغة العربية مع

شيء قليل من العلوم الحديثة، وتطبيق العلم على حال المسلمين الأخيرة، وأما

الدور الثالث فهو النظر في علوم الإفرنج، قرأ رحمه الله كثيرًا مما ترجم من الكتب

ثم تعلم اللغة الفرنسية فصار يقرأ الكتب فيها لا يكاد يتركها يومًا من الأيام. وكانت

عنايته بعلوم الأخلاق والنفس وأصول الاجتماع الإنساني والتاريخ وفلسفته وفن

التربية أشد من عنايته بسائر العلوم وقلما علم بكتاب لإفرنجي يتكلم فيه عن الإسلام

والمسلمين إلا واستحضره وقرأه وقد قرأ عدة كتب في تربية الإرادة خاصة، وفي

سفره الأخير إلى سويسره تعلم هناك القلم المسند؛ لأنه علم أن في بعض المكاتب

الأوربية كتبًا فيه وأن الإنكليز نقلوا من حضرموت بعض ما هنالك من الآثار

الحميرية؛ ولذلك دخل شأن في تاريخ العرب والإسلام.

وهذه العلوم الإفرنجية هي التي أعطته القوة العظيمة في المدافعة عن الإسلام

وفي زيادة البصيرة بخدمته؛ لأنه عرف من أين يهاجمه أعداؤه وكيف ترد هجماتهم.

وكان يقول: من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوربية لا يعد عالمًا في هذا العصر

وقد كتب لي في ترجمته عن تعلمه اللغة الفرنسية ما نصه:

(بدأت بتعلم اللغة الفرنساوية عندما كانت سني أربعًا وأربعين سنة ولكن

ميلي إلى تعلم لغة أجنبية ابتدأ في أثناء الحوادث العُرابية فتعلمت الهجاء ثم تركته

ونسيته تقريبًا وعندما سافرت إلى فرنسا أول مرة أقمت هناك عشرة أشهر كنت

أحرر فيها جريدة (العروة الوثقى) ولم أتعلم شيئًا من الفرنساوية؛ لأن اجتماعي

كان بالسيد جمال الدين وبرفاق من العرب واشتغالي بتحرير تلك الجريدة كان لا يسمح

لي بوقت كاف للتعلم بدراسة منتظمة فذهب عليَّ ذلك الزمن بدون فائدة في اللغة لا

كثيرة ولا قليلة. أما بعد عودتي من النفي إلى مصر واشتغالي بالقضاء في

المحاكم الأهلية والحكم بها خصوصًا في الجنايات على أصول القوانين الفرنساوية

وجلوسي بين قضاة يغلب عليهم العلم بتلك القوانين في لغتها فقد قوي عندي الميل إلى

تعلم اللغة الفرنساوية حتى لا أكون في معرفة القوانين أضعف ممن أجلس معهم

مجلس القضاء، وبعد مجيئي إلى القاهرة واشتغالي بالقضاء في إحدى محاكمها

وجدت الوقت والحال مناسبين للبدء في العمل فبحثت عن معلم فوجدت أستاذًا لا بأس

به فدعوته فجاءني حاملاً كتاب نحو في يده (كرامير) فسألته ما هذا فقال كتاب نحو

فقلت له لا وقت عندي لأنْ أبتدئ، وإنما عندي زمن لأنْ أنتهي، ثم ناولته قصة من

تأليف ألسكندر دوماس وقلت له: أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلم وما

عدا ذلك فهو عليَّ والنحو يأتي في أثناء العمل، وهكذا أتممت الكتاب وكتابًا بعده

وثالثًا عقبه وكنت أطالع وحدي بصوت مرتفع كلما وجدت نفسي في بيتي خاليًا

فتعلمت مبادئ اللغة الفرنساوية، وحصلت منها ما كان يمكنني من القراءة والفهم لكن

ما كنت أستطيع الكلام.

سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وإلى سويسرا عدة مرات في أيام العطلة الصيفية

وكنت أحضر دروس العطلة في كلية جنيف، وبهذه الطريقة تعلمت اللغة الفرنساوية

في أوقات الفراغ مع اشتغالي بالقضاء في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف. ثم

إن الذي زادني تعلقًا بتعلم لغة أوربية هو أني وجدت أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أنه

على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر به على الدفاع عن مصالحها كما

ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوربية كيف لا وقد أصبحت مصالح المسلمين مشتبكة

مع مصالح الأوربيين في جميع أقطار الأرض، وهل يمكن مع ذلك لمن لا يعرف

لغتهم أن يشتغل للاستفادة من خيرهم أو للخلاص من شر الشرار منهم؟) اهـ.

الكلام في تربيته خاصة

هذا ما يقال في طلبه للعلم، وأما تربيته فقد عُلم مما مر شيء منها وهو أنه نشأ

في بيت يوصف أهله بالأخلاق الفطرية الحميدة التي لا ينقصها إلا نور العلم وقد

كان له ولم يعن في صباه إلا بالفروسية وأعمال الرجولية، فكان يلعب بالسلاح

ويسابق الناشئين معه على ظهور الجياد ويكثر من السباحة وهذه الألعاب مما يحسن

أن يربى عليها الولدان بالقصد كما قال الحكماء وعلماء التربية وهي مما يربى

عليه أولاد الملوك والأمراء في أوربا. بعد أن أخذ حظه من هذه التربية الفطرية أخذه الشيخ درويش خضر بالتربية الدينية فألزمه العزلة ومجاهدة النفس. وكان من

جبلته أن يأخذ كل شيء بقوة فكان في مدة طلبه للعلم يصوم النهار ويقوم الليل

بالصلاة والتلاوة والذكر، ويمشي مطرقًا لا ينظر إلا حيث يضع قدميه ولا يكلم

أحدًا إلا لضرورة وقد ظل عدة سنين لا يلقي نظره على امرأة أجنبية حتى في

الطريق. وقد كان لكثرة الانهماك في الذكر والفكر والنظر في كتب التصوف

والتنقل في أحوال القوم ومقاماتهم يخرج عن حسه ويزج في عالم الخيال أو عالم

المثال كما يقولون فيناجي أرواح السابقين. ولو كان يجيز شرح ذلك لشرحناه، ولكنه

كان يقول: إن ما يحصل للصوفية من الأحوال غير الطبيعية لا يجوز ذكره لغير

العارف به ولا تجوز كتابته بحال ولو كنت ملكًا لحكمت بقتل الذين يكتبون ذلك؛

لأنهم يفتنون كثيرًا من الناس ولا يفيدون به أحدًا. وقال ما معناه ما زَجَّ أحد نفسه

في عالم الخيال ثم قدر على الخروج منه إلا أن يجذبه جاذب آخر ويخرجه منه وذلك

قليل. وأقول: إن السيد جمال الدين هو الذي أخرجه منه، ورقى به إلى ما هو خير

منه، ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن جاراه عليه زمنًا عرفه به أنه أعرف بتلك

المعاهد، وأسبق إلى تلك المشاهد بما كان يحل له من عقد كلام الصوفية التي

يعجز عن حلها، حتى أقنعه بأنه من أفراد أهلها، وسنذكر في التاريخ الكبير الذي

نضعه لفقيدنا شيئا مما كتبه على طريقة الصوفية. وأقول هنا لو كان الجماهير من

الناس يعرفون في أيام حادثة الشيخ عليش شيئًا من أمر الرجل في تصوفه وتنسكه

لهاجوا على الشيخ عليش وإن كانت شهرته بالصلاح عظيمة وعلى من وشى إليه

من فساد المجاورين، ولما خاضوا في فقيدنا بالذي خاضوا ولكنه كان يبالغ في كتمان

ذلك خوفًا من الرياء وحب السمعة والأمة مستعدة للشر والشبهة عليه حضور كتب

الفلسفة والكلام على عالم غريب وهو السيد رحمهم الله أجمعين.

قلنا: إن السيد جمال الدين هو الذي نقل فقيدنا من حال إلى حال في التربية كما

نقله في العلم، وكان الشيخ درويش هو الذي مهد له السبيل للأمرين. وقبل أن ننتقل

من الكلام في تربيته وتعليمه إلى الكلام في عمله وإصلاحه نذكر أن الشيخ درويشًا

هو الذي رباه أيضًا على التعرض للإرشاد الديني والتصدي لنصيحة الناس فمهد

السبيل التي سلكها به السيد جمال - سبيل الإصلاح العلمي والسياسي - ذلك أن الشيخ

درويشًا رأى أن مريده قد كملت نفسه بعد العزلة الطويلة وكمل سلوكه فصار بمأمن

من المعاشرين الذين يقطعون الطريق على المريدين فأمره بمخالطة الناس والتعرض

لإرشادهم وقد كتب رحمه الله في ذلك ما نصه.

(قلت: إنني كنت في أوائل مدة طلب العلم بعد مجيئي إلى الأزهر في عزلة

عن الناس إلا من استفيد منه علمًا أو نصيحة لكن بعد مضي سبع سنين على ذلك -

والشيخ يقودني في سبيل الرياضة وقهر النفس على المكاره بالصوم تارة وبلبس

الخشن والتعرض لانتقاد الناس تارة أخرى - قال لي عندما رجعت إلى محلة نصر

في سنة 1288 إلى متى العزلة وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نورًا

تهتدي به ويهتدي به الناس؟ إن المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك وإن من

لم ينفع بما تعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة فعليك أن تخالط الناس

وتعظهم وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة: فذكرت له اشمئزازي من

الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم وبعدهم عن الحق ونفرتهم

منه إذا عرض عليهم فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه فلو كانوا

جميعهم هداة مهديين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة

ويفتح الكلام في الشؤون المختلفة ويوجه إليّ الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرن

فأجيبهم وأنطلق في القول على وجل في أول الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي

شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم وفي شوال من تلك السنة ودعني

وبكى بكاءً شديدًا ومات في السنة الثانية رحمه الله تعالى) اهـ. أقول: يظهر أنه

أحس بأن عمله قد تم بتكميل تربية مريده وأنه ألهم بأنه قد دنا أجله إذا تم

عمله فبكى بكاء مودع، وللصوفية من هذا الإلهام والشعور ما هو معروف مشهور.

طور العمل والإصلاح

(تمهيد) لو سأل سائل: أي الرجال أعظم في الأمة وأفضل؟ لاختلف

الجواب باختلاف أفهام الأفراد ومذاهبهم، فهذا يقول أعظمهم العالم وذاك يقول بل

الفيلسوف، ويقول ثالث: بل هو الرجل الصالح فينبري رابع قائلاً بل القائد

الفاتح ويخالفهم رجل آخر يدعي أن أفضل الناس السياسي الحاذق ويقول آخرون

أقوالا أخرى. وإذا رجعت بالجميع إلى البرهان رأيتهم يتفقون على أن أعظم الرجال

وأفضلهم المصلحون الذين يوجهون عزائمهم إلى رفع الأمة من الدرجة الدنيا إلى

الدرجة العليا، وهؤلاء قلما تجود الأجيال بواحد منهم على كثرة العلماء والصلحاء

والقواد والسياسيين في كل زمان.

إنما يكون الرجل عظيمًا بأمرين أحدهما فطري لا يأتي بالكسب وهو الاستعداد

الذي يكون له بكمال الخلقة واعتدال المزاج، وحسن الوراثة الموالدين والأجداد،

وثانيهما كسبي وهو التربية القويمة والتعليم النافع، وقد كان استعداد الأستاذ الإمام

لكل أمر عظيمًا حتى كان استعداده هو الأصل في حسن تربيته وتعلميه. فقد علمت

مما مر أن فطرته السليمة لم تقبل الاستمرار على حضور دروس لا تفهمها ولم

يعرف هذا عن غيره من المبتدئين بطلب العلم حتى أذكيائهم الذين استفادوا بعد

العناء فقد كانوا يصبرون على ما لا يفهمون زمنًا طويلاً، وإذا حفظ أحدهم شيئًا

بالتكرار ظن أنه هذا فهم وعلم لا سيما إذا حفظ تفسير المتن من شرحه وحاشيته.

ولكن صاحبنا لم يكن يترك المسألة حتى يفهمها ويوقن أو يرجح أن الحكم فيها كذا

ولذلك أسرع إليه الملل من دروس مشايخ الاحتمالات. وكان يقول: إن

حضور كتب العربية على طريقتهم قد أضر بذهنه وعقله وإنه ظل يكنس ذهنه

وينظفه منها بضع سنين فلم ينظف تمام النظافة. وأما السيد جمال الدين فإنه كثيرًا ما

كان يشرح معنى المسألة حتى تتجلى للأفهام ثم يقرأ عبارة الكتاب ويطبقها عليها فإن

انطبقت وإلا أبان ما فيها من التقصير أو يقرأ العبارة ويبحث في دليلها فيقره أو

يفنده ويجزم بغيرها وبهذه الطريقة ارتقى إلى أن يحكم بنفسه في المسائل ولا

يرضى بالفهم مع التسليم لمؤلف الكتاب فالذي امتاز به صاحب الترجمة على إخوانه

الأزهريين هو أنه في بدايته لم يرض أن يحضر شيئًا لا يفهمه، وفي نهايته لم يرض

بما يفهمه إلا بعد أن يستشير فيه الدليل فيرضاه له، وأنه لم يقنع بالعلوم المتداولة في

الأزهر بل كان من أوائل عهده بالعلم إلى يوم وفاته يطلب العلوم ويقدم منها ما يزيده

كمالاًً في نفسه ويعينه على رفع شأن ملته وأمته، ولو أنه تعلم في حداثته على

طريقة قويمة كما تعلم النابغون من حكماء أوربا وعلمائهم في المدارس النظامية ولم

يضيع ذلك الوقت الطويل في البطالة وفي الطريقة الأزهرية الملتوية لرأينا من

آياته العلمية أضعاف ما رأينا على أن ما رأيناه يكاد يكون من الخوارق فإنه لم

يكن يتكلم في علم إلا وتراه صاحب القدح المعلى فيه حتى كأنه هو الواضع له، فمن

شاء أن يقتدي بطريقته المثلى من الأزهريين وغيرهم فليفعل عسى أن يكون من

المفلحين، وأما تربيته فقد علمت مما تقدم آنفًا أنه تربى على طريقة الصوفية القويمة

الخالية من البدع والخرافات حتى ملك نفسه وكملت أخلاقه وصار الدين

وجدانًا له، ثم انتقل من ذلك إلى أخذه بالبرهان. وأهم ما اتفق له تربية الإرادة أي

ملكة العزيمة والإقدام فقد كان فيها نسيج وحده في أمته.

تقدم أن الرجل توجهت نفسه إلى العمل والإصلاح قبل أن يصير مدرسًا رسميًّا

فبدأ بإحياء اللغة ونفخ روح العلم والدين في الأزهر، ثم إن السيد جمال الدين وجه

وجهه إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي فجعله ساعده وعضده في ذلك فاشتغل بها

مدة، ثم استقر رأيه على أن الإصلاح محصور في إحياء لغة الأمة وإصلاح نفوسها

بالتربية والتعليم النافع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) في العبارة إيجاز بديع بالحذف إذ لم يذكر أنه وصل إلى القرية ولقي شبانها بل طوى ذلك لدلالة ما بعده عليه وقد اقتدى رحمه الله في هذا بأسلوب الكتاب العزيز.

(1)

سنذكر هنا ثم في تاريخه المطول معنى ما قاله في تأثير التصوف في نفسه وما لم يقله ونبين ما كان له من المنفعة والضرر الذي تلافاه السيد جمال الدين في تربية فقدنا الثانية.

ص: 379

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة

‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام

(2)

دخوله في الماسونية - من التمهيد

كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً

عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك، إلا أنه

كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في

حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر

تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة

بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع

مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته

على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل

في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.

وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله، ومكان صاحب الترجمة

من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه

وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة

المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز،

وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل. وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول:

إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد

أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب،

وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله. وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد

التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا

يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما

يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد

التعارف بين الناس.

وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد

تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل.

وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد

للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته،

ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان

مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق

الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل

الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال

الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا

سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على

الجمعية

إلخ ما قاله. ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء

المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض

علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك

بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه

من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال

الدين.

إصلاحه في مدارس الحكومة والأزهر

إذا تمهد هذا فنقول: قد عين الفقيد في أواخر سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في

مدرسة دار العلوم، وللعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيهما

مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة

ابن خلدون؛ لأنه مقدمة للتاريخ، وإنما غرضه بث أفكاره السياسية والاجتماعية في

أذهان التلاميذ فكان يطبق ما فيها من الكلام عن نهوض الدول وسقوطها وشؤون

العمران وأصوله على أمته ويبين أسباب ضعفها والوسائل التي تذهب به وتعيد إليها

ما فقدت من عزها ومجدها، وكان يكلف التلاميذ كتابة المقالات والفصول في ذلك؛

فكان كل واحد يشعر بروح جديد يدب في هيكله ويرى نفسه مخلوقًا لخدمة بلاده

وإعلاء شأن أمته. وقد كتب رحمه تعالى في ذلك العهد كتابًا حافلاً في علم الاجتماع،

وفلسفة التاريخ انتقد فيه بعض ما قاله ابن خلدون، واستدرك عليه وبين ما

نسخته طبيعة الاجتماع في هذا العصر من أحكام العمران في العصور الغابرة،

وكان في مدرسة الألسن آية البيان في إحياء اللغة العربية، وإشراع الطريق اللاحب

في التعليم، والخروج بالطلاب من مآزق العهد القديم، ثم إن دروسه في الأزهر

كانت بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر

العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان

يقرأ في بيته درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين قرأ في ذلك كتاب

تهذيب الأخلاق لابن مسكويه فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى وقرأ كتاب (كيزو)

في السياسة ولا أدري أتمه أم لا.

كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة من السكان في مصر تحيي

اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية، فقد كانت هذه

الحكومة لذلك العهد قد رثت ووهت، ووقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها

سلطان الأجانب، وأحاطت بها سيول الفتن من كل جانب، ومنيت الأمة التي تمدها

بالمتربة والمسغبة، وضربت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا

في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس، فأما آثار إسماعيل باشا في

البلاد فلا يزال الكهول والأشياخ يحدثون بها الشبان والغلمان، وأما ما فعله السيد

جمال الدين ومريده الشيخ محمد عبده من السعي في إصلاح الحكومة في الحال،

وتربية الرجال لأجل الاستقبال، فلا يعرفه إلا من كان يعمل معهما، ويتلقى عنهما،

ومن شاء من أهل هذه الديار، أن يروي شيئًا من تلك الأخبار، فليراجع من بقي

من تلامذتهما الأخيار، كالشيخ عبد الكريم سلمان وسعد بك زغلول وإبراهيم بك

اللقاني وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح وسلطان أفندي محمد وغيرهم. ولو

طال العهد على عملهما لتم لهما المراد، ولما حدثت الثورة العُرابية، ولكن خانهما

الزمان، وما قدر كان.

كان من عمل السيد جمال الدين ومريديه أن اتصلوا بولي العهد توفيق باشا

الخديو السابق، واتفقوا معه على تغيير شكل الحكومة وإصلاح شئونها؛ فكان يعدّ

السيد والشيخ من أقوى أنصاره وأوليائه، ولما انتهى الحيف والجور والخلل بخلع

إسماعيل باشا، ونصب توفيق باشا أميرًا على مصر في رجب سنة 1296 طفق

السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل

الوزارة مسئولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من

غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها،

فأمر بنفي السيد، فأُخِذَ من داره ليلاً في عربة مقفلة وليس عليه غير قميص واحد

وأرسل في قطار خاص إلى السويس، ومن هناك ذهب إلى الهند وأمر بعزل الشيخ

من مدرسة دار العلوم، ومدرسة الألسن، وبأن يقيم في قريته (محلة نصر) لا

يفارقها إلى بلدة أخرى، وخاصة عاصمة البلاد والمدن الكبيرة كالإسكندرية وغيرها.

وكان ذلك في رمضان سنة 1296.

عمله في المطبوعات والحكومة

وفي أواسط سنة 1297 توجهت عناية رياض باشا إلى تحسين كتابة الجريدة

الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبًا فيها من الناس، فاستشار الشيخ حسين المرصفي

ومحمود باشا سامي البارودي كُلاًّ علي حدته فأشارا برأي واحد كأنهما تواصيا به

وهو جعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها ففعل بعد أن استرضى توفيق باشا؛ فصدر

الأمر العالي بتعيينه محررًا ثالثًا، وانتظر رياض باشا مدة من الزمن فلم يرَ تغييرًا

يُحمد. ثم إنه كتب من الإسكندرية يأمر قلم المطبوعات في مصر بأن تكتب مقالة

في مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي، وحالها الحاضر الذي وضع له

قانون التصفية، وأن تنشر هذه المقالة في أول عدد يصدر من الجريدة الرسمية

وكان قد بقي له يوم واحد، فحاص كُتَّاب الجريدة وحاروا وأرسلوا إلى صاحب

الترجمة من أحضره من الأزهر وكلفوه كتابة المقالة فكتبها في مجلسه ونشرت فلما

قرأها رياض باشا أعجب بها أشد الإعجاب وسأل عن كاتبها فقيل له هو فلان فزاد

عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع

شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه. وفي أواخر هذه السنة طلبه رياض

باشا وسأله عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فبين له رأيه في تقرير ضاف، فأمر بأن

تؤلف لجنة للنظر في التقرير من وكيل الداخلية، ومدير المطبوعات، وكاتب

التقرير، وأن تضع لائحة لقلم المطبوعات، وتحرير الجريدة فكان ذلك، وعُين

الفقيد رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية العربية، فاختار لها من المحررين المهرة

الشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ سعد زغلول (هو سعد بك زغلول المستشار

بمحكمة الاستئناف لهذا العهد) والشيخ سيد وفا رحمه الله وهم ممن كانوا

يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين وبرعوا في الكتابة معه على يد السيد

ثم ماذا كان من شأنه؟ كان ما لم يكن يخطر على قلب بشر وهو أن رئيس التحرير

للجريدة الرسمية صار مهيمنا على الحكومة والأمة ينتقد الأعمال والأقوال، وينتقل

بالناس من حال إلى حال.

وضع لائحة أو قانونًا لقلم المطبوعات أجازه، وأنفذه رياض باشا؛ فكان من

أحكامه أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها ملزمة

بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات مخبرة بما عملت فأتمت، وما شرعت فيه، وكذلك

المحاكم ترسل إليها نتائج أحكامها، وأن لإدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما

تراه منتقدًا من الأعمال، وأن لها حق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي

تصدر في القطر المصري، وأن تبحث عن حقيقة ما تقوله في رجال الحكومة

وأعمالها، وعلى الحكومة مساعدتها على ذلك بمعنى أنه إذا نشر في بعض الجرائد

ما ترتاب إدارة المطبوعات فيه؛ فإن لها أن تسأل المصلحة أو الإدارة التي يسند

إليها ذلك عن الحقيقة بواسطة نظارة الداخلية إن لم يكن ما نشر مسندًا إلى النظارة،

وإلا سألتها هي مباشرة؛ فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة

مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب

مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها

ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة. وأن من حق رئيس تحرير الجريدة الرسمية أن

يجعل فيها قسمًا غير رسميّ ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعًا من المقالات الأدبية

ويدخل في الأدبية الاجتماعية والاقتصادية ما أشبه ذلك- وقد أجاز هذا القانون وأنفذه

رياض باشا لما له من العناية بالإصلاح ولثقته بكفاءة صاحب الترجمة، وغَيْرَتِهِ

وإخلاصه في الخدمة العامة، وإن في هذا لعبرة لأولي الألباب، صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين فيشرف

من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها،

ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون، ثم

يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوم من أخلاقها. ويصلح ما فسد من عاداتها،

بالوعظ الصحيح، والإرشاد الحقيقي، ويطل من نافذة ثالثة على الجرائد العربية

فيعلمها حسن التحرير، ويربيها على الصدق في القول ويجعل للصادق منها

سلطانًا نصيرًا، وتأثيرًا مأثورًا، يا لها من عمامة شرفت برأس صاحبها حتى

حسدتها الطرابيش، وهابتها التيجان والبرانيط، ونذكر هنا على سبيل الفكاهة أن بعض الكبراء رغبوا إلى الأستاذ الإمام في ذلك العهد أن يستبدل الطربوش

بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يرتقي إلى مراتب الرؤساء والنظار

كصاحب الطربوش، فأبى عليهم ذلك فأرادوا الاستعانة عليه برياض باشا فأوهموه

أنه يميل إلى لبس الطربوش ولكنه لا يلبسه إلا بأمره فسأله فظهر له أنه لا يرغب

في ترك زيه، وأنه إذا ألزمه بذلك إلزامًا؛ فإنه يمتثل ما دام في عمل الحكومة؛

فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك

الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام

مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها. فلله دَرُّ رياض باشا، وجزاه الله الخير فإنه

هو الذي أحضر السيد جمال الدين ومكن له في أرض مصر، وهو الذي كان السبب

في ظهور مواهب الشيخ محمد عبده في أول نشأته حتى إنه حَكَّمَهُ في انتقاد نظارة

الداخلية وهو أحد العمال المتوسطين فيها.

كان من أثر مراقبة إدارة المطبوعات للجرائد أن اجتهد أصحابها في انتقاء

المحررين، وقد أنذر - عَامَلَه الله تعالى بإحسانه - مدير جريدة شهيرة بمنع جريدته

إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة عينها؛ ففعل ذلك المدير. ولم يكن

يأذن بطبع كتاب من الكتب الضارة. وكان من أثر انتقاد كتاب الحكومة أن نبه شأن

المجيدين منهم، وفتحت مدارس ليلية لتعليم المقصرين، وتبرع - تغمده الله

برحمته - بقراءة درس في بعضها. فهذا هو مبدأ النهضة القلمية الحقيقية في مصر

فالفضل فيها للسيد جمال الدين، وللشيخ محمد عبده، رحمهما الله تعالى.

وأما انتقاد أعمال الحكومة فكان من أسباب تحريها الحق، والعدل، والاجتهاد

في إصلاح كل نظارة، وقد عني الفقيد يومئذ بنفسه في انتقاد نظارة المعارف ومثل

مساوي التعليم والتربية في مدارسها شر تمثيل؛ فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك

العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما

كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان،

وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة

فسكت الناظر واجمًا.

عمله في مجلس المعارف الأعلى

اقتنع رياض باشا بما في نظارة المعارف من الخلل، وعلم أن ما يكتب في

الجريدة الرسمية حق فذاكر الفقيد في ذلك، وفي وسائل تلافيه، فعرض عليه أن

يكون للمعارف مجلس أعلى يكون له الحكم الفصل في إدارة المعارف العمومية

ويكون الناظر منفذًا لما يقرره، فأنفذ ذلك رياض باشا، وجعل صاحب الترجمة

عضوًا في هذا المجلس؛ فكان له فيه الاقتراحات النافعة للبلاد، ولولا كثرة ما جعل

فيه من الأعضاء الأجانب الذين يعارضون المشروعات النافعة ثم حدوث الثورة

لارتقت معارف البلاد في ذلك العهد ارتقاء عظيمًا. صدر الأمر العالي بتشكيل هذا

المجلس في 28 ربيع الآخر سنة 1298 وقد تألفت منه لجنة للنظر في إصلاح

طرق التعليم والتربية في جميع المدارس، وكان الفقيد الكاتب العربي لجلساتها، وكان

له فيها الآراء الصحيحة، والحجج القيمة على ما يطلب من الإصلاح.

أذكر من اقتراحه شيئًا سمعته، ولا أدعي أنني أحيط به كل الإحاطة وهو أنه

اقترح مرة على المجلس أن يطلب من الحكومة مبلغًا عظيمًا من المال يوزع على

المدارس الأجنبية مكافأة لها على خدمة العلم ونشره في البلاد فهش الأعضاء

الأوربيون لهذا الاقتراح، وعارض فيه بعض الأعضاء الوطنيين ووافق الآخرون

الذين عرفوا ما يرمي إليه المتقرح فتقرر بأكثر الآراء. ثم إنه اقترح في جلسة

أخرى أن يقرر المجلس وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة نظارة المعارف

لينظر مفتشو النظارة في نظام التعليم فيها، فهش الأعضاء الوطنيون لهذا الاقتراح

وعارض فيه الأجانب، فأقام عليهم الحجة بأن جميع الدول الأوربية تراقب

جميع المدارس التي تأخذ منها إعانة وتفتش مدارسها إذ يجب على الحكومة أن تعلم

أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. فقال بعضهم: إن هذا قول حق

وإنما نعارض الآن في هذا الاقتراح؛ لأننا نعلم أن المعارف في مصر منحطة وإنما

اجتمعنا لترقيتها وأرباب المدارس الأجنبية مرتقون في العلوم والمعارف، ولا يصلح

السافل للإشراف على من هو أعلى منه، ولا المنحط للحكم على المرتقي. فقال

الفقيد - رحمه الله تعالى -: كان يصح هذا الدفاع لو لم تكن أنت ورفاقك من أعضاء

مجلس المعارف المصري؛ فإذا كان الطلب في نفسه حقًّا وعدلاً فلا يصح أن يرفض؛

لأن المعارف العمومية لم ترتق في البلاد المصرية؛ لأن عدم ارتقاء المعارف

وانتظام المدارس لا ينافي وجود أفراد من الموظفين في النظارة من الأوربيين أو

المصريين المتعلمين في مدارس أوربا العالية يصلحون لتفتيش المدارس الأجنبية،

فنهضت حجته وتقرر اقتراحه.

وإنها لأمنية يتلحز على ذكرها السلطان والأمير، ويسيل لتوهمها لعاب الناظر

والوزير، ولكن تقف دونها الآمال حسرى، وتنحني أمامها العقول حيرى، وتكبو

في غاياتها جياد السياسة، ويصغر عن الطمع فيها أهل الرياسة، ثم تسمو إليها تلك

الهمة، وتستنزلها من أعلى القمة، ولولا الفتنة العُرابية لجعل لنا ذلك العضو أو

الكاتب سيطرة على مدارس الأجانب على ما كان لهم في ذلك الزمان من النفوذ

والسلطان، فكيف لو كان ذا منصب أعلى، ونفوذ أقوى؟

دعوته نظارة الأوقاف إلى الإصلاح

كان لنظارة الأوقاف من حظ إرشاده، نفعنا الله بعلومه وآثاره نحو ما كان

لسائر النظارات ومصالح الحكومة، وكان من تأثير إخلاصه أن عزمت هذه النظارة

يومئذ على عمل جليل وهو أن تصل دار الكتب المصرية (الكتبخانة) ومدرسة دار

العلوم بالأزهر، وتوسع دائرة المدرسة بحيث تدرس فيها جميع العلوم ويبلغ عدد

طلابها 500 طالب، ويكون المتخرجون فيها هم المقدمين في أعمال الحكومة، ولو

تم هذا لكانت الأوقاف ينبوع الحياة لهذه البلاد. ولكن حال دون هذا ودون ما كانت

الحكومة شرعت فيه من الإصلاح الإداري والقضائي والعسكري تلك الفتنة

المشؤومة.

الثورة العرابية

علم مما تقدم أن البلاد المصرية كانت في أواخر إمارة إسماعيل باشا في

ظلمات بحر من الظلم لُجيّ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات

بعضها فوق بعض، ظلمة الجوروالظلم، وظلمة الفقر والفاقة، وظلمة الشرور

وفساد الأخلاق، والآداب، وظلمة تحكم الأجانب، وسيطرتهم على الحكومة بحجج

المراقبة المالية لما لها من الديوان على إسماعيل باشا وسلطتهم على الرعية التي

أغرقها في الاستدانة منهم كثرة الضرائب والجزى، وكثرة الضرب وسوء الجزاء،

وكان يظهر من غمرات هذه الظلمات بصيص من النور في مواضع مختلفة لمعت

جَذْوة منه في الأزهر فنفخ الشيخ عليش نفخة أخمدتها ولكنها ما أطفأتها، ثم كان هذا

النور يظهر في معاهد خاصة فتعشو إليه الأبصار، ويسير في ضوءه من سار، حتى

أشرق وتلألأ في إدارة المطبوعات، وانتشر نوره في سائر الجهات، وكان ما كان

من أخذ الحكومة والناس بوسائل الإصلاح ومقاصده فرحين مستبشرين بأميرهم

الجديد (توفيق باشا) لعفته عن أموالهم، ورغبته في إصلاح حالهم، وبوزيرهم

العامل المخلص (رياض باشا) وإذا بناجم الفتنة قد نجم، وطائر الشر قد وقع، إذ

هب ضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض

سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العرابية.

لا يعنينا في هذا المقام خبر هذه الثورة ولا تاريخها، وإنما يعنينا أن نبين في

تاريخ أستاذنا أنه كان كارهًا لها، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها

تحبط عمله الذي مضى فيه، وكل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد

للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، بل كان هو وأستاذه يتوقعان ذلك من سيرة

إسماعيل باشا، وقد صرح السيد بذلك في خطبه وفي بعض ما كتب وطبع لذلك

العهد، وحاول أن يحول دون ما يخشى ويتوقع بالسعي في الإصلاح، فليس ما

نقوله عن أستاذنا من أنه كان لا يجهل خطر الثورة بالدث والرجم بالغيب، بل هو

قول مؤيد بالدلائل وثابت بالرواية الصحيحة عنه، وعن الصادقين من العارفين بما

كان.

كان ينتقد على زعماء الثورة بالقول خطابة وجدالاً في أنديتهم وسمارهم

وبالكتابة في الجريدة الرسمية حتى أرسل إليه عرابي مرة من يتهدده، ويقول: إنك

أهنت الشرف العسكري بما كتبت عن الجيش ورؤسائه. أرسل إليه ضابطين إلى

قلم المطبوعات من الداخلية فطردهما وهددهما بالضرب إذا هما لم يخرجا. وكان

عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه.

زار مرة طُلبة باشا في أيام عيد الفطر، فإذا بعرابي وأعوانه جلوس يتكلمون في

الاستبداد والحرية، والحكومة المطلقة، والحكومة النيابية الدستورية، واتفقوا على

أن الأمن على الأرواح والأموال، وصعود الأمة في مراقي الكمال، من آثار

الحكومة المقيدة بلا جدال، وأن هذا التحويل قد آن في مصر أوانه، وأدركها إبَّانه،

فعارض الأستاذ في ذلك، وقال: إن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين

رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة

على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة

واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس

من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف

بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد. فطفق

عرابي يجادله هو وأحد أساتذة المدرسة الحربية، وكان مما احتج به الفقيد عليهما

أن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك

بالقوة العسكرية معنى؛ فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه

ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً

أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة. عند ذلك أبدى المجادل نواجذه لغير

تبسم، وقال أرجو أن لا أستحق هذه اللعنة، وليس الجند هو يطلب مجلس النواب،

ولكنه مؤيد لطلب أعيان البلاد ووجهائها، ثم أسر إلى الأستاذ أن سلطان باشا جمع

الأعيان لهذا الطلب. وقد كتبنا في ص512 من مجلد المنار الرابع ردًّا على

صحافي عرَّض بأن الأستاذ الإمام كان من أركان الثورة العرابية نذكره هنا وهو

عرض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة الفتنة

العُرابية ويعرف المتهورين فيها، والناصحين لهم بالاعتدال، فهو لا يعرف ولا

يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكتابين، وعند ذلك

تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل الكبير

العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية في

القسم الأدبي منها على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين

يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،

ويسمع من أتباعه ما يكره. وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم

في زعماء الثورة العرابية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم وأن يقوم فيهم خطيبًا.

ماذا كان موضوع خطبته؟

كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن

القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين

الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح

والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن

الخواص، والأغنياء، ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة

امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك فكيف

حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) فهل تغيرت سنة الله في الخلق

وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من

العالمين، حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في

جاهكم ومجدكم، وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون على حيث

لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا

ينغضون رءوسهم وعلا على أفهام الآخرين.

هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين ولو كانوا

يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم، ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم

ولما تستعد الآن، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض، رحمه الله تعالى:

ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى

ولكنها الأهواء عمت فأعمت

هذ ما كتبناه منذ أربع سنوات كاملة، ولا حاجة إلى كثرة الشواهد والوقائع في هذه

السيرة المختصرة.

ولا يلتبسنَّ على القارئ معارضة الإمام للعرابيين في مشروع مجلس النواب

وتقييد السلطة مع أنه كان الداعي الثاني إلى ذلك بعد أستاذه، وأول من تلقى ذلك

عنه، فإنه كان يحاول أن يكون ذلك برضى الأمير وحكومته، لا بالخروج عليه

وأن يكون في البداية من قبيل التمرين والتعويد مقرونًا بالتربية والتعليم إلى أن تبلغ

النابتة الجديدة أشدها، وتصل من طريق الحكمة إلى رشدها، وقد رأيت كيف كان

التوسل منه فيما رويناه لك عنه، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالصلاح عند مهب

الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين

الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء

والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة

الإنكليز.

انتهت الثورة بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة

السجن ليحاكموا فيقتلوا تقتيلاً. وجعل الفقيد منهم لأمر ما، وصدر الأمر بأن تكون

محاكمتهم بالقانون الإنكليزي، وعين لهم محام إنكليزي جاءهم فسمع منهم وكلفهم أن

يكتبوا دفاعهم بأيديهم كل يكتب عن نفسه، ولا يطعن في غيره، فلم يرَ في كتابة أحد

ما تقوم به الحجة، وتقعد به التهمة، ويدل على الغوص في أعماق الحوادث،

والإحاطة بما لها من الأسباب والنتائج إلا ما كتبه وما قاله فقيدنا بالأمس، وقد زاد

المحامي على بيان ذلك أن أشعره بالخفايا، وأطلعه على ما في زوايا القصر من

الخبايا، كقوله: إن الحاشية خاطبت محافظ الإسكندرية بلسان البرق بكذا في يوم كذا

وعدد كذا بأن يفعل كيت وكيت. وأعطاه من المستندات ما يقلب وجه المسألة، ولا

ترضى إظهاره السياسة، وسنشرح ذلك في تاريخ الفقيد بالتفصيل. حكم على

عرابي ورفاقه المعروفين بالنفي الأبدي، وعلى صاحب الترجمة بالنفي ثلاث سنين

وثلاثة أشهر. وقد كان النفي بلاء وشقاء على كل المنفيين حاشا الإمام؛ فإنه كان

رحمة له ونعمة عليه ومزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببًا لنشر علمه في بلاد كثيرة؛

ذلك أنه كان من أهل الإخلاص والتقوى فجعل الله تعالى له من كل ضيق فرجًا

ومخرجًا بل بدل له النقمة نعمة والسيئة حسنة، فكان مبدأ حياة جديدة له نبينها فيما

يلي هذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 401

الكاتب: محمد توفيق صدقي

الدين في نظر العقل الصحيح

لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي

(المقالة الثانية)

النبوة

النبوة إصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى على يد شخص يصطفيه من

بين خلقه. معنى أنها من قِبل الله أنها ليست مستمدة من معلومات من جاور هؤلاء

المصطفين الأخيار من الأقوام. بل هي أرقى بكثير مما عليه الناس وما وصلوا إليه.

وفائدتها تقدم العالم بسرعة إلى الإمام وإصلاح ضمائر الخلق وما تكنه صدورهم

بسبب ما توجبه من الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عقاب أو ثواب؛ وبذلك تستقيم

أمورهم في السر والعلن، ذكرنا الإيمان باليوم الآخر وحده ولم نذكر الإيمان بالله مع

أنهما مرتبطان أتم الارتباط؛ لأن الأول لا سبيل للعقل أن يجزم به بدون النبوة

بخلاف الثاني فالعقل وحده كاف لمعرفته ومعرفة صفاته كما بيناه آنفًا. إذ الغرض

الأكبر من النبوة حمل الناس على الإيمان بذلك اليوم وإصلاح حالهم الدينية والدنيوية

إصلاحًا لا يصِلون إليه بأنفسهم، ولو بعد مئات من السنين إن لم نقل آلاف منها.

هذا ولما كان محمد عليه السلام المثال الأكبر للأنبياء وتاريخه أقرب عهدًا وأصح

سندًا رأيت أن أتكلم على حياته بما يقتضيه المقام؛ إيضاحًا لما أجملته فيما مر من

الكلام، وهذا يستلزم ذكر أحوال العالم في ذلك الوقت، ثم أحواله عليه السلام

وما أتى به من الإصلاح في الأرض، ولذا أبدأ الآن بوصف حالة العالم في عصره

فأقول:

كثرت المشاغبات في الدين، وطمس نور الحق بين العالمين. تشعبت الآراء

وتعددت الأهواء، وعبد كٌّل ما شاء الشيطان من الأباطيل. عَمَّ السجود للأوثان،

وعبدت الصور والصلبان، واعتقد الناس الألوهية في التماثيل. خلط الخلق في

شأن اللاهوت، وتوهموا ظهوره في الناسوت، فاتخذ البشر آلهة من دون واجب

الوجود. سهل على الناس اعتقاد السلطة في بعض الأفراد، وظنوا أن بيدهم

الإشقاء والإسعاد، فهابوا مقامهم وأعلوا شأنهم، فطغى أولئك وبغوا، وافتروا ما

شاءوا من الأحكام، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام. أصبح

الناس عبيدًا أذلاء، في جهالة عمياء، اشتغل الرؤساء بالمطامع الشخصية، وتفانوا

في الحصول على لذاتهم البهيمية، وأخذوا العويص من المسائل الدينية ذريعة

للمشاجرات والمماحكات. فتعددت البدع وكثرت الفرق وظهرت مذاهب الإباحيين

والدهريين، أثار كل رئيس من تحت يده من المرؤوسين، وأشهروا الحرب على

الآخرين فأريقت دماء العالمين.

هذا كان حال الأمم في كل بقعة من الأرض، وفي بلاد العرب أدهى وأمرّ. عم

الفساد وزاد العناد، وزال العلم، وحل الجهل، وفسدت الأخلاق في سائر الآفاق.

ليس ما ذكر تخيلات شعرية، ولا أفكار وهمية، بل هي حقائق تاريخية

اتفق عليها أهل العلم، ولم يشذ عنهم ذو فهم.

ظهر في هذا الوسط الجاهل والظلام الحالك، الذي يضل فيه كل سالك، محمد

العربي والنبي الأمي. ونشأ يتيمًا فقيرًا لا أب له يهذبه ويربيه ولا معلم يرشده

ويهديه.

قد يزعم بعض المجادلين أنه تعلم القراءة والكتابة ليدفع بذلك ما سيُلقى على

سمعه من قوة البرهان ولكنه وهمٌ نُزيله بما يأتي من الدلائل الواضحة:

(1)

أن الجمهور الأعظم من أمته كان أميًّا إلا نفرًا قليلاً؛ فإذا أضفنا إلى

ذلك يُتمه وفقره وأميته فلا نجد أي حامل يحمله على تعلم القراءة والكتابة؛ إذ أولى له

أن يسعى على عيشه من أن يصرف وقته في الحصول على شيء لا يعرفه إلا

القليل ممن جاوره.

(2)

تعلم القراءة والكتابة يحتاج إلى زمن ليس بقصير، وخصوصًا في

بلاد ليس فيها دور للعلم ولا كتب ولا مدرسون؛ فلو سعى في تعلمهما لوجد مشقة

عظيمة ولما أمكنه إخفاء أمره إذ لا بد أن يشاهده الناس ولو مرة واحدة مع أنه كان

يجاهر بأميته على رءوس الأشهاد، ولم يوجد من يعارضه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ

مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .

(3)

لم يعهد عنه أنه كان يماشي أحدًا ممن اشتهر بمعرفة القراءة والكتابة

قبل نبوَّته.

(4)

لو كان أحد من الناس يعلمه لاضطر النبي إلى تقديمه على أصحابه

ولأظهر له احترامًا زائدًا، ولفاه المعلم بذلك لبعض الناس مع أنه لم يحصل شيء

من ذلك مطلقًا.

(5)

لم يشاهد أنه في منزله أو خارجه قبل النبوة أو بعدها كان يستعمل

قرطاسًا أو قلمًا في تأليف شيء ما، أو تدوينه. فلو فرضنا أنه لم يشاهد وهو يتعلم

فيبعد جدًّا أن لا يشاهد وهو يستعمل القراءة والكتابة في شئونه الخاصة.

(6)

لو كان ابتدأ بتعلم القراءة والكتابة لا لقصد دعوى النبوة لأظهر افتخاره

بذلك وجاهر به ولو كان لقصد دعوى النبوة فمن البعيد جدًّا أن يدبر حيلة كهذه

وخصوصًا إذا أضفناها إلى غيرها مما يسميه أعداؤه حيلاً؛ فإنها تغيب عن أذهان

الفلاسفة والسياسيين؛ لأنهم إذا دبروا عدة حيل يظهر أمرهم، ولو في إحداها على

ممر الأزمان، فكيف يتأتى لواحد مثل محمد في أول نشأته أن يدبر كل ذلك بنفسه

ويكتمه حتى يصير كهلاً، ولا يفتضح أمره مرة واحدة؟ إن ذلك لبهتان عظيم.

والخلاصة: أن حاله ووسطه الذي تربى فيه كان اليتم والفقر، والجهل

والأمية؛ والأوهام، والضلال، والوثنية، وقد أحاط به فساد الأخلاق من جميع

الجهات، والتف حوله عشيرته الغارقة في بحر من الخرافات والترهات، فكيف

كان تأثير ذلك في نفسه؟ لم يكن له ذاك التأثير المعهود بل نشأ منشأ يخالف ما عليه

أهله وقومه: بغضت إليه الوثنية في مبدأ عمره. فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم قط،

أو احتفل بمعبود مع أهله. كانوا يشربون حوله الخمور، وينغمسون في الشهوات

والفجور، وهو بعيد عنهم منكر عليهم، كانوا يشتغلون بالتافه من الأمور ويثيرون

الحروب لمسائل واهية، ولم يكن هو منهم، كانوا يقومون ويقعدون، ويتفانون

ويقتتلون لقصيدة أو بيت شعر وهو لا يحفل بذلك ولا يجاريهم عليه. ماذا كانت

حاله إذًا؟ الجد والاستقامة دأبه، والصدق والأمانة طبعه حتى عرف بين أهل

مكة بالأمين وهو في ريعان شبابه. ينهمك الشبان عادة في الشهوات ولو كانوا

معلمين مهذبين، ولكنه هو يتزوج العوان ويبقى معها إلى ما بعد الأربعين حتى حين

وفاتها ولا ينظر إلى سواها ويعيش معها بكل طهارة وعفة فلم يسمع عنه أنه ارتكب

منكرًا في زمن شبابه، أو علق بحب فتاة أو مَالَ إلى عشقها مع أن قومه كانوا

غارقين في هذه البحار، وقصائدهم تشهد بذلك. ماذا كان شغله إذًا؟ كان شغله

رعي الأغنام، ثم التجارة، ثم التعبد في الخلاء والتحنث بمناجاة الله تعالى.

قام عند بلوغه الأربعين بدعوة الخلق إلى عبادة الحق وقرر أن للعالم إلهًا

واحدًا بريئًا من كل ما ينسبونه إليه مما لا يليق به وأثبت ذلك بالحجج البينات، أمر

الناس باستعمال الفكر والعقل في كل شيء ونهى عن التقليد وحض على النظر في

الموجودات. أطلق للناس الحرية الصحيحة وحرم عليهم الخضوع لرئيس في الدين

أو لأي أحد سوى رب العالمين، ومنعهم من الالتجاء إلا إليه مباشرة وأمرهم

بالاستعانة به وحده. أعطى الروح والبدن ما يطلبانه بشرط أن لا يضر بهما ولم

يحث على المبالغة في الزهد ولا الرهبانية، بل أمر بالسعي والعمل وتصريف

الأعضاء فيما خلقت لأجله مع مراعاة أن لا يضر ذلك بالمرء أو بغيره. أباح

الطيبات وحرم الخبائث. وأمر بالعدل والمساواة ومسالمة المخالفين في الدين

ومعاملتهم بالتي هي أحسن والتوفيق بيننا وبينهم ونهى عن الإكراه في الدين وأوجب

تأمين الراغبين في النظر فيه ولو وقت الحرب {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ

فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6)

إلى غير ذلك مما لم تهتد إليه الناس في الغرب إلا بعد أن وصل إليهم شعاع من نور

الإسلام في الشرق. فارجع البصر إلى تاريخ أوروبا قبل الإصلاح الديني بلوثر

وقبل الإصلاح السياسي بالثورة الفرنساوية لتعرف ما كانوا عليه. أتى مع ذلك

بجميع الأخلاق الفاضلة المعتدلة والعبادات الصالحة والمعاملات الكاملة والمبادئ

السليمة والسياسات القويمة وغيرها مما كان السبب في إصلاح أمر الإنسان وتحريره

من العبودية، وإنقاذ العقل من الأسر، ورده إلى مملكته؛ ليحكم فيها بالقسط فنهض

الشرق نهضة سريعة عالية لم يعهد لها مثيل في التاريخ، ثم امتدت إلى الغرب.

فهذه هي آثار ذلك الأمي وهذه هي أعماله فماذا يجيب الضالّون؟

زعم بعضهم بعد أن سلم بأميته أنه لابد أن يكون تلقى ما أتى به من أحد الناس

بالمشافهة؛ فيجيب بأن ذلك التلقي الموهوم إما أن يكون حصل قبل النبوة أو بعدها.

فإن كان قبل النبوة، فإما أن يكون حصل ذلك في بلاده، أو في غيرها، أما

في غيرها فهو لم يسافر إلا إلى بلاد الشام، وذلك مرتين الأولى مع عمه أبي طالب

قبل بلوغه رشده، والثانية في سن الخامسة والعشرين مع غلام خديجة وفي كلتيهما

لم يكن منفردًا ولم يشاهده أحد من التجار المسافرين معه يتلقى العلم عن أحد ولم

يغب عن قومه إلا مدة التجارة وإلا لو غاب عنهم بضع سنين لقالوا له: لعلك تعلمت

هذا مدة غيابك عنا. وهم لم يفوهوا بمثل هذا مع أنهم كانوا يحاولون أن يلصقوا به

هذه الشبهة وهي التعلم من الناس وأيضًا فأي حامل يحمل هذا الفقير الذي نشأ هذا

المنشأ الذي بيناه ولم يوجد من ينبهه ويرشد فكره لفضيلة العلم حتى يترك ما يقتات

به وهو في تلك البلاد الأجنبية وما به إرضاء خديجة التي بعثته إليها ويجهد نفسه

في البحث عن عالم ليس من أمته، ولم يكن على عقائدهم ويرضخ له حتى يبعث في

قلبه كل هذه التعليمات ويسلم له فيما خالف معتقد آبائه وأجداده؟.

وإن زعم أنه حصل ذلك في بلاده فهو غير ممكن لأسباب:

(1)

أنه كان يُشاهَد يفعل ذلك، ولو مرة واحدة.

(2)

أن المعلم له إما أنه كان من الوثنيين، وهذا لا يمكن أن يعلِّمه ما في

التوراة والإنجيل وغيرهما من عقائد الموحدين، وإما أنه كان من اليهود، وهذا لا

يمكن أن يعلمه أخبار المسيح وأمه والإقرار لهما بالفضل والنزاهة، وإما أنه كان من

النصارى، وهذا لا يعلمه أن ينكر لاهوت المسيح، ولا التثليث، ولا الصلب ولا

أن يرمي النصارى بالتحريف في كتبهم، ولا غير ذلك مما يوجد في القرآن من

الإنكار عليهم، وإما أنه كان من المبتدعين، ومثل هذا أولى أن يشتهر بين الناس

بنفسه أو تعرف له علاقة في التاريخ بمحمد عليه السلام تؤهله أن يتعلم منه.

(3)

أي حامل يحمل هذا المعلم على إجهاد نفسه، وصرف وقته في تعليم

هذا الغريب الأمي، ولِمَ لَمْ يدعُ الناس إلى هذه الأشياء بنفسه، أو يختار أحدًا ممن

اشتهر بشعر أو بخطابة أو شيء من العلم، أو كان له جاه أو أعوان أو مال أو غير

ذلك مما يكسب المهابة في قلوب الناس.

(4)

أنه من الصعب جدًّا أن يقدر أحد من الناس أن يهذب هذا الأميّ كل

هذا التهذيب، وأن يخرجه من عقائد آبائه وأجداده ويدخل في ذهنه مسائل النبوة

والوحي، والتنزيه، والتوحيد ويجعله يعتقد ذلك اعتقادًا يقينيًّا إلا إذا كان هذا المعلم

مقتدرًا عالمًا حكيمًا، ومثل هذا لم يعرف له ذكر في بلاد العرب، ولا فيما جاورها

فكيف لم يشتهر بالعلم والفضل، وأي مؤرخ لذلك العهد ذكر كلمة عن أحد مثل هذا

متمسكًا بما يوجد في القرآن من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق

والمبادئ وغيرها.

(5)

لِمَ لَمْ يُسِرّ هذا المعلم إلى أحد بأنه يعلم محمدًا ويهذبه وما الذي حمله

على إخفاء هذه المسألة وكتمها هذا الكتمان المطلق؟ .

(6)

لِمَ لَمْ يُشاهد محمدًا يحترم أحدًا قبل نبوته أكثر من غيره، أو يلوذ به

ويلازمه كما هو شأن التلميذ مع معلمه؟ .

(7)

أي شيء ألزمه الصبر أربعين سنة ولم يجعله يسارع إلى دعوى النبوة،

ولم لم يبادر إلى سرد القصص التي تعلمها مرة واحدة. وكذلك الأحكام والعقائد

وغيرها خوفًا من الذهاب من الذاكرة والنسيان، وهو الأمي الذي لا يمكنه أن

يستعمل مذكرة لشيء مطلقًا خوفًا من أن يطلع عليها أحد وهي معه. شأن الذي يريد

أن يدعي شيئًا مثل هذا أن يظهر عليه عدة محاولات تدل على ما تطويه سريرته،

ثم يتجرأ فيزداد شيئًا فشيئًا، لا أن يسكت أربعين سنة ثم يندفع بدعواه مرة واحدة

بعزيمة واحدة قوتها في الأول كقوته في الآخر.

(8)

كيف أن هذه الفكرة لم تأخذ بلبه ومشاعره فتجعله مشتغلاً بها طول

السنة؟ وكيف يتناساها أحد عشر شهرًا ويشتغل بها شهر رمضان فقط من كل سنة

فيستعد فيه لما سيدعيه كما يزعمه أولو الأهواء في عزلته السنوية؟ عادة المفترين

أن تأخذ مثل هذه النيات بحواسهم وعقولهم حتى يظهر للناس أنهم دائمًا في انشغال

بال، ولكن النبي ما كان يشغله شيء عن شيء وإلا لأنهك الفكر بدنه، وصار سقيمًا،

وكلت قواه العقلية من كثرة الحيل، وتعدد الصعوبات التي كان يلاقيها فتضعف

عن أن تدبر كل ما كان يدبره لولا الإرشادات الإلهية، والإلهامات الربانية وكيف

علم أنه لن ينقضي أجله حتى يتم القرآن في آخر سنة من حياته ويأمن على نفسه

فيأتي به نجومًا نجومًا؟

وإن كان التعلم حصل بعد ظهوره بالنبوة:

(1)

فكيف ابتدأ دعواه على جهله، وأي منبه قام بفكره حتى حمله على ذلك

وكيف ضمن أنه يجد من يعلمه.

(2)

لِمَ لَمْ يشاهَد مرة يلجأ إلى أحد الناس ليتعلم منه؟ .

(3)

لِمَ لَمْ يقدِّم هذا المعلم ويفضله على أصحابه أو يوصي له بالخلافة ولِمَ

بقي معلمه مرءوسًا له، ولم يكن رئيسًا عليه؟ (راجع أيضًا الأوجه السابقة) .

(4)

لِمَ لَمْ يوجد بين أصحابه من كان يأنف من أن يتلقى العلم عنه ويخضع

لأمره وينتهي بنهيه، فأين كان هذا المعلم حتى ساوى نفسه بأصحابه؟ هذا ولم

يعرف أحد بينهم ممتازًا بعلم سوى ما أخذه بإقرارهم جميعًا عن كتاب الله وحديث

رسوله فإن كان هذا المُعلم موجودًا في عصر النبوة، فلِمَ لَمْ يشتهر قبل دعوى محمد

بالعلم الفلسفة؟ ولِمَ أخفى نفسه حتى ادَّعى محمد النبوة؟ ولِمَ لَمْ يظهر بين العرب حتى

تجلّه وتحترمه احترامها لمحمدٍ؟ وأي شيء استفاده حتى يكتم كل هذا؟ فيالله من

التعصب الذي يُعمي ويُصمّ.

علمت مما تقدم أنه كان أميًّا، وأنه لم يتلق العلم عن أحد شفاهيًّا فكيف أتى بما

أتى؟ وكيف عمل ما عمل؟ شيء آخر في تاريخه، وهو أنه لم يجارِ العرب في

الاشتغال بالشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو غير ذلك مما كانت تتفانى فيه العرب

ولم يشتهر بينهم بشيء من ذلك مطلقًا ولم ينقل عنه أنه قال كلامًا في منتهى البلاغة

قبل نبوته وكان قليل العناية بمجتمعاتهم وافتخارهم بنثرهم ونظمهم فكيف أتى بهذه

البلاغة الخارقة للعادة؟ وكيف أتى بهذا الأسلوب المعجز واخترعه؟ وكيف لم

يوجد فرق في البلاغة بين أول ما نزل من القرآن وآخره مع أن العادة أن الإنسان

يتدرج في الشيء فيكون آخر ما أتى به أحسن مما ابتدأ بإنشائه؟ وكيف يكون الكل

معجزًا مع أن المعتاد من البلغاء أن يكون بعض كلامهم في منتهى البلاغة والبعض

الآخر ليس كذلك؟ كيف لم تجد العرب إعجازًا في كلامه الذي ينسبه لنفسه قبل

النبوة أو بعدها؟ مع أنه لم يظهر عليه شيء يدل على عنايته بإنشاء أحدهما دون

الآخر، بل كثيرًا ما كان يقول أحدهما في عين الظروف التي يقول فيها الآخر بدون

تكلف أو تحوير فيما يلقيه من أول وهلة. كيف أمكنه الجزم بأن جميع الناس لن

تقدر على الإتيان بكلام مثل القرآن منفردين ومجتمعين، ويخبر بذلك قبل وقوعه

ويصدق خبره {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) الآية وغيرها فما هذه

الحجج الملجمات؟ وما هذه البراهين المفحمات؟.

قام بالدعوة إلى الله وحده، ولا حول له ولا قوة، والناس حواليه أحباء ما

ألفوا أعداء لما دعوا إليه. فسفه آراءهم. ونكس أصنامهم. ولاقى بسبب ذلك منهم

ما لاقى ما يثبط الهمم ويذهب بالعزائم، لولا تثبته في أمره وجزمه بالظفر والنجاح.

نجا من جميع الشراك التي كانت تُنصب له في الحروب وغيرها، وسَلِمَ من الدسائس

التي كانت تعمل له والتربصات لقتله غِيلةً، التي كانت تعقد عليه، ووعد أصحابه

بالنصر والفتح والتمكين في الأرض والخلافة، فوقع كل ذلك لهم، وصدق في جميع

ما أخبر به من المغيبات. تحققت نبوته وصح إخباره بانتصار الروم على الفرس

في السورة المعروفة مع أنهم كانوا في حالة لا يرجى معها نصر لشدة ضعفهم وقوة

عدوهم، وهو لم يكن من السياسيين ولا المطلعين على مواقع البلاد وأحوال الأمم

وتاريخها فكيف يتأتى له الحكم بشيء مثل هذا ويعرض نفسه للتكذيب والخذلان مع

أن المسألة ليست مما يهم كثيرًا، حتى يبت الحكم فيها؟ فلولا ثقته بالوحي لما تجرَّأ

على القول بأنهم سيغلبون في بضع سنين، وعرض نفسه للسخرية والتكذيب وهو

أحرص الناس على عدم افتضاح أمره كما يقول أعداؤه. وإذا صحت قراءة من قرأ

(سيغلبون) بالبناء للمجهول، أي أن المسلمين تغلبهم ففيها أيضًا الإخبار بمغيب لو لم

يقع لظهر كذبه! . اجتمعت عليه العرب مرة أحزابًا واتحدوا على محو ذكره من

الوجود انتقامًا. فأرسل الله عليهم ريحًا وألقى في قلوبهم الرعب من غير سبب ففروا

انهزامًا. وكفى الله المؤمنين القتال. فما كل هذه المصادفات إن صح ما يقول

الواهمون الذين يتمحكون بهذه التأويلات الفارغة ويتمسكون بالتعليلات الباردة.

سمعت من بعضهم بعد أن أدهشه الدليل بأن النبي لم يتعلم من واحد مخصوص قولاً

يريد به تسكين نفسه وتهدئة خاطره، وهو أنَّ ما كان يسمعه النبي ممن حوله من

الناس في مسائل الدين سهل عليه الإتيان بما أتى به، وأنه كان يتصيد معلوماته

ممن جاوره من النصارى واليهود باستراق السمع منهم فأقول له: مهلاً أيها المعجب

بتفسيراته، المغرور بتعليلاته، واستمع لما سأتلو عليك وأنت شهيد، ولا تكن ممن

عن الحق يحيد:

إنه لم يكن في مكة من أهل الكتاب إلا أشخاص يعدون على أصابع اليد

الواحدة، وكانوا من أجهل الناس، وأحطهم مقامًا في الهيئة الاجتماعية، وكانوا

يحترفون بدنيء الحرف، كخدمة بعض العرب أو الاتجار في بعض أشياء حقيرة.

وقد نزل في مكة من القرآن ما كان محمد في أشد الحاجة إلى من يلقنه إياه فهل يسلم

العقل أن علم محمد مستفادة من هؤلاء الأشخاص؟

هبْ أنه كان يتصيد المسائل من نصارى العرب ويهودها، فكيف أمن من

الوقوع في خرافاتهم التي يجزم العقل ببطلانها كقصة شمشون، وما يتعلق بقوته

وشعره ونحو ذلك من الأوهام التي كانت ولا تزال منتشرة بين النصارى واليهود إلى

اليوم؟ لم تنزَّه كلامه عن أضاليلهم في المسألة اللاهوتية كعقائدهم في المسيح

والصلب والتثليث، ومصارعة الله بعض الأنبياء، وظهوره بمظهر شخص لم يترو

فيما فعل فندم بعد ذلك على ما وقع منه كأنه لم يكن يعرف عواقب الأمور؟ أليس

من المعهود أن الإنسان يقع في بعض غلطات من كان يجعل كلامهم معتمدة فيما

يعتقد أنه صواب؟ فلماذا لم يقع محمد في خطأ واحد من خطئهم؟ !

كيف سلم كلامه من الغلطات في المسائل العلمية التي كانت منتشرة بينهم في

ذلك الوقت كاعتقادهم أن الشمس وقفت لفلان، أو رجعت بعض درجات، وأن

الحية لا تأكل إلا التراب، مع أنها لا تأكل التراب، وكالأوهام في شأن جنة عدن

وما ذكر معها من الأنهار مما لا يصدق به إلا الجهلة من أهل التخريف إلى غير ذلك

مما كان ذائعاً بينهم ولا يزال إلى الآن. هل يعرف الأمي الذي نشأ في وسط الجهل

وفي زمن الجهل ما صح من المسائل وما فسد منها حتى إنه لا يقع في كلامه إلا

الصحيح مع أن انتشار الخرافات والأقوال الفاسدة كان بحيث إذا كلف فليسوف

بانتقادها واختيار صحيحها لوقع في الوهم، ولحكم على بعض الصحيح بأنه باطل

وعلى كثير من الباطل بأنه صحيح، وخصوصًا في ذلك الزمن، وفي تلك البلاد

العربية التي كان فيها العلم عبارة عن مجموع خرافات للعجائز اختلطت بشيء لا

يخلو من الصحة من بعض الوجوه؛ فما بالك بمحمد الأمي والرجل العامي؟ .

أيتصور أن هذا الرجل الذي كان يعتقد في أهل الكتاب أنهم غاشون ماكرون

يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفترون على الله الكذب، ويكتبون الكتاب بأيديهم،

ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا، أيتصور منه وهو يعرف كل هذا

عنهم أن يثق بأقوال يسمعها من أفواه الجهلة منهم، ويزعم بعد ذلك أنها من عند الله

مع أنه ما كان يثق بقول أعظم عالم من علمائهم، بل كان يرميهم بأنهم لا يفهمون

حقائق ما عندهم من الكتاب، وأنهم يختلقون أشياء كثيرة لتضليل عامتهم وغشهم؟

فكيف يعول النبي الذي لا ينكر أحد رجحان عقله على قولهم مع أنه شرح للناس

مكرهم وكذبهم، وكيف لا يخاف أن يكذبوا عليه ويغروه ويقعوه في الخطأ الذي لا

يمكنه التخلص منه. وكيف يسلم لأحد منهم ما يقوله في دينه مع أنه يجوز أن يكون

مخطئًا، ولا أثر لما يقول في الدين لما نشاهد ذلك كثيرًا في المسلمين، وغيرهم فكم

من غلط وقع فيه الكُتَّاب الغربيون أثناء كلامهم عن الإسلام وعن عقائدهم بسبب ما

يسمعونه من جهلة المسلمين.

هل يمكن للعامي الأمي إذا سمع خليطًا من قصص بني إسرائيل من أفواه آحاد

الناس في مجالسهم مشوهة ممزوجة بكثير من الخرافات كما هو شأن العامة في

أحاديثهم غير مرتبة على حسب وقوعها، وغير مفصلة تفصيلاً يزيل ما اشتبه على

الأفهام بحيث لا يُدرى صحيحها من كذبها، أن يفهم منها حقيقة تاريخهم وعقائدهم

ودعوى أنبيائهم، ويأتي بعد ذلك بتفاصيل أهم حوادثهم، وذكر أعظم رجالهم وما

حدث لهم ويشير إلى ترتيب أزمنتها وإلى بعض البلاد التي وقعت فيها وإلى موقعها

الجغرافي، كأن يومئ إلى موقع البحر الأحمر بالنسبة إلى مصر بقوله: {فَأَتْبَعُوهُم

مُّشْرِقِينَ} (الشعراء: 60) ويأتي على القصص الطويلة كقصة يوسف وموسى

وإبراهيم ولوط وغيرهم ويعرف نسبة كل منهم إلى الآخر ويرتبها على حسب

ترتيبها الطبيعي من غير تقديم أو تأخير في حوادثها، أو يخلط فيها مع أن هذا

التاريخ أجنبي عنه وعن قومه ولم يدرسه دراسة تمكنه من أن يكتب إحدى حوادثه

الكبيرة؟ تصور حالة عامي من عامة المصريين إذا سمع أقوالاً متفرقة متشعبة من

أفواه بعض جهلة الأوروبيين عن تاريخه فهل يمكن هذا العامي أن يأتينا بشيء

عظيم صحيح من تاريخه مثل ما أتى به القرآن، ويسرد علينا آراءهم ومبادئهم

ومعتقداتهم، ويذكر أهم رجالهم ونسبتهم وتاريخ حياتهم وما أتوا به من الإصلاح في

بلادهم وينبه على وجوه العبرة في كل ما يقص علينا، وعلى ارتباط الحواث

بعضها ببعض، ولا يذكر إلا الصحيح منها، ويترك الأباطيل التي ألحقتها الأوهام

بها. قل لي بأبيك هل هذا ممكن؟ يزعم البعض أن في القرآن خطأ في هذه المسائل،

ويأتوننا بأشياء تعد على أصابع اليد الواحدة، ويزعمون أنها غلط من غير اعتماد

على دليل صحيح يعتد به.

فلو كان مصدر القرآن كما يقولون، هل كنا نجد فيه هذه الغلطات القليلة؟

(على زعمهم) فقط غير الثابتة، أم كنا نجد كل صحيفة ممتلئة بالأوهام والخرافات

والخلط في المسائل والخبط من غير اهتداء إلى صحيحها وذلك من غير كثير عناء

وتعب، بل مجرد مطالعتها كان يضحكنا ويجعلنا نهزأ بها ونتعجب من ترهاتها

وخصوصًا في زماننا هذا الذي صار فيه تلامذة مكاتبنا يضحكون من أفكار

بعض فلاسفة من سبقنا، ويتفكهون بذكرها ولا نحتاج إلى البحث والتنقيب،

وصرف الوقت في الحصول على هفوة قلّ أن تجدها في القرآن وإذا وجدناها؛ فإنها

لا تلبث أن تزول بعد التروي والتأمل والتعمق في البحث. فهل هذا هو ما ننتظره

في قول العامي المصري الذي ضربناه لك مثلاً أم كنا نستلقي على قفانا من الضحك

عند سماع بضعة أسطر من كلامه في المسائل الطبيعية، والتاريخية، والعمرانية،

والأخلاقية واللاهوتية والشرائع المدنية والعبادات الدينية - إذا حاول أن يملي علينا

شيئًا من ذلك؟ استحضر الآن في فكرك ما أتى به القرآن.

أليست الشريعة الإسلامية تضارع أعظم الشرائع كالرومانية وغيرها؟.

أليست الأخلاق المحمدية أكمل الأخلاق لتقويم النفوس مع خلوها من الضعف،

وما يوجب المسكنة وإذلال النفس وغير ذلك مما ورد في غيرها من التفريط أو

الإفراط؟

أليست قصص القرآن عبرة لمن اعتبر مع بُعدها عن سفاسف الأمور،

واللغو الذي لا فائدة فيه؟ قارنها ببعض أسفار العهد القديم مثلاً كسفري الملوك

وأخبار الأيام.

أليس من المبادئ الإسلامية ما لم تهتد الناس إليه إلا في العصر الحاضر؟ .

...

...

...

... محمد توفيق صدقي

...

...

...

...

حكيم بسجن طره

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 417

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]

التربية بالتأثيرات الطبيعية

يوم 14 أغسطس سنة -186

صادفنا غداة اليوم على مقربة من ليما زنجيًّا آتيًا إليها يلتمس رزقه من عرض

حيوان يسمى البوما، وهو الممثل للأسد في أمريكا كانت قبلية من المتوحشين

اصطادته حيًّا، وكان ربه وهو شبه مشعوذ يؤمل أن ينال بعض النقود من عرضه

على النظار.

كان هذا الرجل على شدة فاقته، وعجزه عن القيام بنفقة نفسه مصحوبًا بصبية

زنجية عليها طمر أزرق، رأيت في مشيتها قزلاً؛ فسألتها بالإسبانيولية التي لا

أحسنها عما أصابها فجعلها تعرج كما رأيت؛ فكان جوابها أن أرتني إحدى ساقيها

فإذا فيها جرح دامٍ، ورأيت قدميها قد ورِمتا ورمًا مفرطًا، ولما أمعنت النظر في

ساقها المجروحة عثرت على طرف شوكة غليظة في سمك لحمها، وهي التي تسبب

عنها الجرح قطعًا، ثم خبث بما اعتوره من المشي والوصب ولدغ الحشرات؛ فإن

هذين المسافرين كانا آيبين من مسافة بعيدة جدًّا.

ما زلت بهذه الشوكة حتى نجحت في سلها، ثم ضممت أجزاء الجرح بعضها

إلى بعض، ولما لم أجد خرقة أعصبه بها ناولتني (لولا) منديلها، ولم تقتصر

على ذلك بل دعتها رحمتها بهذه الفتاة إلى خلع نعليها ووضع قدميها المرضوضتين

فيهما فلائمتاهما أشد الملائمة كأنما صنعتا لهذه المسكنية فأعربت (للولا) عن

شكرها، ثم غادرناهما ومضينا في سبيلنا.

انبعثت (لولا) إلى عملها هذا بباعث من بواعث الخير القلبية، إلا أنها ما

لبثت أن أدركت صعوبة الاحتفاء في أرض صلبة خشنة كأرض البيرو، فإن طرقها

لا مشابهة بينها وبين مخارف البساتين الكبرى في إنكلترا.

أنشأ (أميل) أولاً يسخر من حيرة صديقته في مسيرها حافية، ولكنه لتأثره

من صنيعها دبت فيه النخوة فاحتملها على ظهره فقبلت ذلك مبتسمة.

إن الباقي من طريقنا لم يكن طويلاً جدًّا ومع ذلك وقف (أميل) في أثنائه

للاستراحة مرتين أو ثلاثًا متبعًا في ذلك نصيحتي، وفي آخر وقفة منها بصرنا من

بعيد بالمشعوذ يقود البوما، وعرفت (لولا) الصبية الزنجية وقد خلعت النعلين

وحملتهما في يدها، فما كان أشد غمها لهذا المرأى، انظر كيف بخستها منحتها وكيف

استعملتها.

فسرّيت عنها ما خامر قلبها من الكدر بأن قلت لها: إن العادة طبع ثانٍ، وإنَّ

هذه الصبية لا بد أن تكون تعبت من الانتعال لاعتيادها الاحتفاء على أن نية إسداء

المعروف محمودة على كل حال، ولو أخطأ صاحبها فيما يتخذه من الوسائل لإيصال

النفع.

والذي رأيته خيرًا من هذه العظة كلها هو أن ما وجده قلبها الطاهر من السرور

باحتمال (أميل) إياها قدر لها فيما أرى على أن الإنسان لا يخسر شيئًا مما يسديه

من المعروف. اهـ

يوم 28 أغسطس سنة -186

زرنا بعض أجزاء من جبال الفورديير ولم يكن سبق (لأميل) أن شاهد مثل

هذه الجبال التي يصح أن تسمى بالألب [1] الأمريكية؛ فراعه كل الروع ما لهذا

الخلق الهائل من مظاهر الفخامة والعِظَم مع أننا لم نبلغ منها إلا أدنى شعافها.

لا بد لي أن ألاحظ هنا أن القدماء كانوا قليلي التأثر بما للجبال الشامخة من

المحاسن الرائعة؛ فإنا لم نر لشعراء اللاتين من الكلام فيها إلا النذر اليسير، ومعظم

ما قالوه استهجان واستقباح، وقد يحدو بي ذلك إلى القول بأنه كان يلزم أن يدهمهم

من الكوارث المحزنة ما تهتز له نفوسهم، وأن تستضيء بصائرهم بنور العلم،

ويتمكن منها الاستعداد للبحث والتنقيب الذي هو من مزايا العصور الحديثة، ولو تم

لهم هذا لأدركوا أن في سيارنا الذي نعيش على ظهره من المظاهر الهائلة البديعة ما

يدعو إلى الإعجاب الحقيقي اهـ.

يوم 2 سبتمبر سنة - 186

كسبت (لولا) دعواها وإن شئت قلت خسرتها فكلا القولين صحيح باعتبار

جهة النظر.

اضطررنا للمصالحة في هذه القضية الكثيرة الارتباك لما يقتضيه الفصل فيها

من الانتظار أشهرًا بل سنين، فعرض على الخصم أن يعطوا لبنت السفان

مقدارًا زهيدًا من النقود وبعض ما كان لوالدها من الأرضين. والأرض هاهنا لا

قيمة لها اليوم أصلاً ما لم يستغلها صاحبها بنفسه أو بواسطة وكيل له يقيم في هذه

البلاد.

فأما أنا وهيلانة فما جئنا لنقيم في (ليما) بل قد انتهت مهمتنا ولم يبق إلا

السفر لا سيما أني تلقيت مكتوبًا من الدكتور وارنجتون يدعوني إلى لوندره لامور

نافعة لي بينها فيه، وأما قوبيدون وجورجيا فإنهما خبيران بفن الزراعة خصوصًا

زراعة الأقطار الحارة، وليسا من ذوي العقول الضعيفة وأمانتهما تقوم بكل ما في

بلاد البيرو من الذهب ولا أرى ما يمنع من العهد إليهما بزراعة أطيان (لولا) .

وإنه ليشق علي مفارقة هذين الشهمين، غير أني أرى أن إقليم إنكلترا لم

يخلق لمثلهما من الزنوج، وأما إقليم جنوب أمريكا فإنه يؤذن بأن سيكون لهما فيه

بتوالي الأيام مناخ جميل ووطن سعيد. اهـ

رجعت السفينة التي كانت حملتنا من لوندره إلى قلاو منذ ثلاثة أسابيع ويعلم

الله متى يكون مجيئها ولهذا رأينا بدلاً من اجتياز رأس القرن أن نركب هذه المرة في

سفينة تجارية على نهير الأمازون [2] تسير بنا والشاطئ حتى نبلغ سواحل البرازيل

حيث نجد سفينة تكون مسافرة إلى إنكلترا فإن هذه الطريق أقصر من الأولى بمسير

عشرين يومًا.

تنوي (لولا) أن تعود معنا؛ لأن بلادها لقلة ما عرفته منها لم تبعث في

نفسها شيئًا من الرغبة في توطنها، ولأنها تعلم فوق ذلك أننا نحبها.

ما ندمت على هذا السفر بحال (فأميل) قد مضى وقته هنا في الالتفات إلى

العلم والإمعان في مسائله؛ فهو يعود إلى بلاده الآن ناقلاً إليها مجاميع في علم

التاريخ الطبيعي، بل حاملاً ما هو خير له منها: ضروب الانفعال الكثيرة بما رأى

وصنوف الذكر لما وعى، وقد تربى طبعه في مدرسة الاختبار والحياة التي لا يربي الرجال غيرها.

نعم، إني لا أعني بهذا القول أن ألزم جميع من هم في سنه من المراهقين أن

يبتعدوا عن أوطانهم بقدر ابتعاده، ولكن رأيي الذي لا أحول عنه هو أنهم لو خرجوا

قليلاً من أصدافهم ورأوا الكون في الكون قبل أن يروه في الكتب؛ لغنموا من ذلك

أكثر مما يتوهم. اهـ.

الكتاب الرابع في تربية الشباب

المكتوب الأول من (أميل) إلى والده

وصف معيشته - نادي الطلبة الألمانيين ومحاوراتهم - تهافتهم على خدمة

الحكومة تفكر (أميل) في أمره - تألمه من عدم فهمه اللغة الألمانية - ذكره (لولا) -

استيحاشة من غربته.

برلين في 8 يناير سنة -186

انتظمت في سلك المدرسة الجامعة بعد امتحان كان لا بد من تأديته وصرت

ادعى منذ أسبوع بالسيد الشاب.

من المفروض علي أن أكاشفك بشيء من تفاصيل معيشتي وأنا طالب: أما

نهاري فأصرفه في تلقي دروس الحكمة والتاريخ والقوانين وعلم تركيب الحيوان

والنبات ومنافع أعضائهما والمقارنة بين اللغات وغير ذلك وأما ليلي فأقضيه في

مسكن استأجرته ستة أشهر بنحو مائة وخمسين فرنكًا، وأما طعامي فأتناوله في

مطعم على مائدةٍ جامعة في مقابل أربعة وعشرين صولديًّا [3] وبعد العشاء تارة آوي

إلى حجرتي، وطورًا أتنزه في المدينة، ولكوني أجنبيًّا لما أطلع على أسرار طائفة

الشبان كلها على أن أحدهم قد أخذني معه ذات ليلة إلى مدخن (مكان لتدخين التبغ)

يجتمع فيه بعض الطلبة الألمانيين؛ فما فتح بابه حتى رأيتني تائهًا مغمورًا بسحاب

مركوم من الدخان، حال بيني وبين رؤية جدران المكان وسقفه، بل رؤية المكان

برمته، وكان يخيل إلي أنه يمتد إلى غير نهاية، وكنت أسمع أصواتًا وأغاني

وقهقهات ولا أبصر شيئًا من الصور الحية، وأرى أضواء حمراء تبدو في بعض

جهات هذا المكان يغشاها ذلك السحاب كأنما تسبح منه في بحر لجي وكنت أمشي

كخابط ليل وراء الدليل، وعلى مقربة منه بين صفين من الموائد خيل إليّ أنها تعوم

في الضباب، ورأيت عليها رؤية غير مستبينة آنية من القصدير كان لمعانها المعدني

يجهد في صدع حجاب الظلام الدخاني المنسدل على القاعة كلها، ثم لمحت من

خلال هذه الآنية وجوهًا آدمية؛ لأن بصري كان يتدرج في اعتياد هذا الجو الغريب

والأنس به، ولم يكشف عني الحجاب كشفًا تامًّا إلا عندما بلغت نهاية القاعة حيث

أقيم مصطلى عظيم؛ فرأيتني في جمع حافل من الشبان على رءوسهم القلنسوات

وفي أيديهم أكواب الجعة، وبين هذا التشويش واللغط عثرت على حلاق من الطلبة

قامت بينهم مناظرات في مسائل مهمة، ولم تعقهم عن مداومة الشرب والتدخين.

إن أذني لم تعتَدْ سماع الأصوات الألمانية اعتيادًا يكفي لمتابعة مجرى الحديث

وفهمه، ومع ذلك قد فهمت من فحوى ما سمعته أنهم يتناظرون في مقاصد ووسائل

بعضها أسمى من بعض تتعلق بإصلاح أحوال البشر، وكانت البراهين والنكت

والمعاني تنبعث من أفواهم كأنها سهام نارية تنقذف بين أنفاس الدخان، ولما انتصف

الليل غادر القاعة جميع الطلبة؛ ورأيت بعض من لاحظت فيهم الحمية والغيرة على

مصالح الإنسان منصرفين إلى بيوتهم، وقد جعلوا يغنون جهارًا في وسط الشارع

أغاني مبتذلة؛ ولم يبد عليهم حينئذ ما يدل على أنهم ذاكرون لما تعاهدوا عليه من

اصطلاح شؤون الكون.

أخص غاية للطلبة من اختلافهم إلى المدارس الجامعة هنا بحسب ما سمعت

هي أن يلوا عملاً من أعمال الحكومة فكلهم يؤمل أن يكون خادمًا لها على تفاوت

بينهم في ذلك، فإذا حصل أحدهم على لقب دكتور مثلاً؛ رأيته يتقدم إليها حاملاً

شهادته راجيًا أن توليه أحد الأعمال الخالية في إدارتها ومعظم هذه الأعمال لا يولَّى

إلا بالامتحان، ولا يناله إلا من يظهر أنهم أعلم من غيرهم، وحينئذ يعول الذين

يخيبون فيه على الاشتغال بالأعمال المستقلة، ولا أدري أهذه الحالة وهي فرط الرغبة

في تقلد المناصب العامة هي التي ينبغي أن ينسب إليها التغير الذي يحصل

في عقول شبان الدكاترة عند خروجهم من الجامعة أم له سبب آخر.

فالواقع هو أنه ليس بين أخلاق الطلبة وأخلاق غيرهم من الألمانيين أدنى

مشابهة. الطلبة يتظاهرون بالتنفج [4] والشذوذ والعربدة، ويخيل إلى من يرى

غيرهم من الألمانيين أنهم ممتلئون سكينة بل جمودًا وبلادة، والأولون مشهورون

بالميل إلى الثورة وبحب الحكومة الجمهورية، وبعدم المبالاة بالخوض في أي بحث

نظري، وبالهجوم على جميع المسائل سياسية كانت أو دينية أو قومية بما يدهش من

جرأة الجنان، وبقية الأمة يظهر عليها التشدد في الاستمساك بالعوائد القديمة

وبالحكومة الملكية. وترى الطلبة يتباهون باحتقارهم جميع المميزات التي لا منشأ

لها إلا اتفاق النسب على حين أن أواسط الناس يجلون ألقاب الشرف إجلالاً لا حدَّ

له، فترى الفريقين كلمتين متمايزتين، وليس للطلبة في الحقيقة ارتباط بباقي الأمة

إلا رغبتهم العظمى في أن يلوا لهم بعد مبارحة الجامعة أعمال رسمية، على أن هذا

الارتباط كاف في عدم اكتراث الحكومة كثيرًا بما يبدونه من حدة أفكارهم الحرة.

دعتني سيرة هؤلاء الشبان إلى التفكر في سيرتي؛ فإني قد بلغت التاسعة

عشرة من عمري، ولا مقام لي بين الناس، بل لم يقف بي الاختيار حتى الآن على

صناعة نافعة أشتغل بها، وإذا أردتني على الإقرار لك بما أجده قلت إني أحيانًا آنس

من نفسي فتورًا في الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسائلها عما أصلح له من الأعمال،

وأنا ضائق بذلك صدرًا، نعم إنك قد رأيت مني تقدمًا سريعًا مناسبًا لحالي في

العلوم، ودرس كتب المتقدمين في أربع سنين أو خمس مضت، وما ذلك ولا شك

إلا من الطريقة التي أهلتني بها أنت ووالدتي للعمل العقلي، وهي مراقبة الأمور

والأسفار، وما تلقيته منكما من الدروس النافعة، ولا أشك أن لي طمعًا في العلم

ولكني أجهد فكري في استقصاء ما يعوزني من الخصائص، فآونة أتوهم أني أحس

في نفسي بروح إلهي يقدرني على كل شيء، وساعات يخيل إلى أني قد فنيت في

عجزي، وتجردت من حولي وقوتي، وتارة تملكني الأفكار وطورًا يستحوذ علي

وجدان الحاجة إلى العمل، والذي أراه يقينًا أني لم أجد إلى الآن استقامة واستقرارًا

فيما لنفسي من القوى إن صح أن يسمى بها ما لشاب مثلي من الشهوات القوية التي

تدعوه إلى السعي لإدراك مقام له في هذه الدنيا.

لما بلغت ليما منذ شهرين كنت أعتقد أني على علم باللغة الألمانية لما قرأته

منها في الكتب؛ فما لبثت أن تبين لي خطأي في ذلك ومنشأ هذا الخطأ أني كنت

أحسن قراءة الصحف، وعناوين الحوانيت، وأسماء الشوارع، وما على الجدر من

الإعلانات فإن الجدر هنا كما تعلم تتكلم بالألمانية، فإذا جرت حولي المحاورات

أصغيت إليها؛ وما كنت أسمع إلا أصواتًا لا أفقه شيئًا من معانيها فكنت مطلق

البصر، أسير السمع؛ لأن من الأسر المعنوي الحقيقي أن يعيش الإنسان بين قوم لا

يفهم لغتهم. كان الغلام الذي في الثالثة من عمره وهو في هذه السن لا يعرف من

هذه اللغة إلا التعلثم ببعض ألفاظها يعرف منها أكثر مما أعرف حتى إني لما كنت

أحاول مخاطبته كان يُنغض إليّ رأسه استهزاء كأنه يقول: (إليك عني، إني لا أفقه

لك قولاً) كنت بين أولئك القوم كالأصم الأبكم الذي فقد كل وسيلة للتفاهم

حتى لغة الإشارات، فهل يمكن أن ينشأ عن الأمواج الصوتية إذا اختلف انتقالها

إلى الأذن اختلافًا يسيرًا باختلاف كيفية تحريك الشفتين مثل هذه الحوائل والحجب

التي تبعد الناس بعضهم عن بعض.

استأت جدًّا من هذه العزلة فجاهدت جهادًا عظيمًا في التجرد من الانكماش الذي

أجده من حيائي الطبيعي، وأنشأت اليوم أنطق بالألمانية نطقًا مفهومًا، وإني لا علم

أنه لا يزال يعوزني تحصيل الكثير منها، ولكن من هو في مثل سني قد يبعد أن لا

يحصل في قليل من الزمن لغة هو لا ينفك يسمع أصواتها من أفواه جميع الناس في

هذه البلاد، وليس أصعب ما في هذه اللغة التكلم بها فيما أرى، بل هو فهم ما يسمع

من التحاور بها بين اثنين من أهلها، فقد كنت ذات مرة في الملعب وكان اثنان من

الممثلين يتحاوران فما استطعت في سرعة تحاورهما أن أفهم كلمة منه اللهم إلا ما

كان من تحية المساء وهي: (ليلتك سعيدة)

مثل اللغات الأجنبية إنْ لم أكن واهمًا كمثل دخان التبغ بالنادي الذي حدثتك

عنه في كونه كان يحجب عني بادئ بدء رؤية ما كان فيه من الأشياء والأشخاص،

فهي حجاب سيزول على التعاقب، وآمل أن سيظهر لي النور عما قليل.

أرجوك أن تنوب عني في تقبيل (لولا) وأود لو أدري هل هي مواظبة على

سقي الأزهار، وتمام العناية بالطيور، وتنسيق مجاميع الأعشاب والدفائن وآمل

منك إيصاءها بأن تذكرني كما أذكرها.

إذا أنا كتبت إليك فقد كتبت إلى والدتي فأنتما في قلبي لا تفترقان؛ ولهذا لا

أزيدها شيئًا إلا أسفي على حرماني من حجرتي الصغيرة التي كنت أسمع منها حركة

غدوكما ورواحكما في البيت، وعلى أُنسي بقربكما عند اصطلاء النار ليلاً فإني هنا في وحشة أي وحشة. أختم لك هذا المكتوب في الساعة الحادية عشرة من

الليل على ضوء مصباح يعلوه عاكس ضوئي يسقط منه نور ضارب إلى الحضرة، وفي إحدى زوايا حجرتي ساعة دقاقة من الصنف الذي يصوت كطير (الكوكو)

عند انقضاء كل ساعة تكرر (تكتكتها) التي لا تغير، وأسمع حسيس احتراق الحطب

في التنور، وصرير الباب من صفق الريح إياه، وأرى البدر من خارج الحجرة

شاحب الوجه يرنو إلي من خلال ستارتين كبيرتين موشاتين بالأشجار والأزهار ما

بين بيضاء وحمراء، وقد أحسست بإغريراق عيني مع أن هذه الأشياء في ذاتها لا

تدعو إلى الحزن، ولكن لا تلمني فإني ما زلت طفلاً، ولست آسى على بلادي وإنما

آسى على مفارقة مهدي؛ فإني أحبكما وأرجو من هذه الجهة على الأقل أن أعيش طول عمري طفلاً.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) معرب من باب تربية اليافع من كتاب أميل القرن التاسع عشر.

(1)

جبال الألب، هي سلسلة جبال عظيمة في أوربا.

(2)

المعروف أن الأمازون أكبر أنهار الدنيا ولعل المؤلف يريد بقوله نهير أحد فروعه القريبة من ليما.

(3)

الصولدي جزء من عشرين جزءًا من الفرنك فقيمة طعامه هي فرنك وربع.

(4)

التنفج افتخار الإنسان بأكثر مما عنده.

ص: 427

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(تاريخ الأستاذ الإمام)

إن التربية بناء يوضع على أساس القدوة، ويرفع على قواعد الأسوة، فسِير

عظماء الرجال، أنفع ما يذخر للأجيال، وإن العبرة بسِير المعاصرين أقوى من

العبرة بسِير الغابرين؛ لأن عامة الناس عندنا تعتقد أن الأولين من عنصر أزكى،

واستعداد أقوى، فلا يضرب معهم المتأخر بسهم، ولا يدانيهم في فضل أو علم

لذلك رأينا أن من أنفع ما نخدم به الأمة وضع تاريخ مطول للأستاذ الإمام -

رحمه الله تعالى- وقد نوهنا بذلك فيما نشرناه من سيرته. ونريد أن نقول هنا: إن

ورثة الفقيد وأصدقاءه ومريديه الذين نعرفهم هنا عون لنا على هذه الخدمة، ونرجو

من إخوانهم في الصداقة والوفاء من سائر الأقطار أن يتفضلوا علينا بما يرون من

النصائح، وما يعرفون عن الفقيد من الأعمال والمآثر مما يخفى مثله علينا، ويُظن أن

لا يكون وصل إلينا، كبعض الكتب والرسائل، وما رأوا من الأعمال أو سمعوا من

المسائل. ومن أرسل إلينا شيئًا من خط الفقيد فإننا نعيده إليه على عهد الله ورسوله.

ثم إن ما يرسل إلينا منه إن كان أثارة من علم أو أدب؛ فإننا ننشرها حتمًا

ونكافئ مرسلها بنسخة من التاريخ نهديها إليه، وإن كان كتابًا خاصًّا بمن كان أرسل

إليه فإننا لا ننشره إلا إذا كان فيه فائدة عامة من حكمة تُؤثَر، أو بلاغة تؤثِّر، على

أنه قلما يخلو كلام له من كلتا المزيتين مهما كان الموضوع الذي كتب فيه. ولا شك

أن الذين توجد عندهم هذه الآثار والأخبار، يحرصون مثلنا على تدوينها واستفادة

الناس منها في الأغلب فلا يبخلون علينا بما ينفع الأمة ويحفظ أثر الإمام، فهذا

الاستجداء سيصادف بذلاً وسماحًا إن شاء الله تعالى.

وإننا نقدر أن التاريخ لا يقل عن ألف صفحة وقد يزيد عليها، وأن تجزئته

إلى جزئين أو ثلاثة أولى، وربما نجعل له اشتراكًا.

وليعلم الشعراء الذين نظموا المراثي ونشروها في بعض الجرائد أننا لا ننشر

منها إلا ما نختار مما أرسلوه إلينا أو إلى الشيخ عبد الكريم سلمان أو حمودة بك

عبده؛ لأننا لم نتتبع الجرائد ونحفظ ما فيها من القصائد، وليس المانع من إثبات

المرثية في التاريخ هو سبق نشرها في بعض الجرائد وإنما هو ما ذكرنا من عدم

التتبع والحفظ، فمن شاء أن يرسل إلينا شيئًا مما نشر فليفعل.

وكنا نود لو بين لنا كل من أرسل أو يرسل إلينا شيئًا من كاتب وشاعر لقبه

الذي يخاطب به ووظيفته التي يذكر بها؛ لنذكره بما هو معروف به؛ إن لم يكن

متنكرًا؛ فذلك خير من نشر القصيدة أو المقالة بالتوقيع الذي يذكر فيه الاسم غفلاً لا

يعرف مسماه إلا المتصلون به، وقد يشتبه بغيره لكثرة المشاركة في الأسماء والألقاب

هنا (أي في البلاد المصرية) .

***

(كتاب الهدية العصرية إلى الجامعة الوطنية)

كتب سليمان أفندي مصوبع المحامي السوري مقالات في الاجتماع البشري

والعمران، ونشرها في جريدة ثمرات الفنون وغيرها من جرائد بيروت، ثم اقترح

عليه أن يجمع شملها في كتب، فجاء الكتاب يناهز مائتي صفحة في عشرة أبواب:

(1)

في العمران أساسه وتحديده وسره.

(2)

في الحاجة تأثيرها والوقاية منها.

(3)

في المحاماة.

(4)

في الانتقاد.

(5)

في مسئولية الإنسان.

(6)

في أدوار الحياة ونحو ذلك.

وفي هذه المباحث آراء صحيحة وفيها مسائل غامضة ولعل أكثر الغموض من

ضعف التأليف، وإعواز البيان؛ حتى كان الكلام كترجمة باصطلاحات جديدة،

وأسلوب لم يخلص دائمًا إلى الأسلوب العربي الصحيح من حيث: تعدية الأفعال،

وربط الكلام بعضه ببعض، ووضع الكلم موضعه، على أن فيه جملاً رائعة

وتجوزًا حسنًا في بعض المواضع. وقد كان أعجب الكتاب إليّ، وأحسنه عندي

كلامه في الدين، وبذلك تبين أن دين الأنبياء واحد، وأن الأخير مكمل لما قبله،

وعليه المعول في الخلاف، ولولا التطويل لنقلت كلامه هذا، على أنه قد سبق لنا

اقتباس ما كتبه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- في ذلك من رسالة التوحيد وهو

الكلام الذي ليس فوقه مطلع ولا وراءه غاية. وإننا نثني على سليمان أفندي لعنايته

بما تقلّ العناية به في تلك البلاد، ونرجو له زيادة التحرير والاجتهاد.

***

(كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة)

لهذا الكتاب ذِكر في دواوين المتقدمين لشهرة مؤلفه أبي نصر الفارابي فيلسوف

المسلمين في القرن الرابع، وقد كان من كنوز الكتب المخفية فظهر في هذه الأيام

وطبعه الشيخ فرج الكردي والشيخ مصطفى القافي الدمشقي يطلب من المكتبة

الملوكية بمصر.

مسائل الكتاب تدور على أقطاب الفلسفة اليونانية في الوجود الأول، وما يجب

له من الصفات وفي أقسام الموجودات الأخرى ومنها النفس ومن هنا ينتقل إلى

الكلام في الوحي والنبوة، ثم إلى حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وإنما

يكملان بالمدينة لذلك بَيَّن معنى المدينة، وقسمها إلى أقسام المدينة الفاضلة وما

يضادها من المدينة الجاهلية، والمدنية الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة

ثم ذكر في التفصيل أقسامًا أخرى منها مدينة الخسة والشقوة، قال: (وهي التي

قصد أهلها التمتع بالملذة من المأكول، والمشروب، والمنكوح وبالجملة اللذة من

المحسوس، والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه، ومن كل نحو) وهذه المدينة

قسم من أقسام المدينة الجاهلية. أما المدينة الفاسقة فهي أرقى من المدينة الجاهلية،

وقد عرفها بقوله: (وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة،

والله عز وجل والثواني، والعقل الفعال، وكل شيء سبيله أن يعرفه أهل

المدينة الفاضلة، ويعتقدونه، ولكن تكون أفعال أهل المدن الجاهلية، وجميع مباحث

الكتاب تجري على طريق الفلسفة اليونانية.

ولعل من اطلع أو يطلع على هذا الكتاب يتذكر أننا كنا عبرنا عن هذه

المدينة بالفاسقة، فقام بعض الذين لم يرتقوا عن أهل المدينة الجاهلية يسلقوننا بألسنة

حداد؛ زاعمين أن ذلك يتضمن الطعن بعِرض كل من يقيم في هذه المدينة (يقولون

بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) على أنهم هم الطاعنون ولكن لا يخجلون.

***

(مرور في أرض الهناء، ونبأ من عالم البقاء)

كتاب جديد الوضع والأسلوب والتخيل ألفه شكري أفندي الخوري اللبناني

المقيم في البرازيل. فأما أرض الهناء فهي المدينة الفاضلة أو الكاملة في رأي

فلاسفة هذا العصر وعلمائه، وهي سعادة الحياة التي يتمنون أن يصل إليها البشر

بالعلم والعمل والاتفاق والتواد بين جميع الناس، وبلوغهم العمر الطبيعي - مائة سنة

أو أكثر- مع التمتع بالصحة والعافية لما يتربون عليه من الرياضة البدنية والعقلية،

وتجنب الإفراط والتفريط في الأمور كلها، لا سيما السرف في الطعام والشراب.

مرَّ بهذه الأرض روح بشري فارق جسده، وذهب إلى الدار الآخرة؛ فكانت في

طريقه إليها وقد كتب إلى صديق له في الدنيا ينبئه بوصفها على ما خيله

مؤلف الكتاب.

وأما عالم البقاء فهو معروف، والمؤلف يصور فيه موقف الحساب والجزاء

يحضره ملك شرقي ظالم وأحد المتصرفين في جبل لبنان وراهب، وشيخ مسلم،

وبخيل، ولص، وكاهن (قسيس) ، وصحافي، وطبيب، وسكير، ومحام، يحاسب

كل منهم ويعاقب على ما أفسد في الأرض، تذكر ذنوبه وتشرح عيوبه، ويعتذر

ويتنصل، فلا يعذر ولا يقبل، وأما أسلوب الكتاب فهو فكه سلس يقرب من أسلوب

العوام ويتخلله كثير من عباراتهم وأمثالهم وتشبيهاتهم، ومن قرأ طائفة منه يندفع إلى

إتمامه بسائق الرغبة وحادي اللذة، وقلما ترى بين الكتب التي تؤلف وتنشر بيننا ما

جمع بين اللذة والفائدة لا سيما في شؤون المعيشة والاجتماع والسياسة. نعم، إن

الفكاهة لا تليق في مقام الرهبة والجبروت، وفي مواقف الحساب والجزاء، ولكن

غرض المؤلف من ذلك تمثيل سيئات هذه الأصناف من الناس التي تشتغل بالمصالح

العامة؛ فتفسدها وهم الملوك المستبدون وأعوانهم والأطباء، والصحافيون،

والمحامون، والقسوس، وغيرهم من رجال الدين وقرنهم باللصوص، والبخلاء.

وليس الغرض الأول تمثيل أهوال الحساب والجزاء، وإرهاب الناس منه بل هذا

وسيلة، وذاك هو المقصد.

ومما ينتقد عليه أن ما ذكره من حال الملائكة التي تذهب بالأرواح، والتي

تتولى الحساب والجزاء، لا يتفق مع عقائد الناس، أو تخيلاتهم فيهم ولا هو في

نفسه مؤثر يصادف من النفس موقعًا يليق به وأكثره لا فكاهة فيه إلا ما ذكره من

فتنة المحامي وتهييجه الشعب في ذلك العالم؛ لأجل أن ينجو من العقاب فلا يستطيع

أحد أن يملك ضحكه عند قراءة هذا.

وقد انتقد عليه زميلنا نعوم أفندي لبكي صاحب جريدة المناظر الحرة في مقدمة

وضعها له اكتفاءه بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدة إلى السماء، حيث

تلقى أحسن الجزاء، ففي الناس من يستحق ذلك غيرهن وأنتقد عليه أنا بقوة زعمه

أن النصارى تتقرب من المسلمين في جرائدهم ومدارسهم، والمسلمون لا يزدادون إلا

تباعدًا، والصواب أن في عقلاء الفريقين من يسعى للتساهل والتقرب سعيهما، وإن

جرائد المسلمين أبعد عن إثارة التعادي من جرائد النصارى؛ فإننا لا نرى فيها

جريدة منتشرة تتعرض للنصارى فيما يختص بدينهم ورؤسائه، كما نرى في جرائد

النصارى بمصر من ذلك حتى إن بعض الجرائد اليومية كانت من عهد قريب تطعن

وتحامي عن العقائد الإسلامية في الأزهر وتُعرض ببعض كبار العلماء والأئمة،

وتحاول إشراب الأفهام أنهم يبثون في الأزهر الإلحاد ويفسدون الدين، ومثل هذا

كثير، فما كل الجرائد كالمناظر، وأما المدارس النصرانية فأكثرها أو جميعها تلزم

التلاميذ المسلمين بالعبادات النصرانية، ولا نعرف مدرسة إسلامية في الدنيا تعامل

التلاميذ النصارى بمثل هذه المعاملة.

ثم إنه ليس لمشايخ المسلمين من العناية بعامتهم وتلقينهم التعاليم والتقاليد

الدينية مثل ما للقسوس، وأكثر حديث المشايخ مع غيرهم في الأمور العادية ويا

ليتهم كانوا يعنون بنشر مسائل الدين؛ إذًا لقلّ التنافر، فإن رأي الإسلام في

النصرانية ليس كرأي النصرانية في الإسلام؛ الإسلام يثبت أن كتاب

النصرانية حق ويوجب الإيمان بمن جاء به، وإنما يثبت أن أهلها حرفوا وانحرفوا

عن صراطها وأن إيذاءهم حرام والبر إليهم مشروع.

والنصرانية تعد الإسلام كفرًا في أصوله وفروعه، وقد ألف القسوس في ذمه

كتبًا حشوها بأكاذيب لم تخطر على قلب مسلم في الأرض، ثم إنه لم يعقد أحد من

المشايخ مجالس وسمَّارًا لأجل الطعن في النصرانية، ولم يعينوا أحدًا منهم لدعوة

النصارى إلى الإسلام كما يفعل القسوس بالمسلمين، (فأي الفريقين هو المفرق بين

العالمين) .

لهذا أرى أن أقرب طريق إلى التأليف بين الفريقين نشر تعاليم الإسلام

الصحيحة في المسلمين، وإقلاع قسوس النصارى الذين لهم السلطان الأعلى على

قلوب عامتهم عن تنفيرها من المسلمين، وكفهم عن الطعن في الإسلام، ولا أبرئ

بعض المشايخ من كلام ضار يقولونه في المجالس عندما يذكر تعصب النصارى،

ولكن مثل هذا الكلام لا يكاد يجيء في درس ديني، ولا كتاب تعليمي. وقد أقنعت

من لا أحصي من المسلمين بأن التساهل والاتفاق على المصالح الدنيوية خير يأمر

به الدين فلم أجد مقاومة تذكر، ولا ردًّا يُؤثَر، وقد كتبت من قبل بأن الصواب في

التأليف أن يحمل الأحرار من كل طائفة على المتحمسين المفرقين منها وأما حمل كل

طائفة على الأخرى فهو الداء الذي لا يرجى معه شفاء.

***

(تهذيب الأخلاق)

يولد في كل أمة ألوف من الأولاد على استعداد عظيم للعلوم والفضائل، فيضيع

استعدادهم بإغفال تربيتهم وتعليمهم وفيهم من لو علم وربي لنهض بالأمة أو لكان

ركنًا من أركان ارتقائها. على أن إغفال تربية الأولاد وتعليمهم لا يكون من والديهم

بالعمد والاختيار، وإنما هو الجهل والعجز. وقد تهمل التربية الصحيحة والتعليم

النافع في الأمة حتى لا يوجد أحد يقوم بهما ويقيمهما على قواعدهما، وأمة مثل هذه

يلوح للناظر أنها قد تودّع منها حتى لا رجاء فيها. ولكن هذا النظر غير صحيح فقد

يقيِّض الله لبلد عَمّ فيه الجهل والفساد من يربي فيه بعض الأفراد. فيكون منهم

النور المستطير، والخير الكثير كما علمت من سيرة الأستاذ الإمام رحمه الله

تعالى- وقد ينهض الاستعداد ببعض الناس إلى أن يربي واحدهم نفسه بعد

الرشد واستقلال الفكر ثم ينبري لتربية غيره ولا بد لمثل هذا من الاسترشاد بالكتب

النافعة. ومن هذا الصنف العالم الفيلسوف أحمد بن محمد بن مسكويه صاحب

كتاب (تهذيب الأخلاق) الذي هو أحسن المختصرات في هذا العالم

الجليل.

ولعت بهذا الكتاب منذ رأيته؛ فطالعته ثم قرأته درسًا. ثم علمت بعد الهجرة

إلى مصر أن الأستاذ الإمام قرأه درسًا كما ذكرت ذلك في ترجمته، وكان الكتاب

يومئذ مجهولاً عند المشتغلين بالعلم فعُرف، وميتًا فَاستَحيى، ويسرنا أن الناس أقبلوا

عليه في هذه السنين، فقد كان طبع طبعًا قبيحًا، ونفدت نسخه فأعاد طبعه عبد

العليم أفندي صالح منذ سنين بالحرف الإسلامبولي الجميل على ورق جيد، فأقبل

الناس بسعيه عليه حتى نفدت نسخه، ورأى من الإعانة على التربية أن يطبعه ثانية

ففعل، وله من الفضل في اتخاذ الوسائل لنشره ما يضاهي قيامه بإجادة طبعه،

فعسى أن يكون في هذه الكرة أسرع انتشارًا لنبشر بأن أمتنا تزداد حبًّا في العلم

النافع، وميلاً إلى التربية الصحيحة عامًا بعد عام. وثمن النسخة من الكتاب خمسة

عشر قرشًا، وأجرة البريد قرش صحيح ويطلب من طابعه ومن إدارة المنار بمصر.

_________

ص: 434

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شكر واعتذار

نشكر للذين عزَّوْنا ببرقياتهم وكتبهم على مصابنا بمولانا الأستاذ الإمام،

عالمين أن مكاننا منه مكان الولد البارّ من الوالد الرحيم، والمريد الصادق من

المرشد الحكيم، على أنه تغمده الله برحمته كان أبا الأمة ومربيها، ومرشدها وهاديها،

فما من معزٍّ لنا إلا وكان يعزي نفسه ثم يذكر الأمة والإسلام، ويعترف بأن المصاب

عامّ، وكذلك رأينا التعازي التي خوطب بها أخونا حمودة بك عبده والشيخ عبد الكريم

سلمان، بل رأينا مثل هذه التعازي في أيدي بعض المريدين وسننشر نموذجًا من ذلك

في كتاب التاريخ إن شاء الله تعالى.

وأما الاعتذار فهو عن عدم مجاوبة المعزين ويدخل فيه الاعتذار لمن كاتبونا

منذ أشهر في مسائل أخرى ونخص بالذكر البحرين وزنجبار والمغرب الأقصى،

ولعلنا نكتب إليهم عن قريب.

(تنبيه) لا نسمح للجرائد المصرية بنقل ترجمة الأستاذ الإمام عن المنار ولا

يضر اقتباس قليل من العبارة مع العزو وكثير من المعنى ولو بدونه، والعلم أمانة

بين أهله.

_________

ص: 440

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة سيرة الأستاذ الإمام

(3)

حياته في المنفى

لا تكمل تربية الرجال، إلا بمكافحة الأهوال، فمعادن النفوس لا تصفو من

شوائب الضعف في الحق، وتتمكن من مقعد الصدق إلا بعد أن تعرض على

نيران الفتن، وتذاب في بوادق المحن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ

النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) ولذلك يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده

المصلحين بفتن المفسدين، ليعلم الصابرين والصادقين {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ

آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: 141) فالفتن والكوارث تمحص نفوس

المؤمنين بالله السائرين على سننه فتزكيها وتعليها، وتمحق الكافرين بنعمه،

والمنحرفين عن سننه؛ فتدسيها وتفنيها، وقد اتهم فقيدنا في الثورة بما هو بريء

منه، وتفنن المنافقون يومئذ بأخبار السوء عنه، حتى أنذر بالإعدام، ثم استبدل

ذلك بالنفي ثلاثة أعوام، فما حقد على واش ولا محتال، بل كتب من السجن

إلى صاحب له يعجب من كيدهم ثم قال:

(ولئن عشت لأفعلن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في

حفرة الغدر، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزن عن السيئات،

ولأتناسين جميع المضرات، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون،

ولأظهرن الصديق في أجمل صوره، ولأجلونه للناس في أبهج حلله، ولأثبتن لهم

ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وجسمك الآخر في حياتك

المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا غسق دجى الهموم،

تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عسر، وتذهب به إلى

أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجبون.

إلى أن قال:

لكني أقول لكم: إن هذه الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن هذا الشرف

سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسَّتها أن يكون لها من عوده نصيب

فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون،

كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة

الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون) .

والكتاب طويل وسننشره برمته في تاريخ الفقيد.

وله قصيدة في الثورة نظمها في ظلمة السجن أيضا تزيد على مئة بيت، وقد

عرض في آخرها بما أبانه في آخر كتابه هذا من صدق العزيمة والثقة بنفسه

والاعتماد عليها في مغالبة الزمان بعد الاتكال على الله تعالى وكونه لا يخاف شيئًا

يقطع عليه طريقه في عمله لوطنه وأمته إلا الموت قال:

وأحفظ الدهر أني لا أشاكله

فيما تبطن من غش وتمويه

أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني

إلا الثبات وحسبي من أصافيه

تعلم الدهر مني كيف يطعنني

فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه

وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه

إلا المنايا تفاجيني فتحميه

إن المنايا سهام الله سددها

وليس يخطئ سهم الله مرميه

أريت من كانت له هذه النفس العالية، والعزيمة الماضية، أيحط من قدره أن

يتهم بالسياسة فيلقى في غيابة السجن، أم يطفئ نور استعداده الإخراج والنفي؟ كلا.

عمله في أوربا لمصر والإسلام

سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى أوربا

على اتفاق بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين لأجل الاشتغال بما كان يسمى

(المسألة المصرية) فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة

العروة الوثقى، وكانا أسسا لها جمعية من مسلمي الهند ومصر والغرب وسوريا؛

غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين، وإيقاظهم من رقادهم وإعلامهم بالأخطار

المحدقة بهم، وإرشادهم إلى طريق مقاومتها.

كان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول

لها؛ على أنه لم يكن لها محرر سواه إلا من كان يترجم بعض الأخبار من الجرائد

الأوربية، ويلقيها إلى الشيخ يصححها وينفخ فيها من روح العبرة ما ينفخ. كان

السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات

الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار،

وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء.

أما المقالات التي كان يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق السياسة

الإسلامية فقد كانت من الآيات البينات التي لا يكاد يوجد في كلام البشر ما

يساهمها في البلاغة والتأثير حتى كان علماء المسلمين وعقلاؤهم في كل قطر

يتوقعون أن تحدث تلك الجريدة انقلابًا عامًّا في المسلمين، حدثني الثقة عن السيد

سلمان أفندي الكيلاني نقيب بغداد أنه كان يقول كلما قرأ عددًا من جريدة (العروة

الوثقى) يوشك أن يحدث انقلاب في بعض بلاد الإسلام قبل أن يصدر العدد الذي

بعد هذا. والسيد (سلمان) هذا كان من بقايا زعماء المسلمين يخضع له مئات

الألوف من العرب والعجم. وسمعت شيخنا الشيخ حسين الجسر العالم الطرابلسي

الشهير يقول: لو طال الزمان على جريدة العروة الوثقى لأحدثت نهضة جديدة

للمسلمين، وانقلابًا عظيمًا.

أقول: وهي هي التي نقلتني من طور إلى طور، وحَبَّبت إليّ صاحبيها حتى

جذبني الحب إلى مصر، ووصل حبل ودي بالأستاذ الإمام، وحملني على نشر

حكمته، وإعلان دعوته، فقد كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة وأتصفح ما

فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى، فطفقت أقرأها

المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسي فعلها، تهدم وتبني، وتعد وتمني، وما كان

وعدها إلا حقًّا، ولا تمنيها إلا رجاء وأملاً، أحدث إصلاحًا وعملاً، فكانت هي

أستاذي الثاني الذي أثر في نفسي، وأقيم عليه بناء عملي وأملي، وأما الأستاذ الأول

فهو كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي الذي كان أول كتاب ملك عقلي وقلبي. أنشأت

بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس، فكنت أجد عند الرجل

العدد، وعند الآخر العددين فأنسخ ما أجد، ثم علمت أن الشيخ (حسينًا الجسر)

احتواها كلها ومن عنده أتممت استنساخها، وأكبر أثرها عندي أنها هي التي وجهت

نفسي للسعي في الإصلاح الإسلامي العامّ بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي،

وأرى كل الواجب عليَّ أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة

وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر عن المعاصي، وأنا لا أعلم سبب الفساد

الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل، حتى

هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل.

لم تكن خدمة الشيخين للإسلام في أوربا قاصرة على الوعظ والإرشاد، بل

كان لهما سعي لدى فرنسا وإنكلترا نفسها في المسألة المصرية ومسألة السودان،

وكان سعيًا - لو ظهر - غريبًا، وكان منه إقناع ناظر خارجية إنكلترا بعد فصل

السودان عن مصر وحضر الأستاذ الإمام إلى بلاد كثيرة لتوثيق العروة والتهميد

للعمل أن يترك السودان لأهله ويعدلوا عن محاولة فتحه، وكان لهما في ذلك آمال

ومقاصد ذات بال، وقد كان تقرر هذا، وما حال دون إمضائه رسميًا إلا موت محمد

أحمد مَهْدِيِّ السودان، ولو شرحنا الوسائل التي اتخذها الشيخان لذلك لحار في

براعتهما الثقلان، لا أنكر أن هذا الأعمال السياسية كان السيد جمال الدين هو

المفترع لها، ولكن كان فقيدنا عضده، وساعده، ولسانه، وقلمه ولولاه لما استطاع

المضي فيها؛ على أن فقيدنا كان بما جرى له ولشيخه مع توفيق باشا في مصر قد

ضعف أمله في الإصلاح السياسي، ووجه همه إلى الإصلاح القومي في التربية

والتعليم.

حدثني أنه قال للسيد في أوربا: إن هذه السياسة لا يأتي منها خير؛ لأن

تأسيس حكومة إسلامية عادلة مُصْلِحة لا يتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط

فخير لنا أن نذهب معًا إلى مجهل من مجاهيل الأرض لا سلطان للسياسة فيه

ونحاول تربية أفراد على ما نحب؛ فإذا تيسر لنا تربية عَشْرة رجال يبذلون أنفسهم

لخدمة الأمة لا يصدهم عن ذلك الجثوم في وطن، ولا الإخلاد إلى الأهل والسكن،

بل يكون همهم الأكبر الضرب في الأرض لتربية مثلهم على ما ربوا عليه، فلا يبعد

أن يربي الواحد منهم عشرة فيكون لنا في زمن قريب مائة رجل يعملون للإسلام

والرجال هم الذين يعملون كل شيء، فقال له السيد: إنما أنت مثبط قد شرعنا في

عمل فلا بد من المضي فيه حتى يتم أو نعجز.

كان لذلك السعي في إنقاذ مصر والسودان، أو السودان فقط طريق في ذلك

الوقت لأن الاحتلال الإنكليزي كان في نظر أوربا كلها مؤقتًا، ولم تكن قدم إنكلترا

راسخة في مصر. وبعد أن رسخت القدم وتمكنت السلطة من البلاد قام بعض

الأحداث يكتبون، ويخطبون، ويقولون ما يعد أمام ما قاله وكتبه الشيخ في وقته

لغوًا، وكانوا يعدون أنفسهم بذلك خدمة مصر ومنقذيها، ويرمون مثل الفقيد

بالتقصير في خدمة الأمة والوطن على أنه هو المصري الوحيد الذي قدر على

استخدام السلطة الإنكليزية في مصر لخدمة مصر والإسلام، بعد أن صارت الخدمة

بمقاومتها من المحال، ولو كانت الخدمة النافعة هي مقاومة القوة بالكلام والكتابة

لكانت العروة الوثقى أخرجت الإنكليز من مصر قبل أن يتمكنوا منها.

مناظرة الفقيد لوزراء الإنكليز في المسألة المصرية

ذهب الفقيد إلى لندن في تلك الأثناء وتكلم مع وزراء الإنكليز في المسألة

المصرية ومسألة السودان وفي المالية المصرية وغير ذلك ونشرت الجرائد الأوربية

بعض محادثاته معهم. نذكر هنا محادثة نشرت في العدد الرابع من العروة الوثقى

الذي صدر في 22 شوال سنة 1301-14 أغسطس سنة 1884 تحت عنوان

(هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم) . والكلام بلسان السيد قال:

(تأخر صدور الجريدة أيامًا لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع

مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنساوية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع،

إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن

حقوق المسلمين، فقد خلقنا والشكر لله لهذا العمل، وطبعنا عليه ونرجو ديان

السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها.

رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لوندرا

إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية

مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنكليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ

السياسية التي ما مرت عليها قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه،

وليسبر أغوار المطامع الإنكليزية التي لا يدرك منتهاها، تلك المطامع التي بعدما

التهمت ثلث المسكونة، وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا

جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في قرم شديد لابتلاع ممالك العالم،

وكلما أساغوا قطرًا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار،

وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين

ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل

ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسعد الناظرين حتى يمكن بعد ذلك

وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل

العالم) .

لاقى (محرر الجريدة) كثيرًا من رجال السياسة الإنكليزية وأنفذ الناس

رأيًا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن

محادثاته الابتدائية ما نشر في بعض الجرائد الإنكليزية كجريدة (البال مال كازيت)

وجريدة (التروت) التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير وجريدة (التيمس)

وسيذكر شيئًا مما جرى بينه وبين بعض الأكابر من رجال الحكومة الإنكليزية مما

يستفيد منه الشرقيون عمومًا والمصريون خصوصًا، وستأتي جريدتنا على بعض ما

استنبطه من فحوى أقوالهم، وأدركه من مرامي أفكارهم، أما الآن فنأتي على جملة

واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد (هرتنكتون) وزير الحربية

الإنكليزية ليأخذ كل مصري منها حظه ويصيب كل شرقي سهمه ويقف جميعهم

على مواقع الشرقيين من أنظار رجال الحكومة الإنكليزية.

سأل اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية ألا يرضى المصريون أن

يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنكليزية؟ أَوَلا يرون حكومتنا خيرًا

لهم من حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟ فأجاب الشيخ (محرر جريدتنا)

كلا، إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا قليلاً، وفيهم من محبي أوطانهم

مثل ما في الشعب الإنكليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم الميل إلى الخضوع لسلطة

من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد، وهو على علم بطبائع الأمم

أن يتصور هذا الميل في المصريين. فقال الوزير هل تنكر أن الجهالة عامة في

أقطار مصر، وأن الكافة لا تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما

ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب إنما يكون في الأمم المهذبة؟ فأخذت الشيخ حدة

- تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرض الدين، وأوجبته حقوق الملة - وقال:

أولاً - إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع في فطرة

البشر وليس يحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد

الأمم توحشًا كالزولوس؛ الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.

وثانيًا - إن المسلمين مهما كانوا وعلى أي درجة وجدوا لا يصلون من الجهل

إلى الدرجة التي يتصورها الوزير؛ فإن الأميين منهم ومن لا يقرءون ولا يكتبون لا

يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها وأظهرها عندهم أن لا يدينوا لمخالفيهم

فيه، وأن لهم في الخطب الجمعية، ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما

يقوم مقام العلوم الابتدائية، وأن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من

الخضوع لمن لا يوافقهم، ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا

ينحطون معه عن سائر الأمم خصوصًا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي،

ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك اللسان وهو لسان دينهم.

وثالثًا - إن أرض مصر من زمن محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب

الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد أوربا وأخذ كل مصري نصيبًا منها على قدره

ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن يكون فيها قارءون كاتبون والأخبار

العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية ومن لم يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين؛

فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي، والتقليد الديني محبة وطنية منشأها التهذيب

العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم يخالفون في ذلك سائر الأمم. اهـ

أين العلماء الأذكياء؟ أين الجهلة الأغبياء؟ أين الأباة الأعلياء؟ أين السفلة

الأدنياء ليرى كل واحد منهم منزلة الشرقيين عند رجال الحكومة الإنكليزية، كل ذي

شكل إنساني وصورة بشرية يدرك ما وراء هذه الأسئلة وما تشف عنه هذه الظنون

العجيبة.

هذا اللورد هرتنكتون وزير الحربية الإنكليزية يظن أن الجهل يبلغ من

المسلمين عمومًا، والمصريين خصوصًا إلى حد سلب عنهم كل إحساس إنساني

وأنهم في حضيض من الجهل لا يميزون فيه بين الغريب والقريب، ولا بين العدو

والحبيب.

هذا دليل على أن الإنكليز- إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب -

يعتقدون أن الأمم الشرقية والأمة المصرية في درجة الحيوانات السائمة والدواب

الراعية لا تتألم إلا من الجوع، وفواعل الطبيعة المادية، وليس لها من الإحساس

إلا نوع من الانفعالات البدنية، ولا تعرف من شؤونها إلا ما به تقوم حياتها

الحيوانية؛ فتألف راكبها، والعامل عليها، ومستخدمها في أي عمل من الأعمال

الشاقة ما دام يقدم لها طعامًا وشرابًا، وإنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غداءها

وعشاءها، وإن كان من أشد البلاء عليها بما يسومها من مشاق الأعمال؛ فإذا

عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها

إلخ إلخ.

ضاقت الحرية الإنكليزية الواسعة أن تسع جريدة العروة الوثقى، فمنعتها من

الهند ومصر، واشتدت الحكومة الإنكليزية في إعنات من تصل إليهم، وفرضت

الحكومة المصرية غرامة وعقوبة على من تُرى عنده؛ فكان ذلك مانعًا من

الاستمرار في إصدارها، وقد كان صدور آخر عدد منها وهو الثامن عشر في 26

ذي الحجة سنة 1301 - 16 أكتوبر سنة 1884 ثم سافر الفقيد إلى تونس فأقام

فيها أيامًا، ثم سافر إلى بلاد أخرى متنكرًا، فوثق عقود العروة السرية التي كان من

أغراضها ما أشرنا إليه، ولو ذكرناه مرتبًا مفصلاً لكان مثارًا للعجب من ركوب هذا

الرجل مع أستاذه الصعاب، واقتحامهما الأخطار في خدمة هذه الأمة التي كانت ولا

تزال كالمريض الأحمق يأبى العلاج؛ لأنه علاج وإن كان سهلاً سائغًا، ويمقت

حكيمه وطبيبه، وإن كان برًّا رحيمًا، فليحفظ القارئون هذا الإيجاز ليذكروه عندما

يصلون في تاريخه إلى سلوكه الأخير في مصر إعلان رأيه بتحتيم مسالمة المحتلين،

والاستفادة من حريتهم وحبهم للعمران ليعلموا أنه هو عين الحكمة التي اختيرت

بعد مساع جليلة، وتجارب طويلة.

عمله في البلاد السورية

وبعد الإخفاق في ذلك العمل السري، دون ذلك الهدي النبوي، ألقى عصا

السير في بيروت أعظم ثغور سوريا، وأقربها من العمران، فأقبل عليه أهل العقل

والفضل، وأرباب الذكاء والنبل، ويستفيضون منه سماء الحكمة، ويتلقون هدي

الحكماء والأئمة، فكانت داره مدرسة عامة يؤمها الأذكياء وعشاق المعارف من

جميع الملل والطوائف، ومما كان يقرأ عليه فيها السيرة النبوية، على صاحبها

أفضل الصلاة والتحية، وكان يقرأ التفسير في (الجامع الكبير) وفي جامع الباشورة

لا يلتزم فيه كتابًا، وإنما يقرأ في المصحف ويلقي ما يفيض الله على قلبه، وكان

الناس يقبلون على درسه إقبالاً لم يعرف في تلك البلاد لأحد من قبله حتى حسد

النصارى عليه المسلمين؛ فكانوا ينسلون إليه زرافات ووحداناً، ويقفون بباب

المسجد يمدون أعناقهم، ويشخصون بأبصارهم، ويصيخون بآذانهم لعلهم يلتقطون

شيئًا من تلك الدرر. ثم إنهم استأذنوه في دخول المسجد والجلوس في ناحية من

حلقة الدرس فأذن لهم {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} (التوبة: 6) .

وفي أول سنة 1303هـ دُعِي إلى التدريس في المدرسة السلطانية لإحياء

اللغة والدين فيها؛ فلبى ولم يكن في المدرسة من العلوم العربية إلا مبادئ النحو

والصرف، وما تسميه الترك (علم حال) ، وهو ما يلقن للولدان من أحكام العبادات.

فلما دخل المدرسة أدخلها في طور جديد، كما كان شأنه في عامة أعماله يدخل في

العمل مرءوسًا؛ فيكون في الواقع رئيسًا، ذلك أنه أصلح إدارتها بالاتفاق مع مديرها،

ووضع قانونًا جديدًا (بروجرام) للدروس، وزاد في العلوم التوحيد،

ومعاملات الفقه، والتاريخ الإسلامي، والمنطق، والمعاني، والإنشاء زادها

لنفسه، فكان هو الذي يدرسها حتى كانت دروسه تستغرق عامة النهار.

وكانت دروسه كلها للتلاميذ على نحو ما ذكر في رسالة التوحيد (آمالي مختلفة

تتغابر طبقاتهم

في أسلوب لا يصعب تناوله، وإن لم يعهد تداوله) إلا معاملات

الفقه فكان يقرأ فيه مجلة الأحكام العدلية التي يحكم بها في المحاكم العثمانية. وكان

يكلف تلاميذ الإنشاء حفظ شيء من نهج البلاغة، وديوان الحماسة والألفاظ الكتابية

ويشرحه لهم. وكان له هم عظيم، وعناية تامة بملاحظة آداب التلاميذ في المدرسة،

حتى إنه كان يزورها ليلاً لأجل ذلك. وقد تخرج على يديه نابتة هي الآن تخدم

البلاد بغيرتها واستقامتها وعرفانها ونباهتها.

ثم إنه في سيرته كان مربِّيًا للجماهير الذين يترددون عليه؛ فقد كان يجلس

إليه السني والشيعي والدرزي، والنصراني، واليهودي؛ فيوسع صدره للجميع

ويعامل كل واحد بالأدب الذي يليق به لا يؤذي جليسًا، ولا يغمط فضل مذاكر، ولا

مناظر على أنه لم يكن يقول غير ما يعتقد سواء كان القول في الدين أو في العلم

أو في العادات والأمور الاجتماعية، فكان رضي الله عنه نسخة كاملة من

رجال سلفنا، في التسامح، والتساهل، وجمع الكلمة واحترام العلم، وأهله كما

وصف في كتاب - الإسلام والنصرانية - وقد أدهش أهل الفضل بعلمه وأدبه،

وبلاغته لاسيما في الخطابة الارتجالية التي لم يكونوا يعهدونها.

وكان هنالك يشتغل بالتأليف؛ فقد نقل إلى العربية رسالة الرد على الدهريين

أو المقابلة بين الإيمان والكفر في العمران التي كتبها السيد جمال الدين باللغة الفارسة.

وشرح كتاب نهج البلاغة، ومقامات بديع الزمان الهمذاني. وقد أقبل الناس على

هذا الكتب، وانتفعوا بها حتى أنها طبعت مرارًا. وكان يكتب المقالات النافعة في

الجرائد، وسننشر ما عثرنا عليه منها في تاريخه. ولم يكتف بهذا الإصلاح

المعنوي، بل كان يسعى لدى الحكومة في إصلاح البلاد الإداري فوضع في ذلك

لائحة قدمها للوالي، وسننشرها في تاريخه أيضًا، وكتب لائحة أخرى في الإصلاح

الديني وقع عليها بعض الوجهاء وقدمت بواسطة الوالي إلى السلطان. وكان قد جال

في أرجاء الولاية واختبرها أتم الاختبار.

عودته إلى هذه الديار وما استفاده من الأسفار

وفي سنة 1306 عاد إلى القطر المصري وقد كمل تهذيبه بالأسفار، وركوب

الأخطار؛ ولذلك كان يسافر بعد ذلك في أكثر السنين مختارًا، كما كان يكرر

المطالعة والمدارسة عن رغبة، بعد أن ألزم بالدرس أولاً بالقوة، وقد كتب عن

تأثير الأسفار في نفسه ما نصه:

(أما الأسفار إلى البلاد العثمانية ومعاشرة كثير من المسلمين غير مسلمي

مصر، فقد كان من نتائجها عندي أني عرفت حق المعرفة أن مرض المسلمين نشأ

من أمرين: الأول - الجهل بدينهم، إبداع ما لم يكن منه وإلصاقه به واختلاط ما

هو من الدين بما ليس منه حتى صار عليه دينًا أجنبيًّا عن أصل الدين الإسلامي

الطاهر الرفيع. والأمر الثاني - استبداد الحكام الظالمين من المسلمين في

جميع أقطار الأرض.

وقد سافرت بعد ذلك مرات إلى أوربا وأفريقيا فكان أثر الأسفار في بلاد

المسلمين زيادة البصيرة في ذلك الذي عرفته لأول الأمر، وأثر الأسفار في أوربا

قوة الأمل في إصلاح أحوال المسلمين، فما من مرة أذهب إلى أوربا إلا ويتجدد

عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا من

دينهم، وتشحيذ عزائمهم إلى معرفة شؤونهم، وامتلاك ناصيتها بأيديهم دون أفراد

ظلمتهم. وهذه الآمال وإن كانت تضعف في نفسي عندما أعود إلى دياري لكثرة ما

ألاقي من العنت وشدة ما أصادف من المصاعب وسوء ما أرى من انصراف

المسلمين عن النظر في منافعهم، وشدة عداوتهم لأنفسهم وقوة رغبتم في تمكين

ظالميهم من رقابهم، وحبهم في الاستعباد لهم لغير سبب معقول، لكني متى عدت

إلى أوربا ومكثت فيها شهرًا أو شهرين تعود إليّ تلك الآمال، ويسهل عليّ تناول ما

كنت أعده من المحال، ولا تسألني عن السبب في ذلك فإني لا أستطيع تفصيله

ولكن هذا ما تحدثه الأسفار في نفسي) اهـ.

أقول: والمتبادر إلى الذهن أن السبب في ذلك هو ما يسمى في العرف الآن

بتأثير الوسط أي البيئة من المكان والمكين؛ لأن كل إنسان يحل في مكان ويشاهد

حال قوم لا بد أن يتأثر بشيء مما هم عليه بحسب استعداده، وما وجهت إليه نفسه.

وبلاد أوربا قد ارتقت ارتقاء عظميًا في العلوم، والصناعات، والكسب، والسياسة

وغير ذلك؛ فمن سافر إليها وكان من همه التجارة يزداد معرفة بطرقها، ونشاطًا في

عملها، ومن كان همه غير ذلك يتأثر بارتقاء القوم فيه، فتنهض همته إليه وناهيتك

بعلو كعب القوم في خدمة أمتهم، وإعلاء شأن ملتهم، وما يبذلون في هذه السبيل

من الأموال، وما يركبون لها من الأهوال، فمن ير ما هم عليه من العزة والسيادة،

وهو يعلم ما كانوا فيه من الضعة والمهانة، فهو جدير بأن يكبر أمله في قومه، ولا

ييأس من غدة في يومه، وكان - تغمده الله برحمته - يقول لي عندما يريد السفر

إلى أوربا: إنني أذهب لأجدد نفسي، أي فقد أخلقتها معاشرة الكسالى واليائسين.

وقد توجهت همته في هذه السنين الأخيرة لزيارة الشعوب المسلمة فبدأ بزيارة تونس

والجزائر وكان عازمًا على زيارة الهند وإيران وقزان والقوقاس في هذه السنة

وما بعدها فصرفه المرض عن عزمه في هذا العام، ثم قطع آماله كلها الحِمام.

***

سيرته في القضاء الأهلي

لما عاد من سوريا إلى مصر تسابق العظماء إلى توفيق باشا في طلب العفو

عنه فكان من الشافعين بعض الأسرة الخديوية ومختار باشا الغازي واللورد كرومر

ولم يكن أحد منهم يعرفه من قبل معرفة شخصية، ولكنهم سمعوا بفضلِه فحفظ لكل

منهم جميله وعفا عنه الأمير وهو يعلم أنه كان خصمًا للثورة العسكرية، وإن كان

روحًا مدبرة لتلك الحركة الفكرية، وأن الحكم عليه لم يكن عادلاً؛ ولذلك قال كما

روى الثقة للفقيد: ما عفوت عن أحد عفوًا كان أشبه بالاعتذار من هذا العفو. ولكنه

كان يخاف أفكاره السياسية وميله إلى تربية مَلَكَة الاستقلال في الأمة، ولذلك أمر

بأن يعين قاضيًا في المحاكم الأهلية فلما نمي الخير إلى الفقيد امتعض، وقال: إنني لم

أخلق لأكون قاضيًا أقول: حكمت على فلان بكذا، وعلى فلان بكذا، وإنما خلقت

لأكون معلمًا، وقد جربت نفسي في التعليم فنجحت، ثم طلب من ناظر الداخلية

أن يشفع له عند الأمير باستبدال التدريس في مدرسة دار العلوم بالقضاء، وقال: إنني

أعلم أنه لا ارتقاء في التدريس وإنني أرتقي في القضاء، ولكنني لا أحبه فلم يرض

توفيق باشا، وقال: إنني لا أحب أن يربي لي التلاميذ على أفكاره السياسية فرضي

الفقيد بالقضاء، وما زال يرقى فيه إلى أن بلغ أعلى درجة منه.

وقد كان قاضي العدل والإنصاف لا قاضي القانون والرسوم، وإن شئت قلت

القاضي المجتهد لا المقلد؛ ذلك أنه لم يكن يحكم بظاهر عبارة القانون وتطبيق

الوقائع عليها بادي الرأي، بل كان يتحرى إظهار الحق وإصابة العدل في القضايا

فإن انطبقت على القانون وإلا عمد إلى الصلح، وكأين من قضية خالف فيها القانون

عمدًا، حتى وشيء به بعض حساده الواقفين على ذلك، وذكر شيئًا من مخالفاته هذه

فسأله المستشار القضائي السباق مستر سكوت عن حقيقة ذلك، فقال: هل العدل

وضع لأجل القانون أم القانون وضع لأجل العدل؟ قال المستشار: بل القانون

وضع لأجل العدل، والعدل هو المقصود بالذات؛ فأنشأ حينئذ يشرح له القضايا،

ويبَيّن أنه لم يحكم فيها إلا بالعدل فقنع المسترسكوت وسُرَّ منه سرورًا عظيمًا؛ لأنه

كان منصفًا عارفًا بقيمة الرجال على أن هؤلاء الإنكليز أبعد الشعوب الأوربية عن

الرسوم في القضاء، وأقربهم إلى اعتبار الإنصاف ووجدان القاضي، ولو كانت هذه

البلاد محتلة من دولة أوربية أخرى لتعذر ارتقاء الفقيد فيها.

ومما كان يحكم فيه باجتهاده واعتقاده مسائل الربا، فإنه كان إذا تعذر عليه

الصلح يحكم برأس المال دون الربا؛ فيلجأ رب المال إلى الاستئناف؛ ليحكم له

بالربا. ومما كان يخالف القانون فيه حبس الشهود الذين يظهر له تزويرهم؛ فإنه

كان يخرجهم من الجلسة إلى الحبس، ثم إن الحكومة أقرت عمله هذا وأدخلته في

القانون بالتعديل الأخير. وقد أساء الأدب بعض الأجانب مرة في الجلسة فأمر

بحبسه فحبس، ثم جاء قنصله الجنرال إلى نظارة الحقانية شاكيًا من ذلك. وكلم

المستشار القضائي الفقيد في ذلك، قائلاً: إن هؤلاء القناصل ليس لهم عمل يشغلهم في مصر فهم يفترصون شيئًا يماحكون به الحكومة، ونحن نحب أن لا نجعل لهم سبيلاً إلى القيل والقال. فذكر له الفقيد ما كان من ذلك الأجنبي في الجلسة مع رفع

الصوت وعدم التزام الأدب المعروف، وقال: إنني ما دمت جالسًا على هذا الكرسي

لتقرير العدل، فأنا لا أقصر في احترامه؛ إذ لا يمكن احترام القضاء إلا بذلك..

إلخ ما قال، وكان مستحسنًا عند المستشار.

وقد كان يحكم على الأجانب وينفذ أحكامه، من ذلك أن كثيرًا من الفلاحين

كانوا إذا حكم على أحدهم بنزع أرض من يده يلجأ إلى رجل أجنبي، أو رجل داخل

في حمايتهم فيعطيه الأرض بعقد كاذب نكاية في خصمه، فيمنع الأجنبي الحكومة

من تنفيذ الحكم، أو ترفع الدعوى إلى المحكمة المختلطة، فتحكم فيها وكان من

المحكوم لهم من يترك الأرض للأجنبي لاعتقاده بعجزه عن انتزاعها منه في المحاكم

المختلطة، ومنهم من كان يلقي بنفسه في مهاوي الدعاوى ويخسر فيها ما شاء الجهل

أن يخسر. فعلى أمثال هؤلاء الأجانب كان ينفذ أحكامه بالقوة متحملاً تبعة التنفيذ

لعلمه بأن ذلك الأجنبي المحتال لا يتجرأ على مقاضاة الحكومة في دعوى هو فيها

مبطل يعجز عن إثبات دعواه.

ذلك شأنه في القضاء، وقد كان فيه نسيجًا وحده، ولم يكن مشغولاً فيه عما

خلق لأجله من تربية الأمة، فقد كان يعاقب المزورين، وشهداء الزور حتى طهَّر

كثيرًا من البلاد من شرهم بعد أن استفحل وطغى سيله، وكان يجتهد في الإصلاح

بين أهل البيوت وذوي القربي، ويبالغ فيحفظ حقوق اليتامى. وكان يطارد الفحش

والفجور حتى كادت الزقازيق تطهر من رجس البغايا أيام كان قاضيًا فيها كما

طهرت من التزوير. ذلك أنه كان يحكم بأشد العقوبة التي يسمح له القانون بها على

كل بغي تبرجت في الشوارع وعلى أعين الناس، حتى كاد يجعلهن من ذوات

الحجاب، وقد نقل إلينا من بعض الفساق هناك أنه قال مرة لبغي يعرفها: كيف

الحال؟ قالت: (زي الزفت، وإذا بقي القاضي أبو عمة (ذو العمامة) هنا فإنه

يقطع رزقنا من هذه البلد، عايز يرجَّع الدنيا لزمان سيدنا النبي) أو قالت ما معناه:

إن النبي ظهر ثانية. وأما براعته في تحقيق القضايا، وفراسته في تمييز البريء

من ذي الريبة فحدث عنهما ولا حرج، وقد كان مؤيدًا بالوجدان الصحيح والإلهام

الصادق؛ فإن كان كغيره من البشر عرضة للخطأ في رأية فقد كاد لا يخطئ في

وجدانه أو إلهامه. وسمعته يقول في بحث الكسب والاختيار: إنني كثيرًا ما أنظر في

قضية فأستخرج من التحقيق الطويل وجوهًا كثيرة للحكم بالإدانة مثلاً، حتى إذا ما

تمت المحاكمة وأردت النطق بالحكم تقوض كل ذلك البناء الذي كنت بنيته من وجوه

الإدانة وظهر لي بغتة أن المتهم بريء حتمًا؛ فأحكم بالبراءة فسبحان مقلب القلوب.

***

عمله في الأزهر

كان أول حديث دار بيني وبين الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - في مصر

الحديث في إصلاح الأزهر. زرته في اليوم الثاني من وصولي إلى القاهرة بداره

(في أواخر رجب سنة 1315) وبعد التحية والسلام، وما يتصل بذلك من كلام

كاشفته باعتقادي واعتقاد من أعرف من العقلاء فيه، وأنه بقية رجاء المسلمين في

السعي للإصلاح، وأنه بلغني إنه يعمل لذلك في الأزهر، فأفاض في كلام لخصته

بعد مغادرة المجلس في عشر مسائل، قال:

(1)

إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن إصلاحه إصلاح لجميع

المسلمين، وفساده فساد لهم.

(2)

وإن أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ، ورسوخ العادات القديمة

عندهم.

(3)

وإن هذا الإصلاح لا يتم إلا في زمن طويل، وإنه إذا رأى حال الأزهر قد

صلحت قبل موته؛ فإنه يموت قرير العين ويرى نفسه سعيدًا بل يرى نفسه ملكًا.

(4)

وإنه لا يرى لدخوله في الحكومة فائدة إلا الاستعانة على إصلاح الأزهر؛

فإنه لولا مكانته عند الخديوي والحكومة لما كان يسمع له في الأزهر كلام، ولا يقبل

له رأي.

(5)

وإنه لم يحصل شيء من الإصلاح يذكر حتى الآن.

(6)

إنه أراد أن يبدأ بأعمال عظيمة في الإصلاح اغتنامًا للفرصة، فأشيرعليه

بوجوب التدريج، ولكن لا بد له من المسايرة، وإن كان يخشى أن تضيع الفرصة

بما يسمونه التدريج.

هذه ست مسائل في موضوع الأزهر أطال القول فيها، وانتقل منها إلى

المسائل الأخرى، وأهمها تخطئة أذكياء المسلمين الذين يريدون خدمة الإسلام من

طريق السياسة، وإلى يأس من يعرفه من كبراء المسلمين من نهضهم وتخطئتهم في

ذلك. وقال لي في حديث آخر: إن نفسي توجهت لإصلاح الأزهر منذ كنت

مجاورًا فيه بعد التلقي عن السيد جمال الدين، وقد شرعت في ذلك؛ فحيل بيني

وبينه، ثم كنت أترقب الفرص فما سنحت إلا واستشرفت إليها، وأقبلت عليها،

حتى إذا ما صدفت الموانع لويت وصبرت مترقبًا فرصة أخرى. وبعد أن عدت من

النفي حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابي بشيء، فلم يصادف قبولاً. قلت له مرة:

هل لك أيها الأستاذ أن تأمر بتدريس مقدمة ابن خلدون في الأزهر؟ ووصفت له من

فوائدها ما شاء الله أن أصف، فقال: إن العادة لم تجرِ بذلك، فانتقلت به في شجون

الحديث إلى ذكر الشيوخ، وسألته: منذ كم مات الأشموني والصبان؟ قال: منذ كذا،

قلت: إنهما حديثا عهدٍ بوفاة، وهذه كتبهما تقرأ بعد أن لم تجر العادة بذلك. فسكت،

ولم يدخل في الحديث.

وقال لي مرة أخرى: إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله في هذا العصر محال

فهو إما أن يعمر، وإما أن يتم خرابه، وإنني أبذل جهد المستطيع في عمرانه؛ فإن

دفعتني الصوادف إلى اليأس من إصلاحه، فإنني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي،

بل أترك الحكومة وأختار أفرادًا من المستعدين فأربيهم على طريقة التصوف التي

ربيت عليها؛ ليكونوا خلفًا لي في خدمة الإسلام، ثم أؤلف كتابًا في بيان حقيقة

الأزهر أمثل فيه أخلاق أهله، وعقولهم، ومبلغ علومهم، وتأثيرهم في الوجود

وأنشره باللغة العربية، ولغة إفرنجية حتى يعرف المسلمون وغيرهم حقيقة هذا

المكان التي يجهلها الناس حتى من أهله.

لما جلس عباس باشا حلمي على كرسي الخديوية تجددت للبلاد المصرية آمال،

وتوجهت إلى أعمال كان الغرض منها إزالة الاحتلال، ولو كان هذا الغرض

مما ترجى إصابته بسهام المصريين لكان الفقيد يكون في طليعة العاملين؛ لأنه كما

نعلم أنفذهم رأيًا، وأقواهم عزمًا، وأخلصهم قلبًا، ولكنه كان يعتقد بعد ذلك السعي

الذي أشرنا إليه أن المسألة لا يمكن أن تحل إلا بإتفاق الدول العظام، وأن الرجال

في اتفاقهم بعيد كما تبين، فأراد أن يكون حظه من حب الأمير الجديد للعمل السعي

في إصلاح الأزهر بنفسه، وإقناع الأمير بالسعي في إصلاح المحاكم الشرعية

والأوقاف؛ لأن هذه المصالح الثلاث إسلامية محضة لا مقاومة في إصلاحها للقوة

المحتلة، ولا منها، فاتصل بالأمير وحظي عنده وكاشفه برأيه كما كاشف الحكومة

بأمله في الأزهر، وجاء بما جاء من آيات الإقناع به حتى توصل إلى إنشاء قانون

تمهيدي للإصلاح يديره مجلس مؤلف من أكابر علماء المذاهب في الأزهر ينتخبون

انتخابًا، وقد جعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان من أعضائه على أنهما من

قبل الحكومة لا رأي لشيخ الأزهر، ولا للمجلس في انتخابهما، ولا في استبدالهما،

وكان الشيخ محمد الأنبابي الذي هو شيخ الأزهر لذلك العهد مريضًا، وقد كثرت

شكوى الشيخ من إدارته فعين الشيخ حسونة وكيلاً له بعد أن أخذ عليه العهد بإقامة

النظام، والاتفاق مع الفقيد على الإصلاح.

عين الشيخ حسونة وكيلاً لمشيخة لأزهر مأذونًا بإدارة شؤونه لسبع خلون من

جمادى الثانية سنة 1312 وصدر الأمر العالي بتشكيل مجلس إدارة الأزهر لست

خلون من رجب من تلك السنة -أي في الشهر الثاني -، ثم كان سعى في إقناع

الشيخ الأنبابي بالاستقالة يكاد يكون أمرًا حتمًا فاستقال، وصدر الأمر العالي بتولية

الشيخ حسونة شيخًا للأزهر في 2 المحرم سنة 1313هـ.

كان الأستاذ الإمام - رَوَّحَ الله رُوحه في دار السلام - يحب أن يجري الإصلاح

في الأزهر بإقناع كبار مشايخه ورضا أهله؛ فبدأ باستمالتهم بتكثير رواتبهم

فسعى لدى المستشار المالي الأسبق، وطلب تعيين مبلغ من خزينته المالية لمساعدة

الأزهر الذي يخرج للحكومة كذا رجالاً من القضاة الشرعيين، والمفتين والمأذونين؛

فأجيب الطلب، وعين في ميزانية سنة 1895 م مبلغ ألفا جنيه للأزهر على أن

تصرف بنظام معلوم لا برأي شيخ الأزهر وميله على ما كان يعهد في الأزهر مع

الوعد بالزيادة على هذا المبلغ في فرصة أخرى؛ إذا جاء بفائدة فكان هذا حجة للفقيد

على وجوب صنع قانون للمرتبات في الأزهر؛ ليكون لكل عالم حق معلوم يتناوله

في وقته من غير تزلف إلى شيخ الجامع أو غيره. وتلا هذا القانون قانون كساوي

التشريف، ومرتباتها، وكان الرأي فيها من قبل الشيخ الجامع يعطي من يشاء

ويمنع من يشاء، فصارت تعطى لمستحقها من غير سعي ولا تزلُّف فسر الشيوخ

بذلك سرورًا عظيمًا.

بعد هذا وجه الفقيد عنايته في المجلس إلى نظام التدريس والامتحان، وبيان

وسائل العلوم ومقاصدها، وجعل التدريس فيها على طريق توصل إلى الغاية منها

وبعد اجتماع ومذكرات طويلة وضع القانون لذلك، واحتيج في تنفيذه إلى المال فلجأ

الفقيد إلى أريحية الأمير؛ فصدر الأمر لديوان الأوقاف بصرف 3374 جنيهًا

للأزهر بينت مصارفها ومنها 464 جنيهًا لإنشاء دار الكتب الأزهرية، ثم وضع

نظام آخر لتوزيع الجرايات بالعدل.

أما نظام التدريس واختيار كتب العلوم فهو الذي أحب الأستاذ الإمام - رحمه

الله تعالى - أن يجعله برأي كبار الشيوخ؛ ليسهل تنفيذه بالرغبة، ولا يثقل عليهم

إلزامهم به من جانب القوة، وليتعود أهل هذا المكان على البحث في الأمور المهمة

والتعاون على ما ينفع الأمة، فوضع مشروع نظام التدريس، واختيار الكتب

واقترح أن تؤلف لجنة من كبار الشيوخ للبحث فيها، وإقرار ما يرونه نافعًا فألفت

اللجنة من أكثر من ثلاثين عالمًا، وجعل الشيخ سليم البشري أحد أعضاء مجلس

الإدارة رئيسًا لها. ثم انتخب منها لجنة للبحث في كل فرع من المشرع وإبداء رأيها

فيه للجنة الكبرى، وكانت هذه اللجنة مؤلفة من بضعة نفرٍ هم أكابر شيوخ الأزهر،

وضم إليهم الأستاذ الإمام من قبل مجلس الإدارة، وبعد أن أتمت هذه اللجنة عملها

قدمته إلى اللجنة الكبرى فأفرته هذه بعد تحوير قليل لا يذكر. وكانت مشيخة الأزهر

قد أسندت يومئذ إلى الشيخ سليم البشري الذي أوقف كل ما كان المجلس شرع فيه

فأوقف أيضًا مشروع إصلاح التدريس، بل كان المجلس يقرر الشيء

بالاتفاق مع رئيسه الشيخ سليم، ثم إنه لا ينفذه، ولم يكن القصد من ذلك إلا إحباط

سعي الأستاذ الإمام وإبقاء القديم على حاله، ولقد كان قادرًا على الإلزام بالتنفيذ بطلبه

رسميًّا من الحكومة ولكنه لم يكن يجب أن يكون للحكومة تصرف في الأزهر، بل أن

يبقى مستقلاًّ يصلح أهله برضا واقتناع، وهل يبقى كذلك بعده؟ الله أعلم والأيام

تظهر ما يعمل، وكان من الإصلاح الذي تم في الأزهر بسعيه رحمه الله

تعيين طبيب للأزهر وصيدلية (أجزاخانة) خاصة به في نفس الجامع، وإنارة

المسجد بالغاز البخاري، وإنشاء الميضأة على الأصول الصحية، وتجديد مبانٍ صحية في الأروقة وغير ذلك مما نفصله في التاريخ. ومن شاء أن يطلع على ذلك بالتفصيل التام، فليرجع إلى كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) الذي طبع في

في هذا العام [1] .

وقد انتقل الأزهر بهذا الإصلاح من خلل عام إلى شيء من النظام، ومن حالك

الدَّيْجُور، إلى بصيص من النور، ولم يتم عمل من الأعمال على ما كان يحب

رحمه الله تعالى. ولكن الإصلاح الحقيقي الذي كان روحًا محييًا ونورًا مبصرًا؛

فهو ما كان يلقيه من دروس التوحيد والتفسير والبلاغة والمنطق، فهذه الدروس

هي التي حولت نفوسًا كثيرة عن السبل المتفرقة إلى سبيل الله وصراطه وهي محل

الرجاء في هذا المكان.

(للسيرة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو تاريخ يبين ما كان عليه الأزهر قبل الإصلاح وما صار إليه بعده، صورة ومعنى وصفحاته 124، وثمن النسخة منه 4 قروش، وأجرة البريد قرش واحد، ويطلب من إدارة المنار ومن بعض المكاتب بمصر.

ص: 453

الكاتب: حافظ إبراهيم

‌مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيم

في الأستاذ الإمام رضي الله عنه

سلام على الإسلام بعد محمد

سلام على أيامه النضرات

على الدين والدنيا على العلم والحجى

على البر والتقوى على الحسنات

لقد كنت أخشى عادي الموت قبله

فأصبحت أخشى أن تطول حياتي

فوا لهفي والقبر بيني وبينه

على نظرة من تلكم النظرات

وقفت عليه حاسر الرأس خاشعًا

كأني حيال القبر في عرفات

لقد جهلوا قدر الإمام فأنزلوا

تجاليده في موحش بفلاة [1]

ولو أضرحوا بالمسجدين لأنزلوا

بخير بقاع الأرض خير رفات

تباركت هذا الدين دين محمد

أيترك في الدنيا بغير حماة

تباركت هذا عالم الشرق قد قضى

ولانت قناة الدين للغمزات

***

زرعت لنا زرعًا فأخرج شطأه

وبنت ولما نجتن الثمرات

فواهًا له ألا يصيب موفقًا

يشارفه والأرض غير موات

مددنا إلى (الأعلام) بعدك راحنا

فردّت إلى أعطافنا صفرات

وجالت بنا تبغي سواك عيوننا

فعدن وآثرن العمى شرقات

وآذوك في ذات الإله وأنكروا

مكانك حتى سودوا الصفحات

رأيت الأذى في جانب الله لذة

ورحت ولم تهمهم له بشكاة

لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب

ومعرفة في أنفس نكرات

أبنت لنا التنزيل حكمًا وحكمة

وفرقت بين النور والظلمات

ووفقت بين الدين والعلم والحجى

فاطلعت نورًا من ثلاث جهات

وقفت لها (نوتو ورينان) وقفة

أمدك فيها الروح بالنفحات

وخفت مقام الله في كل موقف

فخافك أهل الشك والنزغات

وكم لك في إغفاءة الفجر يقظة

نفضت عليها لذة الهجعات

ووليت شطر البيت وجهك خاليًا

تناجي إله البيت في الخلوات

وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى

ونبهت فيها صادق العزمات

وأرصدت للباغي على دين أحمد

شباة يراع ساحر النفثات

إذا مس حد الطرس فاض جبينه

بأسطار نور باهر اللمعات

كأن قرار الكهرباء بشقه

يريك سناه أيسرُ اللمسات

***

فيا سنة مرت بأعواد نعشه

لأنت علينا أشأم السنوات

حطمت لنا سيفًا وعطلت منبرًا

وأذويت روضًا ناضر الزهرات

أطفأت نبراسًا وأشعلت أنفسًا

على جمرات الحزن منطويات

رأى في لياليك المنجم ما رأى

فأنذر بالويل والعثرات

ونبأه علم النجوم بحادث

تبيت له الأبراج مضطربات

رمى السرطان الليث والليث خادر

وربَّ ضعيف نافذ الرميات

فأودى به ختلاً فمال إلى الثرى

ومالت له الأجرام منحرفات

وشاعت تعازى الشهب باللمح بينها

ويخطر بين اللمس والقبلات

تكاد الدموع الجاريات تقله

وتدفعه الأنفاس مستعرات

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة

وضاقت عيون الكون بالعبرات

ففي الهند محزون وفي الصين جازع

وفي مصر باك دائم الحسرات

وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب

وفي تونس ما شئت من زفرات

بكى عالم الإسلام عالم عصره

سراج الدياجي هادم الشبهات

ملاذ عياييل ثمال أرامل

غياث ذوي عدم إمام هداة

فلا تنصبوا للناس تمثال عبده

وإن كان ذكرى حكمة وثبات

فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا

إلى نور هذا الوجه بالسجدات

فيا ويح للشورى إذا جد جدها

وطاشت بها الأراء مشتجرات

ويا ويح للفتيا إذا قيل من لها

ويا ويح للخيرات والصدقات

بكينا على فرد وإن بكاءنا

على أنفس لله منقطعات

تعهدها فضل الإمام وحاطها

إحسانه والدهر غير موات

فيا منزلاً في (عين شمس) أظلني

وأرغم حسادي وغم عداتي

دعائمه التقوى وأساسه الهدى

فيه الأيادي موضع اللبنات

عليك سلام الله ما لك موحشاً

عبوس المغاني مقفر العرصات

لقد كنت مقصود الجوانب آهلاً

تطوف بك الآمال مبتهلات

مثابة أرزاق ومهبط حكمة

ومطلع أنوار وكنز عظات

_________

(1)

تجاليد الإنسان: جسمه.

ص: 475

الكاتب: شيخ بن أحمد الهادي

‌المنار الإسلامي واللواء الوطني

بين المنار الإسلامي، وجريدة اللواء الوطنية تضاد فيما يسمونه (المبدأ)

فالمنار يدعو إلى الإصلاح الإسلامي، وثبت أن المسلمين لا يرتقون إلا بترك البدع

ورجوعهم في الدين إلى ما كان عليه السلف، وبأخذهم بوسائل القوة والمدنية

العصرية في أمر الدنيا.

ويدخل في الأول أن كل مسلم أخ لكل مسلم، وفي الثاني أن أهل كل قطر من

الأقطار ينبغي لهم التعاون على عمرانه لا يفرق بينهم في ذلك دين ولا مذهب.

وجريدة اللواء لا رأي لها في الدين والإصلاح يسقطها، ولكن لها وطنية عمياء من

معناها أنه يجب على كل مصري مسلم أن لا يتعصب على كل من يقيم في مصر من

غير أهلها الأقدمين وإن كان مسلمًا، وعلى كل مصري مسلم أن يتعصب على كل

مصري ليس بمسلم، وهذا مما ينقضه المنار، ولذلك ترى جريدة اللواء تقدح في

المنار، وقلما نطلع على شيء من طعنها، وقد صارت في هذه السنة تسند الطعن

إلى بعض الأقطار إما اختلاقًا، وإما لأن مثل أحمد المنوفي كتب إليها بذلك - هذا

الرجل من باعة الكتب كالذين يطوفون بالأزبكية، وسافر إلى كلكته فصار إمام

مسجد بها - فتسمي ذلك صوت اللواء في الهند! ! وقد يجيئها ما يفند مطاعنها فلا

تنشره، كما ترى في الرسالة الآتية التي كتب إلينا مرسلها من سنغافورة صورتها،

وكلفنا نشرها إن لم تنشر في اللواء، وهي:

عن سنغافورة في 27 جماد أول سنة 1323 إلى مصر القاهرة.

حضرة الفاضل سعادتلو أفندم صاحب اللواء دام علاه

بعد السلام قد اطلعت على ما كتبه في جريدتكم الغراء في العدد 175 حضرة

الفاضل الهندي المولوي عبد المجيد المراد آبادي أحد مدرسي العلم الشريف بكلكتا

فتأسفت كثيرًا؛ لأني لم أكن طالعت شيئًا من أفكار علماء الهند قبل في هذا

الموضوع، وظننت حينئذ أنهم في جمود وخمود لا كما كنت أظن وأسمع؛ حتى

رأيت ما كتبتموه من كلام حضرة المِفضال النواب محسن الملك كثر الله أمثاله

وحفظه، فسرى عني ذلك الأسف وحل محله الرجاء، وقد أعجبني كثيرًا مما كتبتم

على كتابه الأخير. فجزى الله أحسن الجزاء كل داع إلى الهدى نابذ للتعصب

الأعمى.

اللهم إلا أنه وقع عندى موقع الاستغراب جهل المولوى انتشار المنار بالهند

وخصوصًا في كلكته؛ إذ حضر لدي وقت قراءتي تلك الرسالة أحد أهل كلكته ممن

يقرأ المنار منذ سنين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويعرفون الرجال

بالحق لا بالعكس، وقد أفادني أن للمنار هناك سمعة حسنة ولكثير من الجرائد

والمجلات العربية والمصرية.

أما حصر المولوي ما وجد في المنار في نبذ المذاهب الأربعة فشيء اختص هو

به، فليعد النظر إن لم يعمه تعصبه؛ ليعلم أن المنار يدعو إلى نبذ نحو قولهم:

(إذا زنى الرجل بأمه أو بنته بعد أن يعقد عليها صارت له فراشاً ولا حد عليهما)

وأمثال ذلك، وصاحب المنار ومن على شاكلته هم المتبعون للأئمة عليهم الرضوان؛

لأن الأئمة لم يكونوا مقلدين جامدين، بل أفنوا أعمارهم في اقتباس العلم من الكتاب

والسنة.

وتنظيره بالخوارج مما دلنا على كمال عقله وعلمه بالدين والتاريخ؛ فلا نطيل

الكلام مع من كان أعمى أو يتعامى، لكننا ننصح لذوي الشأن في المدارس بأن لا

يثقوا بمن هذا علمه وعقله، وغالب الظن أن ذلك الكاتب لا عالم ولا متعلم بل

متعصب متخبط أراد التضليل فنسب نفسه إلى العلم والتدريس وإلا فليكتب لنا

العبارة المنتقدة بنصها ثم ليرد عليها بالدليل لا بقال وقيل. وأنى له ولأمثاله ذلك

فيقال له: (ليس بعشك فادرجي) ولسنا ممن يعتقد العصمة للمنار، ولكنا نعلم أن

المتعصبين لا ينكرون الأمر الحق. وأما تربصه الدوائر لمن ينفي تحريف المبطلين

وانتحال الغالين عن هذا الدين؛ فنقول له ولشيعته: تربصوا فإنا معكم متربصون،

والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله

رب العالمين، أفندم.

...

...

...

... شيخ بن أحمد الهادي

_________

ص: 478

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مشروع بناء مسجد في باريس

خطر هذا المشروع للخواجه (ليون لامبير) المقاول في مصر من عدة شهور

وكاشف به بعض وجهاء مصر، فعلم منهم أنه لا يرجى نجاحه، إلا إذا كان تحت

رئاسة فقيد الإسلام والشرق الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فأرسل أحد أولاده

(فنيكسي لامبير) بكتاب منه إلى الإمام عندما ذهب إلى رمل الإسكندرية مريضًا،

فمنعناه من مقابلته؛ لأن صحته لا تسمح له بالكلام ولا الفكر في الأعمال، فعاد إلى

مصر وأرسل إليّ بعد ذلك كتابًا في 21 يوليو يرجوني فيه رجاء مؤكدًا أن أعرض

المشروع على الإمام في الوقت المناسب، وأرسل معه قائمة كتب في أعلاها

(أسماء المتحدين على مشروع بناء جامع في مدينة باريس تحت رياسة فلان)

إلخ

ورغب إليَّ أن أكلف الإمام بإمضاء القائمة، ثم أعرضها على بعض وجهاء

الإسكندرية، ثم أرسلها إليه لكي يتيسر له إمضاؤها من وجهاء مصر، وإنني لم أرَ

فرصة مناسبة لمذاكرة فقيدنا في هذا المشروع لأعرف رأيه فيه، وبعد أن توفاه الله

تعالى بلغني أن الرجل رغب إلى شيخ الأزهر أن يجعل المشروع تحت رياسته؛

فقبل فعسى أن ينجح المشروع ويبنى المسجد في مكان يسهل على المسلمين في

باريس القصد إليه والصلاة فيه ولا يكون كجامع لوندن (لوندره) الذي حدثنا عنه

الأستاذ الإمام رضي الله عنه بما يأتي، قال:

خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند ان يجمع من المسلمين مالاً يبني به

مسجدًا في لوندرة فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندرة فبنى مسجدًا في خارجها

على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من المسلمين

في لوندره؛ فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد. وقد اشترى الرجل أرضًا لنفسه

عند الجامع، وبني فيها بيتًا لنزهته؛ إذا علم بأن بعض أمراء المسلمين أو أغنيائهم

زار لوندرة يبحث عنه ويدعوه إلي داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار أمير الأفغان

لهذا العهد لوندره - وكان يومئذ ولي العهد للإمارة -أجاب دعوة هذا اليهودي، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه. ولا يخالن أحد أن الأمير كان مبسوط الكف لكل

أحد يتصل به، أو يخدمه فقد كان خالد أفندي أستاذًا للغة التركية في مدرسة كمبردج

(مهمندارا) للأمير في لندن لزم خدمته وأعد له كل وسائل الراحة وهو لم ينعم عليه

إلا بجنيه واحد لم يقبله.

العبرة في هذا المقام أن المسلمين قد فتنوا بهؤلاء الأجانب فتونًا، فالخواجه

المجهول منهم يحظى عند كبيرهم وصغيرهم ويسهل عليه أن يبلغ منهم ما لا يبلغه

أوسعهم علمًا، وأبعدهم فهمًا، وأشدهم غَيْرَة، وأطهرهم سريرة؛ فلو أن مسلمًا

حاول جمع المال من الهند أو مصر لبناء مسجد في لندن أو باريس- لعجز، ولكن

الأجنبي لا يعجز عن استخدام نفوذ كل كبير فيهم حتى رجال الدين، وما أحوجنا

إلى رجال يسبرون غور الأجانب يستفيدون من خيارهم ما ينفع الأمة، ويتوقون شر

شرارهم، ويدفعونه عنها كما كان يفعل الأستاذ الإمام، رحمه الله تعالى، وجزاه

عن هذه الأمة أفضل الجزاء.

_________

ص: 479

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة سيرة الأستاذ الإمام

إفتاء الديار المصرية

وخدمة الأوقاف والمحاكم الشريعة

في ست بقين من المحرم سنة1317هـ 3 يونيو سنة 1899م صدر الأمر

العالي بناء على قرار مجلس النظار بتعيين الفقيد مفتيًا للديار المصرية وكان الأمير

أيده الله بتوفيقه، هو الذي اختاره لذلك أولاً، وقد رأيته في أول الأمر غير مرتاح

إلى هذا المنصب وإن كان شريفًا؛ لأنه ليس فيه أعمال عمومية، ولكن الرجل

الذي قدر على أن يجعل التحرير في الجريدة الرسمية وسيلة للإصلاح في الحكومة

والإرشاد للأمة لا يعجز عن التوسل بأكبر منصب شرعي إلى الخدمة الملية العامة

وكذلك كان، فإنه به خدم القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية أَجَلّ خدمة، وزادت في

أيام هذا المنصب شهرته وكثر عدد العارفين بفضله حتى كاد يكون المرجع في الفتوى

لجميع مسلمي الأرض وناهيك باستفتاء مثل مفتي بنجاب إياه.

كان أول عمل جليل له بعد أن صار مفتيًا تفتيش المحاكم الشرعية في القطر

كله وإظهار جميع ما فيها من الخلل وبيان مناشئه، فمنها ما كان من تقصير الحكومة

ومنها ما هو من تقصير القضاة والكُتاب، وقد كتب في ذلك تقريره المشهور فكان

مدهشًا للأفكار في دقة بحثه وتشخيصه داء هذه المحاكم، ووصفه للعلاج الذي لا

شفاء بدونه، وقد عجب الجبناء من شجاعته إذ خاطب الحكومة رسميًّا ببيان

تقصيرها وطالبها بإزالته، وقد أحلت الحكومة هذا التقرير محل الاعتبار وألفت لجنة

في نظارة الحقانية للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج.

وكان رحمه الله صاحب الرأي في مجلس الأوقاف الأعلى بما كان يطبق

الأعمال على الشرع والمصلحة، وأهم خدمة له فيه مشروع المساجد الذي وضعه

لعمارة بيوت الله تعالى وإحياء الدين وعلومه، وترقية الخطابة، وبث الإرشاد في

الأمة، وقد نوهنا به في المنار من قبل ونشرنا في الجزء الثامن من هذا المجلد ما

أقره المجلس من ذلك المشروع ثم صدر الأمر العالي بتوقيف تنفيذه ثم صدر أمر آخر

بتنفيذ شيء منه، ومن هذا المشروع تعلم أنه رحمه الله تعالى كان يتوسل بكل

عمل يدخل فيه إلى إحياء العلم وهداية الدين وتربية المسلمين.

***

عمله في مجلس الشورى

في سنة 1317 - 1899 عين عضوًا دائمًا في مجلس الشورى فانتقل

المجلس به من حال إلى حال. كانت الحكومة قلما تحفل برأي المجلس وكان

المجلس في نظر الأمة وفي نظر أعضائه الوكلاء عنها غير مضطلع بما أُوجِد لأجله،

حتى إن جلساته كانت قلما تلتئم على أصول نظامه بحضور جميع أعضائه أو

معظمهم، فلما دخله نفخت فيه روح جديدة زال بها سوء التفاهم بينه وبين الحكومة

فصارت تحفل برأيه وتحله من الاعتبار ما لم تكن تحله فتأخذ برأيه فيما يمكن الأخذ

به وتبين له سبب ما لم تأخذ به وقوي رجاء أعضائه في خدمتهم وانتظم عقد

اجتماعهم وعظمت ثقة الأمة بهم، وكان أكثر ما ترسله الحكومة إلى المجلس لينظر

فيه يؤلف له لجنة تحت رياسة الفقيد لتدقق النظر فيه وتعرض رأيها على المجلس،

وكان له رحمه الله الرأي العالي والصوت المسموع في كل مسألة وكل مشروع فكنت

تراه في المسائل المالية حاسبًا اقتصاديًّا، وفي المسائل الإدراية إداريًّا ماهرًا وفي

اللوائح والقوانين قانونيًّا خبيرًا، وفي الأمور الشرعية إمامًا فقيهًا، وكان المجلس

يعهد إليه مذاكرة الحكومة في الشؤون العظيمة ليكون الحد الأوسط في شكل القياس

لتخرج النتيجة في خدمة البلاد صحيحة.

وقد كادت أعمال المجلس تغتال معظم وقته فكنت أتألم من ذلك لاعتقادي أن

وقته أثمن من أن يُنْفَق في خدمة المجلس فلا أكاد أجد فرصة إلا وأرغب إليه فيها

بالتخفيف والإقلال من الاشتغال بعمل المجلس حتى قلت له مرة: إن الحكومة

المصرية يشبه أن تكون أعمالها وقوانينها مؤقتة، ترى أنه أنفع للبلاد ولا تلبث هي

بعد أن تقره أن ترجع عنه بعد زمن قصير أو طويل ويوشك أن تنفق في تحقيق

بعض الأمور أيامًا كثيرة، ثم لا يتيسر إقناع هذه الأوقات في الكتابة والتأليف لكان ما

تكتب هداية لهذه الأمة باقية ما بقيت الأمة، فقال: إن الغرض الأول من العمل في

المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة

ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا

لفصل الأحكام بالشورى، فإذا ارتقت هذه الملكة في الهيأة الحاضرة للمجلس فإنها تنتقل منها إلى الهيئة التي تخلفها ويكون ذلك جرثومة من جراثيم الإصلاح

في البلاد فعلمت من هذا الجواب أنه لا يترك مذهبه في الإصلاح من طريقة

التربية العملية في عمل من أعماله وسيأتي ذكر مذهبه هذا في محله.

عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية

يوجد في كل قطر من بلاد المسلمين أفراد تفرقت فيهم الفضائل الكثيرة التي

هي مناط حياة الأمم، ولكن يعوزهم شيء للحياة الاجتماعية في هذا العصر هو أهم

شيء وعليه يتوقف كل شيء، وهو التعاون على الخدمة العامة والأعمال المشتركة،

وإنك لا تكاد ترى في قطر إسلامي جمعيات ولا شركات ناجحة يرجى خيرها للأمة

إلا ما بدأ به مسلمو الهند ومصر في ظل الحرية الإنكليزية، ولا يزال كثيره في مهد

الطفولية، ولم تنجح في مصر جمعية من الجمعيات الكثيرة التي ألفت فيها بأسماء

مختلفة لمقاصد مختلفة مثل نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية ولم تصادف جميعة منها

ما صادفته هذه الجمعية من الصدمات، التي يعز فيها الصبر والثبات، وكان الفضل

الأول في ثباتها ونجاحها للأستاذ الإمام أحسن الله جزاءه.

أنشئت الجمعية للتعاون على تربية أولاد الفقراء والمساكين من المسلمين

وإعانة العاجزين منهم عن الكسب على شقاء الحياة فاتهمها أعداء البشر بالسياسة

وسعوا بها إلى ذوي النفوذ والسلطة ولولا سعيه في الدفاع عنها وإقناع أهل الحل

والعقد بأنها خيرية محضة ليس من موضوعها ولا مما تقصد إليه شىء سياسي أو

سري لعفت رسومها، ثم إنه خدمها بنفسه وبالتعاون مع أصفيائه المؤسسين لها معه

كوكيلها وأعضاء إدارتها لهذا العهد خدمة جليلة حتى ارتقت عن طور الطفولة وصار

ثباتها مضمونًا بحول الله وقوته، ومما انفرد به في خدمتها دعوة الأمراء والوجهاء

والأغنياء إلى الاشتراك فيها ومساعدتها وتحصيله منهم قيم الاشتراك إذا قضت

الحال بذلك.

أسست الجمعية سنة 1310هـ، وفي سنة 1318هـ انتخب رئيسًا لها فزاد

اجتهاده في خدمتها وكان من ارتقائها في زمن رياسته أن صار إيرادها في السنة

الماضية 10395 جنيهًا، وكان في سنة 1317هـ 4430جنيهًا، وصارت أطيانها

533 فدانًا، وكان قبيل ذلك 280فدانًا، وصارت مدارسها سبعًا وكانت أربعًا، على

أنه كان يرى أن الفائدة الأولى المقصودة بالذات من الجمعية هي تعويد المسلمين

الاجتماع للخير والتعاون على البر والخدمة العامة وإشعار قلوب الأغنياء عاطفة

الرحمة والإحسان بالفقراء، كما كان يصرح بذلك في الاجتماع العام السنوي كل عام

فهو فيها عامل بمذهبه في تربية الأمة كما كان شأنه في غيرها جزاه الله عن هذه

الأمة أفضل الجزاء.

***

طبع الكتب النافعة وجمعية إحياء العلوم العربية

كان رضي الله عنه يرى أن حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة

العلوم العربية بمثل هذه الكتب الأزهرية محال وأن لا بد للإصلاح من إحياء كتب

أئمتها وكبار علمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيًّا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه

وبهديه وإسعاده طبعنا ذينك الكتابين الجليلين اللذين هما روح علم البلاغة (أسرار

البلاغة، ودلائل الإعجاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني مؤسس علوم البلاغة،

ولولا تصحيح الفقيد لهما واستحضاره لنسخهما من الأقطار النائية لما تيسر طبعهما،

وفي سنة 1318هـ أسست في مصر جميعة خاصة لهذه الخدمة تحت رئاسته سُميت

(جميعة إحياء العلوم العربية) كانت فاتحة أعمالها طبع كتاب (المخصص) لابن

سيده في اللغة وهو كتاب لا نظير له في بابه، ولا غناء عنه في إحياء اللغة في هذا

العصر، وقد شرعت بعده في إحياء مدونة الإمام مالك وعني الفقيد رحمه الله تعالى

باستحضار نسخها من تونس وفاس وغيرهما من البلاد لولاه لما تيسر جمعها كلها

ولنا رجاء عظيم في بقائها وحسن خدمتها بهمة من كان وكيلها وليس لرئاستها بعد

الفقيد سواه ألا وهو حسن باشا عاصم.

***

مؤلفاته بحسب تاريخ تأليفها بالتقريب

1-

الواردات: رسالة في الكلام أو التوحيد على طريقة الصوفية وأسلوبهم

وهي أول تآليفه، ولعلنا ننشرها برمتها في سيرته المطولة فقد كان أعطانا نسخة

منها.

2-

رسالة في وحدة الوجود: وهي رسالة نفيسة لم أطلع عليها ولكنه هو الذي

أخبرني بها وقال: إنها ليست بمعنى ما كتب عبد الكريم الجيلي وأمثاله، مما هو

أقرب إلى مذاهب الحلول كالنصرانية منه إلى توحيد الإسلام ولكنها بأسلوب آخر

وأراه يبين فيها مراتب الوجود وتعددها من وجه، ونظامها العام ووحدتها من وجه

آخر ولعلنا نظفر بها ونطبعها.

3-

تاريخ إسماعيل باشا: أخبرني بهذا الكتاب أحد تلامذته الأولين، وقال: إن

عبد الله النديم كان أخذ من الفقيد نسخته في أثناء الثورة العُرابية ونشر منه فصولاً في

جريدة الطائف بتصرف أو بغير تصرف ولم أسمع منه رحمه الله تعالى ذكرًا لهذا

الكتاب، وكنت أظن أنه لم يصنف شيئًا إلا وقد أخبرني به لأنه قص عليّ تاريخه

بالتفصيل وكتب إليّ شيئا مجملاً منه كما علم القراء.

4-

فلسفة الاجتماع والتاريخ: هو الكتاب الذي ألفه أيام كان يُدَّرِس مقدمة ابن

خلدون في مدرسة دار العلوم كما ذكرنا في هذه السيرة وقد نقد هذا الكتاب عندما

عزله توفيق باشا من المدرسة ونفى السيد جمال وأخذت أوراقه، وكان -طيب الله

ثراه- يقول: أتمنى لو يحفظ هذا الكتاب من وقع في يده ويدعيه لنفسه ولو بعد موتي

لينتفع به الناس.

5-

حاشية عقائد الجلال الدواني: وهي غاية الغايات في علم الكلام، وتحقيق

مسائله وتحرير الخلاف بين المتكلمين وبيان ما هو لفظي منه، وما هو حقيقي وقد

كان السيد عمر الخشاب شرع في طبعها ولعلها تتم عن قريب.

6-

شرح نهج البلاغة: وهو شهير جدًّا وقد طبع في بيروت مرتين وفي

طرابلس مرة وفي مصر مرة.

7-

شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني: وهو مطبوع في بيروت ولم يعرف

لغيره شرح لهذه المقامات وقد فرغ منه في 16رمضان سنة 1306.

8-

شرح البصائر النصيرية: في المنطق وهو شرح وجيز أطلق عليه لفظ

التعليقات، والكتاب عالي الأسلوب وهو من أحسن ما كتب المسلمون في المنطق،

ولم يسبق لأحد قبله كتابة عليه فيما نعلم وقد قرأه درسًا في الجامع الأزهر وحضرناه

عليه ولعله لا يتسامى أحد إلى تدريسه بعده، وإن كان من الكتب التي قرر مجلس

إدارة الأزهر تدريسها فيه رسميًّا إلا أن يكون بعض من تلقاه عنه.

9-

نظام التربية بمصر: رسالة في الطريقة المُثلى لتربية المصريين

وتعليمهم وهي على إيجازها من أحسن ما كتب وأنفعه وستنشر في تاريخه.

10-

رسالة التوحيد: وما أدراك ما رسالة التوحيد هي التي يصدق عليها القول

المشهور (لم ينسج ناسج على منوالها ولم تسمح قريحة بمثالها) هي التي يصح أن

تُعدّ معجزة من معجزات النبي عليه السلام وآية من آيات الإسلام، هي التي

ينبغي أن تجعل أصل الدعوة إلى هذا الدين، ويعم تلقينها جميع المسلمين، وقد قلت

للأستاذ الإمام رضي الله عنه إنه لولا اسم هذه الرسالة وما في أولها من

الاصطلاحات الكلامية الوجيزة لكان انتشارها أضعاف ما هو الآن، ولعم الانتفاع

بها كل مكان، ولكن البعيد إذا سمع باسم رسالة التوحيد يتوهم أنها عقيدة

كالسنوسية، أو كالعقائد النسفية، والقريب قد يأخذ نسخة منها، فيصرفه ذكر

الواجب والممكن والمستحيل عنها، توهمًا أنها في علم الكلام، الذي لا يتناوله إلا

العلماء الأعلام، وقد كان رحمه الله تعالى عازمًا على بسط الكلام في هذه المقدمات،

وسائر مسائل الإلهيات، وجعل الكلام فيها كالكلام في النبوة ومزايا الإسلام،

موجهًا إلى العقل وإلى الوجدان، لا مجرد تقرير وجيز للبرهان، وقد قرأها درسًا

في الأزهر وتلقيناها عنه.

11-

تقرير المحاكم الشرعية: هو على خصوصية موضوعه مفيد حتى لِغَيْر

القضاة ومستخدمي هذه المحاكم من جميع أهل العلم والأدب لا سيما طلاب علم الفقه

فإنه يعطيهم من البصيرة في طريقة التحصيل على الوجه الذي ينتفعون به وينفعون

ما لا يجدونه في سواه، وفيه كثير من الفوائد الإدارية والاجتماعية والأدبية، وأحوج

الناس إليه بعد القضاة وكتاب المحاكم المرشحون للقضاء وللكتابة في هذه

المحاكم.

12-

الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية: وهو مقالات كتبها لمجلة المنار

ثم جردناها منه وطبعناها على حدتها وسميناها بهذا الاسم بإذنه، فجاءت كتابًا

مستقلاًّ يناهز مئتي صفحة وقد نفدت نسخ الطبعة الأولى فأعدنا طبعه.

13-

تفسير سورة العصر: كتبه لينشر في المنار إجابة لرغبتنا ورغبة بعض

أهل العلم في مدينة الجزائر الذين حضروا هناك درسه في تفسير السورة، وقد كتب

في هامش تفسير جزء عمَّ عند تفسير هذه السورة ما نصه: (وقد كتبنا تفسيرًا لهذه

السورة الشريفة نشر وحده بعد أن طبع في مطبعة جريدة المنار، وهو ما كنا ألقيناه

درسًا في مدينة الجزائر في شهر جمادى الأولى سنة 1321هـ وفيه تفصيل طويل

لما أجملناه في هذا التفسير المختصر فمن أراد بيانًا أوسع، وتفصيلاً أبدع، فليطلب

ذلك التفسير فهو فيما أعلم غير مسبوق بنظير) اهـ.

أقول: إننا طبعناه بالقطع الصغير ليوضع في الجيب وطبعنا معه ملخص

درس الأستاذ الإمام في تونس وموضوعه العلوم الإسلامية وأقرب الطرق لعلمها.

14-

تفسير جزء عم: وهو على قرب العهد بطبعه (أشهر من نار على علم)

وقد كان رواجه أكثر من رواج سائر كتبه على شدة الرغبة فيها كلها حتى إنه قد

وزع منه عدة ألوف في عدة شهور وهذا شيء لم يعهد له نظير في المطبوعات

العربية.

هذه هي مؤلفاته التامة ولا حاجة هنا لذكر ما بدأ به ولم يتمه، وأما مقالاته التي

نشرت قديمًا وحديثًا في الجرائد المصرية وغيرها فهي كثيرة جدًّا وكلها آيات بينات

في العلم والدين والأدب نفع الله بها، وأعاننا على إحيائها.

(للسيرة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 487

الكاتب: محمد توفيق صدقي

الدين في نظر العقل الصحيح

لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي

(3)

المقالة الثانية

بقية الكلام في النبوة

أليست العقائد الإسلامية أنزه العقائد وأبعدها عن مخالفة المعقول والوحيدة في

قوة الحجة ومتانة البرهان (انظر ما تقدم في المقالة الأولى) أليس في القرآن

أصول الدلائل العقلية على صحة هذه العقائد مع الرد على من خالفها بأجلى بيان؟

أليس في العبادات والأوامر والنواهي القرآنية ما يطهر القلب، ويصلح النفس

والجسم معًا وأحوال الدين والدنيا؟ أليس في القرآن من المسائل العلمية الطبيعية ما

لم يخطر على قلب بشر في ذلك الزمن وفي تلك البلاد؟ ماذا يكون قول العامي إذا

ذكر شيئًا عن البرق والرعد والصواعق؟ وماذا يقع في كلامه من الأوهام ونحن في

القرن العشرين للمسيح؟ فما بالك إذا كان في القرن السادس، فيكف لم يدخل ما

يذكره العامة من الخرافات في القرآن، ولِمَ لَمْ يذكرها محمد - صلى الله عليه

وسلم- فيه اعتقادًا منه لها، وجريًا على ما كان عليه معاصروه؟ فكم ذُكرت هذه

الأشياء في القرآن وغيرها من عجائب الكون، ومع ذلك لم يرد عنها إلا كل قول

صحيح سالم من طعن الطاعنين، فكيف تحاشى محمد الوقوع فيما يقع فيه مثله من

العامة عند ذكر هذه المسائل؟ هل يعرف العامي الأمي من العرب في ذلك الزمن أن

كل الثمرات لها حياة كحياة الحيوان، وأنها جميعها لها ذكر وأنثى، وهو الأمر الذي

لم تقل به العلماء إلا في الزمن الأخير {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3) مع أن العرب لم تكن تعرف ذلك إلا في النخيل! هل يعرف العامي أن القمر ليس مضيئًا بذاته، ويدرك أن الشمس وحدها هي مصباح عالمنا هذا فيقول {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12) ولا يصف القمر بما يستفاد منه أنه مصدر للنور ويصف الشمس وحدها دائمًا بذلك،

كقوله: إنها سراج منير ونحو ذلك؟ هل كان أحد في ذلك الزمن يعتقد دوران الأرض

حتى يرد في القرآن: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ

الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) ؟ ! وليس ذلك في يوم القيامة على الأصح إذ

قوله (تحسبها جامدة) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي

أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، هل كان أحد

يدرك الفرق بين جعل النهار الذي هو من حركة الأرض مجليًا للشمس، والليل

غاشيًا لها، وبَيَّن العكس حتى يأتي بهذا التعبير {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَاّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا

يَغْشَاهَا} (الشمس: 3-4) والذي أتعب المفسرين زمنًا، ولا يقول إن الشمس

هي المجلية للنهار بتحركها، كما كان ينتظر من مثل هذا العربي الأمي.

مَنْ مِنَ العامة يدرك أن صغر القمر وكبره حسب ما نشاهده ليس إلا لاختلاف

منازله بالنسبة إلى الشمس، لا لأن حجمه الحقيقي يصغر ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى

يقول: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} (يونس: 5) . يظن العامة أن

المطر آتٍ من الجنة، أو من الملكوت الأعلى أو من عالم غير عالمنا هذا، ولا

يتصورون أن أصله من ماء بحار أرضنا هذه، ولكن القرآن يقول: {أَخْرَجَ مِنْهَا

مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي إن المياه بأنواعها التي نستعملها خارجة

من الأرض، ولم يستثن منها ماء المطر كما يتوهمون، فهل يكون في كلام الأمي

العامي في ذلك الزمن هذه الدقة في التعبير، والصدق في العبارة، والإشارة

الواضحة إلى مسائل علمية لم تكن معروفة من قبل أو معمولاً عليها في زمنه؟

هل تدرك العامة بل وكثير من الخاصة أن التغيرات في العالم أعظم برهان

على وجود الخالق تعالى؛ حتى يستشهد القرآن على ذلك باختلاف الليل والنهار

وحركات الكواكب، وشروقها وأفولها. أليس ذلك مما لم تنته إليه عظماء الفلاسفة

إلا بعد الجهد والعناء الكبير؟ !

هذا وإن القرآن قد أتى بالحِكَم الكثيرة والأمثال الصحيحة على وجه وتعبير

ينهك الفيلسوف الحكيم بدنه دون أن يأتي على تعبير مثله؛ فما بالك بهذا الأمي؟ .

فهل نقول بعد ذلك كله أن سماع النبي لخلط من جاوره من الناس الجهلاء وهوَسهم هو المصدر لهذا الكتاب الحكيم؟

فوالله لو كلف أحد الفلاسفة أن يمحص المسائل كما محصها القرآن، وأن يأتي

بأصح الآراء وأقومها في المعتقدات وغيرها، ويؤسس مثل هذا الدين الكامل ما فيه،

ويتبع السياسة الرشيدة، والحكمة البالغة في إرشاد الناس إليه كما فعل محمد -

عليه السلام وأن يحترس من الوقوع في زلة واحدة، وأن يخبر عن بعض أشياء

في المستقبل بفكره وقريحته بحيث لا يخطئ فيها، وأن يأتي ببعض مسائل علمية لا

يعرفها معاصروه، وكلف بأن يجعل كل كلامه هذا بأسلوب غريب لم تعهده الناس

من قبل، ويكون في درجة من البلاغة لا يحاكيها أحد، وأن يقلب كيان أمة عظيمة

كالأمة العربية؛ فبعد أن كانوا أعداء صاروا إخوانًا، وبعد أن كانوا عابدين للأوهام

صاروا علماء، وبعد أن كانوا أضعف الأمم صاروا أقواها وسادتها في مدة قليلة؛ لو

كلف بهذا كله لأقرَّ في الحال بالعجز، واعترف بالضعف، فما بالك إذًا بالنبي العربي

الذي نشأ يتيمًا، فقيرًا، أميًّا في وسط الجهل والوثنية في زمن العمى والظلام

تحتاط به الخرافات من كل جانب والأباطيل من كل مكان امتزج حوله الحق بالباطل،

واختلط الصدق بالكذب يسمع قولاً حقًّا مرة، وأكاذيب بجانبه مرات؛ فلا يمكنه

أن يميز أحدهما عن الآخر لعدم علمه، تشعبت في فكره الآراء، وتضاربت في

نفسه الأقوال، فوقف وقفة الحائر ينتظر الإرشاد الإلهي حتى جاءه الوحي الرباني؛

فمحص الحق ورفض الأباطيل، وقرر الصدق وأزهق الأكاذيب. واعتمد في دعواه

على الحجج البينات؛ لا على الألاعيب، فأعظم به من نبي ختم الله به الأنبياء،

وأكرم به من رسول طار ذكره في السماء، صلى الله عليه وسلم.

بقي عليّ أن أذكر شيئًا عن أخلاقه؛ بعد أن خضعت له الملوك وهابته

الجبابرة، وانتشر اسمه في سائر الآفاق. هل طغى وبغى وانهمك في الملاذ؟ كلا

ثم كلا. ملك مُلكًا واسعًا، ولكنه ما فارقه الزهد والتقشف طول حياته، مات ولم

يترك إلا شيئًا زهيدًا، وأوصى أن يكون صدقة لأمته، لم يتغير حلمه وعفوه ورأفته

ورحمته بالناس، بل زادت.

اقتصر على زوجته العجوز إلى ما بعد الأربعين -كما قلنا سابقًا - حتى توفيت،

ومن تزوجهن بعد ذلك لم يكن فيهن بكر سوى عائشة، وتزوجها وهي في سن تكاد

أن لا تُشتهى فيه لتوثيق ما بينه وبين والدها من المحبة والمودة، وكان غرضه من

تعددهن القيام بكفالتهن لفقرهن أو عدم وجود من يقوم بشؤونهن؛ كمن فقدت

بعلها في حرب أو غضب عليها أهلها لإسلامها، أو لم يرغب فيها أحد من

أصحابه لكبر سنها، وليس للنبي أن يشير على أحد بتزوج بعضهن؛ لئلا يأخذها

مضطرًّا في زواجها فلا يحصل بينهما وفاق وكان الغرض في زواج بعضهن إيجاد

الرابطة بينه وبين أهليهن، أو تعزية بعضهن على فقد زوج كانت تتفانى في حبه،

أو إبطال عادة من عادات الجاهلية إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة كما

يتضح للمدقق في أخبارهن؛ فشفقة بهن ورحمة لهن كان يتزوجهن، ولا يمكنه أن

يبقيهن في منزله من غير زواج لئلا يرميه الناس باستخدامهن من غير حق، أو

بإرادة الفحشاء بهن (تنزه عن ذلك وجل مقامه عنه) ولو كان غرضه الشهوة لكُنَّ من

حسان الأبكار لا الثيبات المسنات؛ فمن كان هذا شأنه لا يتصور أنه كان يطلب

بدعواه النبوة الحصول على شيء من لذات هذه الدنيا، وإلا لوجدته بعد نجاحه

متكبرًا، جبارًا، منتقمًا، فظًّا غليظ القلب، متعاليًا في نفسه، محتقرًا لغيره، فأين

هذا كله ممن كان متواضعًا متقشفًا، يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه ويطوي

على الجوع ليالي راضيًا بالقليل رحيمًا بالناس، لطيفًا يحترم كل أحد حسب منزلته،

حليمًا لا يغضبه جهل الجاهل ولا قلة أدب الوقيح، يعفو ويصفح عمن أساء إليه. إذا

احتاج يقترض المال حتى من اليهود وكثيرًا ما أوذي بسبب ذلك، فالله أكبر ما

أجلّ شأن النبوة وأرفعها عما يرميه به الجهلة من الناس هداهم الله.

هذا الذي ذكرناه من الدلائل هو المعول عليه في هذا الباب والسند الأقوى

للنبي في دعواه، وأما ما ظهر على يديه من خوارق العادات، فلم يكن عليه السلام

يعتمد عليها كثيرًا؛ فلذا ضربنا صفحًا عن إطالة البحث فيها وغاية ما نقول: إن هذه

المعجزات ليست من المستحيلات، بل هي مما يدخل تحت قدرة الله تعالى، وقد نقلها

الثقات نقلاً متصلاً صحيحًا، وتواتر بعضها بحيث إن الإنسان إن شك في بعض

أفرادها لا يمكنه أن يشك في مجموعها. وأمثال هذه المعجزات كانت الحجة الكبرى

والدليل الوحيد للأنبياء السابقين مع أممهم. ذلك لأن الإنسان في تلك العصور ما

كان يدرك قوة الدليل العقلي، فكان كالطفل لا تنفعل نفسه إلا بما وقع تحت حسه ولا

يتأثر إلا بما كان تحت لمسه، ولما بلغ رشده وارتقى ارتقت أدلة النبوة كذلك وآتاه

الله من الدلائل بما يناسب حالة رقيه العقلي، وجعل المعجزة الكبرى في إتيان الأمي

بما أتى به مما فصلناه، وعجز البشر جميعًا عن الإتيان بمثله، وأما المعجزات

الأخرى فلم يكن يراد بها إلا تثبيت الذين آمنوا بالحس بعد أن اقتنعوا بالعقل وإلزام

المعاندين الذي علقوا إيمانهم على رؤية هذه الخوارق، ولما لم يؤمنوا عند ظهورها ما

كان يجيبهم إلى طلب غيرها؛ لأن من لم يقتنع بهذه لا يقتنع بتلك إذ الدلالة على

الصدق في جميعها واحدة. وهذا الذي قلناه هو ما يستفاد من مجموع آي القرآن

الواردة في هذا الشأن فليراجعها من شاء.

والخلاصة: إن الدليل قسمان حسي وعقلي، أما الحسي فإنه أشد تأثيرًا على

النفس وأفعل في القلب، وأما العقلي فإنه أصح وأعم فائدة، وذلك لأنه متى أحكمت

مقدماته ونتائجه؛ فلا سبيل لتطرق الشك إليه، وكل من تصوره صدق به بخلاف

الحسي فلا يؤثر إلا على من نظره بعينه ويتطرق إليه شبهات كثيرة كالشعوذة

والتدليس والحيل، وكلما كان الإنسان بسيطًا كان فعله في نفسه أشد.

ولما كان محمد عليه السلام خاتم الأنبياء ومرسلاً إلى الإنسان بعد بلوغه

رشده، ودعوته ليست قاصرة على زمن أو مكان كان الأنسب أن تكون حجته عقلية

من أن تكون حسية. وقد كان ذاك، وقد ظهرت حكمة الله -جل شأنه - في هذا

النوع فآتاه في زمن طفوليته بما يناسب بساطته، وفي زمن كهولته بما يوافق رقيه

ودرجة عقله كالأب الحكيم يحمل أبناءه في صغرهم على الدرس بإعطائهم المكافأت

كالحلوى، والصور، وفي كبرهم بتبيين فوائد الدراسة ومنافعها وتأثيرها في

مستقبلهم، فالإنسان بالبعثة المحمدية أدرك قيمة عقله، وخلص من سائر القيود ولم

يبق لمشعوذ عليه سلطان أو لمحتال عليه حيلة، وقام ينفض ما على جسمه من

غبار التقليد، ونظر بعقله إلى ما حوله من الموجودات واستخدامها، وهكذا سار في

طريق الإصلاح إلى أن يبلغ الكمال إن شاء الله تعالى.

ولنختم هذه المقالة باختصارها في كلمات معدودة فنقول:

كل من أتى بإصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى فهو نبي، ومحمد قد أتى

بالإصلاح من قِبله تعالى فهو نبي، والدليل على أن إصلاحه من عند الله أنه ليس

مستمدًّا من معلومات من جاوره من الناس كما بيناه آنفًا، وأن ما أتى به لا يقدر

البشر على الإتيان بمثل جزء منه، إذ لو كان مقتبسًا من علمهم لكانوا أقدر على

الإتيان بذلك، قال تعالى:{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هود: 14) .

إذًا القرآن كتاب الله وكل ما فيه حق من عنده تعالى فيجب الإيمان به والعمل

بما فيه لنحوز سعادة الدنيا والآخرة.

محمد توفيق صدقي

...

...

...

...

...

...

...

...

...

...

طبيب بسجن طره

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 495

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]

(3)

(المكتوب الثاني)

من أراسم إلى (أميل) :

فراق الولد لوالديه سُنة فطرية- العلم في ألمانيا- نقد التلميذ ما يقرأه من أفكار

غيره- القصد في علوم المعقولات نفع الأمة بالقيام بالواجب على قدر الطاقة-

اختيار الولد العمل الذي يشتغل به بعد- بيان أنه لا حرية لأمة يتكالب شبانها على

تولي أعمال الحكومة- التحذير من الملحدين- بيان أن الرأي العام لا قيمة له إلا إذا

كانت الحكومة شورى- خدمة الأمة لذاتها لا للجزاء.

لوندره في 13 فبراير سنة -186.

إذا كنت يا عزيزي (أميل) تألم من استيحاشك؛ فنحن نألم من فراقك ولكن

يجب علينا التسليم والرضا بما لا بد منه، واعلم أنه لو كان في وُسعي أن أبرح

لوندره وأخلف من أقوم عليهم من المرضى لمرافقتك إلى حيث أنت الآن لكنت فيه

مترددًا، فقد آن لك أن تعلم كيف تسير سيرة الرجال، إن الطيور لتحب أفراخها،

ولكنها متى أنست فيها من القوة ما يكفي لاستقلالها بنفسها في الطيران شجعتها على

تجريب أجنحتها فيه، سنة الله الذي أراد أن يهب الحرية لجميع البرايا.

أنت تعلم حق العلم أني لم أرسلك إلى (بُن) إلا لأسهل عليك درس لغة

الألمانيين، وأخلاقهم وأفكارهم، وأنا أعلم أنك إلى الآن قد استقللت بنفسك في

تعلمك، فكنت في باطن الأمر وحقيقته أستاذًا لنفسك، ومرشدًا وليس ما أخذته عني

من الدروس شيئًا يذكر، ولكن قد اقتضت أحوال هذا العالم أن توجد مذاهب وطرق

لا بد في تعلمها أن تلتمس من ينابيعها، وألمانيا في يومنا هذا هي مقتبس نور

العرفان، وهي البلاد التي يجب أن يعرف لها الفضل في الحكمة والعلم والنقد

وآداب اللغة، ومدارسها الجامعة محط رحال الكثيرين من أفاضل الأساتذة وجهابذة

العلماء، ولتسمع ذلك أدعوك إلى قبول تعليمهم على غير بصيرة وتلقي أقوالهم

وآرائهم قضايا مسلمة؛ إذن أكون قد تخليت عن جميع الأصول التي أسير عليها. إن

للإنسان شيء لا ينبغي أن يسمح به لأحد؛ ألا وهو حرية الفكر، فالعلوم التي

تتلقاها في الجامعة لا يمكن أن يتسع بها نطاق عقلك، ويقوى بها إدراكك، ما لم

تراقب ما فيها من أفكار غيرك مراقبة ذاتية، وإياك ثم إياك أن تنهك قواك التي أنت

محتاج إليها في العمل بفرط الانكباب على دراسة المعقولات بَالِغَة ما بلغت من

الطلاوة، وبعد الغور؛ فإن البحث في المنقولات لا قيمة له إلا إذا أدى الباحث إلى

وسيلة ينفع بها نظراءه، والمحب لنفسه من يَقْصُر ثمرة فكره ودرسه عليها؛ لا

مراء في أن الاتصاف بالعلم من الأمور الحسنة، ولكن أجلّ منه وأحسن أن يكون

الإنسان محبًّا لوطنه نافعًا لأهله ولا يغرب عن ذهنك أن ألمانيا ليست بلادك، وأن

آثار سلفك هي حكمة القرن الثامن عشر، وأن أمك هي الثورة الفرنسية.

آلمتني عبارة من مكتوبك وهي قولك: (إني أحيانًا آنس من نفسي فتورًا في

الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسألها عما أصلح له من الأعمال، وأنا ضائق بذلك

صدرًا) فاعلم أنه ليس من الضروري تحقيق النفع في الإنسان أن يكون من كبار

الرجال، فأيُّما رجل صدقت نيته في فعل الخير، وصح قصده للنفع؛ فإنه يغير من

حالة القوم الذين يعيش فيهم بقدر ما من التغيير، وعلى كل حال ليست الحياة إلا

نتيجة القيام بفروض صغيرة؛ فمن أداها كلها بما في وُسعه من الوسائل كان في

الغالب أفضل ممن يسعى في الاشتهار بعمل خطير، وليس شيء من أفكارنا ولا من

أعمالنا بضائع علينا؛ فإن آثارها تظهر في من حولنا من الناس، أو في من

يخلفوننا، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الحركات الكبرى التي غيرت أحوال

العالم من جهة السياسة والعمران لم يكن فيه المستضعفين الخاملين من الخدمة

والعمل ما للرؤساء المسيطرين، كلا، بل ربما لم يكن ظهور هؤلاء واشتهارهم إلا

صورة منعكسة لفضائل أولئك ومساعيهم المحمودة.

اقنع بأن تكون كما أنت مع مواصلة السعي في تنمية غرائزك، وتوسيع نطاق

مواهبك بالدأب في العمال والمدارسة؛ إذا احتجت في بعض أوقاتك إلى تكبير دائرة،

وجودك فتصفَّح دواوين الشعراء الحقيقيين، وكتب أئمة النظار المشهورين،

وتمتع بما تجده في نفسك عند مطالعتها من عظم القدر، وسمو المكانة الذي يسري

إليك منهم؛ فإن في ذلك غبطة لا يحيط بها الوصف؛ فإذا هبطت من هذه المقامات

العلى لم تعدم حولك من النفوس الصغيرة المحتاجة للاستضاءة بنور العلم من يغنيك

الاشتغال بهم عن الاهتمام بغيرهم، ومن صنائع البر ما فيه تسلية لك عما يعوزك

من الخصائص، واعلم أنه لا يتألم مما في عقله من مواضع الضعف والقصور إلا

محب لنفسه، أو خبيث، وأما من يستسلم ويرضى بقسمته ويتعلم ليعمل؛ فإنه لا

يطلب فوق ما قسم له من العقل شيئًا، بل يكون مغتبطًا به غير حاسد.

أراك أيضًا تغلو في الاهتمام باختيار ما تمارسه من الأعمال؛ فإنه وإن كان

مما لا مرية فيه أن كل فرد من الناس يجب عليه أن يعيش من كسبه وكده، وإني

أغتمّ لو رأيتك مفرطًا في هذا الأمر الذي هو أول فرض على الإنسان ينبغي أن

تعلم أن جملة الدروس التي تتلقاها الآن، مع كونها تؤدي إلى جميع الحرف لا تفتح

لك باب واحدة منها، ولا أرى في ذلك ما يدعو إلى كدرك؛ لأن كل علم تحصله

هو ذخيرة لعقلك؛ فإن لم يفدك في نفسك؛ فقد تجد فيه وسيلة لنفع غيرك على أن ما

في الكون من طوائف الأمور المختلفة، وطبقات الحوادث المتباينة مرتبط بعضه

ببعض؛ فلا بد في معرفة أمر منها معرفة صحيحة من معرفة أمور كثيرة لها، بهذا

الأمر تعلق بعيد، ولست بهذا القول ألزمك السعي في تحصيل ما يسمى بالعلم العام

الذي هو ضرب من الخيالات والأوهام، وإنما أريد به تفهيمك أن للعلوم قضايا عامة

لا بد لك من تصور حدودها الأصلية قبل تفرغك لتحصيل علم منها على حياله.

أنت ولي أمرك في الحكم على ما يلائمك من الأعمال، وليس عليّ إلا أن

أسألك عدم التأسي في ذلك بإخوانك من الطلبة، فكن كما يرشدك إليه خلقك وميلك

إما طبيبًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو صانعًا، أو آليًّا، أو غير ذلك ولكني أسألك

بالله أن لا تكون عاملاً للحكومة.

أي حرية تُرجى لقوم يتطلع المتعلمون من شبانها إلى الانتظام في سلك عمال

حكومتهم؛ قد كان فن ظلم الحكام للناس في الأيام الخالية من الفنون الصعبة الكثيرة

المشكلات، التي يلزم لتعلمها استعداد خاص، ونفس كنفس ميكافيل [1] وأما الآن

فيظهر من أحوال الرعية أنهم يعنون أشد العناية بكفاية حاكمهم مؤنة استعبادهم

بالحيلة، أو القهر؛ لأنهم يتهافتون على احتمال نير عبوديته، فأي ملك أو عاهل

يجد حول أريكته رؤوسًا خاضعة، وأطماعًا سافلة نهمة كأطماع الكلاب، التي لا هم

لها إلا قضم العظام ما دام بين يديه من الأموال الوافرة ما ينفقه كيف يشاء ومن

المناصب وألقاب الشرف والرتب الكثيرة ما يوزعه على من يريد.

ليس الإلحاد والوقاحة مقصورين على أحداث ألمانيا، حيثما حللت تجد من

الشبان من لا يعتقدون بشيء، ولا يوقرون شيئًا، فكن منهم على حذر؛ لأن هذا

الفسوق العقلي يساعد قطعًا على تثبيت الأوضاع القديمة، ذلك أن هؤلاء الذين

يدعون لأنفسهم حرية الفكر لم يخلصوا من قيد الأَثَرَةِ، ومن هذه الجهة تأخذ

الحكومة منهم بالنواصي والأقدام؛ أعني أن عبادتهم لنجح مساعيهم وطمعهم في

الوصول إلى ما يبتغون، وظمأهم إلى المناصب، والتمتع بالمرتبات الجسيمة لا

تلبث أن تدعوهم إلى توقير النظام الذي سنته الحكومة وإجلاله، وإني لا أعتد

بجراءة العقل ما لم تصحبها بسالة النفس؛ وتنزهها عن الأغراض، ثم إنه مهما كان

بلوغ كل أمنية في الدنيا ممكنًا بمحض هوى الغير ورضاء لم يعدم المستبدون عبيدًا

متحمسين؛ في خدمتهم يعملون لهم ما يشاءون، وتجد من كانوا من الشبان بالأمس

منطقيين متحذلقين يصبحون، وهم أكثر الناس سجودًا للقوة واستكانة للسلطان.

ولاية أعمال الحكومة هي بلاء الأمم في هذه الأيام فالبلاد التي رئيس حكومته

هو الذي يوزع مناصبها لا يمكن أن تكون آراء الناس فيها إلا نتيجة عمل حسابي

لما يربح منها فإذا وقع خطأ سياسي أو ديني من الحاكم، وكان ينتج للموافقين عليه

بعد الحساب عشرة آلاف فرنك مثلاً، فإنه يصير حينئذ صوابًا، وإذا أتى أمرًا

خسيسًا، ودفع ضعف هذا المقدار، قيل إنه قام هذه المرة بما تدعو إليه الهمة

والبسالة فيجب الإخلاص له.

يلهج الناس كثيرًا بذكر الرأي العام، ويقولون: إنه أقوى كفالة للحق والحرية

وهو صحيح؛ إذا كان أمر الأمة بيدها، وكانت هي التي تلي شئون إدارتها، وأما

إذا كان حالها غير هذا فالرأي العام نفسه قد يكون فيها آلة للاستبداد؛ فإن أكفل

وسيلة لظلم الأمة هي إعدام شرف النفس من أفرادها، وإزهاق روح الاستقلال بينهم

بتحبيب الحكومة القائمة إليهم، وحملهم على رجاء بقائها. ورب قائل يقول: إن

عدد العمال في الحكومة لا يذكر في جانب السواد الأعظم من الأمة، فأجيبه: إن هذا

الاعتراض عبث؛ لأنه قد نسي أن بإزاء كل عامل نال منصبًا ألفًا من الناس

يطلبونه، ويرجون رجاء قويًّا أن ينالوه يومًا من الأيام، فعالم العمال يكافئه عالم

آخر من السائلين، ومن ورائهم جميع طلاب الأموال، وإذا كان تحرير الناس من

الاستعباد لا يتأتى إلا متى أعانوا عليه بإرادتهم، فأي وسيلة تبعثهم على إرادة

التفصي من ربقته؛ إذا كان فريق منهم -وهم الذين تقوم لهم الحكومة بنفقات

مطعمهم، وملبسهم، ومسكنهم - قد بلغت بهم الحال إلى أن يكون استعبادهم قوام

معيشتهم والفريق الآخر يغبطونهم على هذه النعمة، ولا يأسفون إلا على عجزهم

عن مشاركتهم فيها.

ولست أقصد بهذا القول أن من لوازم المناصب العامة تصغير نفوس القائمين

بها، أو الساعين في تقلدها - حاش لله - فإنها في الحكومات الحرة كحكومة

أمريكا مثلاً من شأنها أن تنمي فيهم قوة العزيمة، ومكارم الأخلاق؛ لأن الحكم في

اختيارهم راجع إلى انتخاب الأمة، ولأنهم إنما يمرون بالأعمال مرورًا؛ ولأن

جميع الولايات لا تلبث أن يعود أمرها إلى الأمة، فتقلدها من تشاء، ومن هنا يعلم

أني لا أتكلم عن الأمة التي حكوماتها مؤسسة على الشورى، وإنما أتكلم عن الحكومة

التي تولى الأعمال فيها بالمحاباة والهوى؛ فشبانها يتدلون ويصغرون بسعيهم في

تقلد تلك الأعمال؛ لأن حكوماتها لا تبغي في الحقيقة إلا نفوسًا سلسة القياد تلصق

بما جرى عليه العمل من التقاليد الإدارية - وطباعًا لينة - عطفت على كل ناحية

فلم تبق لها وجهة ذاتية وعقولاً مثقفة، ولو لم تسم عن عقول العامة تستعمل زخرف

القول في تصوير ما وضع من النظام بصورة معقولة. وإني لتمر بي ساعات

أحدث فيها نفسي بأن من ظلم الشعوب أن يلوموا حكامهم على استعبادهم فأي معنى

للوهم إذا كانوا قد جعلوا مقادتهم بأيديهم، وكان الآباء لا يتمنون لأبنائهم إلا تقلد

المناصب ذات الرواتب العظيمة التي لا عمل فيه بدلاً من صرفهم إلى وجوه الكسب

الأخرى، بل إذا كان الناس يؤلمون أن يكون عالة على المصلحة العامة ويودون لو

أن للحكومة من العقل والوداعة ما يكفي لمنعها من الانتفاع بما يقدمونه لها من الفوائد،

فما أسخف عقولهم إذ جعلوا أنفسهم ترابًا ثم هم يدهشون من وطء الحكام إياهم.

أنا لا أنكر أن نيل الشاب منصبًا من المناصب الكثيرة المقررة في الحكومة

أسهل عليه كثيرًا من أن يفتح لنفسه بابًا للكسب في قومه بجدارته وأهليته الذاتية،

ولهذا لا يلبث الإنسان أن يعرف الأمم التي اعتادت الارتزاق من حكوماتها، لما

يكون فيها من فقد الاستعداد لإنشاء الأعمال وابتكارها فترى الصناعة والزراعة

والتجارة تنساق في مجرى العادة بتكلف وجهد، والأموال تحذر الخروج من جيوب

المتمولين، والتقاويم التجارية التي تأبى الحكومة حمايتها يشق عليها - كما يقال -

أن تطير بأجنحتها، والصناعات الحرة تحوم حول السلطان لنيل الأعمال والمحاباة

وترقب فرصة التطفل على مائدة المصلحة العامة، وآداب اللغة والفنون تتأثر بقوة

السلطان، وتتدلى الحياة العامة التي يحطها سلطان رجل واحد، وحاجة التغذي من

يد الحكومة تزيد على الدوام عدد طائفة الندمان والمملقين.

كأني بك تقول لي إن ذلك الذي وصفت عيب في شكل من أشكال الحكومة

وذنب لمجموع الأمة التي ترضى هذا الشكل وأنه ليس مما يعتد به كثيرًا أن يزيد

عدد عمال الحكومة واحدًا أو ينقص واحدًا؛ لأنهم جيش لا يعد - فأجيبك على هذا

بأني لست أجهل أن واحدًا من الناس ليس في قدرته أن يغير أحوال أمة بأسرها،

ولكن إذا ارتكن كل فرد من أفرادها على هذه المغالطة فاستسلم للتيار المحتوم الذي

يسوق غيره فلا ينبغي أن يرجى شرف للأوضاع القومية، ولا حرية للناس. إن

الأمم إذا تدلت وفشت فيها عدوى التأسي وجب على كل إنسان حقيق بأن يسمى

إنسانًا أن يرفع لها من نفسه لواء المجد، ويدعوها إلى النهوض، فإنها لا تنهض

من انحطاطها إلا بالمجاهدة وبذل القوة الذاتية، وكم من رجل يشكو من خسة

السرائر في قومه، ويتألم من دناءة نفوسهم وهو شريط لهم بالواسطة في فعل ما

أداهم إلى هذه الحالة بكثرة خشيته وتحرجه في سيرته؛ فإنه إذا تعفف هو عن تولي

المناصب الرسمية قد يريدها لابن أخ له، أو لأحد اللائِذين ببيته، وبهذا يصير شريكًا

في الضرر الذي يندب سوء مغباته.

هذه يا بني أفكاري قد أفضيت بها إليك صراحة، فإن كنت لا بد راغبًا في بلوغ

منصب رسمي فوسيلتك إليه ميسرة جدًّا، وهي أن تذل وتستكين، وأما إذا فضلت

كرامة نفسك واستقلالك وشرفك على المزية التي تجدها في سهولة فتح باب الكسب

وسرعته؛ فإني أهنئك عليه من صميم فؤادي، ولكن لا بد لك حينئذ أن تعرف ما

أنت داخل فيه فإنك بتنازلك عن رعاية الحكومة تضطر إلى كسب قُوتك بالعمل

والجهاد، ولا تجد من أحد حمدًا على كدك ونصبك وترى كثيرًا من الناس يسخرون

من بسالتك وإقدامك فعلام يحبونك إذا كنت تسفههم وتزري عليهم بالنهج الذي تسير

عليه في عملك وفكرك؟

اخدم الأمة ولا ترجُ منها جزاءً ولا شكورًا؛ فإنها لا تملك ما تجزيك به؛

لأنه ليس بيدها شيء من أموال البلاد، ولا من ألقاب الشرف، ولا من وسائل

التنويه وإعلاء الذكر، وعلى أنها قد تنكر ما لك من حسن النية في خدمتها فليس

عليك حينئذ إلا الاعتماد على قواك الجسدية والعقلية.. وأنه ليس في هذا الإنكار

المتوقع ما ينبغي أن يريعك؛ فليست أهم مسألة للإنسان في حياته أن يبلغ مقامًا

ساميًا بل المسألة الكبرى هي أن يكون قدره أعلى من المقام الذي يشغله.

وأما أخبار البيت فمنها أن (لولا) عهدت إلي إعلامك بأن طيورك،

وزهورك في حالة راضية،وأن دفائنك بعد أن حفظت في بطن الأرض مليونين أو

ثلاثة من السنين سالمة من التغيُّر، قد تغيرت قليلاً من غبار لندرة ودخانها، وبأنها

قد رتبت مجموع حشائشك، وأنها أشد لك ذكرًا منك لها.

وفي الختام أقبلك أنا وأمك قبلة الوداع، ونرجو أن تكون دائمًا على علم

بدروسك ومقاصدك وحالة معيشتك فكل ما يتعلق بك يعنينا. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) معربة من باب تربية الشاب من كتاب أميل القرن التاسع عشر.

(1)

ميكافيل هو أحد رجال الحكومة الإيطالية، ومن كتابها المشهورين، ومن كتبه كتاب الأمير وهو مختصر في السياسة المفسدة للأخلاق.

ص: 500

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المجلد الأول من كتاب

أشهر مشاهير الإسلام

قد صدر الجزء الرابع من هذا المجلد، وهو في سيرة الخليفة الثالث عثمان

بن عفان ومَنْ اشتهر من رجال دولته، وصفحاته 220 وقد كان مصنفه (رفيق بك

العظم) وعد بأن سيوجز القول في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنهما

تحاميًا للخوض في مسألة الخلافة ومثار الفتن في الأمة، فما زال به محبو التاريخ،

وطلاب الحقائق من قراء كتابه حتى أرجعوه عن رأيه، وأقنعوه بوجوب بيان تلك

الحوادث بعللها، وأسبابها، ونتائجها، ومعلولاتها؛ فأقدم على البحث بما نعهد فيه

من الأدب، والإخلاص، والبعد عن التشيع والاعتساف، فجاء بمصاص الأخبار،

واستخرج منها آيات العظة والاعتبار، ولم يأل جهدًا في حسن الاختيار، واستنباط

الحكم والأعذار لعظماء الصحابة الأخيار.

تصفحت جل ما كتبه في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان رضي الله عنه

فرأيته قد حصر ما نقمه الناس من عثمان بحق في غلبة بني أمية على أمره حتى

استبدوا بالأمر دونه، وافتاتوا عليه، وحملوه على الرجوع بما عاهد عليه المسلمين

وتاب عنه في محفل كبراء المهاجرين، وبَيَّن أن أهل الرأي ورجال الشورى من

الصحابة خافوا أن يجعلوا الخلافة أموية تقوم بالعصبية لا قرشية تقوم بالانتخاب

والشورى الشرعية، وكشف الحجاب عما كان هناك من الجمعيات السرية التي

تحرض الناس على التألب على الخليفة، وإلزامه بإبعاد دهاة بني أمية عنه، أو

اعتزاله وخلع نفسه. وبَيَّن أنه لم يكن أحد من كبراء الصحابة وزعمائهم يعتقد أن

الأمر يصل إلى ما وصل إليه، وأنهم يقتلون الخليفة ظلمًا، ولم يفعل فعلاً يبيح دمه،

وانتحل لعثمان أحد عذرين في الاعتصام بقومه. أحدهما: أنه علم أن رجال

الشورى الستة كل منهم يريد الخلافة لنفسه وله أنصار، فخاف أن يترك أنصاره

الأقربين من بني أمية فيختلف القوم دونه ويتوثب عمال الأمصار عليه؛ فلا يجد له

عاصمًا؛ لذلك ولَاّهم الأمصار وزاد استمساكه بهم حين سئل التخلي عنهم، وثانيهما:

أن قومه استلانوا جانبه واستضعفوه فغلبوا على رأيه فيهم. أقول: إن الثاني هو

الصواب ويدل عليه تعويله على تنحية مروان وذويه، وتصريحه في خطبته التي

بكى فيها وأبكى الناس (وهي في ص 797 من الكتاب) وفيها أن بني أمية قد

استحوذوا على عثمان بعد ذلك، وملكوا جَنانه لكبر سنه وضعفه، فعذلوه واستذلوه

وافتات عليه مروان بما افتات.

يعلم كل من قرأ تاريخ المسلمين أن تألب الناس على عثمان لم يكن يرجى له

صد إلا باعتزاله الخلافة، وخلع نفسه منها، أو بعزل مروان وغيره من دهاة بني

أمية الذين غلبوا على أمره، وتقلدوا معظم أعماله، وقد علمت رأي المصنف في

الأمر الثاني، وأما الأمر الأول، فقد ذكر أن لامتناع عثمان عنه أحد أسباب ثلاثة:

1-

ضعف الإرادة الذي هو أثر كبر السن.

2-

الخوف أن يسجلوا عليه ما اتهموه به من الأحداث، وهو يعتقد أنه لم يستحل فيها محرم.

3-

العمل برأي مروان وأضرابه الذين كانوا يعلمون أن أمر الملك لا يتم لهم إلا بإراقة الدم.

والثالث هو الصواب، وربما كان غيره داعمًا له، ولولاه لكان يمكن أن يقال

إن امتناعه من اعتزال الخلافة مع تألب الناس عليه وحصرهم إياه، هو من قوة

الإرادة لا من ضعفها.

ومن فصول الكتاب التي تستحق أن ينبه عليها ويلفت إليها، فصل عقده لإثبات عدم تحامل رجال الشورى على علي - كرم الله وجهه - وبيان أن خلافة كل واحد من الراشدين جاءت في وقتها اللائق بها.

ورأيت صديقي المؤلف قد أكثر القول بهذا الجزء في تقرير رأيه في الخلافة

والحكومة الإسلامية، وبيان ضرر ما ينكره منها ويعده أصل البلاء، وعلة الضعف

والشقاء، وهو أمر أن عدم توفر شروط الشورى والاختيار في البيعة بحيث كان

شكل الخلافة وسطًا بين الشورى والاستبداد، أو بين الحكم المطلق والحكم المقيد إذ

أناطوا بالخليفة جميع الأعمال، وثانيهما اصطباغ المسلمين في حياتهم السياسية

بصبغة الدين وعدهم الخليفة رئيسًا دينيًّا.

قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسألة، ولم ينسوا المناظرة التي كانت

بينه وبين أحد علماء الهند في هذه المجلة. وأقول: إن هذه المسألة الكبيرة لم تنحل

فيما كتبه فلا تزال في حاجة إلى تحرير، وكنا وعدنا بكتابة رأينا فيها بالتفصيل،

ولما تسمح لنا الفرص بذلك. نقول هنا: إن ما جاء به الإسلام في ذلك، وما كان

من انتخاب الخلفاء الراشدين، وسيرتهم يصدق عليه قول الإمام الغزالي في نظام

الوجود العام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) إلا ما كان من إصرار عثمان على

إمساك مروان، وغيره من ذوي قرابته الذي نقم منهم المسلمون، ولقد يظهر

للمؤرخ الذي وقف على نظام الحكومات النيابية في هذا العصر أنه كان ينبغي

للراشدين أن يضعوا نظامًا مثله، وإذ لم يفعلوا فلنا أن نحكم بأن عملهم كان ناقصًا.

ومثال هذا مثال من ينكر بعض مظاهر الوجود التي رأى من جنسها ما هو أحسن

منها غافلاً عن إمكان ذلك وعدم إمكانه بحسب سنن الكون العامة.

الحكومة النيابية المنتظمة القائمة على أساس الشورى، والاختيار لا تصل

إليها الأمم إلا بعد أن تربى وتتعلم في مدرسة الحكومة الاستبدادية زمنًا طويلاً، فلم

توضع حكومة نيابية منتظمة على وجه الأرض بمجرد الرأي والاستحسان من أفراد

أسسوها وأقنعوا الأمة بأن فيها مصلحتها، فقامت بها وثبتت عليها اقتناعًا بقولهم

وعملاً برأيهم. وإنما كان تأسيس الحكومات النيابية والجمهورية بما نعلم ويعلم

صديقنا مؤلف أشهر مشاهير الإسلام، ثم كان تقدمها وثباتها بالتدريج بعد ارتقاء الأمم

في العلوم والأعمال الاجتماعية بالتدريج أيضًا.

كان يقول كما يقول بعض الناس: إنه كان ينبغي للمسلمين أن يتعلموا كيفية

تأسيس الحكومة النيابية من جيرانهم الرومانيين، ثم هو يعتذر الآن عن الخلفاء

الراشدين بأن الحكومات النيابية كانت بعيدة العهد يومئذ من مجاوريهم الرومانيين

فلجأوا إلى إناطة كل شؤون الدولة السياسية والدينية بالخليفة (ص 679) فيالله

وللرومانيين هل كانت قوانينهم ومجالس شيوخهم ونوابهم عاصمة لهم من

السقوط في هوة الاستبداد، ثم من تحويل الجمهورية إلى إمبراطورية. ألم يكن

الأشراف هم أصحاب المجالس والحقوق، والعوام لا حقوق لهم؟ ألم يكن الدافع

للملك (سرفيوس) المصلح إلى منح العوام جميع الحقوق الرومانية هو التخلص من

أثرة الأشراف وظلمهم وشدة فرقه منهم؟ ألم يأت بعده الملك الطاغية (تاركان) بأشد

ضروب الاستبداد تشويهًا، فأفسد كل ما كان أصلحه (سرفيوس) وكان يقتل كل من

يتوسم فيه عدم الإخلاص له من أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان، ويسخر الأهالي

لأعماله الخاصة حتى كانت مظالمه العامة هي السبب في تأسيس الجمهورية سنة

(510 ق م) ألم يحول (أغسطس قيصر) الجمهورية بعد استقرارها إلى

إمبراطورية سنة (28 ق م) أولم يحول نابليون الجمهورية الفرنسية إلى ملكية؟

ويفعل فعلته بمجلس النواب على أن شعب فرنسا كان أرقى من شعب رومية يومئذ؟

هل تأسست الجمهورية الرومانية كاملة؟ ألم يكن ضباط الجيش هم الذين

ينتخبون النواب في الحكومة الجمهورية؟ ألم يكن هؤلاء الضباط وعسكرهم آلة في

أيدي الأشراف المستبدين؟ ألم يقاوم الأشراف اقتراح (فوليرو) أن يكون الشعب

هو الذي ينتخب نوابه حتى ثار الشعب ونال هذا الحق بالثورة سنة 471؟ هل نال

الشعب بعد هذا حقوق المساواة إلا بالتدريج؛ إذ نال المساواة في الحقوق المدنية سنة

450 ق م، والمساواة في الحقوق السياسية سنة 397 والمساواة في الحقوق

القضائية سنة 329، ثم لم يتم له حق المساواة في الأعمال القضائية إلا بعد سنين،

والمساواة في الدين سنة 302 ق م؟ أولم تكن المساواة في جميع هذه الحقوق عامة

في الحكومة الإسلامية من أول يوم لاصطباغها بصبغة الدين الذي يخضع المتدين

لأحكامه عندما يسمعها؟ نعم، كل هذا مما لا ينكره عارف، ولولا أن كانت أركان

الحكومة الإسلامية قائمة على أساس الدين لما استقام للمسلمين حكم ولما وجد ذلك

العدل العام الذي لم تكتحل عين الزمان بمثله حتى اليوم؛ فإن الدولة الإنكليزية،

التي هي أرقى الأمم الأوربية في حكوماتها وأقربها من العدل في مستعمراتها لا

تساوي بين أبناء جلدتها في الحقوق، وبين الهنود بحيث تقتص من مثل اللورد

كتشنر لرجل هندي كما أراد عمر أن يفعل بجبلة بن الأيهم ملك غسان، وكما ساوى

بين علي ورجل من آحاد يهود، وكما أعد الصحابة من أحداث عثمان التي توجب

خلعه عدم قتل عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين بالهرمزان الفارسي الذي قتله لقيام

القرينة عنده على إغرائه بقتل أبيه أمير المؤمنين، وإن استرضى عثمان ولي الدم

بماله

إلخ إلخ.

وسنبين في مقال خاص بهذه المسألة كيف كان ما عمله الراشدون هو المتعين

الذي لا يمكن أن يكون خير منه يومئذ، وكيف كان الفساد الذي طرأ على الحكومة

الإسلامية فأضعف الأمة وزعزع الملة، محصورًا في هدم بني أمية للقواعد التي

وضعها القرآن للحكومة الإسلامية، وأيدتها السنة، وهي إبطال العصبية الجنسية

وجعل أمر المسلمين شورى بينهم، والإذن لأولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد

باستنباط الأحكام مجتمعين، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول

والفعل.

وجملة القول في هذا الجزء من كتاب أشهر مشاهير الإسلام أنه من أنفع

الأجزاء، وأشدها عظة وتذكيرًا بحال سلفنا {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة:

269) وهو مطبوع طبعًا حسنًا على ورق أجود من ورق الأجزاء الأولى،

وثمن النسخة منه ثمانية قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش ونصف ويطلب من

مكتبة المنار وغيرها.

_________

ص: 507

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تاريخ التمدن الإسلامي

قد صدر الجزء الرابع من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندي زيدان صاحب

مجلة الهلال، وهو خاص بالبحث في سياسة الدول العربية في الشرق والغرب، وقد

جعل الكتاب أبوابًا عبر عنها بالعصور:

فأولها: العصر العربي الأول وفيه الكلام عن حال العرب، وعصبيتهم قبل

الإسلام، وعن الأرقاء والموالي والأجانب والسياسة في الجاهلية، ثم عن سياسة

الخلفاء الراشدين، وسياسة الأمويين، وأحداثهم في الدولة والإسلام.

وثانيها: العصر الفارسي الأول، يعني به زمن نفوذ الفرس واستبدادهم في

الدولة العباسية من خلافة السفاح سنة 132هـ إلى خلافة المتوكل 233هـ، وفيه

الكلام عن سياسة العباسيين، وحريتهم والعصبية العربية في زمنهم.

وثالثها: العصر التركي الأول، وفيه الكلام عن الجند التركي في الدولة

العباسية، وعن الخدم ونفوذهم، وتأثير النساء في سياسة الدولة، وفي هذا العصر

كان مبدأ فسادها وسقوطها، ثم الكلام في تشعب المملكة العباسية، وانقسامها إلى

دول فارسية وتركية وكردية.

ورابعها: العصر العربي الثاني في الأندلس ومصر.

وخامسها: العصر المغولي أو التتري، وفيه الكلام عن انحلال المملكة

الإسلامية بقيادة الترك، وتنكيلهم بالمسلمين إلى أن نهض العثمانيون بتكوين دولة

جديدة قوية.

هذا موضوع الكتاب، وهو من الفائدة بالمكان الذي يستغني فيه عن التنويه به

والحث على مطالعته. وإنا لنرجو أن يأذن لنا الزمان بفرصة نطالع فيها هذا الجزء

وما سبقه بالتدقيق؛ لنعطيها حقها من النقد والتقريظ، فنكون من الشاكرين لمؤلفه

على اجتهاده في هذه الخدمة لتاريخنا المبعثر في كتب الأخبار والآثار.

_________

ص: 511

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مرشد الهدايات

إلى واجبات الحلاقين والدايات

كتاب جديد للدكتور أحمد أفندي الدرندلي مفتش صحة الفيوم ويعني بالحلاقين

الأطباء الذين خصتهم الحكومة بالكشف على الموتى لتحقيق موتهم، ولمعرفة سببه،

وبالتبليغ عن الأمراض الوبائية، والتلقيح لمنع الجدري. ويعني بالدايات القوابل،

والكتاب يشرح الأمراض التي يتعلق بها عمل الفريقين وبَيَّن ما يجب عليهما فعله،

ومباحثه نافعة ينبغي اطلاع كل قارئ وقارئة عليها ليكون الناس على بصيرة من

الأمراض التي تعرض لهم، ولمن يعيشون معهم؛ فلمؤلف الكتاب الشكر أن طبع هذا

الكتاب ومن الشكر الإقبال عليه.

_________

ص: 511

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ديوان الرافعي

قد طبع مصطفى صادق أفندي الرافعي الجزء الثاني من ديوانه، وشعره فيه

يدخل في ستة أبواب، أولها - باب التهذيب والحكمة، وثانيها - باب النسائيات، وثالثها - باب الوصف، ورابعها - المديح، وخامسها - الغزل والنسيب،

وسادسها - الأغراض، والمقاطيع، وصفحات هذا الجزء تبلغ 120.

ومما يذكر له أنه أكرم ديوانه عن مدح زيد وعمرو وخالد وبكر فلم يمدح من

عظماء الدنيا غير السلطان وأمير مصر، ومن عظماء الدين ورجال العلم غير

الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - ومن الأغنياء غير أحمد باشا المنشاوي أيام وفق

للإحسان بماله ولهج الناس بوقفيته.

ومن باب النسائيات قوله في المرأة المصرية:

أتى عليك وإن لم تشعري الأمد

وأنت أنت مضى أمس وحل غد

فهبك عينًا فما من الناس ذو نظر

إلا ويؤلمه في عينه الرمد

وهبك قلبًا فما في الخلق من رجل

إلا ويوجعه في قلبه الكمد

وهبك من كبد في جنب صاحبها

أليس يحمل ما تغلي به الكبد

عجبت لامرأة هانت وما اعتبرت

ومن رجال أهانوها وما رشدوا

كلاهما رجل في الناس وامرأة

ولا مميز إلا ذلك الجسد

وكل ما حولهم في الذل مثلهم

يستعبد الكل حتى النهر والبلد

يا بنت مصر ولا قوم نعزيهم

ولا بلاد ولا أهل ولا ولد

زاغت عيون بني مصر وضل بها

غيّ النفوس وهذا الجهل والفند

فأنت في نظر الراقين سائمة

وفي نواظر فلاحيهم وتد

وأنت بينهم في كل منزلة

صفر اليسار يستكمل العدد

أقام في رأسك الجهل الذي سلفت

به الليالي وفي أضلاعك الحسد

وما يحلان بيتًا كان في رغد

إلا وهاجر منه ذلك الرغد

(فالسحر والزار والأسياد) جملتها

لأهلها نكد ما مثله نكد

ما أنت في الصين والأوثان قائمة

وللشياطين في كل الأمور يد

تالله لو كان من علم وتربية

شيء يمازجه ذا الصبر والجلد

إذًا لما سخرت من بنت جمعتها

من يومها السبت أو من يومها الأحد

فهل أرى رجلاً فينا أو امرأة

بعد الخمود وطول الذل ينتقد

يا قوم لو نام ليث الغاب نومكم

لاستنكف الفار إن قاولوا له أسد

فهذه القصيدة تشعر بأن الشاعر يرى وجوب تعليم النساء ليسلمن من الأوهام والخرافات، ولكن له ما يدل على خلاف ذلك، كقوله في المقاطيع:

يا قوم لم تخلق بنات الورى

للدرس والطرس وقال قيل

لنا علوم ولها غيرها

فعلموها كيف (نشر الغسيل)

والثوب والإبرة في كفها

طرس عليه كل شيء جميل

وأحسن ما قرأت في هذا الديوان قوله في فنون من الوصف وذكر الليل:

تقاصر عمر الزمان الطويل

ولا بد من أجل للعليل

وضاق به الأفق ضيق القبور

فزم الكواكب يبغي الرحيل

وراح فخفت هموم القلوب

كما سار بعد المقام النقيل

لقد كدت أبغض لون الظلام

لولا شفاعة طرف كحيل

طوى الشمس فاختبأت أختها

نفور الغزالة من وجه فيل

وكانت إذا احتجبت قبله

تجاذبها نسمات الأصيل

ترى البدر غار فأغرى بها

وكل جميل يعادي الجميل

أم الحظ أرسل لي ذا الدجى

فكان الرسالة وجه الرسول

أم الليل قد قام في مأتم

فمنه الحِداد ومني العويل

ولم أنس ساعة أبصرتها

وجسم النهار كجسمي نحيل

وقد خرجت لتعزي السماء

عن بنتها إذ طواها الأفول

على مركب أشبهته البروج

تمر به كالبروق الخيول

إذا قابلته لحاظ العيون

سمعت لأسيافهن صليل

وإن قاربته ظنون النفوس

رأيت النفوس عليه تسيل

وقد أخرجت نفحات الرياض

زكاة الرياحين لابن السبيل

وقد عبث الدل بالغانيات

فذي تتهادى وهذي تميل

كأن الحواجب قوس فما

تحرك إلا جلت عن قتيل

كأن القلوب أضلت قلوبًا

فكانت لحاظ العيون الدليل

حمائم في حرم آمن

بهذا الضلوع بناه الخليل

وما راعها غير لون الدجى

يصدئ لوح السماء الصقيل

فيا قبح الليل من قادم

بوجه الكذوب ومرأى العذول

بغيض إلينا على ذله

وشر من الذل بغض الذليل

وكم عزني بالأماني التي

أرتني أن زماني بخيل

ومن أمل الناس ما لا ينال

كما أن في الناس ما لا ينيل

وثمن النسخة خمسة قروش وأجرة البريد قرش ويطلب من المكتبة الأزهرية بمصر.

_________

ص: 512

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حقوق المرأة في الإسلام

أيقظت المدنية الأوربية العالم كله، ووجهته إلى حياة جديدة من العزة والقوة

فمن الشعوب الشرقية من سار إلى هذه الحياة من طريقها فأدركها، و (كل من سار

على الدرب وصل) وكل قارئ يعلم أن هذا هو الشعب الياباني، وهناك قوم

آخرون من الوثنيين في الهند يسيرون على هذه الطريق، ولو كان لهم استقلال في

الحكم لصاروا دولة عظيمة. وأما الشعوب الإسلامية فقد وقفت أمام هذه المدنية

موقف الحائر لا تدري كيف تستفيد منه وأول شعب إسلامي ولَّى شَطرها هو الشعب

المصري، فإن حكامه حاولوا اقتباس هذه المدنية منذ مائة سنة ولكنهم لم يسيروا

إليها من طريقها؛ فكانت العاقبة أن احتلت بلادهم دولة أوربية في الربع الأخير

من القرن.

لم يوجد للمسلمين حكومة تقودهم في الطريق الموصلة إلى النافع من هذه

المدنية مع الترقي من مضارها، ولم يكن لهم زعماء في الدين والعلم؛ إذا قالوا

يسمعون؛ وإذا هدوا يتبعون، بل ظهر في شعوبهم المتمتعة بشيء من وشل الحرية

أو غمرها (كمسلمي روسيا والهند ومصر) كتاب ومؤلفون يدعون إلى شيء من

الإصلاح الاجتماعي الذي حولت العالم إليه مدنية أوربا، ولكن صوت العارف

الناصح من هؤلاء الكتاب يكاد يخفى بين ضوضاء الغوغاء من المتطفلين والمقلدين

والمتَّجرين بالكتابة والصحافة، ولا غرض لهم منها إلا إرضاء عامة الدهماء، أو

التزلف إلى بعض الحكومات أو الرؤساء، ولو من الأجانب والغرباء، والدهماء في

جهل مبين، لا تميز بين الغث والسمين.

لا يكاد يوجد أصل من أصول الإصلاح الذي يحتاج إليه المسلمون إلا وله في

دينهم دليل يرشد إليه، أو سبق عمل يعول عليه، وقد حكموا التقاليد والعادات في

أعمالهم فلا إلى هدي الدين يرجعون، ولا بما تقضي به حال العصر يعتبرون،

وإنما تتدافعهم التقاليد القديمة والحديثة فيندفعون، ولا يدرون في أي طريق يسيرون

ولا إلى أي غاية يصيرون.

أمامك مسألة تربية النساء وتعليمهن وهي من أعظم مسائل الاجتماع في هذا

العصر والمسلمون في حيرة لا يدرون الصواب فيها، وقد كثر اختلاف الكتاب

والمصنفين فيها، حتى كأنهم في مجموعهم خيال ذلك الشاعر الذي أوردنا كلامه

المتناقض في النساء آنفًا. صاح بعض الكتاب في الهند ومصر أن علموا النساء

وربوهن، فلا ارتقاء لكم مع جهلهن، فصاح بهم آخرون إنكم مخطئون، تفسدون

في الأرض ولا تصلحون، وقد سمعنا في هذه الأيام صيحة جديدة من مسلمي روسيا

فإن أحمد بك آجايف أحد كتابهم المشهورين ألف كتابًا باللغة الروسية سماه حقوق

المرأة في الإسلام، ونقله إلى اللغة العربية سليم أفندي قبعين وطبعه وقدمه إلى قاسم

بك أمين الذي فتح بمصر باب الفتح في (مسألة النساء) بكتابه (تحرير المرأة) ثم

كتابه (المرأة الجديدة) .

ليتني كنت أدري ماذا كان لكتابه من التأثير في بلاده، ولعله كان أقرب إلى

قلوب الجمهور هناك من كتاب تحرير المرأة إلى قلوب الجمهور هنا؛ لأن الناس

هناك أكثر اعتدالاً، وأشد استعدادًا فيما أظن، ولأن أسلوب الكتاب يوافق المسلمين

عامة إذ برز في صورة الدفاع عن الإسلام والرد على الأجانب الذين يسيئون به

الظن، ويكثرون فيه الطعن، فقد ذكر الكاتب شيئًا من إفك الإفرنج واختلاقهم في

الإسلام، وطعنهم في النبي، عليه الصلاة والسلام. ثم ذكر إنصاف أفراد منهم

عرفوا شيئًا من الحق؛ فنطقوا ببعض ما عرفوا. ومن هنا انتقل إلى الكلام في

حقوق النساء في الإسلام؛ لأن الإفرنج يبالغون في الطعن بأحكام الإسلام في النساء،

ويعدونها من أكبر علل الشقاء: ذكر ما كان عليه النساء في الأمة العربية وغيرها

قبل الإصلاح الإسلامي ثم إنه ذكر الأحكام التي انفرد بها الإسلام في ذلك مستشهدًا

بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأحكام الفقهية على بعض المذاهب وقد انتقل

بعد ذلك إلى التاريخ فتناول منه شيئًا من سيرة المسلمات اللواتي اشتهرن بالعلم

والأدب.

ويقول المؤلف في الحجاب: إنه ليس من الإسلام في شيء.

وجملة القول أن الكتاب نافع لا يخلو من أفكار جديدة ويقل فيه ما يتناوله

النقد، فنشره مما يزيد المسلمين بصيرة في هذه المسألة إن كانوا يطلبون البصيرة

ليعملوا بها، وأنى لنا العمل ومن ذا الذي يعمل، وهذه مصر التي يذكرها المؤلف

ويظن أنها عاملة قد كثرت فيها الكتب المؤلفة في تربية المرأة وتعليمها لم تتغير

الحال بها، بل لا تزال الأمة تتدحرج في التيار الذي قذفتها فيه الحرية الشخصية

والتقليد الصوري فيزداد النساء تبرجًا وتهتكًا، وزمام تعليم البنات في أيدي

الأوربيين، واللورد كرومر ينادي في تقريره الأخير بما علمه القراء في مقالات

(الحياة الزوجية) فنحن في حاجة شديدة إلى مدرسة إسلامية للبنات كالمدرسة التي

كان الأستاذ الإمام عازمًا على إنشائها للجمعية الخيرية وسترى ذكرها في ترجمته

رحمه الله تعالى.

_________

ص: 514

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب الرسائل الزينبية

زينب فواز أشهر النساء المتعلمات الكاتبات بالعربية لما لها من الرسائل في

الصحف المنشرة، والكتب والقصص المنتشرة، وقد جمعت رسائلها المتفرقة في

الجرائد، وطبعتها في ديوان واحد، فإذا هي سبعون أو تزيد، وكم فيها من بحث

طريف وموضوع جديد، كالكلام في بدعة الزار، وما فيها من الأوزار، وكوصف

حفلات الأعراس، في بيوت كبراء الناس، وما للنساء من التقاليد والعادات، في تلك

البيوتات، ومن هذه الرسائل مناظرات بينها وبين بعض الكاتبين والكاتبات، ومنها

ما هو في وجوب تعليم البنات. وثمن النسخة خمسة قروش صحيحة يضاف إليها

قرش أجرة البريد، وهو يطلب من مؤلفته المقيمة في سوق السلاح بمصر.

_________

ص: 516

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تبرج النساء في مصر

للكلام في مصر دولة ذات صولة، بل له دول متعددة يصول بعضها على

بعض والحرب بينها سجال، وأكثرها يقع في عالم من الوهم والخيال، هو بمعزل

عن عالم الحقيقة والأعمال.

قال قوم: إن النساء أسيرات الحجاب في سجون الحجال، قد استضعفهن

فاستعبدهن معشر الرجال، فيجب تحريرهن من هذا الرق، والمن عليهن بنعم العتق،

فقام آخرون يقولون: إن هذا الحجاب حكم أنزله الله في الكتاب، فالتهاون فيه

إهمال للديانة، وجناية على العفة والصيانة، وقد أكثر هؤلاء القول وسودوا

صفحات الصحف في التألم والشكوى من الدعوة إلى تخفيف الحجاب، ونبز من

يراه بالألقاب.

ليس من غرضنا أن نقول: إن هؤلاء أو أولئك مخطئون، وإنما الغرض أن

نبين أن مسألة الحجاب مسألة كلام ومراء، لا مسألة إرشاد وإصلاح، وأن الغيرة

فيها ليست غيرة على الصيانة وآداب الإسلام، وإنما هي تغاير في ذرابة اللسان

وخلابة الأقلام.

نحن نعلم أن نساء المدن الذين يطلق عليهن لفظ المخدرات والمحجبات، لا

يبلغن عشر نساء المسلمات، ثم إن مظهر هذا الحجاب، وعنوانه هو البرقع

والملحفة التي تعرف (بالملاءة) أو (الحبرة) وإن خَلَت صاحبتها بالرجال،

وشاركتهم في بعض المعاملات والأعمال، وكان الأصل في هذا البرقع أن يستر

الوجه حتى لا يظهر منه إلا العينان، والأصل في هذه الملاءة أن تستر الرأس وجميع

البدن فلا يبدو منها شيء.

فما زال هذا البرقع يرق حتى صار يشف ما وراءه فيبدوا مستورًا أجمل منه

مكشوفًا، وما زال يدق من جانبيه ويتدلى من أعلاه، والملاءة تنحسر من حوله

فتظهر الجبهة وقصبة الأنف والأذنان والليتان (صفحتا العنق) والوجنتان، ثم

خرجت الملحفة التي تعرف بالملاءة وبالحبرة عن كونها ملحفة تستر البدن والثياب

والزينة؛ فصار نساء الأغنياء والمتوسطين ومن قلدهن من دونهن يستبدلن بالملحفة

الساترة عمارة قصيرة تتدلى من الرأس إلى المرفقين، وكساء من نسيج العمارة

يشددنه على خصورهن ويزررن العمارة به من أقفائهن، ويخرجن وهن كذلك إلى

الأسواق والشوارع حاسرات عن معاصمهن المحلاة بالأسورة وسواعدهن إلى

المرافق، وإذا رفعت إحداهن يدها ظهر ما وراء المرفق من العضد لأن أردان

جلبابها واسعة جدًّا تشبه أردان (فرجيات) شيوخ الأزهر.

هذا ما تراه من صيانة مخدراتنا المسجونات وراء الحجاب، في زعم أنصاره

باللسان والكتاب: يتبرجن في الأسواق والشوارع تبرج الجاهلية الأولى مظهرات

جميع زينتهن لجميع الناظرين فلا قرط ولا خاتم ولا سوار ولا خلخال، إلا وهو

معروض في الطريق لأنظار الرجال، والرأس نصفه مكشوف وكذاك الوجه إلا ما

على الفم وأرنبة الأنف من تلك الحريرة البيضاء التي تسمى البرقع، وما هو إلا من

نوع الشفوف المعروف بالسابريّ (الذي يكون المكتسي به كالعريان) أو النهنه

الذي هو أرق من السابريّ.

أين أصحاب الغيرة الإسلامية الذين حملوا على قاسم بك أمين تلك الحملة، أن

قال: إنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وأن لا تخلو

بأجنبي ولا تزيد؛ لأن هذا هو الحجاب المشروع؟ ألا يحملون على اللواتي أظهرن

الشعور، والنحور، والمعاصم، والسواعد، والمرافق والأعضاء، وطفقن يتبرجن

بزينتهن هذه في كل مكان؟ ألا يحملون على أزواجهن وآبائهن وأخواتهن وسائر

أهليهن فيسفهون أحلامهم، ويحركون غيرتهم، ويأمرونهم بإمساك أموالهم أن تنفق في إعانة نسائهم على هذا المنكر العظيم؟ لماذا ثارت حميتهم على القائل، ولم

تثر على الفاعلين والفاعلات. فإن زعموا أن القول لا يفيد؛ فلماذا خافوا من ذلك

القائل، ولماذا قالوا في حقه ما قالوا؟.

النساء في مدن مصر لسن مسترَّقات فيُدعى إلى تحريرهن، ولسن مظلومات

فيُدعى إلى الرفق بهن، وإنما هنَّ مسترِّقات للرجال، ظالمات لهم في الأنفس

والأموال، والسبب الغالب في هذا هو جهل الرجال، وضعف إرادتهم، وسوء

إدارتهم، فهم غير رؤساء في بيوتهم، فإذا كان تعليم البنات وتربيتهن على ما يحب

دعاة المدنية سببًا لنهوض الأمة من كبوتها وارتفاع شأنها؛ لأنهن يربين الرجال

فيكونون أصحاب عزائم، ويعلمنهم فيعرفون حقائق المصالح، كما أنهن يربين

صنفهن على التوفير والاقتصاد، والعمل الموافق لمصلحة البيوت ومصلحة

البلاد، فمن المطالِب الآن بتربية النساء؟ لا جرم أنهن هن المطالبات بتربية

أنفسهن؛ لأنهن متصرفات بإرادتهن لا بإرادة أوليائهن، ولكن هل يسمعن النداء،

ويميزن بين ما يدعو إليه الجهلاء والعقلاء؟

الحق أنه لا يرجى أن نقوم بتربية حسنة للبنات يرجى منها مقاومة تيار الفساد

الجارف إلا بتحقيق أمنية الأستاذ -الإمام رحمه الله وهي إنشاء الجمعية الخيرية

مدرسة لهن على الوضع الذي كان عازمًا على تنفيذه في العام القابل بعد القيام بجمع

الإعانة له في هذا الشتاء كما نذكر ذلك في موضعه؛ فإذا كان عدد أهل الغيرة على

الدين والشرف، وعلى الآداب والمدنية كثيرًا؛ فليبذلوا المال للجمعية وهي زعيمة

بهذه الخدمة كما كان يريد ويحاول، رحمه الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 517

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خنوثة الرجال وفسوقهم

بينا في النبذة الماضية أن النساء قد استضعفن الرجال فاتبعن الهوى، وضللن

طريق الهدى. وصار التبرج في الأسواق، وإبداء الزينة للصالحين والفساق، سنة

في العمل متبعة، وإن كان في الشرع بدعة محرمة، ولذلك يوشك أن تعم جميع

النساء؛ لأنهن خلقن مولعات بالتقليد في الأزياء، والذنب في ذلك كله على الرجال،

فهم الرعاة وعليهم تبعة الاختلال.

يرخي الرجل لامرأته الطوَل بعد أن يبذل لها ثمن ما تشتهي من الحلي

والحلل، ويخرج إلى الطرق والمتنزهات، يستشرف للظباء السانحات، فلا تمر به

عذراء إلا ويلقي إليها قولاً، ولا تلمحه عوان إلا ويطلب منها نيلاً، وقد حملني على

هذا الذي كتبت الآن أنني رأيت رجلين في سن الكهولة عليهما أثر النعمة يتمشيان

في شارع من أعظم شوارع القاهرة فمر بهما فتاتان صبيحتا الوجه فكرَّا على

عقبيهما يقتفيان أثر البنتين، وينبذان بكلمات التصبي التي تَغْثَى لسماعها نفس

الحرّ حتى تكاد تقيء.

صادف هذا المنظر من نفسي أشد الاستهجان؛ على أنني لا أكاد أمر في شارع

ولا أطل من كوّ إلا وأرى ما يحاكيه، أو يزيد قبحًا وشناعة، وكأن السبب في ذلك

أنني توهمت الأدب والكمال في الكهلين.

رأيت منذ أيام شابًا يَتَأَثَّر فتاة في جَادَةٍ واسعة في أحد جانبيها قمامة وأقذار

فكان كلما دنا منها بعدت عنه حتى اضطرها إلى المشي في ذلك الجانب القذر فرارًا

من قذارة نفسه، ونتن أخلاقه، وما كان امتعاضي من هذا المنظر إلا دون امتعاضي

من منظر ذينك الكهلين اللذين كانا يتكلمان بما يعد في العرف البلدي ظرفًا وذوقًا.

ما كل متبرجة بغي أو ملتمسة خدن، بل فيهن المقلدة في الزي كيلا تعاب بين

النساء بالعجز عن مجاراة صنفها، أو بالتأخر فيما يسمونه (المودة) ولكن هذا

التبرج مطمع للفساق- وما أكثرهم لا أكثر الله من أمثالهم- ولهم العذر فقد ورد في

الحديث (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه ابن

خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ودخلت امرأة مِن مُزَيْنَة المسجد تَرفُل في زِينة

لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس

الزينة والتبختر في المسجد؛ فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة

وتبخترن في المساجد) رواه ابن ماجه، والتبختر في الشوارع والمَنَازه أَدْعى إلى

الفتنة منه في المساجد، فهل من ذي نفس أبية وغيرة إسلامية، يسعى في إبطال

هذه الأزياء الفاضحة، والمعاصي القادحة، وهل للكتاب أن يحملوا على هذه

العادات الشائنة حملة منكرة في الجرائد، لعلهم يفيدون؟.

_________

ص: 519

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحداد والمآتم

وقفت على عادة من عادات البيوت في الحداد، لم أكن أعلم بها من قبل هي أن

النساء يفرشن البسط والطنافس في البيوت مقلوبة، ويجعلن على الأرائك والحشايا

التي يُجلس عليها نسيجًا أسود، ويغيرون سائر ما في البيت من الأثاث والمتاع بعضه

بالقلب، وبعضه بالنزع، وبعضه بتغشيته بالسواد؛ ليكون كل شيء مذكرًا بالمصاب

باعثًا على تجديد الحزن، وإثارة الشجن. وهذه العادات عامة لا يكاد يخلو منها بيت

عالم، ولا جاهل، ولا رفيع، ولا وضيع إذا مات أحد من أهله لا سيما كبير البيت.

وإننا نحمد الله أن لم يبتل من رُبِّينا بينهم من الأهل والمعاشرين بهذا البعد الشديد عن

هدي الدين، والسخط لقضاء الله، تعالى. ونسأله تعالى أن يوفق علماء هذه البلاد

وكتابها إلى الاجتهاد في تغيير منكرات الحداد والمآتم، وإزالة ما اعتيد فيها من البدع

والمآتم.

_________

ص: 520