الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة
ملخص سيرة الأستاذ الإمام
(2)
دخوله في الماسونية - من التمهيد
كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً
عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك، إلا أنه
كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في
حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر
تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة
بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع
مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته
على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل
في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء.
وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله، ومكان صاحب الترجمة
من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه
وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة
المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز،
وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل. وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول:
إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد
أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب،
وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله. وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد
التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا
يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما
يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد
التعارف بين الناس.
وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد
تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل.
وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد
للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته،
ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان
مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق
الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل
الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال
الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا
سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على
الجمعية
…
إلخ ما قاله. ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء
المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض
علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك
بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه
من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال
الدين.
إصلاحه في مدارس الحكومة والأزهر
إذا تمهد هذا فنقول: قد عين الفقيد في أواخر سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في
مدرسة دار العلوم، وللعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيهما
مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة
ابن خلدون؛ لأنه مقدمة للتاريخ، وإنما غرضه بث أفكاره السياسية والاجتماعية في
أذهان التلاميذ فكان يطبق ما فيها من الكلام عن نهوض الدول وسقوطها وشؤون
العمران وأصوله على أمته ويبين أسباب ضعفها والوسائل التي تذهب به وتعيد إليها
ما فقدت من عزها ومجدها، وكان يكلف التلاميذ كتابة المقالات والفصول في ذلك؛
فكان كل واحد يشعر بروح جديد يدب في هيكله ويرى نفسه مخلوقًا لخدمة بلاده
وإعلاء شأن أمته. وقد كتب رحمه تعالى في ذلك العهد كتابًا حافلاً في علم الاجتماع،
وفلسفة التاريخ انتقد فيه بعض ما قاله ابن خلدون، واستدرك عليه وبين ما
نسخته طبيعة الاجتماع في هذا العصر من أحكام العمران في العصور الغابرة،
وكان في مدرسة الألسن آية البيان في إحياء اللغة العربية، وإشراع الطريق اللاحب
في التعليم، والخروج بالطلاب من مآزق العهد القديم، ثم إن دروسه في الأزهر
كانت بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر
العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان
يقرأ في بيته درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين قرأ في ذلك كتاب
تهذيب الأخلاق لابن مسكويه فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى وقرأ كتاب (كيزو)
في السياسة ولا أدري أتمه أم لا.
كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة من السكان في مصر تحيي
اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية، فقد كانت هذه
الحكومة لذلك العهد قد رثت ووهت، ووقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها
سلطان الأجانب، وأحاطت بها سيول الفتن من كل جانب، ومنيت الأمة التي تمدها
بالمتربة والمسغبة، وضربت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا
في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس، فأما آثار إسماعيل باشا في
البلاد فلا يزال الكهول والأشياخ يحدثون بها الشبان والغلمان، وأما ما فعله السيد
جمال الدين ومريده الشيخ محمد عبده من السعي في إصلاح الحكومة في الحال،
وتربية الرجال لأجل الاستقبال، فلا يعرفه إلا من كان يعمل معهما، ويتلقى عنهما،
ومن شاء من أهل هذه الديار، أن يروي شيئًا من تلك الأخبار، فليراجع من بقي
من تلامذتهما الأخيار، كالشيخ عبد الكريم سلمان وسعد بك زغلول وإبراهيم بك
اللقاني وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح وسلطان أفندي محمد وغيرهم. ولو
طال العهد على عملهما لتم لهما المراد، ولما حدثت الثورة العُرابية، ولكن خانهما
الزمان، وما قدر كان.
كان من عمل السيد جمال الدين ومريديه أن اتصلوا بولي العهد توفيق باشا
الخديو السابق، واتفقوا معه على تغيير شكل الحكومة وإصلاح شئونها؛ فكان يعدّ
السيد والشيخ من أقوى أنصاره وأوليائه، ولما انتهى الحيف والجور والخلل بخلع
إسماعيل باشا، ونصب توفيق باشا أميرًا على مصر في رجب سنة 1296 طفق
السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل
الوزارة مسئولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من
غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها،
فأمر بنفي السيد، فأُخِذَ من داره ليلاً في عربة مقفلة وليس عليه غير قميص واحد
وأرسل في قطار خاص إلى السويس، ومن هناك ذهب إلى الهند وأمر بعزل الشيخ
من مدرسة دار العلوم، ومدرسة الألسن، وبأن يقيم في قريته (محلة نصر) لا
يفارقها إلى بلدة أخرى، وخاصة عاصمة البلاد والمدن الكبيرة كالإسكندرية وغيرها.
وكان ذلك في رمضان سنة 1296.
عمله في المطبوعات والحكومة
وفي أواسط سنة 1297 توجهت عناية رياض باشا إلى تحسين كتابة الجريدة
الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبًا فيها من الناس، فاستشار الشيخ حسين المرصفي
ومحمود باشا سامي البارودي كُلاًّ علي حدته فأشارا برأي واحد كأنهما تواصيا به
وهو جعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها ففعل بعد أن استرضى توفيق باشا؛ فصدر
الأمر العالي بتعيينه محررًا ثالثًا، وانتظر رياض باشا مدة من الزمن فلم يرَ تغييرًا
يُحمد. ثم إنه كتب من الإسكندرية يأمر قلم المطبوعات في مصر بأن تكتب مقالة
في مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي، وحالها الحاضر الذي وضع له
قانون التصفية، وأن تنشر هذه المقالة في أول عدد يصدر من الجريدة الرسمية
وكان قد بقي له يوم واحد، فحاص كُتَّاب الجريدة وحاروا وأرسلوا إلى صاحب
الترجمة من أحضره من الأزهر وكلفوه كتابة المقالة فكتبها في مجلسه ونشرت فلما
قرأها رياض باشا أعجب بها أشد الإعجاب وسأل عن كاتبها فقيل له هو فلان فزاد
عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع
شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه. وفي أواخر هذه السنة طلبه رياض
باشا وسأله عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فبين له رأيه في تقرير ضاف، فأمر بأن
تؤلف لجنة للنظر في التقرير من وكيل الداخلية، ومدير المطبوعات، وكاتب
التقرير، وأن تضع لائحة لقلم المطبوعات، وتحرير الجريدة فكان ذلك، وعُين
الفقيد رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية العربية، فاختار لها من المحررين المهرة
الشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ سعد زغلول (هو سعد بك زغلول المستشار
بمحكمة الاستئناف لهذا العهد) والشيخ سيد وفا رحمه الله وهم ممن كانوا
يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين وبرعوا في الكتابة معه على يد السيد
ثم ماذا كان من شأنه؟ كان ما لم يكن يخطر على قلب بشر وهو أن رئيس التحرير
للجريدة الرسمية صار مهيمنا على الحكومة والأمة ينتقد الأعمال والأقوال، وينتقل
بالناس من حال إلى حال.
وضع لائحة أو قانونًا لقلم المطبوعات أجازه، وأنفذه رياض باشا؛ فكان من
أحكامه أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها ملزمة
بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات مخبرة بما عملت فأتمت، وما شرعت فيه، وكذلك
المحاكم ترسل إليها نتائج أحكامها، وأن لإدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما
تراه منتقدًا من الأعمال، وأن لها حق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي
تصدر في القطر المصري، وأن تبحث عن حقيقة ما تقوله في رجال الحكومة
وأعمالها، وعلى الحكومة مساعدتها على ذلك بمعنى أنه إذا نشر في بعض الجرائد
ما ترتاب إدارة المطبوعات فيه؛ فإن لها أن تسأل المصلحة أو الإدارة التي يسند
إليها ذلك عن الحقيقة بواسطة نظارة الداخلية إن لم يكن ما نشر مسندًا إلى النظارة،
وإلا سألتها هي مباشرة؛ فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة
مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب
مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها
ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة. وأن من حق رئيس تحرير الجريدة الرسمية أن
يجعل فيها قسمًا غير رسميّ ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعًا من المقالات الأدبية
ويدخل في الأدبية الاجتماعية والاقتصادية ما أشبه ذلك- وقد أجاز هذا القانون وأنفذه
رياض باشا لما له من العناية بالإصلاح ولثقته بكفاءة صاحب الترجمة، وغَيْرَتِهِ
وإخلاصه في الخدمة العامة، وإن في هذا لعبرة لأولي الألباب، صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين فيشرف
من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها،
ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون، ثم
يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوم من أخلاقها. ويصلح ما فسد من عاداتها،
بالوعظ الصحيح، والإرشاد الحقيقي، ويطل من نافذة ثالثة على الجرائد العربية
فيعلمها حسن التحرير، ويربيها على الصدق في القول ويجعل للصادق منها
سلطانًا نصيرًا، وتأثيرًا مأثورًا، يا لها من عمامة شرفت برأس صاحبها حتى
حسدتها الطرابيش، وهابتها التيجان والبرانيط، ونذكر هنا على سبيل الفكاهة أن بعض الكبراء رغبوا إلى الأستاذ الإمام في ذلك العهد أن يستبدل الطربوش
بالعمامة؛ لأن صاحب العمامة لا يرتقي إلى مراتب الرؤساء والنظار
كصاحب الطربوش، فأبى عليهم ذلك فأرادوا الاستعانة عليه برياض باشا فأوهموه
أنه يميل إلى لبس الطربوش ولكنه لا يلبسه إلا بأمره فسأله فظهر له أنه لا يرغب
في ترك زيه، وأنه إذا ألزمه بذلك إلزامًا؛ فإنه يمتثل ما دام في عمل الحكومة؛
فإذا خرج من عمله عاد إلى عمامته؛ فقال رياض باشا: كلا، إنني لا أرضى لك
الطربوش؛ لأنني أحب أن يعلم الناس أنه يوجد تحت العمائم من العقول والأفهام
مثل ما يوجد تحت الطرابيش وغيرها. فلله دَرُّ رياض باشا، وجزاه الله الخير فإنه
هو الذي أحضر السيد جمال الدين ومكن له في أرض مصر، وهو الذي كان السبب
في ظهور مواهب الشيخ محمد عبده في أول نشأته حتى إنه حَكَّمَهُ في انتقاد نظارة
الداخلية وهو أحد العمال المتوسطين فيها.
كان من أثر مراقبة إدارة المطبوعات للجرائد أن اجتهد أصحابها في انتقاء
المحررين، وقد أنذر - عَامَلَه الله تعالى بإحسانه - مدير جريدة شهيرة بمنع جريدته
إذا لم يختر لها محررًا صحيح العبارة في مدة عينها؛ ففعل ذلك المدير. ولم يكن
يأذن بطبع كتاب من الكتب الضارة. وكان من أثر انتقاد كتاب الحكومة أن نبه شأن
المجيدين منهم، وفتحت مدارس ليلية لتعليم المقصرين، وتبرع - تغمده الله
برحمته - بقراءة درس في بعضها. فهذا هو مبدأ النهضة القلمية الحقيقية في مصر
فالفضل فيها للسيد جمال الدين، وللشيخ محمد عبده، رحمهما الله تعالى.
وأما انتقاد أعمال الحكومة فكان من أسباب تحريها الحق، والعدل، والاجتهاد
في إصلاح كل نظارة، وقد عني الفقيد يومئذ بنفسه في انتقاد نظارة المعارف ومثل
مساوي التعليم والتربية في مدارسها شر تمثيل؛ فضاق ذرع ناظر المعارف لذلك
العهد فلاذ برياض باشا شاكيًا من الجريدة الرسمية، فقال له رياض باشا: إن كان ما
كتب حقًّا فلا وجه للشكوى منه، وإن كان باطلاً فعليك أن تبين ذلك بالدليل والبرهان،
وفلان ينشره في الجريدة الرسمية نفسها؛ فإنه لا يقصد بما يكتب فيها إلا المصلحة
فسكت الناظر واجمًا.
عمله في مجلس المعارف الأعلى
اقتنع رياض باشا بما في نظارة المعارف من الخلل، وعلم أن ما يكتب في
الجريدة الرسمية حق فذاكر الفقيد في ذلك، وفي وسائل تلافيه، فعرض عليه أن
يكون للمعارف مجلس أعلى يكون له الحكم الفصل في إدارة المعارف العمومية
ويكون الناظر منفذًا لما يقرره، فأنفذ ذلك رياض باشا، وجعل صاحب الترجمة
عضوًا في هذا المجلس؛ فكان له فيه الاقتراحات النافعة للبلاد، ولولا كثرة ما جعل
فيه من الأعضاء الأجانب الذين يعارضون المشروعات النافعة ثم حدوث الثورة
لارتقت معارف البلاد في ذلك العهد ارتقاء عظيمًا. صدر الأمر العالي بتشكيل هذا
المجلس في 28 ربيع الآخر سنة 1298 وقد تألفت منه لجنة للنظر في إصلاح
طرق التعليم والتربية في جميع المدارس، وكان الفقيد الكاتب العربي لجلساتها، وكان
له فيها الآراء الصحيحة، والحجج القيمة على ما يطلب من الإصلاح.
أذكر من اقتراحه شيئًا سمعته، ولا أدعي أنني أحيط به كل الإحاطة وهو أنه
اقترح مرة على المجلس أن يطلب من الحكومة مبلغًا عظيمًا من المال يوزع على
المدارس الأجنبية مكافأة لها على خدمة العلم ونشره في البلاد فهش الأعضاء
الأوربيون لهذا الاقتراح، وعارض فيه بعض الأعضاء الوطنيين ووافق الآخرون
الذين عرفوا ما يرمي إليه المتقرح فتقرر بأكثر الآراء. ثم إنه اقترح في جلسة
أخرى أن يقرر المجلس وجوب جعل المدارس الأجنبية تحت مراقبة نظارة المعارف
لينظر مفتشو النظارة في نظام التعليم فيها، فهش الأعضاء الوطنيون لهذا الاقتراح
وعارض فيه الأجانب، فأقام عليهم الحجة بأن جميع الدول الأوربية تراقب
جميع المدارس التي تأخذ منها إعانة وتفتش مدارسها إذ يجب على الحكومة أن تعلم
أنها لا تضيع دراهمها، بل تنفقها فيما ينفع بلادها. فقال بعضهم: إن هذا قول حق
وإنما نعارض الآن في هذا الاقتراح؛ لأننا نعلم أن المعارف في مصر منحطة وإنما
اجتمعنا لترقيتها وأرباب المدارس الأجنبية مرتقون في العلوم والمعارف، ولا يصلح
السافل للإشراف على من هو أعلى منه، ولا المنحط للحكم على المرتقي. فقال
الفقيد - رحمه الله تعالى -: كان يصح هذا الدفاع لو لم تكن أنت ورفاقك من أعضاء
مجلس المعارف المصري؛ فإذا كان الطلب في نفسه حقًّا وعدلاً فلا يصح أن يرفض؛
لأن المعارف العمومية لم ترتق في البلاد المصرية؛ لأن عدم ارتقاء المعارف
وانتظام المدارس لا ينافي وجود أفراد من الموظفين في النظارة من الأوربيين أو
المصريين المتعلمين في مدارس أوربا العالية يصلحون لتفتيش المدارس الأجنبية،
فنهضت حجته وتقرر اقتراحه.
وإنها لأمنية يتلحز على ذكرها السلطان والأمير، ويسيل لتوهمها لعاب الناظر
والوزير، ولكن تقف دونها الآمال حسرى، وتنحني أمامها العقول حيرى، وتكبو
في غاياتها جياد السياسة، ويصغر عن الطمع فيها أهل الرياسة، ثم تسمو إليها تلك
الهمة، وتستنزلها من أعلى القمة، ولولا الفتنة العُرابية لجعل لنا ذلك العضو أو
الكاتب سيطرة على مدارس الأجانب على ما كان لهم في ذلك الزمان من النفوذ
والسلطان، فكيف لو كان ذا منصب أعلى، ونفوذ أقوى؟
دعوته نظارة الأوقاف إلى الإصلاح
كان لنظارة الأوقاف من حظ إرشاده، نفعنا الله بعلومه وآثاره نحو ما كان
لسائر النظارات ومصالح الحكومة، وكان من تأثير إخلاصه أن عزمت هذه النظارة
يومئذ على عمل جليل وهو أن تصل دار الكتب المصرية (الكتبخانة) ومدرسة دار
العلوم بالأزهر، وتوسع دائرة المدرسة بحيث تدرس فيها جميع العلوم ويبلغ عدد
طلابها 500 طالب، ويكون المتخرجون فيها هم المقدمين في أعمال الحكومة، ولو
تم هذا لكانت الأوقاف ينبوع الحياة لهذه البلاد. ولكن حال دون هذا ودون ما كانت
الحكومة شرعت فيه من الإصلاح الإداري والقضائي والعسكري تلك الفتنة
المشؤومة.
الثورة العرابية
علم مما تقدم أن البلاد المصرية كانت في أواخر إمارة إسماعيل باشا في
ظلمات بحر من الظلم لُجيّ، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات
بعضها فوق بعض، ظلمة الجوروالظلم، وظلمة الفقر والفاقة، وظلمة الشرور
وفساد الأخلاق، والآداب، وظلمة تحكم الأجانب، وسيطرتهم على الحكومة بحجج
المراقبة المالية لما لها من الديوان على إسماعيل باشا وسلطتهم على الرعية التي
أغرقها في الاستدانة منهم كثرة الضرائب والجزى، وكثرة الضرب وسوء الجزاء،
وكان يظهر من غمرات هذه الظلمات بصيص من النور في مواضع مختلفة لمعت
جَذْوة منه في الأزهر فنفخ الشيخ عليش نفخة أخمدتها ولكنها ما أطفأتها، ثم كان هذا
النور يظهر في معاهد خاصة فتعشو إليه الأبصار، ويسير في ضوءه من سار، حتى
أشرق وتلألأ في إدارة المطبوعات، وانتشر نوره في سائر الجهات، وكان ما كان
من أخذ الحكومة والناس بوسائل الإصلاح ومقاصده فرحين مستبشرين بأميرهم
الجديد (توفيق باشا) لعفته عن أموالهم، ورغبته في إصلاح حالهم، وبوزيرهم
العامل المخلص (رياض باشا) وإذا بناجم الفتنة قد نجم، وطائر الشر قد وقع، إذ
هب ضباط الجيش من المصريين يطالبون بحقوقهم، وأيديهم على مقابض
سيوفهم، وتلك هي ما يسمونه بالثورة العرابية.
لا يعنينا في هذا المقام خبر هذه الثورة ولا تاريخها، وإنما يعنينا أن نبين في
تاريخ أستاذنا أنه كان كارهًا لها، منددًا بزعمائها وهو بينهم؛ لأنه كان يعلم أنها
تحبط عمله الذي مضى فيه، وكل إصلاح تعمله الحكومة أو تنويه، وأنها تمهد
للأجانب سبيل الاستيلاء على البلاد، بل كان هو وأستاذه يتوقعان ذلك من سيرة
إسماعيل باشا، وقد صرح السيد بذلك في خطبه وفي بعض ما كتب وطبع لذلك
العهد، وحاول أن يحول دون ما يخشى ويتوقع بالسعي في الإصلاح، فليس ما
نقوله عن أستاذنا من أنه كان لا يجهل خطر الثورة بالدث والرجم بالغيب، بل هو
قول مؤيد بالدلائل وثابت بالرواية الصحيحة عنه، وعن الصادقين من العارفين بما
كان.
كان ينتقد على زعماء الثورة بالقول خطابة وجدالاً في أنديتهم وسمارهم
وبالكتابة في الجريدة الرسمية حتى أرسل إليه عرابي مرة من يتهدده، ويقول: إنك
أهنت الشرف العسكري بما كتبت عن الجيش ورؤسائه. أرسل إليه ضابطين إلى
قلم المطبوعات من الداخلية فطردهما وهددهما بالضرب إذا هما لم يخرجا. وكان
عرابي وأعوانه ينفضون من المجلس يدخل فيه.
زار مرة طُلبة باشا في أيام عيد الفطر، فإذا بعرابي وأعوانه جلوس يتكلمون في
الاستبداد والحرية، والحكومة المطلقة، والحكومة النيابية الدستورية، واتفقوا على
أن الأمن على الأرواح والأموال، وصعود الأمة في مراقي الكمال، من آثار
الحكومة المقيدة بلا جدال، وأن هذا التحويل قد آن في مصر أوانه، وأدركها إبَّانه،
فعارض الأستاذ في ذلك، وقال: إن أول ما يجب أن يُبدأ به التربية والتعليم لتكوين
رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة
على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة
واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تنشأ في المديريات والمحافظات، وليس
من الحكمة أن تعطى الرعية ما لم تستعد له فذلك بمثابة تمكين القاصر من التصرف
بماله قبل بلوغ سن الرشد، وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد. فطفق
عرابي يجادله هو وأحد أساتذة المدرسة الحربية، وكان مما احتج به الفقيد عليهما
أن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك
بالقوة العسكرية معنى؛ فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه
ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالاً
أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة. عند ذلك أبدى المجادل نواجذه لغير
تبسم، وقال أرجو أن لا أستحق هذه اللعنة، وليس الجند هو يطلب مجلس النواب،
ولكنه مؤيد لطلب أعيان البلاد ووجهائها، ثم أسر إلى الأستاذ أن سلطان باشا جمع
الأعيان لهذا الطلب. وقد كتبنا في ص512 من مجلد المنار الرابع ردًّا على
صحافي عرَّض بأن الأستاذ الإمام كان من أركان الثورة العرابية نذكره هنا وهو
عرض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة الفتنة
العُرابية ويعرف المتهورين فيها، والناصحين لهم بالاعتدال، فهو لا يعرف ولا
يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكتابين، وعند ذلك
تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل الكبير
العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية في
القسم الأدبي منها على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين
يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا،
ويسمع من أتباعه ما يكره. وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم
في زعماء الثورة العرابية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم وأن يقوم فيهم خطيبًا.
ماذا كان موضوع خطبته؟
كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن
القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطتها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين
الرعية، إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح
والتربية النافعة، وصار لهم رأي عامّ، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن
الخواص، والأغنياء، ورجال الحكومة يطلبون مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة
امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف، ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك فكيف
حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) فهل تغيرت سنة الله في الخلق
وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ إليه أحد من
العالمين، حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في
جاهكم ومجدكم، وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة الإنسانية؟ أم تسيرون على حيث
لا تدرون، وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا
ينغضون رءوسهم وعلا على أفهام الآخرين.
هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين ولو كانوا
يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم، ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم
ولما تستعد الآن، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض، رحمه الله تعالى:
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى
…
ولكنها الأهواء عمت فأعمت
هذ ما كتبناه منذ أربع سنوات كاملة، ولا حاجة إلى كثرة الشواهد والوقائع في هذه
السيرة المختصرة.
ولا يلتبسنَّ على القارئ معارضة الإمام للعرابيين في مشروع مجلس النواب
وتقييد السلطة مع أنه كان الداعي الثاني إلى ذلك بعد أستاذه، وأول من تلقى ذلك
عنه، فإنه كان يحاول أن يكون ذلك برضى الأمير وحكومته، لا بالخروج عليه
وأن يكون في البداية من قبيل التمرين والتعويد مقرونًا بالتربية والتعليم إلى أن تبلغ
النابتة الجديدة أشدها، وتصل من طريق الحكمة إلى رشدها، وقد رأيت كيف كان
التوسل منه فيما رويناه لك عنه، وهو لم يفارق القوم المطالبين بالصلاح عند مهب
الفتنة، ويلجأ إلى قصر الإمارة أو يتفيأ ظلال العزلة، لأنه في فكره وسط بين
الطرفين، وفي عمله بين المصلحتين، وقد قال لعرابي مرارًا كثيرة: عليك بالهدوء
والسكينة، وأنا أضمن لك أكثر مما تطلب في بضع سنين، ونهاه بعد ذلك عن محاربة
الإنكليز.
انتهت الثورة بالاحتلال الإنكليزي، وقبض على زعمائها وألقوا في غيابة
السجن ليحاكموا فيقتلوا تقتيلاً. وجعل الفقيد منهم لأمر ما، وصدر الأمر بأن تكون
محاكمتهم بالقانون الإنكليزي، وعين لهم محام إنكليزي جاءهم فسمع منهم وكلفهم أن
يكتبوا دفاعهم بأيديهم كل يكتب عن نفسه، ولا يطعن في غيره، فلم يرَ في كتابة أحد
ما تقوم به الحجة، وتقعد به التهمة، ويدل على الغوص في أعماق الحوادث،
والإحاطة بما لها من الأسباب والنتائج إلا ما كتبه وما قاله فقيدنا بالأمس، وقد زاد
المحامي على بيان ذلك أن أشعره بالخفايا، وأطلعه على ما في زوايا القصر من
الخبايا، كقوله: إن الحاشية خاطبت محافظ الإسكندرية بلسان البرق بكذا في يوم كذا
وعدد كذا بأن يفعل كيت وكيت. وأعطاه من المستندات ما يقلب وجه المسألة، ولا
ترضى إظهاره السياسة، وسنشرح ذلك في تاريخ الفقيد بالتفصيل. حكم على
عرابي ورفاقه المعروفين بالنفي الأبدي، وعلى صاحب الترجمة بالنفي ثلاث سنين
وثلاثة أشهر. وقد كان النفي بلاء وشقاء على كل المنفيين حاشا الإمام؛ فإنه كان
رحمة له ونعمة عليه ومزيدًا في كمال علمه وتربيته وسببًا لنشر علمه في بلاد كثيرة؛
ذلك أنه كان من أهل الإخلاص والتقوى فجعل الله تعالى له من كل ضيق فرجًا
ومخرجًا بل بدل له النقمة نعمة والسيئة حسنة، فكان مبدأ حياة جديدة له نبينها فيما
يلي هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
الدين في نظر العقل الصحيح
لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي
(المقالة الثانية)
النبوة
النبوة إصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى على يد شخص يصطفيه من
بين خلقه. معنى أنها من قِبل الله أنها ليست مستمدة من معلومات من جاور هؤلاء
المصطفين الأخيار من الأقوام. بل هي أرقى بكثير مما عليه الناس وما وصلوا إليه.
وفائدتها تقدم العالم بسرعة إلى الإمام وإصلاح ضمائر الخلق وما تكنه صدورهم
بسبب ما توجبه من الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عقاب أو ثواب؛ وبذلك تستقيم
أمورهم في السر والعلن، ذكرنا الإيمان باليوم الآخر وحده ولم نذكر الإيمان بالله مع
أنهما مرتبطان أتم الارتباط؛ لأن الأول لا سبيل للعقل أن يجزم به بدون النبوة
بخلاف الثاني فالعقل وحده كاف لمعرفته ومعرفة صفاته كما بيناه آنفًا. إذ الغرض
الأكبر من النبوة حمل الناس على الإيمان بذلك اليوم وإصلاح حالهم الدينية والدنيوية
إصلاحًا لا يصِلون إليه بأنفسهم، ولو بعد مئات من السنين إن لم نقل آلاف منها.
هذا ولما كان محمد عليه السلام المثال الأكبر للأنبياء وتاريخه أقرب عهدًا وأصح
سندًا رأيت أن أتكلم على حياته بما يقتضيه المقام؛ إيضاحًا لما أجملته فيما مر من
الكلام، وهذا يستلزم ذكر أحوال العالم في ذلك الوقت، ثم أحواله عليه السلام
وما أتى به من الإصلاح في الأرض، ولذا أبدأ الآن بوصف حالة العالم في عصره
فأقول:
كثرت المشاغبات في الدين، وطمس نور الحق بين العالمين. تشعبت الآراء
وتعددت الأهواء، وعبد كٌّل ما شاء الشيطان من الأباطيل. عَمَّ السجود للأوثان،
وعبدت الصور والصلبان، واعتقد الناس الألوهية في التماثيل. خلط الخلق في
شأن اللاهوت، وتوهموا ظهوره في الناسوت، فاتخذ البشر آلهة من دون واجب
الوجود. سهل على الناس اعتقاد السلطة في بعض الأفراد، وظنوا أن بيدهم
الإشقاء والإسعاد، فهابوا مقامهم وأعلوا شأنهم، فطغى أولئك وبغوا، وافتروا ما
شاءوا من الأحكام، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام. أصبح
الناس عبيدًا أذلاء، في جهالة عمياء، اشتغل الرؤساء بالمطامع الشخصية، وتفانوا
في الحصول على لذاتهم البهيمية، وأخذوا العويص من المسائل الدينية ذريعة
للمشاجرات والمماحكات. فتعددت البدع وكثرت الفرق وظهرت مذاهب الإباحيين
والدهريين، أثار كل رئيس من تحت يده من المرؤوسين، وأشهروا الحرب على
الآخرين فأريقت دماء العالمين.
هذا كان حال الأمم في كل بقعة من الأرض، وفي بلاد العرب أدهى وأمرّ. عم
الفساد وزاد العناد، وزال العلم، وحل الجهل، وفسدت الأخلاق في سائر الآفاق.
ليس ما ذكر تخيلات شعرية، ولا أفكار وهمية، بل هي حقائق تاريخية
اتفق عليها أهل العلم، ولم يشذ عنهم ذو فهم.
ظهر في هذا الوسط الجاهل والظلام الحالك، الذي يضل فيه كل سالك، محمد
العربي والنبي الأمي. ونشأ يتيمًا فقيرًا لا أب له يهذبه ويربيه ولا معلم يرشده
ويهديه.
قد يزعم بعض المجادلين أنه تعلم القراءة والكتابة ليدفع بذلك ما سيُلقى على
سمعه من قوة البرهان ولكنه وهمٌ نُزيله بما يأتي من الدلائل الواضحة:
(1)
أن الجمهور الأعظم من أمته كان أميًّا إلا نفرًا قليلاً؛ فإذا أضفنا إلى
ذلك يُتمه وفقره وأميته فلا نجد أي حامل يحمله على تعلم القراءة والكتابة؛ إذ أولى له
أن يسعى على عيشه من أن يصرف وقته في الحصول على شيء لا يعرفه إلا
القليل ممن جاوره.
(2)
تعلم القراءة والكتابة يحتاج إلى زمن ليس بقصير، وخصوصًا في
بلاد ليس فيها دور للعلم ولا كتب ولا مدرسون؛ فلو سعى في تعلمهما لوجد مشقة
عظيمة ولما أمكنه إخفاء أمره إذ لا بد أن يشاهده الناس ولو مرة واحدة مع أنه كان
يجاهر بأميته على رءوس الأشهاد، ولم يوجد من يعارضه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ
مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
(3)
لم يعهد عنه أنه كان يماشي أحدًا ممن اشتهر بمعرفة القراءة والكتابة
قبل نبوَّته.
(4)
لو كان أحد من الناس يعلمه لاضطر النبي إلى تقديمه على أصحابه
ولأظهر له احترامًا زائدًا، ولفاه المعلم بذلك لبعض الناس مع أنه لم يحصل شيء
من ذلك مطلقًا.
(5)
لم يشاهد أنه في منزله أو خارجه قبل النبوة أو بعدها كان يستعمل
قرطاسًا أو قلمًا في تأليف شيء ما، أو تدوينه. فلو فرضنا أنه لم يشاهد وهو يتعلم
فيبعد جدًّا أن لا يشاهد وهو يستعمل القراءة والكتابة في شئونه الخاصة.
(6)
لو كان ابتدأ بتعلم القراءة والكتابة لا لقصد دعوى النبوة لأظهر افتخاره
بذلك وجاهر به ولو كان لقصد دعوى النبوة فمن البعيد جدًّا أن يدبر حيلة كهذه
وخصوصًا إذا أضفناها إلى غيرها مما يسميه أعداؤه حيلاً؛ فإنها تغيب عن أذهان
الفلاسفة والسياسيين؛ لأنهم إذا دبروا عدة حيل يظهر أمرهم، ولو في إحداها على
ممر الأزمان، فكيف يتأتى لواحد مثل محمد في أول نشأته أن يدبر كل ذلك بنفسه
ويكتمه حتى يصير كهلاً، ولا يفتضح أمره مرة واحدة؟ إن ذلك لبهتان عظيم.
والخلاصة: أن حاله ووسطه الذي تربى فيه كان اليتم والفقر، والجهل
والأمية؛ والأوهام، والضلال، والوثنية، وقد أحاط به فساد الأخلاق من جميع
الجهات، والتف حوله عشيرته الغارقة في بحر من الخرافات والترهات، فكيف
كان تأثير ذلك في نفسه؟ لم يكن له ذاك التأثير المعهود بل نشأ منشأ يخالف ما عليه
أهله وقومه: بغضت إليه الوثنية في مبدأ عمره. فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم قط،
أو احتفل بمعبود مع أهله. كانوا يشربون حوله الخمور، وينغمسون في الشهوات
والفجور، وهو بعيد عنهم منكر عليهم، كانوا يشتغلون بالتافه من الأمور ويثيرون
الحروب لمسائل واهية، ولم يكن هو منهم، كانوا يقومون ويقعدون، ويتفانون
ويقتتلون لقصيدة أو بيت شعر وهو لا يحفل بذلك ولا يجاريهم عليه. ماذا كانت
حاله إذًا؟ الجد والاستقامة دأبه، والصدق والأمانة طبعه حتى عرف بين أهل
مكة بالأمين وهو في ريعان شبابه. ينهمك الشبان عادة في الشهوات ولو كانوا
معلمين مهذبين، ولكنه هو يتزوج العوان ويبقى معها إلى ما بعد الأربعين حتى حين
وفاتها ولا ينظر إلى سواها ويعيش معها بكل طهارة وعفة فلم يسمع عنه أنه ارتكب
منكرًا في زمن شبابه، أو علق بحب فتاة أو مَالَ إلى عشقها مع أن قومه كانوا
غارقين في هذه البحار، وقصائدهم تشهد بذلك. ماذا كان شغله إذًا؟ كان شغله
رعي الأغنام، ثم التجارة، ثم التعبد في الخلاء والتحنث بمناجاة الله تعالى.
قام عند بلوغه الأربعين بدعوة الخلق إلى عبادة الحق وقرر أن للعالم إلهًا
واحدًا بريئًا من كل ما ينسبونه إليه مما لا يليق به وأثبت ذلك بالحجج البينات، أمر
الناس باستعمال الفكر والعقل في كل شيء ونهى عن التقليد وحض على النظر في
الموجودات. أطلق للناس الحرية الصحيحة وحرم عليهم الخضوع لرئيس في الدين
أو لأي أحد سوى رب العالمين، ومنعهم من الالتجاء إلا إليه مباشرة وأمرهم
بالاستعانة به وحده. أعطى الروح والبدن ما يطلبانه بشرط أن لا يضر بهما ولم
يحث على المبالغة في الزهد ولا الرهبانية، بل أمر بالسعي والعمل وتصريف
الأعضاء فيما خلقت لأجله مع مراعاة أن لا يضر ذلك بالمرء أو بغيره. أباح
الطيبات وحرم الخبائث. وأمر بالعدل والمساواة ومسالمة المخالفين في الدين
ومعاملتهم بالتي هي أحسن والتوفيق بيننا وبينهم ونهى عن الإكراه في الدين وأوجب
تأمين الراغبين في النظر فيه ولو وقت الحرب {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6)
إلى غير ذلك مما لم تهتد إليه الناس في الغرب إلا بعد أن وصل إليهم شعاع من نور
الإسلام في الشرق. فارجع البصر إلى تاريخ أوروبا قبل الإصلاح الديني بلوثر
وقبل الإصلاح السياسي بالثورة الفرنساوية لتعرف ما كانوا عليه. أتى مع ذلك
بجميع الأخلاق الفاضلة المعتدلة والعبادات الصالحة والمعاملات الكاملة والمبادئ
السليمة والسياسات القويمة وغيرها مما كان السبب في إصلاح أمر الإنسان وتحريره
من العبودية، وإنقاذ العقل من الأسر، ورده إلى مملكته؛ ليحكم فيها بالقسط فنهض
الشرق نهضة سريعة عالية لم يعهد لها مثيل في التاريخ، ثم امتدت إلى الغرب.
فهذه هي آثار ذلك الأمي وهذه هي أعماله فماذا يجيب الضالّون؟
زعم بعضهم بعد أن سلم بأميته أنه لابد أن يكون تلقى ما أتى به من أحد الناس
بالمشافهة؛ فيجيب بأن ذلك التلقي الموهوم إما أن يكون حصل قبل النبوة أو بعدها.
فإن كان قبل النبوة، فإما أن يكون حصل ذلك في بلاده، أو في غيرها، أما
في غيرها فهو لم يسافر إلا إلى بلاد الشام، وذلك مرتين الأولى مع عمه أبي طالب
قبل بلوغه رشده، والثانية في سن الخامسة والعشرين مع غلام خديجة وفي كلتيهما
لم يكن منفردًا ولم يشاهده أحد من التجار المسافرين معه يتلقى العلم عن أحد ولم
يغب عن قومه إلا مدة التجارة وإلا لو غاب عنهم بضع سنين لقالوا له: لعلك تعلمت
هذا مدة غيابك عنا. وهم لم يفوهوا بمثل هذا مع أنهم كانوا يحاولون أن يلصقوا به
هذه الشبهة وهي التعلم من الناس وأيضًا فأي حامل يحمل هذا الفقير الذي نشأ هذا
المنشأ الذي بيناه ولم يوجد من ينبهه ويرشد فكره لفضيلة العلم حتى يترك ما يقتات
به وهو في تلك البلاد الأجنبية وما به إرضاء خديجة التي بعثته إليها ويجهد نفسه
في البحث عن عالم ليس من أمته، ولم يكن على عقائدهم ويرضخ له حتى يبعث في
قلبه كل هذه التعليمات ويسلم له فيما خالف معتقد آبائه وأجداده؟.
وإن زعم أنه حصل ذلك في بلاده فهو غير ممكن لأسباب:
(1)
أنه كان يُشاهَد يفعل ذلك، ولو مرة واحدة.
(2)
أن المعلم له إما أنه كان من الوثنيين، وهذا لا يمكن أن يعلِّمه ما في
التوراة والإنجيل وغيرهما من عقائد الموحدين، وإما أنه كان من اليهود، وهذا لا
يمكن أن يعلمه أخبار المسيح وأمه والإقرار لهما بالفضل والنزاهة، وإما أنه كان من
النصارى، وهذا لا يعلمه أن ينكر لاهوت المسيح، ولا التثليث، ولا الصلب ولا
أن يرمي النصارى بالتحريف في كتبهم، ولا غير ذلك مما يوجد في القرآن من
الإنكار عليهم، وإما أنه كان من المبتدعين، ومثل هذا أولى أن يشتهر بين الناس
بنفسه أو تعرف له علاقة في التاريخ بمحمد عليه السلام تؤهله أن يتعلم منه.
(3)
أي حامل يحمل هذا المعلم على إجهاد نفسه، وصرف وقته في تعليم
هذا الغريب الأمي، ولِمَ لَمْ يدعُ الناس إلى هذه الأشياء بنفسه، أو يختار أحدًا ممن
اشتهر بشعر أو بخطابة أو شيء من العلم، أو كان له جاه أو أعوان أو مال أو غير
ذلك مما يكسب المهابة في قلوب الناس.
(4)
أنه من الصعب جدًّا أن يقدر أحد من الناس أن يهذب هذا الأميّ كل
هذا التهذيب، وأن يخرجه من عقائد آبائه وأجداده ويدخل في ذهنه مسائل النبوة
والوحي، والتنزيه، والتوحيد ويجعله يعتقد ذلك اعتقادًا يقينيًّا إلا إذا كان هذا المعلم
مقتدرًا عالمًا حكيمًا، ومثل هذا لم يعرف له ذكر في بلاد العرب، ولا فيما جاورها
فكيف لم يشتهر بالعلم والفضل، وأي مؤرخ لذلك العهد ذكر كلمة عن أحد مثل هذا
متمسكًا بما يوجد في القرآن من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق
والمبادئ وغيرها.
(5)
لِمَ لَمْ يُسِرّ هذا المعلم إلى أحد بأنه يعلم محمدًا ويهذبه وما الذي حمله
على إخفاء هذه المسألة وكتمها هذا الكتمان المطلق؟ .
(6)
لِمَ لَمْ يُشاهد محمدًا يحترم أحدًا قبل نبوته أكثر من غيره، أو يلوذ به
ويلازمه كما هو شأن التلميذ مع معلمه؟ .
(7)
أي شيء ألزمه الصبر أربعين سنة ولم يجعله يسارع إلى دعوى النبوة،
ولم لم يبادر إلى سرد القصص التي تعلمها مرة واحدة. وكذلك الأحكام والعقائد
وغيرها خوفًا من الذهاب من الذاكرة والنسيان، وهو الأمي الذي لا يمكنه أن
يستعمل مذكرة لشيء مطلقًا خوفًا من أن يطلع عليها أحد وهي معه. شأن الذي يريد
أن يدعي شيئًا مثل هذا أن يظهر عليه عدة محاولات تدل على ما تطويه سريرته،
ثم يتجرأ فيزداد شيئًا فشيئًا، لا أن يسكت أربعين سنة ثم يندفع بدعواه مرة واحدة
بعزيمة واحدة قوتها في الأول كقوته في الآخر.
(8)
كيف أن هذه الفكرة لم تأخذ بلبه ومشاعره فتجعله مشتغلاً بها طول
السنة؟ وكيف يتناساها أحد عشر شهرًا ويشتغل بها شهر رمضان فقط من كل سنة
فيستعد فيه لما سيدعيه كما يزعمه أولو الأهواء في عزلته السنوية؟ عادة المفترين
أن تأخذ مثل هذه النيات بحواسهم وعقولهم حتى يظهر للناس أنهم دائمًا في انشغال
بال، ولكن النبي ما كان يشغله شيء عن شيء وإلا لأنهك الفكر بدنه، وصار سقيمًا،
وكلت قواه العقلية من كثرة الحيل، وتعدد الصعوبات التي كان يلاقيها فتضعف
عن أن تدبر كل ما كان يدبره لولا الإرشادات الإلهية، والإلهامات الربانية وكيف
علم أنه لن ينقضي أجله حتى يتم القرآن في آخر سنة من حياته ويأمن على نفسه
فيأتي به نجومًا نجومًا؟
وإن كان التعلم حصل بعد ظهوره بالنبوة:
(1)
فكيف ابتدأ دعواه على جهله، وأي منبه قام بفكره حتى حمله على ذلك
وكيف ضمن أنه يجد من يعلمه.
(2)
لِمَ لَمْ يشاهَد مرة يلجأ إلى أحد الناس ليتعلم منه؟ .
(3)
لِمَ لَمْ يقدِّم هذا المعلم ويفضله على أصحابه أو يوصي له بالخلافة ولِمَ
بقي معلمه مرءوسًا له، ولم يكن رئيسًا عليه؟ (راجع أيضًا الأوجه السابقة) .
(4)
لِمَ لَمْ يوجد بين أصحابه من كان يأنف من أن يتلقى العلم عنه ويخضع
لأمره وينتهي بنهيه، فأين كان هذا المعلم حتى ساوى نفسه بأصحابه؟ هذا ولم
يعرف أحد بينهم ممتازًا بعلم سوى ما أخذه بإقرارهم جميعًا عن كتاب الله وحديث
رسوله فإن كان هذا المُعلم موجودًا في عصر النبوة، فلِمَ لَمْ يشتهر قبل دعوى محمد
بالعلم الفلسفة؟ ولِمَ أخفى نفسه حتى ادَّعى محمد النبوة؟ ولِمَ لَمْ يظهر بين العرب حتى
تجلّه وتحترمه احترامها لمحمدٍ؟ وأي شيء استفاده حتى يكتم كل هذا؟ فيالله من
التعصب الذي يُعمي ويُصمّ.
علمت مما تقدم أنه كان أميًّا، وأنه لم يتلق العلم عن أحد شفاهيًّا فكيف أتى بما
أتى؟ وكيف عمل ما عمل؟ شيء آخر في تاريخه، وهو أنه لم يجارِ العرب في
الاشتغال بالشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو غير ذلك مما كانت تتفانى فيه العرب
ولم يشتهر بينهم بشيء من ذلك مطلقًا ولم ينقل عنه أنه قال كلامًا في منتهى البلاغة
قبل نبوته وكان قليل العناية بمجتمعاتهم وافتخارهم بنثرهم ونظمهم فكيف أتى بهذه
البلاغة الخارقة للعادة؟ وكيف أتى بهذا الأسلوب المعجز واخترعه؟ وكيف لم
يوجد فرق في البلاغة بين أول ما نزل من القرآن وآخره مع أن العادة أن الإنسان
يتدرج في الشيء فيكون آخر ما أتى به أحسن مما ابتدأ بإنشائه؟ وكيف يكون الكل
معجزًا مع أن المعتاد من البلغاء أن يكون بعض كلامهم في منتهى البلاغة والبعض
الآخر ليس كذلك؟ كيف لم تجد العرب إعجازًا في كلامه الذي ينسبه لنفسه قبل
النبوة أو بعدها؟ مع أنه لم يظهر عليه شيء يدل على عنايته بإنشاء أحدهما دون
الآخر، بل كثيرًا ما كان يقول أحدهما في عين الظروف التي يقول فيها الآخر بدون
تكلف أو تحوير فيما يلقيه من أول وهلة. كيف أمكنه الجزم بأن جميع الناس لن
تقدر على الإتيان بكلام مثل القرآن منفردين ومجتمعين، ويخبر بذلك قبل وقوعه
ويصدق خبره {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) الآية وغيرها فما هذه
الحجج الملجمات؟ وما هذه البراهين المفحمات؟.
قام بالدعوة إلى الله وحده، ولا حول له ولا قوة، والناس حواليه أحباء ما
ألفوا أعداء لما دعوا إليه. فسفه آراءهم. ونكس أصنامهم. ولاقى بسبب ذلك منهم
ما لاقى ما يثبط الهمم ويذهب بالعزائم، لولا تثبته في أمره وجزمه بالظفر والنجاح.
نجا من جميع الشراك التي كانت تُنصب له في الحروب وغيرها، وسَلِمَ من الدسائس
التي كانت تعمل له والتربصات لقتله غِيلةً، التي كانت تعقد عليه، ووعد أصحابه
بالنصر والفتح والتمكين في الأرض والخلافة، فوقع كل ذلك لهم، وصدق في جميع
ما أخبر به من المغيبات. تحققت نبوته وصح إخباره بانتصار الروم على الفرس
في السورة المعروفة مع أنهم كانوا في حالة لا يرجى معها نصر لشدة ضعفهم وقوة
عدوهم، وهو لم يكن من السياسيين ولا المطلعين على مواقع البلاد وأحوال الأمم
وتاريخها فكيف يتأتى له الحكم بشيء مثل هذا ويعرض نفسه للتكذيب والخذلان مع
أن المسألة ليست مما يهم كثيرًا، حتى يبت الحكم فيها؟ فلولا ثقته بالوحي لما تجرَّأ
على القول بأنهم سيغلبون في بضع سنين، وعرض نفسه للسخرية والتكذيب وهو
أحرص الناس على عدم افتضاح أمره كما يقول أعداؤه. وإذا صحت قراءة من قرأ
(سيغلبون) بالبناء للمجهول، أي أن المسلمين تغلبهم ففيها أيضًا الإخبار بمغيب لو لم
يقع لظهر كذبه! . اجتمعت عليه العرب مرة أحزابًا واتحدوا على محو ذكره من
الوجود انتقامًا. فأرسل الله عليهم ريحًا وألقى في قلوبهم الرعب من غير سبب ففروا
انهزامًا. وكفى الله المؤمنين القتال. فما كل هذه المصادفات إن صح ما يقول
الواهمون الذين يتمحكون بهذه التأويلات الفارغة ويتمسكون بالتعليلات الباردة.
سمعت من بعضهم بعد أن أدهشه الدليل بأن النبي لم يتعلم من واحد مخصوص قولاً
يريد به تسكين نفسه وتهدئة خاطره، وهو أنَّ ما كان يسمعه النبي ممن حوله من
الناس في مسائل الدين سهل عليه الإتيان بما أتى به، وأنه كان يتصيد معلوماته
ممن جاوره من النصارى واليهود باستراق السمع منهم فأقول له: مهلاً أيها المعجب
بتفسيراته، المغرور بتعليلاته، واستمع لما سأتلو عليك وأنت شهيد، ولا تكن ممن
عن الحق يحيد:
إنه لم يكن في مكة من أهل الكتاب إلا أشخاص يعدون على أصابع اليد
الواحدة، وكانوا من أجهل الناس، وأحطهم مقامًا في الهيئة الاجتماعية، وكانوا
يحترفون بدنيء الحرف، كخدمة بعض العرب أو الاتجار في بعض أشياء حقيرة.
وقد نزل في مكة من القرآن ما كان محمد في أشد الحاجة إلى من يلقنه إياه فهل يسلم
العقل أن علم محمد مستفادة من هؤلاء الأشخاص؟
هبْ أنه كان يتصيد المسائل من نصارى العرب ويهودها، فكيف أمن من
الوقوع في خرافاتهم التي يجزم العقل ببطلانها كقصة شمشون، وما يتعلق بقوته
وشعره ونحو ذلك من الأوهام التي كانت ولا تزال منتشرة بين النصارى واليهود إلى
اليوم؟ لم تنزَّه كلامه عن أضاليلهم في المسألة اللاهوتية كعقائدهم في المسيح
والصلب والتثليث، ومصارعة الله بعض الأنبياء، وظهوره بمظهر شخص لم يترو
فيما فعل فندم بعد ذلك على ما وقع منه كأنه لم يكن يعرف عواقب الأمور؟ أليس
من المعهود أن الإنسان يقع في بعض غلطات من كان يجعل كلامهم معتمدة فيما
يعتقد أنه صواب؟ فلماذا لم يقع محمد في خطأ واحد من خطئهم؟ !
كيف سلم كلامه من الغلطات في المسائل العلمية التي كانت منتشرة بينهم في
ذلك الوقت كاعتقادهم أن الشمس وقفت لفلان، أو رجعت بعض درجات، وأن
الحية لا تأكل إلا التراب، مع أنها لا تأكل التراب، وكالأوهام في شأن جنة عدن
وما ذكر معها من الأنهار مما لا يصدق به إلا الجهلة من أهل التخريف إلى غير ذلك
مما كان ذائعاً بينهم ولا يزال إلى الآن. هل يعرف الأمي الذي نشأ في وسط الجهل
وفي زمن الجهل ما صح من المسائل وما فسد منها حتى إنه لا يقع في كلامه إلا
الصحيح مع أن انتشار الخرافات والأقوال الفاسدة كان بحيث إذا كلف فليسوف
بانتقادها واختيار صحيحها لوقع في الوهم، ولحكم على بعض الصحيح بأنه باطل
وعلى كثير من الباطل بأنه صحيح، وخصوصًا في ذلك الزمن، وفي تلك البلاد
العربية التي كان فيها العلم عبارة عن مجموع خرافات للعجائز اختلطت بشيء لا
يخلو من الصحة من بعض الوجوه؛ فما بالك بمحمد الأمي والرجل العامي؟ .
أيتصور أن هذا الرجل الذي كان يعتقد في أهل الكتاب أنهم غاشون ماكرون
يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفترون على الله الكذب، ويكتبون الكتاب بأيديهم،
ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا، أيتصور منه وهو يعرف كل هذا
عنهم أن يثق بأقوال يسمعها من أفواه الجهلة منهم، ويزعم بعد ذلك أنها من عند الله
مع أنه ما كان يثق بقول أعظم عالم من علمائهم، بل كان يرميهم بأنهم لا يفهمون
حقائق ما عندهم من الكتاب، وأنهم يختلقون أشياء كثيرة لتضليل عامتهم وغشهم؟
فكيف يعول النبي الذي لا ينكر أحد رجحان عقله على قولهم مع أنه شرح للناس
مكرهم وكذبهم، وكيف لا يخاف أن يكذبوا عليه ويغروه ويقعوه في الخطأ الذي لا
يمكنه التخلص منه. وكيف يسلم لأحد منهم ما يقوله في دينه مع أنه يجوز أن يكون
مخطئًا، ولا أثر لما يقول في الدين لما نشاهد ذلك كثيرًا في المسلمين، وغيرهم فكم
من غلط وقع فيه الكُتَّاب الغربيون أثناء كلامهم عن الإسلام وعن عقائدهم بسبب ما
يسمعونه من جهلة المسلمين.
هل يمكن للعامي الأمي إذا سمع خليطًا من قصص بني إسرائيل من أفواه آحاد
الناس في مجالسهم مشوهة ممزوجة بكثير من الخرافات كما هو شأن العامة في
أحاديثهم غير مرتبة على حسب وقوعها، وغير مفصلة تفصيلاً يزيل ما اشتبه على
الأفهام بحيث لا يُدرى صحيحها من كذبها، أن يفهم منها حقيقة تاريخهم وعقائدهم
ودعوى أنبيائهم، ويأتي بعد ذلك بتفاصيل أهم حوادثهم، وذكر أعظم رجالهم وما
حدث لهم ويشير إلى ترتيب أزمنتها وإلى بعض البلاد التي وقعت فيها وإلى موقعها
الجغرافي، كأن يومئ إلى موقع البحر الأحمر بالنسبة إلى مصر بقوله: {فَأَتْبَعُوهُم
مُّشْرِقِينَ} (الشعراء: 60) ويأتي على القصص الطويلة كقصة يوسف وموسى
وإبراهيم ولوط وغيرهم ويعرف نسبة كل منهم إلى الآخر ويرتبها على حسب
ترتيبها الطبيعي من غير تقديم أو تأخير في حوادثها، أو يخلط فيها مع أن هذا
التاريخ أجنبي عنه وعن قومه ولم يدرسه دراسة تمكنه من أن يكتب إحدى حوادثه
الكبيرة؟ تصور حالة عامي من عامة المصريين إذا سمع أقوالاً متفرقة متشعبة من
أفواه بعض جهلة الأوروبيين عن تاريخه فهل يمكن هذا العامي أن يأتينا بشيء
عظيم صحيح من تاريخه مثل ما أتى به القرآن، ويسرد علينا آراءهم ومبادئهم
ومعتقداتهم، ويذكر أهم رجالهم ونسبتهم وتاريخ حياتهم وما أتوا به من الإصلاح في
بلادهم وينبه على وجوه العبرة في كل ما يقص علينا، وعلى ارتباط الحواث
بعضها ببعض، ولا يذكر إلا الصحيح منها، ويترك الأباطيل التي ألحقتها الأوهام
بها. قل لي بأبيك هل هذا ممكن؟ يزعم البعض أن في القرآن خطأ في هذه المسائل،
ويأتوننا بأشياء تعد على أصابع اليد الواحدة، ويزعمون أنها غلط من غير اعتماد
على دليل صحيح يعتد به.
فلو كان مصدر القرآن كما يقولون، هل كنا نجد فيه هذه الغلطات القليلة؟
(على زعمهم) فقط غير الثابتة، أم كنا نجد كل صحيفة ممتلئة بالأوهام والخرافات
والخلط في المسائل والخبط من غير اهتداء إلى صحيحها وذلك من غير كثير عناء
وتعب، بل مجرد مطالعتها كان يضحكنا ويجعلنا نهزأ بها ونتعجب من ترهاتها
وخصوصًا في زماننا هذا الذي صار فيه تلامذة مكاتبنا يضحكون من أفكار
بعض فلاسفة من سبقنا، ويتفكهون بذكرها ولا نحتاج إلى البحث والتنقيب،
وصرف الوقت في الحصول على هفوة قلّ أن تجدها في القرآن وإذا وجدناها؛ فإنها
لا تلبث أن تزول بعد التروي والتأمل والتعمق في البحث. فهل هذا هو ما ننتظره
في قول العامي المصري الذي ضربناه لك مثلاً أم كنا نستلقي على قفانا من الضحك
عند سماع بضعة أسطر من كلامه في المسائل الطبيعية، والتاريخية، والعمرانية،
والأخلاقية واللاهوتية والشرائع المدنية والعبادات الدينية - إذا حاول أن يملي علينا
شيئًا من ذلك؟ استحضر الآن في فكرك ما أتى به القرآن.
أليست الشريعة الإسلامية تضارع أعظم الشرائع كالرومانية وغيرها؟.
أليست الأخلاق المحمدية أكمل الأخلاق لتقويم النفوس مع خلوها من الضعف،
وما يوجب المسكنة وإذلال النفس وغير ذلك مما ورد في غيرها من التفريط أو
الإفراط؟
أليست قصص القرآن عبرة لمن اعتبر مع بُعدها عن سفاسف الأمور،
واللغو الذي لا فائدة فيه؟ قارنها ببعض أسفار العهد القديم مثلاً كسفري الملوك
وأخبار الأيام.
أليس من المبادئ الإسلامية ما لم تهتد الناس إليه إلا في العصر الحاضر؟ .
…
...
…
...
…
...
…
... محمد توفيق صدقي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حكيم بسجن طره
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________