الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر
أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي
أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:
70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .
تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين
ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً
مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً
يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،
وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .
ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن
يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين
استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء
المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس
بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في
كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى
و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ
إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .
ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم
وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته
في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد
نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير
والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء
الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،
وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام
الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،
وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-
إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،
ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من
الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في
أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل
والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه
قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،
وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف
عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام
مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ
مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .
أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو
إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال
من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع
لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،
إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام
أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .
أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد
أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم
والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر
إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة
الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد
بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان
ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار
وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من
عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين
يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل
المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية
والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه
يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .
دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني
اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن
والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،
وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم
من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون
ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون
أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في
كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على
أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟
لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك
إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل
فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .
إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة
لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:
ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان
والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور
وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من
ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ
الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في
قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم
مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،
التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا
وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .
إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا
أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية
إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن
الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة
منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،
إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن
المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده
يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة
للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد
المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة
بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة
زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن
يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على
جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة
الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء
بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في
المخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)
وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض
غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس
وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في
قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا
{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .
وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب
القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا
الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه:(صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من
الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب.
…
ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها
(س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن
عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:
الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة
الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي
الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،
أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا
الحديث الشريف؟
(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي
هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد
على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه:(يشرِّكانه)
بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،
وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا
ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:
إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة
مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن
الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في
طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه
على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم
تقليدًا أعمى.
ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل
ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله
اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله
عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!
وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا
أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة
ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير
بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة
قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن
أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى
المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.
أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس
أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف
الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته
لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛
ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره
وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل
عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،
كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على
الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما
أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.
والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار
الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل
لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير
من هذا الجزء شيء من ذلك.
ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق
مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم
وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى
باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14)، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في
هذا الجزء.
فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله
تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية
حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة
كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به
على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر
عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو
شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس
الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -
على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،
فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا
بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب
القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل
شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما
أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه
بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما
يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم
مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ
ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن
طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين
استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.
فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه
وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من
الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق
والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا
(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله
أعلم.
***
اختلاف المذاهب في الأحكام
وشهادة أوربي للإسلام
(س2) ح. ح. في الجبل الأسود:
فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل
التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين
الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي
الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،
ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف
لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض
وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند
الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت
لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.
(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي
لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛
إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛
ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له
صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:
إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو
الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة
الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد
المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا
بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات
الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل
فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في
آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .
أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون
بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى
السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء
من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى
أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها
آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن
الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي
يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه
وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما
إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.
***
نتف ريش الطائر
(س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في
شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل
الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف
ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت
هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في
تنظيفه؟
(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا
يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب
الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من
غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر
تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،
فينبغي تنبيههم له.
***
الصيد بالبندق والرَّصَاص
(س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت
الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة
مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية
عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة
فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون
هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما
في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا
في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟
(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده
فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد
بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.
وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،
وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،
وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا
وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في
المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب
ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق
والرصاص فهو كذلك.
***
الجبر والقدر
(س5) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
…
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا
ركينًا للمسلمين.
(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما
تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته
يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم
من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا
كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع
الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة
الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن
شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها
ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة
ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب
المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق
عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل
حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين
فهو من المجانين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
البحث الثالث
في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله
اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف
الرحيم، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:
كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا
على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات
ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،
وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا
يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف
ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام
رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ
وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس رضي الله عنه: (ما منا
إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى
الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -
جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب
والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.
ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم
فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.
وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، ثم قال: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد
انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم
يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه
قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب
ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل
على ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه
إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان
بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)
رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله
ابن بر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار
في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي
شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا
صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق
بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار
مطلق غير مقيد.
وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك
ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول
بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه
وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.
هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة
الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا
عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها
لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما
هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد
في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل
منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .
فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة
وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها
سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد
روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك
الشعراني في (كشف الغمة) .
وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من
الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] :
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا
يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر
رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي
رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانفض الناس إلا
اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا
…
إلخ) رواه أحمد والبخاري،
فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا
يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن
النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير
صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم
بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم
يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد
الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .
ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم
الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد
الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم
يثبت ذلك وهاك النصوص:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم
رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)
رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل
للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي
وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم
الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما
ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل
إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،
وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار
الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن
كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن
شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو
امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر
المسافر) .
وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث
النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه
المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى
ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير
بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب
صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح
للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ
وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول
عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من
كان محبًا للحقيقة منهم.
قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة
الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو
نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره
بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك
والخير في الاتباع والشر في الابتداع.
(الخلاصة)
اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن
الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا
مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على
التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه
بدقة وإنصاف، والله أعلم.
هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،
فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة
الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة
الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم
خالصة لوجهك الكريم.
_________
(*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت. اهـ منه.
(1)
اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم.
(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا
الخطبة فهي سنة فقط؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة)، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال:(أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ، قال أربعون رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم صحتها، بأقل من العدد المذكور؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، ولذا قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا رضي الله عنه (والظاهر أن العدد المذكور ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك اختلفت مذاهب العلماء في العدد، فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الجمعة تصح من الواحد وذهب إبراهيم النخعي، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين، وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري رضي الله عنهما إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث.
الكاتب: محمد الخضري
انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير
ابن جرير الطبري
تابع لما قبله
(73)
تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي
…
لوى يده الله الذي هو غالبه
ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149
وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا
والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة.
(74)
وإن مهاجرين تكنفاه
…
لعمر الله قد خطيا وحابا
ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكنفا غدا
…
بيد لقد خطئا وخابا
وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكيفاه غدا
…
بيد لقد خطئا وخابا
(75)
رمى فأخطأ والأقدار غالبة
…
فانصعن والويل هجيراه والحرب
في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب
فانصعن.
(76)
فلم أر معشرًا أسروا هديا
…
ولم أر جار بيت بستباء
في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) .
(77)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلت
ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا:
أسيئي بنا أو أحسني
…
لاملولة ولا معلنة أن تعلني
(78)
وليلة ذات ندى سريت
…
ولم يلتني عن سراها ليت
ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا:
وليلة ذات دجى سريت
…
ولم يردني عن سراها ليت
وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا.
(79)
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه
…
على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ
في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا:
…
..................
…
إذا ما غدت وإن تحدث تبلت
…
والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر
(80)
سلام الإله وريحانه
…
ورحمته وسماء دِرَر
في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا:
سلام الله وريحانه
…
وجته وسمادرته 7
وبعد البيت:
غمام ينزل رزق العباد
…
فأحيا البلاد وطاب الشجر
(81)
يا حبذا القمراء والليل الساج
…
وطرق مثل ملاء النساج
في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا:
ياحبذا القمر والليل ساج
…
وطرق مثل ملا النساج
(82)
وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة
…
ولكن عرايا في السنين الجوائح
في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا.
(83)
فهممت أن أغشى إليها محجرا
…
فلمثلها يغشى إليه المحجر
في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت:
ذهبت بعقلك ريطة مطوية
…
وهي التي يهدى بها لو تنشر
(84)
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
…
والعصم من شعف العقول القادر
ورد في موضعين:
(1)
في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا:
................
…
والعصم من سعف العقول الفادر
…
(2)
في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول.
(85)
هنالك لا أرجو حياة تسرني
…
سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط.
(86)
وإن كلابًا هذه عشر أبطن
…
وأنت بريء من قبائلها العشر
في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل
المعنى والوزن.
(87)
وظلت بأعراف تعالت كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا:
مسبِّبة قُب البطون كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا:
وأضحت تغالي بالستار كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها.
والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو:
وظلت بأعراف كأن عيونها
…
إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز
(88)
لقد مريتكم لو أن ردتكم
…
يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي
في الخامس ص 72 وكتب هكذا:
وقد نظرتكم لو إن درتكم
…
يومًا بحي به مسحي وأساسي
(89)
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
…
حجر حرام إلا تلك الدهاريس
ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك
(إلا ملك) .
(90)
مالك ترغين ولا ترغوا الخلف
…
وتضجرين والمطي معترف
في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا:
مالك ترعين ولا ترعوا الخلف
…
(91)
ناجٍ طواه الأين مما وجفا
…
طيّ الليالي زلفًا فزلفا
…
... سماوة الهلال حتى أحقوقفا
والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) .
(92)
إن سميرًا أرى عشيرته
…
قد حدبوا دونه وقد أنفوا
إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا
في الرابع ص23 وكتبا هكذا:
إن سميرًا أرى عشيرته قد
…
حدثوا دونه وقد أبقوا
إن يكن الظن صادقي ببني
…
النجار لم يطعمو الذي علقوا
والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي.
(93)
تخوف السير منها تامكًا قردًا
…
كما تخوف عود النبعة السفن
ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط.
(94)
تنشطته كل مغلاة الوهق
…
مضبورة قرواء هرجاب فُنُق
ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد
الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء:
الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب
كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية
الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله:
وقائم الأعماق خاوي المخترق
…
(95)
حسبت بغام راحلتي عناقًا
…
وما هي ويب غيرك بالعناق
فلو أني رميتك من قريب
…
لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني
ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي:
نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب
عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا:
ولو أني رميتك من بعيد
…
(96)
لئن حللت بجوّ في بني أسد
…
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد.
(97)
أقول له والرمح يأطر متنه
…
تأمل خفافًا إنني أناذلكا
ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل
تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر
فصارت هكذا ياطر.
(98)
طمحت بنظرة فرأيت منها
…
تحيت الخدر واضعة القرام
ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا:
تحينت الحذر ناصعة القوام
…
وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة.
(99)
وحليل غانية تركت مجدلاً
…
تمكو فريصته كشدق الأعلم
من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة.
(100)
عرفت المنتأى وعرفت منها
…
مطايا القدر كالحدا الجثوم
ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا:
عرفت الصبا وعرفت منها
…
مطايا العذر كالحدا الجثوم
(101)
عهدي به شد النهار كأنما
…
خضب البنان ورأسه بالعظلم
من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا:
خضب اللبان رأسه بالعظلم
…
(102)
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
…
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع
…
ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في
الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى
بعض.
(103)
مأويّ ياربتما غارة
…
شعواء كاللذعة بالميسم
ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا:
ياربتما غارة شعواء
…
كاللذاعة بالميسم
(104)
حواء قرحاء أشراطية وكفت
…
فيها الذهاب وحفتها البراعيم
ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا:
حوى فرحًا سراطيه وكفت
…
فيها الذّهاب وحفتها البراعيم
(105)
تقول إذ درأت لها وضبني
…
أهذا دينه أبدًا وديني
ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا
أقول وقد درأت لها وضني
…
وهذا دينه أبدا وديني
(106)
مهلاً بني عمنا مهلا موالينا
…
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا.
(107)
إن شرخ لشاب والشعر
…
الأسود لم يعاصَ كان جنونا
ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط
لا معنى له.
(108)
إذا ما قمت أرحلها بليل
…
تأوّه آهة الرجل الحزين
ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى
والوزن.
(109)
عجبت من دهماء إذ تشكونا
…
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
…
...
…
...
…
خيرًا بها كأننا جافونا
وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من
تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا:
ومن أي دهماء إذ توصينا 7
…
خيرًا بها كأنهم خافونا
ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ والانتقاد
(خواطر الخواطر)
مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان
يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة
وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات
بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر
بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع
معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات
في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار
الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش
صحيحة.
***
(طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر)
كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية
السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من
العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة
اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على
ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم
والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا
العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني
كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري
ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب
لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء
وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في
مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش
عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر)
فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما
هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا
قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) .
ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن
(والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة
تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في
هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم
وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت
ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا
فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم
عليهم أكثر.
الجرائد والجامعة الإسلامية:
وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية
إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء
بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) .
أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة
الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها
المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو
مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد
دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت
أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها
جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن
بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين.
وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي
تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل
تجتمع معها.
سوريا والحجاز والسياسة:
وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه
السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن
سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا.
ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل
عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك)
المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول
من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا
حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش
في البحر.
وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها
وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل
الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله.
***
(كمال بلاغة العربية)
في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية،
أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته،
وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء
والمحبوب) .
والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع
مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة
بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية.
***
(الرياض)
صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي
في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها
خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر
عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها.
***
(التربية)
مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من
8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة
فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية
وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه:
البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة
من زهرة.
لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع
الشريط في الخل قبل استعماله.
ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء
واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه.
***
(جريدة العجائب)
أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه
بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها
على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من
الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم.
***
(ديوان أبي تمام الطائي)
لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير
مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن
محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة
المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت
والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في
500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية
صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل
هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت،
وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(سنتنا الجديدة)
نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا
مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين
السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح
يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير.
***
(شرط الاشتراك في المنار)
المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك
فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل
الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء
السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار
كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد
موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض
الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن
وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة
وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة
كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع
العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم
أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم.
***
(فهرس المنار أو فهارسه)
جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم
توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا
لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره
مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المنار
جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء
والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله:
لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث
السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت
بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل
من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت
إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون.
سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار
بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك
الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم
بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن
عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم
الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه
الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في
الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى.
وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في
الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم
فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه
(الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات،
ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن
نكون من الشاكرين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(سوري شمالي)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حياة الأمم وموتها
إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط
ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف
على الأخرى.
يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع
العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة
النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة
بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه
أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في
أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من
جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل
عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله.
الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء
للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها
وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج
إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من
الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود.
قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛
فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً
وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا
أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي
يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول
يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في
كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا
مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر
الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة
حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل
شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من
سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة
ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا
يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها
الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين،
والأخرى في أسفل سافلين.
يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب
التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه
يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم
يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا
يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو
ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،
والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه
الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو،
وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر
ويذل.
ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين
المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما
هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع
وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن
اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع
العدد الكثير.
ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة
صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من
تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا
بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين
وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها
ومخازي فاقديها.
التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في
الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل،
ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو
الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي
الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم
وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على
كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير
ثروة الكاسب إلى الكمال.
لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة
الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه
أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه
الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا
إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد،
وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر
والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على
المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد
وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال.
روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل،
فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير
إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة
للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب،
وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي
تفسد.
كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من
النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل،
والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك
أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى
إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية،
وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية.
تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا
تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر
على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت
أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها
أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة
الضلال فهلكت.
إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ
الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه
أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة
المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين،
ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة
سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره
وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره،
والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور
الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب
الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به،
وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير
ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى
تبقي حثالة بهم تبسل الأمة.
لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت
هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة
كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة
كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة
المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل
في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي
تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني،
على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء
ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن
السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي
يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية.
ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح
يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي
من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار،
وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية
والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي عالم أزهري في العلماء
وحالهم في مصر
وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى
مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في
درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على
اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا
بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا
يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء
الأوربيين)
…
إلخ.
وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون
العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك
وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور
الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني
عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة
في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها.
ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس
الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي
في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه:
(ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا
التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن
يعود على الأمة منه فائدة تذكر) .
(على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم
لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام)
…
إلخ.
ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن
هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من
النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها
إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ.
ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا
الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك
حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك
ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية
والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) .
ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة
السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على
تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها،
بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور
الدنيئة)
…
إلخ.
وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى
بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا
من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة،
تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات
الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم
ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم
تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين
والشواهد على ذلك كثيرة) .
إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في
وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن
في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة
الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي
أن يصرح بذلك هنا.
ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما
(ص 33) :
(أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن
سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ
والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا،
حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم
وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء
والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من
يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل
الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس
هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر
إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من
يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا
كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل
إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى
أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار.
ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله
ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية
وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى
أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس
كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا
كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل،
وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت
تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى
على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير
من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله
الآن. اهـ.
ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم
القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى.
ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر
من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز
والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك
بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم
وقال في (ص42) :
(لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب
التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس
في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه
الطبع السليم) اهـ.
ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن
يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم
قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على
ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر
الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم
واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا
يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع
عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على
معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية
بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
العامة تستعمل الرضوخ بمعنى الخضوع والامتثال، وهو المراد هنا، وإلا فالرضخ في اللغة هو العطاء القليل، ولا يصح في هذا السياق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقويم المؤيد لعام 1323
هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار
إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له،
والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد
يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن
فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها،
وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب
من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل
طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق رحمه الله والباي
الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الأزهر: مشيخته وإدارته)
ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من
الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة
مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده
الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق
مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ
ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في
الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد
الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق
الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو
الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في
استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى
شيئًا.
أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة
ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ
محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم
البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على
الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد
ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم
ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل
الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال
الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد
الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه
مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء
هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن
الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها
كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله
أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه
لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل
الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره
بقرناء الخير والله على كل شيء قدير.
***
(غرض الحكومة الخديوية من الأزهر)
قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة
من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين.
ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال
المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة
لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة
الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع
الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في
كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه
المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور.
وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة
الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه
يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر
في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته،
ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في
التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة
خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر
الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي
الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل،
على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر
الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض
آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) .
***
(مقام الإفتاء)
جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل
داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا
يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل
الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في
إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ
حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى
لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة
ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية.
***
(المعرض الزراعي)
ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في
عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل
إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على
غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها
معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم
والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد
زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات
فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر
منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن
محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات
بهيئة وجهت إليها الأنظار.
تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج
الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح
سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة
بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ عبد الباقي الأفغاني
(وفاته)
نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في
صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه
ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى
كان يقول:
(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي
نعيًا وترجمة:
فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل
النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من
غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون
على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من
هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،
ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين
متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من
سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة
علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.
(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،
والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.
(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات
للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا
المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون
هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد
من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو
أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا
واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة
فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء
هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان
منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.
ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا
هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا
انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما
يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم
الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.
كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،
فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن
زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر
مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.
نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في
غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس
هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في
البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض
البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب
إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو
القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا
مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.
مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان
يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي
أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين
وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان
لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحياة الزوجية
(1)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً
وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) .
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:28) .
الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع
فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية
تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة
واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم
بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده
لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .
هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها
العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها
الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا
يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة
والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل
في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع.
الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس
الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب
الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما
وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين
اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس
به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما
حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي
التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى
ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو
عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن
الإحساس بالحاجة إلى التعاون.
لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري،
فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى
الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى
ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا
معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم
والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها
وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم
أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن.
يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها
وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك،
فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته
إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من
سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا
للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل
من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل
المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة
إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو
الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما
يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما
تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل
وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين.
والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية
على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها
الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا
رصينًا.
إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة
من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع
والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي
للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا
المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن
من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو
إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة
بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من
الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على
المصالح حتى تبلغ المدى؟
معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق،
والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت
الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية.
لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع
العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من
الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى
وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل
من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير
على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن
فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى.
إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه
عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل
على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا
العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد،
ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف
أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي
الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما
صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية
ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان
من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما.
ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت
مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛
إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها.
حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال
وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها
سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد
بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين
وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه
الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي
واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون
الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون
حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال
معناها.
يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما
يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف:
189) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى
جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في
بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو
أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا،
ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود
الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في
حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر،
راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن
هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في
هذه الحياة.
والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما
كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة
في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف
باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار،
واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل
البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة،
وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛
التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي
بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد
الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها
وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم
هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى
الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر
مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون
من ورائه.
***
اختيار الزوج:
جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في
الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل
في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن
النفس لا تسكن وترتاح لمن يباينها في صفاتها ويخالفها في عاداتها. ولكن الناس
قلما يجرون على المصلحة الحقيقية في أعمالهم الاختيارية؛ لأن اللذة عندهم ليس
لها حدود طبيعية يقفون عندها وإنما تعرف الحدود بالشرع والعقل، والشرع يؤخذ
بالتعلُّم والاقتداء، والعقل ينمو بالتجارب والاختبار؛ لذلك تختلف الحدود في
نظر الأفراد وترى بعض الناس يبني اختياره على الهوى والميل إلى الجمال،
وبعضهم يُحكِّم المصلحة ويجعل مناطها الجاه والمال، فالأصل في اختيار المرأة عند
الأمم الجاهلة الفاسدة الأخلاق، هو الحسن والجمال اتباعًا لهوى النفس المستلذ، أو
الثروة والجاه إيثارًا للمصلحة الموهومة.
أكثر ما يقع التخير بالحسن أو الاستحسان من طائفتين: (أولاهما) الشبان
الأغرار الذين يتوهمون أن عاطفة الهوى لمن رأى أحدهم فاستحسن وأحب تدوم، فإذا
هو اقترن بمن أحب كان له نشوة سرور دائمة؛ فيعيش مغبوطًا ناعم البال قرير
العين يرى الملك ملكه، والزمان غلامه، وهيهات ما يتوهم، ولكن أنى له أن يفهم
ذلك وهو محكوم بشعوره ووجدانه، تعبث به الخواطر وتقوده الأماني التي يوليها عليه
ذلك الشعور، ثم أنى له أن يعرف سيرة الناس الذين سبقوه في تحكيم الهوى واتباع
لمحات العيون، وطاعة هواجس النفوس؛ فتزوجوا بمن استحسنوا ولم يلبث أن
تحوَّل الاستحسان استقباحًا، والحب العارض مقتًا وبغضًا.
الحسن والجمال من الأعراض التي يسرع إليها الزوال، ثم إن سلطانهما على
القلب الواحد لا يدوم، أو لا يطول إلا إذا صار عشقًا خياليًّا؛ يخطف القلب
من عالم الحسن ويزج به في عالم الخيال، وهذا الضرب من العشق لا يكون مع
ملك الاستمتاع بالمحبوب. على أن هوى الأغرار لا يتقد بالحسن الرائع، والجمال
البارع، قل لهؤلاء الأغرار ليست تلك العاطفية الرقيقة التي وجدتم عند إرسال
الطرْف إلى الوجه الذي استملحتم، هي أثرًا طبيعيًّا لشيء ثابت في ذلك الوجه؛
فتقولوا: إن العلة تلازم المعلول، بل هي شيء كامن في النفس تحركه وتهزه في
أحد الصنفين رؤية الآخر في صورة تعجب، وقد يضعف ذلك الشيء في وقت
ما، وقد تمل الصورة المحركة له، أو تعرض للعين صورة أخرى فتبطل حركتها
وتنسخ آيتها، فالاعتماد في هناء العيش وسعادة الزوجية على الاستملاح الاستحسان
الذي تحدثه النظرة العَجْلَى اعتماد على ركن غير شديد.
والطائفة الثانية: هي طائفة المترفين الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع والتنقل في
الشهوات واللذات، وهم أعرق في البهيمية من الطائفة الأولى؛ لأن الشاب الغر
يكتفي في اختيار الزوج بملحة طرفه، وخفقة قلبه، دون الوقوف على أخلاق من
أعجب بصورتها، وخفق قلبه عند رؤيتها، ولا على سيرتها وسيرة أهلها وعشيرتها
لتعرف المنبت والنبات. قد يتفق أن تكون الفتاة التي اختارها مشاكلة له في طبعه
قريبة منه في أخلاقه وعاده؛ فيعيش معها عيشة راضية، وتسكن نفس كل منهما
إلى الآخر ويقيمان بإقامة هذا الركن الأول ركني الزوجية الآخرين - المودة
والرحمة - بحسب حالهما وطبقتهما في الأمة.
وأما المترفون الذواقون من الأمراء، وأهل الثراء، ومن تسري إليهم سمومهم
ممن دونهم، فهم أشقى الناس في بيوتهم، وما أشقى نساءهم بهم؛ ذلك أن أحدهم لا
يلبث أن يمل من تزوج بها لحسنها، أو يستهويه حسن آخر؛ فيهوي إليه وهكذا
يتبع مواقع الحسن الجديد؛ ويوغل في المحرمات فلا يكون زوجًا حقيقيًّا للأولى ولا
لغيرها، وإنما هو شقي بشهوته ومُشْقٍ لمن يتصل به؛ فإن المرأة عنده إما أن تفسد
كفساده؛ فتكون من الذواقات؛ وما أسهل ذلك على ذات الجمال البارع التي قلما
يسلم مثلها مع تطلع الفساق المترفين إليها وافتتانها هي بنفسها، وإما أن تعيش في
نكد، وتظل في كبد، وكلا الأمرين شقاء للبيوت وشقاء للأمة. فهذا إجمال يكشف
للمتفكر عن وجه الخطأ في جعل استحسان الصورة والإعجاب بالجسم أصلاً لتخير
المرأة زوجًا، وأمَّا جعله أصلاً لتخير المرأة للرجل، فذاك مما لا حاجة إلى بيان فساده
وخطأ الذاهب إليه.
يقول قائلون: (إن النظر رسول القلب، وإن الاستحسان علة الحب، والحب
هو علة ذلك السكون الذي هو ركن السعادة وسر حقيقة الزوجية) فإن لم يكن
عينه فهو علة له أو أثر من آثاره، فما بالك تطلق القول في تخطئة من يُحكِّم
استحسان الصورة، وميل القلب في الاختيار؛ كأنك تؤيد عادة مسلمي المدن الذين
يتزوجون غالبًا على السماع، غافلاً عما يتبع هذه العادة من التنافر بين الزوجين
لأول وهلة، وما يُرزآن به من الخصام والجفوة. ونقول: إننا قد بينَّا أن استحسان
الصورة، وميل القلب إلى ما يرضي العين مما لا بقاء له ولا ثبات لِمَا يُبنى عليه،
وإنما البقاء والثبات للحب الذي علته تعارف الأرواح، ومشاكلة الطباع، ولا ننكر
مع هذا أن حسن الصورة، وجمال الخلقة له أثر عظيم في نفوس عشاق المعاني؛
ربما يفوق أثره في نفوس عشاق الصور، ولكنه عندهم في الدرجة الثانية، بل
يقرب في ذوقهم من المحسنات العارضة كالثياب والحُلي؛ فإن سليم الطبع لا تسكن
نفسه إلى دوام معاشرة رث الثياب وسخها، ويأنف طبعه من الطعام الطيب في
الإناء الخبيث. وإن من الناس من تشمئز نفسه وتنفر من بعض العيوب الخلقية؛
فإذا هي فاجأته في وجه من اختير له زوجًا يلابسه ويمازجه حتى يتحد معه أتم اتحاد؛
يوشك أن تنكمش نفسه انكماشًا يتعذر معه الالتحام والالتئام، لذلك كان من السنة
في الإسلام أن لا يتزوج المرء إلا بعد الرؤية، وما جرى عليه المسلمون في أكثر
المدن أو جميعها مخالف للفطرة والشريعة جميعًا، ولكن حكم العادات أقوى سلطانًا
على نفوس الجماهير من كل حكم يخالفه.
على أن من يطلب الازدواج لإقامة سنة الفطرة، لا لمجرد إرضاء الشهوة،
ولا لأجل التنقل في معاهد اللذة، فقلما يخون الوصف رغبته فيما يحب من حسن
الصورة وجمال الخلقة، ولعلنا لو أحصينا عدد الأزواج الذين مقتوا أزواجهم استقباحًا لصورهن لَمَا وجدنا فرقًا كبيرًا بين من تزوج منهم عن رؤية ومن تزوج
عن سماع فإن للرؤية نظرًا خادعًا ليس معه للرَّوِيَّة مجال. والسماع يتثبت فيه
ويتروَّى حتى يغني عن النظر في كثير من الأحوال.
ويقولون في انتقاد ما عليه أكثر مسلمي المدن من التشدد في الحجاب: إن
الحاجة إلى رؤية الرجل من يريد الاقتران بها للوقوف على طباعها وأخلاقها
وعادها - أشد منها لمعرفة حسنها وجمالها، بل لا بد لمعرفة الأخلاق والطباع من
المعاشرة زمنًا طويلاً، ونقول: إن هذا هو الذي يظهر بادي الرأي، وأما ما
يظهر بعد التدقيق والتمحيص فهو أنه يتعسر أو يتعذر على الشاب أن يعرف
حقيقة أخلاق الشابة وطباعها ورغائبها من المعاشرة بقصد الخطبة؛ فإن ما يتنازع
الفتاة من ضروب الشعور والوجدان إذا كانت بمرأى من الفتى ومسمع يخرج بها عن حال الاعتدال الطبيعي الذي طبعت عليه، فلا يكون الحكم عليها صحيحًا؛
لأن حجابًا طبيعيًّا أسدل على أخلاقها وسجايها، ثم إن من وراء هذا الحجاب أو من
أمامه حجابًا آخر صناعيًّا، وهو ما يكون من التكلف والتصنع؛ لتكون أمام الفتى
بالمظهر الذي تظن أنه يرضيه ويجذب قلبه، فالعمدة إذن في معرفة الآداب
والأخلاق هي الوقوف على حال المنبت والعشيرة وخبر الصادق الذي يحسن النقد
ويميز بين ما يرغب فيه وما يرغب عنه.
وقد يسهل على الخلطاء والجيران من العشائر أن يعرف فتيانهم أخلاق فتياتهم
بالاختبار الصحيح؛ إذا لم يكن هناك مقدمات، ولا وسائل تشعر برغبة المختبر في
تزوج من يلاحظ أحوالها ويتنقد أعمالها، وقلما يكون هذا في المدن إلا
بين الأقربين. وحدثني السيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله أن أهل
الآستانة إذا رضوا بالخاطب دعوه إلى دارهم، وجمعوا بينه وبين بنتهم في
مجلسهم فيراها وتراه ويسمع كلٌّ حديثَ الآخر وتسأله عن آثاره الأدبية والعلمية
ثم يكون العقد بعد ذلك.
جملة القول: إن الذين يعتمدون على مجرد استحسان الصور في تخير
الأزواج ضالون، لا يُرجى لهم أن يُكوِّنوا بيوتًا -عائلات - تكون أعضاء حية
عاملة لأمة عزيزة؛ وسيأتي بيان حال من يبني اختياره على طلب المال والثروة،
ثم من يبني اختياره على ما يجب أن يُبْنى عليه الاختيار، وقد ذكر بعضه في هذه
المقالة تمهيدًا واستطرادًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التحكيم بين الزوجين في الشقاق
(س6) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) :
أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف
علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره
وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب
الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية
الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة رضي الله عنه عدم التفريق
وقول الإمام محمد رضي الله عنه التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل،
وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد
والشافعي في أحد قوليه رضي الله عنهم فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا
كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة
يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله
تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: 35) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير
أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين
ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن
علي رضي الله عنه فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان
في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛
فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل
التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل
(الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن
يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو
من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:
19) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: 231) الآية.
والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد
الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا
الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك.
هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ
إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر
الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة.
(ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف
شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق
(جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد
أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن
يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن
الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا
غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان
فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع.
وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني
قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما
فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين:
تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن
تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل:
أما الفرقة فلا، فقال علي رضي الله عنه: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي
أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه
الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا
رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛
فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت
المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن
يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك
الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره
الراضي، وليس في قول ابن عباس رضي الله عنهما شيء لا يفهم من الآية
إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه
شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين
بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت
…
إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه
الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه
به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير
{إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: 35) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات
البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا
التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة
من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي،
وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن
الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) وهذا
نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء
وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في
البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان
شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: 35) ،
أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) لاقتصاره على ذكر
الإصلاح دون التفريق. اهـ
وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم
الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر
الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا
للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون.
على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في
الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه
الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب
المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه
السنة كان له أجر المصلحين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
(الأرض)
دليل حركتها من القرآن
(س 7) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى:
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: 54) دليلاً على دوران الأرض،
ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛
فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة
المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني رحمه الله دليلاً على حركة الأرض
قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) الآية وفصَّل ذلك
وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى،
ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية
على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما
هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير
الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا.
وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية
الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام -
لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان -
رحمه الله سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول
والفروع وهذه عبارته:
(ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:
88) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في
هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في
الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة،
وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: 88) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون
الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى:(وعد الله)
و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا
يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب
إليه، وقوله:{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) كالبرهان على إتقانه
والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول
إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد
وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل
على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله،
ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية
الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها
لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: 88) حال عن
المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا
استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في
الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله
شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال
معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو
عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة
إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم
المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع
وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع
ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من
تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم،
وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم
للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته،
وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير.
واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا
فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86) ، اعتراض
في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة،
كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز
في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من
هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي
الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان
وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها
بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم
يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع
عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد
أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا
يسلم من تحريف.
(ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54)
ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض
يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه
يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن
نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو
الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) يشعر بأن هذه
الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن
العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران
الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي
يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو 52 مليونًا من
الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية
تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار
إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا
الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض،
ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه
الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور.
وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا
الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان
عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام
عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس
النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من
بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا
عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في
إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور
آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى
نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن
الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه
مستدلين به على علمه وحكمته ، وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث
موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين
بمخالفة كتابه المبين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شهادة غير المسلم وخبره
(س8) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في
بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته
ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا
الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا
القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه
من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم.
(ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: 106) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ
فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة
فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما
وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري
في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من
بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [1] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم،
فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [2] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم
وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه
فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) وروى أبو داود والدارقطني
بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين
حضرته الوفاة بدقوقا [3] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين
من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته
ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا
غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من
العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير
السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا
التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر
القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم
بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) معناه من غير
أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال
بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم،
ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) ،
قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم
لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان
عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء
والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن
الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ
آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: 106) خاص؛ فإنه
أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في
السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام
لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان
تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم)
اهـ.
ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على
المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى،
ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام
غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال
من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر
.. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد
قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب
…
) إلخ.
أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض
الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي
يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت
القرينة على كذبه لا يعمل بقوله.
ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم
الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام
الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين
المعروفين
بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره
بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما
جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ،
على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد،
وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين.
وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن
مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف
اصطلاحات الفنون:
الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا
إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام
على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين:
وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح
القدير وهو (في مجلس الحكم) .
_________
(1)
الرجل السهمي اسمه بزيل (كزبير) لا بديل بالدال أو الراء كما قيل، وتميم وعدى كانا نصرانيين وقد سرقا الجام من متاع الرجل ولم يعلما أنه كتب ورقة بجميع ما أودعهما.
(2)
المخوص بتشديد الواو المنقوش بما يشبه الخوص وهو مما يعنى به الآن في علب الفضة وآنيتها وما يوضع في رؤوس العصي منها.
(3)
هي بفتح الدال وضم القاف وسكون الواو أو القصر بلد بين بغداد وأرية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي عالم أزهري في العلماء
تابع لما قبله
وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه:
ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى
الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء
ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء
جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد
من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير.
ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني
القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين.
تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم
بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس
الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن
يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من
الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال
بالعلم وتشييد دور واسعة لهم.
ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني
هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم
الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين
الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق
إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون
المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا
المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة،
ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل
العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص
رواية مثلا.
ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا
يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره،
وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون
المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في
ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح
هذا الكون.
على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء
مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب
ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه
مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين
بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما
وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم
والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال،
والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو
بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة
وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات
الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى
مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو
تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب
في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع
عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم
الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ
وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد.
وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن
ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر
أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر
في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في
صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم
مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل
قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة
من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من
الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية.
والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية
التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال
الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في
آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث
لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما
أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه
الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك
به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق
بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم
القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة
اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم
الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة،
ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛
فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل،
وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من
ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء
حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة
والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل،
يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح
الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من
قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة
في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى،
ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون.
وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق
سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ
حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح
الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية
والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق
جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه
السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر.
هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال
والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر
وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح
فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني.
بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء
إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن
سينا وفقه أبي حنيفة
…
إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال
ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء
أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه
وغلطه وتحريفه.
(المنار)
هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض
الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما
كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع،
وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس
ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح
ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها
(كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى
مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد
اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له
ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين.
وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني
والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح،
وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات،
فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت
ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط
المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.
_________
(*) المنار: الدوي: هو صوت النحل، وكذا صوت الذباب والريح، وأما الأزيز فإنه صوت المِرْجَل (القِدْر) عند الغليان، ويقال أيضا أزيز الرعد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(كليلة ودِمنة)
لهذا الكتاب من الشهرة ما يُغني عن التعريف به، والتنويه بما فيه من الحِكَم
الرائعة، والآداب العالية؛ في العبارة البليغة والأسلوب الرفيع. قلما يوجد كاتب
مجيد في هذه اللغة لم يكن كتاب كليلة ودمنة من مادته، وهو من الكتب التي عُنيت
نظارة المعارف في مصر بطبعها وأوجبت على تلامذة مدارسها مطالعته؛ ليكون
عونًا لهم على تحصيل مَلَكَة الإنشاء والتحرير، وليستفيدوا من آدابه وحكمه ما
يفيدهم في أنفسهم، كما يفيدهم بعبارته في أقلامهم وألسنتهم. وقد طبع غير مرة في
مصر وبيروت وأوربا، ولكن كل طباعته عاطلة من حلي الصور التي وضعت
في أصله لتمثيل ما فيه من الحوادث والأمثال، أو لأجل (زيادة الأنس للقلوب،
وشدة الحرص عن المكتوب) كما قال ابن المقفع مترجم الكتاب حتى عثر الشيخ
أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت على نسخة خطية من
الكتاب مزينة بالصور في مكتبة الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق الشام
كتب عليها (إن نسخها قد تم في العاشر جمادى الأولى - سنة ست وثمانين بعد
الألف على يد أبي المنا بن نسيم النقاش) ، وعدد الصور فيها 86 فأخذ نسخه وكلف
بعضه مهرة الصناع الأوربيين بنقلها إلى الزنك ليطبع عنها فجاءت كأصلها وطبع
الكتاب بالصور واضعًا كل صورة في مكانها من الأصل وقد عني بمقابلة هذه النسخة
على النسخة المطبوعة في باريس سنة 1816 م والنسخة المطبوعة في مصر سنة
1297 هـ والنسخ المطبوعة في بيروت. قال: (اخترت منها ما كان أقربها من
الأصل وأبعدها عن التحريف والتبديل وأسلمها من الزياد والنقصان) ولهذه الصور
فائدة تاريخية؛ لأنها تمثل لنا أزياء تلك العصور الذي وضع فيها الفيلسوف الهندي
كتابه، وشيئًا من عاداتهم، وفائدة صناعية من حيث فن الرسم والتصوير، والقارئ
يرى أن هذه النسخة أحسن نسخ الكتاب، وهي مشكولة ومضبوطة، ثم النسخة منها
عشرة قروش صحيحة وأجرة البريد قرشان وتطب من إدارة المنار بمصر.
***
(جواب أهل الإيمان في تفاضل آي القرآن)
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد تقي الدين بن تيمية الشهير عما ورد في
الحديث من أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن وعما
ورد في سور أخرى من التفضيل. فأجاب بجواب مطول فيه فوائد كثيرة لا توجد في
غيره، وطبع في هذه الأيام فكان كتابًا مؤلفًا من 132 صفحة، ومن مباحث
الكتاب بيان معنى المعادلة والتفاضل في القرآن، وما ورد في الفاتحة وأحكام
المذاهب في قراءتها في الصلاة، وبيان كون قصة موسى أعظم قصص الأنبياء في
القرآن، وبيان سبب عدم تكرير قصة يوسف، وغير ذلك من الكلام في قصص الأنبياء ومنها مباحث في القرآن، وكونه غير مخلوق، وفي النسخ مباحث
في التوحيد والاعتقاد والتفسير. وقد طبع على نفقه الشيخ عبد الرحمن زين
الدار الحلبي فجزاه الله خيرًا.
***
(خطب الأعظمي)
قرَّظنا في الجزء الرابع والعشرين من المجلد السابع ما طبع من هذه الخطب،
وانتقدنا على الخطيب الشدة في التعبير في بعض المواضع؛ لعلمنا بأنها تهيج عليه
بعض الجامدين على ما هم عليه الزاعمين أن كتمان عيوب الأمة والسكوت على ما
وصلت من الانحطاط واجب لئلا يطلع الأجانب على نقصنا فيحقرونا أو لأنه لا يصح
أن نبين أن المسلمين الآن منحطون عن الكافرين، ولغير ذلك من الشبه الواهية،
وقد وقع ذلك من بعض أهل الجمود في الهند وأما الذين اطلعوا على نموذج الخطب
في مصر فلم نسمع عنهم انتقادًا؛ لأنهم تعودوا على سماع وقراءة أمثال هذه الزواجر،
وإنني لا أدري أي القطرين أشد جمودًا على الحال السيئة التي وصل إليها
المسلمون: القطر المصري أم القطر الهندي، ولكنني أعلم أن في كل منهما
أنصارًا كثيرين لمن ينادي بالإصلاح ويندد بالتقاليد والعادات الضارة في أمر الدين
وأمر الدنيا، مهما غلظ وشدد، ومن يقل منهم بوجوب إلانة القول فإنما يريد الرفق
بأهل الجمود لعلهم ينجذبون إلى الحق بسهولة ولا يريد أن الشدة في غير محلها أو
غير نافعة.
وأحسن القول عند طلاب الإصلاح ما كان تأليفًا بين المسلمين، وهو أقبحه
عند الجامدين، كما ترى فيما يلي.
***
(أهل السنة والشيعة)
إن العلماء الراسخين من هاتين الطائفتين لا يقولون بأن مخالفهم في المذاهب
كافر خارج من الملة، وأهل السنة يذكرون في كتب العقائد أنهم لا يكفرون أحدًا من
أهل القبلة، وإن أتى بشيء مما يعدونه كفرًا متأولاً فيه، ولا شك أن الشيعة يؤمنون
بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويشهدون (أن لا إله إلا
الله وأن محمدًا رسول الله) وأن كل ما جاء به من أمر الدين حق ويقيمون الصلاة،
ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلاً،
ومع هذا كله تجد من المتعصبين الذين يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) من
يحكم بكفرهم، وأهل السنة والجماعة أحرص على الجمع بين أهل القبلة منهم
على التفريق، ومن القواعد عند بعض فقهائهم - وحبذا هذه القاعدة - أنه إذا وجد مئة
قول صحيح في تكفير مسلم بقول أو عمل أو اعتقاد وقول واحد ضعيف بعدم تكفيره
فالواجب أن يفتى بالقول الضعيف.
لهذا نتعجب أشد التعجب ما بلغنا عن بعض المشايخ المتفقهين في الهند أنهم
كفروا الشيخ عبد الحق الأعظمي؛ لأنه عبر في خطبة له عن الشيعة بقوله:
(إخواننا) وقد يوجد في مصر من يطلق هذه الكلمة على النصارى أو اليهود، ولا
يكفره أحد؛ للعلم بأنه يعني بلفظ الإخوان أخوة الإنسانية، لا أخوة الدين، ولا
وجه لتكفيره، إلا إذا علم أنه يعتقد أن عقائد النصارى وعباداتهم هي عين عقائد
الإسلام، وأنها حق ومرضية عند الله تعالى مثلها؛ لأنه بذلك يكون مكذبًا للقرآن،
وخارجًا خروجًا حقيقيًّا عما جاء به النبي من أصول الإيمان، وأما إذا أراد
مجرد المجاملة كما يجاملوننا بمثل هذا اللفظ، ولا يعنون به أننا على الحق من غير
ملاحظة أمر الدين، ولا أمر أخوة الإنسانية فإنه لا يحكم بكفره مادام يعتقد أن دينه
هو الحق ولا ينكر شيئًا من أصوله المجمع عليها المعلوم بالضرورة أنها منه.
يظن هؤلاء الشيوخ الغافلون المغرورون بخضوع العوام لأقوالهم من غير دليل
ولا برهان أن الإغلاظ على المخالف لمذهبهم، والغلو في عداوته من أسباب تأييد
الإسلام وأهله وخذلان الكفر وحزبه، والبدعة وفرقها، والحق الذي لا مِرْية فيه هو
أن الغلو في الخلاف والعنف في المقاومة هو الذي يغري كل ذي رأي أو مذهب أو
دين بالتعصب فيه، والجمود عليه والدفاع عنه من غير تأمل في كونه حقًّا أو باطلاً
بل لمجرد مقاومة المخالفين، وبذلك تكون الخسارة على صاحب الحق من المختلفين
لأنه لولا الغلظة والتعصب لنظر كل فريق فيما عند المخالف له نظر إنصاف،
والإنصاف أقوى أعوان الحق وأنصاره، ولو جرت القرون الأولى بالإسلام على
طريق الغلظة والشدة في مقاومة المخالف ومجادلته لما انتشر في الخافقين ذلك
الانتشار السريع.
هؤلاء الشيوخ الغالون في التعصب على كل من يخالف آراءهم أو آراء
شيوخهم في مذاهبهم أعدى أعداء الجماعة والسنة؛ لأنهم أقدر من غيرهم على تفريق
الكلمة، فهم يهدمون بناء الوحدة الإسلامية في حزب المحافظين على القديم بشبهة تأييد المذهب ومن ورائهم المتفرنجون يهدمونه بشبهة تأييد الوطنية؛ فالهدم واقع
على بناء الإسلام من داخله ومن خارجه، ولا نصير له إلا فئة تحاول الجمع
والتأليف بحمل أهل المذاهب المختلفة على تحكيم الكتاب العزيز والسنة المتواترة
فيما شجر بينهم وأن يعذر كل فريق منهم الآخر فيما وراء ذلك من الأمور
التي فيها للنظر والاجتهاد مجال، وبإقناع المتعصبين للوطنية بأن الاتحاد على
عمارة الأوطان لا يقطع الأخوة بين أهل الإسلام والإيمان، فنسأل الله أن
ينصر هذا الحزب ويؤيده على أعداء أنفسهم وأعداء ملتهم بأن يوفقهم
للدخول في السلم كافة واجتناب خطوات الشيطان الرجيم.
***
(مناظرة مَتَّى بن يونس وابن سعيد السيرافي)
كان بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي مناظرة في
المفاضلة بين المنطق والنحو وكان الفلج فيها لأبي سعيد في محفل حافل بالعلماء
والفضلاء؛ فأدلى بحجة على أن النحو قد يغني عن المنطق، وأن المنطق لا يغني
عن النحو، ولا شك أن (مَتَّى) قد عجز عن بيان فائدة المنطق، وأن بعض ما قاله
(أبو سعيد) في حجاجه لا يخلو من المغالطة ولكنه في بلاغته وقوة عارضته قد
اختلب خصمه الذي كان عييًّا حصرًا، لا يقدر أن يبين ما يعلم حق البيان.
والمناظرة من رواية أبي حيان التوحيدي وهي بعبارة انتهت إليها البلاغة، وبراعة
الأسلوب، وقد عني بطبعها صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق الأستاذ
بمدرسة أكسفورد الجامعة، وطبع معها ترجمتها بالإنكليزية له، والطبعة العربية لا
تخلو من تحريف قليل يعرف أكثره مما وضع في الهامش من اختلاف النسخ فنثني
على همة الدكتور لعنايته بخدمة لغتنا ثناء حسنًا.
***
(الهدى)
مجلة إسلامية علمية أدبية عمرانية إصلاحية تصدر في غرة كل شهر عربي
لمديرها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ومدير المجلة المدرسية وقد
صدر الجزء الأول منها في غرة المحرم الماضي في 28 صفحة كبيرة، وفيها بعد
فاتحة المجلة وبيان منهاجها (دعوة شريفة يخاطب بها الكاتب علماء هذه
الأمة بوجوب مقاومة البدع الغاشية، وجمع كلمة الأمة المتفرقة، ومقالة في آراء
حكماء العرب في المعدن والنبات والحيوان والإنسان، ومقالة في العلوم الاجتماعية
لأحد طلبة مدرسة الحقوق ونبذة عن مسلمي القزان، وخطرات في الإصلاح،
وقصائد لبعض شعراء العصر. وقيمة الاشتراك فيها للمصريين 40 ولغيرهم 12
فرنكًا، فنتمنى لهذا المجلة التوفيق والثبات.
***
(الصحافة)
جريدة أسبوعية تصدر في القاهرة لصاحبها ومحررها مصطفى أفندي توفيق الجراحي مؤلفة من ثمان صفحات بشكل الجريدة الرسمية، وتطبع على ورق جيد،
وهي من أحسن الجرائد الأسبوعية بمصر نزاهة واعتدلاً، وقيمة الاشتراك
فيها 70 قرشًا في مصر و22 فرنكًا في غيرها،فنتمنى لها التوفيق والنجاح.
***
(الهجرة)
جريدة أسبوعية تصدر في طنطا لصاحبها ومدير سياستها عبد الرحمن
أفندي الذهبي وهي كسابقتها في مقدمة الجرائد الأسبوعية موضوعًا على حداثة عهدهما وقد قرأنا فيها مقالات مفيدة ولكننا نحب أن يُعنى بتصحيحها فيما يأتي أكثر
من العناية به فيما مضى. وقيمة الاشتراك فيها مئة قرش في القطر المصري و30 فرنكًا في سائر الأقطار فنتمنى لها الثبات والانتشار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
البدع والخرافات
والتقاليد والعادات
كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد
رسم الخطاب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس
تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل
بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من
الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بالهداية وهداني
إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل
بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها
إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل
للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة -
الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار.
(1)
زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من
مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل
الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله سبحانه وتعالى في العمل مع أنه بريء من
ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في
أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن
الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة
أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية.
(2)
الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم
مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما
يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة
محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة
حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر
المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها
ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا
رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من
المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم
الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم.
(3)
أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا
الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة
الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن
غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن
يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية
التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء
المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس
عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع
مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى
حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة.
(4)
الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم
وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله
يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ
***
(المنار)
اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين
من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد
بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في
مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى
لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور
الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء
المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات
الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في
تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه
أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء
الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى
من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع
الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ
لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛
وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم
بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من
دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من
الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحياة الزوجية
(2)
اختيار المرأة لِمَالِها:
إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان
مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق
الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط
السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال
وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا
مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت
بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا
حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن
يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن
أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا
مداهنًا.
يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في
نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون
له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين
اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به
معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي
هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة
للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا
بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم
آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا
يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد
بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية
والاجتماعية؟
يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية
فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي
ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم
عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين)
وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم،
وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على
التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن
نطقت مخالفة.
لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول
عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا
للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر
وآيات للمتفكرين.
وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق
وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان
صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون
على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين
مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري
بذلك أحد منهما قبل الاقتران.
ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون
الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش
كما قلنا آنفًا.
الطريقة المثلى في الاختيار:
يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله
تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقوله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74)، وقوله - جل ثناؤه -:
{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) وهذه الصفات بعضها بدنية،
وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما
يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض.
أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة
البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء
حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى
ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن
الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق
فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى
الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب،
(وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال
البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة
الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا
للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة.
قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا
من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم
يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو
النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة
لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق
رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة
التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه.
وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما
الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة.
وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق
بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في
الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم
قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء
حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في
اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق
يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة
للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز
ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات
العفة، قال:
فأول إحساني إليكم تخيري
…
لماجدة الأعراق باد عفافها
ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛
لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من
غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر
الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من
محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها
من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من
سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي
الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط
العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق.
ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص
والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين
يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق
ويحيط به الشقاء.
وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص
والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون
البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء
وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون،
ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم
والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير
المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم،
إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة
النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على
طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في
داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه
ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل
يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن
على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون
نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم
تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له.
ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا
يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر
عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة.
كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة
معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب
الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر
على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه
الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا
ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة
فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما
صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت.
ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع
بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار
الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه،
ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر
أن جماهير الشبان المحترمين لا يرغبون في غير المهذبة القادرة على إدارة المنزل،
وإقامة النظام فيه؛ بادر الناس إلى تربية بناتهم على الطريقة المرغوب فيها؛ لأن
الفتيات يطلبن الفتيان دائمًا بلسان الحال والاستعداد، فكل ما يشكو منه بعض الشبان
المهذبين من سوء تربية البنات؛ سببه سوء تربية البنين في الجمهور.
وإن لي كلمة قلتها ثم علمت أن للأوربيين كلمة تخالفها؛ فأذكرهما هنا.
أما كلمتهم فهي: (كما يريد النساء يكون الرجال) وأما كلمتي فيه (كما يريد
الرجال يكون النساء) والدليل على هذا أن النساء لا استقلال لهن في أنفسهن
وإنما هن تبع للرجال عند جميع الأمم.
يولد للزوجين غلام وجارية؛ فيربيان الغلام على أن يكون رجلاً مستقلاًّ ببيت
كبيتهما، وعلى أن ينهض بكفالتهما عند الكبر أو العجز إذا كان فقيرين، ويربيان
الجارية على أن تكون تابعة لرجل يتزوج بها فيعولها ويكفلها فيكتفيان أمرها. ينشأ
في الغلام من أول سن الإدراك شعور الاستقلال بنفسه وحاجة غيره إليه، وينشأ في
الجارية شعور القصور والحاجة إلى كفالة رجل غريب مجهول ستكون تابعة له.
ومن التقاليد العامة في أمتنا وفي غيرها أن هَمَّ النساء الأكبر هو: أن يكن بحيث
يحبهن الرجال ويرغبون فيهن؛ لأنهن في حاجة إلى كفالتهم ولا يسهل عليهن طلبهم
إلا بلسان الاستعداد، وكونهن كما يحبون ويرغبون كما قلنا آنفًا، ثم إن الوالدين
اللذين يربيان الغلام والجارية يعلمان أن تزويج الجارية أعسر عليهما من تزويج
الغلام؛ من حيث إنه لا عار عليهما ولا عليه في التماس امرأة بالطلب والبحث؛ ولا
ممن هم دونهم، وأنه من العار العظيم أن يبحثا عن زوج لبنتهما، ويعرضاها على
الرجال، وإن كانوا من الأكفاء، وأشد من ذلك عارًا أن تبحث هي عن الزوج
وتعرض نفسها على من تظن أنه يرضاها، وإن الشرف والمصلحة محصوران في
تعريضها للخاطبين بتربيتها على ما يحب الأكْفاء ويرضون. نعم، إن الأوربيين قد
حاولوا تربية النساء على الاستقلال وتعليمهن طرق الكسب وجعلوا للبنات رأيًا في
اختيار الأزواج، ولكنهم لم يخرجوا عن جعل المرأة تابعة للرجل ولم يقدروا على
جعل أكثر النساء مستقلات في معيشتهن، غنيات عن الرجال، بل هم الذين يربون
بناتهم على ما يرغب فيه جمهور فتيانهم، ويَخْطبُون الزوج بالحال وبالمال جميعًا،
ويشعرون من سعادة الحياة الزوجية بما لا يشعر بمثله من لم يبلغوا شأْوهم في الحياة
الاجتماعية، وللجارية المخطوبة عندهم مقام رفيع، ولربة البيت مكانة عالية ولأم
الأولاد المقام الأعلى، إنما قالوا كلمتهم تلك للترغيب في تعليم المرأة؛ إذ لا يقدر
الرجال على إتقان التربية إلا بإسعاد النساء لهم عليها، ثم إن هذه التربية الاستقلالية
قد أضرت بالنساء أنفسهن حتى كثرت أصوات الكاتبات منهن بالشكوى منهما، ونقلنا
بعض ما كتب في المجلد الرابع فليراجع.
***
الدين والأخلاق:
ملاك تهذيب الأخلاق وقوام الملكات الدين؛ فلو رُبِّي البنات تربية دينية
صحيحة لتم لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدرًا لمحاسن الأعمال، وقرة أعين
للرجال، وقد عرفت الأمم الحية ذلك؛ فعنيت بتربية البنات على آداب الدين
وأخلاقه وأعماله على فساد عقائد الكثيرين من علمائها وحكمائها؛ ذلك بأن هؤلاء
الذين رأوا في دينهم ما لا ينطبق على علمهم القطعي فتركوا الدين للعلم يعتقدون أن
الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن هذا الروح هو الأصل في الحياة
الزوجية والحياة القومية لاسيما في النساء والناشئين؛ فإذا هو زال تعذر الاستغناء
عنه أو استبدال غيره به؛ كالشرف والعلم بالمصلحة. والذين جروا على هذه
الطريقة من نصارى الشرق يتحامون الانتقاد على الدين في حضرة النساء، وإن
كانوا لا يعتقدون ولا يؤمنون لئلا يتسرب الشك والارتياب إلى نفوس النساء، بل
أخبرني بعض علمائهم وأدبائهم المشهورين أنهم يكونون في النادي أو السامر ينتقدون
بعض رجال الدين منهم؛ فتدخل إحدى النساء فيحولون الحديث لكيلا تسمع انتقادهم
فيقل احترام الدين من نفسها ويضعف الشعور به في قلبها. ولا تجد جزءاً من هذه
العناية عند المسلمين الذين جهلوا الدين فأهملوه، بل ولا عند الذين سلم
اعتقادهم وحسن عملهم. وكل ما عند النساء المسلمات من الدين فهو من تقليد
الذين نشأن فيهم وتربين بينهم ليس للرجل فيه عناية ولا عمل، ويا ليت فساق قومنا
وزَنَادِقَتهم يكتفون بإهمال تربية النساء على آداب الدين، وتعليمهن أحكامه، ولا
يُظهرون لهن ما هم عليه من الفساد والإلحاد، فقد حدثني كثيرون من الثقات
المختبرين أن كثيرًا من المسلمين (الجغرافيين)[*] يجتمعون مع عيالهم لطعام الغداء
بعد الظهر في شهر رمضان، وأن منهم من يتزوج بالمرأة فيكرهها على
شرب الخمر معه، وأخبرني شيخ من أهل القاهرة أن رجل تزوج ببنت من أقاربه -
أي أقارب الشيخ- فدعاها إلى شرب الخمر معه فأبت ولما أعياه إلزامها طلقها.
وأغرب من هذا ما يتحدثون به عن بعض أصحاب البيوت أو البيوتات من إشراك
البنات مع الرجال في معاقرة الخمر، ومن إحضار أهل الرقص والعزف من
الرجال والنساء إلى البيوت واجتماعهم في بعض الحجرات على المعاقرة
والمخاصرة، والنساء يسمعن وينظرن من وراء السجوف والأستار.
يظن الكثيرون من فساق البلاد المشرقية أن الدين في أوربا قد صار نسيًا
منسيًّا، وأن ذلك لم يزد أممها إلا ارتقاء؛ لأنه أثر الارتقاء؛ وذلك أن هؤلاء لا
تتوجه نفوسهم ولا يهديهم استعدادهم إلا لمعرفة أمثالهم، والصواب أن أكثر أهل
أوربا متدينون، وإنما أبطلوا التقاليد النصرانية التي تنافي العمران والارتقاء؛ لأنها
ليست إلا من وضع الرؤساء؛ وهم مع ذلك أشد الناس تعصبًا لدينهم، وعلى من
يخالف دينهم، ولا ينافي ذلك كثرة الفسق في بلادهم لا سيما التي تغلب فيها
الكاثوليكية كفرنسا وإيطاليا؛ فإن من الأسباب في ذلك المذهب -الذي يعد من
أصوله-: أن القسوس والرؤساء يغفرون الذنوب، كما أن من أسبابه: الحرية
الشخصية، وعدم النكير، وإباحة الخمر (أم الخبائث) ولقد يسهل على الفاسق أن
يجد كثيرًا من الفاسقين والفاسقات في كل المدن العظيمة في الأرض، حتى ما كان
فيها الفسق منكرًا وممنوعًا إظهاره لا يراه إلا الباحثون عنه ومن بحث عن شيء مما
لا يخلو العمران منه وجده؛ فإذا هو قصر همه عليه، ظن أن كل النساء أو جلهم
على مذهبه فيه.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدق ما يعتاده من توهم
أهل فرنسا أقل الأوربيين تمسكًا بالدين؛ لتطرفهم في الحرية والجمهورية التي
يرون سلطة الكنيسة الكاثوليكية خطرًا عليها، ولذلك قاوموا جمعيات القسيسين
ومدارسهم، وقد سألت فرنسيًّا عن تدين قومه، فقال: (أكثرنا متدين يحب الله ولكن
لا نحب الكنسية) .
إذا فرضنا أن تعميم التعليم والتربية على حب الوطن والآداب القومية قد يغني
عن الدين في إصلاح حال البيوت والجمعيات؛ فأوربا هي التي يمكنها أن تستغني
عنه بذلك ولكنها لم تقل بذلك ولم تُعمل به، ولا أدري بماذا يستغني المسلمون عن
آدابهم الدينية التي أمسوا لا يبالون بها. هل الرابطة الوطنية التي يلفظ بها مصطفي
كامل وأضرابه من الأَحْدَاث المتفرنجين كافية في هذه الأمة التي غلب عليها الجهل
والأمية، ووقع معظم أوطانهم في قبضة الدول الأجنبية - لأن تصلح ما أفسد الزمان
فيها من الآداب الشخصية والروابط الزوجية لتكوِّن منها أمة عزيزة قوية، وهل
يكفي في نفخ روح هذه الحياة الوطنية أن ينعق ناعق في الأمة بمدحها، وإن لم
يسمع نعاقه إلا قليل ولم يفهم مراده منهم إلا أقل القليل، وأكثر من فهم ومن لمن
يفهم، يرى أن النفاق وسيلة للدرهم؟
ومن العجائب أن هؤلاء الأحداث المتفرنجين يهذون أحيانًا أو كثيرًا بالكلام في
الأمة والملة، ويشكون بالقول من سوء الحال وخطر الاستقبال ثم لا ينتبهون
لوجوب بث روح الدين في البيوت، وتربية النساء على أعماله وآدابه ليربوا
الأطفال عليها، بل تراهم بسيرتهم عونًا للجهل على إفساد بقايا الدين التقليدية؛ إذ
لا يتعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا يعملون بما هو معلوم منه بالضرورة، ولا
يسألون عن دين من يخطبونها؛ وإنما يسألون: هل تعلمت لغة أجنبية؟ هل تعلمت
العزف على البيانو والعود؟ هل عندها مال كثير يساعدنا على المصيف في أوربا
والتمتع بلذاتها؟ ، وأعجب من هذه أنهم يدَّعون أحيانًا الانتصار للدين بذم أوربا
وذكر طمعها في بلاد المسلمين، واعتدائها على استقلالهم وعلى دينهم بما تبعثه من
الكتب والدعاة إلى النصرانية. ويزول هذا العجب إذا عرف سببه، وهو مخادعة
المسلمين بإيهامهم خدمة الملة لينفحوهم بالدرهم والدينار، وأنَّى يخدم الملة من لا
يفهم كتابها، ولا يعرف سنتها، ولا يتحقق بعقائدها ولا يقيم عباداتها، ولا يتخلق
بأخلاقها، بل أخذ عن أوربا من الأخلاق والعادات ما يفرق به كلمتها، ويبطل به
وحدتها، وينسخ به شِرعتها، ثم هو يشكو منها ومن آثارها في إفساد النابتة
ومجموع الأمة! .
وجملة القول: إن الحياة الزوجية في المسلمين لا يمكن أن تكون سعيدة في
نفسها ووسيلة لارتقاء الأمة وتعزيزها إلا إذا كان الزوجان معتصمين بحبل الدين،
مستمسكين بعروته في الأخلاق والآداب والأعمال؛ ليكونا قدوة لأولادهما في ذلك.
وإن الخطر الذي يهدد المسلمين وينذرهم بزوال سلطتهم من الأرض لا يزول إلا
بصلاح حال البيوت الأدبية على هذا الوجه. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (تنكح
المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا الترمذي عن أبي هريرة، ولكن مَنْ لنا
مَنْ يُصلح لنا أخلاقنا، وآدابنا الدينية، وليس لنا زعماء ولا سراة من أهل الدين
والحكمة. وإذا ظهر فينا زعيم فإننا لضعف استعدادنا لا ننتفع به، بل يُحَكِّم فيه
جمهورنا كلام الأَحْداث المغرورين، الذين يضرهم ويفضحهم ما يدعو إليه من إحياء
روح الدين!.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نعبر على المسلمين الذين ليسوا على شيء من الإسلام بالمسلمين الجغرافيين؛ لأن الإحصاء الذي يذكر في كتب الجغرافية يعدهم منهم، وقد نبهنا على هذا من قبل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
حقوق الذميين ومعاملة الأجانب
(س 9) أ. م. في سراي بوسنة: كتب محمد فريد وجدي في كتابه
(تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) في بحث واجبات المسلمين بالنسبة
للذميين، أي أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين في صحيفة 86 (وقد ترك لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم أُسوة يجب أن نأتسي بها في
معاملة الأجانب عن ديننا ومخالفي معتقداتنا؛ فإنه عليه أشرف التحية والسلام كان
يحضر ولائمهم ويغشى مجالسهم، ويشيع جنائزهم، ويعزيهم على مصائبهم) .
ونحن لم نطلع على ذلك في كتاب غير كتابه المذكور ولا ندري: أيجوز ذلك
أم لا؟ وخصوصًا تشييع جنائزهم، فإنه صلي الله عليه وسلم على ما نعلم نُهِيَ عن
ذلك بقوله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وهذا وإن نزل في حق الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛
إلا أنه يدخل فيهم سائر الكفار قياسًا بدليل قوله عز وجل عقيب ذلك: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84) فجئنا إلى حضرتكم سائلين
أن تبينوا لنا: هل صح أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما نقلنا آنفًا من الكتاب
المذكور، وهل جاز لنا أن نفعل ذلك اقتداء بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن
صح ذلك وجاز لنا أن نفعل؛ فما هو الجواب عن الآية الكريمة المذكورة؟ أفيدونا
بذلك آجركم الله تعالى.
(ج) ما ذكره فريد أفندي في كتابه غير صحيح على إطلاقه، وقد بيَّنا غير
مرة أنه لا يجوز الاعتماد على ما يُذكر في الكتب من الأحاديث والسنة إلا إذا كانت
مَعْزُوَّة إلى مخرِّجيها من المحدثين؛ ليعرف صحيحها من غيره، وعبارة فريد أفندي
تدل على أن ما ذكره كان سنة متبعة، ولو كان كذلك لاتفق الفقهاء أو أهل الأثر
منهم على القول بوجوبها أو سنيتها. نعم ورد في العيادة حديث صحيح ذكرناه في
المجلد السابع وفيه حديث ضعيف عند البيهقي عن أنس (كان إذا عاد رجلاً على
غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي كيف أنت يا نصراني) ولا
يُحتج به. وأي حجة لنا على حسن معاملة المخالفين لنا في الدين أقوى من قوله
تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8)
…
إلخ، ومن إباحة طعام أهل الكتاب
والتزوج منهم، ومن وجوب حماية الذمي والمعاهد وغير ذلك مما هو معلوم فلا
حاجة إلى أن نعزو إلى السنة ما ليس منها، ونوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله
تعالى عليهم مما ذكر في السؤال.
أما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات} (التوبة: 84) الآية،
فهو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة والاستدلال به على
تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر، ولم أر أحدًا من علماء السلف
وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من
الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله {وَلَا
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء بل نقل
بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو
ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم
على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له
أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. وقد ذكرنا في المجلد
الماضي وغيره كثيرًا من أحكام معاملات المسلمين لغيرهم وفيها من التساهل ما
نفتخر به على جميع الملل، فلتراجع.
***
العدالة العامة
وحكمة الله في الناس
(س10) ومنه: ربما يقع البحث عن (الواجب الوجود تعالى وتقدس)
وأوصافه الشريفة وخصوصًا كمال عدله ورحمته تعالى، فيوجد من الشاكين
المشككين من يقول: لو كان الله موصوفًا بكمال العدل لما جعل بعض الناس مؤمنين
وبعضهم كافرين وجعل مأوى الطائفة الأولى الجنة والآخرة جهنم، فإذا أجيب له عن
ذلك بما أجبتم في واحد من أعداد المنار وهو أن الله تعالى لم يخلق كافراً قط إلى
آخر ما قلتم وأقنع بذلك أورد اعتراضًا آخر يقول فيه: نعم سلمنا أنه لم يخلق كافرًا
قط كما قلتم، لكن ليس من العدل أن يجعل بعض الناس مولودًا من الأبوين المؤمنين
اللذين يكونان سبب إيمانه وفي ديار الإسلام التي أكثر أهاليها أهل الإسلام والناشئ
بينهم في العادة يتخذ دينًا ومذهبًا مثل دينهم ومذهبهم، وأن يجعل البعض الآخر
مولودًا عن الأبوين الكافرين اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وفي دار أهل
الكفر الذين بمجاورتهم والنشوء بينهم يكون هو في العادة مثلهم فرب رجل مؤمن
لو ولد من الأبوين الكافرين وخصوصًا في دار أهل الكفر لم يكن مؤمنًا بل قلما
يتصور ذلك وبالعكس؛ رُبَّ رجل كافر لو ولده أبوان مؤمنان، وخصوصًا لو نشأ
بين أهل الإسلام كان مسلمًا ولم يكن كافرًا. فسهّل لبعضهم الدخول إلى الإسلام
ووعده الجنة وصعب ذلك للبعض الآخر وأوعده بجهنم.
وإذا جيء إلى البحث عن كمال رحمته تعالى يقول: إما أنه تعالى ليس
متصفًا بكمال الرحمة، وإما أنه لا يدخل أو لا يخلد أحدًا في النار؛ فإن تخليد
التعذيب لا سيما بالنار التي هي أشد التعذيب الذي إذا ذكر اقشعر جلد الرجل المدني
لا يليق بإنسان، بل يخرجه عن أن يكون رحيمًا وبالطريق الأولى عن أن يكون
متصفًا بكمال الرحمة؛ فكيف يليق ذلك بالبارئ تعالى الذي نقول في حقه: إن أعمالنا
لا تضره ولا تنفعه؟ فنحن أتينا مسرعين إلى باب جنابكم راجين أن تشفوا غليل
صدورنا بحديد الرد على الاعتراضات المذكورة للشاكين المشككين وتروونا بزلال
أجوبتكم الشافية الوافية التي تكون حججًا ساطعة للموحدين، دامغة للذين امتلأت
قلوبهم بشبهات الطبيعيين والدهريين، وخلت عن اليقين المخصوص بالمؤمنين،
لا زلتم ملجأ وملاذًا للمحتاجين، إلى الاستنارة بنور علم الدين المبين، وموردًا للذين
صدورهم ظمأى، وطبيبًا للذين قلوبهم مرضى، قاهرًا للذين أفئدتهم هواء.
(ج) ترى في كتب الصوفية كلمة جليلة يرونها حديثًا عن النبي - صلى الله
تعالى عليه وسلم - ويقول المحدثون إنها لم ترو حديثًا وإنما هي ليحيى بن معاذ
الرازي رحمه الله تعالى، وهي (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولا يعرف علو
قدر هذه الكلمة إلا من عرف نفسه وعرف ربه فإن كانت ليحيى فلله در يحيى. من
عرف نفسه بعرفان معنى الإنسان وما خص به من المزايا والمقومات لا يصدر عنه
مثل ذلك الاعتراض الذي يهذي به جهلاء الماديين أو المقلدين الذين قال في مثلهم
الشاعر:
عمي القلوب عموا عن كل فائدة
…
لأنهم كفروا بالله تقليدا
لا ينكر هؤلاء المعترضون أن الإنسان أرقى المخلوقات المعروفة في هذا
العالم ثم إنهم على اعترافهم بفضل الإنسان، وسموّ الحكمة في خلقه وتقويمه ينبذون
من الأقوال ما يستلزم الاعتراض على خلق الإنسان والاعتراف بأن عدمه خير من
وجوده.
ثم إن لاعتراضهم سببًا آخر وهو الجهل بمعنى ما ورد من إثابة المحسنين
وعقاب المجرمين إذا ظنوا أنه من قبيل عقاب الحكام لمن يخالف أوامرهم وقوانينهم
انتقامًا منهم، والحق أن ما ورد في القرآن من ذلك هو كالشرح لما أودعه الله تعالى
في خلق الإنسان من المزايا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والنتيجة أن ذلك الاعتراض جهل بالحقيقة
وجهل بالشريعة.
بيان ذلك أن الإنسان خلق مستعدًّا لارتقاء وكمال في عقله وروحه غير محددين،
على أن يكون ارتقاؤه بسعيه وعمله الاختياري كما خلق مستعدًّا لأن يهبط بسعيه
واختياره إلى أخس دركة من الشر والرذيلة. هكذا خلق الإنسان كما هو معروف لنا
في أنفسنا وفيما نراه في أفراد جنسنا وجمعياته، ولم يخلق حيوانًا محضًا كسائر
أنواع الحيوان محدود الإدراك والقوى ملهما طلب ما تقوم به حياته الحيوانية
واجتناب ما لا حاجة له به في تقويمها، ولا ملكًا روحانيًّا كامل الخلقة محدود القوى
لا أثر لعلمه في ارتقائه ولا في تدليه، فالإنسان نوع من أنواع الحقائق الممكنة تعلقت
قدرة الله تعالى بإيجاده فوجد على ما نعلم من الاستعداد غير المتناهي الذي تظهر
آثاره جيلاً بعد جيل، ولو لم يوجد الله تعالى هذه الحقيقة لكان العالم ناقصًا، ولم يكن
فيه شيء من هذه الآثار البديعة التي ظهر وسيظهر بها من سنن الله تعالى وحكمه في
خلقه ما لم يكن يظهر لولا هذا النوع المكرم؛ لأن الحكمة الأزلية قضت بأن تكون
آثار مخلوق مختار في عمله غير محدود في قواه وتصرّفه.
لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم تخلق قوة من قواه البدنية والروحية عبثًا فكل قوة
منها آلة لاكتساب الخير والسعي في أسباب الرقي؛ إذا لم يُفْرِط ولم يُفَرِّط في
استعمالها. وقد جعل الله له ميزانين يعرف بهما القسط في الوزن من التفريط وهو
الخسران والإفراط وهو الطغيان وهما العقل والدين. فمن كان له اعتراض على قوة
من قوى الإنسان أو مزية من مزاياه يزعم أنها تنافي العدل الإلهي أو الرحمة العامة
فإننا مستعدون لكشف الشبهة له في اعتراضه وإثبات أن تلك القوة آية من آيات
العدل والحكمة وأثر من آثار الفضل والرحمة.
بعد التسليم بأن الإنسان أثر من آثار الحكمة والرحمة ننظر في تأثير عمله في
نفسه التي هي حقيقتة وجوهره، كما أن البدن صورته ومظهره فنجد أن من تلك
الأعمال ما ترتقي به النفس في معارفها وصفاتها وهو ما تكتسبه من العقائد الصحيحة
والمعارف الحقيقية ومن عمل الخير والبر، ومنها ما هو بضد ذلك والمرتقون هم
الأبرار، والآخرون هم الفجار، وإذ انتهينا إلى هذا الحد من بيان حقيقة الإنسان.
فإننا نذكر مسألة الكفر والإيمان، ونذكر بعدها مسألة الرحمة والعذاب متجنبين
التطويل والإطناب، لما سبق لنا من تكرير الدخول في هذا الباب فنقول:
بينا غير مرة أن عقائد الإسلام هي مرقاة للعقل وآدابه وعباداته مرقاة للنفس
وأحكامه مرقاة للاجتماع وقد ذكرنا هذا المعنى في تفسير: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) من هذا الجزء. فمن دُعِيَ إلى هذه الأصول دعوة
صحيحة، فلم ينظر فيها أو نظر فظهر له الحق فعانده ولم يتبعه يكن في غاية
الانحطاط العقلي والنفسي ونهاية البعد عن الحق والخير والتوغل في الباطل والشر
وهو ما يعبر عنه بالكفر والجحود وهو الجاني على نفسه بمعاندة الحق والخير
ورفض سلم الترقي، وأما من لم تبلغه هذه الدعوة على وجهها الصحيح الذي يحرك
إلى النظر ومن بلغته فنظر فيها بالإخلاص ولم تظهر له حقيقتها فهو غير معاند
للحق ولا كاره بسوء اختيار للخير. وعلامة مثله أن يتبع ما يظهر له أنه الحق
ويعمل بما يراه من الخير بحسب فهمه واجتهاده، ولكنه مع هذا لا بد أن يكون منحط
العقل والإدراك؛ إذ عُرض عليه أرقى العقائد وأسمى الفضائل وأعدل الشرائع فلم
يهتد إلى فهم مكانة هذه الأصول فلا يكون ارتقاؤه من فهم هذه الأصول
وتقبلها وكمل نفسه بها. فالناس طبقات في الارتقاء العقلي والروحي أرقاها طبقة
المؤمنين الكاملين و (قليل ما هم) ، وأسفلها طبقة الذين ينبذون الحق لا يحفلون به
ولا ينظرون في دعوته أو يعاندونه ويجحدونه كراهة وعداء لأهله وبينهما طبقات من
الناس كالذين يقبلون الدعوة ولا يقومون بحقوقها كما يجب والذين لم تبلغهم الدعوة
بالمرة. وقد أرشدنا الدين إلى أن الناس يكونون في النشأة الآخرة في دارين
إحداهما دار نعيم ورضوان، والثانية دار آلام وخذلان سميت الأولى الجنة؛ لأن فيها
جنات وبساتين، لا بمعنى أنها بستان واحد فقط، وسميت الثانية النار والجحيم، لا
بمعنى أنها كلها جذوة نار ملتهبة، بل ورد أن فيها زمهريرًا. وأنهما دارا خلود
للسعداء والأشقياء، وكلاهما من عالم الغيب لا يجوز لنا البحث عن حقيقتهما والتحكم
في بيان كُنهما كما هو مقرَّر في علم العقائد من وجوب التفويض في أمر
الآخرة وعالم الغيب.
وخلاصة القول: إن الإنسان خلق مستعدًّا لقبول الحق والباطل، ولعمل الخير
والشر، وهو مختار في أفعاله التي بها يترقى في عقله وروحه؛ وكمالها ما أرشد
إليه الدين الحق أو يتردى فيهما؛ وغاية ترديه الجحود والكفر. وإن خلق الإنسان
على هذه الصفة التي هو عليها من أبدع حكم الله وعدله، وإن هذا النظام والإحكام
سيكون من أثره سعادة المرتقي بالإيمان الكامل والعمل الصالح في الحياة الآخرة،
وشقاوة الكافر المجرم في النشأة الثانية، وكل ذلك نتيجة عمل الفريقين وأثر سعيهما
كما يتنعم العالم الحكيم باللذات العقلية، والمعارف الصحيحة، والأخلاق الكريمة في
هذه الحياة؛ من حيث يكون الجاهل الشرير في عذاب أليم من وساوسه وهواجسه
ومفاسد أخلاقه. فالجزاء في الدنيا وفي الآخرة كله عدل ورحمة؛ لأنه أثر النظام
والحكمة، فالاعتراض على تفاوتهم في الآخرة كالاعتراض على تفاوتهم في الدنيا:
{وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (هود: 101){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) .
وقد بينا هذه المعاني مرات كثيرة في التفسير وفي غير التفسير، وكنا نود أن
نكتب هذا الجواب في وقت صفاء وسعة ليكون أتم بيانًا، ولكن زارنا عند الكتابة
أناس شغلونا بالقيل والقال؛ فإن خفي عن السائل شيء أو أحب زيادة البيان فيه
فليكتب إلينا ثانية، والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد
وغيرها من البدع
كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد
سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به
في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي
حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛
لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد
أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر
المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه
ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن
حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على
عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص
112 من الفتاوى الحديثية:
وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في
هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في
فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم
لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين
النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا
(تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة
التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا
يضر ذلك؟
فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير
كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه،
وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى)
وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة
المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع
شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا
فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى في
الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر
فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر
وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة
تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون
الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله
تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على
أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن الله تعالى
يباهي بكم الملائكة) .
وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن
الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم
الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول
السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز
قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب
…
إلخ.
وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه
فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع
المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع
لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع
المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي
الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على
الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو
نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور
ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي
الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ.
وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر
معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع
عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا.
وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب
النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي
الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم
في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال
يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ
الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله
الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أحوال المغرب الأقصى
كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي:
أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد
من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته
تقرير مطالبه الآتية:
(1)
ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من 100 أورطة.
(2)
أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة
وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية.
(3)
أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين.
(4)
مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين.
(5)
تعيين مستشارين فرنسويين للمالية.
ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من
أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير
الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض
طلبات السفير.
ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن
اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل
إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل
الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا
لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها
وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من
حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه.
هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن
الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي
حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت
من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط،
والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير
الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من
(50000)
جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود
ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي
المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة
جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون
المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي
بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس
ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ......) والناس ينتظرون
من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على
الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول
إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من
السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر
هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية
نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور.
أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر
الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية.
ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح
المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان
والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس
فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير
الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح
المدارس ولا إصلاح بدونها! !
رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة
إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية
القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن
ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية
المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم
يكتف بالرد عليكم.
هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي
إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون
نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي
إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) .
اهـ.
(المنار)
إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك
لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ
بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما
يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا
لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك
كرامة لمولاي إدريس رحمه الله فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور
العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار
مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في
حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي
خسر بها الروس نحو150رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع
ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من
فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما
بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا
وبالاً عليهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحياة الزوجية
(3)
وأما العلم فلا يشترطه في المرأة أحد في بلادنا إلا ثلة من المتعلمين
والمتأدبين على الطريقة الإفرنجية، وقليل من العارفين بكُنه مدنية الإفرنج الذين
يقدرون محاسنها قدرها، وإن لم يتعلموا على طريقتهم. ولا يزال أكثر المسلمين لا
يعقلون لتعليم المرأة فائدة، بل يرونه ضارًّا من جهة واحدة هي عندهم لا تُوازَن ولا
تُقابَل بشيء إلا وتكون أربى منه وأكبر، وهي أن البنت المتعلمة تجرَأ على الرجال،
وتقدم على مكاتبة من تميل إليه من الشبان، وإنه ليوجد في المتعلمات لهذا العهد
من يُحكى عنهن ذلك، ومثل هذه الحكايات تسري، وتذيع بسرعة البرق وتؤخذ
بالتسليم، ويجري فيها القياس للقطع بأن علتها التعلم، وأنه حيث وجدت العلة لزمها
المعلول لا محالة. ولا يمكن إقناع العامة بأن العلم ليس علة لمكاتبة البنات للشبان
يلزم من وجودها الوجود، وإنما هو شرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده
وجود ولا عدم؛ لأن العامة لا تفهم مثل هذه الحجج وخاصة النساء، فالعمدة في
إقناعهم بمزايا تعليم النبات هو ظهور أثره الحسن في المتعلمات بمصر وتونس
وسوريا وغيرها من الأقطار،ولم يظهر. على أن التقليد يفعل في الأمم ما لا
يفعل الإقناع؛ وأشد الناس استعدادًا وقبولاً له الشعب المصري، وإذا وُجد في
أمرائه وكبرائه عناية بتعليم البنات تقليدًا للإفرنج الذين يُعاشرون ويُمازجون، فلا بد
أن يَعُمَّ التقليد جميع الطبقات، وقد ظهرت بوادر ذلك منذ أعوام، وهي تنمو مع
السنين والأيام، فالآباء والأمهات صاروا ينبذون بناتهم إلى المدارس،
وهم لا يدرون ماذا يتعلمن ولا يعرفون ما المصلحة في ذلك إلا أن البنت المتعلمة
يرغب فيها الخاطبون الأغنياء ما لا يرغبون في غيرها، ثم إنهم بهذا الاندفاع لا
يميزون بين مدرسة إسلامية أو غيرها، ولا يفكرون في خطر إفساد عقيدة البنت
وتحويلها عن دينها أو عادات قومها وخلائقهم المميزة لهم، ولا في كونها تطرح الحياء
وتتجرأ على مكاتبة الرجال - كما يعتقدون - لأن تيار التقليد الجارف لا تقف في
طريقه هذه الخواطر إن هي طافت بهذه العقول الضعيفة، والقلوب الميتة التي أعوزتها البصيرة والعزيمة، فلم تجدهما في وراثة ولا تربية. وفي هذا الاندفاع
خطر عظيم على الأمة، كنا ولا نزال نحدث الناس به؛ فيقبله المعتدلون وينبذه
الغلاة في التفرنج، وقد أتيح لنا في هذه الأيام ما يقنعهم وهو ما قاله اللورد كرومر في
تقريره عن مصر لسنة 1904، وإننا نذكره هنا لأن بحثنا في الحياة الزوجية إنما
هو من حيث هي ركن لحياة الأمة وسعادتها أو عكس ذلك. قال:
تعليم البنات
(كثيرًا ما أسمع الناس يقيمون الحجج والأقيسة على حمل بعض المسائل
السياسية والإدارية في بَر مصر ويبنونها على فرض أن المصريين لا يزالون
متصفين اليوم بصفات أجدادهم وخصائصهم. وعندي أن هذه الحجج والأقيسة لا
تخلو من سفسطة. فالتغير حاصل ولست أقصد أن أعظمه أو أبالغ فيه، وإنما أقول:
إنه لا يمكن أن كل خلق وصفة من الأخلاق والصفات القومية يتغير تغيرًا تامًّا في
ربع قرن، ولو أمكن ذلك لما كان مستحسنًا؛ لأنه يخشى في مثل هذا التغير السريع
أن يذهب الحَسَنُ من الأمة بجَرِيرَةِ الرديء. ولكن ليكن معلومًا عند الحكام
المصريين وعند كل من له اتصال بأمور مصر أن هناك قوات عاملة قد أثرت في
أخلاق المصريين القومية فغيرتها بعض التغير، وستغيرها أكثر من ذلك على مر
الأيام. وهذه القوات العاملة معظمها يعمل تَدْرِيجًا ويغير رويدًا رويدًا حتى لقد يخفى
عمله عن عيون المراقبين في بعض الأحوال، ولكن بعضها يعمل سريعًا، حتى لقد
غيَّر تغييرًا ظاهرًا محسوسًا.
ومن الشواهد على ذلك تعليم البنات؛ فإن الرأي العام المصري تغير في
هذه الأعوام الأخيرة تغيرًا كليًّا في هذه المسألة الجوهرية العظيمة الشأن. ومما
يزيدنا استعظامًا لهذا التغير في الرأي العام أنه آخر ما كان الناس - حتى الذين
يراقبون منهم أخلاق أهل الشرق أدق مراقبة - يتوقعون حدوثه بمثل ما حدث من
السرعة؛ نظرًا إلى الآراء المعهودة عن مقام المرأة في بلاد مصر. ولكن مصر بلاد
العجائب والغرائب، فلا عجب إذا كَذَّبَ أهلها نبوءات المصلحين الاجتماعيين
بتحولهم عن حال إلى حال؛ تحولاً لم يكن يخطر على بال، فقد كانوا منذ عشر
سنوات لا يُبالون بتعليم البنات، بل ربما استخفُّوا به واستنكفوا منه، ولذلك كانت
كتاتيبهم خالية من بناتهم سنة 1900 ما عدا 271 كُتَّابًا من جملتها الكتاتيب التي
تحت مراقبة الحكومة. وكان عدد كل البنات اللواتي يتعلمن فيها 2050 بنتًا، أما
في سنة 1904 فبلغ عدد الكتاتيب التي يتعلمن فيها 1748 كُتابًا، وبلغ عددهن فيها
10462 بنتًا. وأبلغ من ذلك أن 100 بنت طلبن دخول المدارس الابتدائية العالية
ومدارس تعليم المعلمات بالقاهرة في السنة الماضية؛ فلم يُجَبن إلى طلبهن لعدم
وجود محل لهن فيها. فأحسن خدمة يخدم بها المصريون المعارف والتعليم في
بلادهم تقوم بإنشاء مدارس ابتدائية منظمة للبنات في بنادر القطر.
هذا وإن قلة المعلمات المدربات على التعليم أفضت إلى تأخير تعليم البنات
في جميع فروعه، ولكن العقبات في هذا السبيل أسهل من العقبات التي في سبيل
وجود المعلمين المدربين على التعليم؛ فإن عند نظارة المعارف في المدارس
الابتدائية العالية والكتاتيب عددًا قليلاً من البنات المسلمات الممرنات على التعليم.
وعليه يتسع نطاق تعليم البنات شيئًا فشيئًا وفي مدرسة المعلمات الآن 15 تلميذة
ينتهي معظمهن منها في الثلاث سنوات القادمة، وينتظمن في سلك المعلمات. وقد
أخبرت أنهن متى انتهين من المدرسة لم يعسر وجود غيرهن من اللواتي يدرسن
مكانهن.
أما مقدار ما تؤثره هذه النهضة لتعليم البنات في أفكار الجيل المقبل من
بنات مصر وفي أخلاقهن ومقامهن فستُظهره لنا الأيام على مر الأعوام. على أنه إذا
تأتَّى عنها تغيير في مقامهن فالمأمول أن هذا التغيير يكون تدريجًا، وعسى أن
المصلحين الاجتماعيين - من أبناء مصر- يحفظون في أذهانهم قول مَثلهم العربي
(العجلة من الشيطان والتأني من الله) وعلى الأخص في هذه المسألة أكثر مما في
غيرها؛ لأن العجلة فيها يمكن أن تؤدي إلى طامة أدبية عظيمة، على أنه إذا لم
يتغير مقام المرأة المصرية تغيرًا تدريجيًّا فمهما قلد المصريون أهل التمدن الأوربي
ظاهرًا فهيهات أن يتشربوا روح التمدن الأوربي الصحيح بأحسن مظاهره حقيقة)
اهـ كلام اللورد.
فلينظر وليتأمل القارئ البصير كيف عَدَّ هذا السياسي الحكيم تحويل أهل
مصر بسرعة من حال إلى حال في هذه المسألة من العجائب والغرائب، التي لم
تكن تخطر في بال أحد من علماء الاجتماع وكيف أشار إلى أن هذه العجلة شيطانية
ونقول: إن نصيحته هذه للمصلحين من أبناء مصر سيحفظها له التاريخ ويذكرها له
في المستقبل مقرونة بإجلال الفضيلة والإخلاص لا سيما إذا كان إثم الانقلاب المنتظر
أكبر من نفعه كما يتوقع.
كانت حال النساء في أوربا على أسوء ما يخطر في بال البشر من المهانة
والاحتقار ولذلك كان ما يسمونه (رد الفعل) في التحول والانقلاب عظيمًا؛ فبعد أن
كانوا يعتقدون أن المرأة ليست من البشر، وإنما هي حيوان دون الإنسان وفوق
سائر الحيوانات، وبعد أن كانوا يَسُومُونها الخسف، حتى حرموا عليها أكل اللحم،
ومنعوها الكلام والضحك في حضرة الرجال، وأوجبوا عليها السمع والطاعة لزوجها
في كل شيء، ولو كان ضارًّا أو خسيسًا أو شاقًّا لا يطاق؛ أطلقوا لها العنان تتعلم ما
تشاء، وتعمل ما تشاء، وتتهتك كما تشاء وتحكم كما تشاء، حتى صارت تشارك
الرجال في أعمالهم الخاصة خارج البيوت فأهمل من أمر نظام البيوت بقدر ذلك ولا
غنى للبيوت عن النساء، وكل عمل خارجها فهو مستغن بالرجال عنهن، وانتهى
الأمر بكثيرات منهن إلى اختيار التبتل فرارًا من أثقال الزوجية، وناهيك بانتشار
البغاء، وشيوع الفاحشة وما في ذلك من المفاسد والمضرات.
وقد أنشأ العلماء والحكماء يشعرون بخطر هذا الإطلاق لصنف لا همَّ لأفراده
غير الزينة والراحة، واتباع هوى النفس؛ لأن وجدانهن أقوى من عقلهن، ولكن كل
ما يتعلق بصفات الأمم وشؤونها لا يظهر نفعه أو ضرره، ولا يمكن إيجاده أو منعه
إلا في زمن طويل.
ليس من غرضنا في هذا المقال أن نبحث عن أحوال الأمم في انتقالها وتحول
أحوالها، ولا عن حال النساء في أوربا، ومنافع تعليمهن ومضاره، وإنما غرضنا
أن نبين أن العلم الذي ينبغي أن تعرفه المرأة هو ما لا يخرج بها عن كونها امرأة
وهو ما تكون به قرة عين وخير سكن للرجل المتعلم يحسن معها به عيشه ويكون
عونًا لها على تهذيب ولده وإدارة شئون بيته لا ما تكون به فيلسوفة ولا سياسية ولا
صانعة، وهذا ما اختارته أرقى دول أوربا في العلوم والمعارف، وهي دولة ألمانيا
التي ينسب إليها بعض دول أوربا التقصير في تعليم النساء وستضطر كل الدول إلى
سلوك سبيلها في يوم من الأيام.
ليس البيت مملكة فيتوقف عمرانه على العلوم العالية والفنون الصناعية
والزراعية والتجارة، وتتوقف إدارته على معرفة الشرائع والقوانين، وليست
العلاقة بين البيوت كالعلاقة بين الدول فتضطر ربَّة البيت في حفظ حقوقه إلى
التوغل في السياسة والفنون العسكرية، حسب المرأة أن تتقن لغة أمتها وتعرف
آدابها وأن تعرف الحساب وعلم تدبير المنزل، وعلم حفظ الصحة، وعلم الأخلاق
وعلم التربية، وأن يكون هذان العلمان قائمين على أساس الدين مقرونين بمعرفة
عقائده وآدابه وأحكامه والتاريخ العام بالإجمال، وتاريخ أمتها وبلادها بالتفصيل وعلم
تقويم البلدان وعلم الاقتصاد. ثم مبادئ وموضوعات سائر العلوم وفوائدها بقوة
الإجمال، وأن تعرف الطبخ والخياطة والتطريز وما يتصل بذلك، ولا يصدنها عن
هذا أنها من بيوت الأغنياء الذين لا يطبخون طعامهم ولا يخيطون ثيابهم بأيديهم؛ فإن
علمها بذلك وتمرنها عليه نافع بل ضروري، وقد بلغنا أن قيصرة روسيا تحسن
الطبخ والخياطة وكانت فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند تنسج وتخيط
وتطرز، فهذا كمال للنساء إن لم يعملن به فعليهن أن يعلمن كيف يعملن في بيوتهن
ويعرفن نفقته ودرجة جودته، ويحسنّ المراقبة والرياسة على الخدم التي تقوم به.
أما معرفة موضوعات وغايات العلوم والفنون المتداولة في الأمم الحية فلها
فوائد، منها: أن لا تكون عدوة أو كارهة لشيء نافع لقومها فإن من جهل شيئًا عاداه
وكرهه، وأن الإنسان يكون ناقصًا بمقدار ما يجهل من المضار والمنافع. ومنها أن
تعرف قيمة زوجها إذا هي تزوجت بمن يشتغل بعلم أو فن مما يجهل النساء
تفصيله، فإذا رأته يشتغل بتجارب زراعية أو كيماوية مثلاً عرفت فضله في ذلك
ورجت له من الفائدة ما تكون عونًا له على عمله. فإن المرأة التي تجهل قيمة
زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله
إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة
بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين
بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية التي بيَّنّا معناها في النبذة
الأولى. ومن تلك الفوائد أن يكون لها رأي فيما تنصرف وجهة أولادها لإتقانه من
العلوم والفنون بعد التعليم الابتدائي والثاني. وكثيراً ما يموت الوالد وتكون المرأة
هي القيِّمة على أولادها منه فينبغي أن تعرف وجهتهم في المدرسة وغايتهم في
التعليم لتحسن القيام عليهم.
وأما فائدة اللغة وآدابها فهي بديهية لمن يقول بالتعليم، فالمرأة التي لا تفهم لغة أمتها العلمية الأدبية تكون بمنزلة البهائم لا تشعر إلا بالحاجات الجزئية التي أودع
الشعور بها في فطرة كل حيوان، ويكون سكون الرجل العالم الأريب إليها بمقدار
الداعية الحيوانية إلى ملامستها في وقت هذه الداعية، وتكون في سائر الأوقات
كَلاًّ عليه وبلاءً ومصابًا؛ إذ يراها مباينة له في إنسانيته لا تشاركه في حسن
تصوره، ودقة مداركه، ورقة شعوره بالمعاني الأدبية والأفكار الاجتماعية،
ويرى إقناعها بالمسائل المعقولة والمصلحة القطعية متعذرًا أو متعسرًا عليه؛
لأنها ليس لها لغة تعبر عما وراء الضروريات التي يدور عليها كلام العامة، ثم إنه
إذا سافر تنقطع الصلة بينه وبينها لا يكتب إليها ولا تكتب إليه فيما يتعلق بشؤون
البيت ومصلحة العشيرة إلا إعلامًا بالصحة واستعلامًا عنها ونحو ذلك، ويتعذر
عليه أن يشعرها بما يشعر به في سفره من لذة وألم وسرور وكآبة كما يتعذر
عليها ذلك.
وأما فائدة الحساب فلا يجهلها أحد في البشر؛ إلا أن يكون بعض أهل الأزهر
فالمرأة التي تعرفه يمكنها أن تضبط نفقات البيت على القاعدة التي يسمونها
الميزانية، فتجعل الخرج على نسبة إلى الدخل معروفة، فهو عون على الاقتصاد.
وقلما توجد امرأة في الأرض لا تشتري ولا تبيع شيئًا، ولا تعامل أحدًا بالمال،
والنساء اللواتي يملكن المال والعقار والأرض والعروض كثيرات، والإسلام جعل
لهن حق التصرف في أموالهن فالمرأة التي لا تعرف الحساب تكون عرضة للخطأ في
كل معاملة مالية؛ فيغشها البائع والمشتري والوكيل والأجير، ويطمع في اغتيال
مالها زوجها السفيه، ويعبث به ولدها الصغير.
وأما الاقتصاد الذي يعد الحساب من وسائله؛ فهو روح المعاملة وأُسّ النظام
ومِلاك المعيشة ودعامة السعادة. فإذا لم تكن ربة البيت عارفة بهذا الفن عاملة به فلا
يستقيم للمعيشة حال، بل تكون مضطربة بين أمواج الحوادث يتقاذفها اليسر والعسر،
ويتناوبها الغِنى والفقر، وليس الرجل بمغن في اقتصاده عن اقتصاد المرأة عن
رضى واقتناع، ولا رضى ولا اقتناع إلا بالعلم والمعرفة؛ بأن مصلحتها ومصلحة
بيتها في الاقتصاد. ألم تر أن معظم المال يذهب في سرف النساء وخيلائهن، ألم
تسمع أنين الرجال وأطيطهم من ثقل النفقة على ما يبتدع النساء كل حين من الأزياء،
والتنقل في ضروب الحلي والحلل؟ ألم تعلم بأنهن لا يعذرن الرجل؛ إذا قال: لا
أستطيع، لا أقدر، لا أملك، بل ينغصن عيشه، ويسلبن راحته، أو يبذل لهن ما
يطلبن ولو استدانه بالربا الفاحش أو باع لأجله الغالي النفيس بالثمن البخس؟
هذا مما تعرف، فهل لك أن تضم إلى معرفة الداء معرفة العلاج؛ وهو أن
تتزوج بامرأة كاتبة، حاسبة، مقتصدة، وتجعل للبيت بالاتفاق معها ميزانية يكون
الخرج فيها جزءًا من الدخل، وتكون هي المنفقة والقيمة، كما تجعل لأرضك
وعقارك ميزانية تكون أنت المنفِّذ لها، وبذلك تكون امرأتك مقتنعة بأن ما وفر من
الدخل في الحال هو عُدة لها ولأولادها في الاستقبال.
جَرَّبَ كثير من الرجال هذا العلاج فوجدوه نافعًا مفيدًا، ومنهم من أسعده الحظ
به على غير علم بفائدته؛ فأصاب السعادة عفوًا. أعرف رجلاً مسرفًا كان يضيع
كسبه الكثير بغير عقل ولا حساب، ويضطر إلى الدَّيْن حتى أخذ الدَّيْن بتلابيبه؛ لأنه
كان جاهلاً سكورًا فتزوج بفتاة كانت يهودية وأسلمت إسلامًا صحيحًا؛ فما عتم أن
حسُنت حاله فقلَّ سَرفه، وحسن عمله، وقضى دينه ثم صارت له ثروة مدَّخرة.
وحُدثت عن رجل في مصر له راتب من الحكومة لم يكن كافيًا لسعته في نفقاته
الشخصية؛ فتزوج بفتاة متعلمة مهذبة؛ فهو يعيش معها في هناء ونعيم ويقتصد من
راتبه شيئًا يدخره للمستقبل المجهول، بل أعرف غير واحد من الفقراء جعلوا كسبهم
في أيدي نسائهم فكانوا معهن في عيشة راضية يزيد فيها دخلهم على نفقتهم زيادة لها
شأن عندهم.
وإنني أظن أنه يصعب على أكثر النساء أن يبذلن جميع ما في أيديهن من
المال في الأمور الزائدة على الضروريات أو الحاجيات، ولكن يسهل عليهن أن
يبذلن أكثر مما في أيدي أزواجهن إذا كانت النفقة بيده. فالمرأة الجاهلة تقدر على
الحياة الاقتصادية في بيت فقير ولا تقدر على ذلك في بيت غني ولا متوسط إلا
بالعلم وحسن التربية.
وأما علم حفظ الصحة: فهو ضروري لكل إنسان سواء كان يعيش منفردًا أو
زوجًا أو صاحب عيال، ورئيس عشيرة؛ فمن عرف هذا العلم سهل عليه التوقي
من أكثر الأمراض والأوبئة، ووقاية من يعوله منها؛ وإذا هو أصيب بمرض فإنه
يحسن وصفه وبيان أسبابه وكيفية سيره للطبيب؛ فيكون أكبر عون له على
تشخصيه ومعرفة حقيقته، ثم إنه يحسن العمل بما يأمره به الطبيب من المعالجة فربة
البيت الجاهلة بهذا العلم تكون بلاء على نفسها وعلى زوجها وأولادها، ولا يمكن أن
تقل الأمراض والأدواء في أمة إلا إذا تعلم نساؤها هذا العلم، فكم من طفل فتك به
المرض لجهل أمه بمداواة صحته، وكم من امرأة قتلت ولدها أو زوجها بنفس
الأدوية التي وصفها الطبيب لشفائه لجهلها بأسمائها وبمقادير ما يعطى المريض منها.
ولقد يتعسر على المريض العالم أن يحسن معالجة نفسه في بيت قيِّمته جاهلة؛ لأن
أي عمل في البيت لا يتم إلا بها.
وأما علم الأخلاق فهو عون للإنسان على تكميل نفسه في الكبر، وعلم التربية
يتوقف عليه؛ لأن من لا يعرف قوى النفس وكيفية تكوين ملكاتها وانطباع أخلاقها
وطريقة تأديبها وآثار صفاتها ووجدانها فهو لا يعرف معنى الإنسان أو هو ليس
بإنسان كامل؛ فيتعذر عليه تكميل غيره بحسن التربية التي هي أهم ما يجب على
المرأة وأعلى ما يطلب منها.
ويدخل كل ما تقدم في علم تدبير المنزل ما عدا مبادئ الفنون وعلم اللغة التي
هي وسيلة كل علم؛ لأن المراد بتدبير المنزل سياسة أهله وموضوعه حقوق كل من
الزوجين على الآخر وحقوقهما على الأولاد والخدم، وحقوق هؤلاء عليهم وطريق
قيام كل بما يطلبه منه. والمرأة هي ربة البيت ومديرة نظامه؛ فينبغي أن تكون
عارفة بما عليها، ومرشدة للأولاد والخدم إلى ما يجب عليهم تحت رعايتها لينتظم
شأن البيت فتكون العيشة راضية، وليتربى الأولاد بالقدوة الصالحة فيكونوا
أعضاء صحيحة عاملة في الأمة.
ومعرفة التاريخ وتقويم البلدان هي التي تودع حب الأمة في القلب، وتبعث
فيه روح الغيرة؛ فإذا كانت المرأة جاهلة بتاريخ أمتها ومكانتها من غيرها فهي لا
تشعر بأنها عضو من جسد أمة كبيرة، لها حقوق يجب على الأفراد القيام بها،
وعلى الوالدين تربية أولادهم على احترامها، والتنافس في المسابقة إليها، واعتقاد
أنها دعامة الشرف وركن العزة والسيادة. يكون الإنسان كبير النفس، وعظيم الهمة
إذا كان يشعر بأن وجوده غير محصور في مساحة جسمه الصغير، وإنما
هو واسع بروحه المنبثة في عالم كبير يسمى الأمة تعمل له كما يعمل كل عضو في
جسده لمصلحة الجسد كله. ويكون أكبر وأعظم إذا كان يشعر بأن وجوده أوسع
وأرقى؛ لأنه خلق ليعمل ما يفيد البشر كلهم بالتقريب، والجمع بين المختلفين
والتأليف بين المتنافرين وغير ذلك من الأعمال أو يبث العلوم التي ينتفع منها
الجميع. ويكون الإنسان حيوانًا حقيرًا ضيق الوجود؛ إذا كان علمه وعمله مُوَجَّهَيْن
لخدمة شخصه ومن عساه يتصل به اتصالاً محسوسًا كأهله وعشيرته. ومن كانت
هذه حاله فإنه لا يرجى منه أن يربي أولادًا ينفعون أمتهم ووطنهم أو ينفعون الناس
أجمعين. لذلك كان لا بد لكل إنسان من ذكر أو أنثى أن يعرف التاريخ ليتسع
وجوده بقدر استعداده لعله يربي من ينفع الأمة والناس. وعلم تقويم
البلدان في معنى التاريخ، بل هو منه في الأصل ثم صار أصلاً مستقلاًّ، تلك
إشارة إلى ما يطلب من كمال المرأة وتُختار لأجله. وسنكتب كلمة في اختيار
المرأة للرجل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
(أسئلة من السيد محمد بن يحيى الصقلي الحسيني من بلاد الجزائر)
قال بعد رسوم الخطاب: لما نظرنا إلى إرشاداتكم العديدة غير المتناهية
وبحثكم وتضلعكم في العلوم الدينية الإسلامية وتحققنا بعلو مكانتكم في ذلك جزمنا بأن
فيكم الكفاية لمن يريد الحصول على استفادة بأكمل بيان وأبلغ عبارة فتعلقت آمالنا
بحضرتكم وكتبنا هذا لفضيلتكم، والرجاء من الله ثم منكم أن تفيدونا ومن نفعكم لا
تحرمونا.
تقبيل أيدي العلماء
(س9) ما قولكم دام نفعكم في تقبيل العامة كبيرهم وصغيرهم غنيهم
وفقيرهم لأيدي العلماء، وتذللهم لهم حتى جعلوا ذلك من أهم الواجبات الدينية أفيدونا
هل ذلك من آداب ديننا الإسلامي الحنيف أم لا؟
(ج) إذا اعتقد العوام أن تقبيل أيدي العلماء من الواجبات الدينية كان تقبيلها
معصية يجب نهيهم عنها، ويحرم على العلماء تمكينهم منها؛ لأنهم زادوا في الدين
ما ليس منه، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، ولقد كان النبي- صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم - يتحامى المواظبة على بعض العبادات المندوبة كصلاة التراويح؛
لئلا تعتقد العامة أنها واجبة. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود (فدنونا من النبي
فقبلنا يده) ولكن لم تمض السنة عنه ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين بتقبيل
أيدي العلماء، فهي عادة من العادات المباحة ما لم تُعتقد مشروعيتها، وكونها من
الدين.ولا حاجة لإطالة البحث في هذا؛ فإنه مما لا يختلف فيه عالم بدين الإسلام. وإننا نشكر للسائل حسن ظنه على ضعفنا وعجزنا.
***
نذر الذبائح على أضرحة الأولياء
والتوسل بهم
(س10) ومنه: وما قولكم في الذبائح على أضرحة الأولياء لسبب نذر، أو
لرجاء دفع مضرة أو غيرها؟ وكذلك التوسل ببابهم والرجاء منهم نحو قول أهل
فاس عند معاينة مكروه نازل بهم: ما دام ضريح مولاي إدريس في وسط بلدنا فلا
نخاف؛ لأنه يذود عن بلدة فاس خصوصًا وعن قطره المغربي عمومًا، وهو
ورجال المغرب (صالحو الموتى) يحفظوننا من غائلة العدو ونفوذه، وأقوالهم من
هذا القبيل كثيرة، أفيدونا بما يشفي الغليل عن هذا القبيل؛ ليعم إرشادكم كافة
الموحدين الحنفيين؟ ودمتم كعبة للقصاد، مأجورين من رب العباد.
(ج) الذبح على القبور بدعة أخذها بعض المسلمين عن أهل الكتاب وهؤلاء
أخذوها عن الوثنيين؛ إذ كانت الذبائح لأوثانهم وأصنامهم من أركان دينهم وأعظم
عباداتهم، نعم كانت القرابين عبادة في شريعة موسى عليه السلام وما هي إلا
للتقرب إلى الله وحده لا إلى شيء، ولا إلى شخص عظيم كما هي عند الوثنيين في
الأصل، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز الذبح لغير الله تعالى تقربًا إليه، أو
تعظيمًا له، أو رجاء فيه؛ لأن هذا من الوثنية، وقد صرح الفقهاء بأن من فعل ذلك
على سبيل العبادة يكون مرتدًا عن الإسلام، والعبادة هي الخضوع والتعظيم لمن
تعتقد فيه السلطة الغيبية التي وراء الأسباب؛ فإن وجد هذا المعنى كان الذبح للولي
أو عنده كفرًا، وإن لم يوجد كان معصية؛ لأنه يدخل في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ويستحق صاحبه اللعن من رسول الله في
حديث علي - كرم الله وجهه - عند أحمد ومسلم والنسائي (لعن الله من ذبح لغير
الله) . وقال في الإقناع وشرحه ما نصه:
(ويكره الذبح عند القبر والأكل منه) لخبر أنس: (لا عقر في الإسلام) ،
رواه أحمد بإسناد صحيح قال في الفروع: رواه أحمد وأبو داود وقال عبد الرزاق:
وكانوا (أي في الجاهلية) يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال أحمد في رواية
المروذي: (كانوا إذا مات الميت نحروا جزورًا فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك
وفسره غير واحد بغير هذا (قال الشيخ) يحرم الذبح والتضحية (عند القبر) ولو
نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به كما يأتي في نذر المكروه والمحرم (فلو
شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا) اهـ.
نقول: وأنت ترى من الأدلة أن القول بالتحريم هو الراجح، وإن أريد
بالكراهية ما كان للتحريم، ومما ورد في النذر حديث عائشة عند أحمد والبخاري
وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله
فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وحديث ثابت بن الضحاك عند أبي داود
والطبراني (وقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده)، قال: إن رجلاً أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة (بضم الموحدة:
موضع) فقال: كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان
فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله
ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقد يتوهم بعض الجاهلين من العامة أن النهي عن الذبح
لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي تحريم الذبح لتعظيم أولياء المسلمين. ونقول:
(أولاً) إن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة.
(ثانيا) إن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى في مثل هذا العمل
الذي أراد به الخير والبر؛ لأن ذلك من الإشراك ولا يقبل الله تعالى من العمل إلا
ما كان خالصًا لوجهه، ومما ورد في ذلك بخصوص النذر حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به
وجه الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص،
وسكت عنه وفي معناه روايات أخرى. و (ثالثاً) إن كثيرًا من أئمة السلف
الفقهاء، صرحوا بأن ما يذبحه النصراني لكنيسة، أو مكان، أو رجل مُعَظَّم
عندهم يحل لنا، ولكن لم يقل أحد بأن ما يذبحه المسلم لمُعَظّم عنده يؤكل، بل
أجمعوا على تحريمه وإثم فاعله. وإن قام في نفسه معنى العبادة كطلب ما لا
يُطلب إلا من الله تعالى كان مرتدًّا كما تقدم.
وأما ما يسمونه التوسل فقد بسطنا القول فيه مرات كثيرة في كل مجلد من
مجلدات المنار فليراجع ذلك السائل في مواضعه من المجلد السابع وغيره، مسترشدًا
في الفهرس بكلمة التوسل من حرف التاء، وبكلمة قبور من حرف القاف ويجد في
العدد السابق كلامًا عن اعتقاد أهل فاس بمولاي إدريس، وغرورهم في ذلك. ولكن
هذه الاعتقادات المبنية على وعث البدع والتقاليد لا تثبت أمام سيول الحقائق، فهذا
سلطان مراكش قد اضطرب وخاف سقوط ملكه فلم يكتف باللجأ إلى إدريس، بل
أشرك معه ملكًا نصرانيًّا يعتز به ويستعين به على فرنسا وهو عاهل ألمانيا، وقد
أرسل إليه عند زيارته طنجة هدية تساوي مئتي ألف جنيه، ولو كان موقنًا بحماية
قبر إدريس للمملكة؛ لكان غنيًّا عن ذلك، ولماذا لم يَحْمِ إدريس البلاد من الفتن التي
أنهكتها وكانت حجة فرنسا في التصدي لها؟
***
قصة المولد للشيخ إبراهيم الرياحي التونسي
(س11) أحد القراء (بتونس) : اشتبه على بعض الناس طعنكم في
بعض أعداد المنار بروايات قصص المولد النبوي، وقد وجهت لكم في البريد نسخة
من مولد الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة 1266هـ، وهي الرواية
المُعتمدة رسميًّا في تونس، فهل لكم أن تنظروا فيها وتنبهوا على ما فيها من الغلط؟
(ج) إن هذه القصة كغيرها من حيث وجود الموضوعات والواهيات فيها،
ولكنها في اختصارها وعزوِ بعض الروايات فيها أمثل من غيرها، ولعلنا نذكر تخريج
هذه الروايات في جزء آخر. وهذا قوله في أول القصة (ص 4) (إن أول ما
خلق الله نور هذا النبي الأواه) لم تصح به رواية وأقوى الروايات وأكثرها في
بدء الخلق أن أول شيء خلقه الله القلم. وكذلك ما ذكره في خلق آدم غير صحيح
ومثله ما في (ص5) من نطق الدواب وبشارة أهل البحار وانقلاب الأصنام وما
ذكر عن آمنة وغير ذلك. وكان يجب الاستغناء عن هذه الروايات بالمناقب والآثار
التي هي أوضح من النهار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(هداية أستاذ للإسلام)
(نقلها عبد الرحمن أفندي شهبندر من مجلة الملل الصادرة في مارس (آذار)
سنة 1905 إلى العربية) .
لدينا الآن رسالتان بقلم الأستاذ نشكنتايا دهيايا الرئيس الماضي لكلية حيدر
أباد (وأستاذ التاريخ في كلية مهراجا في ميسوري) والأولى منهما موضوعها لماذا
انتحلتُ الإسلام والثانية محمد نبي الإسلام وقد أصبح اسم المؤلف بعد إسلامه
محمد عزيز الدين وهو من العلماء والأفاضل الذين ساحوا في البلاد زمنًا طويلاً،
ودرسوا الأديان المختلفة وفي الرسالة الأولى ذكر أسباب هدايته واتخاذه الإسلام
دينًا لا يبارى في الصحة والسلامة.
كان المؤلف في أول أمره كثير الإعجاب بمذهب العقليين لكنه لم يلبث أن
تحول؛ لأن هذا المذهب لم يرو له غليلاً، فأخذ في درس الدين البوذي وأعجب
بظاهر رفعته الأخلاقية؛ لكنه وجده أخيرًا على عكس طبيعة البشر؛ فمَلَّه وكان ذلك
أثناء وجوده في البلاد الألمانية حيث ألقى خطابين موضوعهما البوذية بلغة تلك البلاد،
ومن ثم ذهب إلى باريس وبطرسبرج وبعدما تعلم الإفرنسية أعجب بـ (رنان)
وكان من تأثير ذلك أنه أخذ في درس لغات الساميين وأديانهم وكرس قسمًا
عظيمًا من حياته لدرس المقابلة بين الأديان العظيمة يعني اليهودية والزردشتية
والبرهمية من الجهة الواحدة والبوذية والنصرانية والإسلام من الجهة الأخرى ووقف
في سبيله إلى التنصر مسألة الفداء، ومسألة الهلاك الأبدي وما يضاف إليهما في
الكاثولوكية من اعتقاد العصمة البابوية، والتحول في العشاء الرباني ثم رجع إلى
البلاد الهندية على هذه الحال من تبلبل الفكر وهنالك فرغ نفسه مدة لدرس الرياضة
(التصوف) لكنه عاد منها أيضًا غير مقتنع، ولم يعط البوذية والإسلام حقهما في
الدرس حتى ذلك الحين فدرس الأولى منهما، ثم جاء إلى الإسلام الذي استماله
أخيرًا، وأثر في نفسه أثرًا باقيًا، وكان قد شعر بصحته منذ مدة طويلة لكن الظروف
الخارجية منعته من التصريح بذلك، حتى الثامن والعشرين من شهر آب (أغسطس)
حين صرح في محفل بدخوله في الإسلام برسالته (لماذا انتحلتُ الإسلام) .
وبنى رضاه بالإسلام على ثلاثة أسباب رئيسة: (1) صحة أخبار الإسلام
وأنه الدين التاريخي الوحيد. (2) موافقته للعقل. (3) أنه عملي (لا خيالي)
ويقول في رسالته: إن ميدانه التاريخي قد أثر حتى في أعداء محمد وأتباعه
واستشهد بكلام للأستاذ (بسورث سمث) ذكر في خطبه وهو: (إننا في الحقيقة
نعرف بعض نتف من تاريخ المسيح، ولكن أنى لنا من يكشف الحجاب عن السنين
الثلاثين التي أعدت الطريق إلى الثلاث....... .، وفي الإسلام كل شيء على
خلاف ذلك. هنا يقوم التاريخ بدلا من الغامض المظلم....... . وهنا لا تضل
المرء نفسه أو غيره من الناس لأن نور النهار يسطع على كل ما يمكن أن يصل إليه) .
والنقطة الثانية في بحثه: جَرْي الإسلام على قواعد العقل، وقد ذكر القاعدتين
الأساسيتين في الدين (توحيد الله ورسالة النبي محمد) وقال: يجب على كل
صحيح عاقل أن ينقاد لهذه الحقيقة البسيطة الجليلة، وهي توحيد الله الخالص (لا
كتوحيد اليهود الذين جعلوه إلهًا خاصًّا بهم) ، ولا يوجد في الإسلام تعاليم مثل
(ثلاثة في واحد) أو ثلاثين مليونًا من الآلهة.
ولا يرد قاعدة الرسالة النبوية باحث لأنه (متى نُسِيَتْ الحقائق الأساسية التي
تبنى عليها الحياة الأخلاقية الدينية أو أُبهمت، ومتى أصبح الإنسان مفرطًا في حب
دنياه طامعًا سيئ الأخلاق؛ ماديًّا بحتًا يظهر في تاريخ الأمم أناس أخلاقيون أحيتهم
الروح الخالصة في مولدهم ونشأتهم حتى يصبحوا أنبياء ورسلاً لله، ووظيفتهم
تذكير الناس ما كانوا نسوه وإحياء ما كانوا فقدوه) ، ويضاف إلى ذلك كله أن
الإسلام على طبق حياة الإنسان العملية. وربما توهم الناس في بعض الأحيان أن
تعاليم بوذا والمسيح على أحسن الكمال، لكن هذا خطأ، وهذه التعاليم أشبه
بالكمالات الباردة الواردة في القصص والروايات، وربما كان فيها (جمال شعري)
إلا أنه لا يعد طريقة لحكم الإنسان المدني الصناعي على صحة التعاليم والمبادئ،
فمن الواجب علينا أن ننظر إلى حاجات البشر أولاً، ثم نحكم على كمال التعاليم
بالنسبة لفائدتها. وعلى هذا المبدأ تمامًا (يعني النظر إلى حاجات البشر) أباح
الإسلام تعدد الزوجات. وسنن الزواج في هذا الدين أقرب للعمل وأشد موافقة
لحاجات الجمعية البشرية، وأجلب لترقيها من الجهة الأخلاقية الروحية (يعرض
بانتشار الفحش في البلاد الغربية إلى حد لا يوصف) ولمبادئ الإسلام الأخرى هذا
الحظ من الرفعة والمكانة.
وذكر في رسالته الثانية: (محمد نبي الإسلام) مختصرات من حياة النبي -
صلى الله عليه وسلم ونبذًا من التحويل المدهش الذي أجراه في العالم، وفي الختام
يجيب الكاتب عن اعتراضات المتقدمين المتعصبين. (قالت المجلة) ونحن نلفت
أنظار المسلمين إلى هاتين الرسالتين، وكذلك كل طلاب الحقائق وتطلبان من محل
(لوزاك وشركاه) في لندن أو من (شوز رثمات) في حيدر أباد الدكن.
***
(الدولة العلية في نجد وخوف الفتنة)
جاءنا من بلاد العرب رسالة كتبها رجل كبير من أهل نجد في (غرة
صَفَر) يخبرنا فيها بمعنى ما وصل إلينا قبل من طرق ضعيفة ويزيدنا خبرًا
ورأيًا، قال -حفظه الله - ما ملخصه: أرسلت الدولة إلى الشيخ عبد الرحمن
الفيصل بأن يواجه والي البصرة مع (الشيخ مبارك) فتوجه الشيخ عبد
الرحمن من نجد إلى أطراف الزبير وطلع الشيخ مبارك والتقوا مع الوالي على
مسافة ساعتين من بلد سيدنا الزبير وقدّم الشيخ عبد الرحمن الطاعة لمولانا
أمير المؤمنين وكذّب جميع ما نسب إليه، وأنه خاضع لأوامر مولانا أمير
المؤمنين؛ إلا أن ابن رشيد ليس له يد على أهل نجد وبعد ذلك توجه الوالي
إلى البصرة وبلغ الآستانة ما كان، وليلة 9 ذي الحجة وصل تلغراف من
أمير المؤمنين بتولية الشيخ عبد الرحمن على نجد، ورفع يد ابن رشيد وبأن
يكون في القصيم عسكر (رسم طاعة) وأمرهم راجع إلى الشيخ عبد الرحمن
وابنه عبد العزيز آل سعود وبلغ الوالي عبد الرحمن وبعد ذلك مشى العسكر
الذي كان بأطراف النجف إلى نجد وهو ستة توابير، وفي نجد عند ابن رشيد
ثلاثة توابير وبهذا السبب صار عند أهل نجد شك في ممشى العسكر زيادة
على ما في نجد (والجميع حدر نظر ان رشيد) والمشير بنفسه طلع ومعه
ابن هذال الشيخ عنزه وشوشوا أهل نجد واستعدوا للفتنة إن كان العسكر جاء
محاربًا، وإن كان مصلحًا فلا حاجة إلى هذه الكثرة. والظاهر أن الفتنة لا تسكن
على هذه الحال. وعبد الرحمن ما توجه إلى نجد بل تربص بالكويت
ينتظر نتيجة وصول العسكر إلى أهل القصيم، وابنه عبد العزيز الظاهر أنه
جهز غزوانه (أي غزاته) ونحر القصيم (قصده) وأهل القصيم مستعدون.
نسأل الله أن يطفئ الفتن ويصلح أحوال المسلمين وحسبنا الله على من أيقظ الفتن
بينهم، وإلا فأي شيء للدولة من المصالح في نجد ولكن يغرهم المفسدون
بالدسائس الفاسدة حتى يلجئوا أهل نجد إليها إذا لم يكن لها علاج وننتظر الحوادث
ونرجو الله يصلح الأحوال ويبصر الدولة بما فيه صلاح المسلمين.
(المنار)
لم يذكر الكاتب ماذا كان بين الوالي والشيخ مبارك صاحب الكويت
وقد بلغنا من مصدر آخر دون هذا المصدر أن الشيخ قال للوالي إنه خاضع
للدولة ونادم على تورطه مع الإنكليز. ولكن الدولة قد أعوزتها السياسة
الحكيمة في هذا الزمان ولذلك غلبتها سياسة الأجانب في البلاد التي لا يوجد
فيها أحد يميل إليهم أو يعبأ بمدنيتهم كاليمن وحضرموت والكويت. وإننا كما
بدأنا النصيحة لها نعيدها ونؤكدها بأن تتحامى مثار سوء ظن أهل نجد بها،
وأن لا تحدث نفسها بمعاملتهم بالقوة وتحكيم رجالها وقوانينها فيهم، وأن لا
تخادعهم كما يخادع الأعداء، بل يجب أن تقبل الطاعة من آل سعود وتعتقد
صدقهم وتمضي الأمر بولاية الشيخ عبد الرحمن على نجد ظاهرًا وباطنًا
وتتفق معه على عدد العسكر الذي تحب أن تجعله في القصيم وإلا كان عملها
هو المنذر بالخطر الذي تريد تلافيه به. وقد جاء أمس في برقيات روتر أن
الباب العالي سأل ناظر خارجية إنكلترا عن البوارج الإنكليزية الراسية في
ميناء الكويت فأجاب بأنه لم يأته نبأ عنها، وأنه لا يقبل البحث معه فيها،
على أن البوارج أنزلت العسكر فاحتلت الكويت. وننصح للشيخ عبد
الرحمن أن لا يبني على سوء الظن وأن يخابر الدولة في مسألة كثرة العسكر
ويقنعها بعدم الحاجة إليه ويتوقى الفتنة لئلا يؤل الأمر إلى ما يندم هو والدولة
عليه، وتلحق نجد بغيرها ولات حين مندم.
***
(المسلمون في روسيا)
ثار الشعب الروسي القح الأرثوذكسي العريق على حكومة القيصر الذي
يسمى في التقاليد الروسية الأب الصغير - أي الرب - صاحب السلطة الدينية
الإلهية، وثارت أيضًا سائر الشعوب كالأرمن واليهود والفيلنديين، وأما المسلمون
فكانوا أشد العناصر الروسية مسالمة للحكومة ولكنهم طالبوا بحقوقهم ومنحتهم
الحكومة ما اختلفت فيه الروايات ففي جرائد أوربا أن مفتي القزان الذي يدعى شيخ
الإسلام (وهو محمد يار سلطانوف) دعي من أورنبورج إلى بطرسبرج وأمرته
نظارة الداخلية بأن يرفع تقريرًا يبين فيه مطالب المسلمين فطلب ما يأتي ملخصًا
بناء على منشور القيصر الصادر في 12 ديسمبر سنة 1904 الناطق بأنه عزم على
منح الرعايا غير الأرثوذكس جميع الحقوق التي يتمتع بها الروسيون وهو:
(1)
أن يعطى المسلمون الذين ينالون الشهادات من المدارس الروسية حق
التدريس بالمدارس غير الإسلامية كمدارس الحكومة.
(2)
أن يعطى من يُتِمّ منهم الدارسة في المدارس الثانية حق التعلم في
المدارس الروسية العالية.
(3)
تعيين أئمة لتوابير العسكر المسلمين لأجل أن يؤدوا الفرائض الدينية
في موتاهم وأحيائهم، وقال: إن القرعة العسكرية تتناول في السنة نحو 40 ألفاً من
المسلمين، وأن القيصر كان أمر بتعيين أئمة لهم ولم ينفذ ذلك! .
(4)
إلغاء ما توجبه المادتان 154و 157 من القانون المدني (المجلد الثاني)
من عدم السماح للمسلمين بإنشاء مسجد إلا بإذن الأسقف الأرثوذكسي في الجهة
التي يراد إنشاؤه بها.
(5)
منع اضطهاد الولاة والحكام لرجال الدين كعزل والي أوفا لإمامي
مسجدين من مساجد المدينة في حادثة 16 أغسطس سنة 1904 بدون ذنب ولا
محاكمة بل افتئاتًا عليهما بأنهما ليسا أهلاً لوظيفتها على أنه أعادهما بعد ثلاثة أشهر.
(6)
إعادة إدارة المدارس والمكاتب (الكتاتيب) الإسلامية أنإلى رجال الدين
المسلمين وكذلك ملجأ الصبيان والبنات في أوفا وقال: إن هذا ما كان متبعًا إلى سنة
1870 وبعدها أخذت نظارة المعارف على نفسها حق مراقبة التعليم فتأخر التعليم
الإسلامي وقل التبرع له بقلة الثقة به.
(7)
جعل النظامات والقوانين الموضوعة للمسلمين متحدة موافقة للزمان،
وقال: إن النظام لمسلمي أورنبورغ باق علي ما وضع عليه في أوائل القرن
الماضي مع أن الحكومة سنَّت أخيرا لمسلمي القوقاس قانونًا أمثل منه.
(8)
إعفاء رجال الدين من الخدمة العسكرية ما داموا يؤدون وظائفهم وفقاً
للمادة 1231 من القانون العسكري الذي وضع سنة 1857 التي استبدلت في القانون
الجديد بمادة خصت فائدتها برجال الدين المسيحي ومعلمي المدارس منهم وإن كان
لفظها عامًّا؛ ذلك أن هذا القانون يطلب الشبان للقرعة في الحادية والعشرين والقانون
المدني لا يبيح تعيين إمام لمسجد إلا إذا كان بالغا الخامسة والعشرين ونتيجة ذلك ألا
يعين الإمام إلا بعد الخدمة العسكرية. وقال: إن كثيرين من طلاب العلم يساقون إلى
العسكرية قسرًا، وأنه كتب إلى الحكومة في ذلك مرارًا، فلم تسمع له. هذا ما نقله
بريد أوربا ولم يذكر ماذا أجيب منه ولكن كتب إلينا أحد مسلمي روسيا ما يأتي وقد
حذفنا منه رسم الخطاب والمقدمة قال:
إن المسلمين الروسيين قد أرسلوا وفودًا من الولايات المختلفة إلى عاصمة
الروسية (بترسبورغ) كما أن شيخ الإسلام القزاني (محمد يار سلطانوف) قد
ذهب نفسه إلى بترسبورغ وطلب من حكومتهم إعادة حقوقهم الدينية التي قد وهبت
لهم أولاً. ثم كادت أن تسلب سلبًا كليًّا، بل سلبت حقيقة، فما بقي للمشيخة
الإسلامية إلا اسم يذكر في الألسن وهيكل مخيل في الهواء.
والآن قد شاع الخبر وذاع بأن الحكومة قد سمحت لهم ببعض ما طلبوه من
حقوقهم المسلوبة. وهي هذه:
(1)
أن النكاح والطلاق وتقسيم التركات ونصب الإمام وعزله يكون تحت إدارة المشيخة الإسلامية كما كان.
(2)
رُخص للذين أكرهوا من المسلمي على التنصر منذ سنة 1842 فتنصروا بعدما أحرق أكثر إخوانهم بالنار أن يرجعوا إلى دينهم الإسلام (وإذا فصلت أحوالهم يرتعش كل مسلم بوجوده وتكاد أن تخرج روحه) .
(3)
رخص للوثينين مثل (آر) و (جرمش) أن يسلموا أو يقبلوا أي دين شاءوا، ومعلوم أن أكثرهم كانو ايتدينون بدين الإسلام وكثيرًا ما استرحموا من الحكومة أن تسمح لهم بأن يلحقوا بالمشيخة الإسلامية، ولكن مُنعوا، وبنيت الكنائس في قراهم، وألزمهم القسيسون بتعلم دين النصرانية إلزامًا، وأكرهوهم عليه إكراهًا.
(4)
أن طائفة القزان ستلحق بإدارة المشيخة القزانية كما كانوا أولاً، ثم قد فصلوا بدسائس القسوس وسعيهم، حتى أن الحكومة سمتهم أهل الظن ونزعت عنهم ثياب الإسلام.
(5)
أن إلزام الأئمة والمدرسين بتعلم اللغة الروسية قد رُفع (ومع ذلك ترى المسلمين يتعلمون اللغة الروسية ويجعلون قانون المعارف الزمانية منطبقًا على برواغرام أوربة والروسية) .
(6)
أن المشيخة الإسلامية ستدعو العلماء الأجلاء والمدرسين النبهاء لينظموا قانون (بروغرام) المكاتب والمدارس الدينية الإسلامية وسيرسلون وفدًا إلى بترسبورغ) اهـ.
هذا ما كتبه لنا (ض. ك) وأتبعه باقتراح له ضاق عنه هذا الجزء، والناظر
فيما طلبه شيخ الإسلام يرى أنه لو لم يكن مطَّلعًا على قوانين الدولة وواقفًا على
أعمالها لما عرف ماذا يطلب ولكن من يطالب شيخ الأزهر أو طائفة من علمائه هنا
بمطالعة القوانين التي يعلَّمون أو يحكمون بها أو يحكم بها إخوانهم المسلمون في بلاد
أخرى يعد عند الأزهريين وعند الذين يجاهدون لإبقائهم في سباتهم عدوًّا للإسلام
والمسلمين، فليتأمل ويعتبر المعتبرون.
***
(ألمانيا في مستعمراتها الإفريقية)
نشرنا في العدد العشرين من المجلد السابع من هذه المجلة (المنار) أنه كتب
إلينا بعض من حضر المعرض الذي أقامته الحكومة الألمانية في دار السلام قاعدة
مستعمراتها في شرقي أفريقية أن الحكومة تمنع العرب من ركوب العربات، وأنها
هدمت المسجد الجامع وأعطت المسلمين جزاءً حقيرًا عنه ثم منعته
…
إلخ، وكان
ما ساءنا من ذلك هو السبب في قولنا: إن ألمانيا ليست أمثل من فرنسا في
مستعمراتها، وقد اطلعت الوكالة السياسية لدولة ألمانيا في مصر على ما كتبناه فاهتمت
به وكتبت إلى حكومة دولتها في دار السلام تسألها عن صحة ذلك فجاءها
الجواب بأن مسألة منع العرب من ركوب العربات لا أصل لها، وأما هدم المسجد
فإنما كان بطلب المسلمين أنفسهم لبعده عن بيوتهم وقد أبدلتهم الحكومة مكانًا آخر
قريبًا وزادتهم على ذلك مالاً وافرًا. وقد أبلغتنا الوكالة الألمانية ذلك، فنحن ننشره
شاكرين لها اعتناءها بالبحث وراء الحقيقة، كما أننا نؤمل أن نسمع دائما ما يسرنا عن حكومتها في مستعمراتها، فما استُعمرت البلاد بمثل العدل والإنصاف.
***
(نابتة الأزهر والأستاذ الإمام)
لقد كبر على نابتة الأزهر ترك الأستاذ الإمام له، وذكرت الجرائد اليومية أن
نحو 500 أو 600 منهم كتبوا إليه عريضة يستعطفونه بها ليعود إلى التدريس فيه.
ونقول: إن منهم من كتب يسترشده في أمره، وقد اطلعنا على صورة كتاب لبعضهم
فرأينا أن ننشره على انتقادنا قوله (كلهم شر) ليرى القراء حسن عبارة وأفكار
تلامذته الذين يشكون الجهل، قال بعد رسم الخطاب:
(إنني نظرت في أمري بعد أن قضيت ما قضيت في الجامع الأزهر
وأضعت ما أضعت من صحتي وشبابي في طلب العلم، فلم أجد ثمنًا لما بذلت إلا
حشدًا من الصور والخيالات لا يضيء البصيرة، ولا يبعث العزيمة، ولا يعد
للسعادة في الحياة الدنيا ولا في الآخرة
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
…
مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي
طلبت السبيل إلى الكمال والعلم النافع فما وجدت الدليل ولا اهتديت إلى
السبيل، وكيف أطلب الخير من بين معشر أعيذك يا مولاي كلهم شر، وقد هدتني
إليك خاتمة المطاف وفاتحة الألطاف فجئتك أسألك أن تعلمني مما علمك الله وأن لا
تكلني إلى رأيي.
وها أنا ذا أبسط يد الرجاء إليك، ولم أبسط لغيرك يدًا، وأرفع إليك أمنيتي
في الحياة، وقد وضعت أملي ببابك، ومثلك من لا يخيب ببابه الأمل. اهـ
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحياة الزوجية
(4)
اختيار المرأة للرجل:
إن الشروط التي تعتبر ضرورية في اختيار المرأة زوجًا يجب أن تعتبر
ضرورية أيضًا في اختيار الرجل زوجًا وهي: صحة الجسم، وصحة النفس أعني
حسن الخلق والاستقامة وصحة العقل وهذه لازمة لما قبلها. ويزاد القدرة على النفقة
اللائقة -كما يقول الفقهاء- أو القدرة على الاستقلال بإنشاء عشيرة أو أسرة -كما
يقول الحكماء - وهو ما يريده العوامّ بقولهم: (فلان قادر على فتح بيت) والقدرة
على النفقة اللائقة بحال المرأة تختلف بحسب طبقتها، فزيد يستطيع كفاية من نشأت
في بيت النّعمة والترف، وعمرو يستطيع أن يمون من نبتت في أرض الفاقة
والشظف، والناس أصناف وطبقات، والله فضل بعضهم على بعض درجات،
وهذا الشرط هو ركن الكفاءة الركين في نظر أكثر النساء وعُرف أكثر الأولياء؛
وإن شئت قلت في عرف جميع الناس؛ لأن رضاء امرأة بزوج غير قادر على
كفايتها مما تعودت من طعام وكسوة وخدمة نادر لا يُعتد به. والمراد الغنية أحرص
من الفقيرة على التزوج بالغني؛ لأنها وأهلها يحتقرون الفقير وما زال الأغنياء
يتعايرون بمصاهرة من ينزل عن درجاتهم في الثروة إلا أن يعلوهم بمجد أثيل، أو
جاه عريض، فيمت إليهم بشرف صاعد أو جد مساعد، ومن رفعه المال لا يلبث أن
يمد عنقه إلى الجاه، ويحاول أن يصيبه بتنصي أهل السؤدد [*] وتذري ذوي المجد
المؤثل، لا سيما من قل من هؤلاء مالهم، وساءت في الثروة حالهم، فالمال
والشرف إذا انفردا كان كل منها شفيعًا للآخر، ومن جمع بينهما لا يكاد يرضى
بمصاهرة من فاته أحدهما، إلا إذا لم يجد له صهرًا مثله. وإنك لتجد من العوانس
في بيوتات المجد والغنى ما لا تجد في بيوت المتوسطين وأكواخ الفقراء والمعوزين،
وذلك خِطْء كبير. وعتو عظيم.
تعذر المرأة ويعذر وليها وذوو قرابتها إذا لم يرضوا بصهر يعجز عن كفايتها لأن المرأة ضعيفة الاستقلال قليلة الاحتمال، إذا مسها العوز والإقلال، لا تستقر من القلق على حال، ثم إنها ولوع بالحلية فخور بالزينة هلوع عند الحاجة، ضجور
من الشدة، فهي أحوج من الرجل إلى الكفاية، وأشد تطلعًا إلى السعة والزيادة، وإن
قومها ليألمون لإعوازها ما لا يألمون لعوز الرجل منهم وهو وارث مجدهم، وحافظ
نسبهم، ونصيرهم عند الشدة، وغوثهم عند الحاجة - لما انطوت عليه نفوسهم من
الثقة باستقلاله، وجدارته بإصابة المخرج من إقلاله، وما أودعته قلوبهم من الشعور
برقة حاشيتها دون التحمل وضيق مذاهبها عن التحول، وإن حظ الولدان
والأقربين وغيرهم من الرحمة والحنان، والخوف، والإشفاق، والحزن
والامتعاض والغضاضة والنعرة، وغير ذلك من ضروب الشعور والوجدان إنما
يكون على مقدار الداعية الطبيعية لذلك فيهم. قيل لبعضهم أي ولدك أحب إليك؟ فقال
صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، وسقيمهم حتى يبرأ.
يشبه أن يكون الناس عندنا ماديين فإنهم يعنون بالبحث عن ثروة من يخطب
إليهم ظانين أن سعادة بنتهم وهناء عيشها مقرونان بمال من يتزوج بها، وقلما
يبحثون عن دينه وأخلاقه وآدابه. ذلك بأنهم يجهلون (أن السعادة في النفس لا في اليد
أو الجيب) يغفلون عن حال الجم الغفير من أصحاب الجيوب الملأى
والقلوب المرضى الذين شقيت بهم نساؤهم، فهن يتمنين لو كانوا فقراء الجيوب
أغنياء القلوب بالعفة والوفاء والحب والإخلاص، إذًا لكنَّ أنعم بالاً وأقر عينًا وأهنأ
عيشًا، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إلا من هذب نفسَه الإيمان والتقوى؛
وإن من طغيان الغنى، إذا لم يقترن بالأدب والتقى، أن يغير صاحبه زوجه وسكنه
ويتغير عليها يغيرها باتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان، ويتغير عليها إذا زارت أو زارها الأهل والجيران، فيعذبها بالغيرة عذاب الضعف، أو يضارّها
ليضيق عليها من غير ذنب، وإنما هو ملل الذوَّاقين، وتنقل المسرفين، ومن
وراء ذلك أن إرشاده عسير، والانتصاف منه عزيز، لا سيما في بلاد فسدت
حكوماتها، وأكل السحت قضائها، فأين السعادة والهناء في مصاهرة أمثال هؤلاء؟
يسهل على الرجل المسلم أن يتخير من ربات الخدور من ترضيه فيعرف عنها من
وراء الحجاب كل ما يحب أن يعرفه ويعسر على الفتيات أن يعرفن ما تجب
معرفته لصحة تخير الزوج وإن فارقن الحجال وعاشرن الرجال؛ لأن المرأة
سريعة التصور سريعة التأثر، سريعة الحكم، سريعة الانخداع، فهي لهذا قليلة
الروية كثيرة الخطأ لا سيما إذا كانت عذراء، خاضعة لسلطان الحياء، تخدعها
النظرة، وتتجاذبها الغرة، ولذلك حظرت الشريعة الإسلامية على المرأة أن تزوج
نفسها، وجعلت أمرها في ذلك إلى وليها وإليها؛ لا بد من رضاهما معًا؛ على أنها
منحتها من حقوق التصرف في أموالها ما لم تمنحه لها شريعة سواها، بل تجد معظم
البشر من جميع الشعوب والقبائل المختلفة في الملل والنحل متفقون على استقباح
استقلال المرأة بتزويج نفسها، وعلى وجوب تفويض أمرها في ذلك إلى أوليائها
وعصبتها، ومنهم من لا يتقيد باستئذانها، واستئمارها - كما أمر الإسلام - بل كثرت
هذه العادة في المسلمين على ما ورد عن الشارع من الأوامر باستئذان البنت في أمر
زواجها واستئذان أمها أيضًا فليس للولي أن يستبد بذلك؛ فيزوجها بمن تكره ولو كان
أبًا أو جدًّا.
يحسب أكثر الرجال أن للحسن والجمال سلطانًا على قلوب النساء لا يدع فيه
لغيره أمرًا ولا نهيًا، وإن شغف النساء بالحسن يعلو شغف الرجال به؛ فلو أطلقت
لهن الحرية في تخير الأزواج لما اخترن إلا ذا الوجه الجميل والطرف الكحيل، وإن
كان خسيس الأبوين صفر اليدين عادم الفضيلتين: فضيلة العلم والأدب، هذا هو
الوجه في الحجر عليهن أن يتخيرن لأنفسهن، فإنهن يتبعن الهوى دون المصلحة
فيصبحن على ما فعلن نادمات بعد أن يقاسين من استبداد سلطان الجمال، ما لا طاقة
لهن به ولا احتمال، وهذا الحسبان خطأ سببه قياس أحد الصنفين على الآخر. وهو
السبب في تصدي حسان الوجوه من الشبان لتصبي النساء وإغوائهن، وقد يعد
نجاحهم في التصبي دليلاً على صحة القياس وما هو بدليل إلا عند من يجهل التعليل.
إن الفتنة بالجمال أولع بالرجال منها بالنساء فيقل في النساء من فتنت بجمال
الرجال كامرأة عزيز مصر وصواحبها ولا يتناول الإحصاء عدد الرجال الذين فتنوا
بجمال النساء كبني عذرة وأمثال بني عذرة من جميع القبائل والشعوب، هذا هو
السبب عندي في شكوى الرجال من قلة الوفاء في النساء. إنما يفتن المرأة من الرجال
تحببه إليها فهي مجنونة في حب الحب أي حب أن يحبها الرجل كما قالت علية بنت
المهدي حكاية عن نحيزة صنفها * تحبب فإن الحب داعية الحب * فهن يفتن
بالرجال على قدر تصبِّيهم لهن وتحببهم إليهن إذا هن صدقن، وأمن الخلابة
والحيلة، وما أسرع تصديق الفتاة الغر لوحي العيون، وانخداعها بقول الزور للود
الممذوق، والحب المصنوع، بل هي فتنة لا تكاد تسلم منها العوان، التي مارست
الرجال وعرفت الزمان.
قرأت قصة (رواية) في امرأة كانت تدعى (فاتنة باريس) وكانت تهوي
إليها أفئدة الرجال، وتمطرها سحائب الأموال، فتفوز لديها آمال وتخيب آمال،
حتى إذا ما عرض لها مرض حال له لونها، وحال بين طلاب التمتع وبينها،
انفض من حولها الناس إلا رجلاً واحدًا كان الحب قد أخذه عن نفسه، وران على
عقله وحسه، ثم اختطفه من طبيعة الرجال، وطار به في فضاء الخيال، ولم تلبث
المرأة أن أفاقت من غشية المرض فلم تر من تلك الجموع إلا ذلك الرجل فاعتقدت
أنه محب لها مخلص في حبه فاصطنعته لنفسها، وثابت على يديه إلى رشدها،
وهجرت الرجال وهاجرت معه من باريس إلى أريافها وهناك تزوجت به ومكنته من
جميع ما تملك.
هذا الذي ذكرته من افتتان النساء بالتحبب والتصبي هو العلة الأولى فيما هو
معروف بين الناس من ميل نساء المدن إلى المتورّنين والمتطرّسين، وزهدهن في
أهل العلم والدين، فهن يعتقدن أن هؤلاء في شغل عنهن، وأن أولئك لم يبالغن في
التطيب والتزين إلا لأجلهن، ثم صار ذلك عادة موروثة فيهن، وقد فشت هذه العادة
السوء في بيوت المترفين من أهل مصر وغيرها حتى إن العذارى ليقترحن أن يغير
الخاطب لهن زيه العلمي إن كان عالمًا، وقد يكون هذا التغيير وَبَالاً عليهن بعد
الزواج؛ لأنه يسهل على صاحبه الدخول في بيوت الفسق التي تخرب بيتهما وتوقع
بينهما. أما أهل البادية ومن في حكمهم فإن نساءهم لا يملن إلا لمن اشتهر بالشجاعة،
والشهامة، والرجولية، والكرم، وبهذه الصفات يتقرب الرجال إلى النساء عندهم،
ولو وجد في المدن شبان يعرفن بهذه الصفات لما فضل النساء عليهن أحدا؛ فإن
من صفات الفطرة أن تحب المرأة من الرجل ما هو من شأن الرجولية والعكس
بالعكس، وهذا الذي يحكى عن نساء الأمصار من ولعهن بالمخنثين ومن يقرب منهم
هو من فساد الفطرة. وقد كان من حسن تربية النساء في بلاد الإنكليز أنهن قربن
من الفطرة السليمة، فقد اقترح عليهن في بعض الجرائد أن يذكرن أحب صفات
الرجال إليهن فكان الجواب من أكثر من أجبن ناطقًا بحب صفات الرجولية من
الشجاعة والاستقلال والسلطة عليهن.
يقول أناس: إن الحب بين الزوجين هو الأساس الذي تقوم عليه جميع أركان
سعادة الحياة الزوجية؛ فإذا كان قويًّا راسخًا فلا يضر هذه الحياة ضعف الأركان، وإذا
كان غير قوي فإن الأركان لا تلبث أن تسقط، فيجب أن يؤذن للعذارى والأيامى
بمعاشرة العزاب على أعين أهليهن، ومراقبتهم ليتخيرن منهم من يبيعهن قلبه،
ويصفيهن حبه، وقد سبق القول في بحث تخير الرجل للمرأة بأن هذه المعاشرة
ليست سبيلاً موصلة إلى الأمنية التي يتمنون. وإذا كان يعسر على الرجل أن يعرف
قلب المرأة بمثل هذه المعاشرة التي يقصد بها الخطبة، أفلا يكون وصول المرأة إلى
قلب الرجل أعسر لا سيما إذا كانت فتاة غرًّا؟ ونزيد هنا أن كثرة معاشرة أفراد كل
من الصنفين للآخر يحبب إليهم التنقل في هذه الرياض ويزينه في قلوبهم حتى إذا ما
ازدوج اثنان منهم عن حب ثم فتر الحب للملل؛ أو لما عساه يبدو لأحدهما أو كليهما
مما لم يكن في الحسبان تحن القلوب إلى من كانت عرفت بالمعاشرة وتجنح إلى
التنقل ولا يعسر ذلك على من سبق له التمرن عليه والأنس به.
الحب هو الركن الأول أو الأساس للسعادة الزوجية، وهو السكون المذكور في
الآية الحكيمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم:
21) أو هو علته وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده، ولكننا نزيد على ما قلنا هناك أن
دوام الحب وسكون القلب إنما يرجى بين زوجين لم يتعود الرجل منهما معاشرة
النساء ولا المرأة معاشرة الرجال؛ إذا كان اختيار كل منهما للآخر على الوجه الذي
بينا؛ فإن علة سكون كل منهما إلى الآخر ثابتة في أصل الفطرة، وإنما يجب
التخير للحذر من الصفات العارضة التي تشارك الفطرة في الاستحسان أو الاستهجان
ولا شيء أقطع لرابطة الزوجية وأذهب بسعادتها من ميل أحد الزوجين أو كل
منهما إلى غير زوجه ميلاً للمعنى الخاص بالزوجية.
إن الحب الذي يكون للزوجين برابطة الزوجية نفسها هو الحب الذي يُرجى
دوامه إذا رُوعي في عقد الرابطة صحة الجسم والنفس والتقارب في العادات والتأدب
بأدب الدين، وأهم هذه الآداب عفة الزوجين ورضى كل منها بالآخر نصيبًا له لا
يفضي إلى سواه، ذلك بأن النزعة الطبيعية في كل من الصنفين إلى الآخر مبهمة
مضطربة في أصل الفطرة؛ فإذا تعينت في اثنين فأفضى بعضهما إلى بعض وقد
وطَّنا أنفسهما على إقامة سنة الفطرة والدين بإحصان كل منهما للآخر وعدم التطلع
إلى سواه فهناك السكون التام والحب الخالص وليس وراء الفطرة والدين مطلع لهناء
العيش وسعادة الحياة، ولكن هذا الإنسان يخرج عن سنتهما ليتمتع بالهناء وسعادة
الحياة فيضل ويشقى.
يقول غير المسلم: إن حب الزوجية لا يكاد يتذوق حلاوته الزوجان المسلمان
لأن المرأة تكون مهددة دائما بأحد الأمرين الطلاق أو الضرة. ونجيب عن هذا القول
من وجهين، أحدهما: دفعه بقول مثله في الزوجين النصرانيين، ومن في حكمهما.
وثانيهما: البحث فيه وتعرف حقه من باطله. أما الأول فإن الزوجين اللذين يرى
أحدهما أنه ملزم بالآخر، إلزاما إجباريًّا جعله كالوهق في عنقه، والوقر على كاهله،
فإنه يمله ويستثقله فلا تسكن نفسه إليه، ولا تقر عينه به، ولا يخلص وده له،
وإن كان قد رضي به قبل العقد انخداعًا بما ينخدع به الشباب، أو ذهابًا وراء الطمع
في مال أو جاه، فالمرأة تلج في الزهو والصلف، وتتمادى في المخيلة والسرف،
والرجل يتجرع مرارة الصبر ولا يكاد يسيغه، وينشد استقلال الرجال فلا يجده،
وربما لجأ إلى السلوة باتخاذ الأخدان، أو الاختلاف إلى ذلك المكان.. إن كان،
وليس هذا القول من تخيل الشعر بل هو الحقيقة حكاية عن شعور أهلها فقد سمعت
أحد فضلاء الإنكليز، وهم أحسن الأوربيين حالاً في الحياة الزوجية، يقول ما مثاله:
إن تحريم الطلاق ومنعه يشعر الرجل بأنه ملزم بالمرأة، مجبور على وُدِّها،
والتحبب إليها لا فضل له في ذلك، وما أعصى الحب والود على الإلزام؛ كما يقول
المثل (حبني غصبًا) وإذا كان يعلم من نفسه القدرة على فراقها؛ فإنه يكون على
فطرته وأدبه في معاملتها يشعر بالسرور والارتياح لاختيار المعاملة الحسنة التي هي
مناط السعادة الزوجية، فهذا هو شعور المهذبين الممنوعين من الطلاق، فما بالك
بغير المهذبين الذين يعجزون عن مكابرة شعورهم، وتكلف المحاسنة لمن يرتبط بهم،
وللمرأة مع الفريقين شعوران مختلفان أحدهما الضعف والعجز وبها ترى نفسها
أسيرة للرجل، وثانيهما أنه لابد للرجل منها ولا قدرة له على الانفصال عنها،
والأثر الطبيعي لهذين الشعورين هو الكيد من جهة والصلف والعناد من جهة أخرى،
ولا يقال: إن هذه فلسفة لا يصدقها الواقع فإنه إن كذبها في الزوجين المتشاكلين في
الطباع المتناسبين بالتهذيب؛ فإنه يصدقها في الأزواج الذين خانهم الحظ؛ فلم
يمنحهم المشاكلة والتناسب لا سيما؛ إذا كانت المرأة عاقرًا، أو ظهرت آيات الخيانة
من أحد الزوجين أو كل منهما للآخر. ناهيك بالمرأة العاقر عند ملك أو أمير قد
جعل الحكم إرثاً في ذريته أو غني عظيم يعز عليه أن لا يكون له وارث يتمتع بماله.
وأما الوجه الثاني: وهو البحث في فَرَق المرأة وحذرها من الطلاق أو
الضرة، فقد يقال فيه أنه يكون من أسباب تحببها إلى الرجل، وعنايتها بمرضاته
وأن هذا السبب للتآلف يقابله في الرجل حذره من خسارة المال إذا أراد استبدال
زوج بزوج؛ لأن الشرع يوجب عليه أن يمتع المتروكة بما تنفقه على نفسها مدة
العدة التي لا يباح لها الزواج فيها، وهذه خسارة فوق خسارة المهر وما عساه يكون
مع المرأة من متاع وأثاث وماعون، أو يكون لها من مال تسعفه به أو تدخره لولده،
ثم إنه لابد أن يبذل للزوج الجديدة المهر اللائق بها. وهذان السببان في حرص كل
من الزوجين على التعلق بالآخر يدعمان سكون النفس الفطري في كل منها إلى
الآخر. على أن الطلاق والمضارة بزواج أخرى هو خلاف الأصل الذي عليها
الأكثرون من المسلمين، وإننا لنعلم أن الأكثرين من المتزوجين في بلادنا لا يخطر
في بال الرجل منهم، ولا المرأة أمر الطلاق، أو المضارة أعني أن الرجل لا ينويه،
والمرأة لا تتوقعه منه، وأن أكثر الذين يقع منهم الطلاق من غوغاء المسلمين؛
فإنما يقع منهم على سبيل المنع من شيء، كأن يقول واحدهم: عليه الطلاق إن فعل
كذا أو إن فعلت كذا ونحو ذلك. وما كان من ذلك تعليقًا حقيقيًّا على فعل المرأة
وهو الأكثر، يجعل الطلاق في يدها كما هو في يده فيشتركان فيه وقد ذهب الكثير
من الأوربيين إلى صحة الطلاق من كل من الزوجين وهذا شيء منه. ومن أئمة
السلف من يقول بعدم وقوع الطلاق بأيمان اللجاج وكل لفظ لا يقصد به حل عقدة
الزوجية قصدًا صحيحًا، وعليه بعض علماء الحنابلة ولو حرر المسلمون مسائل
الطلاق من غير التزام مذهب بأن يأخذوا من مجموع كلام الأئمة ما يوافق النصوص
المنطبقة على المصلحة العامة لما كان يقع الطلاق من المسلمين إلا مثل ما يقع ممن
قلدهم فيه من الإفرنج. ولعله يكون في بعض البلاد الإسلامية أقل منه في بعض
بلاد الإفرنج بل هو الآن أقل في بعض البلاد.
نعم، لا ننكر أن المسلمين في بلاد مصر قد أسرفوا في الطلاق وفي التزوج
بأكثر من واحدة فساءت حالة الحياة الزوجية فيهم وفي أمثالهم ممن على شاكلتهم وإن
قلوا وأنهم في ذلك على غير ما يحب الإسلام، ويرضى كما يعلمون في الطلاق
وكما بينا في حكم تعدد الزوجات وشرطه في المجلد الماضي، ولكن سوء هذه الحال
خاص بالمسرفين من أهلها وبمن يقربون منهم بما يروعون نساءهم ويوقعون الريب
في قلوبهن بكثرة الحديث في التزوج وإظهار الميل إلى بعض العذارى أو الأيامى
بالقول أو الفعل. وقد مرضت الفطرة في هؤلاء واعتل مرشدها، وهو الدين حتى
كان انحلال الرابطة الزوجية بعض أعراض ذلك المرض الذي فقد علاجه، فهم لا
يذوقون للحياة الزوجية طعمًا، ولو لم يروعوا نساءهم بالطلاق والمضارة إلا أن
يقيموا وجههم للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإن السعادة الزوجية
كغيرها من ضروب السعادة لا تكاد تناول إلا بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب التي
جاء بها الدين، ولذلك قال المصلح الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (إذا جاءكم
من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) .. إلخ (رواه الترمذي والليث بن سعد) ومن
يطلب السعادة بغير ذلك فهو من الخاسرين.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تنصى القوم: تزوج في نواصيهم أي أشرافهم، ومثله (تذراهم) أي تزوج في ذروتهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تزويج الشريفة بغير كفء
وسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم
(س 14 ،15) ض. ع أحد المشتركين بالمنار في (سنغافورة) : قاضٍ
زَوَّجَ شريفة علوية صحيحة النسب شهيرته، برجل هندي مجهول النسب، شهد له
اثنان عند القاضي قالا: في بلدنا يقولون سيد. وبعد الفحص عارض ذلك القاضي
العلماء العارفون حتى اتضح بطلان العقد وفساده عند الجميع وعند القاضي أيضًا؛
فأبى الرجوع إلى الحق والاعتراف بفساد العقد وساعده رجل آخر جهلاً، وهوًى
وتعنتًا، حتى أن المساعد لما روجع بما يقوله الشرع والعلماء وأحضرت له الكتب
طفق يسب العلماء، وقال لمن عارضه اطرح هذه الكتب في إستك (قالها بالعبارة
العامية المبتذلة) فالمؤمل من فضلكم الجواب مبسوطًا على قوله اطرح هذه الكتب
في.. ..؛ فالمسألة واقعة حال والرجل والمرأة مقترنان حتى الآن سفاحًا، وعندنا
بسنغافورة اختلفت الأجوبة فمن قائل بكفر المساعد وغيره، ولا يرضى الجميع إلا
بجوابكم فانشروا جواب سؤالنا على صفحات مجلتكم المنار لا زلتم ذخرًا للخاص
والعام وناصرين لشريعة أفضل الأنام عليه الصلاة والسلام.
(ج) نشرنا في الجزء العاشر من المجلد السابع مقالة في الكفاءة بينا فيها أن
الكفاءة في النسب من المسائل الاجتهادية، وأن العبرة فيها بالتعيير وعدمه، ولذلك
صرح بعض الفقهاء بأن الشريف غير المشهور بالشرف ليس كفؤًا للشهيرة
بالشرف، والظاهر من السؤال أن الواقعة لو ثبت فيها شرف الهندي لكانت من هذا
القبيل ولا حاجة لبسط القول في هذا المقام بعد العلم بأن العلماء العارفين حاجوا
القاضي حتى حجوه واقتنع ببطلان العقد ولكنه لم يرجع إليه. ثم إنكم لم تذكروا في
السؤال هل كان لهذه الشريفة ولي أم لا؛ فإن لم يكن لها ولي وكانت هي راضية
بهذا الزوج فالعقد صحيح؛ لأنها أسقطت حق الكفاءة وليس لها أولياء يلحقهم العار
بزواجها من غير الكفؤ فيعارضوا فيه. وإن كان لها ولي فكيف زوجها القاضي بدون
إذن وليها، وهل عارض الولي أم لا؟ كان ينبغي بيان ذلك.
وأما سب ذلك الجاهل للعلماء وإهانته للكتب الدينية فهو من أكبر المعاصي
لأنه يسقط احترام العلم والدين وأهلهما من نفوس الجاهلين، ويجرئ السفهاء على
الفضلاء، حتى تكون الأمة فوضى ليس فيها كبير يحترم لفضله، ولا صغير يؤمن
بجهله، ولا يتجه كون ذلك من الكفر إلا إذا احتفت به القرائن والدلائل على أنه قال
ما قال في كتب الدين وحملتها هزؤًا بالدين نفسه؛ لأن غير معتقد به. وقد أفتى
بعض فقهاء الحنفية بِرِدَّة من يحقر علماء الدين أو كتبه ونصوصه، حتى قالوا: إن
من يعطى الفتوى فيلقيها في الأرض ازدراء واحتقارًا يكفر. ولما ذكر ابن حجر من
الشافعية قاعدة: (أن من الردة كل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من
كافر عدّ من ذلك قوله: أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها
اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة، قال بعضهم أو قذر ظاهر)
…
إلخ
ثم، قال فيما سرده من أعمال الردة: أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين
على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا، أو يلعب استخفافًا، أو قال:
(قصعة ثريد خير من العلم) استخفافًا أيضًا، ويشترطون في كون هذه الأعمال كفرًا
أن لا تدل قرينة على عذر صاحبها، أو تأوله لا خلاف بينهم في هذا.
والتحقيق أن الكفر هو إنكار شيء مما علم من الدين بالضرورة، وكان مجمعًا
عليه، ومثله تكذيب شيء من الدين يعتقد المكذب له أنه مما جاء به الشارع، أو
اعتقاد قبحه وبطلانه؛ لأن كل ذلك تخطئة للرسول فيما جاء به عن الله تعالى. وما
ذكر الفقهاء من المكفرات غير ذلك؛ فهو في رأيهم يرجع إليه؛ لأنه دليل عليه، أو
لازم له أو ملزوم، ولذلك رد بعضهم منه ما قاله بعض لا سيما ما كان كفرا باللزوم
وقد قالوا (إن لازم المذهب ليس بمذهب) واتفقوا على أن التأول يمنع التكفير فإذا
أتى إنسان بشيء عدوه كفرًا وردة، فذكر أن له تأويلاً يتفق مع اعتقاده بأن جميع ما
جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين حق امتنع الحكم بردته،
وقالوا: إذا وجد مئة دليل أو قول على كفر أحد وقام دليل أو قول واحد على عدم
كفره يعمل بالواحد لأنه يجب درء الحدود بالشبهات والتباعد عن التكفير ما أمكن.
ولكن هذا لا يمنع من تشديد التعزيز على من كانت الشبهة على كفره أقوى لا سيما
إذا كانت أقواله وأفعاله المشتبه في كونها كفرًا مما يفتن العامة ويضر بالناس، والله
أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مصرف الهدايا والنذور
لأضرحة الأولياء
(س16) السيد عوض جمعان سعيدان في (سنغافورة) : أرجو من سيادتكم
الإفادة عما يأتي ولكم من الله الفضل. سيدي من المشهور أن عند قبور بعض
الأولياء صناديق حديد يضع فيهن من يريد قضاء حاجته شيئًا من الدراهم، وعندنا
كثير من هذه القبور خصوصًا في جهة (جاوا) ، وتوجد تلك الصناديق عند نهاية
الشهر ملآنة بالدراهم ينفق منها القائمون بحراستها ما يقوم بنفقة المقام والباقي
يصرف على ورثة الولي إن كان له قرابة، وقد التمس مني أحد الإخوان بإلحاح أن
أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا نشره في أحد أعداد المنار والجواب عليه بما
يمكن العمل به، وهو هل يجوز للورثة أخذ تلك الدراهم مع العلم بأن طالب الحاجة
لا يقصد تقديم تلك الدراهم للورثة أو غيرهم بل يقصد بها أن تكون لذلك الولي فقط،
أفيدونا لا زلتم مؤيَّدين وبعين العناية ملحوظين.
(ج) الميت لا يملك فيكون ملكه لورثته؛ فإذا كانت الحال كما ذكرتم في
السؤال فلا يجوز لقرابة صاحب الضريح أكل ما يُلقى في الصندوق من المال لا بعد
الإنفاق على القبر ولا قبله، وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من
إيقاد السرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه؛ لأن النبي -صلى
الله عليه وآله وسلم - قد نهى عن ذلك ولعن فاعله، وقد عد العلماء اللعنة علامة على
أن الذنب من الكبائر، ومنها حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأبو
داود والترمذي وحسنه والنسائي وفي إسناده أبو صالح بازام أو باذان تُكلم فيه.
وما قاله ابن عباس تشهد له الأحاديث الصحيحة سواء سمع منه أبو صالح أم لا، ففي
حديث الصحيحين (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي رواية:
(لعن) بدل (قاتل) وقد فسرت هذه بتلك، وفي حديث مسلم أن النبي قال ذلك في
مرض موته وزاد (فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وفي رواية في
الصحيحين (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا)
…
إلخ
ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه والنسائي قال
(نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى
عليه) وفي رواية أخرى: (وأن يكتب عليه) وقد ذكرنا من قبل هذه الأحاديث،
وغيرها فمن شاء فليراجعه، أو ليراجع ما كتبه ابن حجر في بيان الكبيرة الثالثة
و4 و5 و6 و8 والتسعين من الزواجر فإنه بحث في كفر الذين يعظمون قبور
الصالحين تعظيمًا يشبه العبادة كما هو المعروف في زماننا.
أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهمًا أنهم يستميلون بها
أصحاب القبور لتُقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب
على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها، ويُبَيِّن لهم حكم الله في ذلك، ولكن من
يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل، ويشركون فيها من يشركون. وقاعدة الفقهاء
في الأموال التي لا يعرف لها مالك أن ترصد لمصالح المسلمين العامة، ومن للمسلمين
بمن يقوم بمصالحهم العامة وليس لهم حكومة إسلامية تلتزم الشرع وتقيمه في كل
أعمالها وأحكامها، وليس لهم زعماء وسراة يرجعون إلى رأيهم وإرشادهم، فحسبنا
الله وإياه نسأل أن يهيئ لنا من يقوم بأمر ديننا قبل أن نكون من الهالكين الميئوس
منهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن
(س 17) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) : ما قول أئمتنا الشافعية فيما
يأتي: هل يسن للملقن أن يجلس قدام وجه الميت، أو فوق رأسه، أو وراءه، أو
يفرق بين كون الميت رجلاً أو امرأة.
(ج) هذه المسألة مما يؤخذ فيه بالاتباع ويبعد فيها القياس، والأخبار والآثار
الواردة فيها ضعيفة، ولكن قد استحب أصحاب الشافعي الأخذ بها. والوارد أن يقف
الملقن عند الرأس. أخرج الطبراني في الكبير وعبد العزيز الحنبلي في الشافي وابن
منده في كتاب الروح وابن عساكر والديلمي عن سعيد بن عبد الله الأزدي عن
أبي إمامة قال (وفي رواية شهدت أبا إمامة وهو في النزع فقال يا سعيد) : إذا أنا
مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلام - أن نصنع بموتانا
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب
على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدًا ثم
ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية،
فإنه يستوي قاعدًا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثالثة فإنه يقول:
أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام
دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا؛ فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد
صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته) وفي لفظ: ويكون الله
حجيجه دونهما. فقال رجل يا رسول الله؛ فإن لم يعرف اسم أمه قال: (فلينسبه إلى حواء) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وإسناده صالح وقد قوَّاه الضياء في
أحكامه، ولكنهم تكلموا في سعيد راويه، وفي إسناده عاصم بن عبد الله وهو
ضعيف وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه ابن منده بلفظ آخر
ورووا آثارًا بمعناه لا محل لذكرها هنا وإنما المقصود بيان أن الرواية صريحة
في أن الملقِّن يقوم عند رأس القبر. وقد ورد في أحاديث القيام عند القبر للدعاء
بالتثبيت أنه يستحب أن يقف مستقبلاً وجه الميت.
ولا وجه لقياس الوقوف للتلقين أو الدعاء؛ على الوقوف للصلاة قبل الدفن إذا
فرقوا فيه بين الذكر والأنثى؛ لمكان النص ولوجود الفرق، والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رش القبر بالماء
(س18) ومنه: رش القبر بالماء مستحب، هل هو عام لكل وقت أم خاص
بعد الدفن؟
(ج) ذكروا رش القبر بالماء في أحكام الدفن، وعللوه بما عللوا به وضع
الحصباء عليه وهو لا تذهب الرياح بالتراب وهو دليل على أن المراد رشه بعد الدفن
وعليه العمل، والأصل فيه ما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع عليه حصباء،
وروى البيهقي أن بلال بن رباح رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالماء، وفي
إسناده الواقدي، تكلموا فيه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شعر الرأس
حلقة أو تركه
(س19) ومنه: تبقية الشعر في الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه
كما في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فهل لها كيفية مخصوصة أم لا؟
(ج) إن إرسال الشعر وحلقه من العادات لا من العبادات، إلا ما يكون في
النسك من الحلق أو التقصير، نعم إنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
حلق في غير النسك وكذلك الصحابة كانوا يرسلون شعورهم، وكان ذلك من عادتهم
ولم يكونوا يعدونه دينًا، ويعجبني قول الغزالي في الإحياء (ولا بأس بحلقة لمن
أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرَجِّله إلا إذا تركه قزعًا أي قِطَعًا، وهو
دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك
شعارًا لهم؛ فإنه إذا لم يكن شريفًا كان ذلك تلبيسًا) اهـ. وهو يريد بأن المؤدَّب
بآداب الدين لا ينبغي أن يتشبه بالسفهاء؛ كأهل الشطارة ولا بمن يلزم من
تشبهه بهم تلبيس على الناس وغش لهم، وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس
وكونه مخالفًا للسنة؛ لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج؛ فإذا أخذنا
بإطلاقهم كان اللوم في ترك هذه السنة موجِّهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم
يحلقون بل ينكرون على من لم يحلق وهم مخطئون.
نعم، إن من أرسل شعره بنية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في
عاداته الشريفة كان ذلك مزيد كمال في دينه؛ إذا كان مقتديًا بسننه الدينية، ومتحرِّيًا
التخلق بأخلاقه الكريمة، وقد ورد في أحاديث الشمائل بأن شعره كان إلى أنصاف
أذنيه، وكان لا يتجاوز شحمة أذنيه غالبًا، وقد يصل إلى منكبيه، وقد سدل ثم فرق
فأما السَّدْل فهو أن يرسل الشخص شعره من ورائه وعلى جبينه أي يتركه على
طبيعته، وأما الفَرق فهو أن يجعله إلى جانيه وزعم بعض العلماء أن السدل نسخ
بالفرق ولا تقوم له حجة.
وقد جرى أكثر الإفرنج وبعض المتفرنجين في هذا العصر على سنة إرسال
الشعر وفرقه، أريت إذا فعل ذلك شيخ الأزهر أو بعض شيوخه المشهورين. ألا
يعد هذا عند العامة وبعض من يعدونهم من الخاصة خرقًا لسياج الدين؟ بلى، إن حكم العادات نافذ في العلماء والجهلاء، وهو كثيرًا ما يزيد في الدين ما ليس منه في
شيء وينقص منه ما هو من سننه التي لا خلاف فيها، ولا تبعد في طلب المثال
فهو بين يديك، وفي أسئلتك وما قبلها. فمشايخ الأزهر يقرءون في شمائل
نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على من يفعل ذلك من أهل
العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم وكان شيخًا للأزهر قائلاً: إنك من أهل العلم لا
يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه، فحججته بالسنة فحاجني بأن ذلك شعار
العلماء الآن.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
صلاة الظهر بعد الجمعة
والخلاف في الدين
(س20) ومنه: هل يجوز لأحد أن ينهى أهل بلدتنا (سنغافورة) وأشباهها
كما حدث الآن عن إعادة الظهر بعد الجمعة أم لا يجوز؟ لأنهم يعتقدون أنها سنة
متمسكين بقول العلامة ابن حجر الهيتمي في الجمعة من الإيعاب بعد كلام قرره فيه:
وعلى كل فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه لحاجة ولم يعلم سبق جمعته
للكل أن يعيدوها ظهرًا خروجًا من هذا الخلاف
…
إلخ، ولأنه أي النهي يوقعهم في
محظورات منها وقوعهم في أعراض أهل العلم الذين أمروهم بإعادتها وأعادوها
بأنفسهم في تلك البلدة وغِيبتهم كبيرة بالإجماع، ومنها مفاسد آخر كالنزاع والشقاق
المتولد بين أهل تلك البلدة بسبب الطعن في علمائهم المتقدمين وغير ذلك فيكون هذا
الرجل سببًا لذلك، نعوذ بالله من غضبه.
(ج) تعلمون أن الخلاف واقع بين علماء الشافعية بعضهم مع بعض وبين
علماء سائر المذاهب، كما وقع بين الأئمة ومن فوق الأئمة من علماء الصحابة -
رضي الله عن الجميع - ولا شك أن كل من ذهب إلى شيء فهو يرى مخالفه فيه
مخطئًا، ومن كان غير معصوم فهو عرضة للخطأ، وقد نقل عن الصحابة والأئمة
أنهم أخطأوا في مسائل ثم ظهر لهم الصواب فرجعوا إليه، ومنها ما هو أهم في الدين
من إعادة الظهر بعد الجمعة احتياطًا أو غير احتياط فإذا كان هذا سببًا للوقوع في
أعراضهم فمن يسلم لنا. قالوا: إن ابن عباس رجع في آخر حياته عن القول بجواز
المتعة فهل كان هذا سببًا للوقوع في عرضه ممن كانوا سمعوا منه الفتوى بالجواز
وعملوا بها؟ هل كان أهل العراق يقعون في عرض الإمام الشافعي؛ لأنه يرجع عن
مذهبه القديم بعدما عاد إلى مصر. كلا إن هذا من عمل السفهاء، وما كان لأهل العلم
أن يحفلوا بقدح هؤلاء السفهاء، ولا بمدحهم فيتركوا بيان العلم والدين لأجلهم، وهذه
سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق. يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ
أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) فعلى المؤمن بل من خواص المؤمن أن يأخذ
بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لوم لائم ولا خوض آثم وإذا
كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد
أمره بذلك عالم فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته وهو
يستحق الدعاء والثناء لا السب والطعن.
وإذا حاسب السائل نفسه ورجع إلى وجدانه يتبين له أن الذي أكبر هذه المسألة
في نفسه وفي نفوس الكثيرين من أهل سنغافورة وجاوه هو تعودهم صلاة الظهر بعد
الجمعة، فالأمر من قبيل حكم سلطان العادة الذي ذكرناه في جواب السؤال السابق،
وإلا فلو كان المسلمون يهتمون كل هذا الاهتمام بكل مسألة حتى ما قاله بعض الفقهاء
المتأخرين: إنها من الاحتياط؛ لكان اهتمامهم بما أجمعت عليه الأمة من المحرمات،
والمكروهات والواجبات والمندوبات أعظم وأشد وأين هم من ذلك؟ فو الذي
أحيا سلفهم بإتباع الحق حيث كان، والاعتصام به بقدر الإمكان، وأماتهم بابتداع
البدع، والتفرق في الدين إلى شِيَع، لو أنهم كانوا يعلمون بما أجمعت عليه الأمة؛
لكانوا في هذا العالم هم السادة الأئمة، ولكانت الأمم التي أزالت ملكهم وورثت
عزهم، تابعة لهم خاضعة لأمرهم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية.
هذا هو رأينا في الخلاف في هذه المسألة الاحتياطية التي كبرت عند بعض
أهل سنغافورة وجاوه، حتى عدها بعض أهل الهوى والجهل منهم فتنة من فتن
المنار الذي بيَّن حكم الله فيها؛ إذ كتب واحد أو اثنان منهم لأمثالهم من أصحاب
الجرائد الذين لا يصلون ظهرًا ولا عصرًا، ولا يفهمون كتابًا وسنة، يستفتحون بهم
على المنار ويطلبون منهم الرد عليه أو تحريض العلماء على ذلك، والمنار يطلب
في كل عام غير مرة من كل عالم يرى فيه شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة أن يكتب به
إليه. وقد زعم الكاتبان أن المنار هو الذي فرَّق بين الناس في الدين وجرَّأهم على
سب الأئمة والسلف، والمنار هو الداعي لإزالة الخلاف بالاعتصام بالكتاب والسنة
والاقتداء بالسلف ولا نعرف داعيًا إلى ذلك بالقول والكتابة والنشر غيره ففي أي جزء
وفي آية صحيفة منه تكلم في السلف والأئمة؟ {إِنْ هَذَا إِلَاّ اخْتِلاقٌ} (ص: 7)
يُعرف منه أن المشاغبين في مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة لا يتبعون إلا الهوى؛
فإن الكذب والبهتان والغيبة لا سيما لخدمة الدين وأهل البيت النبوي من أكبر
المحرمات بإجماع المسلمين، وأما صلاة الظهر بعد الجمعة فهي مسألة خلافية بينَّا
الحق فيها من قبل. فهل من الاحتياط الذي قاله ابن حجر أن يكذبوا ويغتابوا
ويخوضوا في أعراض العلماء ويلصقوا ذلك بغيرهم.
قد أطلت القول في هذه المسألة؛ لأن الناس قد اهتموا بها عندكم أكثر مما
تستحق، وهؤلاء أهل مصر أكثرهم شافعية ولم يهتموا لها بعض الاهتمام وهذه سنة
الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضرر
ويتركون عظائم الأمور ولا يبالون بها أرأيت أيها الأخ السائل أيهتم
قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون بمن يصلي الظهر بعد الجمعة احتياطًا ويتركها لاعتقاد أنه لم يكلف بها وفاقًا لأكثر المسلمين؟ إذا كان
هؤلاء قد تركوا كل ما حرَّمه وكرهه الدين وقاموا بكل ما قدروا عليه من أحكام الدين
فرائضه وسننه وآدابه لأنفسهم ولأمتهم فلهم الحق في الاهتمام بهذه المسألة، وإنني
أعتقد حينئذ أنهم يكونون سعداء مرضيين عند الله صلوا الظهر بعد الجمعة، أم لم
يصلوها، وإن كانوا قد قصروا في شيء من الفرائض والسنن المتفق عليها أو
يرتكبون شيئًا من المحرمات التي لا خلاف فيها فزعمهم الاهتمام والعناية بالدين؛
لأجل مسألة خلافية لم يقل بها إلا الأقلون من المسلمين زعم باطل لا سبب له إلا
التمسك بالعادة والتعصب على المخالف بغيًا وانتصارًا للنفس.
والخلاصة: أن من اعتقد أن شيئًا غير مشروع فعليه أو فله أن يبينه للناس
غير مُبَالٍ بِلَغَط اللاغطين، واختلاف الجاهلين، والله ولي المتقين.
أما سؤالكم في سماع الدعوى في بيع الرهن؛ فليس من موضوع المنار البحث
في الأحكام القضائية غير الدينية، وظاهر أن الدعوى لا تسمع ممن سكت عنها المدة
التي حددها الإمام أو نائبه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية)
رسالة لعلي بك أبي الفتوح من علماء القوانين العاملين بها في نيابة محكمة
الاستئناف بمصر ابتدأها بقوله: (لا يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم
أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من
التمدن والترقي درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط الموجودة في القوانين
الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وإنما هي بمثابة الاختراعات
المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد، ولكن الباحث في
الفقه الإسلامي ولو قليلاً لا يلبث أن يغيّر هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا وصلوا
في الرفاهية وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلَّما يجاريهم فيه
أحد إلا أن صعوبة كتب المتأخرين وكيفية تأليفها، وما هي عليه من التعقيد قد
أوصدت الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء غير المنقطعين
لدراستها، ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد التآليف لقديمة؛
لأنها أسهل موردًا وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد وبعدها عن المشاغبات اللفظية،
وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل ولا حساب للوقت.
(أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة
182 هجرية وقد ألف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمنين هارون الرشيد، وفيه من
النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا
المؤلف الصغير الحجم على دُرَر كثيرة لا أبخل بنظمها في هذه المقالة حتى يرى
المسلمون وخصوصًا المشتغلون منهم بالقوانين الإفرنجية أن المتقدم لم يترك شيئًا
للمتأخر، ولعلهم ينكبُّون على دراسة الشريعة والآداب؛ لأنهما لا ينافيان العصر
الحاضر ولا المدنية الحديثة إذا فُهِمَا حق الفهم ودُرِسَا بعقل وتمييز.
وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع
اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر
احترامًا في النفوس وأكثر موافقة لأخلاق وعوائد من وضعت لهم) اهـ.
ثم ذكر مسائل من كتاب الخراج وذكر ما ورد بمعناها في القوانين الحديثة
واستخرج العبر منها، وقال: إن أهل القوانين يظنون أن هذه المسائل من أوضاع
علماء أوربا المتأخرين؛ فهذه الرسالة مفيدة للمتعلمين في المدارس النظامية بمصر
وأوربا الذين لم يتلقوا شيئًا من علوم الشريعة فهم يغمطونها للجهل، وهذا الذي ذكره
قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير، ومفيدة لعلماء الأزهر، وأمثالهم من
المتعلمين على طريقتهم إن كانوا يقرءون ويعتبرون بما تبين لهم من سوء أثر هذه
الكتب المتأخرة التي اختاروها للتدريس، وأثر طريقة التعليم المتمعجة التي يتعسفون
فيها فإن ذلك أقوى أسباب بُعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم.
أما تعجب الكاتب من جدارة الحكومات الإسلامية بأخذ قوانينها وأحكامها من
الشريعة الغراء، فيقال فيه: إنه لو كان في الدنيا حكومات إسلامية لما كان لهم
معدل عن الشريعة، وهل من معنى لكون الحكومة إسلامية إلا كون تشكيلها
وأحكامها على حسب الشريعة. وهل توصف بالإسلامية الحكومة الاستبدادية
الشخصية التي يُنْشئها أو يرثها رجل يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يتقيد من
شريعة الإسلام بشيء إلا ما لا يرى بدًا منه في إخضاع العامة لسلطته أو ما يراه
موافقا لمصلحته؟ هذه مجلة الأحكام العدلية التي ألفتها لجنة من علماء المسلمين هي
أحسن من القانون المدني الفرنسي، وقد أمر السلطان العثماني بالعمل بها عندما
أسس نظام العدلية، وأبطل به الامتيازات الأجنبية، فلماذا لم تتبعه الحكومة
الخديوية، بل اختارت على أحكام الشريعة الإسلامية قانون الحكومة الفرنسوية.
كلنا يعرف السبب في ذلك وهو طمع إسماعيل باشا بالاستقلال والانفصال عن
الدولة بمساعدة أوربا التي يتزلف إليه باتباع مدنيتها فانظر ماذا حل به وباستقلاله.
والرسالة قد طبعت فنحث القراء على طلبها ومطالعتها.
***
(شرح التلخيص وطريق البلاغة وكتبها)
ساءت طرق التعليم في المدارس الإسلامية بعد ضعف العلم بضعف الأمة،
وساء اختيار المعلمين للكتب؛ فصارت العلوم في المسلمين رسومًا منها الدارس
ومنها المائل. ثم تلاشى من العلوم ما لا يقوم بالرسم؛ لأنه أشبه بالروح منه بالجسم.
كعلم البلاغة الذي هو ذوق معنوي، وشعور روحاني، تطبع بملكته النفس؛ ثم
يظهر أثره في الحس، وهذه الكتب التي اختارها المتأخرون هي شروح لمتون
جعلت مذكرة لأصول المسائل، ومهمات القواعد؛ فكانت مناقشات في ألفاظها،
واستنباطات في عباراتها، تقطع على من ابتلي بها طريق التحصيل. وتضله عن
سواء السبيل، وأشهر هذه المتون متن التلخيص للشيخ جلال الدين محمد بن عبد
الرحمن القزويني الخطيب بدمشق الذي اختصر به كتاب المفتاح لأبي يعقوب يوسف
السكاكي. وقد كان البلغاء المتقدمون الذين انتهت إليهم البلاغة والقدرة على البيان
يأتون البلاغة من بابها بما يزاولون من قراءة الكلام البليغ وتفهم معانيه، والتفطن
لأساليبه ومناحيه، حتى إذا ما أحس الإمام عبد القاهر بضعف عناية الناس بفهم
الكلام البليغ ورأى النفوس منصرفة إلى العناية بزخرف اللفظ، وإن عجز عن أداء
المعنى المراد، وقصر عن التأثير المطلوب فوضع كتابيه في (أسرار البلاغة) في
البيان، و (دلائل الإعجاز) في المعاني؛ ليصرف الناس عن المجاهل التي
تعسفوا فيها، ويهديهم إلى الطريق التي ضلوها؛ ولكن جاء بعده السكاكي فاقتبس
من كتابه القواعد والأحكام التي وضعها لإقناع الجاهلين، وتسهيل الغوص على الدرر
للغواصين، فجعل الفن رسمًا محدودًا، واصطلاحات نظرية حظ الذهن منها
بالتصور والتصوير، أكبر من حظ النفس بالتأثر والتأثير، ثم اختصر الخطيب
بتلخيصه ما كتبه السكاكي فكان كتابه أوغل في الرسم والاصطلاح؛ وأبعد عن
النفوذ إلى مواقع التأثر والتأثير من الأوراح، وجاء بعد ذلك سعد الدين التفتازاني
الذي صرف كل ذكائه في ممارسة العلوم النظرية من المنطق والجدل والمناظرة
والفلسفة والكلام؛ فشرح (التلخيص) على طريقته في العلوم النظرية، فخرج
بذلك علم البلاغة عن موضوعه بالكلية، وابتليت كتب السعد بأناس وضعوا عليها
حواشي للبحث في ألفاظها وأساليبها دون البحث في أساليب الكلام البليغ المأثور
فصارت هذه الكتب عقبات أو عواثير في طريق البلاغة بل صرفت الناس عنها؛
وحالت بينهم وبينها.
مرت قرون على المسلمين وهم يتسكعون في ليل من الجهل بهيم حتى إذا
الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هدى الله أناسًا إلى أن يقبسوا اللغة من
مقبسها، ويجنوا البلاغة من مغرسها. وما عتم أن استبان للأزهريين المقصد،
وظهر فيهم الإمام المرشد، ثم طبع الكتابان الجليلان، (أسرار البلاغة ودلائل
الإعجاز) وقرأهما في الأزهر الأستاذ الإمام، فحاول تلامذته الجمع بين العلم
والعمل، وظهر فيهم من فاتوا شيوخهم الآخرين في بلاغة اللسان والقلم، فكتبوا
المقالات والرسائل الأدبية، وتعلقت آمال بعضهم بتأليف الكتب العلمية، وهذا كتاب
شرح التلخيص لواحد منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي.
جرى هذا الشارح في شرحه على أن يبين المراد من الجملة ويدعمها بشيء
مما ينصر جند المعاني على جند المباحث اللفظية التي اعتادها أهل الأزهر مستمدًا
ذلك من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز الذين هما عمدته وعتاده، وفي هذا من جذب
طلاب الأزهر الذين لم يحضروا الكتابين على الأستاذ الإمام إلى جانب البلاغة
الحقيقية ما يرجى معها أن يكون الشرح سلمًا لهم يرتقون به إلى مطالعة الكتابين،
ويهتدون به إلى خير النجدين، وهو ما يطبع البلاغة في النفس، ويظهر أثرها في
عالم الحس، على أنه يكون عونًا لهم على فهم شرح السعد الذي قضي عليهم بتلقيه،
وأداء الامتحان فيه. ومما ينتقد على الشارح أن يأخذ الكلام من أحد الكتابين
(أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فيسنده إلى نفسه وإن كان طويلاً لا تصرف له فيه
وتارة يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا لا يكون عذرًا له أن يترك عَزْوه إلى أبي عذرة
كما فعل بالفصل الذي عقده عبد القاهر في أسرار البلاغة لبيان مواقع التمثيل،
وتأثيره في النفوس؛ فإنه أخذ صفحات من صدور الفصل ووضعها في أول باب
التشبيه متصرفًا في جمل من أولها نقلها من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع،
كأن حق المصنف فيها مضى وانقضى وصارت في مستقبلها إلى مالك آخر.
قال في ص 227:
(اعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وأن تعقيب المعاني به
لاسيما قسم التمثيل منه يكسبها [1] أبهة ويكسبها مَنقبة ويرفع من أقدارها، ويشب من
نارها، ويضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ويدعو القلوب إليها، ويستثير لها
من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا، فإن
كان مدحًا كان أبهى وأفخم)
…
إلخ، ما لا تصرف فيه وعبارة أسرار البلاغة هكذا
(ص86) :
(واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل في أعقاب المعاني أو برزت
هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة؛
وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك
النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؛
وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم)
…
إلخ
وما لا تصرف فيه.
وبعد أن نقل بالحرف مواقع التمثيل وتأثيره في كل موقع، وأنشأ ينقل الأمثلة
تصرف فيها وفي الكلام عليها بعض التصرف، وكان غنيًّا عن ذلك كله.
وقد وضع للشرح مقدمة تكلم فيها عن الفصاحة والبلاغة، وعن المؤلفين في
فن البيان، وألم بما يشترط له من علم العربية، ولكن هذه المقدمة كلها أو جُلَّها
مأخوذة من كلام عبد القاهر وغيره، وما كان ينبغي للمؤلف أن يتجاوز في مقدمة
كتاب له أخذ الجملة والجملتين على سبيل التضمين. وأكثر ما أخذه قد سلخه بلفظه
ومعناه فإنك تجد قوله (في ص 7) : (أما النحو فهو معيار) إلى جمل بعده كله
من (ص 23 و 24) من (دلائل الإعجاز) ، ولا نذكر ما قاله في ص 8 من
التمثيل بالآية، وكونه من ص 26 من دلائل الإعجاز أيضًا؛ فإنه ليس من روائع
الكلام التي تملك لقائلها.
ولكن قوله في ص13 في عبد القاهر (وأرهف عليهم لسانًا أخرس الشقاشق،
وأعدم نطق الناطق ، وأسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا)
مأخوذ من قول عبد القاهر في ص 7 من المدخل الذي هو مقدمة دلائل الإعجاز
ولكن فيه شبهة عزو؛ لأنه يحكي عن رأي عبد القاهر.
وقوله في آخر ص 15 ونحو ثلثي ص 16 من دلائل الإعجاز وقوله عقبها:
(وزبدة القول: إلى نحو ثلث ص 17 مأخوذ من ص 34 و 35 من دلائل الإعجاز
وما بعدها مأخوذ من ص 37 منه. والكلام على الآية في ص 18 مأخوذ من ص 36
من دلائل الإعجاز. والكلام على بيت ابن المعتز في ص 19 مأخوذ من 47 منه) .
وقوله في ص 7: (لكن لا بد للمرء قبل ذلك أن يحظى برس من اللغة
ويصيب ذروا من النحو) فهو مأخوذ من فاتحة أساس البلاغة للزمخشري بتصرف
وقوله في ص 3 (لا يقوم بفصاحته لسان ولا يطلع فجه إنسان) هو من كلام
الشريف الرضي في وصف كلام لأمير المؤمنين لما بويع بالمدينة. ومثله قوله في
الصفحة أيضًا (وقبع في كسر بيته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه) فهو من
فاتحة نهج البلاغة للشريف، وقوله فيها قبل العبارتين: (كتب في هذا الفن قبل
الإمام عبد القاهر) إلخ مأخوذ من مقدمتنا لأسرار البلاغة، وكذلك قوله في ص 4
(وهو وإن فاق عبد القاهر في التقسيم والتبويب) إلخ ما قاله في السكاكي فهو منها
بالمعنى لا بالنص.
هذا وإننا نرى أن هذا الشرح مفيد لطلاب علم البلاغة لا سيما الأزهريين منهم
لا يجدون ما يغنيهم عنه، ولا يحسبن أحد أن ذلك الأخذ الذي نبهنا عليه يقلل من
فائدته أو يدل على ضعف مؤلفه. كلا إن الشيخ عبد الرحمن من أحسن نابتة الأزهر
تحصيلاً وفهمًا وكتابة، يدل على ذلك حسن تأليفه لما أخذه وربط بعضه
ببعض، وحسبه أن يختار الجيد النافع وإنما كان من الكمال في العمل، ومن
الأمانة في العلم أن يأخذ المعاني ويستقل بالعبارة حتى إذا احتاج أخذ شيء بنصه
عزاه إلى صاحبه. ولكن لو كانت العبارة كلها له لكان الكتاب أقل فائدة؛ إذ لم
يصل إلى درجة عبد القاهر في التحرير والتحبير. ولعل الذي سهَّل عليه ترك
العزو هو اعتقاده بأن أكثر المؤلفين المتأخرين ليس لهم إلا جمع الأقوال وتنسيقها فإذا
كان منهم من جمع المشاغبات الضارة فهو قد جمع الفرائد النافعة. والكتاب
مطبوع طبعًا جميلاً، وقد جعل ثمنه أربعة قروش صحيحة، وهي قليلة جدًّا بالإضافة
إلى ما أنفق عليه بصرف النظر عما يستفاد منه.
_________
(1)
يقال (كساء الثوب يكسوه) واوي، يقال كسي زيد كرضي فهو كاسٍ ولم ينقل (كسيه) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار
وترك الأستاذ الإمام للأزهر
كتب إلينا الكتاب الآتي أحد أعلام الأمة الإسلامية وأركان نهضتها العصرية.
ناظم مدرسة العلوم (الكلية) ومدير جريدتها (على كده انستيوت) الشهيرة
وصاحب المصنفات الكثيرة محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان. فنشرناه
ووصلناه برأينا فيه. قال حفظه الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
غب إهداء سلام ألذ من تغاريد الحمام، وأصفى من قطر الغمام، وأحلى من
صفو المدام، وأشهى من أنفاس الرياض؛ إذ هطل عليها الغمام، وأعبق من روايح
المسك الختام، وأبرق من البدر التمام، وأشرق من الشمس إذ ينقشع عنها الظلام،
أخص به حضرة المولى العلامة النحرير، والعلامة القرم الكبير، مولانا الشيخ
رشيد رضا لم تزل الأقدار تعضده في كل حال. وتصعده للظفر بالأماني والآمال،
ما لمع آل وتكررت الغدو والآصال.
(وبعد) فقد عرفت يا سيدي ما قد أصاب المسلمين من الشرور والفتن،
والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بوداع، وأن النفاق قد أقبل وأشرف
باطلاع، وأن الدين قد استتر وتنكر بوجهه، وتولى بركنه، ونأى بجانبه،
وتطرقت البدع المحدثة، وتسربت الأحداث المستحدثة، ورفعت الأمانة من
المسلمين، وكنست الديانة عن المؤمنين، وبدت الخيانة في حزب سيد المرسلين.
قد أعتم بنا عاتم الفتن وجللتنا حنادس المحن، وغشيتنا غياهب الإحن
وتسربلنا بسرابيل العدم والإملاق، وتقمصنا بقمص الجهل والنفاق، وطحنتنا
الجهالة بكلكلة البلى، وعركنا الجهل فسوانا بتخوم الثرى، لا ننكر من الشر نكرًا،
ولا نعرف من الخير أمرًا، سُلب منا الإخاء، وبدت فينا العداوة والبغضاء،
وسرت فينا الجهالة العمياء، فضربت بذلك علينا المتربة، وحاقت بنا المسغبة،
وجللتنا المعطبة، لا نكترث بما صارت إليه حالنا، ولا نحفل بما تحولت إليه
أحوالنا. ولا نبالي بما خابت منه آمالنا، قوضت عنا خيام المجد والاعتلاء،
وأسرجت لنا رواحل الذل والبلاء؛ وتحولنا عباديد بعد الألفة، وتباديد بعد
اجتماع الكلمة، وتركزت فينا أصول الفرقة، وتشتت اللم وتفرق، وتمزقنا كل
ممزق، يزري بنا العيون، ويزدرينا ريب المنون؛ رحل الإسلام عن عقر
داره، وتربع النفاق في محله وقراره، ومن ثم ترى الاجتماع قد تهدمت
مبانيه، وتبصر الائتلاف قد خوت مرابعه ومغانيه، وتدكدكت من الاتفاق
القنان، وانهدمت منه المصدان [1] وتصرمت أيامه ولياليه، واستبدلت بالانخفاض
معالمه وعواليه، وبالذل والصغار قصوره ومعاليه، خمدت منه كل نار، وانفل
منه كل غرار وعفت منه كل دار، وطمست منه الآثار، وعطل كل فلكه عن المدار،
وكورت شمس علائه، وخسف منه بدر سمائه، وأرجفت منها أرضه العريضة،
واغبرت صفحتها فأضحت مريضة ولم يبق من الإسلام إلا رسم خلق في المقام،
ضمنه كما ضمن الوحي السلام [2] .
يسومنا الأقوام خسفًا من كل جانب، ويستصغرنا الرجال عسفًا على ظهر كل
لاحب، لم يستبق الدهر لنا قوة ولا دولة، ولم يرض لنا إمرة ولا صولة.
وقد كان يعجبني منكم بين تلك الأحوال المزعجة، ويروقني من جنابكم في تلك
الحالات الموجعة المفجعة، ما حباكم الله سبحانه بفضله، واصطفاكم ببره، لاستفراغ
الوسع في إصلاح المسلمين، والاجتهاد البالغ التام في حضهم على النهضة لأمور
الدنيا والدين، وذلك بما كنتم تنشرون من إمضاءات بليغة، وتنشئون من رسالات
بديعة أنيقة، ومكاتبات بهية شهية رشيقة تحضون بها المسلمين على النهضة،
وتحثونهم على الأوبة، إلى ما كانوا عليه من سالف المجد والاعتلاء، وماضي الكرم
والعلياء، وسابق السبق في مضمار العز والعلا، والاقتحام في مفاوز الكرب والبلاء، والاهتمام في استجلاب المجد من كبد السماء، فيا لها ما قد تضمنت
جريدتكم الباهرة الغراء، من عبارات مهذبة، واستعارات مستعذبة، وأساليب
موشحة، وأساجيع مستملحة، فقد وشيتم إذا أنشأتم، وحبرتم حينما عبرتم، وأعجزتم
حينما أوجزتم، وأذهبتم متى أسهبتم، وخرعتم متى اخترعتم، وأنتم بعون الله
قارع هذه الصفاة، وقريع تلك الصفات، وقرن ذاك المجال، وقرين هذا النضال،
وما برحنا ننقل تلك الإمضاءات الأنيقة من مجلتكم الرشيقة، إلى اللغة الهندوستانية،
من العربية العقيانية، وننشرها في مجلتنا الشهيرة (بعلى كده انستيوت) يستفيد
منها إخواننا الجاهلون، ويستضيء بها المستضيئون ويستعين بها من أضر به ريب
المنون، لدفع كل ملمة ملكية، وكشف كل مهمة سياسية.
وقد كان قبل ذلك بمدة تنيف على ثلاثين سنين، قد نشأ في تلك الآفاق
والأرضيين، رجل من أفاخم الأعيان، اسمه السيد أحمد خان، كان رجلاً همته في
إصلاح المسلمين، والغور التام في دفع الصغار والنكبة عن إخوانه في الدين،
وكان رجلاً متنطعًا مِنْطِيقًا ذا لسان، ومنطق وبيان، يعد في مصاقع الخطباء،
وينخرط في سلك بهاليل الأدباء، يبهر الناس بأساليب خطابه، ويستجلب الخلق
ببديع هضابه، ونادر سحه وتسكابه، فبادره العلماء الأعلام، بالسب والشتام،
ورشقوه بنبال العذل والملام ولعنوه على المنابر في جوامع الإسلام على مر الدهور
وكر الأعوام، وأعلنوا بكفره، وأذنوا بالخروج عن ملته، وأفتوا بإباحة دمه، وهو
بعدُ كان لا يكترث بما كان يقع عليه، وما يبالي بما كانوا ينضون له من سيوف
العداوة معه، وكان لا يفتر عن جده واجتهاده والضرب بعصا التسيار في ميادين
بلاده، ولما صبر على كل ذاك الأذى، وتجلد كالبطل الكميّ في ميادين الوغى، لم
يبرح من وطنه، أن تمثل له الظفر وخذا بين يديه وسار من مكامن عطنه.
ولكن قد قل منكم نشر تلك الإمضاءات البديعة في إصلاح المسلمين
واجتهادكم في تحسين أمورهم من الدنيا والدين، منذ حين، وأراكم قد اقتصرتم على
اقتباس جزء يسير من تفسير العَلَم العيلم الرزين، حكيم الإسلام والمسلمين، وفخار
الملة والدين، وسناد العلماء السادة الأساطين، حضرة مولانا الفاضل العلامة الشيخ
محمد بن عبده مفتي الديار المصرية متعنا الله ببقائه ولعمري هو اليوم فارس رجالنا،
ورأس أمانينا وآمالنا، نأمل به الفوز في السعادة القصوى، ونرجو منه الظفر بما
هو غاية إربنا في الحياة الدنيا، من حصول النهضة الأخرى غب النهضة الأولى،
ولا نجد لذلك مثله في جديد تلك الخلقاء الهابطة السفلى [3] .
* * *
وقد أدهشنا خبر هائل وصل إلينا من الجامع الأزهر وأوحشنا وأقلق جل
أصحابنا والأمة وأراق الدماء من الجفون والمقل، وكادت القلوب لها أن تتهبل [4]
وقد انصدعت له الصدور، وتصدعت لها المهج في شلو كل مصدور، وذلك ما
شاع عن هذا الفيلسوف السرسور [5] ، والحلاحل الوقور، والنبراس في ظلمات
الديجور، من رفض ما كان إليه من نظارة الجامع المذكور، أسفًا على ما تجرب
من جفاء أهل عصره، لا سيما علماء مصره، ومساعدة الحضرة الخديوية للعلماء،
وقضائها بخلاف ما كان يرجى من تلك الحضرة الغراء، لما كان أيده الله تعالى يريد
من إشاعة العلوم الحديثة، وإذاعة المعارف والحكم الجديدة، زيادة على ما كان
يجري فيه من دروس العلوم الشرعية، والمسائل الفرعية، ولما لم يصغ أحد إلى
رأيه ومقالته، ولم يكترث رجل إلى ما كان فيه من محض نصاحته، تمثل لنا عند
ذاك اليأس، وتجسد لنا شبح القنوط والإبلاس [6] ، لخمود هذا النبراس، فقد كنا
نظن قبل ذلك أن سوف يحفل به عنا ليل المحن، ويقلع عنا دامس الفتن، وتقوض
عنا خيام البلاء، وتعطف عنا سهام الضراء، ويتنفس علينا صبح الإقبال، ويطلع
على وجهنا فجر الآمال، من أجل ذاك البارع الحكيم المفضال، وكنا نظن أنه قد
توقد في الإسلام مصباح يستوقد منه آلاف ألوف من المصابيح، ومفتاح ينفتح به
مغالق أبواب الفرج والتراويح، ولكن قد تبين الآن أنَّا لم نبرح عرضة للبلاء،
ودرية لرماح الضراء، وجزرًا لسيوف البأساء، مازالت هذه الخضراء تدور على
الغبراء، وما أشبه حال هذا الحكيم الرزين في المصريين، بحال السيد أحمد الذي
أعثرناك على حاله في الهنديين، فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، فإنا لله وإ نا
إليه راجعون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبون} (الشعراء: 227) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... علي كده
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (الهند)(محسن الملك)
***
جواب المنار
يريد السيد المحسن حفظه الله بالإمضاءات التي كانت تنشر في المنار، ثم
تركت - تلك المقالات الخطابية التي تمثل للمسلمين ضعفهم الحاضر وتذكرهم
بمجدهم الغابر، وتحثهم على إصلاح شأنهم في الدنيا والدين، والاعتبار بترقي
المعاصرين، وهذا ما كنا نكثر منه في أول نشأة المنار؛ ليكون تمهيدًا يعد النفوس
لقبول ما نعرضه من الرأي في الإصلاح الديني والاجتماعي ولإعمال الفكرة وتوجيه
الهمة إلى السعي والعمل لخدمة الأمة، ولكننا رأينا الناس قد استحسنوه، وكثيرًا
من أصحاب الصحف قد احتذوه وتقلدوه، حتى صار كأنه مقصود لذاته، لا لأجل
عمل من ورائه، ولذلك صرت ترى في الصحف المصرية التي تسمى إسلامية
كلامًا كثيرًا في حال المسلمين حتى من الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا ما يعرف
أجهل السوقة والعوام، وإن ما عنينا به في المدة الأخيرة يشبه أن يكون مقصدًا أو
غرضًا لتلك المقدمات أو الممهدات. ولا يحسبن الأخ الكريم أننا تركناها يأسًا من
صلاح حال المسلمين. أو فرقًا من مناصبة المشاغبين، التي لا بد أن يكون عرفها
من تصدي جريدة المؤيد للوقوع بنا، بعد ما كانت تشيد وتنوِّه بعملنا، كلا إن هذا لا
يزيدنا إلا قوة في الأمل، وهمة في العمل؛ لأن اللوم بطبعه إغراء، والمقاومة من
بواعث الاعتناء، كما رأيتم في فاتحة المنار لهذه السنة. على أن ما ننشره من
الحكم والمواعظ في التفسير، وما نودعه في مطاوي سائر المباحث من التنبيه
والتذكير، هو في معنى تلك المقالات التي تنشدون ولا تخلو من الخطابيات التي
تخطبون، وقد طالبنا غير واحد صريحًا، بمثل ما أمر السيد به تلويحًا، ولذلك
وعدنا في خاتمة السنة السابعة بالعود إلى تلك المقالات في سنتنا الحاضرة، وقد
نشرنا في الجزء الثاني منها مقالة (حياة الأمم وموتها) مقدمة للكتابة في أنواع
الحياة وحالنا فيها، وسيتلو الكتابة في الحياة الزوجية مقالات في الحياة الملية
والوطنية والسياسية. ونرجو من فضل الله وكرمه أن لا نزداد إلا ثباتًا واعتناء
ما دمنا آمنين في سربنا معافين في بدننا قادرين على النفقة على نفسنا وصحيفتنا.
وأما ترك الأستاذ الإمام للأزهر فهو لم يكن من يأس ألمَّ بنفسه الكبيرة، ولا
عن ضعف في همته العلية، ولا لمقاومة علماء الأزهر لما يريده من إصلاح التعليم
أو إضافة علوم جديدة على ما يقرأ في الأزهر من العلوم، وإنما هو ما تنسمتموه
من الجرائد المصرية، ونزيدكم فيه بيانًا بمكاتبة شخصية، وقد ظلم العقلاء عندنا
وعندكم علماء الأزهر فأنزلوهم من درجتهم في العلم والفهم، كما أعطوهم أكثر من
سهمهم من الشعور والأخلاق.
أما ظلمهم إياهم فهو اعتقادهم وقولهم فيهم أنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية
تقوض بناء الدين، وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم
خروج عن صراط السلف المستقيم، وكل هذه الظنون فيهم باطلة؛ فإن من أصحاب
الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية
وغيرها فكيف لا يخافون الكفر والضلال على أفلاذ أكبادهم مع عدم تمكنهم من
العلوم الدينية ويخافون ذلك على طلاب الأزهر المتوغلين في علوم الدين؟ إن هذا
شيء لا يعقل. ثم كيف يطعنون بأكابر علماء الإسلام الأعلام الذين تمكنوا من علوم
الدنيا وصاروا يعدون من الفلاسفة كالإمام الغزالي والإمام الرازي وفلان وفلان؟ ثم
كيف لا يطعنون بدين أكابر أمرائهم وحكامهم في هذا العصر وهم قد تعلموا هذه
العلوم في مدارس مصر وأوربا، وقلما يوجد فيهم من تلقى عقيدة الإسلام ببراهينها أو
عرف مهمات أحكامها ولو غفلاً من دلائلها وحكمها وإن منهم من يصف بعض
هؤلاء الأمراء بالتقوى والصلاح. فظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال فيهم إنهم
يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه وإنهم يجهلون أن الإسلام
جمع بين مصالح الدارين، وأنه دين عام وأن لا دين بعده أوفق لمصلحة جميع
البشر منه مع استلزام هذا لكون الإسلام يتفق مع علوم البشر ومدنيتهم في كل زمان
وإلا كان متضمناً لتكليفهم ما لا يطيقون. نعم إنه يوجد فيهم بعض الأغبياء الذين
يعبث بهم هذا الوهم ولكن الحكم على جميعهم أو أكثرهم بذلك ظلم وجور. وإنني
أقول: إن الأستاذ الإمام لم يقرر في إصلاح الأزهر شيئًا إلا برأي جماعة من كبرائهم
واستحسانهم، وقد نفذ بعض ما طلبه وحاوله برضاهم وموافقتهم وأوقف بعض
الإصلاح للأسباب التي لا أصرح بشرحها بعد رضاهم به واعترافهم بفائدته.
وأما وصفهم بأكثر مما يستحقون من الشعور بالمصلحة وإرادة الخير فهو تابع
لذلك الظلم وهو اعتقاد كثير من العقلاء في مصر وفي أقطار أخرى أن هؤلاء
الناس أعداء الإصلاح الذي عرف سراة الأمة وعقلاؤها شدة الحاجة إليه لما في
قلوبهم من الشعور بضرره، ولما عندهم من الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والغيرة
الملتهبة على الإسلام والمسلمين، وأنهم لا يخافون في ذلك لومة لائم، ولا سطوة
حاكم، ولا حرمانًا من منفعة مالية، أو كسوة تشريف قصيبة، والحق أن هذا
الصنف الشريف الذي كان له من قوة العزيمة بالاتحاد والاتفاق ما يقيم به محمدًا
عليًّا حاكمًا على البلاد المصرية قد استُضعف فضَعُف حتى صار لا يجهر برأيه إلا
إذا أيقن أن قويًّا يمده أو حاكمًا يسنده، وكثيرًا ما يستحسن أمرًا ثم يستهجنه، أو
يستقبح شيئًا ثم يستحسنه، ولقد كان أكابر علماء الأزهر موافقين للشيخ محمد عبده
في كل شيء يقترحه لإصلاح الأزهر أيام كان مؤيدًا بنفوذ الأمير، وإنما كانوا
يرغبون إليه في أن يكون ذلك بالتدريج البطيء؛ لأنهم لم يتعودوه ويثقل على المرء
لا سيما الكبير المضي فيما لم يتعود. ولما بدا للأمير في تأييده ومساعدته وقف كل
اقتراح، وعورض كل إصلاح، حتى لم يبق للحكومة الخديوية ثقة بتخريج القضاة
في ذلك المكان فهي ستبني مدرسة جديدة لتخريجهم فيها ولم يبق لها من العناية
بالأزهر إلا حفظ الأمن فيه كما هو حق كل صنف وكل شيء على الحكومة.
لأجل هذا ترك الأزهر، ولكن آثاره الصالحة لن تتركه فهو قد وضع أساس
النظام الذي قد يضعف تارة ويقوى تارة، وقد يزاد فيه وينقص منه ولكنه لا يزول
وهو قد نفخ في نفوس كثير من الأذكياء فيه روح الشعور بالحاجة إلى إصلاح
التعليم وإصلاح الأخلاق وخدمة الإسلام والمسلمين والسعي في إزالة ما غشيهم من
البدع والفتن فأضعفهم وأذلهم فلن يموت هذا الشعور. ثم إنه لم يزدد إلا رجاء بالله
وهمة في خدمة ملته بالعمل والتدريس والتأليف لا يثنيه عن ذلك ثانٍ إلا ما يلم به
من المرض أحيانًا، شفاه الله ونفع به آمين.
هذا وإن العبرة الكبرى فيما كتب هذا السري الكبير هو إحساس المسلمين
المخلصين الذين يعرفون الإسلام ويغارون عليه بأن الإصلاح إذا ظهر في أي قطر
ففائدته لابد أن تكون عامة لكل البلاد الإسلامية، وأن النور إذا ظهر في هذه الأمة
من أي مطلع؛ فإنه ينبسط على جميع البقاع؛ لأن هذه الأمة أمة واحدة ربها واحد
وكتابها واحد ونبيها واحد، والهداة في دينه على ملة واحدة، وهي ما جاء به نبيه عنه
ومصلحتها لذلك واحدة، فما يضرها يضر جميع المتبعين لها وما ينفعها ينفعهم
أجمعين. لأجل هذا أحس الأحياء من مسلمي الهند بأن ما دهي به الإصلاح في
الأزهر هو مصيبة على الإسلام والمسلمين في جميع الأرض؛ لأنه كان يرجى أن
يكون خيره متى ثبت ونحج عامًّا لجميع مسلمي الأرض ولو بعد حين. فماذا يقول
أولئك الذين يريدون أن يقطعوا أوصال المسلمين بنزغات (الوطنية) الفاسدة في
هذا الإحساس الشريف من إخواننا في الهند وكذا في غيرها كما نشير إليه في النبذة
الآتية.
تأثير ترك الأستاذ الإمام للأزهر في المسلمين
لقد اضطربت قلوب عقلاء المسلمين ووجمت نفوسهم لهذا النبأ في كل قطر،
فقد جاءتنا الكتب والرسائل في ذلك من السودان وسوريا ومن بلاد المغرب والمشرق
ما بين شاكية وباكية منها ما يعرف مرسلوها عذر الإمام، ويرون أن لا عَتْب عليه
ولا ملام لوقوفهم على حقيقة أحوال هذه البلاد فرأيهم في ذلك كرأي أكثر العقلاء
في مصر الذين استشار الإمام بعضهم فأشاروا بوجوب تركه، ومنها ما يتضمن اللوم
لاعتقاد أصحابها أن الأستاذ الإمام قد يئس من إصلاح المسلمين؛ فترك خدمة الملة
مللاً من مقاومة الجامدين أو علمًا بأنهم غير مستعدين، وقد آلمهم ذلك لأنهم يعتقدون
أنه أكبر زعيم للإسلام في هذا العصر وأقوى نصير له في علمائه، ويشعرون بأنهم
يستمدون منه الهمة والغيرة والرأي الصحيح على بُعد الديار وتنائي الأقطار ولا أنكر
أنني أعرف من أذكياء المسلمين الأقربين دارًا، بل ومن المصريين أنفسهم من
سرى إليه شيء من هذا الوهم. وقد آلمني وسيؤلم كل ذي غيرة وشعور قول
(محسن الملك) إن اليأس والقنوط قد تمثل لأهل النهضة الإسلامية في الهند وشعروا
بأن قد طفئ نور الصلاح المنبعث من هذا الإمام فوقعوا في حنادس الظلام يحزننا
ويمضُّنا هذا القول من قوم نعتقد أن نهضتهم أعلى من نهضتنا، وهمتهم أعلى من
همتنا، والأمل فيهم أقوى من الأمل فينا، ولا نفضلهم إلا بهذا الرجل وبإتقان اللغة
العربية؛ لأننا نراهم يرجوننا أكثر مما يرجون أنفسهم كما أنه يسرنا شعورهم
بارتباطهم بنا ولا يأس منا ولا منهم إن شاء الله.
إن من أغرب ما كتب إلينا في هذه الحادثة نبذة لأحد الفضلاء في فاس
وهي: (قد ساءنا وايم الله ما بلغنا من استقالة حضرة جناب الأستاذ الإمام، وعالم
علماء الإسلام، فريد هذا العصر وغرة جبين الدهر، ذروة جهابذة الآفاق،
ونخبة كبراء المصلحين بالاتفاق، مولانا وسيدنا الشيخ محمد عبده أدام الله بقاءه
مرشدًا للعالمين من عضوية إدارة مجلس الأزهر الشريف الذي كان متَّعنا الله
بوجوده مجتهدًا في إصلاحه، كما سائتنا تلك الخطبة..... ولكن {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69) وقد كدَّر ورود هذا الخبر جميع محبيكم ومحبي الأستاذ
الإمام، لعلمنا بأنكم من المجدين في إصلاح الأمة الإسلامية)
…
إلخ.
وإنما كان هذا غريبًا؛ لأن تلك البلاد أبعد بلاد المسلمين عن التفكير في
الإصلاح أو الشعور بالحاجة إليه، ولكن هذه الأفكار قد سرت في كثير من أهلها من
بعض المهاجرين إليهم من المسلمين ومن قراءة بعض الصحف كالمنار. وقد ختم
هذا الكاتب كلامه بقوله (وأدام الله بقاءكم رغمًا عن أنف الجاهلين والمستبدين
والمفسدين والمقلدين) اهـ. ويوشك أن ننشر آراء أخرى في جزء آخر.
_________
(1)
المنار: القنان بالكسر جمع قنة بالضم وهي الجبل الصغير والأكمة والمصدان بالضم جمع مصاد بالفتح وهو أعلى الجبل والهضبة العالية الحمراء.
(2)
المنار: قوله (رسم خلق) بالتحريك أي بال وقوله ضمنه إلخ السلام بالكسر فيه بمعنى الحجارة ومن أمثالهم (أكتم للسر من السلام) ومنها (وحي في حجر) يضرب لمن يكتم سره والمراد أن الرسم البالي الذي بقي من الإسلام هو سر مكتوم خفي غير ظاهر وقد يضرب المثل للشيء الظاهر؛ لأن من معاني الوحي الكتابة والكتابة في الحجر تكون نقشًا ظاهرًا وليس بمراد هنا.
(3)
المنار: الخلقاء مؤنث الأخلاق ومن معناه الأملس وتسمى السماء خلقاء وخلقاء الجبهة مستواها يريد في مستوى هذه الأرض.
(4)
يقال تهبل لعياله واهتبل إذا اكتسب ولعل الكلمة في الأصل تهتبل من هبل ولده واهتبله إذا ثكله.
(5)
السرسور بالضم الفطن العالم الدخال في الأمور والحلاحل السيد في عشيرته الشجاع الركين في مجلسه.
(6)
الإبلاس هو الغم من اليأس والحيرة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
صدى الحادثة في أوربا
أو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمام
في الإصلاح
نشرت جريدة اللواء في عدد يوم الخميس (13 ربيع الأول) خبرًا، قالت:
إنه مترجم عن جريدة (الغلوب) الإنكليزية بغير تصرف وهذا نصه بغير تصرف.
(اختلف العلماء من عهد قريب بشأن التعليم في الأزهر وسبب ذلك أن
رئيسهم الشيخ محمد عبده حاول إدخال نظام للتعليم أوسع من النظام الحاضر الذي
وضع من قرون مضت والذي لا يتضمن غير محض تعليم مواد الأجرومية، وقليل
من بعض العلوم الأخرى بقصد تكوين قوة جديدة في الإسلام، ويريد الشيخ محمد
عبده السالف الذكر إدخال العلوم الحديثة في بروغرامه الجديد؛ ليستعين بها العلماء
على اكتساب أرزاقهم من طرق العمل والجد لا الكسل والتواكل.
وقد قاومه العلماء في مشروعه هذا مقاومة شديدة واتصل بنا أنه قال في
حديث له: إن السبب في عدم نجاحه وفشله النهائي راجع إلى محاربة النفوذين
الفرنساوي والإنكليزي السياسيين له، واستشهد بعبارة نشرت في الكتب السياسية
الفرنساوية مؤداها أن سواس فرنسا من الحزب الاستعماري لا يقبلون بوجه من
الوجوه تَنَوُّر المغاربة بنور العلم) اهـ.
ملاحظة المنار
أو انتقاده على ذلك
يعجب المصريون أن يروا في الجرائد الإنكليزية من يخبط في المسائل
المصرية على غير هدى مع وقوف الإنكليز هنا على حقائق الأمور، وذكرنا وذكر
غيرنا ممن قرأ تلك النبذة في جريدة اللواء ما كان أشيع هنا بعد ترك الشيخ محمد
عبده لمجلس إدارة الأزهر من أن بعض المصريين الذين لهم حظ فيما حدث
في الأزهر كلفوا أحد مكاتبي الجرائد الإنكليزية أن يكتب لجريدته التي يكاتبها
شيئًا يفيد معنى ما كتب في بعض الجرائد المصرية التي لها هوى في الحادثة من أن جميع علماء الأزهر مضادون للشيخ محمد عبده فيما يريد من إصلاح التعليم
وزيادة العلوم في الأزهر، ويتضمن شيئا آخر يفيد سخط الإنكليز على الشيخ،
وأتذكر أن بعض الجرائد الأسبوعية في مصر كتبت شيئًا عن هذه الإشاعة وقالت:
إن ذلك سيكتب ثم ينقل في بعض الجرائد المصرية اليومية.
ما لنا ولما أشيع في سبب الكتابة ولما قيل في مصدرها إنما نحن أمام قول
يتضمن خبرين: أحدهما: أن علماء الأزهر كارهون ومقاومون لما يريد الشيخ
محمد عبده من النظام وتوسيع دائرة العلم في الأزهر، وقد بينا في كلامنا على رسالة
(محسن الملك) أن هذا غير صحيح، وأن علماء الأزهر برآء مما يُرمون به من
الغلو في بغض العلم والنظام، والجهل بما يُعلي شأن الإسلام. وثانيهما: أن الشيخ
يقول: إنه لم يخفق فيما حاول من إصلاح الأزهر إلا بمقاومة النفوذين الفرنسي
والإنكليزي له؛ لأن ترقية المسلمين تناقض مصلحتهما في استعمار بلادهم.
ونقول: إن هذا النقل عن الشيخ غير صحيح وإن كان أكثر المسلمين يعتقد بصحة
علته المذكورة.
ولا يعقل أن يقول الشيخ ذلك؛ لأن فرنسا لا نفوذ لها في الأزهر ولا في
مصر فتقاوم، ولأن الإنكليز لم يقاوموه لما هم عليه من الحرية وعدم التعرض
للمصالح الدينية على أن المصريين الذين لم يقدروا حرية الإنكليز حق قدرها. ولم
يعلموا أنها تمثلت مع الفضيلة في اللورد كرومر في أبهج صورها، يتعجبون من
عدم مقاومة الإنكليز لإصلاح الأزهر في السنين الماضية ويظنون أن لهم يدًا في
المقاومة الآن.
أما الشيخ محمد عبده فقد سمعناه غير مرة يقول: إنه ما قصد إلى خدمة
المسلمين في شيء ولقي مقاومة فيه من غيرهم لا من إنكليزي، ولا من إفرنسي،
ولا من قبطي، ولا من شامي. ولا غرو فإن جهل المسلمين وتخاذلهم في هذا العصر
كافيان لإحباط كل سعي لترقية شأنهم لا يحتاجون إلى مساعد في ذلك، ومن يسعى
بعقل لا يقاومه العقلاء.
هذه فرنسا التي كان منهجها في مقاومة تعلم المسلمين في الجزائر أمرًا
معروفًا قد أنشأت ترجع إلى منهج الإنكليز في التساهل، وقد تكلم الشيخ محمد عبده
مع رجالها في تونس والجزائر في مساعدة المسلمين على التعليم فوجد منهم ارتياحًا
إلى ذلك وقد نشرت جريدة (الطان) من عهد قريب مقالة في الاحتفال بمدرسة
الجمعية الخلدونية ذكرت فيها أن مصدر هذه الحركة العلمية في تونس هو الشيخ
محمد عبده وبعض المجلات العلمية المصرية التي تحث المسلمين على الجمع بين
علوم الدنيا والدين، وترد فيها رأي الذي يظنون أن تعليم المسلمين يضر بفرنسا؛
لأن هؤلاء المتعلمين يكونون دعاة لاستقلال البلاد وقيامهم على المستعمرين لها
وترجمت الأهرام مقالة (الطان) فسُرّ بها المسلمون هنا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد علي
والإيماء لانفصال مصر عن تركيا
احتفل جماعة من المصريين بتذكار تولية محمد علي باشا على مصر منذ مائة
سنة ميلادية. وقد اعتبروا ابتداء ولايته اختيار المصريين له دون فرمان السلطان
بتوليته الذي كان بعد مثل يوم الاحتفال بشهر وأيام كأنهم يريدون أن هذه الحكومات
استقلت بذاتها من طريق الانتخاب لا بالتبعية للدولة ذات السيادة عليها، وكنا نعهد
بأمثال هؤلاء المحتفلين الحرص على إظهار ربط مصر بالأستانة فما عدا مما
بدا؟
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل
(س20) السيد محمد بن عقيل في سنغافورة: اطلعت على جميع ما كتبتم
في ذبائح أهل الكتاب ثم وصل إليَّ من أحد أهل مصر كتاب يسمى التعاديل
الإسلامية في الرد على شيخ الإسلام (يعني الأستاذ الإمام) وكنت قد رأيت منذ نحو
14 عامًا فتوى لشيخنا العلامة السيد سالم بن أحمد العطاس العلوي الحضرمي مفتي
جهور تضارع فتوى شيخ الإسلام، ولكن يختلج في صدري شيء لم يذكره شيخ
الإسلام، ولا غيره فيما أعلم، وهو هل لأهل الإسلام نقل صحيح في التاريخ يفيدنا
بكيفية ذبح أهل الكتاب، أو قتلهم لما يريدون أكله في عصر المصطفى - صلى الله
عليه وعلى آله -؟ فإن وجد فهل يجب قصر حكم الحِلّ على ما كان؛ لأنه المفهوم
ويكون ما توسعوا به بعد ذلك من بدعهم فلا يفيد الحِلّ؟ فلو صح النقل بأنهم كانوا
يعصرون عنق نحو الدجاج ويوقذون نحو البقر لم يبق للمشاغب كلام، والمظنون
أن لأهل الكتاب كيفيات في الذبح في ذلك العصر كما نقل أن لهم في التسمية عند
الذبح عادات، وما صح به النقل لا نزاع فيه؛ فهل ظفرتم بنقل عن شيء من تلك
الكيفيات التي أحل الله لنا طعامهم وهو يعلمها ينجلي به غبار كل إشكال، أفيدونا بما
تعلمون لا زلتم مرشدين.
(ج) بيّنا فيما كتبناه في المجلد السادس في مسألة طعام أهل الكتاب أن
المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق
بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من
عبادات الوثنيين وشعائر المشركين فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه،
ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين
دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة
المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد كما أباح لنا التزوج منهم مع
علمه بما هم عليه من نزغات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُون} (يونس: 18) على أنه حرم علينا التزوج من المشركات
بالنص الصريح ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح بل حرم ما
أُهلّ به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام
قطعي في المشركين وهو لم يمنع من التزوج بالكتابية، ولأجل كون حِل طعام
أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة
صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته
تؤكل مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة فإن ذبيحته لا
تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وما نقلناه في المنار عنه
وعن غيره كاف في هذا الباب، وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا
وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه سبحانه من مجاملتهم
ومحاسنتهم فهذه هي الحكمة في حِل طعامهم لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو
يطبخون بكيفية مخصوصة. ولو كان يجوز لنا أن نقيد نصوص الكتاب المطلقة
بمثل هذا التقييد لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه
مقيد بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر فنتقيد بما كان عليه
أهل العصر الأول في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم
على ذلك وهذا حرج عظيم وتحكُّم لم يقلْ به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم
المطلق أن يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وَجْه للبحث عن عدد الذين
أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صليا
فيه عند التشريع والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة.
ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم
تكن في حِل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك وقد سموا الذبيحة موقوذة وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال
قولاً مخالفًا للشرع لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل ولا يميزون بين الحق
والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه وهذه هي لذة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك لم يورد الذين
كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيَّد بالكتاب والسنة وفقه الشريعة وأسرارها
والمأثورعن سلفها لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم واشتغالهم
بالسفاسف وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم ساع في إقالتهم عثرتهم أو إنجائهم من هلكتهم حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم حده، وخذ بما صفا ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له، والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عذاب القبر
(س21) الشيخ منصور نصار من مجاوري الأزهر: قد سألني بعض
الناس ببلدتنا عما يحصل للميت في قبره من النعيم أو العذاب هل المنعَّم أو المعذَّب
هو الروح فقط أم الروح مع الجسم، فأجبته بما أعلم من نص أثر ابن عمر
والغزالي الموصوف بحجة الإسلام من أن المعذب هو الروح فقط. وقد وقع
اضطراب بيني وبين أهل بلدتي في هذه المسألة، فأرجو من حضرتكم توضيح
الحقيقة على صفحات مناركم الأغر حيث إن الله تعالى نصبكم لخدمة الدين والدفاع
عن شبهات الضالين لا زلتم هادين مهديين.
(ج) قد سبق لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال في المجلد الخامس وبينا أصل
الخلاف في عذاب القبر وأن مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب
والسنة من أحوال الآخرة؛ لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه
ولا تحكم على الغيب؛ إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة، ولو أنكم دعوتم
أهل البلد إلى هذا التسليم لأقفلتم باب الجدل في وجوههم، ولا أقبح من الجدل في
أمر الآخرة الذي لا مجال للعقل ولا للحس فيه، والذين فتحوا هذا الباب هم الذين
فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقامت المعتزلة تقول: إن من الناس من تأكلهم السباع
والحيتان في البحر وتصير أجسامهم أجزاء من أجسام هذه الحيوانات، ومنهم من
يحرق ويذرى رماده، فكيف تقولون يا معشر الأشاعرة: إن في القبر عذابًا على
الروح والجسد؟ والصواب أنه لا عذاب إلا عذاب الآخرة بعد البعث. وقامت
طائفة أخرى تقول: إن الجسم لا إحساس فيه؛ فالحديث الوارد في عذاب القبر يراد
به تعذيب الروح مجردة. ويقول آخرون: الروح لم تعمل السيئات إلا بواسطة
الجسد؛ فلا بد أن يكون العذاب مشتركًا ويصدق ذلك بأن تتصل الروح بجزء أو
أجزاء من البدن ولو كان رميمًا أو داخلاً في بنية حيوان، ويقع العذاب عليهما معا
وهو قول أكثر المسلمين. ثم إن الاشاعرة يقولون: بأن الإعادة في الآخرة تكون
عن عدم بأن ينعدم الجسم من الوجود، ثم يخلقه الله تعالى بذاته ومع أعراضه في
قول، وهذا القول لا يتفق مع القول بأن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، إلا
أن يقال: إنهم استثنوا عَجْب الذَّنَب؛ فقالوا: إنه لا يفنى، فلعلهم يقولون: إن عذاب
القبر يكون على الروح مع اتصالها بعجب الذنب، ولكن قال المزني من
الشافعية: إن عجب الذنب يفنى أيضًا.
فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا
يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول
العقائد التي يكفر منكرها، ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به
وهو أن نقول: إن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر البرزخ
والآخرة حق نؤمن به ونفوِّض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن
الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم، وأن الأجساد لباس وآلات لتوصيل بعض
اللذات والآلام، وأي قول قلت فيه هذه المسألة لا يخرجك من الدين، فعلام التنازع
بين المسلمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحكمة في إنزال القرآن
(س22) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : ما هي الحكمة في
إنزال القرآن الحكيم؟ هل الحكمة بذلك التعبد بتلاوته كما يقول العلماء؟ وهل من
نص قطعي يؤيد قولهم؟ أو لنجعله حانوتًا نبيع منه (عدية يس) ونقرأه على
الموتى ونكتب آياته في آنية ونمحوها بالماء ونتعاطاها لنشفى من داء كذا أو لنقرأه
للتبرك وما هو التبرك؟ ألم يكن هو فهم آياته حق الفهم، والتأدب بآدابه
الكريمة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه {ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) كما
قال جل ثناؤه. أرجو الجواب على صفحات مناركم، ولكم الأجر من ربي وربكم.
(ج) الحكمة من إنزال القرآن مبينة في القرآن ليس فيها شبهة لمن جعلوه
حرفة، بل فيه الحجة واللعنة على من يشترون به ثمنًا قليلاً. وليس فيها نص
قطعي يؤيد قولهم بالتعبد بتلاوته على إطلاقهم الذي يتناقلونه، ولكنهم يستدلون عليه
بأحاديث هم يتفقون على أنها ليست نصوصًا قطعية كالأحاديث التي وردت في كون
تالي القرآن يعطى بكل حرف عشر حسنات ونحو ذلك من الثواب وهناك أحاديث
أخرى في وعيد من يتلو القرآن وهو غافل عن هدايته لا بد من الجمع بينها وبينها،
وإننا نذكر المؤمنين بشيء من الآيات والأحاديث في الحكمة والفائدة
التي أنزل الله لها القرآن؛ لأن أهل الأهواء السياسية والشخصية في مصر قد جعلوا
القرآن في هذه الأيام موضعًا لأهوائهم، فكل يزعم نصره ونصر حفاظه، والله أعلم
بالصادقين، ولا تخفى على الناس آيات المنافقين.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهاك طائفة من الآيات الكريمة في حكمة تنزيل القرآن:
(1)
{الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1-2)
(2)
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)
(3)
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) .
(4)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً
لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف: 1-3) .
(5)
{طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَاّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: 1-3) .
(6)
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) .
(7)
{طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) .
(8)
{الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً
كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان: 1-7)[*] .
(9)
{حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي
أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 1-5) .
(10)
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} (النساء: 82) .
(11)
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِين} (المؤمنون: 68) .
(12)
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) .
(13)
(14)
{هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:
203) .
(15)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) .
(16)
{كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ
الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) .
(17)
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى
وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111) .
(18)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ
العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} (الرعد: 37) .
(19)
{هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم: 52) .
(20)
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) .
(21)
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} (النحل: 102) .
(22)
{إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) (وفي هذه السورة آيات أخرى فيها
عبر كبرى) .
(23)
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ} (مريم: 97) .
(24)
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) .
والآيات في هذه المعنى كثيرة، وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل هداية للناس
وبشيرًا للمحسنين في أعمالهم ونذيرًا للمسيئين، وأنه عبرة وتذكرة وموعظة وشفاء
لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله، وبما له على عباده من الحقوق
وما لبعضهم من ذلك على بعض، وأمراض الأخلاق السيئة والعادات الضارة.
وهناك آيات كثيرة في وعيد المعرضين عن هدايته الغافلين عن تدبره والذين
يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وكون هذا من صفات الكافرين، ومن أشد ما نزل في
المؤمنين الأولين على علو كعبهم، وقوة يقينهم، من قوله تعالى في سورة الحديد:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ذكر الله (وما نَزَلَ من الحق) هو القرآن. قال في الجلالين: إن الآية
نزلت في الصحابة لما أكثروا المزاح، وقال السيوطي في أسباب النزول: إنها
نزلت فيهم بعد أن قدموا المدنية فأصابوا من عيشها بعد ما كان بهم من الجهد وكأنهم
فتروا في العمل. فهذا هو القرآن وهذا وعظه وتربيته للمؤمنين فانظر إلى حفاظه
اليوم وإلى الذين يزعمون أن من تعظيمه وتكريمه أن يكون حافظه أميًّا لا يكلف قراءة
ولا كتابة ولا فهمًا ولا عقلاً ولا تدبرًا ولا تذكرًا ولا تفكرًا بل يكلف أن يتلوه ولو
بغير تجويد، وأن يأكل به أوقاف الأموات ومال الأحياء، أين هم من هدايته وأين
هم مما جاء به؟
وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلّمه وتعليمه،
وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني، وهو معرفة العقائد الصحيحة
والآداب الكاملة، وفقه الأعمال التعبدية والدنيوية التي فصلت السنة كيفياتها أو بينت
صورها. والثاني: فرض كفاية، وهو تبليغه وحفظه لأجل تبليغه بلفظه على
الوجه الذي أدى إليه وبمعناه في الدعوة إلى ما دعا إليه من العقائد والأحكام
والفضائل ليكون الدين بذلك محفوظًا، ولا ينسى أن الترغيب في قراءته وحفظه
يستلزم الترغيب في فهمه والاهتداء به؛ لأنهم كانوا يفهمونه، بل ذلك مما يتضمنه
الترغيب بلفظه. ومنها ما ورد في وعد العاملين به ووعيد المعرضين عنه والواجب
فهم مراد الشارع من مجموع كلامه؛ فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وهذه طائفة
من الأحاديث في ذلك.
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم - قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه
آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت
مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت
مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي
والمراد بالعمل مثل ما يعمل فلان في الأولى هو العمل بالقرآن كما تدل عليه المقابلة،
ورواية ابن عمر في الحديث نفسه (فقام به آناء الليل) إلخ. قالوا: والمراد قام
به تلاوة وطاعة. وفي الحديث رواية أخرى أَبين في المراد، وهي عند البخاري
ومسلم وغيره، وفيها بدل أوتي القرآن (رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها
للناس) والمراد بالحكمة القرآن جمعًا بين الروايات.
(2)
عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري وغيره وفي رواية عنه (إن
أفضلكم) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولا شك أن الجامع بين تعلم
القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا
كان أفضل، وهو ممن عنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا
إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والدعاء إلى الله يقع
بأمور: جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره
من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} (الأنعام: 157) فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلت: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس؛ لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون
معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدردها مَن بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية،
فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئًا محضًا لا يفهم شيئًا من
معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممن هو أعظم
عناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا:
حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فيمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل،فلعل
(من) مضمرة في الخبر بعد (إن [1] ) ولا بد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في
كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس
مخصوصين خُوطبوا بذلك وكان اللائق بحالهم ذلك أو المراد من المتعلمين من
يُعلِّم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية [2] لأن القرآن خير
الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن. وكيفما كان هو
مخصوص بمن تعلم وعلَّم حيث يكون قد علم ما يجب عليه عينًا اهـ.
(المنار)
هذا كلام الحافظ في معنى الحديث وفيه بيان مراد الثوري بتفضيل
إقراء القرآن على الجهاد؛ إذ لا يمكن أن يكون من لا يفهم القرآن ولا يفيد الناس
أحكامه كالمجاهد في سبيل الله، فانظر أين هذا من زعم بعض الناس أن أمثال
الحافظ للألفاظ في مصر أفضل من المجاهدين بالإجماع فما أجرأ الناس على دعوى
الإجماع بغير علم اعتمادًا على أن العامة تقبل منهم كل قول بغير دليل.
(3)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم
وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم - أي
لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوه منه - يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية)
…
إلخ، رواه البخاري.
(4)
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - أنه قال: (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، طعمها طيب
وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة، طعمها طيب ولا
ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر،
ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحظلة طعمها مر أو خبيث وريحها مر) رواه
البخاري ومسلم، وأنت ترى أنه جعل المؤمنين قسمين قسمًا يقرأ ويعمل بما يقرأ وهو
النافع لنفسه ولغيره أو الذي هو طيب في ظاهره وباطنه وإن كان لا ينتفع بظاهره،
ولم يذكر أن من المؤمنين قسمًا آخر وهو الذي يقرأ فقط بل عدّ هذا من المنافقين.
فانظر أين علم الرسول صلى الله عليه وسلم من علم هؤلاء الذين يقولون: إن حفاظ
الألفاظ الذين لا يقصدون بها الاهتداء ولا الإرشاد بل الكسب والاستجداء أئمة في
الدين، وإن من إهانة القرآن أن يقال: إنهم يحتاجون معها إلى العلم بالقراءة
والكتابة أو شيء آخر!!! أعوذ بالله من شر هذا الزمان، الذي عبث فيه الجاهلون
بالسنة والقرآن.
(5)
عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل
حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أبو داود
والبيهقي في (شعب الإيمان) والمعنى: أن الذين يجيئون من بعده يقيمون ظاهر
اللفظ من غير طلب لإقامة عقائد الدين وأحكامه وهدايتهم به، فهو كالذي يقوم القدح
وهو بالكسر السهم الذي لا ريش له ولا نصل فلا تمكن المناضلة به. ومعنى
يتعجلونه ولا يتأجلونه: يطلبون الانتفاع به والأجر عليه في الدنيا لا في الآخرة.
وهذا الحديث يصدق على القراء لأجل الكسب في هذا الزمان، وأوضح منه انطباقًا
عليهم الحديث الآتي.
(6)
عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل العشق،
ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح لا
يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) رواه البيهقي في
(شعب الإيمان) ورزين في كتابه. والذين يعجبهم شأنهم هم الذين يطربون بقراءتهم
أو يستأجرونهم لها والذين يرون الفضيلة والخدمة للإسلام في تكثير سوادهم وشدة
احترامهم.
(7)
عن جابر رضي الله عنهما مرفوعًا إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (اقرءوا القرآن وابتغوا به الله - تعالى - من قبل أن يأتي قوم
يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) رواه أحمد وأبو داود.
(8)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: (اقرأ القرآن ما نهاك؛ فإن لم ينهك فلست تقرؤه) رواه الديلمي
في مسند الفردوس.
(9)
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(اقرءوا القرآن واسألوا به الله قبل أن يأتي قوم يقرءون القرآن فيسألون به الناس)
رواه أحمد والبيهقي والطبراني.
(10)
عن صهيب رضي الله عنه مرفوعًا (ما آمن بالقرآن من
استحل محارمه) رواه الترمذي.
(11)
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا (من أخذ على القرآن
أجرًا فذاك حظه من القرآن) رواه أبو نعيم في الحلية.
(12)
عن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا (من قرأ القرآن يتأكل به
الناس جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم) رواه البيهقي.
(13)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه -مرفوعًا (من أخذ على تعليم
القرآن قوسًا قلده الله مكانها قوسًا من نار جهنم) رواه البيهقي وأبو نعيم في الحلية.
والطبراني بلفظ آخر، والروايات في القوس متعدد، وكان أُهْدِيَ مقرئ قوسًا فأخذها.
(14)
عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا: (من أخذ على تعليم
القرآن أجرًا؛ فقد تعجَّل حسناته في الدنيا والقرآن يحاجه يوم القيامة) رواه أبو نعيم.
(15)
حديث أبي هريرة المرفوع في الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم
النار وفيه: (أنه يقول لله تعالى يوم القيامة تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن،
وأن الله تعالى يقول له: كذبت إنما تعلمت ليقال: إنك عالم وقرأت القرآن ليقال هو
قارئ ثم يسحب على وجهه ويلقى في النار) والأحاديث في العمل بالقرآن وابتغاء
وجه الله تعالى به كثيرة ومنها ما فيه ترغيب في البكاء فنكتفي بهذا القدر، ونذكر
جملة في ذلك من سيرة السلف الصالح الذين كانوا مهتدين بالكتاب والسنة. جاء في
كتاب إحياء علوم الدين الفصل الآتي:
في ذم تلاوة الغافلين
قال أنس بن مالك: رُبّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه، وقال ميسرة: الغريب
هو القرآن في جوف الفاجر، وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة
القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان حيث عصوا الله
سبحانه بعد القرآن. وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ
قيل له: ما لك ولكلامي، وقال ابن الرماح: ندمت على استظهاري القرآن؛ لأنه
بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة، وقال ابن
مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس
يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا
الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، ولا ينبغي له أن يكون جافيًا، ولا
مماريًا ولا صيَّاحًا ولا صخَّابًا ولا حديدًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي
هذه الأمة قرّاؤها) . وقال صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك
فلست تقرؤه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا آمن بالقرآن مَنْ استحل محارمه)
وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها،
وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها فقال العلماء: إن البعد ليتلو القرآن
فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (هود: 18) وهو
ظالم لنفسه، ألا {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) وهو منهم، وقال
الحسن: إنكم اتخذتم قراء القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً، فأنتم تركبونه
فتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوا رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها
بالليل وينفذونها بالنهار، وقال ابن مسعود: أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا
دراسته عملاً، وإن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفًا وقد
أسقط العمل به وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما لقد عشنا دهرًا
وأحدنا يؤتى الإيما قبل القرآن: فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم
فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم رأيت
رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا
يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره الدقل، وقد ورد في
التوراة: (يا عبدي، أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في
الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفًا حرفًا
حتى لا يفوتك شيء منه وهذا كتابي أنزلته إليك، انظر كم فصّلت لك فيه من القول؟
وكم كررت عليك فيه؟ لتتأمل طوله وعرضه، ثم أنت معرض عنه، أفكنت
أهون من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل
وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك؛ فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه
أومأت إليه أن كف، وها أنا ذا مقبل عليك ومحدِّث لك وأنت معرض بقلبك عني
أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟) اهـ.
وأما علماء الخلف وأئمتهم فهم متفقون مع السف على ذلك قال الإمام محيي
الدين النووي في آداب حملة القرآن ما نصه:
(فصل) وينبغي أن لا يقصد به توصلاً إلى غرض من أغراض الدنيا من
مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع عن أقرانه أو ثناء عند الناس أو صرف وجوه
الناس إليه أو نحو ذلك، ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له من
بعض من يقرأ عليه سواء كان الرفق مالاً أو خدمة، وإن قلّ ولو كان على صورة
الهدية التي لولا قراءته عليه لما أهداها إليه، قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن
نَّصِيبٍ} (الشورى: 20)، وقال تعالى: {من كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} (الإسراء: 18) الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا
يتعلمه إلا ليصيب به غرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) رواه أبو
داود بإسناد صحيح. ومثله كثير إلخ.
وقال: (فصل) ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت
معرفته واشتهرت صيانته.
ونكتفي بهذا القليل من الكثير في هذا المقام.
(النتيجة)
علم مما تقدم من الآيات والأحاديث، وآثار السلف الصالح أن القرآن هو
الهداية العظمى، وأن حَمَلته وحُفَّاظه هم أئمة المسلمين ومرشدوهم ولذلك أمر عمر -
رضي الله عنه أن لا يقرئ الناس القرآن إلا عالم بالعربية ليقيم اللفظ فلا يسري
إليه الخطأ والغلط، ويفهم المعنى فيعمل به ويعلم الناس. وقد كان المشتهرون
من الصحابة بإقراء القرآن أكابر علمائهم كعلي وعثمان وأبيّ وزيد بن ثابت وابن
مسعود وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري. وممن قرأ على أُبيّ أبو هريرة وابن
عباس. فينبغي الاقتداء بالسلف بأن يكون حفاظ القرآن الذين يؤخذ عنهم هم الذين
ينقطعون لإتقان علوم القرآن اللفظية والمعنوية فيتقنونها. ولا يجوز أخذ القرآن عن
الجاهلين باللغة وبأحكام الدين والمرتكبين للمحرمات والدناءات؛ لأنهم ليسوا عدولاً
يوثق بروايتهم.
_________
(*) إني لأخشى أن تكون الجرائد التي تتكلم في الدين بالهوى لا بالعلم والإخلاص مما يدخل في لهو الحديث هنا.
(1)
أي إن التقدير (أن من أفضلكم) وكثيرا ما يطلق اسم التفضيل على تقدير (من) كحديث
(خيركم خيركم لأهله) .
(2)
أي: إنه افضل من حيثية التعليم لا من كل جهة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
استطراد في حفاظ القرآن بمصر
وحادثة جديدة
جرت الحكومة المصرية على إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية؛ فكثر
حافظوه لذلك، وهؤلاء الذين يحفظونه لهذا الغرض ولا يريدون به وجه الله تعالى
كما ورد، ولا يلبث الكثيرون منهم بعد سن القرعة العسكرية أن ينسوه إلا من اتخذه
حرفة يكتسب به. ولما أنشأت نظارة المعارف تنظم المكاتب أو الكتاتيب التي يعلم
فيها القرآن أوفدت إليه المفتشين من أهل العلم المتخرجين في الأزهر ثم في دار
العلوم، وقد تبين لهؤلاء أن الكثيرين من الحفاظ الذين انقطعوا لإقراء القرآن لا
يحسنون تلاوته بالتجويد المطلوب شرعًا، وأنهم على جهل ومهانة لا تليق بعملهم.
وقد أقرت الحكومة في مجلس النظار الذي اجتمع في هذا العام برياسة الأمير أن لا
يعفى حافظ القرآن من الخدمة العسكرية من بعد إلا من يمتحن فيظهر أنه حافظ
للقرآن ومحسن لتلاوته بالتجويد الواجب شرعًا، ومتعلم مبادئ القراءة والكتابة التي
يتعلمها الصبيان؛ أي لا يشترط أن يكون الخط جميلاً والإملاء صحيحًا، ولا أن
تكون القراءة بدون لحن، وعارف بالقواعد الأربع الصحاح في الحساب. وغرض
الحكومة من ذلك فيما يظهر أن تكثر عدد الحفاظ الذين يصلحون لإنشاء الكتاتيب
وأن يكونوا محترمين في الجملة بالارتقاء عن الأمية المحضة فينتفع الناس بهم.
ومن عجائب مصر أم العجائب أن قام بعض الناس يكتب المقالات الطويلة في
جريدة المؤيد معزوة إلى أزهري مجهول يحاول إقناع الناس بأن هذا الذي قررته
الحكومة إهانة للقرآن ولحملة القرآن، وحجته أن الذي يحفظ ألفاظ القرآن يجب أن
يستغني بها عن كل شيء حتى ما يعده لتجويد تلاوتها وفهم عبارتها. وكتب مجهول
آخر في المؤيد في تقبيح ما تريده الحكومة. وجريدة المؤيد مؤيدة لهم، ولها معهم
حجة أخرى، وهو أن من تكريم حفاظ القرآن أن يعاملوا كبعض خدمة الكنائس
والأديار الذين يعفون من خدمة العسكرية وهم غير متعلمين! ! وطفقوا يصورون
للعامة أن هذا إهانة للقرآن وأن بعض العظماء في الأمة يذرون الدموع أسفًا وحزنًا
على مصاب الإسلام بإخراج حفاظ القرآن من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة إلى
أدنى مرقاة من سلم العلم والمعرفة. وقد نشرت في المقطم مقالة معزوة إلى أحد
العلماء جاء فيها أن تعلم الفنون العسكرية من فروض الكفاية فلا ينبغي أن يُعَدَّ
إهانة لأهل القرآن، وإذا كان الناس لا يستغنون عن الحفاظ في البلاد والقرى
ليرجعوا إليهم في ضبط القرآن أو أحكامه فالجنود يحتاجون أيضًا إلى الحفاظ في
سفرهم وإقامتهم لمثل ما يحتاج إليهم غيرهم، فقام الأزهري المجهول يهزأ بهذا
القول الحق ويزعم أن الفنون العسكرية ليست مفروضة في مثل هذه البلاد، يشير
إلى أن هذا الغرض سقط عن المسلمين في مصر لاحتلال الإنكليز فيها.
وقد نسي هذا الأزهري -إن كان هنالك أزهري- حكم مذهبه الذي يتلقاه هو
وأمثاله في الأزهر في دخول الأجانب في بلاد المسلمين فاتحين ويعتقدون أنه محكم
يعمل به في كل زمان وهو أن الجهاد عنده يكون حينئذ من الفرائض العينية التي
تجب على كل مكلف حتى مشايخ الأزهر ومجاوريه وكذا النساء في قول، فإن كان
يعتقد أن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وملكوها وصارت في عرفه دار حرب فكيف كتب
ما عزاه المؤيد إليه، وإن كان يعتبر الظاهر الرسمي وهو أن هذه البلاد لا تزال
إسلامية وأن حاكمها هو الأمير عباس باشا حلمي الذي ولاه عليها السلطان عبد
الحميد وأن البلاد دار إسلام وأن الإنكليز فيها معلمون ومصلحون لفساد حكامها حبًّا
في الإنسانية فكيف يزعم أنه طرأ عليها ما أسقط الفرض عن مجموع أهلها حتى
انتقد الاستعداد له؟
لعله عرَّض بذلك التعريض لاعتقاده أن ذلك العالم الذي كتب في المقطم لا
يقدر أن يبين رأي فقهاء الأزهر في هذه المسألة وينشره في المقطم أو في غيره
خوفًا من الإنكليز، وإن كان الإنكليز فوق ما يظن من احترام الحرية الدينية وغير
الدينية؛ لأن نفوذهم لم يكن يمنع الناس من إظهار ما يريدون إظهاره، وإنما هو
بالسماح لهم بذلك؛ لأنهم لا يخافون عاقبة ذلك ما داموا واثقين بأن سيرتهم هي
العون لهم على إرضاء الناس وتفضيلهم إياهم على الظالمين الذين غلُّوا أيديهم عن
الظلم.
ما لنا وللبحث مع المجهولين في أمر الدين، ونحن نعلم مبلغ علمهم وغاية
مرماهم في كتابتهم، وهذا مما نحب الإعراض عن الخوض فيه، ولكن هناك أمرًا
آخر جديرًا بالاعتبار وعرضه على ما تقدم من النصوص، وهو أن الشيخ عبد
الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر كتب إلى نائب أمير البلاد (قائمقام خديوي)
رئيس مجلس النظار كتابًا رسميًّا عن قرار من مجلس إدارة الأزهر يطلب فيه أن
تعدل الحكومة عن مشروع امتحان الحفاظ بما تقدم ذكره، وهذه عبارة الكتاب بعد
حذف رسم الخطاب، منقولة عن المؤيد:
(قد علمنا أن نظارة الحربية وضعت مشروعًا جديدًا لتعديل بعض مواد
قانون القرعة العسكرية وأنه معروض الآن على مجلس شورى القوانين وأنه يقضي
بأن من يحفظ القرآن الشريف ويحسن تلاوته وليس له حرفة سواه لا يعفى من
القرعة العسكرية إلا إذا كانت له دراية بفن الحساب ونحوه.
وحيث إن كتاب الله تعالى (القرآن) هو أفضل الكتب السماوية وهو أساس
دين الإسلام، قد انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته هو من أهم أمور الدين
وأن حَمَلته من أشرف الناس وأولاهم بالاحترام والتكريم، وأن حفظه من فروض
الكفاية، وأن القائمين به كالمجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنه أصل الأصول فكل
شيء يرجع إليه ويتبعه، فهو بمفرده كافٍ لاحترام أهله وتوقيرهم بدون ضم شيء
آخر إليه.
فلذلك وما رأيناه من ميل علماء الأزهر وغيرهم من التحرير لجانب الحكومة
السنية بالتماس العدول عن المشروع الجديد وإبقاء الحال على ما كان عليه قد جرت
المذاكرة في هذا الشأن بمجلس إدارة الأزهر بجلسته المنعقدة يوم الأحد 28 مايو
الجاري فتقرر أن يرفع الأمر إلى عطوفتكم وإلى هيئة الحكومة رجاء العدول عن
هذا المشروع وإبقاء الحال على ما كان؛ احترامًا لكتاب الله تعالى وإجابة لنداء علماء
الأمة، وأن لا يكون الامتحان في نظارة المعارف كما يقتضيه المشروع.
فلهذا اقتضى تحريره ومع الموافقة يرسل من هذا المحرر صورة إلى مجلس
شورى القوانين للعمل بما فيه، أفندم) اهـ.
وهذا الكتاب منتقد من وجوه: (منها) أن عبارته كعبارة بعض الجرائد فيها
ما ينتقد لغة ولا نطيل في هذا. (ومنها) أن الحكومة لم تشترط في إعفاء الحفاظ
من القرعة العسكرية (الدراية بفن الحساب ونحوه) وإنما اشترطت معرفةً ما
بقواعد الحساب الأربع في الصحاح دون الكسور وهو ما يمكن تحصيله في أسبوع
وإتقانه في شهر، ومعرفته كمعرفة الاسم والفعل والحرف في النحو بتمييز بعضها من
بعض بالإجمال، فإن كان العارف بهذه يعد ذا دراية بفن النحو فالعارف بالقواعد
الأربع الصحيحة يعد ذا دراية بفن الحساب. والدراية هي العلم، وقيل: هي أخص
من العلم. ثم إن المفهوم من كلمة (ونحوه) سائر الفنون الرياضية كالجبر والمقابلة
والهندسة وليس شيء من هذا مشروطًا. (ومنها) قوله: انعقد الإجماع على أن
حفظه والتعبد بتلاوته من أهم أمور الدين، وقد علم مما تقدم أن كلاًّ من الحفظ
والتعبد إنما يكونان من مهمات الدين بالشروط والآداب التي فهمت من الآيات،
والأحاديث السابقة وذلك لا يتحقق إلا في الحفاظ وأهل القرآن الذين ينطبق عليهم
معاني الآيات والأحاديث وأقوال العلماء التي تقدمت وهي لا تنطبق على الحفاظ
الأميين الذين لا حظ لهم من القرآن إلا تحريك اللسان بها للكسب أو للعبادة، فأما
تحريكها للكسب فقد علمت ما فيه على أن بعض العلماء أجاز أخذ الأجرة على
تعليمه بعقد صحيح وقلما يصلح للتعليم الأمي المحض الذي لا يعرف ما اشترطته
الحكومة في إعفاء الحفاظ. وأما المتعبد بالقراءة فلا مزية له على القارئ
بالمصحف، بل صرح العلماء بأن القراءة في المصحف أفضل، وروي
الحديث في ذلك، وهذا التعبد عندهم سنة لا فرض كفاية فهو من قبيل الذكر
والتسبيح. فكأن شيخ الأزهر لا يريد إلا إعفاء الحفاظ القائمين بحقوق القرآن وقليل
ما هم وهو خلاف المتبادر من غرض كتابه. (ومنها) قوله: إن القائمين به أي
بالحفظ كالمجاهدين في سبيل الله تعالى والظاهر أن هذا من المجمع عليه في رأي
الشيخ وقد رأيت كلام الحافظ ابن حجر فيه وأنه لا ينطبق على هؤلاء الحفاظ
الجاهلين بمعاني القرآن وإفادتها. (ومنها) قوله: وإنه أصل الأصول فكل شيء
يرجع إليه ويتبعه. وليس حفظ القرآن من غير فهم أصلاً لأصول الدين يرجع إليه
كل شيء، وإنما ذلك القرآن نفسه من حيث فهمه واستنباط الأحكام منه والاهتداء
والإرشاد به، وهؤلاء الحفظة المطلوب امتحانهم بالقراءة من غير اشتراط الصواب
وعدم اللحن ليسوا على شيء من ذلك، فعلم أن دعوى الإجماع على ما فهم من
الكتاب غير صحيحة بل لم يقل أحد من الأئمة بأن أمثال حفاظ الألفاظ الذين يًدعى
واحدهم في مصر بالفقيه لهم تلك المزايا والحقوق والاحترام الديني؛ فالنتيجة المرادة
من كتاب الشيخ المبنية وهي العدول عن المشروع احترامًا لكتاب الله تعالى لا تترتب
على تلك المقدمات، بل تنفيذ المشروع أقرب إلى احترام القرآن وأهله من العدول
عنه؛ لأن اللائق بحَمَلة القرآن أن يكونوا من أهل العلم باللغة والقراءة والكتابة وبل
أن يكونوا أعلى من ذلك كما علم مما تقدم ومما انتقد به الكتاب كونه بقرار مجلس
إدارة الأزهر الذي يعد من مجالس الحكومة وهو مقيد بقانون ليس أن له يتعداه
رسميًّا فكان اللائق أن يكون نصيحة دينية غير رسمية إن كان هناك وجه
للنصيحة.
أرسل الكتاب إلى رئيس النظار وبعد إرساله بيوم نشر المؤيد بتاريخه (وهو
24 ربيع الأول) وعدده الرسمي (وهو نمرة 667) وفي اليوم لنشره اجتمع شيخ
الأزهر ببعض أعضاء مجلس الشورى فسألوه هل في مشروع الحكومة شيء مخالف
للدين فقال: لا، وتذاكروا في كتابه إلى رئيس النظار فقال لهم على ما نقل إلينا أن
الكتاب الذي نشر وكتب لم يكن مطابقًا لم أمر هو به، وأنه رأى فيه بعد النشر ما لم
يكن يعلم واقتنع بأن إرساله كان في غير محله، وبادر إلى ملاقاة رئيس النظار
واعتذر له عن إرسال الكتاب ورغب إليه في (سحبه) وإهماله وحسبانه كأن
لم يكن فقبل الرئيس منه ذلك. وكان هذا من دلائل سلامة قلب الأستاذ شيخ الجامع
وحسن نيته، على أن سحب الكتاب قد ساء الذين سعوا فيه وحملوا الشيخ عليه كما
ساء إرساله جميع العقلاء الذين علموا أن عاقبته لا تكون حسنة، وهو الآن حديث
العامة والخاصة وجميع المسلمين ممتعضون لما صار إليه مجلس إدارة الأزهر من
التأثر بكلام أهل الأهواء الذين يذمون الحسن ويمدحون القبيح ومجاراتهم التي تفضي
إلى ما لا تحمد عقباه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(كتاب الشعر والشعراء)
هذا الكتاب مشهور عند أهل الأدب المتقدمين والمتأخرين بفائدته وبشهرة
مؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أحد أئمة اللغة والأدب وصاحب
(أدب الكاتب) وغيره من التآليف المفيدة، المتوفى سنة 276هـ، وموضوع
الكتاب ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- بقوله في أوله:
(وهذا كتاب ألفته في الشعر أخبرت فيه عن الشعراء، وأزمانهم، وأقدارهم
وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية
منهم، وعما يُستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء
عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون.
وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها
ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول، وكان قصدي للمشهور
من الشعراء للذين يعرفهم جُلّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في
الغريب والنحو في كتاب الله عز وجل وحديث الرسول، صلى الله عليه
وسلم. فأما من خفي اسمه، وقلّ ذكره، وكسد شعره، فما أقل من هذه الطبقة
(كذا) إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل ولا أعرف لذلك القليل أخبارًا، وإن كنت
أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمي أسماء لا أدل عليها بخبر، أو زمان أو نسب،
أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب)
…
إلخ ما قاله. وهذا كاف في التعريف
بفضل الكتاب فهو من الكتب التي تطبع ملاكة البلاغة في النفس، وتعدها للإجادة
في الشعر والكتابة. ومن مختار الشعر الذي أورده وهو يحكي عن أخلاق العرب
وشهامتهم قول سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبًا
…
عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
ويصغر في عيني تلاوي إذا انثنت
…
يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فيا لرزام رشحوا بي مقدمًا
…
إلى الموت خواضًا إليه الكتائبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
…
ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه
…
ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وقول محمد بن عمير المعروف بالمقنع الكندي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
…
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وليسوا إلى نصري سراعًا وإن هم
…
دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم
…
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
يعيرني بالدَّيْن قومي وإنما
…
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
وقد طبع الكتاب على نفقة محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير، وهو
يطلب منه ومن إدارة المنار، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة ما عدا أجرة
البريد.
***
(ديوان الحماسة)
هو مجموع ما اختاره من شعر العرب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر
الشهير، وهو أشهر من نار على علم، وكان الأدباء يتنافسون في استظهاره،
واقتباس جذى البلاغة من ناره، وقلما نبغ شاعر أو أديب، ولم يكن حفظ ديوان
الحماسة أو كثرة مطالعته من أسباب نبوغه. ولما فترت همم المتأخرين عن تلقي
مثله عن كلام العرب فتر الشعر وبرد حتى صار يقف لسماعه شعر صاحب الذوق
وتغثى نفسه عند إنشاده، وإننا نرى في زماننا هذا نهضة في إحياء اللغة نشكر
للوراقين إسعادنا بما يطبعون من الكتب النافعة كهذا الكتاب والكتاب الذي قبله وما
سيذكر بعده، فقد طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية ديوان
الحماسة طبعًا مضبوطًا بالشكل، وفسر في أدنى كل صفحة جميع الأبيات فيها
مختصرًا ذلك من شرح التبريزي المشهور وجعله في مجلد واحد بحجم أصغر من
حجم المنار؛ ليسهل تناوله على الطلاب ويخف حمله على المتأدبين، وجعل ثمنه
اثني عشر قرشًا فقط، فقد اجتمع لمريده المرغِّبان في اقتنائه كثرة الفوائد وقلة
الثمن وهو يطلب من طابعه بِالسكة الجديدة بمصر.
***
(ديوان أبي تمام)
أبو تمام من شعراء الطبقة الأولى من المولدين وجيده أعلى من جيد البحتري
والمتنبي اللذين يقرنان به، ولكن من رديئه ما هو دون رديئهما، ولعله لولا حبّ
الجناس لما ارتكب التكلف، ولما وقع في التعسف؛ فأكثر رديئه في ذلك، وهو عند
أكثر المتأخرين لا يعد رديئًا بل ربما فضَّله عشاق المحسنات اللفظية على سائر
شعره. وهو على كل حال من أهل الرعيل الأول، والذين على بلاغتهم المعول،
وقد احتذاه وأخذ عنه مَنْ بعده حتى المتنبي. وكنت ترى من العجب أن الشعر
ترتقي صناعته في هذه السنين وديوان أبي تمام لا يطبع المرة بعد المرة، وقد أحس
بهذه الحاجة محمد أفندي جمال البيروتي فانتدب لطبعه ورغب إلى الشيخ
محيي الدين الخياط أن يفسر غريبه ويضبطه بالشكل ويصحح طبعه، فأجابه إلى
ذلك، ووضع للديوان مقدمة تكلم فيها عن الشعر بكلام شعري أي بالتخيلات
والتشبيهات، وعلى البلاغة والشعر العصري وعلى وجوب التوسع في اللغة
وقبول الدخيل فيها وتعريبه، وختمها بترجمة أبي تمام. وقد بلغت صفحات الديوان
خمسمائة ونيّف، وثمنه في مصر اثنا عشر قرشًا وأجرة البريد قرشان
وفي سائر البلاد 3 فرنكات ونصف، ويطلب من طابعه ببيروت ومن إدارة مجلة
المنار بمصر.
***
(ديوان ابن نباتة المصري)
جمال الدين محمد بن نباتة المصري من شعراء القرن الثامن كان من أهل العلم
والأدب ومدح الملوك والكبراء والعلماء وهو مشهور بالرقة والسلاسة في شعره
على ما يحب المتأخرون وخاصة المصريين، فإن كلامه أحلى في ذوقهم وأدنى من
استحسانهم ومن ذلك قوله في المقاطيع:
يا مولعًا بملامي حسبك الله
…
كم ذا تهيج مغرى القلب مضناه
هذا الحبيب وذا فكري وذا جلدي
…
في راحتيه فقل لي كيف أنساه
إني لأعلم أن الرشد أجمعه
…
في تركه غير أن النفس تهواه
ساجي اللواحظ خمري مقبله
…
داجي الذوائب بدري محياه
إن كان للحب شخص فهو مهجته
…
أو كان للحسن لفظ فهو معناه
أفديه بدرًا بقلب الصب غزوته
…
وفي السماء برغم الصب لقياه
لو لم يكن ريقه خمرًا ومرشفه
…
ما عربدت عينه واهتز عطفاه
وله في شعره نكت وكنايات مما يعرف الآن (بالنكت البلدية) لا تسلم من
المجون وابن حجة يطريه في الثناء.
وقد طبعه في هذه الأيام الشيخ محمد القلقيلي وكتب له مقدمة ذكر فيها أن الذي
أسعده على ما همت به رغبته وقصرت دونه يده إبراهيم بك رمزي صاحب مطبعة
ومسبك التمدن، ولعمري إنه قد طبع طبعًا جميلاً على ورق جيد يليق بإتقان رمزي
بك، وبلغت صفحات الديوان 596 صفحة، وقد جعل ثمنه 20 قرشًا، ولمبتاعه
كفلان من الفائدة: أحدهما: الأنس بالديوان والتمتع بمطالعته. وثانيهما: إعانة
طابعه على أعماله الأدبية التي انصرفت همته اليها وأراد رمزي بك إسعاده عليها،
وهو يطلب منه ومن مطبعة التمدن بجوار عابدين.
***
(مجلس سركيس)
سليم أفندي سركيس نشأ في حجر الصحافة حتى ترعرع وشب واكتمل فذاق
حلوها ومرها، وعرف وصلها وهجرها، وفارق فيها الدار والوطن، وهاجر
بالأهل والسكن، فاشتغل بالكتابة في الجرائد ببيروت ومصر وأمريكا ثم عاد
إلى مصر واختار أن ينشئ مجلة يقصر مباحثها على الأفاكِيه والمُلح الأدبية ففعل
فجاءت (مجلة سركيس) وحيدة في موضعها لا يستغنى عنها في هذه البلاد
بصحيفة من نوعها.
وإذا كانت المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والدينية وغيرها من حاجات
أصناف من الناس فالفكاهة من حاجات جميع الناس يرغب فيها العالم والفقيه
والفيلسوف والأديب والعامي والخاصي، ومن ثَمَّ كان الرجاء بنجاح مجلة (سركيس)
قويًّا لا سيما إذا أصاب في مُلَحه ونوادره مواقع الإعجاب من نفوس أبناء هذه
البلاد وهو جدير بذلك لسعة اختباره. والمجلة تصدر في الشهر مرتين وقيمة
الاشتراك فيها 60 قرشًا في مصر و20 فرنكًا في سائر البلاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حضرموت واليمن
نلخص ما يأتي من رسالة صديق لنا في حضرموت قال: كان خروجي إلى
حضرموت من عدن؛ لأني لم أجد مركبًا بحريًّا إذا ذاك، فازددت بذلك علمًا عن تلك
الفيافي والقفار، والبدو، والحضر، والعرب بتلك الجهات ووقفت على أحوالهم
وعاداتهم وحالة الدين واندراسه، ودسائس الإنكليز هناك وما يُنتظر للدولة العلية في
اليمن. قطعت في سيري أرض الفضلي وهي أول دولة من دول العرب هناك تلي
إنكلترا وتواليها، ولها سواحل بالقرب من عدن أشهرها يسمى (شقره) ودولتها
بدوية استبدادية، وعسكرها هم عصبة الملك وقبيلته وهم بدو حربيون، ولها
سياسة، واسم ملكها أحمد بن حسين الفضلي وهو باسط بساط العدل والأمان، ومن
عاداته أنه من سُرق له شيء أو نُهب من بلده يجيئه فيعطيه من خزينته عوض ما
سُرق أو نُهب منه ويذكي هو العيون على المعتدي حتى يظفر به ويسترد منه ما
أخذه، وله راتب سنوي من إنكلترا نحو 12000 روبية ويسمونه (مشاهرة) وقد
وقع بينه وبين الإنكليز تنافر من مدة؛ لأنه طلب سلاحًا مدافع لم تسمح له بذلك.
يليه (يافع) ويقدرون ساكنيه بنحو 75000 ألفا ويجلب منه (يصدر)
الجلود والبن والورس والزعفران والذرة والقمح وغيرهما من الحبوب. وهم بدو
قبائل متفرقة يتحاربون ويتصالحون، ولهم من الإنكليز مرتب، وقد أريدوا على
الدخول في الحماية البريطانية فأبوْا، ولما قاتلوا الإنكليز منذ عامين عاتبهم الباشا
صاحب قحطبة من ولاية الدولة العلية.
يليهم الجبال البيضاء وهي أرض ذات أنهار وخصب، أهلها بدو وهم موالون
لإنكلترا ولهم راتب منها، والعواذل وهم دولة وقصبتهم تسمى (دثينة) وهي خصبة
ذات تربة طيبة، ولم يطاوعوا إنكلترا ولذلك أجلت المهاجرين منهم من عدن
بالسعط لما عارضوا جنوده التي وجهها الإنكليز إلى بلاد العوالق.
يليهم بلاد العوالق وأهلها قبائل لهم دولة من غيرهم ولا نفوذ له (يريد بالدولة
الحاكم) وعاصمتهم أنصاب وهي ذات آثار وبقربها أحجار عليها كتابات حميرية
ولملكهم ورؤساء القبائل مرتبات ولعالمهم (عاتق باكر) الذي له نفوذ هناك حتى
إنه ليجمع الزكاة من البادية راتب شهري من الإنكليز قدره 500 روبية على أنه
يأخذ راتبًا من الدولة العلية، فهو منافق وميله القلبي إلى بريطانيا ولذلك يوسع
نفوذها هناك. أما العوالق فيقدرون عسكرهم الذي يمكنه القتال بنحو 4000 ألف
(كذا في الأصل فإن كان مراده أربعة آلاف كما هو الظاهر فلا حاجة إلى كلمة (ألف)
بعد الرقم ويقرب أن يكون عددهم أربعون بألفا ويبعد أن يكون أربع مائة ألف فما
كتب خطأ نرجو من الكاتب إصلاحه بعد وصول المنار إليه) حدثني بذلك رئيسهم
أخذًا من عددهم في الوقائع (الغزوات) القومية التي حشدهم فيها.
يلي العوالق إلى ناحية الشرق والبحر دولة الواحدي عاصمة حبان وهي بلدة
قديمة أسس جامعها سنة 266 للهجرة وكان بها من العلماء جهابذة فصحاء وقفت
على بعض قصائدهم الفصيحة التي تكاد تسيل انسجامًا، وحالتها اليوم جاهلية وهي
تحت حماية الإنكليز، وقد عقدوا عهدًا على خروجه إليهم (كذا) وساحلهم بالحاف
وقد أخذ نصفه أمير المكلا القعيطي من أخي ملكها شراء، فقامت إنكلترا تعارض فيه
والله يعلم هل يسلم له أم تأخذه إنكلترا.
(وههنا رسم الكاتب صورة تلك البلاد من عدن إلى الشحر وأنصاب العوالق
وكتب عند ذكر (الحج) أن ملكها أحمد فضل العبدي قد باع أرضه من إنكلترا
وله راتب منها. وعند (قحطبة) أنها أول ولاية للدولة العثمانية. وعند ذكر
(الشحر) أنه عند أمير المكلا القعيطي وهو داخل تحت حماية إنكلترا. وعند ذكر
(سبأ) و (مأرب) ملكهما من الأشراف وهو محالف لإنكلترا وله راتب وبينهم
عهود، وقد أوفدت إنكلترا إلى تلك البلاد وفدًا علميًّا فنقلوا رسوم الآثار والكتابات
الحميرية التي على الصخور، والأسطوانات الرخامية الحميرية
…
إلخ. وقال:
إن من يشاهد نفوذ الإنكليز هناك يعتقد أن الدولة العلية سيتقلص ملكها عن قريب
بسعي أولئك الرجال. ونزيد قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} (الزخرف: 76) فإن عادوا للعدل، عاد الله عليهم بالفضل، ثم قال: على
أنني لم أخبركم ببعض الجبال والمراكز والقبائل فانظروا تروا أنه إذا نشبت الحرب
بين إنكلترا والدولة فإن إنكلترا تأتيها من فوقها ومن أسفل منها. وهذه المراكز
الداخلة تحت حماية إنكلترا أو في محالفتها تسمى باليمن الأسفل إلا الضالع فإنها من
اليمن الأعلى، ونفوذ إنكلترا في اليمن الأسفل يمتد مسافة شهر تقريبا وستمد سكة
حديدية تقطع هذا البر إلى (أنصاب) عاصمة العوالق ثم تمر بعد ذلك في الوادي
التي تحلها كندة ونهد والكرب إلى الكويت. ولم تدع إنكلترا رأسًا من رءوس
القبائل إلا وأعطته مرتبًا جاريًا، وكان تداخلها في هذه البلاد بواسطة واحد من
أبنائها دخل البادية ونشأ فيها فهو يتكلم بلغتها وإذا دخل فيها يلبس لها لباسها الذي
هو من السن إلى الركبة (كذا) ورداء وعمامة وتسميه البادية (عبد الله بن
منصور)
وأهل البادية يتحدثون بعدل إنكلترا وبديانتها التي تمليها عليهم القسوس بعدن،
ولقد حرت من تقريرهم لها إذ لا يعرفون معنى الدين الإسلامي ما هو، وسيكون
لذلك الأثر السيئ في تلك الأقطار إذا خالط أهلها الإنكليز، فالمعارف الدينية معدومة
بالكلية حتى إن هناك العوالق السفلى والمقاتلة منهم يقدرون بنحو 200 لا يعرفون
شيئًا من الدين ونكاحهم إنما هو نهب ينهب الواحد بنت الآخر ويتزوج بها، فإذا
ولدت ذهب أولادها يأتون بالعقد عند أبويها وإنها لتفتخر على من تزوجت
بالتراضي وينكح أحدهم أخته وخالته وزوجة أبيه بعد موته ولا يعرفون النبي،
صلى الله عليه وسلم.
والبادية كلها متسلحة بالسلاح الحديث المكتوب عليه (كارديف) و (مارتين)
و (سن إيتمنس) وإنكلترا مشددة على الخرطوش فلا يصل إليهم إلا بعد الجهد
وهم يشرونه بأثمان باهظة. وإنك لترى أهل البوادي يتسابقون إلى عدن تسابق
الجياع إلى الصقاع والمال ينهال عليهم حتى أن البدوي الذي يقنع بالروبية يعطى
من المائة إلى المائتين بلصه أو بخشيش ويسمونه (فشح) وسأخبركم بأخبار تلك
الجهة على التحقيق وبما للسادة (الشرفاء) من النفوذ هنا ككون كل قبيلة لها
(منصب) منهم أي رئيس روحي يعقد الصلح ويأخذ النذور ويستغاث بجده
المعروف بالولاية.
مكثت في تلك الجهات شهرين في حل وترحال إلى أن وافيت حضرموت
أهلها في الجملة (قبورية) وسأخبركم بحالها وبسياسة أمير المكلا فيما يأتي. أما
واردات المكلا خاصة فهي 350000 جنيه يأخذ عليها الأمير مكسًا باهظًا. وأما
الصادر وهو التنباك والسمك وغيره فنحو 100000 جنيه ولا تزال أساطيل إنكلترا
ومدرعاتها تطوف بهذه السواحل تتنسم الأخبار وعسى أن نوفق هنا للدعوة، فإنا
وجدنا حزبًا يوافق ما نحن عليه وأناسًا يعرفون المنار أكثرهم ممن يتاجرون إلى
جاوه ودولة المكلا (أي أميرها) غائب بالهند وسأوافيكم بما يتجدد. اهـ
المراد منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنازع الدول في جزيرة العرب
كثرت أقوال الجرائد المصرية وغيرها في عناية الإنكليز بتقوية نفوذها في
بلاد العرب، وقد علمنا أنه جاء مصر في هذه الأيام وفد من فرنسا وآخر من ألمانيا
وكل منهما يريد الذهاب من هنا إلى بلاد العرب مستعينًا بالمصريين، فأما الوفد
الفرنسي فإن من أعضائه علي أفندي زكي المصري وكيل المؤيد في باريس وصاحب
المقالات الكثيرة التي تزيد نفوذ فرنسا في بلاد المغرب، وقد سعى صاحب المؤيد
نفسه هنا في مساعدة هذا الوفد الذي سيذهب إلى الخليج الفارسي ويكون وكيل المؤيد
في البصرة مساعدًا له. وأما البعث الألماني فقد استأجر من العربان هنا خمسين ذلولاً
واتخذ له مترجمًا من شبان المصريين بأجرة كبيرة، واشترى كثيرًا من المصاحف
المذهبة والكتب الدينية ووجهته الأمير ابن الرشيد في نجد والعبرة في هذا ظاهرة لكل
عاقل وسيرة الدولة العلية في بلاد العرب معروفة لا حاجة إلى شرحها، والأمر لله
العلي الكبير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانتقاد على المنار
وعدنا في آخر المجلد السابع بأن نجيب على بعض الانتقادات التي وردت
علينا في العام الماضي ولم نتمكن من ذكرها والجواب عنها؛ لأن كثرة المسائل
العارضة اضطرتنا إلى الإرجاء، ولكننا نعجل الآن بذكر انتقاد جديد جاءنا من أحد
القراء الفضلاء الواقفين على كُنْه الحال في الجزائر وغيرها من مستعمرات فرنسا
قال بعد الثناء والتحية:
(قد اطلعت في العدد الرابع من المجلد الثامن من مجلة المنار الإسلامية
الغراء ما يأتي: وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في
مستعمراتها بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة
دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاًعليهم. وبعد
أن نظرت في هذا المقال أنا وأصحابي، وتأملنا فيه من جميع أركانه لم نجده إلا غلطًا
عظيمًا، ولم نظن قبل اليوم أن أهل الفضل مثل سيادتكم يقولون كلامًا مساعدًا
لإهلاك خمسة عشر مليونا من المسلمين معاونًا لسياسة الفرنسويين التعساء) .
ثم طفق يعدد سيئات لفرنسا في الجزائر كهدم المساجد وغصب الأرزاق
ومناهضة العرب ونصر اليهود ويبرئ ألمانيا من مثل ذلك ويذكرها بالثناء. وقال:
لا تغتر بكلام الموسيو لوسياني وغيره مع الأستاذ الإمام ولا بتجديد مدرسة لأربعة
ملايين، عدد تلامذتها عشرون، فإنه في عهد الحاكم الجديد جنار كثر الكذب
والتغرير واشتريت بعض الجرائد المصرية.. . بمائتي ألف فرنك لتكون عونًا له في
سياسته ضد الإسلام حول المغرب وتوليته عليه
…
إلى ما آخر ما قال.
ونحن نخشى أن يكون فهمه لسياسة فرنسا كفهمه لعبارة المنار التي انتقدها فإنه
ليس الغرض منها إلا نصيحة المراكشيين بترك الغرور بالقبور وتوجيه العناية إلى
الاستفادة من تنازع ألمانيا وفرنسا على البلاد على حد قول الشاعر العربي:
تفرقت غنمي يومًا فقلت لها
…
يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
فإن كان يرى الفائدة في استيلاء ألمانيا على مراكش بغضًا بفرنسا فإنه يريد
يشفي غيظه بما يضر المسلمين ويذهب باستقلالهم كما كان بعض المصريين يفعلون
بالسعي لدى فرنسا لإخراج إنكلترا من مصر ولو أخرجتها لحلت محلها. فالذي نوده
نحن أن تبقى البلاد مستقلة ولكن مع سعي حكومتها وزعمائها في عمرانها وإلا كنا
طالبين للخراب والجهل الدائمين وهو طلب لا قيمة له عند الله ولا عند الناس
فالأرض يرثها من هو أصلح لعمارتها شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا، وأما قولي:
إن ألمانيا شر من فرنسا فهو مبني على ما كان كُتِبَ إليَّ من مستعمرتها في شرقي
أفريقية كما بينت ذلك في الجزء الخامس (ص200) فكيف غفل عنه.
أما رأينا في سياسة فرنسا مع المسلمين في مستعمراتها فقد بيناه غير مرة وقلنا:
إنه يستحيل أن يطمئن المسلمون لحكمها ما لم تمنحهم الحرية التامة في الدين
والعلم، وتساعدهم على التعليم والعمران بالفعل لا بالقول ولا بإيهام الجرائد، وإن
سميت إسلامية، وقد سمعنا وقرأنا ما دلَّنا على أنها قد اهتدت إلى هذا الرأي، فإن
كان ذلك حقًّا فسترى حُسن عاقبته وإن كان تمويهًا كما يقول المنتقد فلا يلبث أن
ينكشف، ولكن من يغلو في الانتقاد قلما يؤخذ كلامه بالقبول؛ فليفهم هذا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استدراك
نقلنا في الجزء الماضي ما ترجمته جريدة اللواء عن جريدة الغلوب الإنكليزية
في حادثة ترك الشيخ محمد عبده للأزهر، وقد سقط مما حَكَته الجريدة من كلام الشيخ
لمحدثه هذه الجملة: ثم قال - أي الشيخ - فهل يُسر الإنكليز بتخريجي لهم رجالاً
مستعدين يفهمون حقوقهم ويعرفون كيف يدافعون عنها بقوة مستمدة من العلم
والمعرفة؟ اهـ.
_________