الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثامنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر
أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي
أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:
70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .
تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين
ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً
مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً
يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،
وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .
ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن
يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين
استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء
المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس
بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في
كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى
و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ
إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .
ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم
وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته
في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد
نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير
والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء
الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،
وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام
الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،
وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-
إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .
وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،
ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من
الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في
أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل
والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه
قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،
وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف
عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام
مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ
مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .
أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو
إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال
من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع
لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،
إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام
أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .
أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد
أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم
والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر
إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة
الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد
بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان
ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار
وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من
عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين
يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل
المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية
والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه
يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى
اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .
دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني
اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن
والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،
وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم
من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون
ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون
أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرًى
مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في
كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على
أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟
لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك
إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل
فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ
بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .
إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة
لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:
ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان
والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور
وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من
ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ
الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في
قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم
مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،
التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا
وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ
وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .
إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا
أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية
إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن
الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة
منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،
إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن
المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده
يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة
للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .
يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد
المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة
بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة
زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن
يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على
جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة
الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء
بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في
المخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)
وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض
غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس
وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في
قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا
{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .
وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب
القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا
الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .
…
...
…
...
…
...
…
... منشئ المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
... محمد رشيد رضا
_________
(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه:(صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من
الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب.
…
ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها
(س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن
عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:
الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة
الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي
الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،
أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا
الحديث الشريف؟
(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي
هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد
على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء
هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه:(يشرِّكانه)
بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،
وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا
ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:
إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة
مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن
الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في
طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه
على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم
تقليدًا أعمى.
ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل
ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله
اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله
عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!
وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا
أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة
ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير
بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة
قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن
أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى
المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.
أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس
أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف
الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته
لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛
ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره
وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل
عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،
كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على
الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما
أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.
والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار
الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل
لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير
من هذا الجزء شيء من ذلك.
ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق
مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم
وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى
باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ
آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14)، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في
هذا الجزء.
فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله
تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية
حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة
كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به
على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر
عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو
شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس
الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -
على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،
فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا
بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب
القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل
شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما
أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه
بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما
يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم
مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ
ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن
طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين
استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.
فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه
وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من
الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق
والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا
(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله
أعلم.
***
اختلاف المذاهب في الأحكام
وشهادة أوربي للإسلام
(س2) ح. ح. في الجبل الأسود:
فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل
التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين
الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي
الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،
ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف
لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض
وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند
الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت
لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.
(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي
لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛
إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛
ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له
صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:
إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو
الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة
الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد
المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا
بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات
الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل
فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في
آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .
أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون
بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى
السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء
من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى
أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها
آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن
الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي
يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه
وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما
إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.
***
نتف ريش الطائر
(س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في
شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل
الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف
ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت
هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في
تنظيفه؟
(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا
يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب
الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من
غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر
تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،
فينبغي تنبيههم له.
***
الصيد بالبندق والرَّصَاص
(س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت
الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة
مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية
عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة
فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون
هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما
في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا
في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟
(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده
فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد
بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.
وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،
وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،
وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا
وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في
المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب
ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق
والرصاص فهو كذلك.
***
الجبر والقدر
(س5) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
…
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا
ركينًا للمسلمين.
(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما
تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته
يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم
من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا
كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع
الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة
الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن
شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها
ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة
ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب
المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق
عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل
حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين
فهو من المجانين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
البحث الثالث
في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله
اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف
الرحيم، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:
كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا
على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات
ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،
وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا
يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف
ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام
رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ
وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس رضي الله عنه: (ما منا
إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى
الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -
جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب
والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.
ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم
فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.
وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، ثم قال: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد
انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم
يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه
قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب
ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل
على ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه
إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان
بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)
رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله
ابن بر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار
في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي
شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا
صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق
بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار
مطلق غير مقيد.
وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك
ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول
بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه
وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.
هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة
الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا
عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها
لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما
هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد
في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل
منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .
فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة
وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها
سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد
روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك
الشعراني في (كشف الغمة) .
وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من
الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] :
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا
يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر
رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي
رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانفض الناس إلا
اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا
…
إلخ) رواه أحمد والبخاري،
فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا
يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن
النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير
صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم
بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم
يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد
الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .
ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم
الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد
الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم
يثبت ذلك وهاك النصوص:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم
رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)
رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل
للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي
وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم
الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما
ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل
إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،
وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار
الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن
كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن
شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو
امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر
المسافر) .
وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث
النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه
المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى
ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير
بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب
صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح
للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ
وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول
عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من
كان محبًا للحقيقة منهم.
قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة
الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو
نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره
بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك
والخير في الاتباع والشر في الابتداع.
(الخلاصة)
اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن
الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا
مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على
التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه
بدقة وإنصاف، والله أعلم.
هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،
فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة
الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة
الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم
خالصة لوجهك الكريم.
_________
(*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت. اهـ منه.
(1)
اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم.
(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا
الخطبة فهي سنة فقط؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة)، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال:(أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ، قال أربعون رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم صحتها، بأقل من العدد المذكور؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، ولذا قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا رضي الله عنه (والظاهر أن العدد المذكور ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك اختلفت مذاهب العلماء في العدد، فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الجمعة تصح من الواحد وذهب إبراهيم النخعي، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين، وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري رضي الله عنهما إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث.
الكاتب: محمد الخضري
انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير
ابن جرير الطبري
تابع لما قبله
(73)
تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي
…
لوى يده الله الذي هو غالبه
ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149
وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا
والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة.
(74)
وإن مهاجرين تكنفاه
…
لعمر الله قد خطيا وحابا
ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكنفا غدا
…
بيد لقد خطئا وخابا
وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا:
وإن مهاجرين تكيفاه غدا
…
بيد لقد خطئا وخابا
(75)
رمى فأخطأ والأقدار غالبة
…
فانصعن والويل هجيراه والحرب
في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب
فانصعن.
(76)
فلم أر معشرًا أسروا هديا
…
ولم أر جار بيت بستباء
في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) .
(77)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة
…
لدينا ولا مقلية إن تقلت
ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا:
أسيئي بنا أو أحسني
…
لاملولة ولا معلنة أن تعلني
(78)
وليلة ذات ندى سريت
…
ولم يلتني عن سراها ليت
ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا:
وليلة ذات دجى سريت
…
ولم يردني عن سراها ليت
وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا.
(79)
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه
…
على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ
في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا:
…
..................
…
إذا ما غدت وإن تحدث تبلت
…
والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر
(80)
سلام الإله وريحانه
…
ورحمته وسماء دِرَر
في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا:
سلام الله وريحانه
…
وجته وسمادرته 7
وبعد البيت:
غمام ينزل رزق العباد
…
فأحيا البلاد وطاب الشجر
(81)
يا حبذا القمراء والليل الساج
…
وطرق مثل ملاء النساج
في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا:
ياحبذا القمر والليل ساج
…
وطرق مثل ملا النساج
(82)
وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة
…
ولكن عرايا في السنين الجوائح
في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا.
(83)
فهممت أن أغشى إليها محجرا
…
فلمثلها يغشى إليه المحجر
في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت:
ذهبت بعقلك ريطة مطوية
…
وهي التي يهدى بها لو تنشر
(84)
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
…
والعصم من شعف العقول القادر
ورد في موضعين:
(1)
في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا:
................
…
والعصم من سعف العقول الفادر
…
(2)
في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول.
(85)
هنالك لا أرجو حياة تسرني
…
سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط.
(86)
وإن كلابًا هذه عشر أبطن
…
وأنت بريء من قبائلها العشر
في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل
المعنى والوزن.
(87)
وظلت بأعراف تعالت كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا:
مسبِّبة قُب البطون كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا:
وأضحت تغالي بالستار كأنها
…
رماح نحاها وجهة الريح راكز
وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها.
والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو:
وظلت بأعراف كأن عيونها
…
إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز
(88)
لقد مريتكم لو أن ردتكم
…
يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي
في الخامس ص 72 وكتب هكذا:
وقد نظرتكم لو إن درتكم
…
يومًا بحي به مسحي وأساسي
(89)
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
…
حجر حرام إلا تلك الدهاريس
ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك
(إلا ملك) .
(90)
مالك ترغين ولا ترغوا الخلف
…
وتضجرين والمطي معترف
في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا:
مالك ترعين ولا ترعوا الخلف
…
(91)
ناجٍ طواه الأين مما وجفا
…
طيّ الليالي زلفًا فزلفا
…
... سماوة الهلال حتى أحقوقفا
والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) .
(92)
إن سميرًا أرى عشيرته
…
قد حدبوا دونه وقد أنفوا
إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا
في الرابع ص23 وكتبا هكذا:
إن سميرًا أرى عشيرته قد
…
حدثوا دونه وقد أبقوا
إن يكن الظن صادقي ببني
…
النجار لم يطعمو الذي علقوا
والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي.
(93)
تخوف السير منها تامكًا قردًا
…
كما تخوف عود النبعة السفن
ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط.
(94)
تنشطته كل مغلاة الوهق
…
مضبورة قرواء هرجاب فُنُق
ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد
الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء:
الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب
كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية
الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله:
وقائم الأعماق خاوي المخترق
…
(95)
حسبت بغام راحلتي عناقًا
…
وما هي ويب غيرك بالعناق
فلو أني رميتك من قريب
…
لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني
ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي:
نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب
عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا:
ولو أني رميتك من بعيد
…
(96)
لئن حللت بجوّ في بني أسد
…
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد.
(97)
أقول له والرمح يأطر متنه
…
تأمل خفافًا إنني أناذلكا
ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل
تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر
فصارت هكذا ياطر.
(98)
طمحت بنظرة فرأيت منها
…
تحيت الخدر واضعة القرام
ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا:
تحينت الحذر ناصعة القوام
…
وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة.
(99)
وحليل غانية تركت مجدلاً
…
تمكو فريصته كشدق الأعلم
من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة.
(100)
عرفت المنتأى وعرفت منها
…
مطايا القدر كالحدا الجثوم
ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا:
عرفت الصبا وعرفت منها
…
مطايا العذر كالحدا الجثوم
(101)
عهدي به شد النهار كأنما
…
خضب البنان ورأسه بالعظلم
من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا:
خضب اللبان رأسه بالعظلم
…
(102)
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
…
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع
…
ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في
الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى
بعض.
(103)
مأويّ ياربتما غارة
…
شعواء كاللذعة بالميسم
ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا:
ياربتما غارة شعواء
…
كاللذاعة بالميسم
(104)
حواء قرحاء أشراطية وكفت
…
فيها الذهاب وحفتها البراعيم
ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا:
حوى فرحًا سراطيه وكفت
…
فيها الذّهاب وحفتها البراعيم
(105)
تقول إذ درأت لها وضبني
…
أهذا دينه أبدًا وديني
ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا
أقول وقد درأت لها وضني
…
وهذا دينه أبدا وديني
(106)
مهلاً بني عمنا مهلا موالينا
…
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا.
(107)
إن شرخ لشاب والشعر
…
الأسود لم يعاصَ كان جنونا
ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط
لا معنى له.
(108)
إذا ما قمت أرحلها بليل
…
تأوّه آهة الرجل الحزين
ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى
والوزن.
(109)
عجبت من دهماء إذ تشكونا
…
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
…
...
…
...
…
خيرًا بها كأننا جافونا
وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من
تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا:
ومن أي دهماء إذ توصينا 7
…
خيرًا بها كأنهم خافونا
ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ والانتقاد
(خواطر الخواطر)
مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان
يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة
وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات
بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر
بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع
معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات
في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار
الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش
صحيحة.
***
(طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر)
كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية
السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من
العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة
اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على
ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم
والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا
العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني
كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري
ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب
لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء
وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في
مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش
عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر)
فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما
هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا
قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) .
ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن
(والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة
تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في
هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم
وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت
ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا
فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم
عليهم أكثر.
الجرائد والجامعة الإسلامية:
وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية
إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء
بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) .
أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة
الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها
المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو
مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد
دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت
أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها
جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن
بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين.
وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي
تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل
تجتمع معها.
سوريا والحجاز والسياسة:
وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه
السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن
سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا.
ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل
عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك)
المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول
من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا
حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش
في البحر.
وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها
وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل
الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله.
***
(كمال بلاغة العربية)
في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية،
أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته،
وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء
والمحبوب) .
والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع
مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة
بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية.
***
(الرياض)
صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي
في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها
خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر
عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها.
***
(التربية)
مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من
8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة
فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية
وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه:
البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة
من زهرة.
لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع
الشريط في الخل قبل استعماله.
ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء
واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه.
***
(جريدة العجائب)
أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه
بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها
على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من
الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم.
***
(ديوان أبي تمام الطائي)
لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير
مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن
محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة
المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت
والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في
500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية
صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل
هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت،
وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(سنتنا الجديدة)
نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا
مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين
السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح
يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير.
***
(شرط الاشتراك في المنار)
المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك
فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل
الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء
السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار
كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد
موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض
الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن
وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة
وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة
كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع
العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم
أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم.
***
(فهرس المنار أو فهارسه)
جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم
توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا
لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره
مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المنار
جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء
والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله:
لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث
السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت
بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل
من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت
إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون.
سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار
بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك
الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم
بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن
عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم
الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه
الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في
الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى.
وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في
الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم
فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه
(الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات،
ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن
نكون من الشاكرين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(سوري شمالي)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حياة الأمم وموتها
إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط
ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف
على الأخرى.
يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع
العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة
النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة
بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه
أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في
أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من
جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل
عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله.
الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء
للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها
وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج
إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من
الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود.
قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛
فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً
وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا
أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي
يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول
يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في
كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا
مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر
الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة
حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل
شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من
سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة
ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا
يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها
الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين،
والأخرى في أسفل سافلين.
يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب
التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه
يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم
يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا
يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو
ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،
والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه
الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو،
وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر
ويذل.
ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين
المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما
هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع
وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن
اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع
العدد الكثير.
ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة
صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من
تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا
بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين
وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها
ومخازي فاقديها.
التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في
الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل،
ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو
الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي
الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم
وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على
كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير
ثروة الكاسب إلى الكمال.
لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة
الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه
أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه
الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا
إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد،
وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر
والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على
المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد
وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال.
روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل،
فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير
إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة
للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب،
وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي
تفسد.
كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من
النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل،
والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك
أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى
إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية،
وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية.
تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا
تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر
على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت
أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها
أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة
الضلال فهلكت.
إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ
الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه
أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة
المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين،
ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة
سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره
وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره،
والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور
الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب
الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به،
وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير
ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى
تبقي حثالة بهم تبسل الأمة.
لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت
هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة
كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة
كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة
المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل
في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي
تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني،
على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء
ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن
السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي
يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية.
ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح
يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي
من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار،
وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية
والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأي عالم أزهري في العلماء
وحالهم في مصر
وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى
مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في
درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على
اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا
بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا
يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء
الأوربيين)
…
إلخ.
وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون
العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك
وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور
الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني
عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة
في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها.
ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس
الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي
في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه:
(ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا
التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن
يعود على الأمة منه فائدة تذكر) .
(على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم
لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام)
…
إلخ.
ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن
هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من
النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها
إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ.
ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا
الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك
حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك
ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية
والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) .
ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة
السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على
تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها،
بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور
الدنيئة)
…
إلخ.
وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى
بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا
من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة،
تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات
الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم
ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم
تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين
والشواهد على ذلك كثيرة) .
إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في
وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن
في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة
الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي
أن يصرح بذلك هنا.
ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما
(ص 33) :
(أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن
سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ
والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا،
حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم
وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء
والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من
يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل
الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس
هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر
إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من
يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا
كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل
إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى
أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار.
ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله
ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية
وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى
أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس
كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا
كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل،
وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت
تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى
على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير
من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله
الآن. اهـ.
ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم
القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى.
ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر
من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز
والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك
بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم
وقال في (ص42) :
(لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب
التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس
في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه
الطبع السليم) اهـ.
ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن
يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم
قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على
ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر
الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم
واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا
يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع
عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على
معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية
بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
العامة تستعمل الرضوخ بمعنى الخضوع والامتثال، وهو المراد هنا، وإلا فالرضخ في اللغة هو العطاء القليل، ولا يصح في هذا السياق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقويم المؤيد لعام 1323
هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر
بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار
إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له،
والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد
يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن
فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها،
وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب
من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل
طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق رحمه الله والباي
الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الأزهر: مشيخته وإدارته)
ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من
الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة
مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده
الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق
مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ
ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في
الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد
الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق
الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو
الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في
استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى
شيئًا.
أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة
ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ
محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم
البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على
الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد
ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم
ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل
الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال
الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد
الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه
مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء
هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن
الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها
كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله
أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه
لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل
الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره
بقرناء الخير والله على كل شيء قدير.
***
(غرض الحكومة الخديوية من الأزهر)
قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة
من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين.
ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال
المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة
لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة
الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع
الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في
كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه
المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور.
وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة
الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه
يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر
في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته،
ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في
التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة
خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر
الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي
الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل،
على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر
الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض
آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) .
***
(مقام الإفتاء)
جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل
داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا
يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل
الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في
إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ
حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى
لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة
ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية.
***
(المعرض الزراعي)
ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في
عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل
إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على
غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها
معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم
والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد
زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات
فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر
منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن
محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات
بهيئة وجهت إليها الأنظار.
تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج
الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح
سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة
بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشيخ عبد الباقي الأفغاني
(وفاته)
نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في
صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه
ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى
كان يقول:
(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي
نعيًا وترجمة:
فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل
النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من
غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون
على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من
هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،
ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين
متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من
سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة
علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.
(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،
والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.
(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات
للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا
المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون
هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد
من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو
أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا
واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة
فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء
هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان
منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.
ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا
هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا
انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما
يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم
الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.
كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،
فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن
زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر
مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.
نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في
غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس
هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في
البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض
البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب
إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو
القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا
مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.
مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان
يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي
أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين
وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان
لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.
_________