المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فاتحة السنة الثامنة - مجلة المنار - جـ ٨

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (8)

- ‌غرة المحرم - 1323ه

- ‌فاتحة السنة الثامنة

- ‌فتاوى المنار

- ‌رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌الأخبار والآراء

- ‌تقريظ المنار

- ‌16 المحرم - 1323ه

- ‌حياة الأمم وموتها

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌تقويم المؤيد لعام 1323

- ‌الأخبار والآراء

- ‌الشيخ عبد الباقي الأفغاني(وفاته)

- ‌غرة صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(1)

- ‌التحكيم بين الزوجين في الشقاق

- ‌(الأرض)دليل حركتها من القرآن

- ‌شهادة غير المسلم وخبره

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالدوغيرها من البدع

- ‌أحوال المغرب الأقصى

- ‌غرة ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(3)

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(4)

- ‌تزويج الشريفة بغير كفءوسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم

- ‌مصرف الهدايا والنذورلأضرحة الأولياء

- ‌تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن

- ‌رش القبر بالماء

- ‌شعر الرأسحلقة أو تركه

- ‌صلاة الظهر بعد الجمعةوالخلاف في الدين

- ‌التقريظ

- ‌رأي رجل عظيم في المسلمين والمناروترك الأستاذ الإمام للأزهر

- ‌صدى الحادثة في أورباأو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمامفي الإصلاح

- ‌الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد عليوالإيماء لانفصال مصر عن تركيا

- ‌غرة ربيع الثاني - 1323ه

- ‌ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

- ‌عذاب القبر

- ‌الحكمة في إنزال القرآن

- ‌استطراد في حفاظ القرآن بمصروحادثة جديدة

- ‌التقريظ

- ‌حضرموت واليمن

- ‌تنازع الدول في جزيرة العرب

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌استدراك

- ‌16 ربيع الثاني - 1323ه

- ‌الاتصال بين الآيات والسوروجمع القرآن

- ‌بلاد روسيا دار حرب أو إسلاموالروسيون كتابيون أم وثنيون

- ‌عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهموإن خالفت الحديث الصحيح

- ‌إيراد على ترك التقليد

- ‌خرافة في سبب تحريم الخمر

- ‌التقريظ

- ‌انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمرفي آل سعود

- ‌لائحة المساجد وما أنفذ منها

- ‌محاربة الوهم للعلمأو تأثير السعاية في الدولة العثمانية

- ‌حذر حكومة مدينة حلب من الثورة

- ‌الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الوفدان الفرنسي والألمانيفي بلاد العرب

- ‌جمعية العروة الوثقى الخيرية

- ‌غرة جمادى الأول - 1323ه

- ‌المسلمون والقبط [*]أو آية الموت وآية الحياة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تاريخ دول العرب والإسلام

- ‌كتاب زهر الربيعفي المعاني والبيان والبديع

- ‌الروزنامة التونسية

- ‌تذكار المهاجر

- ‌أنباء سوريا المزعجة- الدولة والرعية

- ‌نظرة في المبارزة

- ‌إصلاح الطرق الصوفية

- ‌مرض الأستاذ الإمام

- ‌اعتذار للقراء الكرام

- ‌إعذار بعد اعتذار

- ‌رأي غريب في عاقبة السُّكر

- ‌افتخار جريدتياللواء والعالم الإسلامي بالكذب

- ‌16 جمادى الأولى - 1323ه

- ‌مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(1)

- ‌غرة جمادى الآخر - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(2)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شكر واعتذار

- ‌16 جمادى الآخر - 1323ه

- ‌مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيمفي الأستاذ الإمام رضي الله عنه

- ‌المنار الإسلامي واللواء الوطني

- ‌مشروع بناء مسجد في باريس

- ‌غرة رجب - 1323ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المجلد الأول من كتابأشهر مشاهير الإسلام

- ‌تاريخ التمدن الإسلامي

- ‌مرشد الهداياتإلى واجبات الحلاقين والدايات

- ‌ديوان الرافعي

- ‌حقوق المرأة في الإسلام

- ‌كتاب الرسائل الزينبية

- ‌تبرج النساء في مصر

- ‌خنوثة الرجال وفسوقهم

- ‌الحداد والمآتم

- ‌16 رجب - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(4)

- ‌المصاب العظيمبوالدنا البر الرحيم

- ‌نعيه إلينا وتعزيتنا عنه

- ‌غرة شعبان - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(5)

- ‌تزويج الشريفة بغير شريفوفضل أهل البيت

- ‌ضمان البضاعةوسلع التجارة والسيكارتو

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌تأبين الأستاذ الإمام

- ‌كتاب تعزية من عالم إنكليزي

- ‌16 شعبان - 1323ه

- ‌مذهب السلفوطريقة الحنابلة في التأليف

- ‌إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاءومعاملتهم

- ‌لعن معاوية والترضي عنهوفيه حكم اللعن مطلقًا

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌تاريخ الأستاذ الإمام

- ‌شكر بعد شكر

- ‌غرة رمضان - 1323ه

- ‌نموذج آخرمن شرح عقيدة السفاريني

- ‌الحياة الزوجية(6)

- ‌أسئلة من سنغافوره

- ‌دعوى الرقيقةبعد موت السيد أنها أم ولد له

- ‌تفسير.. (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة)

- ‌أسئلة من الجزائر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البداوة من باب الآثار الأدبية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 رمضان - 1323ه

- ‌الدين في نظر العقل الصحيح(4)

- ‌(دعوة اليابان إلى الإسلام)

- ‌نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط

- ‌تاريخ الإصلاح في الأزهرأو أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تفسير الفاتحة ومُشْكِلات القرآن

- ‌إحصاء رسميلخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة

- ‌تبرج النساء وأنصار الحجاب

- ‌موعظة وعبرة في وفاة حرة

- ‌غرة شوال - 1323ه

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 شوال - 1323ه

- ‌الدينفي نظر العقل الصحيح(6)

- ‌روابط الجنسية والحياة المليةوفلسفة الاجتماع البشري

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ذو القعدة - 1323ه

- ‌الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شيخ الأزهروزينة الكسوة والمحمل،حكم الفرجة عليهما

- ‌16 ذو القعدة - 1323ه

- ‌تجارة الرقيقوأحكامه في الإسلام

- ‌أسئلة من دمياطتتعلق بقصة المولد النبوي

- ‌تعليم اللغات

- ‌مسلمو الصين والإسلام في اليابان

- ‌غرة ذو الحجة - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(5)

- ‌تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية

- ‌قصة المولد لدبيع

- ‌فائدة عظيمةفي بحث العمل بالحديث الضعيف

- ‌إزالة وهم

- ‌أبونا آدم ومذهب دارونمن باب الانتقاد على المنار

- ‌16 ذو الحجة - 1323ه

- ‌اشتراطالولي في النكاح

- ‌طعام أهل الكتاب ومجاملتهم

- ‌مسألة خلق أبينا آدم

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الثامنة

- ‌شرط الاشتراك في السنة التاسعة

- ‌كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار

الفصل: ‌فاتحة السنة الثامنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد

الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر

أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي

أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:

70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا

أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ

ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ

فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .

تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين

ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً

مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً

يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،

وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي

النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا

يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .

ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن

يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين

استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء

المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس

بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في

كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى

و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ

إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .

ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم

وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته

في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد

نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير

والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء

الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،

وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام

الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،

وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-

إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،

ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من

الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في

أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل

والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه

قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،

وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف

عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام

مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة

نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ

مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .

أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو

إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال

من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع

لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،

إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام

أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .

أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد

أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم

والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر

إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة

الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد

بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان

ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار

وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من

عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين

يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل

المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية

والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه

يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى

اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .

دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني

اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن

والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،

وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم

من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون

ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون

أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرًى

مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ

لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ

الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .

لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في

كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على

أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟

لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك

إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل

فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ

بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ

فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .

إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة

لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:

ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان

والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور

وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من

ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ

الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في

قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم

مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،

التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا

وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ

وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا

أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية

إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن

الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة

منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،

إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن

المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده

يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة

للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي

الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ

الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .

يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد

المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة

بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة

زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن

يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على

جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة

الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء

بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في

المخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن

دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)

وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض

غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس

وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في

قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا

{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .

وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب

القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا

الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه:(صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من

الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب.

ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.

ص: 1