المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌غرة ربيع الأول - 1323ه - مجلة المنار - جـ ٨

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (8)

- ‌غرة المحرم - 1323ه

- ‌فاتحة السنة الثامنة

- ‌فتاوى المنار

- ‌رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌الأخبار والآراء

- ‌تقريظ المنار

- ‌16 المحرم - 1323ه

- ‌حياة الأمم وموتها

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌تقويم المؤيد لعام 1323

- ‌الأخبار والآراء

- ‌الشيخ عبد الباقي الأفغاني(وفاته)

- ‌غرة صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(1)

- ‌التحكيم بين الزوجين في الشقاق

- ‌(الأرض)دليل حركتها من القرآن

- ‌شهادة غير المسلم وخبره

- ‌رأي عالم أزهري في العلماء

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 صفر - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(2)

- ‌فتاوى المنار

- ‌فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالدوغيرها من البدع

- ‌أحوال المغرب الأقصى

- ‌غرة ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(3)

- ‌فتاوى المنار

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 ربيع الأول - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(4)

- ‌تزويج الشريفة بغير كفءوسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم

- ‌مصرف الهدايا والنذورلأضرحة الأولياء

- ‌تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن

- ‌رش القبر بالماء

- ‌شعر الرأسحلقة أو تركه

- ‌صلاة الظهر بعد الجمعةوالخلاف في الدين

- ‌التقريظ

- ‌رأي رجل عظيم في المسلمين والمناروترك الأستاذ الإمام للأزهر

- ‌صدى الحادثة في أورباأو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمامفي الإصلاح

- ‌الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد عليوالإيماء لانفصال مصر عن تركيا

- ‌غرة ربيع الثاني - 1323ه

- ‌ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

- ‌عذاب القبر

- ‌الحكمة في إنزال القرآن

- ‌استطراد في حفاظ القرآن بمصروحادثة جديدة

- ‌التقريظ

- ‌حضرموت واليمن

- ‌تنازع الدول في جزيرة العرب

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌استدراك

- ‌16 ربيع الثاني - 1323ه

- ‌الاتصال بين الآيات والسوروجمع القرآن

- ‌بلاد روسيا دار حرب أو إسلاموالروسيون كتابيون أم وثنيون

- ‌عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهموإن خالفت الحديث الصحيح

- ‌إيراد على ترك التقليد

- ‌خرافة في سبب تحريم الخمر

- ‌التقريظ

- ‌انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمرفي آل سعود

- ‌لائحة المساجد وما أنفذ منها

- ‌محاربة الوهم للعلمأو تأثير السعاية في الدولة العثمانية

- ‌حذر حكومة مدينة حلب من الثورة

- ‌الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الوفدان الفرنسي والألمانيفي بلاد العرب

- ‌جمعية العروة الوثقى الخيرية

- ‌غرة جمادى الأول - 1323ه

- ‌المسلمون والقبط [*]أو آية الموت وآية الحياة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تاريخ دول العرب والإسلام

- ‌كتاب زهر الربيعفي المعاني والبيان والبديع

- ‌الروزنامة التونسية

- ‌تذكار المهاجر

- ‌أنباء سوريا المزعجة- الدولة والرعية

- ‌نظرة في المبارزة

- ‌إصلاح الطرق الصوفية

- ‌مرض الأستاذ الإمام

- ‌اعتذار للقراء الكرام

- ‌إعذار بعد اعتذار

- ‌رأي غريب في عاقبة السُّكر

- ‌افتخار جريدتياللواء والعالم الإسلامي بالكذب

- ‌16 جمادى الأولى - 1323ه

- ‌مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(1)

- ‌غرة جمادى الآخر - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(2)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شكر واعتذار

- ‌16 جمادى الآخر - 1323ه

- ‌مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيمفي الأستاذ الإمام رضي الله عنه

- ‌المنار الإسلامي واللواء الوطني

- ‌مشروع بناء مسجد في باريس

- ‌غرة رجب - 1323ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المجلد الأول من كتابأشهر مشاهير الإسلام

- ‌تاريخ التمدن الإسلامي

- ‌مرشد الهداياتإلى واجبات الحلاقين والدايات

- ‌ديوان الرافعي

- ‌حقوق المرأة في الإسلام

- ‌كتاب الرسائل الزينبية

- ‌تبرج النساء في مصر

- ‌خنوثة الرجال وفسوقهم

- ‌الحداد والمآتم

- ‌16 رجب - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(4)

- ‌المصاب العظيمبوالدنا البر الرحيم

- ‌نعيه إلينا وتعزيتنا عنه

- ‌غرة شعبان - 1323ه

- ‌الحياة الزوجية(5)

- ‌تزويج الشريفة بغير شريفوفضل أهل البيت

- ‌ضمان البضاعةوسلع التجارة والسيكارتو

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌تأبين الأستاذ الإمام

- ‌كتاب تعزية من عالم إنكليزي

- ‌16 شعبان - 1323ه

- ‌مذهب السلفوطريقة الحنابلة في التأليف

- ‌إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاءومعاملتهم

- ‌لعن معاوية والترضي عنهوفيه حكم اللعن مطلقًا

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌تاريخ الأستاذ الإمام

- ‌شكر بعد شكر

- ‌غرة رمضان - 1323ه

- ‌نموذج آخرمن شرح عقيدة السفاريني

- ‌الحياة الزوجية(6)

- ‌أسئلة من سنغافوره

- ‌دعوى الرقيقةبعد موت السيد أنها أم ولد له

- ‌تفسير.. (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة)

- ‌أسئلة من الجزائر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البداوة من باب الآثار الأدبية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 رمضان - 1323ه

- ‌الدين في نظر العقل الصحيح(4)

- ‌(دعوة اليابان إلى الإسلام)

- ‌نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط

- ‌تاريخ الإصلاح في الأزهرأو أعمال مجلس إدارة الأزهر

- ‌تفسير الفاتحة ومُشْكِلات القرآن

- ‌إحصاء رسميلخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة

- ‌تبرج النساء وأنصار الحجاب

- ‌موعظة وعبرة في وفاة حرة

- ‌غرة شوال - 1323ه

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 شوال - 1323ه

- ‌الدينفي نظر العقل الصحيح(6)

- ‌روابط الجنسية والحياة المليةوفلسفة الاجتماع البشري

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ذو القعدة - 1323ه

- ‌الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية

- ‌تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌شيخ الأزهروزينة الكسوة والمحمل،حكم الفرجة عليهما

- ‌16 ذو القعدة - 1323ه

- ‌تجارة الرقيقوأحكامه في الإسلام

- ‌أسئلة من دمياطتتعلق بقصة المولد النبوي

- ‌تعليم اللغات

- ‌مسلمو الصين والإسلام في اليابان

- ‌غرة ذو الحجة - 1323ه

- ‌ملخص سيرة الأستاذ الإمام(5)

- ‌تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية

- ‌قصة المولد لدبيع

- ‌فائدة عظيمةفي بحث العمل بالحديث الضعيف

- ‌إزالة وهم

- ‌أبونا آدم ومذهب دارونمن باب الانتقاد على المنار

- ‌16 ذو الحجة - 1323ه

- ‌اشتراطالولي في النكاح

- ‌طعام أهل الكتاب ومجاملتهم

- ‌مسألة خلق أبينا آدم

- ‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسيرابن جرير الطبري

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الثامنة

- ‌شرط الاشتراك في السنة التاسعة

- ‌كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار

الفصل: ‌غرة ربيع الأول - 1323ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد

الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر

أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي

أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس:

70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا

أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ

ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ

فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) .

تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين

ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً

مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً

يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين،

وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي

النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا

يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) .

ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن

يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين

استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء

المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس

بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في

كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى

و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ

إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ

يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا

كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) .

ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم

وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته

في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد

نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير

والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء

الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن،

وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام

الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال،

وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان-

إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ

مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) .

وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين،

ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من

الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في

أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل

والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه

قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة،

وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف

عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام

مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة

نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ

مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) .

أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو

إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال

من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع

لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس،

إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام

أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) .

أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد

أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم

والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر

إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة

الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد

بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان

ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار

وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من

عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين

يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل

المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية

والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه

يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى

اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) .

دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني

اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن

والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل،

وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم

من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون

ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون

أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرًى

مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ

لَاّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ

الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .

لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في

كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على

أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟

لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك

إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل

فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ

بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ

فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) .

إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة

لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول:

ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان

والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور

وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من

ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ

الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في

قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم

مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير،

التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا

وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ

وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا

أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية

إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن

الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة

منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد،

إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن

المخلص في عمله يفيده ظهور خطئه، كما يفيده ظهور صوابه؛ لأن كلاً منهما يزيده

يقينًا فيما يرغب فيه عنه، إن الله تعالى وعد بنصر مَن ينصر الدين، وجعل العاقبة

للمتقين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي

الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ

الأُمُورِ} (الحج: 40-41) .

يقولون: إن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح الديني ضعيف، وإن عدد

المعتقدين بوجوب اتباع السلف قليل، وإن الدعوة هنا إلى الرابطة الملية معارَضة

بالدعوة إلى الوطنية، ونقول: (إن كل إصلاح في الكون بدأ بضعف وانتهى بقوة

زلزلت جميع المعارضين) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) وما بلغو به أحداث العصر من وجوب مقاومة مَن

يهاجر إلى مصر، فهو مخالف لسنة الكون في الأمم الحية وتعوز نجاحه القدرة على

جميع العناصر الأجنبية، وأما دعوتنا هذه الإسلامية فهي هي التي تأتي بالنهضة

الوطنية؛ لأنها تهدم التقاليد التي فرقت بين الناس، وألقت العداوة والبغضاء

بين أهل الملل والمذاهب والأجناس، فكما تذكِّر المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ

أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) تذكرهم أيضًا بقوله في

المخالفين {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن

دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8)

وجملة القول: إن دعوتنا هذه دعوة عامة معروضة في صحيفتنا، كما يعرض

غيرها من الدعوات السياسية والأدبية، وفي اعتقادنا أنها خير دعوة ألقيت للناس

وإن من أُسسها البُعد عن مثارات الخلاف والشقاق، ونُشهد الله تعالى أنه ليس في

قلبنا حرج على أحد من الناس، وقد صفحنا عمن ظلمنا، وعفونا عمن اعتدى علينا

{وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) .

وإننا نحمد الله ونشكره أن أعطانا فوق ما كنا نرجو، ثم نشكر أصحاب

القلوب الطاهرة والأفكار النيرة الذين تنتشر بهم الدعوة وتنمو، {فَبِشِّرْ عِبَادِ *

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا

الأَلْبَاب ِ} (الزمر: 17-18) .

...

...

...

... منشئ المنار ومحرره

...

...

...

... محمد رشيد رضا

_________

(*) هذه العبارة لجريدة المؤيد من تقريظها للمنار، وقد رأينا أن ننشر ذلك التقريظ هنا؛ لأنه في معنى هذه الفاتحة، وقد نُشر في العدد " 3637 " من المؤيد الأغر الصادر في 19 المحرم سنة 1320 ونصه:(صدر العدد الأول للسنة الخامسة من مجلة (المنار) الغراء وهي المجلة العلمية الدينية التهذيبية الإسلامية الوحيدة في القطر المصري لحضرة صاحبها السيد محمد رشيد رضا الطرابلسي وقد قضى حضرته أربع سنوات يُصدر هذه المجلة مثابرًا على الخدمة الملية الصحيحة، محاربًا البدع المضللة، بالحكم المدللة، والهوى بالعقل، والأوهام الغاشيات على الأفهام، بالآيات البينات من

الكلام، يعمل للإصلاح الديني جهد المستطيع، وهو - والحق يقال - مستطيع فيما يجهد به نفسه يبارز المبتدعين غير هياب، ويعتمد في أبحاثه غالبًا على الحق الغالب من مفاهيم السنة والكتاب.

ولذلك كان كلامه مرًّا على أذواق الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله، يشتد كلما اعتقد الحق في جانبه وفي اعتقادنا أنه لو كان أخف أسلوبًا في الوطأة؛ وألين جانبًا في المقال، من حيث لا يحيد يمنة أو يسرة عن خطته الحالية، ولا يضيع شيئًا من غرضه الذي يسعى إليه - لكان (المنار) أضعاف ما هو اليوم انتشارًا وأكثر فائدة، وأعم عائدة، وكل مسلم يشعر بحاجة الإصلاح الديني للأمة المحمدية يتمنى من صميم فؤاده أن يكون لكل قطر من الأقطار الإسلامية منار مثل هذا (المنار) له من الانتشار أضعاف ما لهذا من الظهور والانتشار، وفق الله صاحبه الفاضل دائمًا إلى طريق السداد، وأنجح عمله دائبًا بالتوفيق والرشاد، آمين) اهـ.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها

(س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن

عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو:

الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة

الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي

الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة،

أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا

الحديث الشريف؟

(ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي

هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد

على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء

هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه:(يشرِّكانه)

بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ

لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ

أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث،

وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا

ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً:

إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة

مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن

الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في

طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه

على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم

تقليدًا أعمى.

ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل

ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله

اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله

عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات!

وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا

أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة

ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير

بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة

قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن

أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى

المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة.

أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس

أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف

الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته

لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛

ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره

وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل

عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية،

كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على

الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما

أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس.

والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار

الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل

لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير

من هذا الجزء شيء من ذلك.

ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق

مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم

وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى

باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ

آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14)، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ

وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في

هذا الجزء.

فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله

تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية

حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة

كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به

على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر

عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو

شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس

الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه -

على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة،

فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا

بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب

القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل

شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما

أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه

بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما

يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم

مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ

ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن

طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين

استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا.

فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه

وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من

الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق

والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه

أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا

(الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله

أعلم.

***

اختلاف المذاهب في الأحكام

وشهادة أوربي للإسلام

(س2) ح. ح. في الجبل الأسود:

فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل

التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين

الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي

الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم،

ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف

لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض

وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند

الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت

لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب.

(ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي

لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛

إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛

ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له

صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد:

إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو

الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة

الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد

المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا

بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات

الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل

فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في

آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) .

أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون

بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى

السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء

من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى

أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها

آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن

الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي

يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم

- وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه

وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما

إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم.

***

نتف ريش الطائر

(س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في

شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل

الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف

ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت

هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في

تنظيفه؟

(ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا

يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب

الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من

غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر

تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل،

فينبغي تنبيههم له.

***

الصيد بالبندق والرَّصَاص

(س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون وقت

الطلق، ولكن بعض الصيد ينزل حيًّا والبعض ميتًا؛ وما كان حيًّا بعضه به حياة

مستقرة، والبعض ليس به هذه الحياة، والصياد يذبح الجميع، وربما توانى بالتذكية

عن بعض ما فيه الحياة، فلا يدركه إلا وقد فارقته، فهل يجوز أكل هذا وهل ذكاة

فاقد الحياة واجبة؟ والمصيبة الكبرى أن كثيرًا من البيوت - بل عامتهم - يضعون

هذه الطيور، وكل أنواع الدجاج في ماء مغلي لسهولة نتف الريش قبل استخراج ما

في بطنها، وربما أوقدوا نارًا تحت هذا الماء، وهي فيه، فما حكم الله في هذا معلنًا

في المنار، للاسترشاد به شدّ الله به أواصر الدين؟

(ج) قد اختلف المشتغلون بالفقه في حِلّ صيد بندق الرصاص بعد وجوده

فحرمه بعضهم لأنه مثقل فهو بمعنى الوقذ، وأحله آخرون وجعلوه بمعنى الصيد

بالسهام وألف ابن عابدين رسالة في حله، وكذلك أحد مشايخ الإسلام في تونس.

وهو الذي أراه أقوى، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الصيد بالمِعراض،

وهو عصا في رأسها حديدة، أو سهم لا نصل له ولا ريش إذا خزق أي خدش،

وإن أدرك الصيد ميتًا، والحديث في الصحيحين والرصاص والبندق أشد خزقًا

وأسرع قتلاً، وإنما حرم الوقذ؛ لأنه تعذيب (راجع مقالات التذكية والموقوذة في

المجلد السادس) ولا حاجة لذبح الصيد الذي يرمى فيدرك ميتًا، أو يأتي به الكلب

ونحوه ميتًا بشرطه؛ لأن ذلك تذكية له بلا خلاف، وإذا جاز الصيد بالبندق

والرصاص فهو كذلك.

***

الجبر والقدر

(س5) ومنه: طالما يخطر في بالي ويتردد في فكري قول القائل:

ما حيلة العبد والأقدار جارية

عليه في كل حال أيها الرائي

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له

إياك إياك أن تبتل بالماء

ولا أجد منه مُخَلِّصًا أو أقف على مسلك فلجأت لساحتكم مسترشدًا جعلكم الله ركنا

ركينًا للمسلمين.

(ج) هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى فإنه اكتفى بما في خياله عما

تحت نظره، إذ يرى العبد يحتال وهو يسأل ما حيلته والأقدار هي التي جعلته

يحتال ويعمل كما هو مشاهد، ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليمّ، ومنهم

من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان بأن يلقى في اليم مكتوفًا لكانوا

كلهم سواء وما هم بسواء. وظاهر إنه يريد بالإلقاء في اليمّ الحال السيئة التي يقع

الإنسان فيها ولا يجد له مفرًّا منها وليس كل الناس كذلك. والمسألة عقدتها كثرة

الكلام والتخيلات فيها، وهي بديهية لمن فهم معنى الإنسان، وسنن الأكوان، ومن

شدة الظهور الخفاء؛ فإن القدر والتقدير والمقدار الواردة في الكتاب والسنة معناها

ظاهر، وهو أن كل شيء يجري في العالم فهو يجري بسنن ونواميس ومقادير معينة

ثابتة. وهذا هو الذي يزيل الحيرة ويهدي الإنسان إلى كسب المنافع واجتناب

المضارّ، ولو كانت الأشياء تجري بغير تقدير ولا حساب لكان الإنسان الذي خلق

عالمًا متفكرًا في حيرة دائمة؛ لأنه لا يعرف طريقًا لشيء من مصالحه. وهذا أسهل

حل لمسألة القدر وأقربه وأخصره، ومن زاد عليه البحث في كيفية الخلق والتكوين

فهو من المجانين.

_________

ص: 18

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

البحث الثالث

في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله

اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف

الرحيم، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:

كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا

على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي

الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ

قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات

ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،

وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا

يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول:

(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف

ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام

رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ

وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس رضي الله عنه: (ما منا

إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى

الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -

جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب

والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره.

ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم

فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه.

وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى

ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9)، ثم قال: {فَإِذَا

قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً

لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد

انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم

يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه

قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب

ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل

على ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله

عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه

إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان

بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد)

رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن

المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله

ابن بر المازني صاحب النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة خرج فدار

في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي

شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هكذا

صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق

بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار

مطلق غير مقيد.

وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك

ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول

بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه

وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها.

هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة

الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا

عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها

لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما

هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد

في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي -

صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل

منكم بذلك والمسألتان سواء [*] .

فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة

وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها

سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد

روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك

الشعراني في (كشف الغمة) .

وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من

الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] :

عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا

يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر

رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا

وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي

رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فانفض الناس إلا

اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا

إلخ) رواه أحمد والبخاري،

فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا

يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن

النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير

صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم

بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل

أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم

يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد

الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] .

ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم

الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد

الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم

يثبت ذلك وهاك النصوص:

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم

رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن

ماجه وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون)

رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن

الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل

للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي

وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم

الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما

ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .

فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل

إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس،

وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار

الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن

كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن

شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو

امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر

المسافر) .

وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث

النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه

المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى

ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير

بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب

صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح

للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ

وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول

عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من

كان محبًا للحقيقة منهم.

قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة

الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو

نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره

بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك

والخير في الاتباع والشر في الابتداع.

(الخلاصة)

اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن

الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا

مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على

التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه

بدقة وإنصاف، والله أعلم.

هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب،

فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة

الساطعة، والبراهين الناصعة، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء، فبدت وضّاحة

الجبين، غَرَّاء الطلعة، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، فاجعلها اللهم

خالصة لوجهك الكريم.

_________

(*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت. اهـ منه.

(1)

اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم.

(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا

الخطبة فهي سنة فقط؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة)، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال:(أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ، قال أربعون رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم صحتها، بأقل من العدد المذكور؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم، ولذا قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا رضي الله عنه (والظاهر أن العدد المذكور ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك اختلفت مذاهب العلماء في العدد، فذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن الجمعة تصح من الواحد وذهب إبراهيم النخعي، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين، وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري رضي الله عنهما إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث.

ص: 24

الكاتب: محمد الخضري

‌انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير

ابن جرير الطبري

تابع لما قبله

(73)

تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي

لوى يده الله الذي هو غالبه

ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149

وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا

والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة.

(74)

وإن مهاجرين تكنفاه

لعمر الله قد خطيا وحابا

ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا:

وإن مهاجرين تكنفا غدا

بيد لقد خطئا وخابا

وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا:

وإن مهاجرين تكيفاه غدا

بيد لقد خطئا وخابا

(75)

رمى فأخطأ والأقدار غالبة

فانصعن والويل هجيراه والحرب

في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب

فانصعن.

(76)

فلم أر معشرًا أسروا هديا

ولم أر جار بيت بستباء

في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) .

(77)

أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة

لدينا ولا مقلية إن تقلت

ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا:

أسيئي بنا أو أحسني

لاملولة ولا معلنة أن تعلني

(78)

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا:

وليلة ذات دجى سريت

ولم يردني عن سراها ليت

وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا.

(79)

كأن لها في الأرض نسيًا تقصه

على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ

في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا:

..................

إذا ما غدت وإن تحدث تبلت

والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر

(80)

سلام الإله وريحانه

ورحمته وسماء دِرَر

في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا:

سلام الله وريحانه

وجته وسمادرته 7

وبعد البيت:

غمام ينزل رزق العباد

فأحيا البلاد وطاب الشجر

(81)

يا حبذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النساج

في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا:

ياحبذا القمر والليل ساج

وطرق مثل ملا النساج

(82)

وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة

ولكن عرايا في السنين الجوائح

في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا.

(83)

فهممت أن أغشى إليها محجرا

فلمثلها يغشى إليه المحجر

في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت:

ذهبت بعقلك ريطة مطوية

وهي التي يهدى بها لو تنشر

(84)

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا

والعصم من شعف العقول القادر

ورد في موضعين:

(1)

في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا:

................

والعصم من سعف العقول الفادر

(2)

في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول.

(85)

هنالك لا أرجو حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر

في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط.

(86)

وإن كلابًا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر

في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل

المعنى والوزن.

(87)

وظلت بأعراف تعالت كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا:

مسبِّبة قُب البطون كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا:

وأضحت تغالي بالستار كأنها

رماح نحاها وجهة الريح راكز

وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها.

والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو:

وظلت بأعراف كأن عيونها

إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز

(88)

لقد مريتكم لو أن ردتكم

يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي

في الخامس ص 72 وكتب هكذا:

وقد نظرتكم لو إن درتكم

يومًا بحي به مسحي وأساسي

(89)

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام إلا تلك الدهاريس

ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك

(إلا ملك) .

(90)

مالك ترغين ولا ترغوا الخلف

وتضجرين والمطي معترف

في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا:

مالك ترعين ولا ترعوا الخلف

(91)

ناجٍ طواه الأين مما وجفا

طيّ الليالي زلفًا فزلفا

... سماوة الهلال حتى أحقوقفا

والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) .

(92)

إن سميرًا أرى عشيرته

قد حدبوا دونه وقد أنفوا

إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا

في الرابع ص23 وكتبا هكذا:

إن سميرًا أرى عشيرته قد

حدثوا دونه وقد أبقوا

إن يكن الظن صادقي ببني

النجار لم يطعمو الذي علقوا

والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي.

(93)

تخوف السير منها تامكًا قردًا

كما تخوف عود النبعة السفن

ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط.

(94)

تنشطته كل مغلاة الوهق

مضبورة قرواء هرجاب فُنُق

ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد

الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء:

الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب

كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية

الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله:

وقائم الأعماق خاوي المخترق

(95)

حسبت بغام راحلتي عناقًا

وما هي ويب غيرك بالعناق

فلو أني رميتك من قريب

لعاقك عن دعاء الذئب عاق

ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني

ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي:

نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب

عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا:

ولو أني رميتك من بعيد

(96)

لئن حللت بجوّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد.

(97)

أقول له والرمح يأطر متنه

تأمل خفافًا إنني أناذلكا

ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل

تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر

فصارت هكذا ياطر.

(98)

طمحت بنظرة فرأيت منها

تحيت الخدر واضعة القرام

ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا:

تحينت الحذر ناصعة القوام

وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة.

(99)

وحليل غانية تركت مجدلاً

تمكو فريصته كشدق الأعلم

من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة.

(100)

عرفت المنتأى وعرفت منها

مطايا القدر كالحدا الجثوم

ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا:

عرفت الصبا وعرفت منها

مطايا العذر كالحدا الجثوم

(101)

عهدي به شد النهار كأنما

خضب البنان ورأسه بالعظلم

من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا:

خضب اللبان رأسه بالعظلم

(102)

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا:

رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع

ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في

الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى

بعض.

(103)

مأويّ ياربتما غارة

شعواء كاللذعة بالميسم

ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا:

ياربتما غارة شعواء

كاللذاعة بالميسم

(104)

حواء قرحاء أشراطية وكفت

فيها الذهاب وحفتها البراعيم

ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا:

حوى فرحًا سراطيه وكفت

فيها الذّهاب وحفتها البراعيم

(105)

تقول إذ درأت لها وضبني

أهذا دينه أبدًا وديني

ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا

أقول وقد درأت لها وضني

وهذا دينه أبدا وديني

(106)

مهلاً بني عمنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا.

(107)

إن شرخ لشاب والشعر

الأسود لم يعاصَ كان جنونا

ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط

لا معنى له.

(108)

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرجل الحزين

ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى

والوزن.

(109)

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

...

...

خيرًا بها كأننا جافونا

وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من

تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا:

ومن أي دهماء إذ توصينا 7

خيرًا بها كأنهم خافونا

ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ والانتقاد

(خواطر الخواطر)

مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان

يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة

وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات

بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر

بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع

معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات

في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار

الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش

صحيحة.

***

(طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر)

كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية

السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من

العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة

اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على

ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم

والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا

العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني

كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري

ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب

لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء

وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في

مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش

عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر)

فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما

هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا

قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) .

ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن

(والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة

تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في

هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم

وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت

ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا

فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم

عليهم أكثر.

الجرائد والجامعة الإسلامية:

وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية

إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء

بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) .

أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة

الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها

المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو

مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد

دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت

أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها

جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن

بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين.

وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي

تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل

تجتمع معها.

سوريا والحجاز والسياسة:

وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه

السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن

سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا.

ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل

عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك)

المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول

من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا

حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش

في البحر.

وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها

وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل

الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله.

***

(كمال بلاغة العربية)

في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية،

أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته،

وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء

والمحبوب) .

والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع

مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة

بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية.

***

(الرياض)

صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي

في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها

خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر

عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها.

***

(التربية)

مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من

8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة

فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية

وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه:

البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة

من زهرة.

لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع

الشريط في الخل قبل استعماله.

ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء

واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه.

***

(جريدة العجائب)

أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه

بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها

على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من

الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم.

***

(ديوان أبي تمام الطائي)

لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير

مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن

محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة

المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت

والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في

500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية

صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل

هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت،

وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.

_________

ص: 35

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(سنتنا الجديدة)

نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا

مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين

السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح

يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير.

***

(شرط الاشتراك في المنار)

المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك

فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل

الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء

السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار

كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد

موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض

الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن

وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة

وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة

كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع

العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم

أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم.

***

(فهرس المنار أو فهارسه)

جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم

توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا

لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره

مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المنار

جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء

والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله:

لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث

السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت

بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل

من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت

إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون.

سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار

بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك

الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم

بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن

عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم

الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه

الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في

الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى.

وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في

الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم

فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه

(الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات،

ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن

نكون من الشاكرين.

...

...

...

...

(سوري شمالي)

_________

ص: 40

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حياة الأمم وموتها

إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط

ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف

على الأخرى.

يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع

العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة

النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة

بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه

أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في

أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من

جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل

عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله.

الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء

للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها

وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج

إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من

الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود.

قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛

فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً

وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا

أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي

يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول

يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في

كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا

مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر

الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة

حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل

شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من

سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة

ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا

يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها

الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين،

والأخرى في أسفل سافلين.

يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب

التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه

يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم

يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا

يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو

ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،

والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه

الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو،

وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر

ويذل.

ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين

المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما

هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع

وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن

اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع

العدد الكثير.

ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة

صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من

تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا

بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين

وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها

ومخازي فاقديها.

التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في

الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل،

ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو

الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي

الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم

وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على

كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير

ثروة الكاسب إلى الكمال.

لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة

الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه

أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه

الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا

إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد،

وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر

والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على

المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد

وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال.

روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل،

فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير

إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة

للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب،

وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي

تفسد.

كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من

النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل،

والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك

أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى

إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية،

وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية.

تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا

تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر

على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت

أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها

أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة

الضلال فهلكت.

إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ

الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه

أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة

المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين،

ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة

سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره

وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره،

والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور

الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب

الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به،

وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير

ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى

تبقي حثالة بهم تبسل الأمة.

لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت

هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة

كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة

كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة

المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل

في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي

تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني،

على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء

ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن

السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي

يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية.

ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح

يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي

من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار،

وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية

والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.

_________

ص: 67

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي عالم أزهري في العلماء

وحالهم في مصر

وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى

مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في

درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على

اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا

بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا

يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء

الأوربيين)

إلخ.

وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون

العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك

وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور

الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني

عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة

في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها.

ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس

الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي

في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه:

(ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا

التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن

يعود على الأمة منه فائدة تذكر) .

(على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم

لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام)

إلخ.

ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن

هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من

النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها

إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ.

ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا

الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك

حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك

ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية

والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) .

ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة

السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على

تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها،

بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور

الدنيئة)

إلخ.

وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى

بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا

من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة،

تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات

الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم

ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم

تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين

والشواهد على ذلك كثيرة) .

إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في

وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن

في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة

الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي

أن يصرح بذلك هنا.

ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما

(ص 33) :

(أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن

سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ

والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا،

حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم

وأولهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء

والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من

يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل

الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس

هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر

إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من

يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا

كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل

إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى

أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار.

ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله

ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية

وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى

أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس

كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا

كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل،

وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت

تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى

على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير

من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله

الآن. اهـ.

ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم

القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى.

ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر

من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز

والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك

بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم

وقال في (ص42) :

(لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب

التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس

في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه

الطبع السليم) اهـ.

ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن

يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم

قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على

ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر

الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم

واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا

يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع

عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على

معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية

بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

العامة تستعمل الرضوخ بمعنى الخضوع والامتثال، وهو المراد هنا، وإلا فالرضخ في اللغة هو العطاء القليل، ولا يصح في هذا السياق.

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقويم المؤيد لعام 1323

هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر

بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار

إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له،

والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد

يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن

فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها،

وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب

من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل

طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق رحمه الله والباي

الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(الأزهر: مشيخته وإدارته)

ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من

الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة

مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده

الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق

مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ

ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في

الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد

الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق

الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو

الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في

استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى

شيئًا.

أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة

ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ

محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم

البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على

الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد

ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم

ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل

الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال

الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد

الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه

مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء

هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن

الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها

كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله

أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه

لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل

الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره

بقرناء الخير والله على كل شيء قدير.

***

(غرض الحكومة الخديوية من الأزهر)

قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة

من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين.

ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال

المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة

لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة

الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع

الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في

كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه

المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور.

وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة

الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه

يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر

في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته،

ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في

التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة

خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر

الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي

الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل،

على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر

الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض

آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) .

***

(مقام الإفتاء)

جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل

داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا

يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل

الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في

إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ

حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى

لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة

ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية.

***

(المعرض الزراعي)

ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في

عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل

إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على

غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها

معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم

والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد

زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات

فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر

منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن

محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات

بهيئة وجهت إليها الأنظار.

تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج

الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح

سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة

بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.

_________

ص: 76

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشيخ عبد الباقي الأفغاني

(وفاته)

نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في

صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه

ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى

كان يقول:

(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي

نعيًا وترجمة:

فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل

النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من

غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون

على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من

هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،

ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين

متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من

سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة

علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.

(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،

والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.

(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات

للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا

المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون

هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد

من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو

أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا

واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة

فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء

هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان

منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.

ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا

هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا

انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما

يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم

الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.

كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،

فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن

زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر

مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.

نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في

غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس

هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في

البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض

البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب

إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو

القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا

مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.

مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان

يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي

أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين

وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان

لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.

_________

ص: 79

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(1)

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً

وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) .

{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:28) .

الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع

فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية

تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة

واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم

بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده

لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم

مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) .

هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها

العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها

الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا

يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة

والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل

في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع.

الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس

الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب

الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما

وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين

اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس

به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما

حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي

التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى

ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو

عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن

الإحساس بالحاجة إلى التعاون.

لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري،

فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى

الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى

ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا

معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم

والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها

وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم

أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن.

يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها

وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك،

فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته

إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من

سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا

للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل

من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل

المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة

إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو

الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما

يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما

تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل

وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين.

والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية

على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها

الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا

رصينًا.

إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة

من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع

والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي

للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا

المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن

من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو

إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة

بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من

الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على

المصالح حتى تبلغ المدى؟

معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق،

والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت

الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية.

لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع

العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من

الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى

وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل

من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير

على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن

فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى.

إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه

عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل

على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا

العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد،

ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف

أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي

الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما

صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية

ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان

من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما.

ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت

مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛

إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها.

حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال

وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها

سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد

بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين

وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه

الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي

واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون

الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون

حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال

معناها.

يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما

يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف:

189) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى

جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في

بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو

أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا،

ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود

الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في

حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر،

راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن

هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في

هذه الحياة.

والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما

كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة

في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف

باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار،

واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل

البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة،

وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛

التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي

بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد

الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها

وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم

هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى

الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر

مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون

من ورائه.

***

اختيار الزوج:

جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في

الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل

في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن

النفس لا تسكن وترتاح لمن يباينها في صفاتها ويخالفها في عاداتها. ولكن الناس

قلما يجرون على المصلحة الحقيقية في أعمالهم الاختيارية؛ لأن اللذة عندهم ليس

لها حدود طبيعية يقفون عندها وإنما تعرف الحدود بالشرع والعقل، والشرع يؤخذ

بالتعلُّم والاقتداء، والعقل ينمو بالتجارب والاختبار؛ لذلك تختلف الحدود في

نظر الأفراد وترى بعض الناس يبني اختياره على الهوى والميل إلى الجمال،

وبعضهم يُحكِّم المصلحة ويجعل مناطها الجاه والمال، فالأصل في اختيار المرأة عند

الأمم الجاهلة الفاسدة الأخلاق، هو الحسن والجمال اتباعًا لهوى النفس المستلذ، أو

الثروة والجاه إيثارًا للمصلحة الموهومة.

أكثر ما يقع التخير بالحسن أو الاستحسان من طائفتين: (أولاهما) الشبان

الأغرار الذين يتوهمون أن عاطفة الهوى لمن رأى أحدهم فاستحسن وأحب تدوم، فإذا

هو اقترن بمن أحب كان له نشوة سرور دائمة؛ فيعيش مغبوطًا ناعم البال قرير

العين يرى الملك ملكه، والزمان غلامه، وهيهات ما يتوهم، ولكن أنى له أن يفهم

ذلك وهو محكوم بشعوره ووجدانه، تعبث به الخواطر وتقوده الأماني التي يوليها عليه

ذلك الشعور، ثم أنى له أن يعرف سيرة الناس الذين سبقوه في تحكيم الهوى واتباع

لمحات العيون، وطاعة هواجس النفوس؛ فتزوجوا بمن استحسنوا ولم يلبث أن

تحوَّل الاستحسان استقباحًا، والحب العارض مقتًا وبغضًا.

الحسن والجمال من الأعراض التي يسرع إليها الزوال، ثم إن سلطانهما على

القلب الواحد لا يدوم، أو لا يطول إلا إذا صار عشقًا خياليًّا؛ يخطف القلب

من عالم الحسن ويزج به في عالم الخيال، وهذا الضرب من العشق لا يكون مع

ملك الاستمتاع بالمحبوب. على أن هوى الأغرار لا يتقد بالحسن الرائع، والجمال

البارع، قل لهؤلاء الأغرار ليست تلك العاطفية الرقيقة التي وجدتم عند إرسال

الطرْف إلى الوجه الذي استملحتم، هي أثرًا طبيعيًّا لشيء ثابت في ذلك الوجه؛

فتقولوا: إن العلة تلازم المعلول، بل هي شيء كامن في النفس تحركه وتهزه في

أحد الصنفين رؤية الآخر في صورة تعجب، وقد يضعف ذلك الشيء في وقت

ما، وقد تمل الصورة المحركة له، أو تعرض للعين صورة أخرى فتبطل حركتها

وتنسخ آيتها، فالاعتماد في هناء العيش وسعادة الزوجية على الاستملاح الاستحسان

الذي تحدثه النظرة العَجْلَى اعتماد على ركن غير شديد.

والطائفة الثانية: هي طائفة المترفين الذين لا هَمَّ لهم إلا الاستمتاع والتنقل في

الشهوات واللذات، وهم أعرق في البهيمية من الطائفة الأولى؛ لأن الشاب الغر

يكتفي في اختيار الزوج بملحة طرفه، وخفقة قلبه، دون الوقوف على أخلاق من

أعجب بصورتها، وخفق قلبه عند رؤيتها، ولا على سيرتها وسيرة أهلها وعشيرتها

لتعرف المنبت والنبات. قد يتفق أن تكون الفتاة التي اختارها مشاكلة له في طبعه

قريبة منه في أخلاقه وعاده؛ فيعيش معها عيشة راضية، وتسكن نفس كل منهما

إلى الآخر ويقيمان بإقامة هذا الركن الأول ركني الزوجية الآخرين - المودة

والرحمة - بحسب حالهما وطبقتهما في الأمة.

وأما المترفون الذواقون من الأمراء، وأهل الثراء، ومن تسري إليهم سمومهم

ممن دونهم، فهم أشقى الناس في بيوتهم، وما أشقى نساءهم بهم؛ ذلك أن أحدهم لا

يلبث أن يمل من تزوج بها لحسنها، أو يستهويه حسن آخر؛ فيهوي إليه وهكذا

يتبع مواقع الحسن الجديد؛ ويوغل في المحرمات فلا يكون زوجًا حقيقيًّا للأولى ولا

لغيرها، وإنما هو شقي بشهوته ومُشْقٍ لمن يتصل به؛ فإن المرأة عنده إما أن تفسد

كفساده؛ فتكون من الذواقات؛ وما أسهل ذلك على ذات الجمال البارع التي قلما

يسلم مثلها مع تطلع الفساق المترفين إليها وافتتانها هي بنفسها، وإما أن تعيش في

نكد، وتظل في كبد، وكلا الأمرين شقاء للبيوت وشقاء للأمة. فهذا إجمال يكشف

للمتفكر عن وجه الخطأ في جعل استحسان الصورة والإعجاب بالجسم أصلاً لتخير

المرأة زوجًا، وأمَّا جعله أصلاً لتخير المرأة للرجل، فذاك مما لا حاجة إلى بيان فساده

وخطأ الذاهب إليه.

يقول قائلون: (إن النظر رسول القلب، وإن الاستحسان علة الحب، والحب

هو علة ذلك السكون الذي هو ركن السعادة وسر حقيقة الزوجية) فإن لم يكن

عينه فهو علة له أو أثر من آثاره، فما بالك تطلق القول في تخطئة من يُحكِّم

استحسان الصورة، وميل القلب في الاختيار؛ كأنك تؤيد عادة مسلمي المدن الذين

يتزوجون غالبًا على السماع، غافلاً عما يتبع هذه العادة من التنافر بين الزوجين

لأول وهلة، وما يُرزآن به من الخصام والجفوة. ونقول: إننا قد بينَّا أن استحسان

الصورة، وميل القلب إلى ما يرضي العين مما لا بقاء له ولا ثبات لِمَا يُبنى عليه،

وإنما البقاء والثبات للحب الذي علته تعارف الأرواح، ومشاكلة الطباع، ولا ننكر

مع هذا أن حسن الصورة، وجمال الخلقة له أثر عظيم في نفوس عشاق المعاني؛

ربما يفوق أثره في نفوس عشاق الصور، ولكنه عندهم في الدرجة الثانية، بل

يقرب في ذوقهم من المحسنات العارضة كالثياب والحُلي؛ فإن سليم الطبع لا تسكن

نفسه إلى دوام معاشرة رث الثياب وسخها، ويأنف طبعه من الطعام الطيب في

الإناء الخبيث. وإن من الناس من تشمئز نفسه وتنفر من بعض العيوب الخلقية؛

فإذا هي فاجأته في وجه من اختير له زوجًا يلابسه ويمازجه حتى يتحد معه أتم اتحاد؛

يوشك أن تنكمش نفسه انكماشًا يتعذر معه الالتحام والالتئام، لذلك كان من السنة

في الإسلام أن لا يتزوج المرء إلا بعد الرؤية، وما جرى عليه المسلمون في أكثر

المدن أو جميعها مخالف للفطرة والشريعة جميعًا، ولكن حكم العادات أقوى سلطانًا

على نفوس الجماهير من كل حكم يخالفه.

على أن من يطلب الازدواج لإقامة سنة الفطرة، لا لمجرد إرضاء الشهوة،

ولا لأجل التنقل في معاهد اللذة، فقلما يخون الوصف رغبته فيما يحب من حسن

الصورة وجمال الخلقة، ولعلنا لو أحصينا عدد الأزواج الذين مقتوا أزواجهم استقباحًا لصورهن لَمَا وجدنا فرقًا كبيرًا بين من تزوج منهم عن رؤية ومن تزوج

عن سماع فإن للرؤية نظرًا خادعًا ليس معه للرَّوِيَّة مجال. والسماع يتثبت فيه

ويتروَّى حتى يغني عن النظر في كثير من الأحوال.

ويقولون في انتقاد ما عليه أكثر مسلمي المدن من التشدد في الحجاب: إن

الحاجة إلى رؤية الرجل من يريد الاقتران بها للوقوف على طباعها وأخلاقها

وعادها - أشد منها لمعرفة حسنها وجمالها، بل لا بد لمعرفة الأخلاق والطباع من

المعاشرة زمنًا طويلاً، ونقول: إن هذا هو الذي يظهر بادي الرأي، وأما ما

يظهر بعد التدقيق والتمحيص فهو أنه يتعسر أو يتعذر على الشاب أن يعرف

حقيقة أخلاق الشابة وطباعها ورغائبها من المعاشرة بقصد الخطبة؛ فإن ما يتنازع

الفتاة من ضروب الشعور والوجدان إذا كانت بمرأى من الفتى ومسمع يخرج بها عن حال الاعتدال الطبيعي الذي طبعت عليه، فلا يكون الحكم عليها صحيحًا؛

لأن حجابًا طبيعيًّا أسدل على أخلاقها وسجايها، ثم إن من وراء هذا الحجاب أو من

أمامه حجابًا آخر صناعيًّا، وهو ما يكون من التكلف والتصنع؛ لتكون أمام الفتى

بالمظهر الذي تظن أنه يرضيه ويجذب قلبه، فالعمدة إذن في معرفة الآداب

والأخلاق هي الوقوف على حال المنبت والعشيرة وخبر الصادق الذي يحسن النقد

ويميز بين ما يرغب فيه وما يرغب عنه.

وقد يسهل على الخلطاء والجيران من العشائر أن يعرف فتيانهم أخلاق فتياتهم

بالاختبار الصحيح؛ إذا لم يكن هناك مقدمات، ولا وسائل تشعر برغبة المختبر في

تزوج من يلاحظ أحوالها ويتنقد أعمالها، وقلما يكون هذا في المدن إلا

بين الأقربين. وحدثني السيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله أن أهل

الآستانة إذا رضوا بالخاطب دعوه إلى دارهم، وجمعوا بينه وبين بنتهم في

مجلسهم فيراها وتراه ويسمع كلٌّ حديثَ الآخر وتسأله عن آثاره الأدبية والعلمية

ثم يكون العقد بعد ذلك.

جملة القول: إن الذين يعتمدون على مجرد استحسان الصور في تخير

الأزواج ضالون، لا يُرجى لهم أن يُكوِّنوا بيوتًا -عائلات - تكون أعضاء حية

عاملة لأمة عزيزة؛ وسيأتي بيان حال من يبني اختياره على طلب المال والثروة،

ثم من يبني اختياره على ما يجب أن يُبْنى عليه الاختيار، وقد ذكر بعضه في هذه

المقالة تمهيدًا واستطرادًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التحكيم بين الزوجين في الشقاق

(س6) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) :

أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف

علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره

وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب

الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية

الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة رضي الله عنه عدم التفريق

وقول الإمام محمد رضي الله عنه التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل،

وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد

والشافعي في أحد قوليه رضي الله عنهم فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا

كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة

يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله

تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: 35) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير

أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين

ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن

علي رضي الله عنه فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان

في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛

فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل

التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل

(الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن

يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو

من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:

19) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ

ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: 231) الآية.

والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد

الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا

الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك.

هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ

إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر

الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة.

(ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف

شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق

(جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد

أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن

يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن

الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا

غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان

فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع.

وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني

قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما

فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين:

تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن

تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل:

أما الفرقة فلا، فقال علي رضي الله عنه: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي

أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه

الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا

رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛

فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت

المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن

يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك

الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره

الراضي، وليس في قول ابن عباس رضي الله عنهما شيء لا يفهم من الآية

إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه

شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين

بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت

إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه

الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه

به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير

{إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: 35) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات

البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا

التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة

من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي،

وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن

الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) وهذا

نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء

وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في

البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان

شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: 35) ،

أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) لاقتصاره على ذكر

الإصلاح دون التفريق. اهـ

وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم

الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر

الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا

للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون.

على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في

الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه

الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب

المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه

السنة كان له أجر المصلحين.

_________

ص: 100

الكاتب: محمد رشيد رضا

(الأرض)

دليل حركتها من القرآن

(س 7) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى:

{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: 54) دليلاً على دوران الأرض،

ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛

فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة

المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني رحمه الله دليلاً على حركة الأرض

قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) الآية وفصَّل ذلك

وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى،

ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية

على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما

هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير

الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا.

وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية

الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام -

لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان -

رحمه الله سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول

والفروع وهذه عبارته:

(ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ

تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل:

88) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في

هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في

الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة،

وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: 88) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون

الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى:(وعد الله)

و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا

يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب

إليه، وقوله:{الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) كالبرهان على إتقانه

والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول

إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ

العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد

وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل

على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله،

ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية

الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها

لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: 88) حال عن

المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا

استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى

وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في

الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله

شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال

معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو

عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة

إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم

المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع

وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع

ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من

تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم،

وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم

للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته،

وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير.

واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا

فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86) ، اعتراض

في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة،

كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز

في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من

هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي

الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان

وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها

بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا

أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم

يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع

عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد

أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا

يسلم من تحريف.

(ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54)

ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض

يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه

يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن

نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو

الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) يشعر بأن هذه

الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن

العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران

الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي

يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو 52 مليونًا من

الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية

تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار

إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا

الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض،

ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه

الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور.

وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا

الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان

عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام

عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس

النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من

بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا

عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في

إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور

آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى

نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن

الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه

مستدلين به على علمه وحكمته ، وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث

موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين

بمخالفة كتابه المبين.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شهادة غير المسلم وخبره

(س8) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في

بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته

ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا

الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا

القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه

من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم.

(ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ

مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: 106) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ

فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة

فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما

وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري

في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من

بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [1] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم،

فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [2] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم

وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه

فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) وروى أبو داود والدارقطني

بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين

حضرته الوفاة بدقوقا [3] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين

من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته

ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله -

صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا

غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.

ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من

العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير

السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا

التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر

القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم

بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) معناه من غير

أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال

بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم،

ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) ،

قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم

لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان

عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء

والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن

الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا

ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ

آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: 106) خاص؛ فإنه

أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في

السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام

لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان

تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم)

اهـ.

ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على

المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى،

ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام

غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال

من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر

.. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد

قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب

) إلخ.

أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض

الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي

يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت

القرينة على كذبه لا يعمل بقوله.

ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم

الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام

الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين

المعروفين

بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره

بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما

جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ،

على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد،

وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين.

وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن

مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف

اصطلاحات الفنون:

الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا

إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام

على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين:

وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح

القدير وهو (في مجلس الحكم) .

_________

(1)

الرجل السهمي اسمه بزيل (كزبير) لا بديل بالدال أو الراء كما قيل، وتميم وعدى كانا نصرانيين وقد سرقا الجام من متاع الرجل ولم يعلما أنه كتب ورقة بجميع ما أودعهما.

(2)

المخوص بتشديد الواو المنقوش بما يشبه الخوص وهو مما يعنى به الآن في علب الفضة وآنيتها وما يوضع في رؤوس العصي منها.

(3)

هي بفتح الدال وضم القاف وسكون الواو أو القصر بلد بين بغداد وأرية.

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رأي عالم أزهري في العلماء

تابع لما قبله

وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه:

ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى

الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء

ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء

جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد

من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير.

ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني

القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين.

تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم

بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس

الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن

يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من

الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال

بالعلم وتشييد دور واسعة لهم.

ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني

هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم

الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين

الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق

إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون

المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا

المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة،

ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل

العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص

رواية مثلا.

ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا

يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره،

وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون

المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في

ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح

هذا الكون.

على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء

مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب

ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه

مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين

بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما

وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم

والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال،

والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو

بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة

وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات

الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى

مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو

تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب

في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع

عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم

الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ

وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد.

وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن

ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر

أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر

في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في

صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم

مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل

قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة

من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من

الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية.

والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية

التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال

الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في

آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث

لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما

أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه

الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك

به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق

بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم

القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة

اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم

الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة،

ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛

فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل،

وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من

ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء

حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة

والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل،

يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح

الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من

قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة

في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى،

ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون.

وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق

سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ

حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح

الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية

والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق

جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه

السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر.

هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال

والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر

وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح

فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني.

بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء

إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن

سينا وفقه أبي حنيفة

إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال

ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء

أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه

وغلطه وتحريفه.

(المنار)

هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض

الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما

كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع،

وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس

ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح

ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها

(كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى

مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد

اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له

ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين.

وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني

والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح،

وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات،

فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت

ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط

المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.

_________

(*) المنار: الدوي: هو صوت النحل، وكذا صوت الذباب والريح، وأما الأزيز فإنه صوت المِرْجَل (القِدْر) عند الغليان، ويقال أيضا أزيز الرعد.

ص: 110

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

(كليلة ودِمنة)

لهذا الكتاب من الشهرة ما يُغني عن التعريف به، والتنويه بما فيه من الحِكَم

الرائعة، والآداب العالية؛ في العبارة البليغة والأسلوب الرفيع. قلما يوجد كاتب

مجيد في هذه اللغة لم يكن كتاب كليلة ودمنة من مادته، وهو من الكتب التي عُنيت

نظارة المعارف في مصر بطبعها وأوجبت على تلامذة مدارسها مطالعته؛ ليكون

عونًا لهم على تحصيل مَلَكَة الإنشاء والتحرير، وليستفيدوا من آدابه وحكمه ما

يفيدهم في أنفسهم، كما يفيدهم بعبارته في أقلامهم وألسنتهم. وقد طبع غير مرة في

مصر وبيروت وأوربا، ولكن كل طباعته عاطلة من حلي الصور التي وضعت

في أصله لتمثيل ما فيه من الحوادث والأمثال، أو لأجل (زيادة الأنس للقلوب،

وشدة الحرص عن المكتوب) كما قال ابن المقفع مترجم الكتاب حتى عثر الشيخ

أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت على نسخة خطية من

الكتاب مزينة بالصور في مكتبة الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق الشام

كتب عليها (إن نسخها قد تم في العاشر جمادى الأولى - سنة ست وثمانين بعد

الألف على يد أبي المنا بن نسيم النقاش) ، وعدد الصور فيها 86 فأخذ نسخه وكلف

بعضه مهرة الصناع الأوربيين بنقلها إلى الزنك ليطبع عنها فجاءت كأصلها وطبع

الكتاب بالصور واضعًا كل صورة في مكانها من الأصل وقد عني بمقابلة هذه النسخة

على النسخة المطبوعة في باريس سنة 1816 م والنسخة المطبوعة في مصر سنة

1297 هـ والنسخ المطبوعة في بيروت. قال: (اخترت منها ما كان أقربها من

الأصل وأبعدها عن التحريف والتبديل وأسلمها من الزياد والنقصان) ولهذه الصور

فائدة تاريخية؛ لأنها تمثل لنا أزياء تلك العصور الذي وضع فيها الفيلسوف الهندي

كتابه، وشيئًا من عاداتهم، وفائدة صناعية من حيث فن الرسم والتصوير، والقارئ

يرى أن هذه النسخة أحسن نسخ الكتاب، وهي مشكولة ومضبوطة، ثم النسخة منها

عشرة قروش صحيحة وأجرة البريد قرشان وتطب من إدارة المنار بمصر.

***

(جواب أهل الإيمان في تفاضل آي القرآن)

سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد تقي الدين بن تيمية الشهير عما ورد في

الحديث من أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن وعما

ورد في سور أخرى من التفضيل. فأجاب بجواب مطول فيه فوائد كثيرة لا توجد في

غيره، وطبع في هذه الأيام فكان كتابًا مؤلفًا من 132 صفحة، ومن مباحث

الكتاب بيان معنى المعادلة والتفاضل في القرآن، وما ورد في الفاتحة وأحكام

المذاهب في قراءتها في الصلاة، وبيان كون قصة موسى أعظم قصص الأنبياء في

القرآن، وبيان سبب عدم تكرير قصة يوسف، وغير ذلك من الكلام في قصص الأنبياء ومنها مباحث في القرآن، وكونه غير مخلوق، وفي النسخ مباحث

في التوحيد والاعتقاد والتفسير. وقد طبع على نفقه الشيخ عبد الرحمن زين

الدار الحلبي فجزاه الله خيرًا.

***

(خطب الأعظمي)

قرَّظنا في الجزء الرابع والعشرين من المجلد السابع ما طبع من هذه الخطب،

وانتقدنا على الخطيب الشدة في التعبير في بعض المواضع؛ لعلمنا بأنها تهيج عليه

بعض الجامدين على ما هم عليه الزاعمين أن كتمان عيوب الأمة والسكوت على ما

وصلت من الانحطاط واجب لئلا يطلع الأجانب على نقصنا فيحقرونا أو لأنه لا يصح

أن نبين أن المسلمين الآن منحطون عن الكافرين، ولغير ذلك من الشبه الواهية،

وقد وقع ذلك من بعض أهل الجمود في الهند وأما الذين اطلعوا على نموذج الخطب

في مصر فلم نسمع عنهم انتقادًا؛ لأنهم تعودوا على سماع وقراءة أمثال هذه الزواجر،

وإنني لا أدري أي القطرين أشد جمودًا على الحال السيئة التي وصل إليها

المسلمون: القطر المصري أم القطر الهندي، ولكنني أعلم أن في كل منهما

أنصارًا كثيرين لمن ينادي بالإصلاح ويندد بالتقاليد والعادات الضارة في أمر الدين

وأمر الدنيا، مهما غلظ وشدد، ومن يقل منهم بوجوب إلانة القول فإنما يريد الرفق

بأهل الجمود لعلهم ينجذبون إلى الحق بسهولة ولا يريد أن الشدة في غير محلها أو

غير نافعة.

وأحسن القول عند طلاب الإصلاح ما كان تأليفًا بين المسلمين، وهو أقبحه

عند الجامدين، كما ترى فيما يلي.

***

(أهل السنة والشيعة)

إن العلماء الراسخين من هاتين الطائفتين لا يقولون بأن مخالفهم في المذاهب

كافر خارج من الملة، وأهل السنة يذكرون في كتب العقائد أنهم لا يكفرون أحدًا من

أهل القبلة، وإن أتى بشيء مما يعدونه كفرًا متأولاً فيه، ولا شك أن الشيعة يؤمنون

بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويشهدون (أن لا إله إلا

الله وأن محمدًا رسول الله) وأن كل ما جاء به من أمر الدين حق ويقيمون الصلاة،

ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلاً،

ومع هذا كله تجد من المتعصبين الذين يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) من

يحكم بكفرهم، وأهل السنة والجماعة أحرص على الجمع بين أهل القبلة منهم

على التفريق، ومن القواعد عند بعض فقهائهم - وحبذا هذه القاعدة - أنه إذا وجد مئة

قول صحيح في تكفير مسلم بقول أو عمل أو اعتقاد وقول واحد ضعيف بعدم تكفيره

فالواجب أن يفتى بالقول الضعيف.

لهذا نتعجب أشد التعجب ما بلغنا عن بعض المشايخ المتفقهين في الهند أنهم

كفروا الشيخ عبد الحق الأعظمي؛ لأنه عبر في خطبة له عن الشيعة بقوله:

(إخواننا) وقد يوجد في مصر من يطلق هذه الكلمة على النصارى أو اليهود، ولا

يكفره أحد؛ للعلم بأنه يعني بلفظ الإخوان أخوة الإنسانية، لا أخوة الدين، ولا

وجه لتكفيره، إلا إذا علم أنه يعتقد أن عقائد النصارى وعباداتهم هي عين عقائد

الإسلام، وأنها حق ومرضية عند الله تعالى مثلها؛ لأنه بذلك يكون مكذبًا للقرآن،

وخارجًا خروجًا حقيقيًّا عما جاء به النبي من أصول الإيمان، وأما إذا أراد

مجرد المجاملة كما يجاملوننا بمثل هذا اللفظ، ولا يعنون به أننا على الحق من غير

ملاحظة أمر الدين، ولا أمر أخوة الإنسانية فإنه لا يحكم بكفره مادام يعتقد أن دينه

هو الحق ولا ينكر شيئًا من أصوله المجمع عليها المعلوم بالضرورة أنها منه.

يظن هؤلاء الشيوخ الغافلون المغرورون بخضوع العوام لأقوالهم من غير دليل

ولا برهان أن الإغلاظ على المخالف لمذهبهم، والغلو في عداوته من أسباب تأييد

الإسلام وأهله وخذلان الكفر وحزبه، والبدعة وفرقها، والحق الذي لا مِرْية فيه هو

أن الغلو في الخلاف والعنف في المقاومة هو الذي يغري كل ذي رأي أو مذهب أو

دين بالتعصب فيه، والجمود عليه والدفاع عنه من غير تأمل في كونه حقًّا أو باطلاً

بل لمجرد مقاومة المخالفين، وبذلك تكون الخسارة على صاحب الحق من المختلفين

لأنه لولا الغلظة والتعصب لنظر كل فريق فيما عند المخالف له نظر إنصاف،

والإنصاف أقوى أعوان الحق وأنصاره، ولو جرت القرون الأولى بالإسلام على

طريق الغلظة والشدة في مقاومة المخالف ومجادلته لما انتشر في الخافقين ذلك

الانتشار السريع.

هؤلاء الشيوخ الغالون في التعصب على كل من يخالف آراءهم أو آراء

شيوخهم في مذاهبهم أعدى أعداء الجماعة والسنة؛ لأنهم أقدر من غيرهم على تفريق

الكلمة، فهم يهدمون بناء الوحدة الإسلامية في حزب المحافظين على القديم بشبهة تأييد المذهب ومن ورائهم المتفرنجون يهدمونه بشبهة تأييد الوطنية؛ فالهدم واقع

على بناء الإسلام من داخله ومن خارجه، ولا نصير له إلا فئة تحاول الجمع

والتأليف بحمل أهل المذاهب المختلفة على تحكيم الكتاب العزيز والسنة المتواترة

فيما شجر بينهم وأن يعذر كل فريق منهم الآخر فيما وراء ذلك من الأمور

التي فيها للنظر والاجتهاد مجال، وبإقناع المتعصبين للوطنية بأن الاتحاد على

عمارة الأوطان لا يقطع الأخوة بين أهل الإسلام والإيمان، فنسأل الله أن

ينصر هذا الحزب ويؤيده على أعداء أنفسهم وأعداء ملتهم بأن يوفقهم

للدخول في السلم كافة واجتناب خطوات الشيطان الرجيم.

***

(مناظرة مَتَّى بن يونس وابن سعيد السيرافي)

كان بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي مناظرة في

المفاضلة بين المنطق والنحو وكان الفلج فيها لأبي سعيد في محفل حافل بالعلماء

والفضلاء؛ فأدلى بحجة على أن النحو قد يغني عن المنطق، وأن المنطق لا يغني

عن النحو، ولا شك أن (مَتَّى) قد عجز عن بيان فائدة المنطق، وأن بعض ما قاله

(أبو سعيد) في حجاجه لا يخلو من المغالطة ولكنه في بلاغته وقوة عارضته قد

اختلب خصمه الذي كان عييًّا حصرًا، لا يقدر أن يبين ما يعلم حق البيان.

والمناظرة من رواية أبي حيان التوحيدي وهي بعبارة انتهت إليها البلاغة، وبراعة

الأسلوب، وقد عني بطبعها صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق الأستاذ

بمدرسة أكسفورد الجامعة، وطبع معها ترجمتها بالإنكليزية له، والطبعة العربية لا

تخلو من تحريف قليل يعرف أكثره مما وضع في الهامش من اختلاف النسخ فنثني

على همة الدكتور لعنايته بخدمة لغتنا ثناء حسنًا.

***

(الهدى)

مجلة إسلامية علمية أدبية عمرانية إصلاحية تصدر في غرة كل شهر عربي

لمديرها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ومدير المجلة المدرسية وقد

صدر الجزء الأول منها في غرة المحرم الماضي في 28 صفحة كبيرة، وفيها بعد

فاتحة المجلة وبيان منهاجها (دعوة شريفة يخاطب بها الكاتب علماء هذه

الأمة بوجوب مقاومة البدع الغاشية، وجمع كلمة الأمة المتفرقة، ومقالة في آراء

حكماء العرب في المعدن والنبات والحيوان والإنسان، ومقالة في العلوم الاجتماعية

لأحد طلبة مدرسة الحقوق ونبذة عن مسلمي القزان، وخطرات في الإصلاح،

وقصائد لبعض شعراء العصر. وقيمة الاشتراك فيها للمصريين 40 ولغيرهم 12

فرنكًا، فنتمنى لهذا المجلة التوفيق والثبات.

***

(الصحافة)

جريدة أسبوعية تصدر في القاهرة لصاحبها ومحررها مصطفى أفندي توفيق الجراحي مؤلفة من ثمان صفحات بشكل الجريدة الرسمية، وتطبع على ورق جيد،

وهي من أحسن الجرائد الأسبوعية بمصر نزاهة واعتدلاً، وقيمة الاشتراك

فيها 70 قرشًا في مصر و22 فرنكًا في غيرها،فنتمنى لها التوفيق والنجاح.

***

(الهجرة)

جريدة أسبوعية تصدر في طنطا لصاحبها ومدير سياستها عبد الرحمن

أفندي الذهبي وهي كسابقتها في مقدمة الجرائد الأسبوعية موضوعًا على حداثة عهدهما وقد قرأنا فيها مقالات مفيدة ولكننا نحب أن يُعنى بتصحيحها فيما يأتي أكثر

من العناية به فيما مضى. وقيمة الاشتراك فيها مئة قرش في القطر المصري و30 فرنكًا في سائر الأقطار فنتمنى لها الثبات والانتشار.

_________

ص: 114

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌البدع والخرافات

والتقاليد والعادات

كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد

رسم الخطاب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس

تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل

بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من

الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بالهداية وهداني

إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل

بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها

إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل

للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة -

الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار.

(1)

زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من

مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل

الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله سبحانه وتعالى في العمل مع أنه بريء من

ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في

أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن

الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة

أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية.

(2)

الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم

مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما

يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة

محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة

حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر

المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها

ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا

رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من

المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم

الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم.

(3)

أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا

الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة

الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن

غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن

يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية

التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء

المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس

عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع

مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى

حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة.

(4)

الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم

وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله

يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ

***

(المنار)

اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين

من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد

بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في

مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى

لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور

الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء

المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات

الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في

تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه

أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء

الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى

من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع

الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ

لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛

وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم

بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من

دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من

الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ

وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

_________

ص: 119

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة الزوجية

(2)

اختيار المرأة لِمَالِها:

إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان

مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق

الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط

السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال

وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا

مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت

بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا

حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن

يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن

أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا

مداهنًا.

يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في

نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون

له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين

اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به

معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي

هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة

للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا

بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم

آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا

يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد

بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية

والاجتماعية؟

يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية

فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي

ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم

عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين)

وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم،

وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على

التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن

نطقت مخالفة.

لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول

عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا

للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر

وآيات للمتفكرين.

وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق

وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان

صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون

على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين

مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري

بذلك أحد منهما قبل الاقتران.

ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون

الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش

كما قلنا آنفًا.

الطريقة المثلى في الاختيار:

يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله

تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم

مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقوله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ

أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74)، وقوله - جل ثناؤه -:

{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) وهذه الصفات بعضها بدنية،

وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما

يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض.

أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة

البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء

حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى

ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن

الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق

فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى

الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب،

(وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال

البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة

الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا

للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة.

قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا

من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم

يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو

النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة

لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق

رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة

التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه.

وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما

الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة.

وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق

بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في

الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم

قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء

حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في

اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق

يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة

للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز

ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات

العفة، قال:

فأول إحساني إليكم تخيري

لماجدة الأعراق باد عفافها

ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛

لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من

غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر

الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من

محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها

من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من

سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي

الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط

العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق.

ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص

والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين

يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق

ويحيط به الشقاء.

وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص

والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون

البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء

وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون،

ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم

والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير

المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم،

إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة

النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على

طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في

داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه

ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل

يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن

على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون

نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم

تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له.

ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا

يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر

عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة.

كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة

معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب

الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر

على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه

الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا

ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة

فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما

صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت.

ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع

بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار

الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه،

ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر

أن جماهير الشبان المحترمين لا يرغبون في غير المهذبة القادرة على إدارة المنزل،

وإقامة النظام فيه؛ بادر الناس إلى تربية بناتهم على الطريقة المرغوب فيها؛ لأن

الفتيات يطلبن الفتيان دائمًا بلسان الحال والاستعداد، فكل ما يشكو منه بعض الشبان

المهذبين من سوء تربية البنات؛ سببه سوء تربية البنين في الجمهور.

وإن لي كلمة قلتها ثم علمت أن للأوربيين كلمة تخالفها؛ فأذكرهما هنا.

أما كلمتهم فهي: (كما يريد النساء يكون الرجال) وأما كلمتي فيه (كما يريد

الرجال يكون النساء) والدليل على هذا أن النساء لا استقلال لهن في أنفسهن

وإنما هن تبع للرجال عند جميع الأمم.

يولد للزوجين غلام وجارية؛ فيربيان الغلام على أن يكون رجلاً مستقلاًّ ببيت

كبيتهما، وعلى أن ينهض بكفالتهما عند الكبر أو العجز إذا كان فقيرين، ويربيان

الجارية على أن تكون تابعة لرجل يتزوج بها فيعولها ويكفلها فيكتفيان أمرها. ينشأ

في الغلام من أول سن الإدراك شعور الاستقلال بنفسه وحاجة غيره إليه، وينشأ في

الجارية شعور القصور والحاجة إلى كفالة رجل غريب مجهول ستكون تابعة له.

ومن التقاليد العامة في أمتنا وفي غيرها أن هَمَّ النساء الأكبر هو: أن يكن بحيث

يحبهن الرجال ويرغبون فيهن؛ لأنهن في حاجة إلى كفالتهم ولا يسهل عليهن طلبهم

إلا بلسان الاستعداد، وكونهن كما يحبون ويرغبون كما قلنا آنفًا، ثم إن الوالدين

اللذين يربيان الغلام والجارية يعلمان أن تزويج الجارية أعسر عليهما من تزويج

الغلام؛ من حيث إنه لا عار عليهما ولا عليه في التماس امرأة بالطلب والبحث؛ ولا

ممن هم دونهم، وأنه من العار العظيم أن يبحثا عن زوج لبنتهما، ويعرضاها على

الرجال، وإن كانوا من الأكفاء، وأشد من ذلك عارًا أن تبحث هي عن الزوج

وتعرض نفسها على من تظن أنه يرضاها، وإن الشرف والمصلحة محصوران في

تعريضها للخاطبين بتربيتها على ما يحب الأكْفاء ويرضون. نعم، إن الأوربيين قد

حاولوا تربية النساء على الاستقلال وتعليمهن طرق الكسب وجعلوا للبنات رأيًا في

اختيار الأزواج، ولكنهم لم يخرجوا عن جعل المرأة تابعة للرجل ولم يقدروا على

جعل أكثر النساء مستقلات في معيشتهن، غنيات عن الرجال، بل هم الذين يربون

بناتهم على ما يرغب فيه جمهور فتيانهم، ويَخْطبُون الزوج بالحال وبالمال جميعًا،

ويشعرون من سعادة الحياة الزوجية بما لا يشعر بمثله من لم يبلغوا شأْوهم في الحياة

الاجتماعية، وللجارية المخطوبة عندهم مقام رفيع، ولربة البيت مكانة عالية ولأم

الأولاد المقام الأعلى، إنما قالوا كلمتهم تلك للترغيب في تعليم المرأة؛ إذ لا يقدر

الرجال على إتقان التربية إلا بإسعاد النساء لهم عليها، ثم إن هذه التربية الاستقلالية

قد أضرت بالنساء أنفسهن حتى كثرت أصوات الكاتبات منهن بالشكوى منهما، ونقلنا

بعض ما كتب في المجلد الرابع فليراجع.

***

الدين والأخلاق:

ملاك تهذيب الأخلاق وقوام الملكات الدين؛ فلو رُبِّي البنات تربية دينية

صحيحة لتم لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدرًا لمحاسن الأعمال، وقرة أعين

للرجال، وقد عرفت الأمم الحية ذلك؛ فعنيت بتربية البنات على آداب الدين

وأخلاقه وأعماله على فساد عقائد الكثيرين من علمائها وحكمائها؛ ذلك بأن هؤلاء

الذين رأوا في دينهم ما لا ينطبق على علمهم القطعي فتركوا الدين للعلم يعتقدون أن

الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن هذا الروح هو الأصل في الحياة

الزوجية والحياة القومية لاسيما في النساء والناشئين؛ فإذا هو زال تعذر الاستغناء

عنه أو استبدال غيره به؛ كالشرف والعلم بالمصلحة. والذين جروا على هذه

الطريقة من نصارى الشرق يتحامون الانتقاد على الدين في حضرة النساء، وإن

كانوا لا يعتقدون ولا يؤمنون لئلا يتسرب الشك والارتياب إلى نفوس النساء، بل

أخبرني بعض علمائهم وأدبائهم المشهورين أنهم يكونون في النادي أو السامر ينتقدون

بعض رجال الدين منهم؛ فتدخل إحدى النساء فيحولون الحديث لكيلا تسمع انتقادهم

فيقل احترام الدين من نفسها ويضعف الشعور به في قلبها. ولا تجد جزءاً من هذه

العناية عند المسلمين الذين جهلوا الدين فأهملوه، بل ولا عند الذين سلم

اعتقادهم وحسن عملهم. وكل ما عند النساء المسلمات من الدين فهو من تقليد

الذين نشأن فيهم وتربين بينهم ليس للرجل فيه عناية ولا عمل، ويا ليت فساق قومنا

وزَنَادِقَتهم يكتفون بإهمال تربية النساء على آداب الدين، وتعليمهن أحكامه، ولا

يُظهرون لهن ما هم عليه من الفساد والإلحاد، فقد حدثني كثيرون من الثقات

المختبرين أن كثيرًا من المسلمين (الجغرافيين)[*] يجتمعون مع عيالهم لطعام الغداء

بعد الظهر في شهر رمضان، وأن منهم من يتزوج بالمرأة فيكرهها على

شرب الخمر معه، وأخبرني شيخ من أهل القاهرة أن رجل تزوج ببنت من أقاربه -

أي أقارب الشيخ- فدعاها إلى شرب الخمر معه فأبت ولما أعياه إلزامها طلقها.

وأغرب من هذا ما يتحدثون به عن بعض أصحاب البيوت أو البيوتات من إشراك

البنات مع الرجال في معاقرة الخمر، ومن إحضار أهل الرقص والعزف من

الرجال والنساء إلى البيوت واجتماعهم في بعض الحجرات على المعاقرة

والمخاصرة، والنساء يسمعن وينظرن من وراء السجوف والأستار.

يظن الكثيرون من فساق البلاد المشرقية أن الدين في أوربا قد صار نسيًا

منسيًّا، وأن ذلك لم يزد أممها إلا ارتقاء؛ لأنه أثر الارتقاء؛ وذلك أن هؤلاء لا

تتوجه نفوسهم ولا يهديهم استعدادهم إلا لمعرفة أمثالهم، والصواب أن أكثر أهل

أوربا متدينون، وإنما أبطلوا التقاليد النصرانية التي تنافي العمران والارتقاء؛ لأنها

ليست إلا من وضع الرؤساء؛ وهم مع ذلك أشد الناس تعصبًا لدينهم، وعلى من

يخالف دينهم، ولا ينافي ذلك كثرة الفسق في بلادهم لا سيما التي تغلب فيها

الكاثوليكية كفرنسا وإيطاليا؛ فإن من الأسباب في ذلك المذهب -الذي يعد من

أصوله-: أن القسوس والرؤساء يغفرون الذنوب، كما أن من أسبابه: الحرية

الشخصية، وعدم النكير، وإباحة الخمر (أم الخبائث) ولقد يسهل على الفاسق أن

يجد كثيرًا من الفاسقين والفاسقات في كل المدن العظيمة في الأرض، حتى ما كان

فيها الفسق منكرًا وممنوعًا إظهاره لا يراه إلا الباحثون عنه ومن بحث عن شيء مما

لا يخلو العمران منه وجده؛ فإذا هو قصر همه عليه، ظن أن كل النساء أو جلهم

على مذهبه فيه.

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

أهل فرنسا أقل الأوربيين تمسكًا بالدين؛ لتطرفهم في الحرية والجمهورية التي

يرون سلطة الكنيسة الكاثوليكية خطرًا عليها، ولذلك قاوموا جمعيات القسيسين

ومدارسهم، وقد سألت فرنسيًّا عن تدين قومه، فقال: (أكثرنا متدين يحب الله ولكن

لا نحب الكنسية) .

إذا فرضنا أن تعميم التعليم والتربية على حب الوطن والآداب القومية قد يغني

عن الدين في إصلاح حال البيوت والجمعيات؛ فأوربا هي التي يمكنها أن تستغني

عنه بذلك ولكنها لم تقل بذلك ولم تُعمل به، ولا أدري بماذا يستغني المسلمون عن

آدابهم الدينية التي أمسوا لا يبالون بها. هل الرابطة الوطنية التي يلفظ بها مصطفي

كامل وأضرابه من الأَحْدَاث المتفرنجين كافية في هذه الأمة التي غلب عليها الجهل

والأمية، ووقع معظم أوطانهم في قبضة الدول الأجنبية - لأن تصلح ما أفسد الزمان

فيها من الآداب الشخصية والروابط الزوجية لتكوِّن منها أمة عزيزة قوية، وهل

يكفي في نفخ روح هذه الحياة الوطنية أن ينعق ناعق في الأمة بمدحها، وإن لم

يسمع نعاقه إلا قليل ولم يفهم مراده منهم إلا أقل القليل، وأكثر من فهم ومن لمن

يفهم، يرى أن النفاق وسيلة للدرهم؟

ومن العجائب أن هؤلاء الأحداث المتفرنجين يهذون أحيانًا أو كثيرًا بالكلام في

الأمة والملة، ويشكون بالقول من سوء الحال وخطر الاستقبال ثم لا ينتبهون

لوجوب بث روح الدين في البيوت، وتربية النساء على أعماله وآدابه ليربوا

الأطفال عليها، بل تراهم بسيرتهم عونًا للجهل على إفساد بقايا الدين التقليدية؛ إذ

لا يتعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا يعملون بما هو معلوم منه بالضرورة، ولا

يسألون عن دين من يخطبونها؛ وإنما يسألون: هل تعلمت لغة أجنبية؟ هل تعلمت

العزف على البيانو والعود؟ هل عندها مال كثير يساعدنا على المصيف في أوربا

والتمتع بلذاتها؟ ، وأعجب من هذه أنهم يدَّعون أحيانًا الانتصار للدين بذم أوربا

وذكر طمعها في بلاد المسلمين، واعتدائها على استقلالهم وعلى دينهم بما تبعثه من

الكتب والدعاة إلى النصرانية. ويزول هذا العجب إذا عرف سببه، وهو مخادعة

المسلمين بإيهامهم خدمة الملة لينفحوهم بالدرهم والدينار، وأنَّى يخدم الملة من لا

يفهم كتابها، ولا يعرف سنتها، ولا يتحقق بعقائدها ولا يقيم عباداتها، ولا يتخلق

بأخلاقها، بل أخذ عن أوربا من الأخلاق والعادات ما يفرق به كلمتها، ويبطل به

وحدتها، وينسخ به شِرعتها، ثم هو يشكو منها ومن آثارها في إفساد النابتة

ومجموع الأمة! .

وجملة القول: إن الحياة الزوجية في المسلمين لا يمكن أن تكون سعيدة في

نفسها ووسيلة لارتقاء الأمة وتعزيزها إلا إذا كان الزوجان معتصمين بحبل الدين،

مستمسكين بعروته في الأخلاق والآداب والأعمال؛ ليكونا قدوة لأولادهما في ذلك.

وإن الخطر الذي يهدد المسلمين وينذرهم بزوال سلطتهم من الأرض لا يزول إلا

بصلاح حال البيوت الأدبية على هذا الوجه. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (تنكح

المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)

رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا الترمذي عن أبي هريرة، ولكن مَنْ لنا

مَنْ يُصلح لنا أخلاقنا، وآدابنا الدينية، وليس لنا زعماء ولا سراة من أهل الدين

والحكمة. وإذا ظهر فينا زعيم فإننا لضعف استعدادنا لا ننتفع به، بل يُحَكِّم فيه

جمهورنا كلام الأَحْداث المغرورين، الذين يضرهم ويفضحهم ما يدعو إليه من إحياء

روح الدين!.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) نعبر على المسلمين الذين ليسوا على شيء من الإسلام بالمسلمين الجغرافيين؛ لأن الإحصاء الذي يذكر في كتب الجغرافية يعدهم منهم، وقد نبهنا على هذا من قبل.

ص: 141

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتاوى المنار

حقوق الذميين ومعاملة الأجانب

(س 9) أ. م. في سراي بوسنة: كتب محمد فريد وجدي في كتابه

(تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) في بحث واجبات المسلمين بالنسبة

للذميين، أي أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين في صحيفة 86 (وقد ترك لنا

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم أُسوة يجب أن نأتسي بها في

معاملة الأجانب عن ديننا ومخالفي معتقداتنا؛ فإنه عليه أشرف التحية والسلام كان

يحضر ولائمهم ويغشى مجالسهم، ويشيع جنائزهم، ويعزيهم على مصائبهم) .

ونحن لم نطلع على ذلك في كتاب غير كتابه المذكور ولا ندري: أيجوز ذلك

أم لا؟ وخصوصًا تشييع جنائزهم، فإنه صلي الله عليه وسلم على ما نعلم نُهِيَ عن

ذلك بقوله عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وهذا وإن نزل في حق الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛

إلا أنه يدخل فيهم سائر الكفار قياسًا بدليل قوله عز وجل عقيب ذلك: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84) فجئنا إلى حضرتكم سائلين

أن تبينوا لنا: هل صح أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما نقلنا آنفًا من الكتاب

المذكور، وهل جاز لنا أن نفعل ذلك اقتداء بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن

صح ذلك وجاز لنا أن نفعل؛ فما هو الجواب عن الآية الكريمة المذكورة؟ أفيدونا

بذلك آجركم الله تعالى.

(ج) ما ذكره فريد أفندي في كتابه غير صحيح على إطلاقه، وقد بيَّنا غير

مرة أنه لا يجوز الاعتماد على ما يُذكر في الكتب من الأحاديث والسنة إلا إذا كانت

مَعْزُوَّة إلى مخرِّجيها من المحدثين؛ ليعرف صحيحها من غيره، وعبارة فريد أفندي

تدل على أن ما ذكره كان سنة متبعة، ولو كان كذلك لاتفق الفقهاء أو أهل الأثر

منهم على القول بوجوبها أو سنيتها. نعم ورد في العيادة حديث صحيح ذكرناه في

المجلد السابع وفيه حديث ضعيف عند البيهقي عن أنس (كان إذا عاد رجلاً على

غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي كيف أنت يا نصراني) ولا

يُحتج به. وأي حجة لنا على حسن معاملة المخالفين لنا في الدين أقوى من قوله

تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن

تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8)

إلخ، ومن إباحة طعام أهل الكتاب

والتزوج منهم، ومن وجوب حماية الذمي والمعاهد وغير ذلك مما هو معلوم فلا

حاجة إلى أن نعزو إلى السنة ما ليس منها، ونوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله

تعالى عليهم مما ذكر في السؤال.

أما قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات} (التوبة: 84) الآية،

فهو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة والاستدلال به على

تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر، ولم أر أحدًا من علماء السلف

وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من

الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله {وَلَا

تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء بل نقل

بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو

ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم

على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له

أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. وقد ذكرنا في المجلد

الماضي وغيره كثيرًا من أحكام معاملات المسلمين لغيرهم وفيها من التساهل ما

نفتخر به على جميع الملل، فلتراجع.

***

العدالة العامة

وحكمة الله في الناس

(س10) ومنه: ربما يقع البحث عن (الواجب الوجود تعالى وتقدس)

وأوصافه الشريفة وخصوصًا كمال عدله ورحمته تعالى، فيوجد من الشاكين

المشككين من يقول: لو كان الله موصوفًا بكمال العدل لما جعل بعض الناس مؤمنين

وبعضهم كافرين وجعل مأوى الطائفة الأولى الجنة والآخرة جهنم، فإذا أجيب له عن

ذلك بما أجبتم في واحد من أعداد المنار وهو أن الله تعالى لم يخلق كافراً قط إلى

آخر ما قلتم وأقنع بذلك أورد اعتراضًا آخر يقول فيه: نعم سلمنا أنه لم يخلق كافرًا

قط كما قلتم، لكن ليس من العدل أن يجعل بعض الناس مولودًا من الأبوين المؤمنين

اللذين يكونان سبب إيمانه وفي ديار الإسلام التي أكثر أهاليها أهل الإسلام والناشئ

بينهم في العادة يتخذ دينًا ومذهبًا مثل دينهم ومذهبهم، وأن يجعل البعض الآخر

مولودًا عن الأبوين الكافرين اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وفي دار أهل

الكفر الذين بمجاورتهم والنشوء بينهم يكون هو في العادة مثلهم فرب رجل مؤمن

لو ولد من الأبوين الكافرين وخصوصًا في دار أهل الكفر لم يكن مؤمنًا بل قلما

يتصور ذلك وبالعكس؛ رُبَّ رجل كافر لو ولده أبوان مؤمنان، وخصوصًا لو نشأ

بين أهل الإسلام كان مسلمًا ولم يكن كافرًا. فسهّل لبعضهم الدخول إلى الإسلام

ووعده الجنة وصعب ذلك للبعض الآخر وأوعده بجهنم.

وإذا جيء إلى البحث عن كمال رحمته تعالى يقول: إما أنه تعالى ليس

متصفًا بكمال الرحمة، وإما أنه لا يدخل أو لا يخلد أحدًا في النار؛ فإن تخليد

التعذيب لا سيما بالنار التي هي أشد التعذيب الذي إذا ذكر اقشعر جلد الرجل المدني

لا يليق بإنسان، بل يخرجه عن أن يكون رحيمًا وبالطريق الأولى عن أن يكون

متصفًا بكمال الرحمة؛ فكيف يليق ذلك بالبارئ تعالى الذي نقول في حقه: إن أعمالنا

لا تضره ولا تنفعه؟ فنحن أتينا مسرعين إلى باب جنابكم راجين أن تشفوا غليل

صدورنا بحديد الرد على الاعتراضات المذكورة للشاكين المشككين وتروونا بزلال

أجوبتكم الشافية الوافية التي تكون حججًا ساطعة للموحدين، دامغة للذين امتلأت

قلوبهم بشبهات الطبيعيين والدهريين، وخلت عن اليقين المخصوص بالمؤمنين،

لا زلتم ملجأ وملاذًا للمحتاجين، إلى الاستنارة بنور علم الدين المبين، وموردًا للذين

صدورهم ظمأى، وطبيبًا للذين قلوبهم مرضى، قاهرًا للذين أفئدتهم هواء.

(ج) ترى في كتب الصوفية كلمة جليلة يرونها حديثًا عن النبي - صلى الله

تعالى عليه وسلم - ويقول المحدثون إنها لم ترو حديثًا وإنما هي ليحيى بن معاذ

الرازي رحمه الله تعالى، وهي (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولا يعرف علو

قدر هذه الكلمة إلا من عرف نفسه وعرف ربه فإن كانت ليحيى فلله در يحيى. من

عرف نفسه بعرفان معنى الإنسان وما خص به من المزايا والمقومات لا يصدر عنه

مثل ذلك الاعتراض الذي يهذي به جهلاء الماديين أو المقلدين الذين قال في مثلهم

الشاعر:

عمي القلوب عموا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

لا ينكر هؤلاء المعترضون أن الإنسان أرقى المخلوقات المعروفة في هذا

العالم ثم إنهم على اعترافهم بفضل الإنسان، وسموّ الحكمة في خلقه وتقويمه ينبذون

من الأقوال ما يستلزم الاعتراض على خلق الإنسان والاعتراف بأن عدمه خير من

وجوده.

ثم إن لاعتراضهم سببًا آخر وهو الجهل بمعنى ما ورد من إثابة المحسنين

وعقاب المجرمين إذا ظنوا أنه من قبيل عقاب الحكام لمن يخالف أوامرهم وقوانينهم

انتقامًا منهم، والحق أن ما ورد في القرآن من ذلك هو كالشرح لما أودعه الله تعالى

في خلق الإنسان من المزايا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والنتيجة أن ذلك الاعتراض جهل بالحقيقة

وجهل بالشريعة.

بيان ذلك أن الإنسان خلق مستعدًّا لارتقاء وكمال في عقله وروحه غير محددين،

على أن يكون ارتقاؤه بسعيه وعمله الاختياري كما خلق مستعدًّا لأن يهبط بسعيه

واختياره إلى أخس دركة من الشر والرذيلة. هكذا خلق الإنسان كما هو معروف لنا

في أنفسنا وفيما نراه في أفراد جنسنا وجمعياته، ولم يخلق حيوانًا محضًا كسائر

أنواع الحيوان محدود الإدراك والقوى ملهما طلب ما تقوم به حياته الحيوانية

واجتناب ما لا حاجة له به في تقويمها، ولا ملكًا روحانيًّا كامل الخلقة محدود القوى

لا أثر لعلمه في ارتقائه ولا في تدليه، فالإنسان نوع من أنواع الحقائق الممكنة تعلقت

قدرة الله تعالى بإيجاده فوجد على ما نعلم من الاستعداد غير المتناهي الذي تظهر

آثاره جيلاً بعد جيل، ولو لم يوجد الله تعالى هذه الحقيقة لكان العالم ناقصًا، ولم يكن

فيه شيء من هذه الآثار البديعة التي ظهر وسيظهر بها من سنن الله تعالى وحكمه في

خلقه ما لم يكن يظهر لولا هذا النوع المكرم؛ لأن الحكمة الأزلية قضت بأن تكون

آثار مخلوق مختار في عمله غير محدود في قواه وتصرّفه.

لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم تخلق قوة من قواه البدنية والروحية عبثًا فكل قوة

منها آلة لاكتساب الخير والسعي في أسباب الرقي؛ إذا لم يُفْرِط ولم يُفَرِّط في

استعمالها. وقد جعل الله له ميزانين يعرف بهما القسط في الوزن من التفريط وهو

الخسران والإفراط وهو الطغيان وهما العقل والدين. فمن كان له اعتراض على قوة

من قوى الإنسان أو مزية من مزاياه يزعم أنها تنافي العدل الإلهي أو الرحمة العامة

فإننا مستعدون لكشف الشبهة له في اعتراضه وإثبات أن تلك القوة آية من آيات

العدل والحكمة وأثر من آثار الفضل والرحمة.

بعد التسليم بأن الإنسان أثر من آثار الحكمة والرحمة ننظر في تأثير عمله في

نفسه التي هي حقيقتة وجوهره، كما أن البدن صورته ومظهره فنجد أن من تلك

الأعمال ما ترتقي به النفس في معارفها وصفاتها وهو ما تكتسبه من العقائد الصحيحة

والمعارف الحقيقية ومن عمل الخير والبر، ومنها ما هو بضد ذلك والمرتقون هم

الأبرار، والآخرون هم الفجار، وإذ انتهينا إلى هذا الحد من بيان حقيقة الإنسان.

فإننا نذكر مسألة الكفر والإيمان، ونذكر بعدها مسألة الرحمة والعذاب متجنبين

التطويل والإطناب، لما سبق لنا من تكرير الدخول في هذا الباب فنقول:

بينا غير مرة أن عقائد الإسلام هي مرقاة للعقل وآدابه وعباداته مرقاة للنفس

وأحكامه مرقاة للاجتماع وقد ذكرنا هذا المعنى في تفسير: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ

فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ

فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) من هذا الجزء. فمن دُعِيَ إلى هذه الأصول دعوة

صحيحة، فلم ينظر فيها أو نظر فظهر له الحق فعانده ولم يتبعه يكن في غاية

الانحطاط العقلي والنفسي ونهاية البعد عن الحق والخير والتوغل في الباطل والشر

وهو ما يعبر عنه بالكفر والجحود وهو الجاني على نفسه بمعاندة الحق والخير

ورفض سلم الترقي، وأما من لم تبلغه هذه الدعوة على وجهها الصحيح الذي يحرك

إلى النظر ومن بلغته فنظر فيها بالإخلاص ولم تظهر له حقيقتها فهو غير معاند

للحق ولا كاره بسوء اختيار للخير. وعلامة مثله أن يتبع ما يظهر له أنه الحق

ويعمل بما يراه من الخير بحسب فهمه واجتهاده، ولكنه مع هذا لا بد أن يكون منحط

العقل والإدراك؛ إذ عُرض عليه أرقى العقائد وأسمى الفضائل وأعدل الشرائع فلم

يهتد إلى فهم مكانة هذه الأصول فلا يكون ارتقاؤه من فهم هذه الأصول

وتقبلها وكمل نفسه بها. فالناس طبقات في الارتقاء العقلي والروحي أرقاها طبقة

المؤمنين الكاملين و (قليل ما هم) ، وأسفلها طبقة الذين ينبذون الحق لا يحفلون به

ولا ينظرون في دعوته أو يعاندونه ويجحدونه كراهة وعداء لأهله وبينهما طبقات من

الناس كالذين يقبلون الدعوة ولا يقومون بحقوقها كما يجب والذين لم تبلغهم الدعوة

بالمرة. وقد أرشدنا الدين إلى أن الناس يكونون في النشأة الآخرة في دارين

إحداهما دار نعيم ورضوان، والثانية دار آلام وخذلان سميت الأولى الجنة؛ لأن فيها

جنات وبساتين، لا بمعنى أنها بستان واحد فقط، وسميت الثانية النار والجحيم، لا

بمعنى أنها كلها جذوة نار ملتهبة، بل ورد أن فيها زمهريرًا. وأنهما دارا خلود

للسعداء والأشقياء، وكلاهما من عالم الغيب لا يجوز لنا البحث عن حقيقتهما والتحكم

في بيان كُنهما كما هو مقرَّر في علم العقائد من وجوب التفويض في أمر

الآخرة وعالم الغيب.

وخلاصة القول: إن الإنسان خلق مستعدًّا لقبول الحق والباطل، ولعمل الخير

والشر، وهو مختار في أفعاله التي بها يترقى في عقله وروحه؛ وكمالها ما أرشد

إليه الدين الحق أو يتردى فيهما؛ وغاية ترديه الجحود والكفر. وإن خلق الإنسان

على هذه الصفة التي هو عليها من أبدع حكم الله وعدله، وإن هذا النظام والإحكام

سيكون من أثره سعادة المرتقي بالإيمان الكامل والعمل الصالح في الحياة الآخرة،

وشقاوة الكافر المجرم في النشأة الثانية، وكل ذلك نتيجة عمل الفريقين وأثر سعيهما

كما يتنعم العالم الحكيم باللذات العقلية، والمعارف الصحيحة، والأخلاق الكريمة في

هذه الحياة؛ من حيث يكون الجاهل الشرير في عذاب أليم من وساوسه وهواجسه

ومفاسد أخلاقه. فالجزاء في الدنيا وفي الآخرة كله عدل ورحمة؛ لأنه أثر النظام

والحكمة، فالاعتراض على تفاوتهم في الآخرة كالاعتراض على تفاوتهم في الدنيا:

{وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (هود: 101){وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 118) .

وقد بينا هذه المعاني مرات كثيرة في التفسير وفي غير التفسير، وكنا نود أن

نكتب هذا الجواب في وقت صفاء وسعة ليكون أتم بيانًا، ولكن زارنا عند الكتابة

أناس شغلونا بالقيل والقال؛ فإن خفي عن السائل شيء أو أحب زيادة البيان فيه

فليكتب إلينا ثانية، والله الموفق.

_________

ص: 150

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد

وغيرها من البدع

كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد

سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به

في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي

حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛

لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد

أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر

المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه

ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن

حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على

عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص

112 من الفتاوى الحديثية:

وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في

هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في

فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم

لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين

النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا

(تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة

التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا

يضر ذلك؟

فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير

كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه،

وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى)

وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة

المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع

شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا

فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى في

الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر

فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر

وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة

تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون

الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله

تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على

أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن الله تعالى

يباهي بكم الملائكة) .

وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن

الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم

الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول

السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز

قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي

صلى الله عليه وسلم وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب

إلخ.

وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه

فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع

المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع

لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع

المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي

الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على

الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو

نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور

ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي

الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ.

وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر

معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع

عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا.

وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب

النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي

الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم

في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال

يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ

الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله

الموفق.

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أحوال المغرب الأقصى

كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي:

أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد

من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته

تقرير مطالبه الآتية:

(1)

ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من 100 أورطة.

(2)

أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة

وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية.

(3)

أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين.

(4)

مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين.

(5)

تعيين مستشارين فرنسويين للمالية.

ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من

أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير

الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض

طلبات السفير.

ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن

اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل

إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل

الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا

لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها

وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من

حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه.

هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن

الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي

حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت

من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط،

والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير

الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من

(50000)

جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود

ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي

المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة

جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون

المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي

بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس

ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ......) والناس ينتظرون

من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على

الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول

إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من

السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر

هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية

نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور.

أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر

الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية.

ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح

المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان

والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس

فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير

الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح

المدارس ولا إصلاح بدونها! !

رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة

إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية

القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن

ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية

المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم

يكتف بالرد عليكم.

هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي

إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون

نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي

إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) .

اهـ.

(المنار)

إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك

لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ

بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما

يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا

لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك

كرامة لمولاي إدريس رحمه الله فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور

العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار

مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في

حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي

خسر بها الروس نحو150رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع

ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من

فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما

بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا

وبالاً عليهم.

_________

ص: 158