الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ حتى دنا من ناقتي فحل العقال، وأخذ يتخطى ويتمطى ذات اليمين وذات الشمال. فنفرت الناقة في مجاهل تلك الأرض، وجعل يستوقفها زجراً فتشتد في الركض. فبادرت أعدو إليها حتى استأنست من النفار، ورجعت بها أتنور تلك النار، وإذا الشيخ قد أخذ كل ما هناك وسار. فصفقت صفقت الأواه، وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم عمدت إلى عقال ناقتي المجفلة، وإذا طرس قد عقل به مكتوباً فيه بعد البسملة:
قل لسهيل: لست بالمغبون،
…
لولاي ذقت غصة المنون
فأنت والناقة في يميني
…
ملك بحق ليس بالمنون
لكن عفوت عنك كالمديون
…
وهبته الدين لحسن الدين
فقدم الشكر إلى ميمون!
قال: فعجبت من أخلاقه، وأسفت على فراقه. ووددت على ما بي من الفاقة، ولو مكث واستتبع الناقة.
المقامة الثانية وتعريف بالحجازية
حدث سهيل بن عباد قال: نهضت من الأهواز، أريد قطر الحجاز. فخرجت أطوي السباسب والبسابس، في عصبة من أولي الخلابس. فكنت أتفكه منهم بالحديث، وأنتقل منه بالقديم إلى الحديث. وما زلنا نظعن في المفاوز ونضرب، حتى دخلنا مدينة يثرب. فأقمنا بها غرار شهر، كغرة في جبين الدهر. وبينما نحن في ليلة بين الرحال، إلى جيرة بمكان الكليتين من الطحال. سمعنا زفرة متنهد، يليها صوت كئيب ينشد:
يا من يرد علي ما فقدت يدي
…
هيهات ليس يرد أمس إلى الغد!
فقدت يدي طيب الحياة! وهل ترى
…
لي مطمع في الغابر المتجدد؟
ماذا يفيد العيش صاحب كربة
…
لهفان يمسي في الهموم ويغتدي؟
الموت أطيب من حياة مرة
…
تقضى لياليها كقضم الجلمد!
مضت الليالي البيض في زمن الصبا
…
وأتى المشيب بكل يوم أسود
يا حبذا ما فر من أيامنا
…
لو كان يمسك عندنا كمقيد!
أنفقت صفو العيش حتى إنه
…
لم يبق لي إلا ثمال المورد
يا ليت ذي الأكدار أول معهد
…
كانت، وذاك الصفو آخر معهد
ويحي! متى أمسي ولي نفسٌ بلا
…
صعد وأنفاس بغير تصعد؟
ما كنت أحسد سيداً في ملكه
…
واليوم أحسد عبد عبد السيد!
قال: فلما سمع القوم لهجته الشجية، ورأوا ما له من سلامة الشجية. رقت أفئدتهم عليه، وصبت عواطفهم إليه. وقالوا: هل لنا من يطرق مضجعه، ويؤنسنا بالتمازج معه؟ فما عتم الرجل أن وقف بنا منتصباً، وأنشدنا مقتضباً:
أنا الذي ساح البلا في ساحتي
…
أباح سري واستباح باحتي!
روحي كريحاني، وراحي راحت
…
ريحاً، فراحت راحتي من راحتي!
فاستحلى القوم هذا التجنيس، وأحلوا الرجل محل الأنيس. ثم استطلعوه طلع أمره، وما ذاق من خله وخمره. فقال: يا كرام العرب، وكعبة الأرب. إني لقد كنت أفري وأقري وأفدي وأسدي. وما زلت ألبس وأطعم، وأجيز وأنعم. حتى ذهب ما في السفط جزافاً،
ونفد ما في الكظيمة استنزافاً. فصرت أجوع من ذؤالة، وأعطش من ثعالة. وإني لطالما كانت تصدع وطأتي الصفا، ويخدش براجمي السفا. فصرت أمشي بقدم الأخنب. وأبسط راحة الأكنب. ولم يبق لي الدهر سوى ولد، أذل فلما حان الهداء وآن البناء. قال ذووها: لا صهار، إلا بالإمهار. فنقدتهم ما راج، وخرجت أسعى بما غير كجابي الخراج. وقد أبرزت لكم حضيضتي، وبضيضتي. وأطلعتكم على عجري وبجري. فإن أحسنتم فأنا من الشاكري، وإلا فإني من العاذرين. فاستحسنوا إشارته، واستلطفوا عبارته. وقالوا: رحبت بك الدار، وحباه كل واحد
بدينار. فانثنى وهو يثني جميلاً، ويمشي ذميلاً. فلما أصبحت قصدت مثواه، لأصطبح بنجواه. وإذا هو صاحبنا ابن الخزام، وقد قام لديه ذاك الغلام. فقلت: أهذا الخطيب المعهود، فأين الملاك المشهود؟ قال: أرجو أن يكون خطيباً، فإني أراه لبيباً. ثم قال: يا بني إن الرامي بعلة الورشان، يأكل رطب المشان، وهذه إحدى حظيات لقمان، فإن رأيت ما سيكون ذهلت عما كان. واعلم أن العيش نجعة، والحرب خدعة. فإذا لم تغلب، فاخلب. وإذا
بليت بسوء المصير، فعليك بحسن التدبير. فلبثت عنده يومي أجمع، أتمتع بالمنظر والسمع. وهو يطرفني بما مر برأسه من العبر، ويحدثني بما ختل وختر، والخبر عندي يعضد الخبر. إلى أن زالت الشمس أو كادت تزول، فاستلقى على وسادته وأنشأ يقول:
أعوذ بالمهيمن الفياض
…
من أهل هذا الزمن المهتاض
أسلمهم كالأرقم اللضلاض،
…
يلسع كل قادم وماض!
إياك يا صاح من التغاضي
…
واحذر ولو من طلحة الفياض
من عاشر الخلق بخلق راض،
…
وباشر الجفون بالإغماض
هيهات أن يخلو من انقباض،
…
ما الختل يا بني من أغراضي!
لكن تصدى الظلم لانتهاضي
…
أن أدفع الأمراض بالأمراض
والظلم من خبائث الحياض
…
يُلجى إلى تدنس الأعراض
لو أنصف الناس استراح القاضي