الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لوم. فأجبته إلى ما طلب، وإذا به قد كتب:
أنا ذاك الطبيب وإن طبي
…
لنفسي لا لزيدٍ أو لعمرو
وما عالجت سقم الناس يوماً
…
ولكني أعالج سقم دهري
إذا ما مسني ضنكٌ، فعندي
…
جوارش حيلةٍ وشراب مكر
فلما وقفوا على أبياته، تعوذوا بالله من آفاته. وقالوا: إن لم يكن طيبياً، فكفى به لبيباً فهل لك أن ترده علينا لظرفه، إن لم يكن لعرفه؟ قلت: ذاك مما لا يقرب، فإنه أجول من قطرب. ورجعت إلى موعدنا فوجدت أنه قد أفل قبل الشمس.
المقامة الحادية والثلاثون وتعرف بالعبسية
روى سهيل بن عبادٍ قال: ألجئت في الحجاز إلى الهرب، وأنبئت أن بني عبسٍ من جمرات العرب. ففررت إلى ديارهم معتصماً بجوارهم. ولبثت عندهم ردحاً من الزمان، تحت ظل الأمان.
حتى كنت يوماً بحضرة الحكم، على بعض الأكم. وإذا الخزامي قد أقبل تزبد شفتاه، وخلفه فتاته وفتاه. فلما وقف بنا استدعى الجمع واسترعى السمع. ثم قال: الحمد الله الذي شرف الحجاز وأهله، وأذل لبني غطفان حزنه وسهله. أما بعد فإنكم يا بني عبس آية البشر في البشر ولنزيلكم حق التيه والأشر. وفيكم المآثر التي تذكر، والآثار التي لا تنكر. ومنكم الرجال الذين سالت بذكرهم البطحاء كقيس الرأي وعنترة الفلحاء والكملة الأصحاء.
وعنكم تروى حرب السباق التي بلغ عجاجها السبع الطباق. ولكم الرفعة بمصاهرة الدول، والشركة في شرف السبع الطول. وإنني شيخٌ كاسف البال، مشارف الوبال. قد سألت الله ولداً حسناً، فكان لي عدواً وحزناً. يوسعني زجراً ولا يطيع لي أمراً، وإذا ضججت
زادني وقراً. فلينظر المولى إلي ويحكم لي أو علي. فأقسم الفتى بحرمة الحرمين، لقد نطق الشيخ بالمين. وقال: هو يسألني برامتين سلجماً، ثم يفتري علي حديثاً مرجماً. فأشكل بين القوم ذلك الخصام، وقالوا: قربةٌ شدت بعصام. فإما أن تصرحا لدى المولى، وإلا فالصمت أولى. قال: فحلت الفتاة الحبوة وثارت كاللبوة. وقالت: أنا أجعل خادعتهما رتاجاً، وقفلها زلاجاً. ثم أفرجت عنها اللفاع وانتفجت كاليفاع. وأنشدت:
هذا البريدي أبو العباس
…
قد كان بين الناس كالنبراس
يحف بالقيام والجلاس
…
ما زال بين طاعمٍ وكاس
مكلل الجفان صافي الكاس
…
حتى دهته ضربةٌ في الرأس
رمته بالإقتار والإفلاس
…
وحاجة الطعام واللباس
فصار من شدة ما يقاسي
…
يكلف ابنه سؤال الناس
فينفر الفتى الشديد الباس
…
من ذلك الذل، ولا يؤاسي
وتلك دعواه بلا التباس
فلما أرى الفتى انهتاك سره وانتهاك ستره. نشط من اعتقاله، كما ينشط البعير من عقاله. وقال: أما وقد برح الخفاء، وطرح الرفاء. فإنني رجلٌ عزيز النفس كأنني من سراة عبس. وقد ربيت في الخير والمير، كأنني مالك بن زهير. وكان هذا الشيخ يقري الضريك، ويعول الضنيك كأنه عروة الصعاليك. فابتزه الدهر الخؤون القاسط، كما فعل بقيسٍ حين لحق بالنمر
ابن قاسط. فلما قوض الدهر مناره وأخمد الفقر ناره. أنكرته المعارف، وضاقت عليه المخارفز فداره حابله على نابله، ورضي بالطل وابله. فصار يشتهي نضاضة الجفال ويتمنى نفاضة الثفال، وجعل يسومني ذُلَّ السؤال، ويحملني على استسقاء الآل. وقد صارت الفتيان حمماً وأصبحت الكرام رمماً. فلا يطمع منهم بذبالة ولا يؤخذون بحبالة، وذلك ضغثٌ
على إبالة. ولعل الله قد ساقه إلى حماكم، وأحيا سباخه بحياكم. فإنكم غيث الجود، وغياث المنجود. ومحط القوافل والقوافي، فليس القوادم كالخوافي. ثم أنشد:
إذا لؤم الدهر في نفسه
…
فللناس في حذوه المعذرة
وإن كان ذلك ذنباً له
…
فإن بني عبس المغفرة
قال: فسمد الشيخ كمداً وتنفس الصعداء ومداً، ثم مال على عصاه معتمداً. وأنشد:
أشكو إلى الله صروف الدهر
…
فقد رماني بالرزايا الغُبر
أصابني بهرمٍ وفقر
…
وأخذ الكرام أهل اليسر
فلم أصادف جابراً لكسري
…
جزاه مولاي جزاء الغدر
كما جزى البغاة آل بدر
…
إذا سفكت دماؤهم في الجفر