الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقامة الحادية والخمسون وتعرف باليمامية
أخبرنا سهيل بن عباد قال: تقلدت السفر طوق الحمامة، منذ اعتجزت بالعمامة. وكنت أهوى ديار العرب العرباء، لما فيها من الشعراء والخطباء والفصحاء والأدباء، والبلغاء والنجباء. فكنت أزجي إليها الركاب، وأتضمخ منها بالعجاج والعكاب. وأتعطر بالعرار والبشام، وأتفكه بالعرفج والثغام. وأطرب للنصب والحداء، وأبتهج بالثغاء والرغاء. حتى إذا كنت يوماً بحجر اليمامة، رأيت كتيبة فد أطبقت كالغمامة. فحثحثت الجواد، حتى حصحص لي ذلك السواد. وإذا فتى لاغط، وشيخ ضاغط.
والناس حولهما يتفرجون، ولا يفرجون. فانتصبت مع الوقوف، ونظرت من خلال الصفوف. وإذا الشيخ يقول: ويل أمك يا أخبث من الشيطان، وأروغ من الثعلبان إلام تتمادى في العقوق، وتتغاضى عن الحقوق؟ أما تذكر تثقيفي أودك، وتلقيفي رشدك؟ وهل نسيت ما تجشمت من جللك، في مداواة عللك؟ وكم أنفقت عليك في المدارس والمطاعم والملابس؟ فبأي آلاء ربك تتمارى، ولو كنت أبله من الحبارى؟ هذا والغلام يتظلم، ويتململ ويتألم. وهو أحير من ضب وأنفر من بعير أزب. فلما رأى القوم ما رأوا تململه، واصطخابه وتبلبله. قالوا: ليس شكوى بلا بلوى. فأبن أيها الشيخ عذرك وضع عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك.
فأرن كما يأرن المهر، وقال: قد تجنى علي هذا الغمر، والله يعلم أن ليس لي ذنب إلا ذنب صحر. إن هذا الفتى عربي الدار، لكنه رومي النجأر. وقد بذلت فيه من الدينار والدرهم، مالا يبذله خالد بن الأيهم. وأفرغت جهدي في تهذيب لسانه، وتعديل ميزانه. فلم يزل يكسر شكيمة اللجام، وينزع إلى ألفاظ الأعجام. فيدعو المعلم، بالمؤلم. ويسمي القلب بالكلب. والحيطان بالخيطان. ويعرف
المضاف، ويؤخر الموصوفات عن الأوصاف. وهذا مما تأباه السجية الأدبية، وتستك منه المسامع العربية. وشهد الله أني أريد تهذيبه، لا تعذيبه. وأرغب في تثقيفه لا تعنيفه. لكنني أجتهد في تسديده فيعثر، وأروم تشديده فينفر. وإن كنتم في ريب من ذلكم فاختبروه، وإلا فأنا أمتحنه لتعتبروه. قالوا: لا جرم أن الموالى، هو الأولى. فأمسك هنيهة عن الكلام، ثم قال قل يا غلام:
أنا الخزامي الرقيق الكلم
…
مسحت ركن المسجد المحرم
ولي غلام من نتاج العجم
…
يشرق في فؤاده وفي الفم
أوجده باري الورى من عدم
…
وحاطه بالقدر المصمم
فلم يزل في حرس متمم
فتعزز الفتى وتمنع، وهو يروغ كالفارس الأهنع. فما زال به القوم حتى أجاب فترحرح، وأنشد بصوت صمحمح:
أنا الخزامي الركيك الكلم
…
مسخت ركن المسجد المخرم
ولي غلام من نتاج الأجم
…
يشرك في فؤاده وفي الفم
أوجده باري الورى من أدم
…
وخاطه بالكدر المسمم
قلم يزل في خرس متمم
قال: فلما رأى القوم سقم هذه الألفاظ، وما أدت إليه من المعاني الفظاظ. تعوذوا بالله من سوء تلك اللثغة، وقالوا: ما هذا الغلام الذي لا يشترى بفشغة؟ فتبرم الشيخ وتأفف وتأوه وتسف. وقال: قد علمتم أن عثار اللسان شر من عثار القدم، ولكن ماذا ينفع الندم؟ وإنني طالما حدثت نفسي بعتاقه، وهممت بانعتاقي من وثاقه. ولو وجدت لي عنه غنى أو كان في يدي سعة من الغنى. لبعته بنصف القيمة، واشتريت غيره بضعف السيمة. ولكن قد انقطع السلى، فلا حول ولا. فأجهش الفتى عن كثب، وأخذ رقعة وكتب:
هبوا خطأ اللسان علي عيباً
…
أما لي غيره شيء يصيب
أنا ابن اقعد وقم لا في الندامى
…
أعد ولا سمير أو خطيب
أدير من المعاني كل كاس
…
تطيب فخل لفظي لا يطيب
إذا كان الجميل سليم حسن
…
فليس يضره ثوب معيب
فلما وقف القوم على شعره، ورأوا انحطاط سعره. قالوا: إن لم يحسن الكر فالحلب والصر. ونقدوا الشيخ بعض المال وقالوا للفتى: دونك الجمال. فسر كلاهما وارتضى، وودعهم الشيخ ومضى. قال سهيل. وكنت قد عرفت ذينك الصاحبين، اللذين سيئاتهما تغلب الكاتبين. فقفوت الشيخ في تلك البقاع، وقلت: يا فرزدق أين وقاع؟
قال: انزل بنا هنا والليل يواري حضناً. فنزلنا إلى أن استوهن الليل، وإذا رجب على شيظمة من جياد الخيل، تندفق به كعارض السيل. وهو بين ذلك ينادي الليل وأهضام الوادي. واستمر يعدو الهملجة، على مهرته السملجة. فما أدركناه إلا وقد اشمخر الضحى، وكلت الخيل من الوحى. فزلنا جميعاً من السروج في بعض تلك المروج. حتى إذا انجاب بهر الأنفاس، وثاب أشر الأفراس. ثار رجب كالرئبال، وقال: لا تقسط على أبي حبال، وترك القوم يكسرون عليه أوعاظ النبال.