الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخ أشد جنوناً
…
من دقة بن عبابه
قد خاتلته فتاةٌ
…
واستجهلته صبابة
فحي شيخك عني،
…
وقل متى جئت بابه:
ثم عصفت بمطيتها كما انتشب السهم، أو كما خطر الوهم. فعلقت الأبيات في رقعة، وأودعتها تلك البقعة. وانطلقت في أثر الفتاة إحضاراً، فلم ألحق لها غباراً، ولا عرفت لها قراراً، فخرجت من الديار الشامية، وأنا أحتسب الله على الفتن الخزامية.
المقامة السابعة عشرة وتعرف بالحكمية
أخبر سهيل بن عباد قال: خرجت في قافلة، بعصابةٍ حافلة.
فكنا نصل الإسآد بالتأويب ونراوح بين الإهذاب والتقريب. حتى أفضت بنا الرحلة إلى شاطئ دجلة. فنزلنا القض والقضيض، في أكناف ذلك الحضيض. فراقتنا فاكهته وفكاهته، وشاقتنا نزهته ونزاهته. فأقمنا ثلاثاً نجتني قطوف أفنانه الميلاء، ونشرب صافي تلك الحجيلاء. حتى إذا أزف الرحيل، وزمت الهجمة والرعيل. قيل هذا يوم النيروز. ولا بد للناس من البروز. فلبد القيروان عجاجته وبلد لجاجته. ولما ألقت الغزالة لعابها، وضربت الضحى أطنابها. نقر القوم ثبات في تلك الرباع، وانتشروا مثنى وثلاث ورباع. فلما انتظمت
الفئام، وجلست القيام في الخيام. نحرت الجزر وشبت النار، وفاح العثان والقتار. وأخذ القوم في تداول الألحان وتناول بنت الحان. إلى نثر الأصيل على نور الشمس نور البهار، وكاد جرف النهار ينهار. فنهضنا، من حيث ربضنا، وأقبلنا إلى حيث قابلنا. وإذا موكب من الرجال، قد ازدحموا على شيخ بال رث الجسم والسربال، وهو قد أن من شدة الكلال، وشرع يوصي رجلاً بين بديه فقال: يا بني لا تسلم نفسك إلى هواك، ولا تستودع سرك سواك. ولا تفوض أمرك، إلا لمن يعرف قدرك. ونزه نفسك عن الخسائس، وقلبك عن الدسائس. واحفظ لسانك من الخلل، قبل أن تحفظ رجلك من الزلل. واقتصد في ما تعتمد. ولا تستعجل، في ما تستعمل. ولا تهرف، بما لا تعرف. ولا تطمع، في ما تجمع، ولا تصدق كل ما تسمع. ولا تنقل القدم، إلى
ما يعقب الندم. ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا يستفزك الدهر فرحاً أو ترحاً. ولا تمتهن الضعيف الساقط، ولو كان ماقط بن لاقط. ولا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً. وإذا استغنيت فلا تبطر، وإذا افتقرت فلا تضجر. وإذا ابتليت فاصطبر، وإذا رأيت العبرة فاعتبر. وإذا أردت أن تطاع، فسل ما يستطاع، وإذا حدثت فعليك بالإيجاز، ولا تلبس الحقيقة بالمجاز. ولا تعد إلا وأنت قادر على الأنجاز. ولا تبادر بالجواب قبل استيفاء الخطاب. ولا تقض الدين بالدين، ولا تطلب أثراً بعد عين. واعلم أن
لكل صارم نبوة، ولكل جوادٍ كبوة، ولكل عالم هفوة. ولكل مقام مقال، ولكل دهرٍ رجال. ولكل قضاء جالب، ولكل در حالب. ومن حسنت سريرته حمدت سيرته. ومن أطاع غضبه، أضاع أدبه. ومن تأنى، نال ما تمنى. ومن سعى، رعى. ومن جال، نال. ومن قل، ذل. والحرحر، وإن مسه الضر. والكذب داء، والصدق شفاء. وطعن اللسان، كوخز السنان. وظن العاقل، أصح من يقين الجاهل. والظمأ القامح، خير من الري الفاضح. وعليك بالمحاجزة، قبل المناجزة. وبالإيناس، قبل الإبساس. وبالعتاب، قبل العقاب. واستعذ بالله من الشيطان
الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. قال: فلما استتم كلامة قال: أنه من سليمان، وأنها لمن وصايا لقمان. فادرسها كلما شهدت الشهر واذكر شيخك الذي اعترك الدهر، وقلب أهله البطن الظهر، فعرف منهم السر والجهر. ثم ثاب إليه بعض الرمق فتجلد، ورأرأ بحدقتيه وأنشد:
إني لقد جربت أخلاق الورى
…
حتى عرفت ما بدا وما اختفى
كل يذم الناس، فالذي نجا
…
من ذمه يدخل في ذم الملا
والمرء مطبوع على البخل إذا
…
جاد فجوده عن العرض فدى
يريد أن يغترف البحر ولا
…
يترك منه قطرة تروي الظما
ينسى من المحسن طوداً قد رسا
…
وليس ينسى ذرة ممن أسا
ولا يحب غير نفسه فما
…
أحبه فهو إلى النفس انتهى
يعرف كل حاله في ما مضى
…
إلا الذي كان دنياً فارتقى
وكل علمٍ يدرك المرس سوى
…
عرفان قدر نفسه كما اقتضى
بالعقل والدين له كل الرضى
…
أما بماله وجاهه فلا
وكلما عقل الفتى قل اكتفى
…
به كما ظن فسر وازدهى
قد طبع الناس على الظلم! فما
…
سلم أمرٌ لامرئٍ إلا بغى!
يؤذي الجهول نفسه، فإن جنى
…
يوماً عليك لا يلام بالأذى
ويذخر الشيخ لدهر، ويرى
…
بعينه الموت لدى الباب استوى
ينعم البعض بمال يختبى
…
وبعضهم ببذله في ما اشتهى
من عاش بالتقتير من ذوي الغنى
…
فإنه أفقر من فوق الثرى
كل يعد نفسه نعم الفتى
…
فمن هو اللثيم منا يا ترى!
لو عرف الإنسان عيبه، لما
…
رأيت عيباً فيه، ما طال المدى
وكل عيب كان من طي الحشى
…
في المرء، ينمو فيه كلما نشا
لا يشعر الجاهل بالجهل، كما
…
لا يشعر السكران إلا إن صحا
لا يعرف الصحيح قيمة لما
…
كان من الصحة حتى يبتلى
لا يحمد القوم الفتى إلا متى
…
مات، فيعطى حقه تحت البلى
لو كان كل يعرف الحق سوى
…
لكان كل الناس أهلاً للقضا
من قال: لا أغلط في أمر جرى
…
فإنها أول غطة ترى
وقلما أبصرت نعمة على
…
شخص، ولا تقول: قد ضاعت هنا
وقلما كان شجاعاً في اللقا
…
إلا عزيز النفس والجود كذا
وكل ما في غير مثواه ثوي
…
يسمج في العين ويؤذي من رأى
وكل ما عن منهج الطبع التوى
…
تنكره النفس ولو نفعاً جنى
وكل من تاه دلالاً وادعى
…
مستكبراً، فذاك ناقص الحجى
وكل من شاب على خلق فلا
…
تنصحه، فهو ليس من أهل الهدى
وكل من لا خير منه يرتجى
…
إن عاش أو مات على حد سوا
فلما فرغ من أبياته استهلت دموعه من المآقي، وقال سبحان الحي الباقي، ثم سجا على مضجعه حتى خيل أن روحه قد بلغت التراقي. فأخذت القوم الشفقة، وقالوا لغلامه: خذ هذه الصدقة، إن مات فللتجهيز، وإن عاش فللنفقة. ثم ولوا الأدبار، وهم يضجون بالدعاء له والاستغفار. قال سهيل: فلما خلونا وانتفت التقية، نفض عن نفسه غبار المنية. وقال: يا غلام اذهب بهذه الدستجة، فجثنا بما نشرب الهفتجة. فابتهجت
بإرجاء حينه، وتأملته فإذا هو الخزامي بعينه، فعجبت من ريائه وميه. وقلت. يا أبا ليلى: كيف تعظ الناس بما ذكرت، وتصف الناس بما أنكرت؟ فأشاح بوجهه خجلاً، ثم أنشد مرتجلاً:
وصفت الناس بالنكر
…
وإني لست بالناسي
ولكن نسي الغافل
…
أني أحد الناس
ثم قال: يا أبا عبادة ليس من العدل سرعة العذل. ومن لا يؤخذ بالأشعبية، فخذه بالشفربية. وإني قد أفدت من الحكم والأمثال، ما لا يعادل بدرهم ولا مثقال. فإما أن تبذل كما بذل القوم، وإلا فالسكوت عن اللوم. قال: فأمسكت عن معاذير الملفقة، وإن لم يضل دريص نفقه. ولبثت في صحبته بالعراق، إلى أن قضى الله بالفراق.