الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من بني الشمردل. فعجب القوم من براعته ورقاعته، وأكبروا سر صناعته. وقالوا: هل تملي علينا ما أنشدت، وسنجزيك بما أفدت. قال: إن لي كاتباً أجرى من السيل، في الليل، ثم قال: هلم يا سهيل. فلما أقبلت عليه قال: اكتب يا بني، وأخذ يملي علي. فلما فرغنا من الإملاء والتعليق، أفرغوا علينا ما يليق، واعتذروا من الإجحاف بالخليق. قال: وكنت قد عرفت أن الشيخ صاحبنا ابن الخزام، فما صدقت أن أفلت من الزحام، حتى تعقبته وهو يعدو في أخريات الخيام. فاستوقفته فأبى، وقال موعدنا مهب الصبا. فرجعت بين الخيبة والظفر، إذ حرمت صحبته ورزقت نفقة السفر.
المقامة العشرون وتعرف بالبصرية
حدثنا سهيل بن عباد قال: قدمت البصرة ذات العويم، في ركب من بني الهجيم. فجعلت أطوف بها ما أطوف حتى انتهيت إلى مربدها الموصوف. وإذا في ساحته قوم قد توسدوا ثراها، وهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فطارحتهم سنة التسليم، وقلت: هل في الكاس حظ لنديم؟ قالوا: لقد أتيت أهلاً، ونزلت سهلاً. فجلت لديهم جلوس التلاميذ، بخصرة الأساتيذ. وأخذوا يتداولون الفنون، ويبرزون كل مكنون. حتى خاضوا في فن البديع، وأفاضوا في التجنيس والتنويع. كان في صدر الحلقة شيخ أفطس العرتبة، كأنه أحد الأغربة. فقال: قد علمتم أيها الناس، أن أعظم
الجناس، ما لا يستحيل بانعكاس. فمن ظفر بفرائده الحسنى، فاز بالمقام الأسني، وسلم له البديع لفظاً ومعنى. قالوا: تراك من أهل الدار، وفرسان المضمار. فحدث بنعمة ربك، ولا تكتم ذخيرة لبك. قال: نعم كنت قد نظمت أبياتاً منه في الصباء، وهي معجزة عند الأدباء. قالوا: إن رأيت أن تنشدنا إياها فلك المنة، وقد دفعت عن نفسك الظنة. فتلا:"إن بعض الظن إثم"، ثم قال اسمعوا يا أولي العلم. وأنشد يقول:
قمر يفرط عمداً مشرق
…
رش ماء دمع طرفٍ يرمق
قرطة يقدي جلاه أيمنٌ
…
من مياه الجيد فيه طرق
قبس يدعو سناه إن جفا
…
فجناه أنس وعد يسبق
قد حلا كاذب وعد تابعٌ
…
لعباً تدعو بذاك الحدق
قرحت ذا عبرات أربعٍ
…
عبرات أربع إذ تحرق
قلق يلثم نادي عبلةٍ
…
لبعيد، إن مثلي قلق
قفرة الربع أهالت فتيةً
…
فتلاها عبرٌ لا ترفق
قد حماها ركب ليلٍ حافظ
…
فاح ليل بيكراها محدق
قرَّ في إلف نداها قلبه
…
بلقاها دفن لا يفرق
قطنت هيفاء فيه آمناً
…
إنما هيفاء فيه تنطبق
قف ألا قاضٍ فإني ضاق بي
…
ريب قاضينا فضاق الأفق
قلم يجري سيلقى ضرماً
…
مر ضيق ليس يرجى ملق
قيل: إفتح باب جارٍ تلقه
…
قلت: راجٍ باب حتفٍ أليق
قل طعم دونه رد بكم
…
كبيد رهن ودمع طليق
فلما فرغ من أبياته صفق القوم، وقالوا: لا عهد لنا بمثل هذه قبل اليوم. فإن هذا الجناس كالعدد المعدول، لم يتجاوز أربعة من المنقول. قال
سهيل: فانبرى له رجلٌ أشمط العارضين، يكاد الشرب الرافدين. وقال: يا هذا إن الفجر بالأثير، لا بالكثير. وإنما ينافس في الثمين، لا في السمين، فكم فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين. قال: صدقت إن خير الكلام ما قل وجل، ولكن من ادعى بلا بينة فقد زل وذل. قال: أعوذ بالله من زله العمد، وسفاهة العبد. إني نظمت بيتين لبعض الأمراء، طردهما مديح وعكسهما الهجاءٌ. فكان ينظر إليهما بعين الأحول، ويقصر عنهما الباع الأطوال. قال: فهلم بما فتح الله عليك، قال: لبيك وسعديك! وأنشد:
باهي المراحم لابسٌ
…
كرماً قديرٌ مسند
باب لكل مؤملٍ
…
غنم لعمرك مرفد
ثم عمد إلى قلبهما، فإذا هو يقول بهما:
دنس مريد قامر
…
كسب المحارم لا يهاب
دفر مكر معلم
…
نغل مؤمل كل باب
قال: فاستفزت القوم تلك الصناعة العذراء وقالوا: علم الله أنها لأغراب من العنقاء. ثم أقبلوا على الرجل يرجمونه بالأحداق، وقالوا: فداك أهل العرق! فمن أنت ومن أي الآفاق؟ فتنهد، ثم أنشد:
أقبلت من أرض اليمامة
…
أبغي العراق على استقامة
جبنت الدلامس بالعرا
…
مس في النعامة كالنعامة
زرت الكرام لأنني
…
قد كنت من أهل الكرامة
أتلفت مالي في الندى
…
لا في الصبابة والمدامة
أقري الضيوف وأقتري
…
حمل الحمالة والغرامة
وأسد خلة مقتر
…
وأرد لهفة ذي ظلامه
وأجيز كل مقرظ
…
عن كل شعرٍ أو مقامه
قسمت مالي في الملا
…
ونسيت سهمي في الحتامة
وسقيتهم مائي فرح
…
ت كأنني كعب بن مامه
برح الخفا فندمت ل
…
كن حيث لا تجدي الندامة
درج الصبا والمال وال
…
نفس العزيزة والشهامة
عذبت نفسي بالقنو
…
ط وعذبتني بالملامة
قد كنت أطمع في الغنى
…
واليوم أقنع بالسلامة
فلما انتهى إلى هذا البيت أن كالمريض وقال حال الجريض، دون القريض، وأثرت شؤونه تفيض. فرثى القوم لبلواه،
وفثأوا ما جاش من جواه. وقالوا: جمع الله شملك فأين خلفت أهلك؟ قال: قد خلفت الجربة، في الشربة، لا يملكون حبة. وهم ينتظرون إيابي على الأثر، كما تنتظر الأرض وسمي المطر. فجمعوا له قبصة من العين، وقبضة من اللجين. وقالوا: إن الكريم أولى بالكرم، قال: نعم، وأهل الحرمة يرعون الحرم، قال سهيل: وكنت قد عرفت أنه الخزامي عند نظري إليه، لكنني أنكرت اغبرار عارضيه. فلما فصلنا عن المكان قلت: حيا الله أبا ليلى! قال: وميمون يفدي سهيلا! قلت: عهدي بك شيخاً فكيف رجعت كهيلا؟ فأنشد:
لا تنكرن ما ترى من الشمط
…
إن السواد والبياض إذ وخط
من طرف الأمور فاخترت الوسط
فانعكفت عليه انعكاف المغرم الكلف واعتنقته اعتناق السلام للألف. فأخذ يسايرني على رسله، حتى انتهى بي إلى رحله. وأقمت