الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من العطب وخالج قلبه أن الرثيئة تفثأ الغضب. فأخرج له بردة ممصرة، وقال: إليك المعذرة. فاضطبنها وخرج، وقال: ليس على الأعمى حرج. وكانت تلك البردة، آخر عهدنا به في تلك البلدة.
المقامة الأربعون وتعرف بالجدلية
حدثنا سهيل بن عباد قال: أصابتني وعكة شديدة، مدة مديدة. فانعكفت على توفية العلاج وتنقية الأعفاج، من الأمشاج. حتى صرت أوق من العفاص، وأدق من النماص. فلما أمنت مس العرواء، وثاب ألي مرح الغلواء. حملني الخواء على الشراهة، ودعاني الملال إلى النزاهة. فكنت ألتهم التهام
الناعط، وأخرج خرج الضافط. حتى دخلت يوماً إلى حديقة جميلة ذات جميلة، قد رتعت بها عصابة جليلة. وقد سطع فيها قتار الجزر، حتى غشي الجدر، فقلت: أمرعت فانزل، واقتحمت ذلك الزحام المتعثكل. وإذا رجل عليه رداء، مثل اللواء. وعلى رأسه عمامة مثل الغمامة. وهو قد أقبل على شيخ أدرد، عليه حنبل أجرد وقد التثم حتى صار كالأمرد. فقال: قد علمت أيها الشيخ أن المال زينة الحيوة الدنيا، وعليه نموت ونحيا. فإنه يقضي لبانة الأولى بالمسرة، ويسهل طريق الأخرى بالمبرة. وعليه مدار العيش ونظام الجيش. وبه قيام الممالك وتمهيد المسالك، ودفع المهالك. وهو قاضي الحاجات ورافع الدرجات ومستعبد السادات، وخارق العادات. ومشدد الهمم ومبدد الغمم. وهو الحبيب الذي يفديه بالنفس، كل من تحت الشمس. ويجد لفراقه الكمد، من لا يسوءه فراق الولد. ولا يزال مرفوع الشان، يشار إليه
بالبنان في كل مكان وزمان. وإليه تشد الرحال وتنتهي الآمال، ولولاه لتعطلت الأعمال، وحانت الآجال، وانقرضت القرون والأجيال. قال: فانبرى له الشيخ كأويس، وقال: لا أفلحت ما غب غبيس. إني أراك قد أطلقت العنان، حتى جعلت الزج قدام السنان. ويك إن المرء بالعلم إنسان لا بالمال، وهو المرقاة إلى درجات الكمال. وبه تعلم الحقائق، وتدرك الدفائق ويعرف المخلوق حق الخالق. وعليه ينفق الطريف والتالد وصاحبه ينال الذكر الخالد. فكم من الملوك والأغنياء، الذين كانت مفاتيح كنوزهم تنوء بالعصبة الأقوياء، قد درس ذكرهم وبقي ذكر العلماء. وحسبك أن العلم لا يناله إلا أفاضل الرجال وطالما نجى صاحبه من الأهوال، وقربه إلى ربه في جميع الأحوال. والمال طالما أحرزته رعاع الناس وألقى أهله في
المهالك والأرجاس، وأغراهم بالنزاع فكان بينهم دونه عكاس ومكاس. قال: فلما سمع القوم ما دار بين الرجلين، قالوا للشيخ: نرى صاحبك قد أخذ طريق العنصلين وتيمن بغراب البين. وإننا لنراه من الأغنياء والأغبياء، فإنه لا يعرف منزلة العلم والعلماء. فاستشاط الرجل غضباً، وقال: عش رجباً، تر عجباً. كيف يتأتى المراء بين اثنين وقد وضح الصبح لذي عينين. تباً لعلمك أيها الشيخ الباهل الذي بنوه كاليتامى وزوجته كالعاهل. وماذا ترى علمك، إذا كنت تشتهي فومة من الشذام وجرولاً من الدرمك؟ أتأكل القضيم
إذا طويت؟ وتشر النفس إذا صديت؟ وتلبس القرطاس إذا عربت؟ كان للعلم دولة عند أنماط الكرام، الذي يبنى عليه، والركن الذي لا يلتفت إلا إليه. فهم يحرمون الأديب ولا يحترمون اللبيب. ويصرمون الفقيه ولا يكرمون النبيه. فتضيع بينهم الكلمة كما ضاع الحديث بين أشعب وعكرمة. ولو صح وهمك، وأصاب سهمك. لما برزت بينهم بهذه الغدافل، ولا قمت فيهم مقام الوارش والوغل. فخفض عنك ما أنت فيه ولا تتخلق بأخلاق السفيه. ثم أنشد:
قد عرف الشيخ علوم الورى
…
لكن هذا العلم لم يدره
فليته أدرك هذا ولم
…
يدرك بواقي العلم في عمره