الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متبعون للكتاب والسنة " (1) .
[الجهاد الصادق في سبيل العقيدة]
الجهاد الصادق في سبيل العقيدة: يعتبر الإِمام ابن تيمية من مُجددي الدين والإِيمان في نفوس الناس، وحياة الأمة.
ولقد اقترن هذا التجديد، بجهادٍ طويلٍ صبور صادق، لقي ابن تيمية رحمه الله في أثنائه ما لقي من صنوف الأذى والضرّ، بيد أنه ثبت، وتحمل، ومضى يدعو إلى ما يعرفه من حق ويقين.
يقول رحمه الله في وصف ما حصل بينه وبين خصومه، وهو مثال واحد من مواقفه رحمة الله عليه:
" فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثنى عشر رجب وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضرا في ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة " صفي الدين الهندي " وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤا، وحضروا بقوة واستعداد
(1)" مجموع الفتاوى لابن تيمية ": (3 / 158 - 159) .
ما كانوا عليه، لأن المجلس الأول أتاهم بَغتة وإِن كان أيضًا بغتة للمخاطب الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر. فلما اجتمعنا، وقد أحضرتُ ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة الذي طلبوا تأخيره إِلى اليوم.
حمدت الله بخُطبة الحاجة، خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ثم قلت:
إِن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونَهانا عن الفرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]
وربّنا واحد، وكتابنا واحد، وأصول الدين لا تَحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يُوجب الجماعة بين المسلمين، وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجَمَاعةُ فالحمد لله، وإِلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت له الأسرار، وهَتكت الأستار، بَيَّنْتُ المذاهب الفاسِدة، التي أفسدت الملَل
والدول، وأنا أذهب إِلى سُلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس، فإِن للسلم كلامًا، وللحرب كلامًا " (1) .
وقال:
" ومعلوم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين من كانوا، وقد قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] فمن كان مؤمنًا فهو الأعلى كائنًا من كان، ومن حادَّ الله ورسوله فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] (2) "[المجادلة: 20] .
إِلى أن قال:
" فلما ذهبوا بي إِلى الحبس حكم بما حكم به، وأثبت ما أثبت، وأمر في الكتاب السلطاني بما أمر به، فهل يقول أحد من اليهود، أو النصارى - دع المسلمين -: إن هذا حبس بالشرع، فضلًا عن أن يقال: شرع محمد بن عبد الله، وهذا مما يَعلم الصبيان الصغار بالاضطرار من دين الإِسلام أنه مخالف لشرع محمد بن عبد الله "(3) .
(1) المرجع السابق: ص (181 - 182) .
(2)
المرجع السابق: ص (252) .
(3)
المرجع السابق: ص (253) .
إِلى أن قال:
" وأخذ يقول لي: هذه المحاضر، ووجدوا بخطك، فقلت: أنت كنت حاضرًا ذلك اليوم، هل أراني أحد ذلك اليوم خَطًا، أو محضرًا؟ أو قيل لي: شَهد عليك بكذا، أو سُمع لي كلام؟ بل حين شرعت أحمد الله، وأثني عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أَجذم» (1) مَنعوني من حمد الله وقالوا: لا تَحمد الله، بل أجب "(2) .
" فقلت لابن مَخلوف: ألكَ أُجيب، أو لهذا المدعي؟ - وكان كلّ منهما قد ذكر كلامًا أكثره كذب - فقال: أجب المدعي، فقلت فأنتَ وحدك تحكم أو أنت وهؤلاء القضاة؟ فقال: بل أنا وحدي، فقلت: فأنت خَصمي فكيف يَصح حُكمك علي؟ فلم تطلب منيِ الاستفسار عن وجه المخاصمة! فإِن هذا كان خصماَ من وجوه متعددة معروفة عند جميع المسلمين.
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام:(4840) ، وابن ماجه في كتاب النكاح، باب خطبة النكاح:(1894)، وأحمد في مسنده:(2 / 359) .
(2)
" مجموع الفتاوى لابن تيمية ": (3 / 255) .
ثم قلت: أما ما كان بخطي فأنا مُقيم عليه. وأما المحاضر فالشهود فيها فيهم من الأمور القادحةِ في شهادتهم وجوه متعددة تمنع قبول شهادتهم بإِجماع المسلمين، والذي شهدوا به، فقد علم المسلمون، خاصتهم وعامتهم بالشام وغيره ضد ما شَهدوا به " (1) .
" فإنِّي أنا من أي شيء أخاف؟ إِن قُتِلت كنت من أفضل الشهداء، وكان ذلك سعادة في حقي، يترضى بها علي إِلى يوم القيامة، ويلعن الساعي في ذلك إِلى يوم القيامة، فإِن جميع أمة محمد يعلمون أني أُقتل على الحق الذي بَعث الله به رسوله، وإِن حُبست فوالله إن حبسي لمن أعظم نعم الله عليّ، وليس لي ما أخاف الناس عليه لا مدرسة، ولا إِقطاع، ولا مال، ولا رئاسة، ولا شيء من الأشياء "(2) .
" ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم، فإِن الذين سعوا فيها من الشام، أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم، وفساد ملتكم، ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إِلى بلاد التتر،
(1) المرجع السابق: ص (256) .
(2)
المرجع السابق: ص (259) .
وبعضه مُقيم هناك، فهم الذين قصدوا فساد دينكم ودنياكم، وجعلوني إِمامًا بالتستر، لعلمهم بأني أُواليكمُ وأنصح لكم، وأريد لكم خير الدنيا والآخرة، والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف، وإِلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة، ولا بغضًا، وما زلت محبًا لهم، مواليا لهم: أمرائهم، ومشايخهم، وقضاتهم " (1) .
داعية وَحدة على أصل العقيدة: ما صدق أحد في الدعوة إِلى التوحيد الخالص، والعقيدة المنجية إلا صدق في الدعوة إلى وحدة الجماعة المسلمة.
وهذا من المسائل العظيمة التي يجب أن يتحراها العلماء والدعاة في كل عصر، وكل مكان، مسألة: أن الوحدة والائتلاف قرينَتا التوحيد الحق، وأن الفرقة والاختلاف قرينتا الزيغ، والهوى، والبدعة.
وكان ابن تيمية داعية إِلى التوحيد الخالص، والعقيدة العاصمة من الضلال، وكان - في الوقت نفسه - داعية إلى
(1) المرجع السابق: ص (260) .
ائتلاف المسلمين واتحادهم، وجمع كلمتهم على الأصول الجامعة.
ومما قاله رحمه الله وعمل به في هذا المجال:
" والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين، وطلبا لاتفاق كلمتهم اتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه "(1) .
" ولما أظهرت كلام الأشعري - ورآه الحنبلية - قالوا: هذا خير من كلام الشيخ الموفق (2) وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر (3) في مناقبه: أنه لم
(1) المرجع السابق: ص (227 - 228) .
(2)
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين الدمشقي الحنبلي، مصنف " المغني "، توفي بدمشق سنة (620 هـ)، " سير أعلام النبلاء ":(22 / 165 - 173) .
(3)
علي بن حسن بن هبة الله، أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي، المؤرخ الحافظ، توفي بدمشق سنة (571 هـ)، " سير أعلام النبلاء ":(20 / 554 - 571) .
تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إِلى زمن القشيري (1) فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم.
مع أني في عمري، إِلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إِلى مذهب حنبلي وغير حَنبلي، ولا انتصرتُ لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إِلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين، إِن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك، وأما ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل إِجماعهم من عامة الطوائف " (2) .
(1) عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن، أبو نَصْر القشيري النيسابوري الواعظ، زار بغداد ووعظ بها، فبالغ في التعصب للأشاعرة، وغَضَّ من الحنابلة، فوقعت بسببه فتنة عظيمة، فاستدعاه نظام الملك إِلى أصبهان إِطفاءً للفتنة ببغداد، توفي بنيسابور سنة (514 هـ)، " سير أعلام النبلاء ":(19 / 424 - 426) .
(2)
" مجموع الفتاوى لابن تيمية ": (3 / 228 - 229) .