المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين - مجموع رسائل الحافظ العلائي جـ ١

[صلاح الدين العلائي]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌ترجمة الحافظ العلائي

- ‌أولًا: اسمه ونسبه:

- ‌ثانيًا: مولده:

- ‌ثالثًا: شيوخه:

- ‌رابعًا: تلامذته:

- ‌خامسًا: الوظائف التي شغلها

- ‌سادسًا: مصنفاته:

- ‌سابعًا: ثناء العلماء عليه:

- ‌ثامنًا: مذهبه:

- ‌تاسعًا: وفاته:

- ‌منهج تحقيق الرسائل

- ‌جزء في ذكر كليم اللَّه موسى بن عمران صلوات اللَّه وسلامه عليه وما يتعلق بقبره

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌نسخة المؤلف

- ‌النسخة المساعدة

- ‌توثيق الكتاب

- ‌رِسَالَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌ثوثيق الكتاب

- ‌رِسَالةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}

- ‌التوصيف العلمى للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌رِسَالَة في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌تَحْرِيرُ الْمَقَالِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌خَاتِمَةٌ

- ‌آخر تحرير المقال في تحريم الحلال

- ‌مَسْأَلَة فِي مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌تَحْقِيقُ مَنِيفِ الرُّتْبَةِ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ شَرِيفُ الصُّحْبَةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ حَتَّى يَنْطَلِقَ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ اسْمُ الصَّحَابِيّ

- ‌المسألة الثانية: فيما تثبت به الطرق المتقدمة

- ‌المسألة الثالثة: فى تقرير عدالة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌فَصْلٌ

- ‌رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَنْ حَدِيثِ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّال

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌العُدَّةُ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

الفصل: ‌ ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين

‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين خطيتين إحداهما بخط المؤلف رحمه الله لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية:

‌نسخة المؤلف

وهي عبارة عن النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (135) مجاميع بخط المؤلف رحمه الله، وعليها سماعات كثيرة.

‌النسخة المساعدة

وهي نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (21201) ب.

- اسم الناسخ: غير معروف.

- تاريخ النسخ: غير معروف.

- عدد الأوراق: 5 ورقات.

‌توثيق الكتاب

لاشك في صحة نسب هذه الرسالة إلى الحافظ العلائي رحمه الله ويكفي أن النسخة الخطية بخطه رحمه الله وعليها سماعات كثيرة في أوقات مختلفة كتبها كتبها العلائي بخطه، والنسخة الثانية تقوي هذه النسبة وتؤيدها؛ فلسنا بحاجة بعد ذلك إلى مزيد بيان، كما أن الحافظ العلائي روى بأسانيده المعروفة عن شيوخه المعروفين، واللَّه أعلم.

وقد وجد في نهاية النسخة المساعدة قصيدة في مدح سيدنا موسى عليه السلام، ولم تذكر في نسخة الأصل، فالظاهر أنه رحمه الله أملاها بعدُ في أحد مجالسه، واللَّه أعلم.

ص: 26

الورقة الأولى من نسخة المؤلف

ص: 27

الورقة الأولى من النسخة المساعدة

ص: 28

الورقة الأخيرة من النسخة المساعدة

ص: 29

بسم الله الرحمن الرحيم

وما توفيقي إلا باللَّه

قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (1).

وقال تعالى: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (2).

وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (3).

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (4).

قال جماعة من العلماء: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللَّه عليهم الصلاة والسلام.

قال أهل التاريخ: لما مات الريان بن الوليد -وهو فرعون مصر الذي كان على زمن يوسف وولاه على خزائن الأرض- وكان قد أسلم على يد يوسف عليه الصلاة والسلام، وجاء بعده جبار فلم يسلم ثم جبار آخر، وأقامت بنو إسرائيل بعد يوسف عليه السلام بمصر حتى كثروا ونشأت لهم ذرية تحت أيدي العمالقة وهم على بقايا من دينهم الذي كان عليه يوسف وآباؤه عليهم الصلاة والسلام متمسكين به، حتى كان فرعون موسى الذي بعثه اللَّه تعالى إليه ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أقسى قلبًا ولا أطول منه عمرًا في الملك ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل وكان يعذبهم ويستعبدهم، وجعلهم خدمًا وخولًا وعاش فيهم أربعمائة سنة، فبعث اللَّه تعالى إليه موسى بن

(1) مريم: الآية 51 - 53.

(2)

الأعراف: الآية 144 - 145.

(3)

الأنبياء: الآية 48.

(4)

الأحزاب: الآية 69.

ص: 31

عمران صلوات اللَّه عليه وجرى له ما قصه اللَّه تعالى في كتابه في غير موضع مبسوطًا، وليس في القرآن قصة تكررت كثيرًا كقصة موسى، ولم يذكر نبي باسمه في القرآن كما ذكر عليه الصلاة والسلام.

أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن أبي العز الدمشقي، ووزيرة بنت عمر بن المنجا، وأحمد بن أبي طالب بن أبي النعم قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن أحمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف بن مطر، أنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام بن يوسف، أنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ مُوسَى فَإذَا هُوَ رَجُلٌ ضَرْبٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَرَأَيتُ عِيسَى فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِن دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِه صلى اللَّه عليهم وسلم".

كذا رواه البخاري في "صحيحه"(1).

وقد روي من حديث جابر بن عبد اللَّه وابن عباس أيضًا وغيرهما رضي الله عنهم:

أخبرناه إسماعيل بن يوسف بن مكتوم، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وأحمد بن أبي طالب قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر بن علي اللتي، أنا أبو الوقت عبد الأول، أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي، أنا أبو محمد عبد اللَّه السرخسي، أنا إبراهيم بن خزيم، ثنا عبد بن حميد الحافظ، ثنا أحمد بن يونس، ثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى رَجُلٌ ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ صلى اللَّه عليه وعليهم وسلم- وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ".

(1)"صحيح البخاري"(3394).

ص: 32

أخرجه مسلم في "صحيحه"(1) عن قتيبة، عن الليث بن سعد به، وروى الأول عن عبد ومحمد بن رافع، عن عبد الرزاق (2).

وأخبرنا القاسم بن مظفر بن محمود سماعًا عليه، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده إذنًا، أنا الإمام أبو عبد اللَّه الحسن بن العباس الرستمي، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه بن منده، أنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد اللَّه الرقاشي، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، قال حدثتا ابن عم نبيكم عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رَأَيتُ لَيلَةَ أُسْرِيَّ بِي مُوسَى ابْنِ عِمْرَانَ رَجُلٌ آدَم طُوَالٌ جَعْدٌ كَأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الدَّجَالَ في آيَاتٍ أَرَانِيهِنَّ اللَّهُ عز وجل".

صحيح أخرجه مسلم أيضًا من طرق عن قتادة (3).

و"الْآدَمُ": الأسمر.

فَقِيلَ: هو الشديد السمرة.

وَقِيلَ: بل لما كان دون ذلك مأخوذ من أدمة الأرض وهو لونها، ومنه سمي آدم عليه السلام.

والضَّرْبُ من الرجال قيل: هو الذي له جسم بين جسمين ليس بالضخم ولا الضئيل.

وقال ابن الأثير في "النهاية"(4): الضرب: الخفيف اللحم الممشوق المستدق، وجاء في رواية في هذا الحديث "مضطرب" وهو مفتعل من الضرب والطاء بدل من

(1)"صحيح مسلم"(167).

(2)

"صحيح مسلم"(168).

(3)

"صحيح مسلم"(165).

(4)

"النهاية في غريب الحديث"(ضرب).

ص: 33

تاء الافتعال لاقترانها بحرف الضاد وهو حرف مستعل، فقلبت طاءً لاستعلائها.

وأما "الْجَعْدُ" فإنه يكون في الصفات مدحًا ويجيء ذمًّا أيضًا، فالمدح معناه: أن يكون شديد الأسر والخلق، أو يكون جعد الشعر وهو ضد السبط؛ لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم؛ وأما الذم: فهو القصير المتردد الخلق، وليس مرادًا هنا قطعًا؛ لوصفه إياه صلى اللَّه عليهما وسلم بالطول في قوله:"طُوَالٌ"، وهو بضم الطاء وتخفيف الواو لغة في طويل وربما تضمن مبالغة في ذلك.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" فهي قبيلة معروفة من العرب اليمانيين سموا بذلك لأنهم كانوا يتباعدون عن الأنجاس يقال: رجل فيه شَنُوءَةٌ بفتح الشين وضم النون وهمزة مفتوحة بعد الواو: إذا كان فيه تقزز وتباعد عن الأقذار، حكاه الجوهري.

وَقِيلَ: سموا بذلك لأنهم تشانئوا، أي: تباغضوا وتباعدوا، والنسبة إلى أزد شنوءة: شنائي بالهمز، ومنهم من لم يهمز شنوءة فيقول في النسبة شنوي.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رؤيته لموسى عليه الصلاة والسلام مرة أخرى في الحديث الذي أخبرناه القاسم بن مظفر، عن محمود بن منده، أنا الحسن بن العباس الفقيه، أنا أبو عمرو عبد الوهاب، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه، أنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أبو مسعود -يعني أحمد بن الفرات- أنا عمرو بن عون، ثنا هشيم، أنا داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال:"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام وَهُوَ هَابِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى فَقَالَ: أَيُّ ثَنِيَّةِ هَذِهِ"؟

قالوا: ثنية هرشى.

فَقَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِن صُوفٍ خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ" يعني ليفًا.

وبه قال ابن منده: وأنا محمد بن يعقوب الشيباني، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى، ومحمد بن إبراهيم بن سعيد قالا: ثنا أحمد بن حنبل.

(ح) وأخبرنا حسان بن محمد، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، ثنا سريج بن يونس قالا: ثنا هشيم. . . فذكره.

ص: 34

رواه مسلم عن أحمد بن حنبل وسريج بن يونس على الموافقة (1).

وأخرجه أيضًا (2) من حديث ابن أبي عدي عن داود بن أي هند: أخبرناه القاسم ابن مظفر بإسناده هذا إلى ابن منده قال: أنا محمد بن إبراهيم بن مروان، ثنا زكريا بن يحيى بن إياس، ثنا محمد بن مثنى.

(ح) وأخبرني أبي، حدثني أبي، ثنا محمد بن بشار قالا: ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بواد فقال: "أَيُّ وَادٍ هَذَا"؟

قالوا: وادي الأزرق.

قال: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى. . . " فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود "وَاضِعًا إِصْبَعَيهِ فِي أُذُنَيهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّلْبِيَةِ مَارًا بِهَذَا الوَادِي. . . " وذكر بقية الحديث.

رواه مسلم عن محمد بن مثنى به (3).

"الجُؤَارُ": بضم الجيم وبالهمزة: رفع الصوت.

وَقَدْ اختَلَفَ الْعُلَمَاءُ في هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الَّتي رَآهَا نبينا صلى الله عليه وسلم لِلأَنْبِيَاءِ عليهم الصلاة والسلام:

فَقِيلَ: إن ذلك كان في المنام بدليل ما جاء في بعض الروايات في الصحيح (4) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ. . . " وذكر في الحديث قصة رؤيته عيسى ابن مريم عليه السلام.

وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ: إن ذلك رؤيا عين لا منام كما رآهم ليلة الإسراء رؤيا عين لا منام على الصحيح، وهذا هو القول الراجح.

(1)"صحيح مسلم"(166).

(2)

"صحيح مسلم"(166).

(3)

"صحيح مسلم"(166).

(4)

"صحيح مسلم"(171).

ص: 35

وعلى هذا فاختلفوا في معنى هذا الحديث الأخير الذي ذكر فيه كَيْفِيَّةِ حَجِّ موسى عليه الصلاة والسلام فذكر فيه وجوه:

أَحَدُهَا: أن هذا على ظاهره؛ فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء بعد موتهم كالشهداء بل أفضل، واذا كانوا أحياء فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى اللَّه تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم وان كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها ويعقبها الدار الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل.

وقد يقال أيضًا: إن هذه الأعمال تحبب إليهم فيتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون كما يحمده ويسبحه أهل الجنة، كما جاء في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس (1)، وهو معنى قوله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} (2) وإن كانت دار الجنة ليست بدار تكليف ولكن يكون ذلك على الوجه الذي ذكرنا، فكذلك حج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلواتهم.

وَثَانِيهَا: أنه صلى الله عليه وسلم أري حالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم.

وَثَالِثُهَا: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عما أوحي إليه من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم، لكن جاء به في هذا النسق لقوة اليقين بصدق ذلك إذ كان عن وحي.

والقول الأول هو الأصح الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة من أنهم صلوات اللَّه عليهم أحياء في قبورهم (3):

(1) رواه مسلم (2835) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

يونس: الآية 10.

(3)

قَالَ الشَّيْخُ الأَلبَانِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ "التَّوَسُّلِ":

إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ولا يدري كنهها إلا اللَّه سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ولا تخضع لقوانين، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض ويتكلم ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدا بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته. =

ص: 36

كما أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد المقدسي سماعًا عليه، قال أنا جعفر بن علي بن هبة اللَّه، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفىِ، أنا علي بن أحمد بن بيان، أنا طلحة بن علي بن الصقر، ثنا أبو بكر محمد بن عبد اللَّه الشافعي، ثنا موسى بن الحسن النسائي، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت وسليمان التيمي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رَأَيتُ مُوسَى يُصَلِّي في قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".

أخرجه مسلم عن هدبة بن خالد وشيبان بن فروخ كلاهما عن حماد بن سلمة به، ولفظه:"مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ"(1).

فهذه الرواية ظاهرة في حياة موسى عليه الصلاة والسلام في قبره، ويدل لذلك أيضًا حديث المعراج وترديده النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أن الراجح أن الإسراء كان بجسده صلى الله عليه وسلم:

أخبرنا الإمام أبو العباس أحمد بن إبراهيم الفزاري قراءة عليه وأنا أسمع سنة

= ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولم يخطر في بال أحد منهم أن يذهب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟

إن الأمر واضح جدا وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها، فرسول اللَّه في بعد موته حي أكمل حياة يحياها الانسان في البرزخ ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يسلم علي إلا رد اللَّه علي روحي حتى أرد عليه السلام".

وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يعلمها إلا اللَّه سبحانه وتعالى ولذلك فلا يجوز أن نقيس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى بل لكل منها شكل خاص وحكم معين ولا تشابه إلا في الاسم؛ أما الحقيقة فلا يعلمها إلا اللَّه تبارك وتعالى.

(1)

"صحيح مسلم"(2375).

ص: 37

ثلاث وسبعمائة وابن أخيه شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن والعلامة أبو الحسن علي بن محمد بن أبي القاسم الحنفي الحاكم بقراءتي عليهما في جماعة كثيرين قالوا كلهم: أنا أحمد بن عبد الدائم المقدسي. وقال شيخنا الأول: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبذ الرحمن الشافعي ومحمد بن علي بن العسقلاني في آخرين. قال ابن عبد الدائم: أنا أحمد بن علي بن صدقة. وقال أبو عمرو: أنا المؤيد ابن محمد الطوسي، وقال العسقلاني: أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي قالوا: أنا محمد بن الفضل الفقيه، أنا عبد الغافر بن الحسين، أنا محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم ابن محمد بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج الإمام، ثنا شيبان بن فروخ، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ. . . " فذكر قصة الإسراء وفيها: "ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟

قَالَ: جِبْرِيلُ.

قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟

قَالَ: مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟

قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لنَا فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عليه الصلاة والسلام فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيرٍ. . . " وذكر الحديث، وفيه "فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟

فَقُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً.

قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ.

قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى صلوات اللَّه عليه فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا.

قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.

قَالَ: فَلَمْ أَزَل أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى وَبَيْنَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام حَتَّى

ص: 38

قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمِ وَلَيلَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً.

قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيتُ إِلَى مُوسَى صلوات اللَّه عليه فَأَخبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْالْهُ التَّخْفِيفَ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فقلت: قَد رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" (1).

وبهذا الإسناد إلى محمد بن عمرويه، قال: ثنا أبو العباس الماسرجسي، ثنا شيبان ابن فروخ، ثنا حماد بن سلمة بهذا.

ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخبرنا المشايخ الجلة أبو الفضل، سليمان ابن حمزة المقدسي، ومحمد بن أبي العز بن مشرف، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم، وأحمد بن أبي طالب بن نعمة المعمر، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وفاطمة بنت عبد الرحمن بن الفراء الصالحيون بقراءتي عليهم سوى ابن مشرف فسماعًا عليه قالوا: أنا الحسين بن المبارك الربعي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد اللَّه بن أحمد، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل الإمام، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد ابن المسيب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا صلى الله عليه وسلم على العالمين في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم فقال:"لَا تُخيِّرُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثنَى اللَّهُ عز وجل".

كذا أخرجه البخاري في "صحيحه"(2)، ورواه مسلم (3) عن عبد اللَّه الدارمي

(1)"صحيح مسلم"(162).

(2)

"صحيح البخاري"(3408).

(3)

"صحيح مسلم"(2373).

ص: 39

وأبي بكر بن إسحاق كلاهما عن أبي اليمان فوقع لنا بدلًا عاليًا. ورواه مسلم (1) أيضًا من حديث عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة.

وأخرجاه جميعًا من حديث أبي سعيد الخدري:

أخبرناه أبو الربيع بن قدامة الحاكم وأبو محمد بن معالي المطعم قالا: أنا جعفر ابن علي الهمداني، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي النقاش، أنا سليمان بن أحمد بن أيوب، ثنا عبد اللَّه بن محمد ابن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا سفيان -يعني الثوري- عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عليه السلام آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِن قَوَائِمِ العَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَتِهِ".

أخرجه البخاري (2) عن محمد بن يوسف الفريابي به على الموافقة، ورواه مسلم عن عمرو الناقد، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، ولفظه:"فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلي أَوِ اكْتَفَى بِصَعْقَةِ الطُّورِ"(3).

فهذا الحديث دليل ظاهر قوي في حياة موسى عليه الصلاة والسلام وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، ووجه ذلك أن وفاة موسى عليه الصلاة والسلام من المعلوم قطعًا، وإذا كان كذلك فالصعق عند النفخ في الصور إنما يكون لمن هو حي يومئذ في الدنيا فأما من مات قبل ذلك فلا يصعق؛ لأن تحصيل الحاصل محال وإنما يصح ذلك في حق موسى عليه السلام إذا كان حيًّا، فيتحصل من هذا أنه حي كالشهداء بل أفضل وأولى بهذه الكرامة، وينضم إلى ذلك رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم له قائمًا في قبره يصلي واجتماعه به في السماوات ليلة الإسراء، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ" لما قيل له: كيف تعرض صلاتنا

(1)"صحيح مسلم"(2373).

(2)

"صحيح البخاري"(4638).

(3)

"صحيح مسلم"(2373).

ص: 40

عليك وقد أرمت أي بليت (1)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي يفيد مجموعها العلم بأن موت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم ليس عدمًا محضًا كموت غيرهم بل هو انتقال من حال إلى أخرى وغيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنهم أحياء موجودون ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه اللَّه بكرامة من أوليائه.

بقي أن يقال: لاشك أن اللَّه تعالى قد توفاهم من الدنيا وذاقوا الموت كما قال أبو بكر رضي الله عنه لنبينا صلى الله عليه وسلم: أما الموتة التي كتب اللَّه عليك فقد ذقتها (2).

فإذا كانوا أحياء قد أحياهم اللَّه بعد موتهم ذلك، فيلزم من ذلك أنهم يموتون موتة ثانية عند النفخ في الصور فيذوقون الموت أكثر من غيرهم.

وجواب هذا أنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت، وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم لئلا يلزم أخهم يموتون مرتين، وهذا ما اختاره الإمام البيهقي والقرطبي وغيرهما أن صعقهم يومئذ ليس موتًا بل غشي أو نحوه، ويدل لصحته قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم "فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي" ولم يقل "فحيى قبلي"، فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيًّا عليه ويحيى من كان ميتًا، والنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره من الأنبياء لم يحصل لهم إلا الغشي فلذلك قال:"فَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيققُ".

والحاصل أن نبينا صلى الله عليه وسلم محقق أنه أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى عليه الصلاة والسلام؛ فإنه حصل له تردد هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق، وهذا الوجه أقوى ما يقرر

(1) رواه أبو داود (1047، 1531)، والنسائي (3/ 91)، وابن ماجة (1636)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1/ 413) وصححه على شرط البخاري، جميعا من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (1242) ضمن حديث.

ص: 41

عليه هذا الحديث، وإن كان قد ذهل عنه جماعة من الأئمة الكبار فقد وفق اللَّه تعالى له من المحققين من نبه عليه وهو الذي لا يتجه غيره، واللَّه سبحانه أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى" فقد ذكر العلماء فيه وجوهًا كثيرة:

مِنْهَا: أن هذا كان قبل أن يعلمه اللَّه تعالى بأفضليته، فلما أعلمه اللَّه بذلك صرح به وقال:"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ"(1) صلى الله عليه وسلم.

وَمِنْهَا: أن المنهي عنه هو التفاضل بينهم في النبوة فإنها درجة واحدة لا تفاضل فيها.

وَمِنْهَا: أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم من باب الأدب والتواضع.

وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ نَظَرٌ، وَأَقْوَى مِنْهَا وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أنه صلى الله عليه وسلم منع من ذلك؛ لأن التفاضل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعطيه حقه إلا من يفرق بين الفاضل والأفضل والكامل والأكمل، وليس من الناس يعتقد في المفضول نقصًا بالنسبة إلى الفاضل، وفضل بعض الأنبياء على بعض إنما هو من باب الفاضل والأفضل، ولا نقص يلحق أحدًا منهم؛ فحمى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لئلا يؤدي إلى تنقص من مرتبتهم.

وَالثَّانِي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من اعتقاد ذلك، إنما منع من قول له وخوض فيه يؤدي إلى خصومة وفتنة كما في الحديث المتقدم من قصة المسلم واليهودي، واللَّه سبحانه أعلم.

أخبرنا سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن بقراءتي قالا: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أحمد بن محمد الأصبهاني، أنا أحمد بن عبد الغفار الكاتب، أنا محمد بن علي الحافظ، أنا جعفر بن أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا بشير بن عبيد اللَّه الدارسي، ثنا موسى بن سويد الراسبي، عن قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى

(1) رواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة.

ص: 42

مُوسَى الْكَلَامَ، وَأَعْطَانِي الرُّؤْيَةَ، وَفَضَّلَنِي بِالْمَقَامِ الْمَحَمُّودِ وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ" (1).

هذا حديث ضعيف جدًّا، فيه محمد بن يونس الكديمي وهو هالك، قال فيه ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات (2)، وشيخه بشير بن عبيد اللَّه الدارسي (3) قال فيه الأزدي: كذاب. وفي هذين كفاية.

وقد روى الحاكم في "المستدرك" من حديث إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلَام وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ"(4).

وهذا أيضًا قد رواه قتادة عن عكرمة موقوفًا على ابن عباس من قوله بزيادة:

أخبرناه القاسم بن مظفر بن محمود، عن محمود بن إبراهيم العبدي، أنا الحسن ابن العباس الفقيه، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق، أنا أبي، أنا محمد بن يونس القرشي، ثنا الحسين بن محمد بن زياد، ثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا: ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى اللَّه عليه وعليهم وسلم؟! (5)

وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري.

وكلام اللَّه تعالى لموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام مقطوع به، قال اللَّه تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (6).

وسماع موسى لكلام اللَّه سبحانه جائز وإن كان كلامه منزهًا عن الحروف

(1) رواه ابن عساكر كما في "كنز العمال"(39206) من حديث جابر رضي الله عنه.

وقال الألباني في "ضعيف الجامع"(1555): موضوع.

(2)

"المجروحين"(1523).

(3)

انظر ترجمته في "الكامل" لابن عدي (2/ 15 ترجمة 251).

(4)

"المستدرك"(2/ 926) وصححه على شرط البخاري.

(5)

رواه الحاكم (2/ 309).

(6)

النساء: الآية 164.

ص: 43

والأصوات كما أن المؤمنين يرون اللَّه تعالى يوم القيامة وهو منزه عن الجهة والتحيز؛ فإذا ثبت وقوع ذلك بالخبر الصادق وجب اعتقاده والتصديق به، واللَّه أعلم.

أخبرنا إسماعيل بن يوسف بن مكتوم وعبد الأحد بن أبي القاسم الحراني، وعيسى بن عبد الرحمن بن معالي، وهدية بنت علي بن عسكر سماعًا عليهم، وأحمد ابن أبي طالب بقراءتي قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر العتابي، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن حمويه، أنا عيسى بن عمر، أنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، أنا سهل بن حماد، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُّم أَوْلَى بِمُوسَى فَصُومُوهُ".

أخرجه البخاري من حديث سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن ابن لسعيد بن جبير، عن أبيه، ولفظه: فقال: "أَنا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ" فصامه وأمر بصيامه (1).

أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن يعقوب بقراءتي، أنا عبد الرحمن بن مكي الحاسب، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الحافظ، أنا القاسم بن الفضل الثقفي، أنا علي بن محمد بن بشران، أنا محمد بن عمرو بن البحتري، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن سعد الأنصاري، عن حبيب بن سالم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ اعْتَزَلَ وَحْدَهُ، فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ آدر؛ فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمِ يَغتَسِلُ وَقَدْ وَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَجَمَحَ الْحَجَرُ بثِيَابِهِ فَاتبَعَهُ مُوسَى عليه السلام وَهُوَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى ضَرَبَهُ سِتَّ ضَربَاتٍ أَو سَبعًا فَإنَّهُنَّ لَبَادِيَاتِ في الْحَجَرِ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مُتَجَرِّدًا عَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا

(1)"صحيح البخاري"(3397).

ص: 44

وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ".

اتفقا عليه من طرق عن أبي هريرة (1).

ولفظ البخاري فيه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى عليه السلام كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِن جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِن بَني إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِن عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تعالى أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرِ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ وَأَخَذَ بثَوْبِهِ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِن أثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَو أَرْبَعًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] ".

أخبرنا محمد بن أبي العز، وأحمد بن أبي طالب، ووزيرة بنت المنجا قالوا: أنا ابن الزبيدي بإسناده المتقدم إلى البخاري، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا روح بن عبادة، ثنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:. . . فذكره.

وبه إلى البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا شعبة، عن الأعمش، سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد اللَّه رضي الله عنه قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمًا فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه اللَّه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال:"يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى قَد أُوذِيَ بِأَكثَرَ مِن هَذَا فَصَبَرَ"(2).

أخبرنا سليمان بن حمزة بن أحمد الحاكم، قاله: أنا علي بن أبي عبد اللَّه بن المقير وأنا حاضر، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة، أنا طراد بن محمد الزينبي، أنا علي بن

(1)"صحيح البخاري"(3404)، "صحيح مسلم"(339).

(2)

"صحيح البخاري"(3405)، "صحيح مسلم"(1062).

ص: 45

محمد المعدل، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور -يعني الرمادي- ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت.

قال: فرد اللَّه عليه عينه وقال: ارجع وقل له يضع يده على متن ثور فله ما غطت يده بكل شعرة سنة، فقال: أي رب ثم ماذا؟

قال: ثم الموت. قال: فالآن. قال: فسأل اللَّه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".

كذا وقع في رواية طاوس موقوفًا أول الحديث، وكذا أخرجه البخاري (1) عن يحيى بن موسى، ومسلم (2) عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ثلاثتهم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس به.

وأخرجاه أيضًا من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة.

وقد وقع لنا أعلى من هذه الطريق: أخبرناه يحيى بن محمد بن سعد، وعلي بن يحيى الشاطبي، وعبد اللَّه بن الحسن بن الحافظ الحاكم، وعلي بن أحمد بن عسكر القصيري بقراءتي، قالوا: أنا محمد بن سعد المقدسي والد الأول والثالث حاضر، أنا يحيى بن محمود الثقفي، أنا الحسن بن أحمد الحداد حضورًا، أنا أحمد بن عبد اللَّه الحافظ، ثنا سليمان بن أحمد الحافظ، ثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، ثنا عبد الرزاق.

(ح) وأخبرنا سليمان بن حمزة، أنا علي بن المقير، أخبرتنا شهدة، أنا طراد، أنا علي بن بشران، أنا إسماعيل الصفار، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبد الرزاق، عن

(1)"صحيح البخاري"(3407).

(2)

"صحيح مسلم"(2372).

ص: 46

معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام. . . " فذكر الحديث كما تقدم، وفي آخره: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ طرِيقٍ بِجَنْبِ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".

رواه البخاري (1) عن يحيى بن موسى، ومسلم (2) عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق. فوقع بدلًا لهما عاليًا كالذي قبله.

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجهِ الْجَوَابِ عَن هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَشْبَهُ مَا قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أن موسى عليه السلام لم يعرف أنه ملك الموت وإنما رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطمه ففقأ عينه، وهذا ذكره الإمام أبو بكر بن خزيمة، وارتضاه المازري والقاضي عياض.

وَالثَّانِي وهو الأقوى: أن موسى صلوات اللَّه عليه عرف ملك الموت، وأنه جاءه ليقبض روحه لكنه جاء برء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وكان عند موسى مقررًا ما قد نص عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من أن اللَّه لا يقبض نبيًّا حتى يخيره، فلما جاءه ملك الموت على غير الوجه الذي علمه بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدب ملك الموت فلطمه ففقأ عينه إذ لم يصرح بالتخيير وعرف موسى أن أجله لم يكن دنا وكان هذا امتحانًا من اللَّه تعالى لملك الموت عليه السلام وإقدارًا لموسى على ذلك وللَّه أن يفعل ما يشاء، ويدل على صحة هذا أنه لما جاءه ملك الموت ثانيًا فخيره بين الحياة والموت اختار الموت حينئذ واستسلم، وهذا الوجه حسن بالغ، وبه تندفع شبه الملحدين.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَسَأل اللَّهَ تعالى أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ" أي: مقدار رمية بحجر فهو منصوب على أنه ظرف مكان؛ وإنما سأل موسى صلوات اللَّه عليه ذلك تبركًا بالكون في تلك البقعة وليدفن مع من فيها من الأنبياء والأولياء.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ أَو عِنْدَ الْكَثِيبِ

(1)"صحيح البخاري"(3407).

(2)

"صحيح مسلم"(2372).

ص: 47

الأَحْمَرِ" المراد بهذه الطريق: الطريق التي سلكها صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من مكة إلى بيت المقدس كلما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم "مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيلَةَ أُسْرِيَ بِي وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".

قال الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي الحافظ: إن اللَّه عز وجل أحيا موسى في قبره حتى مر عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وذلك أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس فرآه صلى الله عليه وسلم في قبره يدعو إذ الصلاة دعاء.

قُلْتُ: حمله الصلاة على معناها اللغوي بعيد لا وجه له؛ لأن الأصل خطاب الشارع بحقائقه الشرعية، ويرجح هذا قوله صلى الله عليه وسلم "وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" فهذه قرينة أيضًا ترجح كونه مصليًا الصلاة المعهودة، وقد تقدم ما يتعلق بصلاتهم وحجهم.

وقال الحافظ ضياء الدين أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي فيما وجدته بخطه: وأنباني به جماعة من شيوخنا عنه: قوله -يعني ابن حبان- قبره بمدين فيه نظر؛ وذلك أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، ومدين ليست قريبة من بيت المقدس ولا من الأرض المقدسة.

قال: وقد اشتهر أن قبرًا قريبًا من أريحا وهي من الأرض المقدسة يزار ويقال أنه قبر موسى وعنده كثيب أحمر وطريق وحدثنا عنه غير شخص ممن رآه، وحدثني الشيخ سالم التلي قال: ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند قبر هذا المذكور (1).

وحدثني الشيخ عبد اللَّه بن يونس المعروف بالأرموي أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه قبة في هذا الموضع ورأى فيها شخصًا أسمر فسلم عليه وقال: أنت موسى كليم اللَّه -أو قال: نبي اللَّه- قال: نعم، فقلت: قل لي شيئًا فأومأ إلي بأربع أصابع ووصف طولهن قال: فانتبهت فلم أدر ما قال فجئت إلى الشيخ ذيال

(1) وهذا اعتقاد فاسد، فاللَّه تعالى لا نحتاج عند دعائنا إياه إلى قبر أو قبة أو واسطة أو غير ذلك، بل كما قاله تعالى في سورة البقرة:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} واللَّه المستعان.

ص: 48

فأخبرته بذلك فقال: يولد لك أربعة أولاد، فقلت: قد تزوجت امرأة فلم أقربها فقال: يكون غير هذه، قال: فتزوجت أخرى فولد لي أربعة أولاد.

هذا آخر ما نقلته من خط الحافظ ضياء الدين المقدسي وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين وستمائة. والقبة المبنية على هذا القبر الشريف الآن بناها الملك الظاهر رحمه الله بعد سنة ستين وستمائة قطعًا فقد رأى الشيخ عبد اللَّه الأرموي القبة على هذا المكان قبل بنائها بأكثر من عشرين سنة، واللَّه سبحانه أعلم.

ذكر الثعلبي وغيره أن عمر موسى صلوات اللَّه عليه وسلامه كان لما قبض مائة وعشرين سنة، وكذلك قال وهب بن منبه أنه لما قبض هارون كان لموسى مائة وسبع عشرة سنة وعاش بعده ثلاث سنين، ورواه عن وهب الحاكم في "المستدرك"(1).

آخره والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى سائر الأنبباء والمرسلين وآل كلٍّ وجميع الصالحين.

فرغ من تخريجه خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي ببيت المقدس يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.

وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم

زادت النسخة المساعدة هنا أبيات شعر:

وَأَنْشَدَ الْمُصَنِّف لِنَفْسِهِ:

يا طالبًا نهج الفلاة مؤملا

دركًا تنال به الأمان مكملا

عرج على سفح الكثيب وعج به

إن كنت تبغي أن تكون محصلا

واغضض هناك الطرف منك تخشعا

والزم به الأدب الأتم الأكملا

موسى كليم اللَّه ذو الفضل الذي

ما زال يتلى في الكتاب منزلا

ذو المعجزات الباهرات تعددًا

الواضحات لذي البصائر في الملا

منها اليد البيضاء يلمع ضوؤها

وكذا العصا تسعى شجاعًا هولا

(1)"المستدرك"(2/ 632).

ص: 49

وله انفلاق البحر أعجز آية

تمشي الأنام به طريقًا أسهلا

والماء من حجر صغير نابع

من ضربة بعصاه يجري منهلا

من خص بالتكليم حقًّا بينًا

وكذلك الألواح حكما فصلا

وله علينا منة في رده الـ

ـصلوات من خمسين فرضًا سهلا

ونبينا من أجلها متردد

بإشارة منه إلى رب العلا

في ليلة كان النبي محمد

فيها على الرسل الكرام مفضلا

خير الأنام ومن له الفضل الذي

ما مثله وختامهم إذ أرسلا

فعليهما وعلى الجميع تحية

من ربنا وصلاته لن تعطلا

ها يا كليم اللَّه يا من فضله

ما زال للوراد عذبًا سلسلا

من توبة مع صحة وكفاية

والأمن من كل المكاره مجملا

والعفو عما قد مضى وصلاح ما

يأتي به قولًا يكون ومفعلا

والختم بالحسنى وتعجيل الدنى

والفوز في العقبى بفضل أكملا

وسلامة من هول نار أججت

عند الورود وخطبها قد أعضلا

صلى عليك اللَّه ثم سلامة

أبدًا تدوم إلى جنابك مقبلا

وعلى النبي المصطفى خير الورى

وأبيكما فهو الخليل المجتلا

وعلى جميع الأنبياء وحبهم

فرض وقدرهم رفيع في العلا

تم الجزء بتخريج الحافظ صلاح الدين بن كيكلدي العلائي الشافعي.

سمع هذا الجزء الجماعة الفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المقدسي، وبدر الدين أنس بن محمد بن إسماعيل الحسباني، وشمس الدين محمد بن علي بن عقبة، والشيخ موسى بن عميرة بن موسى المخزومي البيناوي، والشيخ محمد بن علي البلقيني الصعيدي. . . وآخرون في يوم الاثنين خامس شهر رجب سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة عند قبر موسى صلوات اللَّه عليه بالتبة بالقرب من أريحا، وأجزت لهم ما يروى عني بشرطه.

كتبه خليل بن كيكلدي بن عبد اللَّه العلائي الشافعي غفر اللَّه له.

ثم قرأته بالمكان المذكور مرة ثانية فسمعه القاضي شرف الدين أبو البقاء خالد

ص: 50

ابن القاضي الفاضل عماد الدين بن أبي الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد اللَّه بن القيسراني أيده اللَّه، وشمس الدين محمد بن حامد المذكور أعلاه، وشهاب الدين أحمد بن عبد اللَّه بن أيبك، وشمس الدين محمد بن علي بن سلطان المصري الصوفي، وأحمد بن حسن الرباطي المؤذن بالقدس الشريف، والشيخ عبد اللَّه خادم مقام موسى عليه الصلاة والسلام، والصلاح محمد بن محمد بن محمود العجمي الأقباعي بخدمة القاضي شرف الدين بن القيسراني المذكور، وصح ذلك في يوم الأربعاء سادس عشر شهر رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وأجزت لهم.

كتبه خليل بن كيكلدي بن العلائي الشافعي لطف اللَّه به.

* * *

ص: 51