الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوصيف العلمي للنسخة الخطية
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية:
هي نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية ضمن مجموع تحت رقم (21201) ب.
- اسم الناسخ: غير معروف.
- نوع النسخ: نسخ معتاد.
- عدد الأوراق: 6 ورقات.
ثوثيق الكتاب
1 -
وجد على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة للإمام العلائي.
2 -
روى الحافظ العلائي أحاديث فيها بأسانيده المعروفة وعن شيوخه المعروفين، منهم:
- أبو الفضل سليمان بن حمزة.
- عيسى بن عبد الرحمن المقدسيان.
- إسحاق بن يحيى الأموي.
- أبو الربيع بن قدامة الحاكم.
وغيرهم.
الورقة الأولى
الورقة الأخيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الراغب: الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا (2).
ثم قال بعد ذلك (3): وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي: قائمًا مقام جماعة في عبادة اللَّه نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، وكما روي أنه يحشر زيد بن عمرو أمة وحده (4).
وذكر صاحب "الكشاف"(5) في معنى قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} وجهين:
أَحَدُهُمَا: نحو الذي أشار إليه الراغب، أي: كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقول بعضهم:
وليس على اللَّه بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
قال مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن يكون أمة بمعنى مأموم، أي: يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم به كالراحلة وما أشبهها مما جاء من فعلة بمعنى مفعول، فيكون مثل
(1) النحل: الآية 120 - 123.
(2)
"مفردات القرآن"(1/ 55).
(3)
"مفردات القرآن"(1/ 55).
(4)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(8187، 8188) من حديث أسماء وزيد بن حارثة، والحاكم (3/ 238) من حديث زيد بن حارثة، وصححه.
(5)
"الكشاف"(1/ 671).
قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (1).
وقال ابن مسعود عند ذكر معاذ رضي الله عنه: إن معاذًا كان أمة قانتًا للَّه.
ثم قال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع للَّه ورسوله (2). وأصل القنوت: لزوم الطاعة والخضوع، وفسر بكل منهما قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3).
وَقِيلَ: القنوت القيام، وبه فسر قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طُولُ القُنُوتِ"(4)، لكنه ليس مطلق القيام، بل القيام مع الخضوع فيكون هنا معنى القانت: القائم بما أمره اللَّه.
و"الحنيف": المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه.
و"الحنف": هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة، وتحنف الرجل: إذا تحرى طريق الاستقامة.
وكان العرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفًا، تنبيهًا على أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومنه ما جاء في بعض روايات بدء الوحي: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء في كل سنة شهرًا، وكان ذلك مما تحنف به قريش في الجاهلية.
والتحنف: التبرر، قال السهيلي: لأنه من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام (5).
ثم أكد سبحانه وتعالى ذلك بنفي الشرك عنه؛ ردًّا على قريش في زعمهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام وهم مشركون وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن مشركًا بل كان حنيفًا على دين الإسلام.
أخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن المقدسيان بقراءتي على كل منهما قال: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد
(1) البقرة: الآية 124.
(2)
"الكشاف"(1/ 671).
(3)
البقرة: الآية 238.
(4)
رواه مسلم (756) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
"الروض الأنف"(ص 115).
الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي الحافظ، أنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الفقيه، ثنا القاسم بن زكريا، ثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه وأحمد بن سفيان وفياض بن زهير قالوا: ثنا عبد الرزاق، أبنا معمر.
(ح) وأنا أعلى من هذا بدرجة الرباني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الطبري بقراءتي عليه بمنى شرفها اللَّه تعالى، أنا علي بن هية اللَّه بن سلامة الفقيه، أخبرتنا الكاتبة شهدة بنت أحمد الإبري، أنا الحسين بن أحمد بن طلحة، أنا علي بن محمد بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت -يعني الكعبة- لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال:"قَاتَلَهُمُ اللَّه، وَاللَّهِ مَا اسْتَقْسَمَا بِالْأَزلَامِ قَطُّ".
هذا لفظ الرواية الثانية، وفي الرواية الأولى "قاَتلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا قَطُّ".
أخرجه البخاري في "صحيحه"(1) عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن معمر به، ورواه أيضًا بنحوه (2) من حديث كريب عن ابن عباس، وهو في "صحيح مسلم" من هذا الوجه.
وتحتمل الآية هنا الرد أيضًا على اليهود والنصارى في دعوى كل طائفة منهم أن إبراهيم عليه السلام كان منهم كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3)؛ لأن كلًّا من ملة اليهود والنصارى مشتملة على الشرك كما أخبر اللَّه سبحانه عنهم.
قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهما من أهل التفسير: اجتمع يهود المدينة
(1)"صحيح البخاري"(3352).
(2)
"صحيح البخاري"(4289).
(3)
آل عمران: الآية 67.
ونصارى نجران عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتنازعوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل اللَّه هذه الآية {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} . . . (1) الآية.
وقوله تعالى: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} الشكر: تصور النعمة وإظهارها، وقيل: هو مقلوب عن الكشر، أي: الكشف، والشكر يكون بالقلب: وهو تصور النعمة كما ذكرنا، وباللسان: وهو الثناء على المنعم، وبسائر الجوارح: وهو مكافاة النعمة بالطاعات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا"(2) لما عذل في كثرة الصلاة.
قال بعض المفسرين: كان شكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخذ غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فتجملوا له وخيلوا له أن بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرًا للَّه على أن عافاني وابتلاكم.
أخبرنا أبو الربيع بن قدامة الحاكم، أنا جعفر الهمداني، أبنا أبو طاهر السلفي، أنا القاسم بن الفضل، أنا علي بن محمد السكري، أنا أحمد بن محمد الجوزي، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن أبي الدنيا، ثنا محمد بن عبد اللَّه بن المبارك، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد ابن عمرو، ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"كَانَ أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام"(3).
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وأخبرنا إسحاق بن يحيى الأموي، أنا يوسف بن خليل الحافظ، أنا خليل بن أبي الرجاء [الراراني] (4) ومحمد بن أحمد الصيدلاني قال: أنا الحسن بن أحمد المقرئ
(1) آل عمران: الآية 67.
(2)
رواه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البيهقي في "شعب الايمان"(7/ 97 رقم 9615) من طريق أحمد بن محمد الجوزي.
(4)
في الأصل: الرازي. وهو تصحيف، والراراني براءين مفتوحتين نسبة إلى راران قرية من قرى أصبهان، قاله السمعاني (3/ 22).
والثاني حاضر أنا أحمد بن عبد اللَّه الحافظ، ثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، ثنا إبراهيم ابن إسحاق الحربي، ثنا ابن الأصبهاني، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأتيه اللَّه بالضيف ليأجره، قال: فاحتبس عليه الضيف ثلاثًا فقال لسارة: لقد احتبس عنا الضيف وما نراه احتبس عنا إلا لما يرى من شدتنا على خدمنا افعلوا وافعلوا، فإن جاء ضيف لا يخدمه غيري وغيرك (1).
وبه إلى الحربي ثنا محمد بن سهل، ثنا عبد الرزاق، ثنا أبي، أن عمر بن زيد أخبره عن عمرو بن دينار قال: لما تضيفه الملائكة إبراهيم عليه السلام قدم العجل فقالوا: لا نأكل إلا بثمن، قال: فكلوه وأدوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟
قال: تسمون للَّه إذا أكلتم وتمجدونه إذا فرغتم.
قال: فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: بهذا اتخذك اللَّه خليلًا (2).
والاجتباء: أصطفاء اللَّه سبحانه إياه وتخصيصه بأنواع النعم من النبوة والرسالة والخلة وغير ذلك.
والهداية: الدلالة والإرشاد.
والمراد بالصراط المسقيم: ملة الإسلام.
واختلف في المراد بالحسنة من قوله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} :
فَقِيلَ: البركة في الأموال والأولاد.
وَقِيلَ: هي الخلة التي اصطفاه اللَّه بها، قال اللَّه تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (3).
وقال قتادة: هي تنويه اللَّه بذكره حتى ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه.
وَقِيلَ: هي صلاة اللَّه عليه، وهي المعنية يقول المصلي منا: "كما صَلَّيْتَ عَلَى
(1) رواه الحربي في "إكرام الضيف"(ص 59) كما رواه من طريقه المصنف.
(2)
رواه الحربي في "إكرام الضيف"(ص 51) كما رواه من طريقه المصنف.
(3)
النساء: الآية 125.
إِبْرَاهِيمَ" كما أخبرنا عبد القادر بن يوسف الخطيري ومحمد بن عبد الرحيم القرشي قال الأول: أنا عبد الوهاب بن ظافر، وقال الثاني: أنا يوسف الساوي قال: أنا أحمد ابن محمد الأصبهاني الحافظ، أنا نصر بن أحمد بن البطر، أنا عبد اللَّه بن عبيد اللَّه، ثنا الحسن بن إسماعيل، ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير ومحمد بن فضيل -واللفظ لجرير- قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. . الآية [الأحزاب: 56]، سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآل إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
هذا حديث صحيح اتفقوا على إخراجه من طرق كثيرة بنحو هذا إلى عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة (1)، واتفقا أيضًا على إخراجه من رواية أبي حميد الساعدي (2)، وانفرد به البخاري (3) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم (4) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} يعني: من أهل الجنة.
أخبرنا يوسف بن محمد بن إبراهيم ومحمد بن أبي بكر بن مشرف بقراءتي عليهما قال الأول: أنا إسماعيل بن إبراهيم التنوخي، أنا بركات بن إبراهيم المقدسي، أنا عبد الكريم بن حمزة، أنا الحافظ أحمد بن علي الخطيب.
(ح) وقال شيخنا الثاني: أنبأنا علي بن عبد اللَّه البغدادي، عن الفضل بن سهل، عن الخطيب، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا سليمان ابن الأشعث (5) الحافظ، ثنا زياد بن أيوب، ثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن مختار بن
(1) رواه البخاري (4797)، ومسلم (406).
(2)
رواه البخاري (3369)، ومسلم (407).
(3)
"صحيح البخاري"(4798).
(4)
"صحيح مسلم"(405).
(5)
"سنن أبي داود"(4672).
فلفل، يذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ذَاكَ إِبرَاهِيمُ عليه السلام".
أخرجه مسلم (1) والترمذي (2) أيضًا من هذا الوجه وزاد "ذَاكَ إِبرْاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ".
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْر"(3)، وطريق الجمع بينه وبين هذا الحديث من وجهين:
أَحَدُهُمَا: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلمه اللَّه بأنه أفضل من سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم لما أعلمه اللَّه بذلك بينه للناس.
وَالثَّانِي وهو الأقوى: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك على وجه التواضع والاحترام لإبراهيم صلى الله عليه وسلم لخلته وأبوته، ولبيان ما يجب له من التوقير والاحترام، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم:"أنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ" أتبعه بقوله: "وَلَا فَخْر" ليبين صلى الله عليه وسلم أنه لم يقل ذلك على وجه الافتخار والتطاول على من تقدمه بل قاله بيانًا لما أمر ببيانه، واللَّه سبحانه أعلم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} . . الآية، ثم في هذه الآية إعلام بتعظيم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، والإيذان بأن من أشرف ما أوتي خليل اللَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم إياه واقتداؤه به، فهذا وجه تعلق المعطوف بالمعطوف عليه، وذكر بعض المفسرين أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية باتباع إبراهيم عليه السلام أريد به اتباعه إياه في مواقف الحج، وذكر في ذلك حديثًا في إسناده ضعف عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جاء جبريل عليه السلام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فراح به إلى منى فذكر كيفية مناسك الحج. . . " وقال في آخره: "فأوحى اللَّه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا".
وهذا الحديث غير ثابت لما بينا من ضعف إسناده (4).
(1)"صحيح مسلم"(2369).
(2)
"جامع الترمذي"(3352).
(3)
رواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة.
(4)
رواه ابن أبي شيبة (3/ 332).
والأقرب حمل الأمر هنا على العموم في اتباع إبراهبم عليه الصلاة والسلام في كل شيء إلا ما نسخه اللَّه من ذلك؛ لأنه نقدم أن هذه الآيات بين اللَّه بها أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن مشركًا ردًّا على المشركين في دعواهم أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهم مشركون وهو صلوات اللَّه عليه لم يكن مشركًا، فناسب ذلك الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم في دين الإسلام والتوحيد وأعماله، وتندرج أفعال الحج تحت ذلك، وحمل اللفظ على العموم مهما أمكن أولى، واللَّه أعلم.
أخبرنا أبو بكر بن إبراهيم بن عبد الدائم، أنا محمد بن إبراهيم الأربلي، أخبرتنا شهدة بنت أحمد الإبري.
(ح) وقرأت على محمد بن عبد الرحيم، أخبرك يوسف بن محمود الصوفي، أنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي قال: أنا نصر بن البطر، أنا عبد اللَّه بن البيع، ثنا الحسين المحاملي، ثنا علي بن شعيب، ثنا سفيان بن عيينة قال: سمع عمرو يعني ابن دينار -عمرو بن عبد اللَّه بن صفوان يحدث، عن يزيد بن شيبان رضي الله عنه قال: كنا وقوفًا بعرفة في مكان بعيد من الموقف يباعده عمرو؛ فأتانا ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه فقال: إني رسول رسول اللَّه إليكم يقول:"كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكمُ هذهِ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام".
أخرجه أبو داود (1) عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي، والترمذي (2) والنسائي (3)، عن قتيبة بن سعيد، وابن ماجه (4) عن أبي بكر بن أبي شيبة، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة به فوقع بدلًا لهم عاليًا، وقال الترمذي: حديث حسن، وابن مربع اسمه يزيد بن مربع الأنصاري وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.
قلت: وذكر غيره أن اسم ابن مربع هذا زيد، وقيل: عبد اللَّه، وهو من
(1)"سنن أبي داود"(1919).
(2)
"جامع الترمذي"(883).
(3)
"سنن النسائي"(5/ 255).
(4)
"سنن ابن ماجه"(3011).
الأوس رضي الله عنه.
و"مربع" بكسر الميم ثم راء ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة وعين مهملة.
أخبرنا علي بن محمد البندنيجي، أنا محمد بن علي البغدادي بها، أنا عبد العزيز بن الأخضر الحافظ، أنا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي.
(ح) قال شيخنا: وأنبأنا عبد الخالق بن أنجب، عن الكروخي هذا، أنا محمود ابن القاسم الأزدي وعبد العزيز بن محمد الترياقي وأحمد بن عبد الصمد الغورجي قالوا: أبنا عبد الجبار بن محمد الجراحي.
(ح) وقرأت على القاسم بن مظفر الدمشقي، أخبرك القاضي أبو نصر محمد بن هبة اللَّه بن مميل حضورًا، أنا نصر بن سيار كتابة، أنا أبو عامر الأزدي، أنا الجراحي، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الحافظ، ثنا محمود بن غيلان، ثنا أبو أحمد -يعني الزبيري- ثنا سفيان، عن أبيه، عن أخبرنا الضحى، عن مسروق، عن عبد اللَّه -هو ابن مسعود- رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِن لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنَ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي"، ثم قرأ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
هكذا أخرجه الترمذي في "جامعه"(1) ثم رواه من حديث أبى نعيم عن سفيان الثوري، ولم يذكر فيه مسروقًا وقال: هذا أصح.
أخبرنا العلامة أبو (إسحاق)(2) العباس أحمد بن إبراهيم الفزاري الخطيب قراءة عليه وأنا أسمع سنة 703، أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح، أنا المؤيد بن محمد الطوسي، أنا محمد بن الفضل الصاعدي أنا عبد الغافر ابن محمد الفارسي، أنا أحمد بن عمرويه، ثنا إبراهيم بن سفيان، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث.
(ح) قال: وثنا محمد بن رمح، أنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن
(1)"جامع الترمذي"(2995).
(2)
كذا في الأصل!! وهي زائدة.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاله: "عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام فإذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِذَا أَقرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ" يعني نفسه صلى اللَّه عليهما وسلم. . . وذكر بقية الحديث.
كذا أخرجه مسلم في "الصحيح"(1).
ورواه أيضًا من حديث أبي هريرة: أخبرناه أبو محمد بن أبي غالب العساكري سماعًا عليه، عن أخبرنا الوفاء محمود بن إبراهيم العبدي، أنا الحسن بن العباس الرستمي، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده، أنا أبي، أنا محمد بن الحسين بن الحسن، ثنا أحمد بن يوسف السلمي.
(ح) قال: وأنا علي بن العباس، ثنا محمد بن حماد قال: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي
صلى الله عليه وسلم:"حِينَ أُسرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام. . . فَنَعَتَهُ -فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَربٌ- رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى عليه الصلاة والسلام قَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ".
أخرجه البخاري (2) عن محمود، ومسلم (3) عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، والترمذي (4) عن محمود بن غيلان، كلهم عن عبد الرزاق به على البدلية.
أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن أبي العز بن بيان وآخرون قالوا: أنا الحسين بن المبارك، أنا عبد الأول بن عيسى، أنا عبد الرحمن بن محمد، أنا عبد اللَّه بن أحمد، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا مؤمل، ثنا إسماعيل، ثنا عوف، ثنا أبو رجاء، ثنا سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فَأَتَيْنَا عَلَى
(1)"صحيح مسلم"(167).
(2)
"صحيح البخاري"(3437).
(3)
"صحيح مسلم"(168).
(4)
"جامع الترمذي"(3130).
رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام".
كذا رواه مختصرا (1).
وبهذا الإسناد إلى الإمام البخاري (2) قال: ثنا قتيبة ين سعيد، ثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدومِ".
وبه (3) قال: ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، ثنا أبو الزناد به، وقال "بِالْقَدُوم" مخففة، كذا وقع في "صحيح البخاري" بالروايتين، ورواة "صحيح مسلم" متفقون على رواية هذا الحديث فيه "بِالْقَدُومِ" مخففا.
وهذه اللفظة تحتمل أن تكون الآلة التي للنجار فيكون إبراهيم صلوات اللَّه عليه اختتن بها، ويحتمل أن يكون موضعًا اختتن به، قالوا: وهو مكان بالشام، ويقال له: قدوم بالتشديد والتخفيف، وأما آلة النجار فيقال بالتخفيف لا غير، وجمهور الرواة على التخفيف، والأكثرون على أن المراد به الآلة، واللَّه أعلم.
والختان هذا من جملة الكلمات التي أخبر اللَّه سبحانه عنها بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} . . . (4) الآية في قول جمهور المفسرين، والمعنى: وإذا ابتلى إبراهيم ربه بإقامة كلمات أو بتوفية كلمات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوحى اللَّه تعالى إلى إبراهيم: يا خليلي تطهر، فتمضمض، فأوحى اللَّه إليه أن تطهر، فاستاك، فأوحى اللَّه إليه أن تطهر، فأخذ من شاربه، فأوحى إليه أن تطهر، ففرق شعره، فأوحى إليه أن تطهر فحلق عانته، فأوحى إليه أن تطهر فنتف إبطيه، فأوحى إليه أن تطهر فقلم أظفاره، فأوحى إليه أن تطهر، فأقبل بوجهه على جسده ينظر ماذا يصنع فاختتن وهو ابن عشرين ومائة
(1)"صحيح البخاري"(3354).
(2)
"صحيح البخاري"(3356).
(3)
"صحيح البخاري"(6298).
(4)
البقرة: الآية 124.
سنة.
أخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم وعيسى بن إبراهيم وأحمد بن أبي طالب بقراءتي على كل منهم قالوا: أنا عبد اللَّه بن عمر الحريمي، أنا مسعود بن محمد بن عبد الواحد، أنا الحسين بن محمد السراج ومحمد بن محمد العطار قالا: أنا الحسن بن أحمد ابن شاذان، أنا علي بن محمد بن الزبير، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا جعفر بن عون، ثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اختتن إبراهيم خليل اللَّه عليه الصلاة والسلام وهو ابن عشرين ومائة سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة.
قال سعيد بن المسيب: وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من اختتن وأول من رأى الشيب، قال: فقال: يا رب ما هذا؟
قال: فقيل له: وقار، قال: رب زدني وقارًا، وأول من أضاف الضيف، وأول من قص أظافيره وأول من جز شاربه، وأول من استحد.
كذا وقع في هذه الرواية أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وكذلك رواه مالك في "الموطأ"(1) عن يحيى بن سعيد كما رويناه وهو موقوف أيضا، والصحيح ما تقدم مرفوعًا في "الصحيحين" أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، واللَّه أعلم.
أخبرنا سليمان بن حمزة الحاكم ومحمد بن محمد بن الشيرازي ويحيى بن محمد بن سعد قالوا: أنبانا الحسن بن يحيى بن صباح، وقال الأول أيضًا: أنبأنا محمد بن عمار الحراني قال: أنا عبد اللَّه بن رفاعة السعدي، أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس.
(ح) وأنا القاسم بن مظفر وأبو نصر محمد بن محمد المري، كلاهما عن محمود ابن إبراهيم بن منده، أنا الحسن بن العباس الفقيه، أنا أبو عمرو عبد الوهاب، أنا أبي الحافظ محمد بن إسحاق قال: ثنا أبو طاهر أحمد بن عمرو المديني.
(1)"الموطأ"(1710) عن يحيى، عن سعيد بن المسيب.
(ح) وأنا أبو الربيع بن قدامة الحنبلي وأبو نصر بن مميل وأبو محمد بن أبي غالب الدمشقيان قالوا: أنبانا محمد بن عبد الواحد المديني، أنا محمد بن أحمد الباغبان، أنا إبراهيم بن محمد الطيان، أنا إبراهيم بن عبد اللَّه التاجر، ثنا الإمام أبو بكر عبد اللَّه ابن زياد النيسابوري قال: ثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
قال: "وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" لفظهم واحد.
هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (1) عن أحمد بن صالح، ومسلم (2) عن حرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب فوقع بدلًا لهما عاليًا.
ورواه ابن ماجه (3) عن يونس بن عبد الأعلى به فوافقناه بعلو.
قال الإمام أبو إبراهيم المزني وجماعة من العلماء: هذا الحديث يدل على نفي الشك في إحياء الموتى عن إبراهيم واستحالته في حقه، ومعناه أنه لو كان الشك في إحياء الموتى متطرفًا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك، ويكون قال صلى الله عليه وسلم هذا إما على وجه الأدب كما تقدم في حديث:"يَا خَيْرَ الْبَريَّةِ" أو أراد أمته الذين يجوز عليهم الشك، وذكر في الحديث وجهان آخران:
أَحَدُهُمَا: أنه خرج مخرج العادة في الخطاب من غير تصور شك من أحد منهما كما يقول من يريد المدافعة عن إنسان لم يقصده: ما كنت قائلًا لفلان أو فاعلًا معه من مكروه فقله لي أو افعله معي، ومقصوده أن لا يقع شيء له ولا لذاك.
(1)"صحيح البخاري"(3372).
(2)
"صحيح مسلم"(151).
(3)
"سنن ابن ماجه"(4026).
والْوَجْهُ الثَّانِي: أن هذا الذي يظنونه شكًّا أنا أولى به؛ فإنه ليس بشك ولكنه طلب لمزيد اليقين، وهذا على أحد التأويلات المذكورة في قول إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (1).
قالوا: فسأل زيادة اليقين وقوة الطمانينة كان لم يكن في الأول شك؛ إذ العلوم النظرية والضرورية قد تتفاضل في قوتها فأراد الانتقال من النظر إلى المشاهدة والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين فليس الخبر كالمعاينة، قال سهل بن عبد اللَّه التستري رحمه الله: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنًا في حاله.
وَفِي الآيَةِ وُجُوهٌ أُخَر لِأَهْلِ التَّفْسِيرِ:
مِنْهَا وَهُوَ أَظْهَرُهَا: أنه عليه السلام أراد الطمانينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالًا، فإن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك بخلاف علم المعاينة فإنه ضروري ويكون معنى قوله تعالى:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} استفهام الإيجاب كقول جرير:
*ألستم خير من ركب المطايا*
يعني: أنتم كذلك.
وَمِنْهَا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والسدي أن ملك الموت عليه السلام استأذن ربه أن يأتي إبراهيم عليه السلام فيبشره بأن اللَّه اتخذه خليلًا فأتاه وبشره بذلك فحمد اللَّه وقال: ما علامة ذلك؟
قال: أنه يجيب دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك، فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، وأراد بذلك زيادة الطمانينة في أنه هو الخليل.
ويكون معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي: ألم تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك.
وفيه أيضًا وجوه أخر غير ذلك، واللَّه سبحانه أعلم.
أخبرنا محمد بن أبى الهيجاء بقراءتي عليه، أنا الحسن بن محمد بن محمد بن
(1) البقرة: الآية 260.
البكري، أنا عبد المعز بن محمد الهروي، أنا تميم بن أبي سعيد الجرجاني، أنا علي بن محمد البحاثي، أنا محمد بن أحمد الزوزني، أنا محمد بن حبان الحافظ، أنا الحسن بن سفيان والحسين بن عبد اللَّه القطان وابن قتيبة قالوا: ثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، ثنا أبي، عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس وحده. . . فذكر الحديث بطوله، وفيه: قلت: يا رسول اللَّه كم كتاب أنزل اللَّه؟
قال: "مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على اخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عليه السلام عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان".
قال: قلت: يا رسول اللَّه ما كانت صحف إبراهيم؟
قال: "كانت أمثالًا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع اللَّه، وساعة يخلو فيها لحاجة من المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إلا لثلاث: تزودٍ لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلًا على شانه حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه".
قلت: يا رسول اللَّه فما كانت صحف موسى؟
قال: "كانت عبرًا كلها: عجيب لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجيب لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجيب لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجيب لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يطمئن إليها، وعجيب لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل. . . " وذكر بقية الحديث بطوله.
كذا أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1) بتمامه.
(1)"صحيح ابن حبان"(361).
أخبرنا شيخنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن معالي وعبد الأحد بن أبي القاسم الحنبليون بقراءتي قالوا: أنا عبد اللَّه بن اللتي، أنا سعيد بن أحمد بن البنا حضورًا، أنا محمد بن محمد الزينبي، أنا محمد بن عمر بن زنبور، ثنا عبد اللَّه بن سليمان الحافظ، ثنا علي بن محمد بن أبي الخصيب، ثنا وكيع، عن مسعر، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالموعظة فقال: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ عُرَاةً غُرْلًا، فَأَوَّلُ الخَلَائِقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْكُمْ فَيُؤْخَذُ بهِم ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابي، فَيُقَالُ: إنَّكَ لَا تَدْرى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}. . . [المائدة: 117] الآيتين".
رواه البخاري في "الصحيح"(1) عن محمد بن كثير، عن سفيان الثوري، عن المغيرة بن النعمان به.
والمراد بهؤلاء الذين ذكروا في هذا الحديث هم أهل الردة الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم.
وأخبرنا محمد بن مشرف التاجر وأحمد بن أبي طالب المعمر ووزيرة بنت عمر ابن أسعد قالوا: أنا الحسين بن أبي بكر الربعي، أنا أبو الوقت عبد الأول، أنا عبد الرحمن بن المظفر، ثنا عبد اللَّه بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإمام محمد بن إسماعيل، ثنا إسماعيل بن عبد اللَّه، أخبرني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ؛ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِهِ أثَرُ قَتَرَةٍ وَغَبَرَةٍ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَني أَنْ لَا تُخْزنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟
فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ".
(1)"صحيح البخاري"(3349).
كذا رواه البخاري (1).
و"الذيخ" بكسر الذال المعجمة وإسكان الياء آخر الحروف وبعدها خاء معجمة وهو ذكر الضباع، والأنثى منه ذيخة.
ومعنى الحديث أن اللَّه تعالى يغير صورة أبي إبراهيم عليه السلام على هيئة ضبع ذكر متلطخ إما برجيعه أو بالطين، كما جاء في رواية في الحديث في غير "الصحيح":"بِذِيخِ أَمْدَر" أي: متلطخ بالمدر فيزول عنه ما عده من عذاب اللَّه، واللَّه سبحانه أعلم.
وبه إلى البخاري (2): ثنا عبيد اللَّه بن موسى أو ابن سلام عنه، أنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وقمال:"كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام" يعني: لما ألقي في النار.
وبه ثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:"حسبنا اللَّه ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم (3).
وبه ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل (4).
أخبرنا القاسم بن مظفر الدمشقي، عن محمود بن إبراهيم الأصبهاني قالا: أنا الإمام أبو عبد اللَّه الرستمي، أنا أبو عمرو بن منده، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه، أنا محمد بن يونس، ثنا الحسين بن محمد بن زياد، ثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا: ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتعجبون أن
(1)"صحيح البخاري"(3350).
(2)
"صحيح البخاري"(3359).
(3)
"صحيح البخارى"(4563).
(4)
"صحيح البخاري"(4564).
تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم (1).
وبه إلى أبي عبد اللَّه بن منده: أنا محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا عبدة بن عبد اللَّه، ثنا محمد بن بشر، حدثني أبو حيان التيمي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا بلحم فرفع إليه الذراع فكان يعجبه (2) فنهش منها نهشة فقال: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟
يَجْمَعُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْكَرْبِ والْغَمِّ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ألَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ. . . " فذكر الحديث، وفيه: "فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ -وَذَكَرَ كَذبَاتَهُ- نَفْسِي نَفْسِي. . . " وذكر بقية الحديث.
وهو متفق عليه من هذا الوجه بتمامه (3).
وكذباته التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم ليست كذبات على الحقيقة؛ وإنما هي كما أخبرنا محمد بن مشرف ومن معه ذكر بسندهم المتقدم إلى البخاري: ثنا محمد بن محبوب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد -يعني ابن سيرين- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهم في ذات اللَّه، قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، قال: وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن ها هنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟
(1) رواه النسائي في "الكبرى"(11539)، والحاكم (2/ 309).
(2)
في "الصحيحين": وكانت تعجبه.
(3)
رواه البخاري (4712)، ومسلم (194).
قال: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل اليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي اللَّه لي ولا أضرك، قال: فدعت اللَّه فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: ادعي اللَّه لي ولا أضرك فأطلق، فدعا بعض حجبته فقال: لم تأتني بإنسان إنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأوما بيده مهيا؟
قالت: رد اللَّه كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فتلك أمكم يا بني ماء السماء (1).
كذا أخرجه موقوفًا، ورواه قبل ذلك مختصرًا عن سعيد بن تليد، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلَاثًا"(2).
قال العلماء رحمهم الله: هذه الثلاث كلها خارجة عن الكذب لا في القصد ولا في غيره وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب:
أما قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} (3) فقصد به أنه سقيم القلب مما شاهده من كفرهم وعنادهم.
وَقِيلَ: بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم فلما رآه اعتذر بعادته.
وَقِيلَ: بل سقيم بما قدر علي من الموت، وكل هذا ليس فيه كذب بل هو صدق صحيح.
وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (4) فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال: إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه، وهذا صدق أيضًا ولا خلف فيه.
(1) رواه البخاري (3358).
(2)
رواه البخاري (3357).
(3)
الصافات: الآية 89.
(4)
الأنبياء: الآية 63.
وأما قوله: "أختي" فقد بين في الحديث وقال: إنك أختي في الإسلام وهو صدق أيضًا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "وَيَذْكُرُ كَذَبَاتِهِ"، وقوله:"لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثًا" فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته سورة الكذب وإن كان حقًّا في الباطن إلا هذه الكلمات، ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها أن يؤاخذ بها لعلي مقامه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثنتين منها في ذات اللَّه" فلأن المتعلق بسارة [. . .](1) بفعاله وخطأ وإلا فهي في ذات اللَّه أيضًا؛ لأنها تسبب بها عن دفع كافر عن مواقعة فاحشة عظيمة.
وعند الترمذي (2) في حديث الشفاعة من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: فيقول إبراهيم: إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْهَا كَذِبَةٌ إِلَّا مَا حَلَ بِها عَنْ دِينِ اللَّهِ"، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المفهوم، بل لو لم يكن لها وجه كانت جائزة لما تتضمنه من إعلاء كلمة اللَّه ودفع المفسدة عن سارة رضي الله عنه، واللَّه سبحانه أعلم.
أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة وعيسى بن عبد الرحمن المقدسيان قالا: أنا جعفر بن علي المقرئ، أنا أحمد بن محمد السلفي الحافظ، أنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، ثنا محمد بن علي النقاش الحافظ، أنا الحسين بن محمد التستري، ثنا عبد اللَّه بن محمد بن زياد، ثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن عباد بن إسحاق، عن محمد بن عبد اللَّه، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يزور إسماعيل عليه السلام على البراق وهي دابة جبريل تضع حافرها حيث ينتهي طرفها، وهي الدابة التي ركبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به (3).
(1) كلمة غير واضحة في الأصل.
(2)
"جامع الترمذي"(3148).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 239).
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولد بغوطة دمشق بقرية يقال لها برزة (1).
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: الصحيح أنه ولد بكوثى من إقليم بابل بالعراق؛ وإنما نسب إليه هذا المقام الذي ببرزة؛ لأنه صلى فيه إذ جاء معينًا للوط عليه السلام (2).
وَقِيلَ: كان آزر أبو إبراهيم من حران.
وتقدم عن سعيد بن المسيب أن إبراهيم عليه السلام عاش مائتي سنة.
وذكر كعب الأحبار وغيره أن سبب وفاة إبراهيم صلوات اللَّه عليه أنه أتاه ملك في سورة شيخ كبير فتضيفه وكان يأكل ويسيل طعامه ولعابه على لحيته وصدره، فقال إبراهيم: يا عبد اللَّه ما هذا؟
قال -ولعابه على لحيته وصدره: بلغت الكبر الذي يكون صاحبه هكذا قال: وكلم أتى عليك؟
قال: مائتا سنة -ولإبراهيم عليه الصلاة والسلام يومئذ مائتا سنة- فكره الحياة لئلا يصير إلى هذه الحال فمات بلا مرض.
وكذلك قال أبو السكن الهجري: توفي إبراهيم وداود وسليمان صلى اللَّه عليهم وسلم فجأة، وكذلك الصالحون، وهو تخفيف على المؤمنين ورحمة في حق المراقبين.
وقد وقع لنا حديث متصل السند إلى إبراهيم الخليل صلوات اللَّه عليه وسلامه من رواية سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنه: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن ممدود الصوفي، أنا محمد بن علي بن الهني ببغداد سنة 649، أنا عبد العزيز بن محمود بن الأخفر، أنا عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي.
(ح) قال شيخنا: وأنبأنا عبد الخالق بن أنجب بن المعمر، عن الكروخي هذا
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(6/ 164).
(2)
"تاريخ دمشق"(6/ 164).
قال: أنا محمود بن القاسم الأزدي وأحمد بن عبد الصمد الغورجي وعبد العزيز بن أبي نصر الترياقي قالوا: أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، ثنا محمد بن عيسى الترمذي، ثنا عبد اللَّه بن أبي زياد، ثنا سيار، ثنا عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئ أُمَّتَكَ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ"، وفيه قال الترمذي: هذا حديث حسن (1).
وَقُلْتُ أَمْدَحُ الْخَلِيلَ عليه الصلاة والسلام:
عرج هديت على المقام معظما
…
إن كنت تبغي أن تحوز المغنما
والثم بأبواب الخليل ترابها
…
وقل السلام عليك يا مولى سما
يا من له في المكرمات مفاخر
…
ليست تعد وكيف تحصى الأنجما
يا سيدًا يحمي النزيل بجاهه
…
يا أوحدًا يعطي الجزيل تكرما
يا من له الكرم العميم على المدى
…
يقري الضيوف ولا يخاف المغرما
يا أمة في الناس فردًا قانتًا
…
للَّه برًّا شاكرًا من أنعما
يا من له النار العظيمة أطفئت
…
من بعد ما كانت بهول قد ظما
مذ حزت في التفويض صدق توكل
…
أصبحت من ذاك الجحيم مسلما
لم تلتفت إلا لربك وحده .... هذا الفخار فمن يروم تقدما
يا من له الصبر الذي ما مثله
…
في ذبحه مهجة قلبه إذ أسلما
ففداه رب العرش بالكبش الذي
…
وافاه جبريل به قد عظما
يا باني البيت الحرام ورافعا
…
منه القواعد داعيًا رب السما
ومؤذنًا في الناس بالحج الذي
…
فيه الذنوب تحط عمن أجرما
يا أولًا في الناس يكسى حلة
…
يوم القيامة سابقًا ومكرما
(1)"جامع الترمذي"(3462).
يا من له شرع الختان مطهرا
…
من كل عيب لا يزال مؤثما
وله خصال الفطرة العشر التي
…
كان الختان لنا ختامًا تمما
وله الطيور حيين وهو مشاهد
…
لما دعاها بعد موت عمما
لم يطلب الإحياء من شك به
…
لكن إلى عين اليقين قد ارتمى
لك يا خليل اللَّه كل فضيلة
…
قد حزت أجمعها حنيفًا مسلما
يكفيك أن الأنبياء جميعهم
…
من تأخر بعثه وتقدما
ونظامهم بختامهم مولى الورى
…
مولى الجدى علم الهدى شافي العمى
خير الأنام محمد من قدره
…
فوق البرية كلهم فضلا سما
ذي المعجزات الباهرات ومن له
…
يوم المعاد شفاعة تروي الظما
من حاز بالإسراء فضلًا باهرًا
…
ورآك ليلة ذاك في أعلى سما
ولقيته بالبشر والترحيب إذ
…
وافاك صحبة جبريل مسلما
ودعوته ولدًا نبيًا صالحًا
…
فلك الهناء بمثله متقدما
وروى لأمته الذي أوصيته
…
فغدا الحديث بذاك عنك مترجما
أصبحت والده وكنت وليه
…
من بين كل الرسل نحوك يمما
ولقد غدا من بين ولدك كلهم
…
لك مشبهًا في خلقه إذ كرما
وكذاك في أخلاقك الطهر التي
…
أوحى إليه اللَّه فيها معلما
ودعوت رب الخلق في إرساله
…
للحق يتلو والكتاب معلما
فأجبت في هذا الدعاء فأنتما
…
أجر الذين هدوا بذلك حزتما
فعليكما مني السلام تحية
…
ما أظهرت شمس الظهيرة مبسما
وصلاة رب العرش ترى دائما
…
تهدي سنا البركات منه إليكما
بكما ملاذي في الورى وتوسلي
…
ومعولي في النائبات عليكما (1)
وإليكما دون الأنام توجهي
…
أبغي الشفاعة عند ربي منكما
(1) هذه أبيات فيها غلو وإطراء قد نهى عنه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} .
ها يا خليل اللَّه دعوة خادم
…
لك نازل بحماك يرجو الأنعما
لا يخشى ريب الزمان وجوره
…
مذ حل في هذا الحمى مستعصما
ولقد أتته بشارة من صادق
…
رؤيا منام كان أمرًا محكما
إني وقفت ببابك الرجب الذي
…
أرقى به نحو المعالي سلما
ولقيت منك مبرة وكرامة
…
وصيانة أحرزت منها مغنما
فلي الهناء بذاك إن نلت المنى
…
منه بتأويل يريك المبهما
ولذا أتيت إلى جنابك مسرعا
…
متخضعًا وجعلته لي منسما
وقصدت بابك سائلًا مستجديًا
…
متأسفًا متلهفًا متندما
فكن الشفيع إلى إلهك عله
…
يعفو ويولي الصفح عمن أجرما
واسأله إصلاحًا لحالي دائمًا
…
واللطف بي فيما قضي فتحكما
واسأله علمًا نافعَا أحيى به
…
يبقى وإن أبلى التراب الأعظما
صلى عليك اللَّه كل عشية
…
وكذا الملائكة الكرام وسلما
وعلى الذين ولدتهم من مجتبى
…
برسالة ونبوة قد أكرما
وسقى معاهد بلدة جاورتها
…
من غير إفساد [. . .]
وأنالها ربي الأمان وكليف لا
…
وبجاهك المامول قد أضحت حما
تمت وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وسلم.