المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التوصيف العلمى للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة - مجموع رسائل الحافظ العلائي جـ ١

[صلاح الدين العلائي]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌ترجمة الحافظ العلائي

- ‌أولًا: اسمه ونسبه:

- ‌ثانيًا: مولده:

- ‌ثالثًا: شيوخه:

- ‌رابعًا: تلامذته:

- ‌خامسًا: الوظائف التي شغلها

- ‌سادسًا: مصنفاته:

- ‌سابعًا: ثناء العلماء عليه:

- ‌ثامنًا: مذهبه:

- ‌تاسعًا: وفاته:

- ‌منهج تحقيق الرسائل

- ‌جزء في ذكر كليم اللَّه موسى بن عمران صلوات اللَّه وسلامه عليه وما يتعلق بقبره

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌نسخة المؤلف

- ‌النسخة المساعدة

- ‌توثيق الكتاب

- ‌رِسَالَةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌ثوثيق الكتاب

- ‌رِسَالةٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}

- ‌التوصيف العلمى للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌رِسَالَة في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عز وجل {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌تَحْرِيرُ الْمَقَالِ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ

- ‌التوصيف العلمي للنسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌خَاتِمَةٌ

- ‌آخر تحرير المقال في تحريم الحلال

- ‌مَسْأَلَة فِي مُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌تَحْقِيقُ مَنِيفِ الرُّتْبَةِ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ شَرِيفُ الصُّحْبَةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ حَتَّى يَنْطَلِقَ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ اسْمُ الصَّحَابِيّ

- ‌المسألة الثانية: فيما تثبت به الطرق المتقدمة

- ‌المسألة الثالثة: فى تقرير عدالة الصحابة رضي الله عنهم

- ‌فَصْلٌ

- ‌رَفْعُ الْإِشْكَالِ عَنْ حَدِيثِ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّال

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

- ‌العُدَّةُ عِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ

- ‌وصف النسخة الخطية

- ‌توثيق الكتاب:

الفصل: ‌ ‌التوصيف العلمى للنسخة الخطية اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة

‌التوصيف العلمى للنسخة الخطية

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية فريدة لم أظفر بغير ذلك من النسخ الخطية إلا أنها نسخة بخط المؤلف ولذلك فهي نسخة متقنة جدًّا لولا ما اعتراها من الطمس نتيجة لعوامل الرطوبة، وهي درس للحافظ العلائي كان قد ألقاه بالمدرسة الصلاحية:

وهي النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (623) تفسير.

- اسم الناسخ: بخط المؤلف.

- تاريخ النسخ: حدود القرن السابع.

- نوع النسخ: نسخ معتاد.

- عدد الأوراق: 28 ورقة.

‌توثيق الكتاب:

يكفي لإثبات نسبة هذه الرسالة للإمام الحافظ العلائي أنها بخطه، وأيضًا:

1 -

وجد على طرة النسخة الخطية نسبة هذه الرسالة لكمام العلائي وأيضًا في مقدمة الرسالة، وفي آخرها أيضًا.

2 -

روى الحافظ العلائي أحاديث فيها بأسانيده المعروفة وعن شيوخه المعروفين، منهم:

- أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي.

- أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي.

- أبو محمد عيسى بن عبد الرحمن بن معالي الصالحي.

- أبو البركات عبد الأحد بن أبي القاسم بن عبد الغني الحراني.

- محمد بن أبي العز بن مشرف.

- وزيرة بنت عمر التنوخية.

ص: 89

طرة النسخة الخطية

ص: 90

الورقة الأولى

ص: 91

الورقة الأخيرة

ص: 92

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الحجة البحر الفهامة شيخ المحدثين عمدة الفقهاء والأصوليين:

صَلَاحُ الدِّينِ خَلِيلُ بْنِ كَيْكِلْدِي الْعَلَائِيّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ:

الحمد للَّه الذي نصب العلماء أعلامًا، وجعلهم كنجوم السماء علوًّا وإنارة وهداية وتعاقبًا وانتظامًا، ووزن مدادهم بدم الشهداء، وكيف لا وهؤلاء يعملون في الجهاد أسنة وسيوفًا، وهؤلاء في الجدال ألسنة وأقلامًا، وفضلهم على أبرار أوليائه حتى فضَّ لهم عن أسرار أنبائه ختاما، أحمده على أن جعل لإقدامنا على السعي في طلب العلم أقدامًا، ويسر [. . .](1) بما شرعه من كتابه العظيم وسنة نبيه الكريم أحكامًا، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة تعلي لعاملها في الجنة مقامًا، وتكون لمن مثل بها في الآخرة جنة واعتصامًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جعله للمسلمين إمامًا، ومزق به من دياجي الكفر [. . .](2) وأحسن لعباده المؤمنين مستقرًّا ومقامًا، صلى اللَّه عليه وعلى آله الطيبين وصحبه الطاهرين و [أتباعهم] (3) تحية وسلامًا:

أَمَّا بَعْدُ:

فإن العلم هو [المطلب](4) الأسنى، وصاحبه مخصوص بالمرتبة الحسنى من اللَّه تعالى، شرفه على غيره في محكم الكتاب بقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5).

(1) كلمة غير واضحة في الأصل.

(2)

كلمة غير واضحة في الأصل.

(3)

كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت أشبه بالرسم والسياق.

(4)

كلمة غير واضحة في الأصل، والمثبت أشبه بالرسم والسياق.

(5)

الزمر: الآية 9.

ص: 93

وجعل شهادة أهله بالوحدانية تلو (1) شهادة ملائكته الكرام فرتب حكمه على هذه الشهادة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) واختصهم بخشيته بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) وناهيك بها مزية ورتبة، وأوجب لهم الخلود في جنات عدن ورضاه بقوله سبحانه:{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (4).

وكنت ممن أنفق حاصل عمره في تحصيله، وتنوع في تفريعه، وتفنن في تأصيله، والحمد للَّه على ذلك حمدًا نستدر به إخلاف المذاهب، ونتنزل به أصناف الرغائب، وله الحمد على ما قدر من الانتقال إلى هذه الأرض التي بارك فيها وحولها، حمدًا يشتمل أنواع الشكر. . . (5) فإنها أفضل بقاع الشام، ومواطن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. . . (6) ومجالس غايات ومساجد صلوات ومساكن. . . (7) ومواكب عبرات وتضاعف حسنات وترادف خيرات. . . (8) الأنبياء وتواترت من اللَّه الأنباء وتفجرت النبوة. . . (9) ومسجدها الذي اتفقت الأمم على تفضيله، وأسرى اللَّه تعالى إليه برسوله، وهو ثاني المساجد التي تشد الرحال إليها، وثانيها في البناء، كما جاءت به الآثار المتفق عليها؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، والْمَسْجِدِ

(1) تلو الشيء: الذي يتلوه.

(2)

آل عمران: الآية 19.

(3)

فاطر: الآية 28.

(4)

البينة: الآية 8.

(5)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

(6)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

(7)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

(8)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

(9)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

ص: 94

الأَقْصَى" (1).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه، أي مسجد وضع في الأرض أول؟

قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ".

قلت: ثم أي؟

قال: "ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى".

قلت: كم بينهما؟

قال: "أَرْبَعُونَ سَنَّةً"(2).

وروى أبو داود عن ميمونة رضي الله عنهما قالت: قلت: يا رسول اللَّه، أفتنا في بيت المقدس؟

قال: "ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ".

قلت: والروم إذ ذاك فيه.

قال: "فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ"(3).

وأخرج النسائي (4) وابن ماجه (5) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما الصلاة والسلام مِنْ بِنَاءِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عز وجل [ثَلَاثًا] (6) حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فَأَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ".

(1)"صحيح البخاري"(1996)، و"صحيح مسلم"(827) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

"صحيح البخاري"(3425).

(3)

"سنن أبي داود"(457).

(4)

"سنن النسائي"(2/ 34).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1408).

(6)

ليست في الأصل وأثبتها من السنن.

ص: 95

وصححه الحاكم في "المستدرك"(1).

ويكفي شاهدًا على المزية في سكنى هذه الأرض لمن حمد وشكر سؤال موسى عليه السلام اللَّه تعالى عند موته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر (2).

ولما قدر اللَّه تعالى سكنى هذه البقاع الشريفة ومباشرة هذه المدرسة التي هي بكل خير منيفة -تغمد اللَّه واقفها بالرحمة والرضوان، وجزاه على جهاده واجتهاده غرف الجنان- بنيت في التدريس على ما كنت وصلت بدمشق إليه، وفوضت أمري إلى اللَّه، وجعلت توكلي عليه فهو المرغوب فيما عنده ولديه.

أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم:

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . . . الآية (3).

الكلام على هذه الآية الكريمة من سبعة أوجه:

الوجه الأول: في انتظامها مع ما قبلها.

والثاني: في تحقيق بعض مفرداتها.

والثالث: في إعرابها وما يتعلق بها من علمي المعاني والبيان.

والرابع: في شيء من تفسيرها ويتصل به درس في الحديث والكلام عليه.

والخامس: فيما يتعلق بها من علم أصول الدين.

والسادس: فيما يتعلق بها من علم أصول الفقه.

والسابع: ما يتعلق بها من علم الفقه ومسائل الخلاف.

الوجه الأول: في انتظامها مع ما قبلها.

وذلك. . . (4) من معرفة المشبه به في قول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

(1)"المستدرك"(2/ 471).

(2)

رواه البخاري (1339)، ومسلم (2372) من حديث أبي هريرة.

(3)

البقرة: الآية 143.

(4)

قطع في الأصل بمقدار كلمتين.

ص: 96

وَسَطًا} وفيه أقوال:

أحدها: أنه راجع إلى الهداية المتقدمة في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) فتقدير الكلام كما أنعمنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمةً وسطًا.

والثاني: أنه راجع إلى تحويل القبلة؛ فتقديره: وكما هديناكم إلى قبلة هي خير القبل كذلك جعلناكم أمةً وسطًا.

والثالث: أنه عائد على قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (2) ويكون معناه على هذا الوجه أن هذه الجهات مع استوائها في كونها ملك للَّه خص بعضها بمزيد الشرف بأن جعله قبلة حالة التقرب إليه، فكذلك الخلق لما اشتركوا في كونهم عباده سبحانه وتعالى خص هذه الأمة دون سائر الأمم بأن جعلهم أمةً وسطًا فضلًا منه وكرمًا.

الوجه الثاني: في تحقيق بعض مفرداتها

"جعل": لفظ عام في الأفعال كلها، وهو أعم من فعل وصنع وسائر أخواتها، ويستعمل لازمًا ومتعديًا إلى مفعول واحد وإلى مفعولين؛ فإذا استعمل بمعنى طفق نحو: جعل زيد يقول كذا وكذا؛ كان لازمًا، وإذا استعمل بمعنى أوجد تعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (3).

وكذلك إذا كان بمعنى شرع وحكم كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (4) ومنه قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} على أحد التأويلات، كما سيأتي بيانه.

(1) البقرة: الآية 142.

(2)

البقرة: الآية 115.

(3)

الأنعام: الآية 1.

(4)

المائدة: الآية 103.

ص: 97

وإذا كان بمعنى يصير الشيء على حال بعد أخرى تعدى إلى مفعولين، كقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} (1) و {جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} (2) ومنه قوله تعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} .

ووسط الشيء: ما له طرفان، قال الأزهري: كل ما يبين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والمسبحة وحلقة الناس فهو بالتسكين، وما كان مصمتًا لا يبين بعضه من بعض كالدار والساحة فهو وسَط بالفتح قال: وقد أجازوا في الساكن الفتح، ولم يجيزوا في المفتوح الإسكان (3).

والوسط هنا صفة للأمة، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

وقد اختلف في معناه هنا، فالصحيح الذي لا يجوز غيره ما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: "عدلًا" رواه الترمذي هكذا، وقال: حسن صحيح (4). وأخرجه البخاري أطول من هذا، وسيأتي، وحكى هذا القول الجوهري عن الخليل والأخفش وقطرب، وقد قال غيره:

همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي العظائم

وقيل: الوسط: الخيار، واختاره صاحب "الكشاف" (5) قال: لأنه يستعمل في الجمادات فيقال: سطة الدنانير أي: خيارها، فكانت أوساط الشيء، وهي الخيار، لكونها سالمة مما يصل إلى الأطراف من الخلل والإعواز قال الطائي:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت

بها الحوادث حتى أصبحت طرفَا

وتقول العرب: انزل وسط الوادي، أي: خير موضع منه.

(1) البقرة: الآية 22.

(2)

النحل: الآية 81.

(3)

"الزاهر"(ص 110) بنحوه.

(4)

"جامع الترمذي"(2961).

(5)

"الكشاف"(ص 99).

ص: 98

والمعني متقارب فيهن، ومرد القولين إلى معنى واحد، وهو أن العدل: هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط فكان خيارًا لكونه كذلك، مع أنه لا يعارض ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والشهادة ما صدر عن علم وتحقق إما بالشعور. . . (1) وإما بالبصيرة كقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} الآية والقبلة في الأصل. . . (2) ثم صار اسمًا للمكان المقابل للأوجه. . . (3) وقوله تعالى {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (4) ثم استعمل الكبيرة فيما. . . (5) كما في قوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (6).

والفرق بين الرأفة والرحمة مع أن كلًّا منهما متضمن معنى الإحسان أن الرأفة هي مبالغة في الإحسان الخاص وهو دفع المكروه وإزالة الأذى كقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (7) أي: لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما، والرحمة أعم من ذلك وهي اسم جامع يدخل فيه سائر وجوه الإحسان والإفضال فيكون ذلك من باب ذكر العام بعد الخاص.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر عنه {لرؤف} مهموز غير مشبع على وزن رعف، وقرأ الباقون {لَرَءُوفٌ} بالإشباع والمد (8)، واحتجوا بأن فعولًا أكثر مجيئًا في الصفات ولم يجئ فعل إلا في القليل نحو. . . (9)

(1) قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

(2)

قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

(3)

قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

(4)

الكهف: الآية 49.

(5)

قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

(6)

الشورى: الآية 13.

(7)

النور: الآية 2.

(8)

انظر "حجة القراءات"(ص 116).

(9)

قطع في الأصل بمقدار ثلاث كلمات.

ص: 99

وحذر وعجل ويقظ وليس ذلك كمجيء غفور وشكور وصبرر فإنه أكثر فكان أولى، وقال الشاعر:

نطيع نبينا ونطيع ربًّا

هو الرحمن كان بنا رءوفا

وأما من قرأ "رؤف" فقال: إن ذلك هو الغالب على أهل الحجاز ومنه قول الوليد بن عقبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما:

وشر الطالبين فلا تكنه

يقاتل عمه الرؤف الرحيم

الوجه الثالث: في إعراب هذه الآية الكريمة وما يتصل بها من علمي المعاني والبيان.

الكاف في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} في محل النصب نعت لمصدر محذوف تقديره أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطًا إنعامًا كما أنعمنا عليكم بالهداية.

و {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} محله النصب لكن اختلف في تقدير ناصبه بحسب الاختلاف في "جعل" معناها وما أريد بالقبلة:

فقيل: إن "جعل" هنا يعني: شرع، فيكون معنى الكلام وما شرعنا القبلة التي كنت عليها يعني بيت المقدس إلا ابتلاءً وامتحانًا؛ لأن اللَّه تعالى علم أنه يرجعهم بعد ذلك إلى الكعبة.

وقال بعضهم: إن اللَّه تعالى تعبد نبيه صلى الله عليه وسلم أولًا بالصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن العرب كانت تحب الكعبة ويشق عليهم استقبال غيرها فكانت الصلاة إليها أولًا امتحانًا ليظهر به إيمان المؤمن عند صبره على التوجه إلى غير الكعبة ونفاق المنافق عند مخالفته، وعلى هذا القول الموصول وصلته صفة للقبلة أو عطف بيان.

وقيل: بل المعني بالقبلة هاهنا الكعبة، و"كنت" بمعنى صرت كما قيل في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) أي: صريح، فيكون تقدير الكلام وما شرعنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، والتي

(1) آل عمران: الآية 110.

ص: 100

كنت عليها هي موضع الصلاة القبلة المتقدم.

وقيل إن "جعل" هنا بمعنى. . . (1) كان على بابها في المعنى ويكون في الكلام إضمار تقديره وما جعلنا القبلة التي كنت عليها. . . (2) صلى الله عليه وسلم أن يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفًا لليهود ثم حول إلى الكعبة ثانيًا فيكون معنى الكلام: وما جعلنا القبلة الجهة التي تحب أن تستقبلها الكعبة التي كنت عليها أولًا بمكة، وعلى هذا التقدير لا يحتاج الكلام إلى إضمار وتكون "كان" على بابها في المعنى ولكن هذا على قول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فرضه بمكة أولًا الصلاة إلى الكعبة وأن القبلة نسخت مرتين، وفي هذا قولان للعلماء: أحدهما هذا واختاره الإمام أبو عمر بن عبد البر وقال: هو الصحيح، واحتج له بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستهَ عشر شهرًا. . . الحديث (3).

قال (4): الظاهر يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت الممَدس لا قبل ذلك.

وبحديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أول ما نسخ اللَّه من القرآن القبلة وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره اللَّه عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم فأنزل اللَّه عز وجل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 143](5).

وهذا الحديث منقطع، فإن علي بن أبي طلحة لم يلق ابن عباس، إنما سمع من أصحابه، مع أنه أيضًا متكلم فيه، وإن كان مسلم قد روى له، فقد قال فيه أحمد بن

(1) قطع في الأصل.

(2)

قطع في الأصل.

(3)

رواه البخاري (41)، ومسلم (525).

(4)

"التمهيد"(17/ 52 - 53).

(5)

رواه البيهقي (2/ 12).

ص: 101

حنبل: له أشياء منكرات (1).

وأما الحديث الأول فليس بالصريح في الذي قاله لا يمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة يستقبل بيت المقدس وإنما خص المدينة بالذكر لما بعد الهجرة إليها؛ لأن ذاك هو الذي شاهده البراء رضي الله عنه دون مكة.

والقول الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان فرضه الصلاة إلى بيت المقدس ولكنه كان إذا صلى وهو بمكة يجعل الكعبة بين يديه ولا يستدبرها، فلما قدم المدينة لم يمكنه عند استقبال بيت المقدس إلا أن يستدبر الكعبة فإنما ظهر الفرق بين صلاته في البلدين، وهذا القول أقوى من حيث الدليل وهو اختيار أبي القاسم السهيلي وغيره، والحجة له ما روى أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه وبعدما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة (2).

ورواه أبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" عن محمد بن المثنى عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة وهذا إسناد صحيح جيد.

ويشهد لذلك أيضًا قصة البراء بن معرور رضي الله عنه وهي مشهورة في السيرة أنه أول من توجه إلى الكعبة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك عند مسير الأنصار إلى مكة من أجل بيعة العقبة فقال البراء: لقد رأيت أن لا أجعل هذه القبلة مني بظهر يعني الكعبة. فقالت الأنصار: ما بلغنا أن نبينا يتوجه إلى بيت المقدس فخالفهم وتوجه إلى الكعبة في صلاته، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سأله البراء بن معرور رضي الله عنه عن صنيعه ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ كُنْتَ عَلَى قِبلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيهَا"(3).

ففي هذا أيضًا دليل صريح على أن التوجه قبل الهجرة إنما كان إلى بيت المقدس. فهذا ما يتعلق بالإعراب الذي أشار إليه صاحب "الكشاف".

(1) انظر "تهذيب الكمال"(20/ 459).

(2)

رواه أحمد (1/ 325) من طريق يحيى بن حماد عن أبي عوانة.

(3)

رواه أحمد (3/ 460)، وابن خزيمة (429)، وابن حبان (7011).

ص: 102

وقوله تعالى: {عَلَى عَقِبَيْهِ} في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في {يَنْقَلِبُ} أي: راجعًا.

و"إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} هي المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة، واسمها محذوف، هذا مذهب أهل البصرة، وقال الكوفيون: هي يعني واللام بمعنى إلا، وعلى هذا القولين هي لتأكيد المعنى، وإنما لزمها هذه اللام على رأى البصريين ليفرق بينها وبين أن التي للحجة، كالتي في قوله تعالى:{وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (1).

و"كبيرة" خبر واسمها محذوف، دل عليه قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} فتقديره وإن كانت التحويلة أو الجعلة أو الصلاة إلى بيت المقدس لكبيرة، وروي في غير المشهور:"وإن كانت لكبيرة" بالرفع على أن "كان" زائدة، كما في قول الشاعر:

*وجيران لنا كانوا أكارم*

وخبر "كان" في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يحتمل أن يكون "ليضيع" أي: ما كان ذلك إضاعة لإيمانكم، وأن يكون محذوفًا، وما كان اللَّه يريد أن يضيع.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} جمع فيه بين التأكيدين: "إن" و"اللام"؛ لأن القضية مستبعده عند المخاطبين، حيث قالوا: كيف بمن مات منَّا وهو يصلي إلى ست المقدس؟ فبين اللَّه أنه غير مضيع عمل عامل منهم، لرأفته ورحمته بعباده سبحانه وتعالى، وإن كان الخطاب للمنافقين أو اليهود الذين عابوا على المسلمين توجههم إلى الكعبة، وقالوا للمسلمين: إن عملكم كان باطلًا، فالحاجة إلى التأكيد أقوى، فلهذا جمع بين تأكيدين، وتأكيد القضية يكون بحسب استبعادها عند المخاطب؛ فإن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم وإما لازمه، فمتى كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على. . . (2)

(1) فاطر: الآية 41.

(2)

قطع في الأصل.

ص: 103

ومن التردد فيه أو الشك أو الإنكار استغني حينئذ عن مؤكدات الحكم؛ فإن كان متصورًا لطرفي الحكم مترددًا في إسناد أحدهما إلى الأخر حسن تقويته حينئذ بالمؤكد؛ فإن جاء بخلافه قوي التأكيد بحسب إنكاره وجمع حينئذ بين "إن" و"اللام" وشاهد هذه القاعدة في كلام العرب كثير لا ينحصر، ومنه في القرآن العظيم مواضع مشهورة منها قول الرسل عليهم السلام في قصة "يس":{إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} (1) فردوا عليهم بقولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} (2) فأجابوهم ثانيًا بقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (3).

وقد أورد على هذه القاعدة قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (4) فأكد الموت الذي لا ينكر أحد وقوعه بـ "إن" و"اللام"، ولم يؤكد البعث إلا بـ "إن" فقط مع أنه ينكره كثيرون وخصوصًا في زمن النبوة؟

وأجيب بأن الخطاب في هذه الآية الظاهر للمعترفين بالبعث حال غفلتهم عن الموت وتشاغلهم عنه بأمور الدنيا؛ فكأنهم لغفلتهم عنه بمنزلة من لا يعرف به، فأكدت القضية بـ "إن" و"اللام"، وهذا يسمى إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ثم لما ذكروا بالموت ذكروا البعث، وكانوا معترفين به فلم يحتج إلى تأكيده باللام.

فهذه ثلاثة من علم المعاني والبيان تتعلق بهذه الآية، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى في الوجه الذي بعد هذا ثلاثة منه أخرى.

الوجه الرابع: فيما يتعلق بمعاني بعض هذه الآية:

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قد تقدم أن الوسط يفسر على قولين:

أحدهما: العدل.

(1) يس: الآية 14.

(2)

يس: الآية 15.

(3)

يس: الآية 16.

(4)

المؤمنون: الآية 15 - 16.

ص: 104

والثاني: الخيار.

والأظهر أنه العدل؛ لأنه السواء الذي لا يميل إلى طرفي الإفراط والتفريط، وهو أيضًا خيار بهذا الاعتبار؛ فامتن اللَّه تعالى على هذه الأمة بعد الهداية بأن جعلها أمة وسطا، ومن استقرى أحوال الدينية وجدها كذلك تتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وبيانه أن الأحوال التي كلف بها العبد إما اعتقادات أو أعمال، وهي في كلها كذلك.

أما الاعتقادات فنبين ذلك بأمثلة:

أحدها: التوحيد؛ فإن من الناس من عطل الإلهية تعطيلًا محضًا؛ ففرط، ومنهم من أثبت أكثر من الإله الواحد؛ فأفرط، والعدل التوسط، وهو إثبات الاله وتوحيده.

وثانيها:. . . (1)؛ لأن من الناس من بالغ في إثبات الإله الواحد حتى جعله جسمًا أو جوهرًا أو مركبًا أو مختصًّا بجهة أو محلًّا للحوادث؛ فشبهه بالموجودات الحادثة تعالى اللَّه عن ذلك.

ومنهم من نفى حتى لم يثبت إلا الوجود المحض، وعطل صفات الإلاهية.

وَالْعَدْلُ: التَّوَسُّطُ بإثبات الوجود وخواص الإلاهية ونفي ما يوجب النقص والحدوث من الجوهرية والتركيب ونحوها.

وَثَالِثُهَا: مذهبهم في الصفات الزائدة على الذات؛ فإن أهل السنة توسطوا بين طرفي التفريط بنفيها وتعطيلها، والإفراط بإثباتها متغيرة متنقلة حادثة.

وَرَابِعُهَا: قول أهل السنة أيضًا في مسألة خلق الأعمال؛ فإنهم توسطوا بين الجبر المحض والقَدَر المحض؛ فلم يسلبوا اختيار العبد وقدرته، ولم يجعلوه خالقًا لأفعاله مضاهيًا للَّه سبحانه في مقدوره.

وَخَامِسُهَا: قولهم في النبوات؛ فإنهم أثبتوها من عند اللَّه عز وجل باختصاصه من يشاء من البشر واصطفائه إياه؛ فتوسطوا بين قول من يعطلها ويحيلها، وقول من

(1) قطع في الأصل.

ص: 105

يثبتها بالاكتساب واعتدال المزاج.

وَسَادِسُهَا: اعتقادهم في الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فإنهم أنزلوهم المنزلة التي جعلها اللَّه لهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام، ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود حتى وصلوا إلى القتل وغيره.

وَسَابِعُهَا: قولهم في المعاد؛ فإن من الناس من يعطله بالكلية، ومنهم من يثبته بالأحوال النجومية والدورات الفلكية، وهم قد أثبتوه على الوجه الأتم الأكمل الذي جاءت به الشرائع واقتضته الحكمة الإلاهية.

وَثَامِنُهَا: قولهم في السمعيات وأحوال القيامة، فقالوا بإثبات الثواب والعقاب على وجه ليس فيه إفراط ولا تفريط؛ فإن المُرْجِئَةَ تزعم أنه لا يعاقب العبد المؤمن أبدًا بشيء من الذنوب، وَالمُعْتَزِلَةَ تقول بإيجاب الخلود في النار بفعل الكبيرة إذا مات فاعلها عن غير توبة، وَأَهْل السُّنَّةِ متوسطون بين هذين القولين، وكذلك أيضًا توسطوا في بقية السمعيات والإمامة ونحوها، وهذا كله سرّ قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ بَني إِسْرَائِيل تَفَرَّقَت عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةٍ"(1) ووجه ذلك زيادة هذه الفرقة المتوسطة بين الفرق كلها وهي الفرقة الناجية.

وأما الأعمال فقد جعل اللَّه تعالى هذه الأمة فيها أيضًا وسطًا بين طرفي الإفراط والتفريط، وبيانه مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: من الناس من يقول: ليس على العبد تكليف أصلًا، ولا يجب عليه أن يشتغل بشيء من الطاعات وهم نفاة التكليف، وأوجب براهمة الهند وأمثالهم من المانوية على العبد المبالغة في تعذيب نفسه وكدها والاحتراز عن الطيبات من المآكل والمناكح حتى إن منهم من يرمي نفسه في النار أو من شاهق.

(1) روه الترمذي (2640)، وابن ماجه (3991)، والحاكم (1/ 217) من حديث أبي هريرة بنحوه.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سعد، وعبد اللَّه بن عمرو، وعوف بن مالك.

ص: 106

وَالْعَدْلُ ما عليه هذه الأمة من التوسط بين هذين الأمرين من الوقوف عند أوامر الشرع ونواهيه وتناول مباحاته.

وَثَانِيهَا: أن التشديدات والتكاليف الشاقة في دين موسى عليه السلام كثيرة جدًّا، والمساهلة كثيرة في دين عيسى عليه السلام، وهذه الأمة متوسطة بين الأمرين، ولذلك أمثلة:

مِنْهَا: أن في شرع موسى عليه السلام يحتم استيفاء القصاص في القتل العمد، وفي شرع عيسى عليه السلام إيجاب العفو فقط، وفي شرع هذه الأمة التخيير بين القصاص والعفو.

وَمِنْهَا: أن في شرع موسى اجتناب المرأة في حالة الحيض حتى عن المؤاكلة وسائر وجوه المخالطة، وفي شرع عيسى حلّ كل شيء حتى الوطء، وهذه الأمة وسط بين ذلك في حل المخالطة وتحريم الجماع.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي يطول بذكرها الكلام.

وإذا تأملت قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1).

وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (2).

وقوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (3) مع قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (4)؛ علمت أن تكاليف هذه الأمة كلها وسط بين طرفي الإفراط والتفريط فكانت عدلًا وخيارًا لكونها كذلك.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (5) على أقوال:

أَحَدُهَا: أن المراد به شهادة هذه الأمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتبليغ عند جحد أممهم ذلك وإنكارهم أنهم بلغوهم، وحجة ذلك ما روى البخاري في

(1) الفرقان: الآية 67.

(2)

المؤمنون: الآية 115.

(3)

طه: الآية 1 - 2.

(4)

الفرقان: الآية 67.

(5)

البقرة: الآية 143.

ص: 107

"صحيحه"(1) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيقَولُ اللَّهُ لَهُ: هَل بَلَّغتَ؟

فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ.

فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟

فَيَقُولُونَ: لَا، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ.

فَيَقُولُ لِنُوحٍ عليه السلام: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟

فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَهْوَ قَوْلُهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .

ورواه النسائي بإسناد الصحيح، وزاد في آخره:"وَالوَسَطُ الْعَدْلُ"(2).

فهذا القول أولى ما قيل به في تفسير هذه الآية؛ لصحة الحديث في ذلك.

فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في هذه الشهادة من الأمة؛ فإن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة اللَّه تعالى على صدق الأنبياء، فلم لم يصدق اللَّه نبيه نوحًا عليه السلام ابتداءً؟!

فَالْجَوَابُ: أن الحكمة في ذلك تمييز هذه الأمة في الفضل على سائر الأمم بمبادرتهم إلى تصديق اللَّه تعالى وتصديق جميع الأنبياء، وليست هذه المزية لغيرهم من الأمم فهم العدول يوم القيامة على سائر الخلائق.

وَالْقُوْلَ الثَّانِي: أن المراد به شهادة بعضهم على بعض بأعمالهم من الخير والشر بعد الموت، ويدل عليه الحديث الصحيح؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثني عليها خيرًا؛ فقال:"وَجَبَتْ وَجَبَتْ" ثم مر عليه بجنازة أخرى فأثني عليها شرًّا؛ فقال: "وَجَبَتْ وَجَبَتْ" ثم قال: "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأَرْضِ"(3).

وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذين القولين فبمعنى أنه يشهد لهم بالإيمان يوم

(1)"صحيح البخاري"(3339).

(2)

"سنن النسائي الكبرى"(3339) وعنده: "عدلا".

(3)

رواه مسلم في "صحيحه"(949) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 108

القيامة وبالتبليغ.

فَإِنْ قِيلَ: فهلا قال: "ويكون الرسول لكم شهيدًا" لأن شهادته لهم لا عليهم؟

قِيلَ: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن جيء فيه بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1).

فَإِنْ قِيلَ: فلم أخرت صلة الشهادة أولًا وقدمت ثانيًا؟

قُلْنَا: لأن الغرض في الجملة الأولى إثبات المنة على هذه الأمة بجعلهم شهداء على الناس مع قطع النظر عن اختصاصهم بذلك فلم يقدم الجار والمجرور المشعر تقديمه بالحصر؛ بل قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2).

وأما في شهادة الرسول عليهم؛ فلأن المنة فيها عليهم باختصاصهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدًا لهم مزكيًّا لأعمالهم؛ فقدمت صلة الشهادة لتفيد اختصاصهم بذلك دون بقية الناس، وهذه هي الثلاثة التي سبق الوعد بها من علم البيان؛ فإن القاعدة المستقرة فيه أن تقديم المفعول والجار والمجرور يقتضي قصر الحكم بأحد أنواعه: إما قصر الأفراد أو قصر القلب أو غيرهما، ومن أحسن أمثلته الموافقة لهذه الآية: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (3) فإن الإيمان لما لم يكن منحصرًا في الإيمان باللَّه بل لا بد معه من الإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث والحساب وغير ذلك أخر الجار والمجرور فقال: {آمَنَّا بِهِ} بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على اللَّه وحده فقدم الجار والمجرور ليفيد إنحصار التوكل في كونه على اللَّه وحده؛ إذ لا يتوكل على غيره.

وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: أن هذه الشهادة إنما هي في الدنيا بمعنى الحجة على من بعدهم كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام حجة على من بعده من الأمة، واستدل جماعة من هذه الآية على هذا القول على أن الإجماع حجة، وقيده بعض الأئمة بما حاصله

(1) البروج: الآية 9.

(2)

البقرة: الآية 143.

(3)

الملك: الآية 26.

ص: 109

أن الشهادة إذا أريد بها الشهادة على الأعمال المشاهدة أضيفت إلى من يشاهد ذلك منه كما في قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (1) فخص ذلك بالموجودين من أمته في زمنه، وكذلك قوله تعالى عن عيسى عليه السلام:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (2) فبين أن شهادته على أعمالهم مختصة بحال حياته فيهم؛ فأما قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (3) فإن هذا ليس خطابًا للموجودين حينئذ فقط؛ بل لكل الأمة إلى قيام الساعة فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حجة على كل أمته كما كان مبعوثًا إليهم إلى قيام الساعة.

وإذا ثبت أن المراد بقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (4) كونه حجة عليهم، فكذلك قوله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (5) بمعنى الحجة عليهم فيكون العصر الأول من الأمة إذا أجمعوا على شيء كان قولهم حجة على من بعدهم إلى قيام الساعة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حجة، ولأن حجة اللَّه إذا ثبتت في وقت فهي ثابتة أبدًا، ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول دلت على صحة إجماع الأعصار التي بعدهم؛ إذ الخطاب لكل الأمة ولم تخصص الآية أهل عصر دون أهل عصر.

ولا يقال: الخطاب ليس لكل الأمة؛ لأنه لا يتناول المعدوم لأنا نقول: لا فرق بين هذا وبين قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (6) وسائر نظائره؛ فإن هذا يتناول الأمة ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، وكذلك جميع تكاليف اللَّه تعالى وأوامره ونواهيه خطاب لجميع الأمة.

(1) النساء: الآية 41.

(2)

المائدة: الآية 117.

(3)

البقرة: الآية 143.

(4)

البقرة: الآية 143.

(5)

البقرة: الآية 143.

(6)

البقرة: الآية 183.

ص: 110

فَإِنْ قِيلَ: فلو كان الأمر كذلك من أن هذا الخطاب لكل من يوجد إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة، فمن أين حكم لأهل كل عصر بمفردهم حتى يكون قولهم حجة على من بعدهم؟

قِيلَ: إنه تعالى لما جعلهم شهداء على النَّاس فلو اعتبرنا في ذلك كل الأمة من أولها إلى آخرها لؤالت الفائدة من ذلك؛ إذ لم يبق من يكون قول الأمة حجة عليه، فلم يبق إلا العمل به في كل عصر بمفرده، فثبت كون إجماعهم حجة على من بعدهم، وهذا خلاصة ما قرره المشار إليه، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

ثم إن هذه الأقوال الثلاثة في معنى الشهادة يمكن ردها إلى معنى واحد؛ لما تقرر من أن الوسط هو العدل، فيكون فيه إثبات العدالة لهذه الأمة في الدنيا المقتضية لكون إجماعهم حجة، وإثبات العدالة لهم في الآخرة في كونهم شهداء بعضهم على بعض في الأعمال وكونهم شهداء على الأمم السالفة بالتبليغ، فلا منافاة حينئذ بين الأقوال، وهذا يدل على نهاية كرامة اللَّه تعالى لهذه الأمة وما خصها به من مزيد الشرف، وَقَدْ دلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِأَحَادِيثَ كَثِيرةٍ منْهَا مَا:

أَخْبَرَنَا قاضي القضاة أبو الفضل سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر المقدسي، وأبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي، وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن ابن معالي الصالحين، وأبو البركات عبد الأحد بن أبي القاسم بن عبد الغني الحراني بقراءتي على كل منهم، قالوا: أنا أبو المنجا عبد اللَّه بن عمر بن علي البغدادي، أنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى الصوفي، أنا أبو عاصم الفضيل بن يحيى الفضيلي، أنا أبو محمد عبد الركن بن أحمد بن أبي شريح، ثنا أحمد بن سعيد، ثنا أحمد بن علي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى يَعْنِي وَلَنَا الْجُمُعَةَ قَبْلَهُمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} ".

وَأَخبَرَنَاهُ أَيضًا شيخنا شيخ الإِسلام إمام الأئمة الأعلام أبو المعالي محمد بن علي

ص: 111

ابن عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأَنْصَارِيّ السماكي نضَّر اللَّه وجهه بقراءتي عليه، قال: أنا العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر الخطيب، أنا محمد بن سعيد بن علي بن الخازن. ح.

وَأَخْبَرَتنَا عاليًا أم محمد وزيرة بنت عمر بن أسعد التنوخي سماعًا عليها، قالت: أنا الحسين بن المبارك بن محمد الربعي سماعًا، قالا: أنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، أنا أبو الحسن مكي بن منصور الكرخي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاسم، أبنا الربيع بن سليمان المرادي، أنا الإِمام أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس الشافعي، أنا ابن عيينة -يعني سفيان- عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ح.

وَأَخْبَرَنَا أبو عبد اللَّه محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء الصالحي بقراءتي قال: نا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن البكري، أنا أبو روح عبد المعز بن محمد الهروي، أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي، أنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي، أنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد، أنا جدي الإِمام أبو بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، ثنا عبد الجبار بن العلاء وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قالا: ثنا سفيان، ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ح.

وسفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة. ح.

قال ابن خزيمة: وثنا يونس بن عبد الأعلى، ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبلِنَا وَأُوتِينَاهُ من بَعْدِهِمْ، ثم هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ".

وفي حديث مالك: "هَذَا يَوْمُهُم الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ".

وَأَخْبَرَنَاهُ أَيضًا محمد بن أبي العز بن مشرف سماعًا وآخرون، قالوا: أنا الحسين ابن المبارك البغدادي، أنا عبد الأول بن عيسى الهروي، أنا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر، أنا عبد اللَّه بن أحمد بن حمويه، أنا محمد بن يوسف، ثنا الإِمام محمد بن إسماعيل، ثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة

ص: 112

-رضي الله عنه بنحوه.

وَأَخْبَرَنَا العلامة أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع الخطيب قراءة عليه وأنا أسمع وابن أخيه شيخنا الرباني العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن شيخ الإِسلام تاج الدين عبد الرحمن -قدس اللَّه روحه- وأبو الحسن علي بن محمد بن ممدود البندنيجي، وأبو عبد اللَّه محمد بن عمر بن خواجا إمام، ومحمد بن أبي بكر بن طرخان، وأحمد بن حمود بن عمر الحراني بقراءتي عليهم.

قال شيخنا الأول: أنا العلامة أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشافعي، وعتيق بن أبي الفضل البيلماني، ومحمد بن علي بن محمود العسقلاني، ومحمد بن أحمد بن علي القرطبي.

وقال ابن ممدود: أنا أحمد بن عمر الباذبيني.

وقال ابن خواجا إمام: أنا إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطي.

وقال الباقون: أنا أحمد بن عبد الدايم المقدسي.

قال عتيق: أنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي.

وقال ابن الصلاح والباذبيني: أنا المؤيد بن محمد الطوسي.

وقال العسقلاني والواسطي: أنا منصور بن عبد المنعم الفراوي.

وقال القرطبي وابن عبد الدايم: أنا محمد بن علي بن صدقة.

قالوا: أنا محمد بن الفضل بن أحمد الفقيه، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا أحمد بن محمد بن عمرويه، أنا إبراهيم بن محمد الزاهد، ثنا الإِمام مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . فذكره.

وَأَخْبَرَنَا محمد بن أحمد بن الزراد، أنا محمد بن أبي بكر بن خلفه أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي، أنا مرشد بن يحيى المديني، أنا علي بن محمد الفارسي، أنا عبد اللَّه بن محمد بن الناصح، ثنا أحمد بن علي المروزي، ثنا هدبة بن خالد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن عبد الرحمن مولى أم برثن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللَّهَ عز وجل كَتَبَ الْجُمُعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَهَدَانَا اللَّهُ لَهَا، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهَا تَبَعٌ فَالْيَوْمَ لَنَا وَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى".

ص: 113

وَأَخْبَرَنَاهُ أعلى من هذه الروايات كلها أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود الدمشقي بها، عن أبي الوفاء محمود بن إبراهيم بن منده الأصبهاني أدنى منها، أنا أبو الخير محمد بن أحمد الباغبان، أنا عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق العبدي، أنا أبي الحافظ أبو عبد اللَّه بن منده، أنا محمد بن عمر بن حفص، ثنا إسحاق بن إبراهيم شاذان، ثنا سعد بن الصلت، عن الأَعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّة بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا الْيَومُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ الْجُمُعَة فَهُوَ لنَا وَلِلْيَهُودِ السَّبت وَلِلنَّصَارَى الأَحَد".

هذا حديث صحيح ثابت متفق عليه من حديث حافظ الصحابة أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه، وقد اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافًا كثيرًا يتحصل منه ثلاثون قولًا لا فائدة في الإطالة بذكرها والمشهور أن اسمه عبد الرحمن بن صخر. وقال هشام بن محمد الكلبي وخليفة بن خياط: اسمه عمير بن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف ابن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس -وهو الذي تنسب إليه القبيلة- بن عدثان بن عبد اللَّه بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

جماع اليمن، أسلم أيام خيبر وكانت في أوائل سنة سبع من الهجرة ولزم من حينئذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رغبة في العلم إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثًا، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثًا، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثًا، ومسلم بمائة وتسعة وثمانين حديثًا.

قال البخاري: روى عن أبي هريرة فوق ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، وأخرج في "صحيحه" عنه أنه قال: ما أحد أكثر

ص: 114

حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب (1).

وفي "الصحيح" أيضًا عنه أنه قال: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وكنت امرءًا مسكينًا ألزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ملء بطني؛ فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه:"إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أحَدٌ ثَوْبَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ".

قال: فبسطت نمرة كانت عليَّ حتى إذا قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري فما نسيت من مقالة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلك من شيء (2).

وفي "صحيح مسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤمِنينَ". قال أبو هريرة رضي الله عنه: فلا يسمع بي مؤمن إلا أحبني (3).

وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ.

توفي في قصره بالعقيق على أميال من المدينة سنة ثمان وخمسين في قول الأكثرين -وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع- وحمل إلى المدينة فدفن بها، وكان سِنُّه يوم مات ثمانيًا وسبعين سنة رضي الله عنه.

اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث من عدة طرق:

فأَمَّا طَرِيقُ طَاوُسٍ: فرواها البخاري عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب (4). وأخرجها مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة (5). وعن محمد ابن حاتم، عن بهز بن أسد، عن وهيب بن خالد، كلاهما عن عبد اللَّه بن طاوس،

(1) رواه البخاري (113).

(2)

رواه البخاري (2047).

(3)

رواه مسلم (2491) ضمن حديث دعاء أبي هريرة أمه للإسلام.

(4)

"صحيح البخاري"(3486).

(5)

"صحيح مسلم"(855).

ص: 115

عن أبيه به (1). ورواها النسائي عن خشيش بن أصرم، عن عبد الرزاق كما رويناه أولا فوقع بدلًا له عاليًا (2).

وَطَرِيقُ الأَعْرَجِ: رواها البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب كما رويناه عنه (3). ومسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة كما رويناه أَيضًا (4).

وَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي صَالِحٍ، عن أبي هريرة فانفرد بها مسلم فرواها عن قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب، كلاهما عن جرير بن عبد الحميد، عن الأَعمش، عن أبي صالح -واسمه ذكوان- عنه (5).

وكذلك انفرد مسلم أَيضًا بطريق همام بن منبه، عن أبي هريرة كما سقناه من حديثه (6).

وأخرجه أَيضًا من حديث أبي حازم سلمان مولى عزة الأشجعية، عن أبي هريرة، ومن حديث ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم (7)، وقد وقع لنا عاليًا من هذا الوجه أَيضًا:

أَخْبَرَنَاهُ أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن حامد الأرموي وأبو عبد اللَّه محمد بن منصور الحلبي وأبو العباس أحمد بن أبي العز إبراهيم بن أبي عمر وأبو محمد حمزة بن عبد اللَّه بن حمزة ومحمد بن إبراهيم بن مرى ومحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الصالحيون وجماعة آخرون.

قال الأولان: أنا أحمد بن علي بن يوسف الدمشقي.

وقال الأول أَيضًا: أنا إسماعيل بن عبد القوي الأنصاري.

(1)"صحيح مسلم"(849).

(2)

"السنن الكبرى"(1653).

(3)

"صحيح البخاري"(876).

(4)

"صحيح مسلم"(855/ 19).

(5)

"صحيح مسلم"(855/ 20).

(6)

"صحيح مسلم"(855/ 21).

(7)

"صحيح مسلم"(856/ 22).

ص: 116

وقال الثاني أَيضًا: أنا عبد اللَّه بن عبد الواحد المصري.

وقال الباقون: أنا محمد بن إسماعيل المقدسي، قالوا: أنا هبة اللَّه بن علي البوصيري، أنا مرشد بن يحيى المديني، أنا محمد بن الحسين النيسابوري، أنا محمد ابن عبد اللَّه بن حيويه، ثنا أحمد بن شعيب النسائي الحافظ، أنا واصل بن عبد الأعلى، ثنا ابن فضيل، عن أبي مالك الأَشجعي. ح.

وَأَخْبَرَنَا القاسم بن مظفر الدمشقي بقراءتي، عن الأنجب بن أبي السعادات وعبد اللطيف بن محمد البغداديين، قالا: أنا طاهر بن محمد المقدسي، أنا محمد بن مكي ابن الهيثم، أنا القاسم بن أبي المنذر الخطيب، أنا علي بن إبراهيم بن سلمة، ثنا محمد ابن ماجه الحافظ، ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا أبو مالك الأَشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

وعن ربعي بن حراش، عن حذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْم الْقِيَامَةِ وَنَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنيَا الأَوَّلُونَ يَوْم الْقِيَامَةِ الْمقْضِي لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائقِ".

هذا لفظ رواية النسائي (1)، ورواية ابن ماجه (2) مختصرة عن هذا بمعناه.

أخرجه مسلم (3) عن واصل بن عبد الأعلى كما رويناه فوافقناه فيه بعلو، وقد رواه عن أبي هريرة أيضًا: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فيما:

أَخْبَرَتْنَا وزيرة بنت عمر التنوخية، أنا الحسين بن المبارك، أنا طاهر بن محمد، أنا مكي بن علان، أنا أحمد بن الحسن، أنا محمد بن يعقوب، أنا الربيع بن سليمان، أنا الإمام محمد بن إدريس، أنا إبراهيم بن محمد، حدثني محمد بن عمرو بن علقمة،

(1)"سنن النسائي"(3/ 85).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1083).

(3)

"صحيح مسلم"(856/ 22).

ص: 117

عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَةِ. . . " فذكره كما تقدم.

فهؤلاء سبعة رووه عن أبي هريرة رضي الله عنه فهو مشهور عنه وهو عزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم بمتابعة حذيفة بن اليمان لأبي هريرة رضي الله عنهم.

وَالْمَبَاحِثُ المُتَعلِّقَةُ بِهَذَا السَّنَدِ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ كَثيرَةٌ لَكِنْ نُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الاخْتِصَارِ:

وهو أنه قد تقرر أن الخبر على قسمين: مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ، وأن المتواتر خبر الجماعة المفيد بنفسه العلم بصدق ذلك الخبر، وشرطه استواء الطرفين والواسطة، والبحث فيه مع من ينكر إفادته العلم مشهور فلا فائدة في ذكره وكذلك الكلام في اشتراط عدد المخبرين، والصحيح أنه لا يشترط فيه عدد.

وأما خبر الواحد فهو ما لم ينته إلى التواتر وهو على ضربين: مستفيض وغيره، والأول هو المسمى عند أهل الحديث بالمشهور: وهو ما زادت نقلته على ثلاثة، وينقسم إلى:

- مشهور بين أهل الحديث وغيرهم كحديث: "الْمُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(1).

- وإلى مشهور بين أهل الحديث خاصة وهو الكثير، وينقسم أَيضًا إلى:

• مشهور صحيح كهذا الحديث عن أبي هريرة.

• وإلى مشهور ضعيف كحديث: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"(2).

وغير المشهور ما نقص عن هذه الدرجة، وكل منها مفيد للظن القاصر عن العلم عند الجمهور من أئمة الأصول والفقه، لكن الظن الحاصل من الخير المشهور أقوى منه من غيره وتظهر فائدة ذلك عند التعارض والترجيح، وذهب جمهور أهل

(1) رواه البخاري (10)، ومسلم (40) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، ورواه مسلم (41) من حديث جابر.

(2)

رواه ابن ماجه (224) من حديث أنس بن مالك.

ص: 118

الحديث إلى أن الخبر المشهور الذي تعددت طرقه وكثرت مخارجه وهي صحيحة كلها تفيد العلم النظري لا الضروري، وهذا اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (1) وأبي بكر بن فورك (2) والإمام أبي منصور التميمي (3)، وفي كلام إمام الحرمين (4) ما يقتضي الميل إليه، وكذلك القاضي الماوردي (5) كما سنحكيه عنه، وعلى هذا ينبغي أن يتنزل قول الإمام أحمد أن خبر الواحد يفيد العلم لا مطلقًا فإنه بعيد أن يقول به، والصحيح أن مثل هذا وإن أفاد العلم فلا يفيده لكل أحد ولا

(1) هو الإمام العلامة الأوحد الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني الأصولي الشافعي الملقب ركن الدين أحد المجتهدين وصاحب المصنفات الباهرة.

حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو الطيب الطبري.

انظر "سير أعلام النبلاء"(17/ 353).

(2)

هو الإمام العلامة الصالح شيخ المتكلمين أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني. حدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر بن خلف، وآخرون.

انظر "سير أعلام النبلاء"(17/ 214).

(3)

هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد الأستاذ أبو منصور التميمي البغدادي.

قال عبد الغافر: ورد نيسابور مع أبيه فاشتغل بها على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره إلى أن برع ودرس في سبعة عشر عامًا وأقعده الأستاذ للإملاء فأملى سنتين واختلف إليه الأئمة.

انظر "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 211 رقم 172).

(4)

هو الإِمام الكبير شيخ الشافعية إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد اللَّه بن يوسف بن عبد اللَّه بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني ثم النيسابوري ضياء الدين الشافعي صاحب التصانيف.

انظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 468).

(5)

هو الإِمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي صاحب التصانيف. حدث عنه: أبو بكر الخطيب، ووثقه.

انظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 64).

ص: 119

يطرد في كل خبر مشهور بل يختص ذلك بالذي صحت طرقه كلها وسلمت عن التعليل ويختص بأئمة الحديث المتبحرين فيه، والكلام في هذا قريب من الكلام في خبر الواحد إذا احتفت به القرائن فقد اختار الغزالي (1) والأمدي (2) وابن الحاجب (3) وغيرهما أنه قد يفيد العلم أَيضًا لكنه لا يطرد في كل خبر احتفت به القرائن كما ذكرناه.

وقد سلك القاضي الماوردي في كتابه "الحاوي" مسلكًا غريبًا وهو أنه جعل المستفيض أقوى من المتواتر وجعل كلًّا منهما يفيد العلم، قال: فالمستفيض أن ينتشر من ابتدائه من البر والفاجر وهلم جرًّا إلى آخره يعني استوى فيه الطرفان والواسطة، والمتواتر: ما ابتدأ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا عددًا ينتفي عن مثلهم الغلط والتواطؤ، فيكون في أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من أخبار التواتر ويكون الفرق بين خبر التواتر والاستفاضة من ثلاثة أوجه:

أَحَدُهَا: ما ذكرنا من اختلافهما في الابتداء واتفاقهما في الانتهاء.

(1) هو الشيخ الإمام البحر حجة الإِسلام أعجوبة الزمان زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي صاحب التصانيف والذكاء المفرط.

تفقه ببلده أولا ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة فلازم إمام الحرمين فبرع في الفقه.

انظر "سير أعلام النبلاء"(19/ 322).

(2)

هو العلامة المصنف فارس الكلام سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي الحنبلي ثم الشافعي.

وحفظ عدة كتب وكرر على المستصفى وتبحر في العلوم وتفرد بعلم المعقولات والمنطق والكلام وقصده الطلاب من البلاد.

انظر "سير أعلام النبلاء"(22/ 364).

(3)

هو المحدث البارع مفيد الطلبة عز الدين عمر بن محمد بن منصور الأميني الدمشقي ابن الحاجب الجندي.

انظر "سير أعلام النبلاء"(22/ 370).

ص: 120

وَالثَّانِي: أن أخبار الاستفاضة لا يراعى فيها عدالة المخبر، وأخبار التواتر يراعى فيها ذلك.

وَالثَّالِثُ: أن أخبار التواتر هي التي انتشرت عن قصد لروايتها، وأخبار الاستفاضة تنتشر من غير قصد لروايتها.

ثم قال: والمستفيض من أخبار السنة مثل أعداد الركعات، والمتواتر مثل نصب الزكوات، هذا خلاصة ما ذكره وحاصله القول بأن الخبر المشهور يفيد العلم، لكنه عكس التسمية فسمى المتواتر بالمستفيض والمستفيض بالمتواتر.

وقوله في الاستفاضة هنا موافق لما اختاره في الشهادات أن الشهادة بالاستفاضة يشترط فيها أن يكون سمع ذلك من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب وهو اختيار ابن الصباغ (1) والغزالي والمتأخرين.

قال الرافعي (2): وهو أشبه بكلام الشافعي رحمه الله.

والذي اختاره الشيخ أبو حامد الإسفراييني (3) والشيخ أبو إسحاق (4) في "التنبيه"

(1) هو مفتي الشافعية أبو طاهر محمد بن عبد الواحد بن محمد البغدادي ابن الصباغ.

سمع: أبا حفص بن شاهين، والمعافى، وعدة. وتفقه بالشيخ أبي حامد، وتفقه عليه ولده أبو نصر صاحب الشامل قال الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة.

انظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 22).

(2)

هو شيخ الشافعية عالم العجم والعرب أبو القاسم عبد الكريم بن العلامة أبي الفضل محمد ابن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين الرافعي القزويني.

من مصنفاته: الشرح الكبير، وشرح مسند الشافعي وهو بتحقيقي.

انظر "سير أعلام النبلاء"(22/ 252).

(3)

هو الأستاذ العلامة شيخ الإِسلام أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الإسفراييني شيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة أربع وأربعين وثلاث مئة، وقدم بغداد وله عشرون سنة فتفقه على أبي الحسن بن المرزبان وأبي القاسم الداركي وبرع في المذهب. وحدث عن: عبد اللَّه بن عدي، وأبي بكر الإسماعيلي، وسمع السنن من الدارقطني.

انظر "سير أعلام النبلاء"(17/ 193).

(4)

هو الشيخ الإمام القدوة المجتهد شيخ الإِسلام أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي الشافعي نزيل بغداد. =

ص: 121

وأبو حاتم القزويني (1) أن الاستفاضة تثبت بسماعه من اثنين، وإليه ميل إمام الحرمين رحمه الله.

فَهَذَا بَعْضُ مَا يتَعلَّقُ بِسَنَدِهِ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الْآخِرُون" يعني في الدنيا "وَنحْنُ السَّابِقُونَ" يعني يوم القيامة في القضاء بينهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة كما صرح به في بعض الروايات المتقدمة.

و"بَيْدَ" قال أبو عبيد: يكون بمعنى "غير"، وبمعنى "على"، وبمعنى "من أَجل". والكل صحيح هنا وموضعها نصب على الاستثناء.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اختَلَفُوا فِيهِ" يعني يوم الجمعة، وَقَدْ اخْتُلِفَ في كَيْفِيَّة هَذَا الاخْتلَاف:

فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إن اللَّه تعالى أمر اليهود بيوم غير معين من أيام الأسبوع يجتمعون

= حدث عنه الخطيب وأبو الوليد الباجي والحميدي وإسماعيل ابن السمرقندي وأبو البدر الكرخي.

قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرس النظامية وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضية، جاءته الدنيا صاغرة فأباها واقتصر على خشونة العيش أيام حياته، صنف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهدًا ورعًا متواضعًا ظريفا كريمًا جوادًا طلق الوجه دائم البشر مليح المحاورة.

انظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 453).

(1)

هو العلامة الأوحد أبو حاتم محمود بن حسن الطبري القزويني الشافعي الفقيه الأصولي الفرضي صاحب التصانيف الغزيرة في الخلاف والأصول والمذهب.

أخذ الأصول عن: أبي بكر بن الباقلاني، والفرائض عن ابن اللبان، والفقه عن الشيخ أبي حامد وجماعة من مشايخ آمل.

انظر "سير أعلام النبلاء"(18/ 128).

ص: 122

فيه ويعظمون اللَّه تعالى، فاجتهدوا واختاروا يوم السبت، وكذلك النصارى فاختاروا يوم الأحد، وكل منهما أخطأ في اجتهاده ما أمره اللَّه به.

وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ وغيره أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل عن اللَّه تعالى بيوم الجمعة على التعيين فناظروه على ذلك، وقالوا: يوم السبت أولى، وعدلوا عن يوم الجمعة إليه ظلمًا وعدوانًا.

وَالأَوَّلُ أَظْهَرٌ؛ لحديث حذيفة المتقدم: "أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبلَنَا. . . " الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ" أي أخطئوا لما اختلفوا في اجتهادهم، ولو كان عينه لهم ثم عدلوا عنه إلى غيره لقال:"خالفوا فيه".

وَكَذَلِكَ اختُلِفَ أَيضًا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ" هل كان فعل الجمعة عن إلهام من اللَّه للصحابة وهداية منهم إليه من غير توقيف، أو عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين:

أَحَدُهُمَا -وإليه مال السهيلي (1): أنه كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وروى فيه حديثًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة ولا يبدي لهم ذلك؛ فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر قبل اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فهذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى اللَّه بركعتين. قال: فهو أول من جمع مصعب بن عمير حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم.

وذكر هذا الحديث بسند فيه انقطاع، وفيه من هو مضعف، ومن يجهل حالة ولا تنتهض به الحجة.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بالمدينة قبل أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد روى عبد بن حميد في "تفسيره" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن

(1) هو عالم الأندلس الحافظ أبو زيد عبد الرحمان بن عبد اللَّه بن أحمد الخثعمي السهيلي المالقي الضرير صاحب "الروض الأنف".

انظر "سير أعلام النبلاء"(21/ 157).

ص: 123

سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموه الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى كذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه نذكر اللَّه ونصلي ونشكر أو كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى؛ فاجعلوه يوم العروبة -وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة- فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة رضي الله عنه فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم وذبح لهم شاة فتغدوا منها وتعشوا لقلتهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم إليه، ثم أنزل اللَّه بعد ذلك:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (1) يعني ففرضها عليهم (2).

وهذا وإن كان حديثًا مرسلًا فهو صحيح الإسناد من أحسن المراسيل، ويقويه ما صح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا سمع النداء للجمعة ترحم على أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه فسأله ابنه عن ذلك فقال: يا بني هو أول من صلى بنا الجمعة (3).

فهذا يدل على خلاف الرواية الأولى، وأن مصعب بن عمير لم يصل بهم أولًا، ويتأيد هذا القول أيضًا بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا" وقال فيه: "فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ".

وَالظَّاهِرُ أن هاتين الركعتين اللتين كان أسعد بن زرارة يصليهما بهم غير صلاة الجمعة؛ لأن فرضهم أولًا كان صلاة الظهر ولم يكن لهم تركها إلى هاتين الركعتين إلا بتوقيف، ثم لما فرض اللَّه عليهم الجمعة استقرت الركعتان عوضًا عن صلاة الظهر.

وإنما عدلت اليهود إلى يوم السبت، والنصارى إلى يوم الأحد؛ لما زعموا جميعًا

(1) الجمعة: الآية 9.

(2)

رواه عبد الرزاق (5144).

(3)

رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وابن خزيمة (1724).

قال الحافظ في "الفتح"(2/ 355): إسناده حسن. وكذا حسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(980).

ص: 124

أن بدء الخلق كان يوم الأحد وآخر الأيام الستة يوم الجمعة؛ فعظمت اليهود السبت لأنهم اعتقدوه اليوم السابع وزادوا كفرًا وعدوانًا بأن سموه يوم الراحة، قالوا: استراح اللَّه فيه من الخلق تعالى اللَّه عما يقولون علوًّا كبيرًا، وعظمت النصارى يوم الأحد لأنه الذي ابتدئ فيه بخلق المخلوقات، وكل ذلك ليس بصحيح بل الصحيح ما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. . . "(1) الحديث، فآخر الأيام الستة إذن يوم الخميس فكان يوم الجمعة هو اليوم السابع، وفيه خلق آدم عليه السلام فأكرم اللَّه بنيه بأن يجتمعوا يوم خلقه ويشكروا اللَّه تعالى ويذكروه لأنه جعل فيه بدء خلقهم وكذلك جعل فيه فناءهم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ"(2) فكان الاجتماع فيه للتذكرة بالمبدأ والمعاد، ولهذا خص البيع فيه بالنهي عند السعي إلى الجمعة تذكرة باليوم الذي لا بيع فيه ولا خلال، ولأجل التذكرة بالمبدأ والمعاد كان النبي صلى الله عليه وسلم واللَّه أعلم- يقرأ سورة الجمعة في صبحه.

وَاسْتَحَبَّ الفقهاء قراءتها لما اشتملت عليه من ذكر خلق آدم من طين، ولما فيها من ذكر يوم القيامة، ثم كان هذا اليوم مناسبًا لسبق هذه الأمة إلى كل خير؛ لأنه سابق ليومي اليهود والنصارى؛ ولأنه وتر الأيام التي قبله على ما تقدم أن أول المخلوقات كان يوم السبت واللَّه تعالى وتر يحب الوتر.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ الأَيَّامِ أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ؟

وهما وجهان لأصحابنا، ورجح المتأخرون منهم تفضيل يوم عرفة؛ لحديث هشام الدستوائي، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ من يَوْمِ عَرَفَةَ. . . " الحديث، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(3) وإسناده على شرط مسلم.

(1) رواه مسلم (2789) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن حبان (3853).

ص: 125

وفي "صحيح مسلم" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن يَوْمٍ أَكْثَر مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. . . "(1) الحديث.

وحجة الوجه الآخر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ" رواه مسلم (2) والترمذي (3)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من وجه آخر على شرط مسلم، ولفظه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ وَلَا تَغْرُبُ عَلَى يَوْمٍ أَفضَل مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ"(4).

وروى البيهقي من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الأَيَّامِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ من يوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الأَضْحَى"(5).

وفي إسناده عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وهو مختلف في الاحتجاج به، والترمذي يحسن حديثه.

وَتَظْهَرُ فائدة الخلاف فيما لو قال لزوجته: أنت طالق في أفضل الأيام، وحكى الشيخ محيي الدين (6) عن الأصحاب أن صورة هذه المسألة إذا لم يكن له نية، فإن أراد أفضل أيام السنة فيتعين يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الجمعة فيتعين يوم الجمعة؛ وفي هذا نظر لأن الظاهر أن من يقول: يوم الجمعة أفضل الأيام فهو أول أفضل أيام السنة عنده فهذا جاء يوم الجمعة طلقت ولا ينتظر يوم عرفة، نعم لو أراد

(1) رواه مسلم (1348).

(2)

رواه مسلم (854).

(3)

"جامع الترمذي"(488).

(4)

"صحيح ابن حبان"(2770).

(5)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(3973).

والحديث رواه أحمد (3/ 430)، وابن ماجه (1084). وحسنه صاحب مصباح الزجاجة، والألباني في "صحيح الجامع"(2279).

(6)

هو الإِمام النووي رحمه الله الإِمام العلم.

ص: 126

أفضل أيام جمعة معينة ولم يكن فيها يوم عرفة فينصرف إلى يوم الجمعة، وإن قلنا: إن يوم عرفة أفضل منه.

وَمِنْ خَصَائِصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ:

ساعة الإجابة فيه التي لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه فيها خيرًا إلا أعطاه إياه كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وقد ذهب شذوذ من الناس إلى أنها رفعت، وهو قول مردود، والذي عليه علماء الأمصار أنها باقية في كل جمعة.

قال عبد اللَّه بن [يحنس](1): قلت لأبي هريرة: زعموا أن الساعة التي في الجمعة رفعت.

قال: كذب من قال ذلك.

قلت: هي في كل جمعة أستقبلها؟

قال: نعم (2).

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تَعْيِينِ وَقْتِهَا عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهَرُهَا قَوْلَانِ:

أَحَدُهَا: أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة، وهذا هو الذي رجحه النووي وغيره من المتأخرين؛ لما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ"(3).

وَقَالَ آخَرُونَ: هي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو قول عبد اللَّه ابن سلام وعبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد وإسحاق، وكان شيخنا إمام الأئمة أبو المعالي (4) رحمه الله يختاره وذكر أنه قول الشافعي رحمه الله، ويرجحه على القول الأول بِأُمُورٍ:

(1) في الأصل: قيس. والمثبت من "المصنف". وعبد اللَّه بن يحنس انظر ترجمته في "الجرح والتعديل"(5/ ترجمة 955).

(2)

رواه عبد الرزاق (5586).

(3)

رواه مسلم (853/ 16).

(4)

هو الإِمام ابن الزملكاني، وقد سبقت ترجمته في المقدمة.

ص: 127

أَحَدُهَا: كَثْرَةُ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فَمِنْهَا:

حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر رضي الله عنه[عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم] (1) قال:"يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشَرَةَ سَاعَةٍ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيئًا إِلَّا أَعْطَاهُ؛ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بعْدَ العَصْرِ" رواه أبو داود (2)، والنسائي (3)، وإسناده على شرط مسلم.

وحديث موسى بن وردان، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" رواه الترمذي وقال: غريب (4).

وحديث عبد السلام بن حفص، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي يُتَحَرَّى فِيهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ من الْجُمُعَةِ".

وحديث سليمان بن بلال، عن أبيه، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "السَّاعَةُ الَّتي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ يَومَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" رواهما ابن عبد البر في "التمهيد"(5) ورجالهما ثقات.

قال الإِمام أحمد بن حنبل: أكثر الحديث في ساعة الجمعة أنها بعد العصر.

وَثَانِيهَا: أنها الساعة التي خلق آدم فيها كما ورد في الحديث؛ فأكرم بنوه بأن جعلت تلك الساعة يستجاب فيها دعاؤهم، وقد أشار إلى هذه العلة كعب وغيره.

وَثَالِثُهَا: أن ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة بين أذانين وبين كل أذانين ساعة إجابة، فلا خصوصية للجمعة في ذلك بخلاف القول بأنها بعد العصر،

(1) ليست في الأصل. وأثبتها من "السنن".

(2)

"سنن أبي داود"(1048).

(3)

"سنن النسائي"(3/ 99).

(4)

"جامع الترمذي"(489).

(5)

"التمهيد"(23/ 43 - 44).

ص: 128

وعلى هذا القول فيحمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: "لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي" على القيام بمعنى المواظبة كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (1) أي: مواظبًا، على أنه قد روى الطبراني هذا الحديث بسند صحيح وزاد فيه:"وَهُوَ يُصَلِّي أوْ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ".

ومن العلماء من جمع بين الأحاديث بأنها تنتقل في ساعات الجمع بحسب الأيام كما قيل بمثله في ليلة القدر، واللَّه أعلم.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ من الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:

وأشكل ما فيها الكلام على قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (2) فإن من قال: فعلت كذا لأعلم كذا أوهم قوله أن العلم بذلك لم يكن حاصلًا وأنه إنما فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم واللَّه سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لقدم علمه وتعلقه بالأشياء كلها قبل حدوثها، ونظير هذه الآية في الإشكال قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} . . . الآية (3)، وقوله تعالى:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (4)، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} (5).

والكلام في كشف هذا الإشكال يستدعي الكلام في أن اللَّه تعالى عالم بالجزئيات وجميع المعلومات، وقد سلك الإِمام فخر الدين (6) في كتابه "الأربعين" للدليل على

(1) آل عمران: الآية 75.

(2)

البقرة: الآية 143.

(3)

محمد: الآية 31.

(4)

آل عمران: الآية 142.

(5)

سبأ: الآية 21.

(6)

هو العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي الأصولي المفسر كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين.

قال الذهبي: وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

انظر "سير أعلام النبلاء"(21/ 500)

ص: 129

ذلك مسلكًا يحتاج إلى فصل نظر، وخلاصة ما ذكره أن اللَّه سبحانه حيٌّ والحيُّ هو الذي يصح أن يعلم كل المعلومات، والموجب لعالميته للبعض ذاته تعالى ونسبة ذاته إلى الكل سواء فلزم عالميته للكل، واعترض القاضي سراج الدين (1) على هذا الدليل بأن لقائل أن يقول: عدم أولوية البعض في نفس الأمر ممنوع وبالنسبة إليها لا يفيد، وقد ذكر الإِمام فخر الدين هذا الدليل في "المحصل" ولم يتعرض فيه لإيجاب الذات العالمية فقال: لنا أن اللَّه تعالى لكونه حيًّا يصح أن يكون عالمًا بكل المعلومات، فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لافتقر إلى المخصص وهو محال.

وقال النصير الطوسي: على هذا الكلام لقائل أن يقول: بالبديهة عرفت أن المخصص هنا محال أم بالدليل؟

فإن قلت بالبديهة فقد كابرت، وإن قلت بالدليل فأين الدليل؟

غاية ما في الباب أن نقول: نحن ما نعرف جواز المخصص أو امتناعه.

وهذا الذي ذكره الإِمام فخر الدين رحمه الله أولًا في "الأربعين" من كون الموجب لعالميته ذاته شعبة فلسفة دخلت عليه ولا يناسب ما قرره في قواعد الصفات من إثبات مذهب أهل السنة الذي هو الحق فيها أن اللَّه تعالى عالم بعلم؛ حتَّى عدَّ بعض من شرح كلامه هذا الدليل مدسوسًا عليه في كتابه أو مما أفسده النقلة من حذف ما يستقيم به الكلام ونحوه.

وأما الذي ذكره في "المحصل" فلم يحل فيه إيجاب العالمية على الذات، ويمكن أن يقرر على وجه يسلم مما ذكره النصير الطوسي، وهو أن يقال: قد ثبت أنه سبحانه وتعالى حيٌّ على ما تقرر ذلك في موضعه، وكل حيٍّ يصح منه أن يعلم كل واحد من المعلومات وما صح للَّه تعالى من الصفات الذاتية وجب له لأنه يستحيل أن يتصف بجائز، إذ لو اتصف بجائز لزم قيام الحوادث بذاته تعالى وذلك محال، وأيضًا لو

(1) هو محمود بن أبي بكر بن أحمد الأرموي القاضي سراج الدين أبو الثناء صاحب "التحصيل" المختصر من "المحصول في أصول الفقه".

انظر "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 202).

ص: 130

كانت صفته ممكنة لصح تعلق القدرة بإيجادها وذلك محال، فبهذا التقدير يتضح معنى قول الإِمام فخر الدين في "المحصل" لو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لافتقرت إلى المخصص ويكون الدليل الذي طالبه الطوسي به هو الدليل على افتقار الممكنات إلى المخصص واستحالة ذلك المخصص الذي يفتقر إليه الممكن في صفات اللَّه تعالى.

فإذا تقرر أنه سبحانه عالم بكل المعلومات تعين حمل قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} (1) على غير ظاهره من تجدد العلم في ذاته تعالى.

وَيَتَحَصَّلُ مِن كَلَامِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ فِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ:

أَحَدُهَا: أن المراد إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما قالوا: فتح عمر السواد؛ وإنما فتحه جيشه.

وَالثَّانِي: أن المراد إلا لنعلمه موجودًا، وهذا على قول من يقول: إن العلم بأن الشيء سيوجد غير العلم بوجوده إذا وجد، وهو قول كثير من أصحابنا المتكلمين والخلاف فيه مشهور.

وَالثَّالِث: أن المراد إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم، فإن ذلك أحد ثمرات العلم.

وَالرَّابعُ: أن المراد بالعلم الرؤية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه.

وَالْخَامِسُ: أن المراد ليعلموا يعني به المخالفين كما يقول الرجل للآخر: النار تحرق الحطب، فيقول الآخر: لا بل الحطب يحرق النار، فيقول الأول: سنجمع بينهما لنعلم أي لتعلم أيها المنكر.

وَالسَّادِسُ: أن المراد أن يعامله معاملة المختبر لهم.

وَالسَّابعُ: أن ذكر العلم هنا صلة في الكلام وتقديره إلا ليتبع الرسول من يتبعه وينقلب على عقبيه من ينقلب، وهو أضعفها.

(1) البقرة: الآية 143.

ص: 131

الْوَجهُ السَّادِسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ من أُصُولِ الْفِقهِ:

فمما يتعلق بها ما احتج به أكثر العلماء منها على وقوع نسخ السنة بالقرآن؛ فإنه ليس في القرآن وجوب التوجه إلى بيت المقدس وهذه الآية ناسخة لذلك الحكم، وقد قال بهذا جمهور الفقهاء وأهل الأصول، ومنعه الإِمام الشافعي رحمه الله في كتاب "الرسالة"(1)، وخرج ابن سريج (2) قولًا للإمام الشافعي بالجواز أخذًا من استدلاله بقوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (3) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاقد قريشًا على أن من جاءه منهم رده إليهم، فلما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط طلب المشركون ردها إليهم؛ فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية ونسخ بها وجوب الوفاء برد النساء المهاجرات دون الرجال (4).

ولقائل أن يمنع صحة هذا التخريج فقد حكى الأصحاب عن الشافعي رحمه الله قولين في أن شرط الرد في عقد الحديبية هل شمل النساء أم لا؟

فعلى القول بأنه لم يشمل النساء ولم يتناولهن لا يكون نسخ شيء؛ وأما على القول الآخر فإنما دخل النساء في عموم لفظ "مَنْ" فلا يكون إخراج النساء نسخًا، بل هو تخصيص لأنه لم يمنع رد الجميع وإنما منع رد النساء فقط وأبقى الرجال على حكمهم في الرد فلا يصير بهذا الاحتجاج للشافعي رحمه الله قول في جواز نسخ السنة بالقرآن، ولا يقال: التخصيص إذًا ورد بعد العمل بالعام في محل التخصيص يكون

(1)"الرسالة"(1/ 106).

(2)

هو الإِمام شيخ الإِسلام فقيه العراقيين أبو العباس أحمد بن عمر ابن سريج البغدادي القاضي الشافعي صاحب المصنفات.

سمع من: الحسن بن محمد الزعفراني تلميذ الشافعي، وعلي بن إشكاب، وأحمد بن منصور الرَّماديّ. وتفقه بأبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي الشافعي صاحب المزني وبه انتشر مذهب الشافعي ببغداد وتخرج به الأصحاب.

انظر "سير أعلام النبلاء"(14/ 201).

(3)

الممتحنة: الآية 10.

(4)

رواه البخاري (2713).

ص: 132

نسخًا؛ لأنا نقول: لم يعمل بالعام في رد النساء أصلًا بل أول من هاجر منهن بعد عقد الحديبية أم كلثوم المذكورة ومنع اللَّه من ردها بالآية المذكورة.

وَاحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِوُقُوعِهِ في عدَّةِ صُوَرٍ:

إِحْدَاهَا: قصة رد النساء المهاجرات وقد ذكرنا ما يتعلق بها آنفًا.

وَثَانِيهَا: أن صوم عاشوراء كان واجبًا بالسنة ثم نسخ بإيجاب صوم رمضان في القرآن، ولقائل أن يقول: ليس في إيجاب صيام رمضان ما يقتضي نسخ صيام عاشوراء؛ إذ شرط النسخ التضاد وهو منتف هنا؛ وإنما نسخ صوم عاشوراء قوله صلى الله عليه وسلم لما فرض رمضان: "مَنْ شَاءَ صَامَهُ" يعني: عاشوراء "وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ"(1) فهو من نسخ السنة بالسنة.

وَثَالِثُهَا: أن تأخير الصلاة حالة القتال كان جائزًا كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، ثم نسخ ذلك بصلاة الخوف، ولقائل أن يمنع أن ذلك كان حكمًا شرعيًا، بل الظاهر من الروايات أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق كان لشغله عنها، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع وكانت في المحرم سنة خمس، ثم كانت غزوة الخندق بعد ذلك في أثناء السنة فلم تنسخ صلاة الخوف شيئًا.

وَرَابِعُهَا: أن المباشرة في ليل الصيام كان تحريمها ثابتًا بالسنة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (2).

وَخَامِسُهَا: ما دلت هذه الآية من نسخ التوجه الثابت إلى بيت المقدس وكان ثابتًا بالسنة ثم نسخ بالقرآن.

قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: لا توجد سنة إلا ولها في كتاب اللَّه أصل.

وتكون السنة فيه بيانًا لمجمله فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخًا لما في الكتاب من أصلها فصار ذلك نسخا للكتاب بالكتاب، وأيضًا فإنه يجوز أن يحصل ذلك النسخ بالسنة ثم ينزل القرآن على وفقها، فَإِنْ قِيلَ: هذا يؤدي إلى عدم تعيين

(1) رواه البخاري (2002)، ومسلم (1125) من حديث أم المُؤْمنين عائشة رضي الله عنها.

(2)

البقرة: الآية 187.

ص: 133

ناسخ أبدًا، قُلْنَا: وإن كان خلاف الظاهر فتجويزه غير ممتنع وهو كاف في المنع من الاستدلال على ما ذهبوا إليه.

وقد احتج من نصر قول الشافعي المنصوص بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) والنسخ رفع لا بيان، وبأنه لو نسخ السنة بالقرآن لزم من ذلك تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعته لإيهام الجاهل أن اللَّه تعالى لم يرض ما سنه رسوله.

وَأُجِيبُ عَنِ الأَوَّلِ: بأن المراد بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ} لتبلغ، فلا يدل على امتناع كون القرآن ناسخًا للسنة، ولئن سلم أن المراد به بيان المجمل ونحوه فلا يسلم انحصار سنته في البيان خاصة بل جاز مع كونه مبينًا أن ينطق بغير البيان.

وَعَنِ الثَّانِي: أنه لو امتنع نسخ السنة بالقرآن للنفرة عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لامتنع ذلك في نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وهو خلاف الإجماع، بل إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن اللَّه فلا نفرة حينئذ، واللَّه أعلم.

الْوَجْهُ السَّابعُ فِيمَا يتَعلَّقُ بِهَا من عِلمِ الْفِقهِ:

لما تقرر أن الوسط: العدل كما تقدم في الحديث الصحيح، وقد علل اللَّه تعالى إكرامه هذه الأمة بالعدالة ليكونوا شهداء على الناس؛ لزم من ذلك أن الشاهد لا بد وأن يكون عدلًا لتفيد شهادته، وقد دل القرآن العظيم أَيضًا في مواضع غير هذه الآية:

فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2).

وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) ومن ليس بعدل فليس بمرضي.

فلتتكلم على حد العدالة وما اشترط فيها، وحاصل ما قيل فيها يرجع إلى استقامة الدين والسيرة، فلهذا كان أحسن حدودها أنها محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة حتى تحصل ثقة النفوس بقوله، ثم إن

(1) النحل: الآية 44.

(2)

الطلاق: الآية 2.

(3)

البقرة: الآية 282.

ص: 134

المراد بذلك الأغلب من أحواله.

قال الشافعي رحمه الله: ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلًا يمحض (1) الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية [ويترك](2) المروءة حتى لا يخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة؛ قبلت شهادته، وإن كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة؛ ردت شهادته (3).

وإنما قال الإِمام الشافعي رحمه الله ذلك؛ لإن الإنسان لا يمكنه أن ينجو من خطيئة وزلل وإن قل، ويدل على اعتبار الأغلب قوله تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) الآية والتي بعدها، فاعتبر الخفة والثقل مع وجود خلافهما.

فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَيُخَرَّجُ بِالْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: الْكُفْرُ.

فلا تقبل شهادة الكافر على مسلم ولا على كافر.

وقال أبو حنيفة: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم.

وعن أحمد بن حنبل رواية أن شهادة الكافر تقبل على المسلم في السفر في الوصية إذا لم يكن هناك غيره.

لنا قوله تعالى: "إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا"(5) فأمر بالتثبت عند إخبار الفاسق، والكفر أعلى درجات الفسق، فإما أن تكون الآية عامة بلفظها في كل فاسق فهو

(1) الشيء المحض: الخالص، ومنه في الحديث "ذلك محض الإيمان" أي خالصه وصريحه.

(2)

في "الأصل": وترك. والمثبت من"الأم".

(3)

"الأم"(7/ 53).

(4)

الأعراف: الآية 8، المؤمنون: الآية: 102.

(5)

الحجرات: الآية 6.

قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم "فتبينوا" بالياء والنون، وقرأ حمزة والكسائى "فتثبتوا" بالثاء والتاء.

"السبعة في القراءات"(1/ 236).

ص: 135

مندرج تحتها، أو لا تكون عامة اللفظ فهي عامة بالنظر إلى المعنى الذي رتب عليه التثبت وهو الفسق لأنه جعله علة للرد وهو متحقق فيما نحن فيه.

وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1)، وقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2)، والكافر غير عدل اتفاقًا وليس بمرضي.

قال الإِمام الشافعي رحمه الله: كيف تجوز أن ترد شهادة مسلم بأن تعرفه يكذب على بعض الآدميين، وتجيز شهادة ذمي وهو يكذب على اللَّه تعالى (3)؟!

ولنا أيضًا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ. . . " الحديث، أخرجه البخاري (4) وهو وإن كان ورد على سبب خاص في إخبارهم عن التوراة فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وروى البيهقي عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مِلَةٍ عَلَى مِلَّةِ إِلَّا شَهَادَةُ المُسْلِمِينَ فَإِنَّهَا تَجُوزُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ"(5).

فإن اعترض على هذا الحديث بأن في إسناده عمر بن راشد اليمامي وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره؛ قُلْنَا: قد قال فيه أحمد العجلي: لا بأس به.

فَإن قِيلَ: فمفهومه أنه تقبل شهادته على أهل دينه؛ قُلْنَا: هم لا يقولون بالمفهوم ونحن لا نقول به هنا أَيضًا لقيام الدليل الدال على رد شهادتهم مطلقًا فسقط القول به هنا بالإجماع.

ولنا أَيضًا أن كل من لم تقبل شهادته على المسلمين لم تقبل شهادته على غيرهم

(1) الطلاق: الآية 2.

(2)

البقرة: الآية 282.

(3)

"الأم"(6/ 142).

(4)

"صحيح البخاري"(4485) من حديث أبي هريرة.

(5)

"السنن الكبير"(10/ 163).

وقد ضعف عمر بن راشد أبو حاتم في "العلل"(1420)، وابن عدي في "الكامل"(1189) وذكر تضعيف أحمد وابن معين والبخاري والنسائي. وكذا الحافظ في "التقريب"(4894).

ص: 136

كفساق المسلمين طردًا، وعكسه عدول المسلمين لما قبلت شهادتهم على المسلمين قبلت على غيرهم، ولأنها شهادة من كافر فوجب ردها كما لو شهد على مسلم.

فَإِنْ قَالُوا: إنما لم تقبل شهادته على المسلمين لما بينهما من العداوة الظاهرة فإن التهمة قائمة بخلاف ما إذا شهد بعضهم على بعض.

قُلْنَا: فيجب ألا تقبل شهادة اليهودي على النصراني وعكسه كما هو مذهب الزهري والشعبي؛ لما بينهما من العداوة الظاهرة.

احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى:

أما النقل: فذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بالزانيين من اليهود قال: "إِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْكُمْ رَجَمْتُهُمَا".

وروى الشعبي، عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض (1).

قُلْنَا: أَمَّا الأَوَّلُ فلا توجد هذه الزيادة في قصة الزانيين بسند أصلًا، ولا يثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بسند صحيح، والمعروف في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين باعترافهما.

وَأمَّا الثَّانِي فقد تفرد بروايته عن الشعبي مجالد بن سعيد، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: ليس بشيء، وقال يحيى بن معين: لا محتج به، وقد خالفه فيه جماعة من الثقات فرووه عن الشعبي عن شريح من قوله.

وَأَمَّا الْمَعْنَى فاعتمدوا القياس على ولايتهم في المال والنكاح.

قُلْنَا: الفرق بين ذلك وبين الشهادة أن ولاية النكاح والمال تتعين عليه ولا يقوم غيره مقامه فيها لكمال شفقته على موليه واجتهاده في النظر لهم بخلاف الشهادة فإنها لم تتعين عليه، كما أن على أصل أبي حنيفة يجوز أن يكون الفاسق وليًّا في نكاح ابنته لتعين ذلك في حقه ولا تقبل شهادة الفاسق ولا يجوز أَيضًا أن يكون الحاكم وليًّا مع

(1) رواه ابن ماجه (2374)، والبيهقي (10/ 165).

وضعفه البيهقي، وكذا ضعفه الحافظ في "التلخيص الحبير"(2108).

ص: 137

فسقه لعدم تعين ذلك عليه إذ غيره يقوم مقامه.

واحتج من نصر قول الإمام أحمد في جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . . . (1) الآية، وما روي في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة تميم الداري وعدي بن بداء على ذلك وهما نصرانيان (2).

قُلْنَا: اختلف في تفسير الآية: فروي عن الحسن أنه قال: {مِنْ غَيْرِكُمْ} (3) قال: يعني من غير قبيلتكم من المسلمين، وكذلك قاله عكرمة وغيره، ورجح الإِمام الشافعي رحمه الله هذا التأويل بقوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (4) والصلاة الموقتة للمسلمين، ولئن سلم أن المراد بقوله تعالى:{مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير دينكم؛ فقد روى البيهقي (5) عن ابن عباس رضي الله عنه أنها منسوخة.

قال الشافعي رحمه الله: وناسخها قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (6).

وأما قصة تميم الداري وعدي بن بداء فلم يكونا شاهدين بل كانا وصيين بمعنى أنهما حملة تركة السهمي الذي مات معهما إلى أهله ولذلك أحلفهما النبي صلى الله عليه وسلم أنهما ما خانا ولا كتما فلم تكن ثم شهادة.

الثَّانِي: الصَّبِيّ:

فلا تقبل شهادة الصبي لأنه غير مكلف.

وقال مالك رحمه الله: تقبل شهادة الصبيان على الجراحات الواقعة بينهم في الملعب ما لم يتفرقوا.

وهو رواية عن الإِمام أحمد رحمه الله، وعنه رواية أخرى أنه تقبل شهادتهم مطلقًا

(1) المائدة: الآية 106.

(2)

رواه البخاري (2780).

(3)

المائدة: الآية 106.

(4)

المائدة: الآية 106.

(5)

"السنن الكبير"(10/ 164).

(6)

الطلاق: الآية 2.

ص: 138

بشرط التمييز.

لنا قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَ. . . " وذكر منهم: "الصَّبِيُّ حَتَّى يَحْتَلِمَ"(2) وبأنه لا يقبل إقراره وهو أوسع حالًا من الشهادة بدليل قبوله من الفاسق والكافر والذين لا تقبل شهادتهم؛ فلئن لا تقبل من الصبي بطريق الأولى.

احتجوا بما روي عن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح.

قُلْنَا: هو قول صحابي، ولئن سلمنا أنه حجة فذاك إذا لم يعارضه قول صحابي آخر، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يجيز شهادة الصبيان ويقول: قال اللَّه تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) وهذا ليس بمرضي (4).

الثَّالِثُ: مُرتَكِبُ المَعَاصِي

فلا تقبل شهادة صاحب الكبيرة لفسقه، ولا المصرّ على الصغيرة لما يشعر بتهاونه في الدين بأموره فيكون كمرتكب الكبيرة.

وهل الإصرار على الصغيرة أن يصرّ على نوع واحد من الصغائر فيداوم عليها، أو يصرّ على أنواع مختلفة من الصغائر؟

فيه اختلاف كلام للأصحاب، وكلام الشافعي الذي قدمناه يوافق الثاني.

ومدار هذا كله على أن ملازمة العدالة تزع (5) عن الكذب في الشهادة كما يزع الطبع عن الكذب في الإقرار، ولهذا قبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر؛

(1) البقرة: الآية 282.

(2)

رواه أبو داود (4398) والنسائي (6/ 156)، وابن ماجه (2041)، وابن الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2/ 67) جميعًا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما.

(3)

البقرة: الآية 282.

(4)

رواه ابن أبي شيبة (4/ 359).

(5)

الوزع: كف النفس عن هواها. وزعه يزع وزعا: كله، فاتزع هو أي كف. اللسان (وزع).

ص: 139

لأن طباعهم تزعهم عن. . . (1) الإقرار المضرّ بهم في حقوقهم كالدماء والأبضاع والأموال، ولم تقبل الشهادة إلا من عدل؛ لأن الفاسق لا يزعه طبعه عن الكذب على الغير كما يزعه عن الكذب على نفسه، وكذلك يقبل إقرار العبد بما يوجب الحد والقصاص؛ لأن طبعه يزعه عن الكذب بما يوجب قتله أو قطعه أو جلده، وإن كان ذلك يضر بالسيد بخلاف إقراره بالمال فإنه مضرة للسيد خاصة.

فإذا عرف ذلك فلا بد من تحقق عدالة الشاهد حتى يقبل قوله ويترتب عليه مقتضاه، وقد استثني من ذلك:

مَسْأَلَةُ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ مَسْتَورَينِ وهما اللذان يجهل حالهما في الفسق والعدالة مع سلامة الظاهر، والصحيح من المذهب انعقاد النكاح بهما؛ لأن النكاح يغلب وقوعه في البوادي والقرى حيث يتعذر الوصول إلى العدل في الباطن والظاهر، فلو اشترط معرفة العدالة الباطنة لطال الأمر وشق على المتعاقدين بخلاف الحكم حيث لا يجوز بشهادة المستورين لأنه يسهل على الحاكم مراجعة المزكين ومعرفة عدالة الشاهدين باطنًا وظاهرًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: ينعقد النكاح بالمستورين وإذا شهدا به عند الحاكم لم يجز له الحكم به حتى تتحقق عدالتهما، وعن الإصطخري (2) وجه أنه لا ينعقد بشهادة المستورين وهو جار على القواعد ومقتضى الدليل، واللَّه يقول الحق وهو يهدي السبيل.

(1) كلمة غير واضحة في حاشية الأصل.

(2)

هو الإمام القدوة العلامة شيخ الإِسلام أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الإصطخري الشافعي فقيه العراق ورفيق ابن سريج.

سمع: سعدان بن نمر، وحفص بن عمرو الربالي، وأحمد بن منصور الرمادي، وعباسا الدوري، وحنبل بن إسحاق وعدة. وعنه: محمد بن المظفر، والدارقطني، وابن شاهين، وأبو الحسن ابن الجندي، وآخرون، وتفقه به أئمة. قال أبو إسحاق المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها من يستحق أن يدرس عليه إلَّا ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري. انظر "سير أعلام النبلاء"(15/ 250).

ص: 140

آخِرُ الدَّرْسِ الْمُبَارَكِ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ رَحِمَ اللَّهُ وَاقِفَهَا، وكان إلقاؤه بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين.

* * *

ص: 141