الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوفيق وإياه نسأل الهداية إلى أقصد الطريق، إنه بالإجابة جدير وهو على ما يشاء قدير.
وَالكَلَامُ فِيمَا قَصَدنَا لَهُ يَنحَصِرُ في ثَلَاثِ مَسَائِل:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ حَتَّى يَنْطَلِقَ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ اسْمُ الصَّحَابِيّ
.
وَفِي ذَلِكَ مَذَاهِبٌ مُتبايِنةٌ:
الأَوَّلُ- وهو الذي عليه جمهور أهل الحديث: أن كل مسلم رآه النبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة وعقل منه شيئًا فهو صحابي سواءً كان ذلك قليلًا أو كثيرًا.
وهذا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن أحمد بن حنبل رحمه الله، ورواه عبدوس ابن مالك قال: سمعت أبا عبد اللَّه يعني أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كل من صحبه سنة أو شهرًا أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه (1).
وقال البخاري في "صحيحه": من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه (2).
وأخرج أبو داود في "سننه" حديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. . . " الحديث، ثم قال أبو داود عقيبه: طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا (3).
فدل إخراجه الحديث في "سننه" على أنه مسند، ولولا أن طارقًا يعد من الصحابة لمجرد الرؤية وإلا كان تابعيًا فيكون الحديث مرسلًا.
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: المعروف في طريقة أهل الحديث أن
(1) انظر "الكفاية في علم الرواية"(ص 51)، و"فتح المغيث"(3/ 93).
(2)
"صحيح البخاري"(باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحديث (3649).
(3)
"سنن أبي داود"(1067).
كل مسلم رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة.
قال: وبلغنا عن أبي المظفر بن السمعاني المروزي أنه قال: أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثًا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة؛ وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعطوا كل من رآه حكم الصحبة (1).
والقول الثاني- وهو أضيق من القول الأول قليلًا: أنه لا يكتفى بمجرد الرؤية لكن لابد مما ينطلق عليه اسم الصحبة ولو ساعة لطيفة، حكاه بعض أئمة الحديث المتأخرين عن الواقدي أنه قال: ورأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة من النهار، وهكذا قال الآمدي في "الإحكام" ناقلًا له عن أكثر أصحابنا أن الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو ساعة وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته (2).
وعبارة الشيخ صفي الدين الأرموي في "نهاية الوصول" نحو هذا وهي أعم من قول الواقدي المتقدم آنفًا من جهة أن ذاك اشترط فيه البلوغ ولم يقيد الآمدي والأرموي كلامهما بذلك بل يدخل فيه أيضًا الصبي المميز كمحمود بن الربيع الذي عقل عن النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهه وهو ابن خمس سنين (3)، وعده البخاري وغيره من الصحابة لذلك فيمكن لذلك أن يجعل الكلامان قولين متباينين.
فأما ابن الحاجب فإنه اختار في مختصريه القول الذي نقلناه أولًا عن أحمد بن حنبل والجمهور من الاكتفاء بمجرد الرؤية.
والقول الثالث: إن الصحابي إنما ينطلق على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه، حكاه هكذا الآمدي
(1)"مقدمة ابن الصلاح"(ص 171).
(2)
"الإحكام"(2/ 103 - 104).
(3)
رواه البخاري (77).
والأرموي عن جماعة ولم يسموهم (1)، ونقله ابن الصلاح عن أبي المظفر بن السمعاني أنه ذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغة والظاهر إنما يقع على من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التتبع له والأخذ عنه.
قال: وهذا طريق الأصوليين (2).
والقول الرابع: إن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه العلم، حكاه الآمدي هكذا عن عمر بن يحيى (3).
وعبر غيره عن هذا القول بأن يجمع بين الصحبة الطويلة والرواية عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا أقرب لأنه من المعلوم أن من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم فلابد وأن يتحمل عنه شيئًا ما ولو من أفعاله التي شاهدها، لكن يرد على هذا القائل (هذا القول)(4) أنه لا يعرف خلاف بين العلماء في أن من طالت صحبته ولم يحدث عنه صلى الله عليه وسلم بشيء أنه معدود من الصحابة، لكن وقوع مثل ذلك نادر جدًّا؛ إذ لا يلزم من عدم وصول رواية عن ذلك الصاحب إلينا أن لا يكون روى شيئًا عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه أو شاهده.
والقول الخامس- وهو أضيق المذاهب: ما حكاه ابن الصلاح وغيره عن سعيد ابن المسيب أنه قال: لا يعد الصحابي إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين.
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: وكان المراد بهذا إن صح عنه راجع إلى المحكي عن الأصوليين، ولكن في عبارته ضيق يوجب أن لا يعد في الصحابة جرير ابن عبد اللَّه رضي الله عنه ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافًا في عده من الصحابة (5).
(1)"الإحكام"(2/ 104).
(2)
"مقدمة ابن الصلاح"(ص 171).
(3)
"الإحكام"(2/ 104).
(4)
من "د".
(5)
"مقدمة ابن الصلاح"(ص 171).
قلت: مثل وائل بن حجر، ومعاوية بن الحكم السلمي، وخلق كثير ممن أسلم سنة تسع وبعدها وقدم عليه صلى الله عليه وسلم فأقام عند ثم أياما ثم رجع إلى قومه وروى عنه أحاديث، اللهم إلا أن يئول كلام سعيد بن المسيب على من يعطى كمال الصحبة المقتضي للعدالة على ما اختاره الإمام المازري كما سيأتي إن شاء اللَّه من قوله أن العدالة المطلقة إنما تحكم لأمثال هؤلاء وهو قول مرجوح أيضًا كما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى.
والقول السادس وهو أوسع المذاهب: ما حكاه القاضي عياض قال: ذهب أبو عمر ابن عبد البر في آخرين إلى أن اسم الصحبة (وفضلها)(1) حاصلة لكل من رآه وأسلم في حياته أو ولد وإن لم يره وإذا كان ذلك قبل وفاته بساعة ولكن كان معهم في زمن واحد وجمعه وإياه عصر مخصوص.
قلت: إن كان هذا أخذه القاضي عياض من تصريح ابن عبد البر وغيره بذلك ففيه من الإشكال ما سيأتي، وإن كان مأخوذًا من إدخالهم أمثال هؤلاء في (كتب)(2) الصحابة التي صنفوها، فقد صرح ابن عبد البر بأنه إنما أدخل مثل الأحنف بن قيس والصنابحي وأولاد الصحابة الذين ولدوا في حياته صلى الله عليه وسلم ولا يثبت لأحد منهم رؤية لموته صلى الله عليه وسلم وهم صغار جدَّا؛ (ليكمل)(3) بذكرهم القرن الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خير القرون يعني لا لأنهم من الصحابة؛ فقد حكم على روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإرسال في غير موضع من كتبه فعرف مقصده بذكرهم في كتاب الصحابة.
هذا حاصل المذاهب التي وقفت عليها في هذه المسألة، ويتعلق بها مباحثات:
الأولى: أن الصحبة لها اعتباران:
أحدهما: من حيث الوضع.
والآخر: من حيث العرف.
(1) في "س": وفضيلتها.
(2)
في "د": أعداد.
(3)
في "س": ليستكمل.
فهي من حيث الوضع اللغوي تنطلق على القليل والكثير سواء كان في مجالسة أو مماشاة ولو ساعة يسيرة.
وقد روى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه خرج مع عبد اللَّه ابن مسعود رديفًا له فصحبه دهقان في الطريق من القنطرة فانشعبت له طريق فأخذ فيها، قال: فقال عبد اللَّه: أين أخذ الرجل؟
فقلت: انشعبت له طريق، فلما رآه قال: السلام عليكم.
فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدأ بالسلام؟
قال: بلى، ولكن هذا حق الصحبة (1).
فأطلق ابن مسعود رضي الله عنه اسم الصحبة على السير معه شيئًا يسيرًا.
وأما من حيث العرف فإنه لا ينطلق إلا على الصحبة الطويلة أو الكثيرة، صرح بذلك ابن سيده والراغب (2) وغيرهما، لكن لا حد لتلك الكثرة كما أنه لم يحد الاعتبار اللغوي من حيث القلة إلا بما ينطلق عليه الاسم.
وقد استدل ابن الحاجب لقول الجمهور الذي اعتبره أن اسم الصحابي يقع على من له مجرد الرؤية فأكثر من ذلك بأن اسم الصحبة يعم القليل والكثير بدليل أنه يصح تقسيمها إلى ذلك ويقبل التقييد بكل منهما فيكون للقدر المشترك بينهما؛ لأن مورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا، ولذلك لو حلف حالف أنه لا يصحب فلانًا حنث بصحبته لحظة، واستدل غيره أيضًا بصحة الاستفهام فإن القائل إذا قال: صحبت فلانًا؛ حسن أن يقال: صحبته يومًا أو شهرًا أو ساعة يسيرة ونحو ذلك، فلولا أنه موضوع للكل لما حسن الاستفهام منه.
واعترض عليه بشيئين:
أحدهما: أنه -أعني ابن الحاجب- صدر المسألة بما اختاره من قول الجمهور
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8910) من طريق منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، بنحوه.
(2)
"المفردات"(ص 275).
بأن اسم الصحبة يقع على من له مجرد الرؤية كما تقدم، وهذا الدليل لا يطابق المدعى؛ لأن من رأى شخصًا من بعيد ولم يكلمه ولا صحبه لحظة لا يقال له أنه صحبه لا من حيث الوضع ولا من حيث العرف قطعًا، فلا يستقيم الدليل إلا لمن قال بالقول الثاني أنه لا يكتفى بمجرد اللقاء بل لابد مما ينطلق عليه اسم الصحبة من ملابسة ما إما بكلام أو مماشاة ونحو ذلك دون من رآه من بعيد وقتًا ما كأبي الطفل وأمثاله.
الثاني: إن هذا التقسيم والاستفهام إنما يجيئان في مطلق اسم الصحبة التي هي المصدر وكذلك الفعل، فأما اسم الفاعل الذي هو الصاحب فلا ينطلق إلا على الملازم الذي كثرت منه الصحبة كما يقال: المزني والربيع صاحبا الشافعي، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، ونحو ذلك، صرح بذلك الراغب وغيره (1).
فلا يلزم من كون الصحبة للقدر المشترك بين القليل والكثير أن يكون الصاحب كذلك، ولا يحسن الاستفهام عند إطلاق لفظ الصاحب كما يحسن عند إطلاق الفعل أو المصدر، وكذلك الحنث في اليمين أيضًا؛ فإنه إذا حلف أن لا يكون صاحبًا لفلان لم يحنث بصحبته ساعة لطيفة، وهذا هو المأخذ الذي اعتبره المازري في تحصيص الحكم بالعدالة لمن اشتهر من الصحابة دون من قلت صحبته أو كان له مجرد الرؤية، فلا يبقى في إدراج من كان له مجرد الرؤية في عداد الصحابة إلا لشرف المنزلة أعطي من رآه حكم الصحبة.
وقد روى شعبة، عن موسى السبلاني وأثنى عليه خيرًا، قال: أتيت أنس بن مالك رضي الله عنه فقلت: هل بقي من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحد غيرك؟
قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه، فأما من صحبه فلا.
قال ابن الصلاح: إسناده جيد، حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة (2).
قلت: وهو يقتضي التفرقة بين الرائي ومن يطلق عليه اسم الصاحب.
(1) انظر "الإحكام"(2/ 105).
(2)
"مقدمة ابن الصلاح"(ص 171).
والحاصل أن تسمية الجميع باسم الصحابي له اعتبارات:
إحداها: من يصدق عليه الاستعمال العرفي قطعًا، وهؤلاء هم جمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم ومن هاجر إليه من القبائل وغزا معه، ولا ريب في أمثال هؤلاء.
والثاني: من يقرب من هؤلاء كالذين هاجروا إليه وأقاموا عنده أيامًا قلائل ورجعوا إلى أماكنهم كوفد عبد القيس ووفد ثقيف وأمثالهم وكمثل وائل بن حجر ومعاوية بن الحكم السلمي وجرير بن عبد اللَّه البجلي ومن لم يصحبه إلا مدة يسيرة الأيام والليالي ولكن حفظ عنه وتعلم منه وروى عنه عدة أحاديث، فهؤلاء أيضًا وأمثالهم ينطلق عليهم اسم (الصحبة)(1) حقيقة عرفية وإن كانت مدة صحبتهم ليست طويلة لتحقق الاسم فيهم وصدق الاتصاف بالصحبة لهم.
والثالث: من لقيه صلى الله عليه وسلم بمجالسة يسيرة أو مبايعة أو مماشاة، وكان مسلمًا إما بالغًا أو مميزًا، وعقل من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما بأن أجلسه في حجره أو مج في وجهه ماء أو غير ذلك؛ فلا ريب في أن الإطلاق العرفي منتف عن مثل هؤلاء؛ وأما الإطلاق اللغوي فهو قريب وقد ينازع فيه لأنه يصح نفي الصحبة عن أمثال هؤلاء فيقال: ما صحبه ولكن بايعه أو كلمه يسيرًا أو جلس في حجره صغيرًا ونحو ذلك، وصحة النفي من علامات المجاز فلا يكون إطلاق اسم الصحبة عليهم بطريق الحقيقة لكن الاتفاق واقع من أئمة الحديث في كل عصر على تسمية هؤلاء من جملة الصحابة وإخراج ما حكوه من تلك الوقائع في مسانيد الصحابة والاحتجاج بما فيها من الأحكام إذا صح السند إليهم من غير توقف في ذلك، فاسم الصحبة في أمثال هؤلاء قريب من الحقيقة اللغوية قربًا قويًّا وإن كان الاستعمال العرفي معدومًا في حقهم ومن هؤلاء طارق بن عبد اللَّه المحاربي حيث أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال:"هل معكم من شيءٍ تبيعونه؟ "
قلنا: نعم، هذا البعير.
(1) في "س": الصاحب.
قال: "بكم؟ "
قلنا: بكذا وكذا وسقًا من تمر.
قال: فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة، فقلنا: بعنا من رجل لا ندري من هو ومعنا ظعينة فقالت: أنا ضامنة لكم ثمن البعير؛ رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس (1) بكم، فأصبحنا فجاء رجل فقال: أنا رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا.
قال: ففعلنا (2).
رواه عنه جامع بن شداد وربعي بن حراش، وعداد طارق هذا في أهل الكوفة.
والرابع: من لم يجتمع به صلى الله عليه وسلم أصلًا وإنما رآه من بعيد وحكى شيئًا من أفعاله، أو لم يحك شيئًا مثل أبي الطفيل عامر بن واثلة وغيره ممن ليس له إلا مجرد الرؤية إما في حجة الوداع أو غزوة الفتح أو غزوة حنين وغير ذلك، أو كان مع أبيه فأراه النبي صلى الله عليه وسلم من بعد؛ فلا ريب في أن الإطلاق اللغوي منتف عن هؤلاء قطعًا فضلًا عن الاستعمال العرفي؛ وإنما أعطي هؤلاء حكم الصحبة لشرف ما حصل لهم من الرؤية له صلى الله عليه وسلم ولدخولهم في القرن الذي أثبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون من أمته فكان ذلك على وجه التوسع المجازي لا بالحقيقة، واللَّه أعلم.
الثانية: أما ما بعد هذه المراتب من إلحاق من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره أصلًا بالصحابة إذا كان قد أسلم في زمنه كالأحنف بن قيس وأبي عبد اللَّه الصنابحي وأشباههما فلا ريب في أنه بعيد جدًّا؛ لأن الصحبة منتفية عن هؤلاء قطعًا بالاعتبار اللغوي والمعنى الاصطلاحي ولا رؤية حصل لهم بها شرف المنزلة فلا وجه لعدهم في جملة الصحابة إلا على ما تقدم ذكره من استيفاء ذكر أهل القرن الأول الذي عاصره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من ولد في حياته صلى الله عليه وسلم من أبناء الصحابة، ومات النبي صلى الله عليه وسلم
(1) أي: لا يغدر بكم.
(2)
رواه الحاكم (2/ 668)، والدارقطني (3/ 44)، والبيهقي (6/ 20)، وابن المبارك في "الزهد"(1164).
وهو ابن سنة ونحو ذلك، فلا يطلق على أحد من هؤلاء اسم الصحبة لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، لكن هؤلاء المعاصرون على قسمين:
أحدهما: من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مكاتبة أصلًا ولا قرأ كتابه كأبي رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان، وأمثاله ممن لا عداد له إلا في التابعين.
الثاني: من كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أو راسله كالنجاشي واسمه أصحمة بن بحر، أو قرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كعبد اللَّه بن عكيم الجهني، فهؤلاء أقرب من القسم الأول بناء على أن المكاتبة أحد أنواع التحمل التي تصح بها الرواية فهم مرتفعون عن أن يعدوا في قسم التابعين، ولابد لما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الاتصال فيكون ذلك علامة مجوزة لإطلاق اسم الصحبة عليهم بطريق المجاز، وأما الحقيقة فمنتفية قطعًا.
ومقابل هذا في التوسع -أعني عد هذين القسمين من جملة الصحابة- قول من ضيق الأمر جدًّا ولم يجعل الصحابي إلا من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين، وهو المحكي عن سعيد بن المسيب إن ثبت عنه.
والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في اسم الصحاب، كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة، وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمنًا يسيرًا، واتفق العلماء على أفهم من جملة الصحابة.
وأما اشتراط الجمع بين الصحبة والرواية فضعيف؛ لأن الرواية لم تتصل إلا عن عدد يسير من الصحابة بالنسبة لجميعهم رضي الله عنهم.
فقد جاء عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن عدد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفًا، وشهد معه تبوك سبعون ألفًا.
وعن أبي زرعة أيضًا أنه قال: قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفًا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه -وفي رواية: ممن رآه وسمع منه.
فقيل له: يا أبا زرعة هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟
فقال: أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما من الأعراب ومن شهد معه حجة
الوداع كل رآه وسمع منه فعرفه (1).
قلت: وكذلك من شهد معه فتح مكة وغزوة حنين فإنهم كانوا يوم حنين اثني عشر ألفًا، ومن وفد عليه من القبائل، ومع هذا كله فأكبر الكتب المصنفة في مسانيد الصحابة وأكثرها حديثًا مسند الإمام أبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل رحمه الله، وجميع ما فيه لمن سمي من الصحابة من الرجال والنساء نحو سبعمائة وثلاثين نفسًا، ومن المبهمين الذين لم يسموا من الصنفين نيف وثلاثمائة، فيسقط من هؤلاء من جملة الصحابة مع المعرفة بهم وعدهم في أهل بدر وأحد والحديبية ونحوها.
وقد تقدم أنه لا يلزم من عدم اتصال رواية عن أحد منهم أن لا يكون روى شيئًا بالكلية، واللَّه أعلم.
الثالث: ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أئمة الأصول أن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى نزاع لفظي في مسمى الصحابي على ما ينطلق.
وهذا فيه نظر من جهة أن مراد المصنفين غالبًا بالنزاع اللفظي: ما لا يترتب عليه حكم شرعي، ولا ريب في أن هذا الخلاف يترتب عليه أحكام شرعية:
منها: العدالة الآتي تقريرها للصحابة رضي الله عنهم فإن من لا يعد الرائي من جملة الصحابة يتطلب تعديله بالتنصيص على ذلك كما في سائر الرواة من التابعين فمن بعدهم، ومن ثبتت له خصيصة الصحبة بمجرد اللقاء أو بالصحبة اليسيرة لا يحتاج إلى ذلك بل يكتفي بشرف الصحبة تعديلًا.
ومنها: الحكم على ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بكونه مرسل صحابي أم لا، فإن الجمهور على قبول مراسيل الصحابة ولم يخالف فيها إلا الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني.
فإذا ثبت لمن له مجرد الرؤية كونه صحابيًا التحق مرسله بمثل ما روي عن ابن عباس والنعمان بن بشير وأمثالهما عن النبي صلى الله عليه وسلم-في القبول على رأي الجمهور، وإن لم نعطه اسم الصحبة كان حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم كمرسل سائر التابعين يجيء فيه
(1) انظر "مقدمة ابن الصلاح": (ص 171).
الخلاف المشهور.
ومنها أن من كان منهم مجتهدًا أو نقلت عنه فتيا وحكمة هل يلتحق ذلك بكونه قول صحاب حتى يكون حجة على رأي كثير من أهل العلم أو لا يكون كذلك يعني أيضا على إعطائه رتبة الصحبة أم لا.
فتبين أن الخلاف في هذه المسألة ينبني عليه أحكام مهمة عظيمة الجدوى فكيف يكون لفظيًّا؟
وما صرح به بعضهم أن الخلاف اللفظي قد يترتب عليه حكم شرعي فهو بعيد عن المعروف من اصطلاحهم، واللَّه أعلم.
الرابعة: تقدم في عبارة الإمام البخاري وغيره تقييد من رآه صلى الله عليه وسلم أو كلمه أو ماشاه بكونه مسلمًا في تلك الحالة حتى يثبت له اسم الصحبة، وكذلك قال الآمدي وغيره.
وهذا هو الحق وإن كانت المسألة قل من صرح بها؛ فإن الصحبة رتبة شريفة اختص بها من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو كلمه أو مشى معه أو رآه على القول بذلك؛ وإنما تثبت هذه الخصيصة ويصح الاتصاف بها بشرطها وهو الإيمان به صلى الله عليه وسلم حتى يصح انتسابه إليه، فمن ليس كذلك لا يصح انتسابه إلى صحبته؛ ولهذا منع اللَّه تعالى نسبة المنافقين إلى صحبته صلى الله عليه وسلم وأن يروى عن أحد منهم شيء أصلًا، ولا يوجد لأحد منهم ذكر في شيء من كتب الصحابة.
وكذلك أيضًا لم يذكر أحد أيضا عبد اللَّه بن صياد في الصحابة وقد كلمه النبي صلى الله عليه وسلم ووقف معه في قصته المشهورة وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحج ولم يعتدوا بذلك اللقاء والكلام في حال كفره، واللَّه أعلم بما آل إليه أمره بعد إسلامه، وقد ذكر هذه المسألة بعض المتأخرين من فضلاء المغاربة وقال: لعلها لم تقع، أي: أن يلقى النبي صلى الله عليه وسلم رجل على كفره ويكلمه ثم يسلم بعد وفاته. وغفل عن ابن صياد هذا.
ومما يستغرب ذكره هنا شيئان:
أحدهما: ما رواه أبو داود في "سننه" من حديث عبد اللَّه بن شقيق، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه ونسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه
فقال: "يَا فَتًى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ"(1).
فهذه القصة كانت قبل النبوة ولم يكن أسلم عبد اللَّه بن أبي الحمساء يومئذ قطعًا، ثم إنه لم يذكر له بعد ذلك صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له إلا هذا الحديث الواحد، ولكن الظاهر أن له صحبة وإسلامًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكره جماعة ممن سكن البصرة من الصحابة، وعده بعضهم في المكيين.
فلو فرض في مثل هذا أنه أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه بعد إسلامه، هل يكتفى بذلك اللقاء الأول مع إسلامه في زمنه ويعد صحابيًا بذلك؟
هذا مما فيه نظر واحتمال منقدح بخلاف من لم يسلم إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا النوع أيضًا سعيد بن حيوة الباهلي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو صغير في حياة جده عبد المطلب وهو يتطلبه لما أبطأ عنه في قصة رويتاها من طريق داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن كندير بن سعيد، عن أبيه.
قال ابن عبد البر: لا يعرف سعيد إلا بهذا الحديث (2).
قلت: ولم يذكر أحد له لقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد المبعث، واللَّه أعلم.
الثاني: أن الصحابي إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم صحبه ثم ارتد بعد وفاته ثم رجع إلى الإسلام هل تحبط ردته ما ثبت له من شريف الصحبة حتى أنه لا يعد فيهم أو لا لأنه رجع إلى الإسلام بعد ذلك؟
وهذا مما فيه نظر، ولا يبعد على أصل الحنفية القائلين بأن هذا إسلام جديد يجب عليه فيه الحج وإن كان قد حج أولًا فقد حبط ذلك الحج أن يقال بأن صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم بطل حكمها وبقي كمن لم يسلم إلا بعد وفاته.
وأما على أصول أصحابنا فلا يجيء ذلك؛ لأن الحبوط مشروط بالوفاة على الردة فلما رجع هذا إلى الإسلام بقي حكم الصحبة في حقه مستمرًّا؛ ولهذا ذكروا الأشعث ابن قيس من جملة الصحابة وعدوا أحاديثه من المسندات، وكان ممن ارتد بعد
(1)"سنن أبي داود"(4996).
(2)
"الاستيعاب"(ص 185).