الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللَّه عز وجل الموتى، ويبصرون بنور اللَّه أهل العمى، وينقذون بسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغرقى، وينجون بهدي السلف رضوان اللَّه عليهم الهلكلى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال شقي قد هدوه، وكم من تائه حيران قد دلوه، وكم من غريق في ظلمات المعاصي قد أنقذوه، وكم من بئيس شقى قد أسعدوه، وكم من أفاك أثيم قد أخرصوه، وكم من مبتدع في الدين إلى السنة ردوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم؛ ينفون عن كتاب اللَّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا بألسنتهم عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على اللَّه وفي اللَّه وفي كتاب اللَّه بغير علم، يتكلمون في المتشابه من الكتاب، ويخدعون بسطاء الناس بما يشبهون عليهم من التأويلات الفاسدة والتفسيرات الباطلة؛ نعوذ باللَّه من شبه المبطلين، ولكن اللَّه تعالى بين أن دين الإسلام مبني على أصلين هما التوحيد والاتباع، وليس الهوى والابتداع:
أَمَّا الأَصْلُ الأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) ألا وهو تجريد التوحيد للَّه عز وجل.
وَأَمَّا الأَصْلُ الثَّانِي فَقدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ألا وهو تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عن أهل الأهواء والابتداع: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
(1) الزمر: الآية 3.
(2)
الحشر: الآية 7.
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
وتوعد اللَّه أقومًا قالوا على اللَّه بغير علم، فقال تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه بطريق التواتر اللفظي: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعمَّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"(4).
ثمّ أَمَّا بَعْد:
لقد بعث اللَّه سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عباده رحمة لهم ونورًا يمشون على هداه، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (5)، وأمره اللَّه عز وجل أن يكون رحيمًا بنا وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته، قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (6).
ودلت السنة الكريمة على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين وغيرهم، وأنه لم يكن متعنتًا بل كان خلقه القرآن كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان يعلم أصحابه ذلك ويحثهم على التمسك به وعلى التوسط في الأمور وعدم المغالاة في المعاملات كلها، قال صلى الله عليه وسلم:"إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ"(7).
وقد روى أحمد من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
(1) النور: الآية 63.
(2)
الأنعام: الآية 144.
(3)
الحج 3، 4.
(4)
رواه البخاري (1291)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة.
(5)
الأنبياء: الآية 107.
(6)
آل عمران: الآية 159.
(7)
رواه النسائي (5/ 268)، وابن ماجه (3029)، وابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871)، وابن الجارود (473)، والحاكم (1/ 637).
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1283).
"إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ"(1).
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى التعامل بخلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما يوجد من بعض المسلمين من الغلو في الدين والتعنت والتكلف في المعاملات، وإهمال وسطية أهل السنة والجماعة.
وقد فضل اللَّه هذه الأمة على غيرها من الأمم، فقال عز وجل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} فأمة الإسلام وسط بين طرفي الإفراط والتفريط بتشريف من اللَّه تعالى.
وهذه رسالة للحافظ العلائي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، وفسر الحافظ فيها الآية تفسيرًا علميًّا دقيقًا شاملًا، وقسم شرحه لهذه الآية إلى سبعة أوجه، فبين معاني مفرداتها وإعرابها وأوضح ما فيها من غريب وتكلم على ما يتعلق بها من فقه وأصول وغير ذلك من الفوائد الجليلة التي سنطالعها، فجزاه اللَّه خيرًا.
(1)"المسند"(2/ 381). قال الهيثمي (9/ 15): ورجاله رجال الصحيح.