الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من دروس المسجد الحرام
كلمة للحجاج عام 1415 ه
ـ
إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا حجاج بيت الله الحرام نتكلم اليوم عن الركن الخامس من أركان الإسلام وهو حج بيت الله الحرام، الحج هو قصد المشاعر المقدسة لإقامة المناسك تعبداً لله عز وجل، فرضه الله تعالى على
المسلمين في السنة التاسعة من الهجرة، ولم يفرض قبل ذلك والحكمة من تأخره أمران:
الأول: أن مكة كانت قبل هذا الوقت تحت حكم المشركين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفتح مكة إلا في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، ولم يحج النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم في السنة التاسعة، لأن هذه السنة كثر فيها الوافدون على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أنحاء الجزيرة ليأخذوا
عنه دينهم، فرأى صلى الله عليه وسلم أن من المناسب أن يبقى في المدينة يتلقى أولئك الوفود.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون حجته حجة خالصة للمسلمين بمعنى ألا يشارك فيها مشرك، ولهذا أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يؤذن في الناس في السنة التاسعة، أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (1) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حاج في العام العاشر من الهجرة، فقدم إلى المدينة بشر كثير يقدرون بنحو مائة ألف، يرون من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شمائله مد البصر (2) ، فحج عليه الصلاة والسلام في ذلك العام.
ولكن على من يجب الحج أهو على كل إنسان؟ بين الله من يجب عليه بقوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)(3) لم يقل في الصلاة من استطاع أن يصلي ولا في الصوم من استطاع أن يصوم، بل في الحج من استطاع إليه سبيلاً، وذلك لأن الحج يكون من أنحاء بعيدة ويشق على الناس الوصول إلى البيت، فلهذا قيده الله عز وجل بقوله:(مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والاستطاعة نوعان: استطاعة بالمال،
واستطاعة بالبدن، فالاستطاعة بالمال بأن يكون عند الإنسان ما يحج به من المال زائداً على نفقاته وحاجته وضرورياته وقضاء ديونه، وبناء على ذلك إذا كان على الإنسان دين لا يستطيع وفائه مع
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1622) ، ومسلم، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (1347) .
(2)
مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1218) .
(3)
سورة آل عمران، الآية:97.
الحج، أي إما أن يحج وإما أن يقضي الدين، فهذا يقضي الدين أولاً، ثم يحج ثانياً، وإذا كان عند الإنسان مال إما أن يتزوج به وإما أن يحج وهو محتاج للزواج يشق عليه عدمه فيتزوج لأن الله يقول:(مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)(1) ، وإذا كان عنده مال وفيه مرض يحتاج إلى معالجة بهذا المال ولا يكفي هذا المال للعلاج والحج فيقدم العلاج، وهلم جر ا، لأن الله يقول:(مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
أما الاستطاعة بالبدن بأن يكون الإنسان قادراً على الحج بلا مشقة، فإن كان يشق عليه لمرض أو كبر، فإنه إن كان لديه مال يجب عليه أن يقيم من يحج عنه، وإن لم يكن له مال فلا جب عليه الحج، فإن من ليس لديه مال لا يجب عليه الحج ولو كان قادراً، وحينئذ نقول: إذا تمت شروط الحج أي شروط الوجوب وجب على الإنسان أن يبادر به وأن لا يؤخره، لأن الله أمر به، ونحن نعلم لو أن ملك من الملوك أمرك أن تفعل شيئاً وتأخرت عن فعله فإنه يغضب عليك ويؤدبك ويعاقبك، هذا وهو أمر من إنسان لإنسان فكيف بأمر الرب عز وجل؟ إذا أمرك بأمر وتمت شروط الوجوب فبادر ولا يحل لك أن تتأخر، ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، هو الآن قادر
وربما يكون في العام المقبل غير قادر، وربما يموت فتأخير الحج بعد استكمال شروط الوجوب حرام، يجب أن يبادر بذلك.
فإن قال قائل: كيف تقول هذا القول وقد قال الله تعالى:
(1) سورة آل عمران، الآية:196.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)(1) وهذه الآية نزلت في السنة الثالثة من الهجرة والنبي لم يحج إلا في العاشرة وأنت تقول أنه واجب على الفور؟
فالجواب: أن قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يخاطب به من شرع في الحج والعمرة فإنه يجب عليه الإتمام، وليس معناه ابتداء الفرض، وفرق بين وجوب الإتمام وبين وجوب الشروع في
العمل، والآية الكريمة (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فيها أمر من شرع في الحج أو العمرة أن يتمهما، وليس فيها أن الحج والعمرة واجبة، وفرق بين وجوب الإتمام ووجوب الابتداء، وإذا وجب الحج على الإنسان فإنه يجب عليه أن يتعلم كيف يحج لا أن يذهب مع الناس، هكذا سمعت الناس يقولون فقلته، رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته، بل يجب أن يتعلم أحكام الحج ليعبد الله على بصيرة، وإنما
قلنا يجب أن يتعلم أحكام الحج لأن للعبادة شرطين:
الأول: الإخلاص لله، بمعنى أن الإنسان لا يريد بعبادته إلا وجه الله، فمن أشرك مع الله غيره فعبادته باطلة مردودة، فلو قصد بعبادته أن يقول الناس إن فلاناً عابد، فعمله حابط، ولو قصد بعبادته أن يكرمه الناس، فعبادته باطلة، ولو قصد بعبادته أن يتقرب إلى رئيس أو وزير أو ما أشبه ذلك فعبادته باطلة، لابد أن تكون العبادة خالصة لله، وأنا أقول لك أيها الأخ الكريم ماذا ينفعك الناس إذا تعبدت لله تعالى من أجل أن يمدحوك؟ ماذا ينفعونك؟ إنهم لن
(1) سورة البقرة، الآية:196.
ينفعوك، وماذا يضرك الناس لو أخلصت العبادة لله؟ إنهم لن يضروك، إذن لا تر اعي الناس، اجعل عملك خالصاً لله كما قال ربك عز وجل:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(1)(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(2)(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)(3) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الإخلاص لله عز وجل، ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثلاً يتبين به الفرق بين المخلص وغير المخلص، فقال:"من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه "(4) .
رجلان هاجرا خرجا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام الفعل واحد، والصورة واحدة، لكن اختلف حكم الفعلين أحد الفعلين لله تعالى، هاجر إلى الله ورسوله، والثاني هجرته لدنيا يصيبها تجارة
أو امرأة يتزوجها، فالأول هجرته صحيحة يثاب عليها، والثاني لا، ولهذا قال:"فهجرته لله ورسوله "، والثاني قال:"هجرته إلى ما هاجر إليه "، رجل حج من أجل أن يقول الناس إذا رجع إلى بلده:
فلان حاج، هذا ليس بمخلص، رجل حج من أجل أن يستقبله الناس إذا رجع إلى بلده فيمدحوه فيقولون: فلان ما شاء الله حج،
(1) سورة البينة، الآية:5.
(2)
سورة غافر، الآية:14.
(3)
سورة الروم، الآية:30.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي رقم (1) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات " رقم (1907) .
فهذا غير مخلص.
الشرط الثاني لقبول العبادة أن تكون موافقة لشرع الله، أي أن يكون المتعبد لله متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن لم يكن متابعاً للرسول فإنها لا تقبل عبادته، دليله قال الله
تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(2) أي مردود عليه مهما أتقن العمل، ومهما جد فيه، ومهما داوم عليه فإنه مردود؛ لأنه ليس على شريعة الله عز وجل، وبناء
على هذا الشرط يجب أن يتعلم الإنسان كيف يحج لا يأتي هكذا إمعة مع الناس، بل يجب أن يعرف كيف يحج، ولكن ما الطريق إلى العلم؟ كيف يحج؟ الطريق طريقان:
الأول: قراءة الكتب التي يثق بمؤلفيها، والثاني: ملازمة أحد أهل العلم، والسؤال والاستفهام سواء لازمه في البلد قبل أن يأتي للحج، أو سافر معه وصحبه، فإن صحبة العلماء كلها خير، وبناء
على هذا نذكر كيف حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصل النبي صلى الله عليه وسلم الميقات خارجاً من المدينة، وميقات أهل المدينة ذي الحليفة، فأحرم من هناك وركب ناقته، فلما استوت به على البيد لبى: لبيك اللهم، يعني يا الله، لبيك تكرار وتوكيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لا شريك لله تعالى لا في ألوهيته ولا في
(1) سورة الجاثية، الآية:18.
(2)
تقدم تخريجه ص 11.
عبوديته، ولا في أسمائه وصفاته، لا شريك له في ربوبيته، خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء، وجعل الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر، وخلق النجوم، وخلقنا، وخلق البهائم،
وهلم جرا، فالله تعالى ليس له شريك في الربوبية، وليس له معين في الخلق، يعني لم يعاونه أحد على خلقه جل وعلا، بل انفرد بالخلق والتدبير واستمع إلى قول الله تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)(1) فنفى الله هذه الثلاثة لا يملكون مثقال ذرة يعني ليس أحد يملك (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ) أي ولا يشارك أيضاً (وَمَا لَهُ مِنْهُمْ) أي ما لله من هذه الأصنام من معين (مِّن ظَهِيرٍ) الظهير يعني المعين كما قال تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير) .
لو قال قائل: الولي هل يدبر الكون؟ هل ينزل الغيث؟ هل يوجب أن تلد المرأة؟ أبداً، كل هذا لا يكون، ومن اعتقد أن وليًّا من الأولياء يدبر الكون، أو يخلق، أو يرزق، فهو مشرك كافر مخلد في
النار، الجاهليون خير منه، الجاهليون الذين قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام خير من هذا، لأن الجاهليين الذين قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض؟
يقولون: الله، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)(2) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
(1) سورة سبأ، الآية:22.
(2)
سورة الزخرف، الآية:87.
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (1) ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)(2) ، فهم يقرون بهذا ومع ذلك قاتلهم الرسول عليه الصلاة والسلام،
واستحل دمائهم، وأموالهم، ونسائهم، وذرياتهم.
فلو قال قائل: أنا لا أعتقد أن الولي ينفع، ولكن أعتقد أنه واسطة بيني وبين الله.
فالجواب: أن هذا يخالف الواقع؛ لأن المتعلقين بالأولياء يدعون الولي نفسه، يقول يا سيدي فلان افعل كذا وكذا، فبطل قولهم إننا نجعلهم وسطاً ثم نقول: لو جعلتهم وسطاً فليس هذا من
العقل ومن الشرع، لأن هذا الولي ميت جثة جماد، ربما تكون الأرض قد أكلته ولم يبق إلا عجب الذنب، فكيف تجعله واسطة هل سيدعو الله لك؟ لو قلت يا سيدي فلان اشفع لي عند الله لا ينفع هذا، لأنه ميت، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث "(3) انقطع عمله كيف يدعو الله لك هذا غير صحيح.
ونقول الصحابة رضي الله عنهم، هل كانوا يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقولون: يا رسول الله اشفع لنا؟
(1) سورة العنكبوت، الآية:61.
(2)
سورة يونس، الآية:31.
(3)
تقدم تخريجه ص 23.
الجواب: لا، هل كانوا يأتون إلى قبره، ويقولون: يا رسول الله أدعو لنا الله أن يسقينا، أدعو الله أن يرفع عنا الحروب؟ لم يفعلوا هذا، ولما قحط وأجدب الناس في عهد أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه وخرجوا يستسقون لم يذهبوا إلى قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: يا رسول الله أدعو الله أن يسقينا أبداً، بل هم دعوا الله حتى قال عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نستسقي إليك بعم نبينا- يعني العباس بن عبد المطلب- فقام العباس واستسقى، فلا تعلق يا أخي قلبك بأي مخلوق لا حي ولا ميت، بل بعدك عن تعلقك بالمخلوق الميت يجب أن يكون أولى من تعلقك بالمخلوق الحي، لأن المخلوق الحي قد ينفع في بعض الأمور، أما الميت فلا ينفع، وبناء على ذلك يجب علينا ونحن مسلمون إذا رأينا أحداً من العامة يذهب إلى الأضرحة يدعو صاحب الضريح، أو يطلب أن يكون شفيعاً له يجب علينا أن ننصحه، وأن نقول: يا أخي بدلاً من أن تذهب إلى الضريح اذهب إلى المسجد، لا تكن ممن يعمر المشاهد ويهجر المساجد، لأن بعض الناس لعب بهم الشيطان فعمروا المشاهد وهجروا المساجد، لا يأتون إلى المساجد لكن المشاهد يملئونها، نقول له يا أخي اتق الله لا تأتى إلى هذا الضريح، بدلاً من أن تأتي للضريح، اذهب إلى المسجد، فالصحابة رضي الله عنهم كان النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قريباً منهم، ولكنهم لا يأتون إلى قبره، فيقولون: اشفع لنا يا رسول
الله أبداً، ما جرى هذا إطلاقاً، بل كانوا يأتون إلى المسجد يصلون فيه ويعبدون الله فيه، فلا تعبد غير الله، لا تعبد غير الله لا بقولك ولا بفعلك، العبادة لله وحده فمن تعبد لغير الله فهو مشرك، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل شيء يفضي إلى عبادة غير الله، فسئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له قال:"لا"(1) ، حتى لو حنى رقبته فلا يجوز، سدًّا للباب، لأنه يتوصل بالانحناء إلى ما هو أبلغ، ولما قدم إليه بعض أصحابه سجد له، أي هذا الصحابي سجد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنه قدم من بلاد يسجدون فيها لأساقفتهم فنهاه وقال:"لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها"(2) ، ويجب على من انحنى الناس له أن ينكر عليهم، ولا يحل له أن يقرهم على ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السجود له، فإذا سلم عليك إنسان وانحنى لك فانهه لا تقل: والله الرجل أكرمني، لا أحب أن أخجله، بل انهه عن هذا، لأن هذا أعظم هدية تهديها إليه، أن تمنعه عما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن ذهب إلى قبر فسجد لصاحب القبر فهو مشرك، سجد لغير الله، والسجود لا يكون إلا لله عز وجل، كذلك أيضاً لا شريك لّه تعالى في أسمائه وصفاته، قال " الله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(3) .
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/198، والترمذي (2728) .
(2)
أخرجه الإمام أحمد (5/227) .
(3)
سورة الشورى، الآية:11.
أحرم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذي الحليفة ومازال يلبي، وأحرم بالقِران أي جمع بين الحج والعمرة فقال: لبيك اللهم عمرة وحجًّا، لبيك اللهم عمرة وحجًّا، وإنما أحرم بالقِران لأنه ساق الهدي، وحينما وصل إلى المسجد الحرام بدأ بالطواف استلم الحجر الأسود، وطاف سبعة أشواط، وفي هذا الطواف رمل ثلاثة أشواط أي أسرع في المشي، ثم مشى الأربعة الباقية، وفي هذا الطواف أيضاً اضطبع، فجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، والاضطباع لا يكون في أول الإحرام وإنما يكون في الطواف فقط، فما نراه الآن من كثير من الحجاج أنهم يضطبعون من حين أن يحرموا خطأ، يجب علينا إذا رأينا أحداً وتمكنا من نصيحته أن نقول له يا أخي الاضطباع لا يكون إلا في الطواف ولا يكون في جميع الإحرام، ولما طاف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)(1) وصلى ركعتين خفيفتين، وقرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية قل هو الله أحد، ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، والاستلام هو
مسكه باليد ثم خرج إلى الصفا، ولما دنا من الصفا قرأ:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)(2) أبدأ بما بدأ الله، فبدأ بالصفا فصعد عليه فاستقبل القبلة فرفع يديه يذكر الله ويدعوه وكان من ذكر الله
الذي قاله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد
(1) سورة البقرة، الآية:125.
(2)
سورة البقرة، الآية:158.
وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا، ثم أعاد الذكر مرة أخرى ثم دعا ثم أعاده مرة ثالثة، ثم نزل متجهاً إلى المروة يمشي، حتى إذا
أنصبت قدماه في بطن الوادي سعى، أعجل المشي وركض ركضاً شديداً، فلما صعد من بطن الوادي مشى كعادته، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، ثم نزل متجهاً إلى الصفا حتى أتم سبعة أشواط، ثم أمر الناس الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة، أما هو فبقي على إحرامه لأنه ساق الهدي، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة خرج إلى منى بأصحابه فنزل فيها،
وصلى فيها خمس صلوات وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، صلى الظهر والعصر والعشاء قصراً بلا جمع، ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة ونزل في نمرة- موضع قريب من عرفة- حتى إذا زالت الشمس- جاء وقت الظهر- ركب ونزل في بطن عرنة- وهو الوادي الذي فيه الآن مسجد عرفة- وخطب الناس، وصلى بها الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم ركب حتى أتى الموقف، وموقف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان عند الجبل عند الصخرات العظيمة الكبيرة، وقف هناك وقال للناس:"وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف "(1) يعني لا تكلفوا أنفسكم بالحضور إلى هذا المكان كل عرفة موقف، وجعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الله إلى أن غربت الشمس، وكان راكبا على بعيره رافعاً يديه
(1) تقدم تخريجه ص 155.
حين الدعاء، ولما غربت الشمس سار إلى مزدلفة فوصل إليها بعد دخول وقت العشاء فصلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وفي هذه الليلة أوتر؛ لأن النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم لم يكن يترك الوتر حضراً ولا سفراً وقال لأمته: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً"(1) ولم يذكر ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سياق حجه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لم يعلم، أو لأنه كان نائماً، أو لغير ذلك من الأسباب، ولما صلى الصبح ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا الله ووحده وكبره حتى أسفر جداً، ثم دفع إلى منى وسلك الطريق
الوسطى، وكانت منى لها طرق على اليمين والشمال والوسط، فسلك الطريق الوسطى لأنها تخرجه على الجمرة، فلما وصل الجمرة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، رماها راكباً، ثم
انصرف بعد ذلك إلى المنحر- أي إلى المكان الذي أعده لنحر هديه - وكان قد أهدى مائة بعير فنحر منها ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحره، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشركه في هديه حيث كان رضي الله عنه قادماً من اليمن ببعث من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فنحر الهدي ثم حلق رأسه كله بالموس، ثم أمر أن يؤخذ من كل ناقة قطعة من اللحم فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوتر، باب ليجعل آخر صلاته وتراً (998) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى 000 (749)(148) .
مرقها، ثم تحلل وتطيب ونزل إلى البيت فطاف بالكعبة سبعة أشواط، وشرب من ماء زمزم، وصلى ظهر يوم العيد، ثم ركب راجعاً إلى منى، ووجد بعض الصحابة هناك فصلى بهم الظهر
إماماً، لكنها نافلة والفريضة هي التي صلاها في المسجد الحرام، وبات هناك ثلاث ليال، وفي كل يوم من أيام التشريق يرمي الجمرات الثلاث، الأولى ثم يقف بعدها يدعو الله، ثم الوسطى ثم يقف بعدها يدعو الله، ثم جمرة العقبة ثم ينصرف ولا يقف، ولما رمى اليوم الثالث عشر نزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منى إلى مكان يقال له المحصب لكثرة حصبائه فنام تلك الليلة وصلى في هذا المكان صلاة الظهر يوم الثالث عشر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم أذن بالرحيل فارتحل المسلمون حتى أتوا المسجد الحرام فطافوا للوداع، ثم صلى الفجر، ثم انصرف إلى المدينة، وأمضى في مكة عشرة أيام من اليوم الرابع إلى اليوم الرابع عشر، هذه خلاصة لحج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم الإخلاص، اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك والمتابعة لرسولك، اللهم اختم لنا بالخير، اللهم اجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا وأسعدها يوم نلقاك، اللهم اجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، وقادة مصلحين، اللهم يسر أمورنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، اللهم أصلحنا وأصلح بنا، وأصلح لنا
يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.