الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإني أتقدم إلى إخواني بما تيسَّر من الكلام على شيء من الحج بمناسبة حلول وقته، راجياً من الله تعالى أن يجعل عمل الجميع خالصا لوجهه، ونافعاً ومقرِّباً إليه، إنه جواد كريم.
والكلام في الحج يتلخص فيما يأتي:
1-
الأحكام المتعلقة بالسفر
.
2-
متى فرض الحج، وعلى مَن يكون فريضة؟
3-
من أين يُحرم من أراد الحج أو العمرة؟
4-
الأنساك وأفضلها.
5-
صفة التمتع من ابتداء الإحرام بالعمرة إلى انتهاء الحج بصفة مختصرة.
6-
طواف الوداع.
7-
محظورات الإحرام.
8-
حكم فاعل هذه المحظورات.
9-
زيارة المسجد النبوي.
الأحكام المتعلقة بالسفر
لما كان الحج لابد له من السفر، بل هو نفسه سفر، كان من المهم أن نتكلم عن بعض أحكام السفر هنا. فللسفر أحكام تتعلق به
وأهمها ما يتصل بالصلاة، ويتلخص فيما يلي:
(أ) في الطهارة: فالمسافر يجب عليه أن يتطهر بالماء إن وجده في وضوئه وغسله، فإن لم يجده تيمم صعيداً طيباً، فمسح بوجهه ويديه منه، فيضرب الأرض ضربة واحدة، ثم يمسح وجهه كله، وكفيه من أطراف أصابعه إلى كوعه- وهو مفصل كفِّه من ذراعه- وبذلك يكون متطهراً طهارة كاملة لا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء، أو بوجود الماء، فإذا تيمم لصلاة الظهر وبقي على طهارته إلى العصر صلى العصر بلا تيمم، وكذلك لو بقي إلى المغرب والعشاء على طهارته صلاهما بلا تيمم. وإذا حصل على المسافر جنابة ولم يجد الماء تيمم فارتفعت جنابته، فإذا وجد الماء عادت الجنابة ووجب عليه الاغتسال، وإذا أحدث ببول أو غائط ولم يجد الماء تيمم فارتفع حدثه، فإذا وجد الماء عاد حدثه ووجب عليه الوضوء؛ لحديث:"الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسح بشرته ".
وفي حديث آخر: "طَهُور المسلم " رواه أحمد. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (1) .
والمسافر يمسح على خفيه ثلاثة أيام بلياليها بخلاف المقيم فيوماً وليلة.
(ب) في صلاة الفريضة: فالمسافر يصلي الصلاة الرباعية وهي الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتين فقط من حين أن يخرج
(1) تقدم تخريجه ص 248.
من بلده حتى يرجع إليها، سواء طالت مدة سفره أم قصرت، ففي "صحيح البخاري " عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة (يعني في حجة الوداع) فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، فقيل لأنس: أقمتم بها
شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً (1) . وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرَّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر (2) . وفي رواية أخرى له: فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ففرضت
أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأولى (3) . ولمسلم: فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى (4) .
ولم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفره مرة واحدة، ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن قصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين واجب. وفي "صحيح البخاري " عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع، ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين،
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب ما جاء في التقصير، رقم (1081) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (350) .
(3)
رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب التاريخ، من أين أرَّخوا التاريخ، رقم (3935) .
(4)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (685) .
فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقلبتان (1) .
فجعل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إتمام عثمان رضي الله عنه من المصائب حيث استرجع له، وبيَّن أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه على خلافه، وقد كان عثمان رضي الله عنه يقصر في منى ست سنين أو ثماني سنين من خلافته، ثم أتم كما في "صحيح مسلم " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: صلى النبي وبمنى صلاة المسافر وأبو بكر وعمر وعثمان ثماني أو قال: ست سنين (2) . وكان إتمامه لتأويل رآه رضي الله عنه، واختلفت الآثار وأقاويل العلماء
في ذلك التأويل.
أما إذا صلى المسافر خلف إمام يتم فإنه يجب عليه الإتمام، ففي "صحيح مسلم " عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام؟ فقال:
ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (3)، وفيه أيضاً عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً، وإذا صلاها وحده صلى ركعتين (4) . وسواء دخل مع الإمام من أول الصلاة أم من أثنائها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا "(5) .
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، رقم (1084) .
(2)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قصر الصلاة بمنى، رقم (694) .
(3)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (688) .
(4)
انظر تخريج الحديث قبل السابق.
(5)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة، رقم (635) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (603) .
وأما الجمع للمسافر بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء فسنة، حيث كان على ظهر سير، أي حيث كان سائراً؛ لما في "صحيح البخاري " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء (1) ، أما إذا كان نازلاً فالسنة أن لا يجمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع بمنى؛ لأنه كان نازلاً، وإن جمع فلا بأس لاسيما إذا احتاج إلى ذلك لشغل يقضيه أو نوم يستريح فيه، وفي "الصحيحين " من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي خرج من قبة كانت له بالأبطح بمكة، قال أبو جحيفة: خرج بالهاجرة (يعني شدة الحر) إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين
…
الحديث (2)، وفي "صحيح مسلم " عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته (3) . وله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه نحوه تماماً (4) . ومعنى "يحرج أمته " يوقعها في حرج وضيق.
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، رقم (1107) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، رقم (187) ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، رقم (503) .
(3)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705) .
(4)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر برقم (706) .
(جـ) في صلاة النافلة: فالمسافر يشرع له أن يتطوع بالنوافل كما يتطوع المقيم، فيصلي صلاة الليل والوتر وصلاة الضحى وتحية المسجد وصلاة الكسوف، وفي "صحيح البخاري " عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير يؤخِّر المغرب فيصليها ثلاثاً ثم يسلم، ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم، ولا يسبح بعد العشاء (يعني لا يتنفل) حتى يقوم من جوف الليل (1) .
وفي "الصحيحين " عن سعيد بن يسار قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة، فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم لحقته، فقال: أين كنت؟ فأخبرته، فقال: أليس لك في رسول الله
أسوة حسنة؟ قلت: بلى والله، قال: إن رسول الله كان يوتر على البعير (2) . وفيهما أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحدٌ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى إلا أم هانىء، فإنها حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فصلى ثماني
ركعات (3) . وفيهما أيضاً عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين "(4) .
وفيهما أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب تصلى المغرب ثلاثاً في السفر، رقم (1091، 1092) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، رقم (999) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر، رقم (700) .
(3)
رواه البخاري، كتاب التقصير، باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات، رقم (1103) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، رقم (336 م) .
(4)
رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، رقم (444) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، رقم (714) .
الكسوف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا
ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما (يعني منخسفين) فافزعوا إلى الصلاة" (1) ، وهذان الحديثان عامَّان لم يخص النبي صلى الله عليه وسلم فيهما وقتاً دون وقت، ولا إقامة دون سفر.
وفي "صحيح البخاري " عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة (2) . و (أل) في التطوع تحتمل الجنس وتحتمل الاستغراق، ويؤيد الثاني أن الأصل بقاء التطوع بالنوافل على مشروعيته حتى يرد دليل على تركه، ولم يرد الدليل على الترك فيما نعلم إلا في راتبة الظهر والمغرب والعشاء.
ففي "صحيح مسلم " عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة قال: فصلى لنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى، فرأى ناساً قياماً فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون (يعني يصلون نافلة) قال: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وذكر مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان، ثم قال: وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(3)[الأحزاب 21] .
(1) رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف، رقم (1046) ومسلم، كتاب صلاة الكسوف، باب صلاة الكسوف رقم (901) .
(2)
رواه البخاري، كتاب التقصير، باب صلاة التطوع على الدواب، رقم (1094) .
(3)
رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين، رقم (689) .
وسبق من حديثه في الجمع بين المغرب والعشاء ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي راتبة لهما، ومراد ابن عمر رضي الله عنهما بقوله:"لو كنت مسبحاً لأتممت " أي لو كنت متطوعاً بما تكمل به فريضتي من راتبة لأتممتها؛ بدليل أنه صحَّ عنه رضي الله عنه أنه كان يتطوع على راحلته ويوتر عليها، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
ومن تراجم البخاري رحمه الله في "صحيحه ": باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، وباب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة وقبلها.
أما راتبة الفجر فيصليها حضراً وسفراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، ولم يكن يدعهما أبداً كما في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها (3/42) من "الفتح "، وفي "صحيح مسلم " عن أبي قتادة رضي الله
عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة نومهم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم فساروا عن مكانهم، ثم نزل فتوضأ، ثم أذَّن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما يصنع كل يوم، وله نحوه من حديث أبي هر ير ة (1) .
وإنما أطلنا الكلام في تطوع المسافر بالنافلة؛ لأن بعض الناس يري أن لا تطوع للمسافر مطلقاً، وقد تبيَّن مما ذكرنا أن الذي
(1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (680، 681) .
دلَّ عليه الدليل أنه لا يتطوع براتبة الظهر والمغرب والعشاء، وما عدا ذلك من النوافل فباق على مشروعيته. والله الموفق.
وللمسافر أن يتطوع في السفر وهو على ظهر مركوبه حيث كان وجهه، وإن لم يكن إلى جهة القبلة، ففي "صحيح البخاري " عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة- يعني الفريضة-
نزل فاستقبل القبلة (1) .
ومن أحكام السفر: أنه ينبغي أن يكون مع المسافر رفقة للإيناس ودفع الحاجة، فلا ينبغي أن يسافر الرجل وحده إلا لحاجة أو مصلحة دينية، للجهاد في سبيل الله ونحوه، ففي "صحيح
البخاري " عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لوْ يعلمُ الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده " (2) .
وينبغي أن يكون معه ما يثبت اسمه وعنوانه حتى لا يخفى لو حصل عليه تلف بحادث أو غيره.
ومن أحكام السفر: أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم سواء كان السفر بعيداً أم قريباً، وسواء كان للحج أم لغيره، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزاً شوهاء، وسواء كان معها نساء من
أقاربها وصاحباتها أم لا، وسواء غلب على الظن سلامتها أم لا، وسواء كان ذلك في طيارة أو غيرها، ففي "الصحيحين " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لا
(1) رواه البخاري، كتاب التقصير، باب ينزل للمكتوبة، رقم (1099) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب السير وحده، رقم (2998) .