المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم - مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول

[بدر الدين البعلي]

الفصل: ‌فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم

‌فصل: في كفر الساب والمستهزئ بالله أو رسوله والرد على المرجئة وأتباعهم

من المسائل المهمة التي حرَّرها شيخ الإسلام في "الصارم" مسألة السبّ (سبّ الله أو رسوله) وأنه كُفْرٌ ظاهرًا وباطنًا، سواءٌ اعتقدَ السابُّ تحريم ذلك أو استحلاله، أو كان ذاهِلًا عن اعتقاده.

قال شيخ الإسلام: "وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة، القائلين بأن الإيمان قولٌ وعمل".

ثم ذكر بعض نصوصهم في إثبات ذلك، ثم أجابَ عن شُبَه من قال: إنما يكفر مُسْتحلُّ السبِّ، وبيَّن أن هذا قول الجهميَّة الإناث والمرجئة القائلين بأن الإيمان هو مجرَّد التصديق بالقلب وإن لم يُقارنه قولُ اللسان، ولم يقتضِ عملَ القلبِ والجوارحِ.

ولأهمية هذه المسألة، ولانزلاق بعض العصريين فيها، ومتابعتهم لقول أهل البدع من المرجئة والكرّامية، وعدم فهمهم لمذهب أهل السنة والجماعة بسبب هوًى أو شبهة = نلخِّص ما ذكره الشيخ في الأصل - إذ اختصره المصنّف - لعل الله أن ينفع به من شاء من عباده.

قال الشيخ ما ملخصه مع بعض التصرُّف

(1)

: وهذا موضع لا بدَّ من

(1)

البحث في "الصارم": (3/ 960 - 976).

ص: 8

تحريره، ويجب أن يُعْلَم أن القولَ بأن كفر السابِّ في نفس الأمر إنما هو لاستحلالِه السبَّ زلةٌ منكرةٌ وهفوةٌ عظيمةٌ

وإنما أوقع من وقع في هذه المهواة ما تلقَّوْه من كلامِ طائفةٍ من متأخري المتكلِّمين الذين ذهبوا مذهبَ الجهمية الأولى

وليس الغرض استيفاء الكلام، وإنما الغرضُ التنبيهُ على ما يخصُّ هذه المسألة، وذلك من وجوه:

أحدها: أن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: "أنه إن كان (أي: السابّ) مُسْتحلًّا كفر وإلا فلا"، ليس لها أصلٌ، وإنما نقلَها القاضي (يعني: أبا يعلى) من كتاب بعض المتكلمين الذين حكَوْها عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جاريًا في أُصولهم، أو بما سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يُعَدّ قولُه قولًا

فلا يظن ظانٌّ أن في المسألةِ خلافًا يجعلُ المسألةَ من مسائل الخلافِ والاجتهاد، وإنما ذلك غلط، لا يستطيع أحدٌ أن يحكيَ عن واحدٍ من الفقهاء وأئمة الفتوى هذا التفصيلَ أَلْبتةَ.

الوجه الثاني: إذا كان سبب الكفر هو الاستحلالُ، فلا فرقَ في ذلك بين سبِّ النبيَّ وبين قذفِ المؤمنين والكذبِ عليهم والغيبةِ لهم، إلى غير ذلك من الأقوال المعلوم تحريمها، فإن من فعل شيئًا من ذلك مُسْتحلًا كَفَر.

الوجه الثالث: إذا كان ذلك كذلك، فلا أثر إذن للسَّبِّ في التكفير وجودًا وعدمًا، فالمؤثِّر - على ما زعموا - هو الاعتقادُ والاستحلالُ. وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء؛ إذ أجمعوا على كفر السابّ استحلّ أو لم يستحلّ.

ص: 9

الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المكفِّر هو اعتقاد حِلِّ السبِّ، فليس في مجرَّد السبِّ استحلالٌ، فينبغي - على قولهم - ألا يُكفَّر، خاصةً إذا قال: أنا أعرفُ أنه حرامٌ، لكن قلتُه عبثًا ولعبًا، أو غيظًا وسَفَهًا

(1)

.

فيقال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . فإن قالوا: لا يكفرون، قلنا: هذا خلاف نص القرآن، وإن كفَّرتموهم، فهو تكفير بلا مُوْجِب إذا لم يُجعل نفسُ السبِّ مكفِّرًا، وكذا في قوله:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} كفَّرهم بذلك القول الذي صدر منهم، ولم يقل: قد كذبتم في قولكم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} .

فتبيَّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة (أي: السب) في نفسها كفر، استحلَّها صاحبُها أو لم يستحلَّ، والدليل عليه جميع ما قدمنا في المسألة الأولى

(2)

من الآيات والأحاديث، فإنها أدلة بيّنة على أن نفس أذى الله ورسوله كُفْر، مع قطع النظر عن اعتقاد التحريم وجودًا وعدمًا.

ثم ذكر الشيخ رحمه الله منشأ هذه الشبهة عند المتكلمين أو من حذا حذوهم، فذكر شبهتين:

1 -

أنهم رأوا أن الإيمان هو التصديق، وأن اعتقاد صدقه (أي: الرسول) لا يُنافي السبَّ والشتم، فإن الإنسان قد يهينُ من يعتقد وجوب

(1)

أو سوء تربية، على قول البعض.

(2)

في "الصارم": (2/ 58 - 378)، و"المختصر":(ص / 31 - 77).

ص: 10

إكرامه، كما يترك ما يعتقد وجوب فعله، ثم رأوا أن الأمة قد كفَّرت السابّ، فقالوا: إنما كَفر لأن سبَّه دليل أنه لا يعتقد أنه حرام، واعتقاد حلِّه (أي: السبّ) تكذيب للرسول فكَفَر بالتكذيب لا بالإهانة، والإهانةُ دليل التكذيب، فإذا فُرِض أنه في نفس الأمر ليس بمكذِّب كان في نفس الأمر مؤمنًا، وإن كنَّا نحكم عليه بالظاهر. فهذا مأْخَذ المرجئة والكرّامية.

2 -

وللجهمية مأْخَذٌ آخر، وهو أنه (أي: الساب) قد يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فإذا كان فيه التعظيم والتوقير للرسول لم يقدح إظهار خلاف ذلك بلسانه في الباطن.

وجواب الشبهة الأولى من وجوه:

الأول: أن الإيمان أصله تصديق القلب، وهذا التصديق لا بد أن يُوْرث حالًا له وعملًا، وهو تعظيمُ الرسول وإجلالُه ومحبتُه، وذلك أمر لازم كالتألُّم والتنعُّم عند الإحساس بالمؤلم والمنعم، كالنُّفْرة والشهوة عند الشعور بالملائم والمنافي. وإن لم تحصُل هذه الحال لم ينفع ذلك التصديق شيئًا. وإنما يمنع حصوله وجودُ المعارِض من حَسَد الرسول أو التكبُّر أو نحوه، بل يكون ذلك المعارِض موجبًا لعدم المعلولِ الذي هو حال القلب، فيزول التصديق الذي هو العلَّة، فيذهب الإيمان بالكلية من القلب، وهذا الموجب لكفر من حَسَد الأنبياء أو تكبَّر عليهم.

الثاني: أن يقال: كلامُ الله خَبَر وأَمْر، فالخبر يستوجب التصديق، والأمر يستوجب الانقياد والاستسلام، فإن حصل التصديق والانقياد حصلَ أصلُ الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار.

ص: 11

فإذا تقرَّر ذلك؛ فالسبُّ إهانة واستخفاف، ومُحالٌ أن يُهينَ القلب أو يستخف بمن انقاد له وخَضَع واستسلم، فإذا حصل في القلب استخفافٌ واستهانة امتنع أن يكون فيه إيمان. وهذا بعينه كفر إبليس، إذ هو لم يُكذِّب خبرًا، ولكنه لم ينقد للأمر بل استكبر عن الطاعة.

قال شيخ الإسلام: وهذا موضع زاغ فيه خلقٌ من الخَلَف!

فإذا تقرَّر أنه لا بدَّ من اجتماع التصديق بالخبر والانقياد للأمر الذي هو موجبُ التصديق ومقتضاه وثمرتُه، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذِّب له أو ممتنع عن الانقياد لربِّه، وكلاهما كفر صريح. ومن استخفَّ به واستهزأ بقلبه امتنع أن يكون منقادًا لأمرِه، فالانقياد إجلال وإكرام والاستخفاف إهانة وإذلال، وهما ضِدان، فمتى حصل في القلب أحدُهما انتفى الآخر، فَعُلِمَ أن الاستخفاف والاستهانة والسبّ تنافي الإيمان منافاة الضدِّ للضدِّ.

الثالث: التفريق بين من يفعلُ الذنبَ تشهِّيًا من غير معاندة أو جحودٍ أو استكبار، وبين من يفعله جُحودًا ومعاندةً.

ثم الامتناعُ والإباءُ من الفعل إما لخللٍ في اعتقاد حِكْمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفةٍ من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدِّق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفرٌ. هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكلِّ ما أخبر به ويصدِّق بكلِّ ما يصدِّق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومُشْتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد.

ص: 12

أما إهانةُ الرجل من يعتقد وجوب كرامته كالوالدين ونحوهما؛ فلأنه لم يُهن من كان الانقياد له والإكرام شرطًا في إيمانه، وإنما أهان من إكرامه شرطٌ في بره وطاعته.

وجانب الله ورسوله إنما كَفَر فيه؛ لأنه لا يكون مؤمنًا حتى يصَدِّق تصديقًا يقتضي الخضوعَ والانقياد، فحيثُ لم يقتضِه لم يكن ذلك التصديقُ إيمانًا.

أما جواب الشبهة الثانية فمن ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يلزم على قولهم هذا أن من تكلَّم بسائر أنواع الكفر والتكذيب والجحود يجوز أن يكون مؤمنًا في نفس الأمر! وهذا لا يقوله إلَّا من خلعَ رِبْقة الإسلام من عُنقه.

ثانيها: أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن ما في القلب من المعرفة لا ينفع العبدَ ما لم يتكلَّم بالإيمان، فالقولُ من القادر عليه شرطٌّ في صحة الإيمان، فأهل السنة مطبقون أن الإيمان قولٌ وعملٌ.

ثالثها: قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل: 106].

فالمعنى: أن من تكلّم بكلمة الكفر فعليه غضبٌ من الله وله عذابٌ عظيم، وأنه كافر بذلك إِلا من أُكْرِه وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرًا من المُكْرَهين فإنه كافرٌ أيضًا، فصار كلُّ من تكلَّم بالكفر كافرًا إلا من أُكْرِه، فقال بلسانه كلمةَ الكفر، وقلبُه مطمئن بالإيمان.

ص: 13

إذن فلم يُرد بالكفر هنا اعتقادَ القلب، لأن ذلك لا يُكْرَه عليه الرجل، وإنما يُكره على القول فقط.

ومثله قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] فبيّن أنهم كفار بالقول.

وأخيرًا اعلم بأن الإيمان وإن قيل: هو التصديق، فالقلب يُصدِّق بالحق، والقول يصدق ما في القلب، والعمل يصدِّق القولَ، والتكذيب بالقول مُسْتلزم للتكذيب بالقلب، ورافعٌ للتصديق الذي كان في القلب، إذ أعمال الجوارح تؤثر في القلب كما أن أعمال القلب تؤثِّر في الجوارح، فأيهما قامَ به كُفْر تعدَّى حكُمه إلى الآخر

(1)

.

انتهى ملخَّصًا، وفيه غُنْية لمن ألقى السمعَ وهو شهيد، والحمد لله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء وما ربك بظلَّامٍ للعبيد.

* * *

(1)

راجع لمزيد من التأصيل والاستدلال، والمناقشة والرد، وتفصيل ما أُجْمِل كتابَ "الإيمان الأوسط" لشيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -.

ص: 14