المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو - مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول

[بدر الدين البعلي]

الفصل: سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو

سبًّا أو انتقاصًا أو عيبًا أو طعنًا ونحو ذلك فهو من السبّ، وما لم يكن كذلك [وهو كفر]، فهو كفر وليس بسبٍّ، [والمعتبر أن يكون سبًّا وأذًى للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سبًّا وأذًى لغيره]

(1)

؛ فعلى هذا كلُّ ما لو قيل لغير النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ تعزيرًا أو حدًّا بوجهٍ من الوجوه؛ فإنه من باب سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم كالقذف واللعن وغيرهما.

وأما ما يختصّ بالقدح في النبوَّة؛ فإن لم يتضمَّن [إلا] مجرَّد

(2)

عدم التصديق بنبوته؛ فهو كفر محضٌ، وإن كان فيه استخفافٌ واستهانةٌ مع عدم التصديق؛ فهو من السبِّ.

وهنا مسائل اجتهاديَّة يتردَّد الفقهاء هل هي من السبِّ أو من الرِّدة المحضة، ثم ما ثبت أنه ليس بسبٍّ؛ فإنْ استسَرَّ به صاحبُه فهو زندقة حكمه حكم الزنديق، وإلا فهو مرتدٌّ محض، واستقصاء الأنواع والفرق بينها له موضعٌ آخر.

‌فصلٌ

(3)

فأما الذمِّي فيجب التفريق بين مجرَّد كفره به وبين سبِّه، فإنَّ كفره به لا ينقض العهدَ ولا يُبِيْحُ دَمَ

(4)

المعاهد بالاتفاق، وأما سبُّه له فإنه ينقض العهدَ ويوجب القتلَ كما تقدم

(5)

.

(1)

زيادة متعيِّنة من "الصارم".

(2)

في الأصل: "فإنه لم يتضمن مجرد" والإصلاح من "الصارم".

(3)

"الصارم": (3/ 994).

(4)

في الأصل: "الدم" سهو.

(5)

ص/ 90 - وما بعدها.

ص: 104

قال القاضي: "عَقْد الذمة

(1)

يوجب إقرارهم على تكذيبه لا على سبِّه صلى الله عليه وسلم".

فنقول: الآثار عن الصحابة وعن السَّلف كلها مطلقة فيمن شتم من مسلمٍ ومعاهدٍ لم يُفَصِّلوا بين شتمٍ وشتمٍ، ولا بين أن يكرر الشتم أو لا يكرره، أو يُظهره أو لا يظهره، وأعني بقولي:"لا يظهره"، أن لا يتكلَّم به في ملأٍ من المسلمين، وإلَّا فالحدُّ لا يُقَام عليه حتى يشهد مسلمان أنهما سمعاه يشتم أو يُقرُّ بالشتم، اللهم إلا أن يُفْرَض أنه شتمه في بيته خاليًا؛ فسمعه جيرانه المسلمون أو من استرقَ السمع منهم.

وقال مالك وأحمد: كل من شتمه أو تنقَّصَه مسلمًا كان أو كافرًا قتِل

(2)

، وكذلك أطلقه سائر أصحابنا: أنه إن تنقَّصَه قُتِلَ مسلمًا كان أو كافرًا.

وذكر القاضي وابنُ عقيل: أنَّ ما أبطل الإيمان أبطل الأمانَ إذا أظهروه، وطَرَد ابنُ عقيلٍ

(3)

هذا القياس في كلَّ ما ينقض الإيمان من التثْنِية والتثليث

(4)

، كقول النصارى: إن الله ثالث ثلاثة، ونحو ذلك: أن الذمي متى أظهرَ ما يعلم

(5)

من دينه من الشرك نقضَ العهدَ.

(1)

في "الصارم": "الأمان".

(2)

انظر ما تقدم ص/ 90 - 91.

(3)

في "الصارم": "وطرد القاضي وابن عقيل

".

(4)

التثنية في عقيدة المجوس: اعتقاد التدبير والنفع والضُّر في (النور والظُّلمة).

والتثليث هي عقيدة النصارى: المعروفة في الأب والابن وروح القدس.

(5)

في "الصارم": "ما تعلمه".

ص: 105

قال القاضي: وقد نصَّ على ذلك أحمد في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئًا يعرِّض به الربّ فعليه القتل - مسلمًا كان أو كافرًا - وهذا مذهب أهل المدينة"

(1)

.

وقال أحمد في رجلٍ يهودي سمع مؤذِّنًا يؤذِّن فقال: كذبتَ، فقال: يُقْتَل لأنه شتم

(2)

.

وقال ابن القاسم فيمن سبَّه فقال: ليس بنبيٍّ، أو لم يُرْسَل، أو لم يَنْزل عليه قرآن وإنما هو شيءٌ قاله = يُقْتَل. وإن [قال]: إنه لم يُرْسَل إلينا وإنما أُرسِلَ إلى المسلمين، وإنما نبينا موسى أو عيسى = لا شيءَ عليهم

(3)

.

ولو قال: دينه خيرٌ من ديننا = أُدِّب وسُجِن طويلًا وهذا قول محمد بن سُحْنُون، وذكره عن أبيه، ولهم قولٌ إذا سبَّه بالوجه الذي به كَفَرَ

(4)

لا يُقْتَل، وبغيره يُقتل إلا أن يُسْلِم

(5)

.

وقال في اليهودي - إذا قال للمؤذَّن حين تشهده "كذبتَ" -: يُعَاقَب ويُسجن

(6)

، قد تقدم نصُّ الإمام أحمد في مثل هذه الصورة على القتل؛ لأنه شَتْم.

(1)

تقدم تخريجه ص/ 98.

(2)

"الجامع": (2/ 339 - أهل الملل).

(3)

انظر "الشفا": (2/ 485).

(4)

في "الصارم": "كفروا".

(5)

"الشفا": (2/ 486).

(6)

المصدر السابق.

ص: 106

وكذلك اختلف أصحاب الشافعيِّ في السبّ الذي ينتقض به عهدُ الذَّمي ويُقْتَل به إذا قلنا بذلك على وجهين:

أحدهما: ينتقض بمطلق السبِّ لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون ذلك دينًا، وهذا قول أكثرهم.

والثاني: أنهم إن ذكروه بما يعتقدونه فيه دينًا

(1)

مِن أنه ليس برسولٍ والقرآن ليس بكلام الله؛ فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث، قالوا: وهذا لا ينتقض العهدُ به بلا تردد، بل يُعَزَّر على إظهاره.

وأما إذا ذكروه بما لا يعتقدونه دينًا؛ كالطعن في نسبِه؛ فهو الذي قيل فيه: ينقض العهدَ، وهذا اختيار الصيدلاني وأبو المعالي

(2)

وغيرهما.

والأدلَّة تدلُّ على أن السبَّ بما يعتقدونه فيه دينًا وما لا يعتقدونه فيه دينًا سواء، وأنَّ مطلق السبَّ مُوجبٌ للقتل، وقد تقدم ذلك بما فيه كفاية. فإن الذين كانوا يهجونه ويعيبونه وينفَّرون عنه الناس إنما كان ذلك فيما يعتقدونه، ومع ذلك أمرَ بقتلهم.

وهذا الفرق متهَافِتٌ جدًّا

(3)

.

وأيضًا: لو قلنا: لا يكون سبًّا إلا ما ليس دينًا لهم أمْكَنَ كلُّ من

(1)

تحرفت العبارة في "الصارم": إلى: "أنهم إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون فيه دينًا من أنه

" وهو انتقال نظر من السطر الذي قبله.

(2)

الصيدلاني تقدَّم، وأبو المعالي هو: إمام الحرمين الجويني ت (478).

(3)

ذكر في الأصل ثلاثة وجوه للتهافت، وما ذكره المختصِر هو الثالث.

ص: 107

سبَّه أن

(1)

يقول: أنا اعتقده دينًا. وحينئذٍ فنقول:

التكلُّم في تمثيل سبَّه وذكر صفة

(2)

ذلك مما يثقُل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نَفُوهَ بذلك؛ لكن للحاجة إلى الكلام فنحن نفرض الكلام في أنواع السبِّ مطلقًا من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظَّه من ذلك فنقول:

السبُّ نوعان: دعاءٌ وخبر، أما الدعاء: فمثل أن يقول القائل لغيره من الناس: لَعَنَه الله، قبَّحه الله، أخزاه الله، لا رحمه الله، لا رضي الله عنه، قطعَ اللهُ دابِره، فهذا سبٌّ للأنبياء ولغيرهم، وكذلك لو قال عن نبيٍّ: لا صلَّى الله عليه ولا سلَّم، أو: لا رفع الله ذكرَه، أو: مَحَى الله اسمه، ونحو ذلك من الدعاء بما فيه ضررٌ في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة، فهذه كلُّه إذا صدر من مسلمٍ أو من معاهدٍ فهو سبٌّ، فيُقْتَل المسلم بكلَّ حالٍ، والذميُّ يُقْتَل بذلك إذا أظهره.

فأما إن أظهرَ الدعاءَ له وأبطنَ الدعاءَ عليه إبطانًا يُعرف من لَحْن القول، بحيث يفهمه بعض الناس دون البعض، مثل قوله:"السام عليكم" إذا أخرجه مخرج التحية، وأظهر أنه يقول:"السلام"؛ ففيه قولان:

أحدهما: أنه من السبِّ الذي يُقْتَل به، وإنما كان عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن اليهودي حين حيَّاه بذلك حالَ ضعف الإسلام، لمَّا كان مأمورًا بالعفو، وهذا قول طائفةٍ من المالكية والشافعية والحنبلية

(3)

.

(1)

غير محررة في الأصل، وفي "الصارم" كما هو مثبت.

(2)

"الصارم": "صفته"!

(3)

انظر "الشفا": (2/ 415 - 416)، و"فتح الباري":(12/ 293 - 294).

ص: 108

والقول الثاني: أنه ليس من السبِّ الذي ينقض العهد؛ لأنهم لم يُظهروا السبَّ ولم يجهروا به، وإنما أظهروا التحيَّة والسلام لفظًا وحالًا وحذفوا "اللام" حَذْفًا خفيًّا يَفْطُن له بعض السامعين، وقد لا يُفْطَن له

(1)

، ولهذا أُمِرْنا أن نردَّ عليهم، وجعل ذلك شرعًا باقيًا فينا، وهذا قول جماعةٍ من المتقدمين من أصحابنا وغيرهم.

ولا يقال: هذا دعاءٌ بالموت وهو حقٌّ ليس بسبٍّ. فإن الدعاء على المسلمين بالموت وترك الدين من أعظم السبِّ، كما أنَّ الدعاءَ بالصحة والسلامة كرامة.

النوع الثاني

(2)

: الخبر، فكلُّ ما عدَّه الناسُ شتمًا وسبًّا أو تنقُّصًا، فإنه يجب به القتل كما تقدم، فإن الكفر ليس مستلزمًا للسبِّ، والكلمةُ الواحدةُ تكون في حالٍ سبًّا وفي حالٍ ليست بسبٍّ، فعُلِمَ أنه يختلف باختلاف الناس والأحوال والأقوال، وإذا لم يكن للسبِّ حدٌّ لغويٌّ ولا شَرْعي رُجِعَ فيه إلى العُرْف، فما كان سبًّا في عُرْف الناس حُمِل عليه كلام الصحابة والعلماء وإلا فلا، ونحن نذكر من ذلك أقسامًا فنقول:

لا شكَّ أن إظهار التنقُّص والاستهزاء به عند المسلمين سبٌّ؛ كالتسمية باسم الحمار والكلب، أو وصفه بالمسكنة والخِزْي والمهانة، والإخبار بأنه في العذاب وأنّ عليه آثام الخلائق، وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذَّب؛ مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتالٌ، وأنه يضرُّ من اتبعه، فإن نَظَمَ ذلكَ شِعرًا فهو أبلغ في الشتم، فإنه يُحْفَظ.

(1)

في "الصارم": (3/ 1007): "وقد لا يفطن له الأكثرون".

(2)

"الصارم": (3/ 1009).

ص: 109

وأما إن أخبر عن معتقده بغير طعنٍ، مثل قوله: لست متَّبعه، لست مصدِّقه، أو: لا أُحبُّه، أو: لا أرضى به

(1)

ولا قرينةَ على تنقُّصه، فقد أخبر بمُعْتَقَدِه، وهو [يحصل لجهله]

(2)

أو لعناده وحسدِه وتقليد الأسلاف.

وإذا قال: "لم يكن رسولًا ولا هو نبيٌّ"؛ فهو تكذيب صريح، وكل تكذيب فقد تضمَّن نِسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب. لكن بين قوله:"ليس بنبي" وقوله "كذَّاب" فرقٌ من حيث أن هذا إنما تضمَّن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: "إني رسول الله"، وليس من نَفَى عن غيره بعض صفاته نفيًا مجرَّدًا كمن نفاها عنه ناسبًا له إلى التكذيب في دعواها، والمعنى الواحد يؤدَّى بعباراتٍ بعضها يُعَدُّ سبًّا وبعضُها لا يُعَدُّ سبًّا.

* * *

(1)

في "الصارم": "ولا أرضى دينه".

(2)

الكلمتان متآكلتان في الأصل، وانظر نحو ما أثبتُّ في "الصارم".

ص: 110