المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل (1) وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله إذا لم - مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول

[بدر الدين البعلي]

الفصل: ‌ ‌فصل (1) وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله إذا لم

‌فصل

(1)

وأما الآيات الدالة على كفر الشاتم وقتله إذا لم يكن معاهدًا، وإن كان مُظهرًا للإسلام فكثيرة، مع [أنه مُجْمَعٌ عليه]

(2)

.

منها: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 61 - 63]، فعُلِمَ أنَّ إيذاء رسول الله محادّة لله ولرسوله؛ لأن ذِكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذِكر المحادَّة؛ فيجب أن يكون داخلًا فيه، فيدل على أنَّ الإيذاء والمحادّة كفر؛ لأنه أخبر أن له نارَ جهنَّم خالدًا فيها

(3)

؛ بل المحادة هي المعاداة وذلك كُفْر ومُحاربة، فيكون المؤذي لرسول الله كافرًا عدوًّا لله ورسوله محاربًا لله ورسوله.

وفي الحديث: أن رجلًا كان يسبُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن يَكْفِيني عَدُوِّي"

(4)

.

(1)

"الصارم": (2/ 58).

(2)

متآكل في النسخة والإكمال من "الصارم".

(3)

قال الشيخ: "ولم يقل: "هي جزاؤه" وبين الكلامين فرقٌ" اهـ.

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": (5/ 237، 307) عن عكرمة مولى ابن عباس مرسلًا، وفيه رجلٌ لم يُسَمَّ، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية":(8/ 45) من طريق إبراهيم بن أدهم عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس = فذكره. قال أبو نعيم عقبه: "غريب من حديث إبراهيم لم نكتبه إلا من هذا الوجه" اهـ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق: (5/ 307) ومن طريقه ابن حزم في "المحلى": (11/ 413) من طريق سِماك بن الفضل أخبرني عروة بن محمد - هو السعدي - عن رجلٍ من بلقين

بنحوه، وكان القاتل هنا خالد بن الوليد، وفي الأول الزبير بن العوام.

والحديث احتج به عليٌّ بن المديني، وصححه ابن حزمٍ قال:"هذا حديث مسندٌ صحيح". أقول: وفيه عروة بن محمد السعدي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب":"مقبول".

ص: 41

وأيضًا قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، فإذا كان من يُوادِد المحادّ ليس بمؤمن، فكيف بالمحاد نفسِه؟!

وقيل: إن سبب نزولها أن أبا قُحافة شتم النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أبو بكرٍ قتلَه

(1)

، فثبتَ أن المحادَّ كافر حلال الدَّم.

الدليل الثاني

(2)

: قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا} إلى قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة: 64 - 66]، وهذا نصٌّ أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفرٌ صريح، فدلَّت الآية أنَّ كلَّ مُتَنَقِّصٍ رسولَ الله جادًّا أو هازلًا

(3)

= فقد كفر.

الدليل الثالث

(4)

: قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] واللَّمز: العَيْب والطَّعْن.

وقال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ

} الآية [التوبة: 61]، فدل على أنَّ كل من لمزه وآذاه كان منهم، فلما أخبر أنَّ الذين يلمزون النبي ويؤذونه من المنافقين ثبت أنه دليل على النفاق.

الدليل الرابع

(5)

: قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]، أقسم - سبحانه - بنفسه أنهم لا

(1)

أخرجه ابن المنذر من طريق ابن جُرَيج حُدِّثتُ أن أبا قحافة

الخبر. انظر: "الدر المنثور": (6/ 274)، و"أسباب النزول":(ص/ 478) للواحدي. وقيل في سبب نزولها غير ذلك.

(2)

"الصارم": (2/ 70).

(3)

رسمت في الأصل "هزلًا".

(4)

"الصارم": (2/ 75).

(5)

نفسه: (2/ 80).

ص: 42

يؤمنون حتى يُحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في نفوسهم ضِيقًا من حكمه، بل يُسلِّموا تسليمًا لحكمه ظاهرًا وباطنًا.

وقال قبل ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 60، 61]، فبيَّن أن من دُعِيَ إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله، فصدَّ عن رسوله، كان منافقًا، مع قوله:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فمن تولَّى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه، فهو منافق وليس بمؤمن، بل المؤمن من يقول: سمِعْنا وأطَعْنا.

وإذا ثبت النفاقُ بمجرَّد الإعراض عن حكم الرسول، فكيف بالتنقُّص والسَّبِّ ونحوه؟!

الدليل الخامس

(1)

: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} الآية [الأحزاب: 57]، فَقَرَنَ أذاه بأذاه، كما قرن طاعته بطاعتِه، فمن آذاه فقد آذى الله، وقد جاء ذلك منصوصًا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، يوضِّحه أنه جعل محبةَ الله ورسوله، وإرضاءَ الله ورسوله، وطاعةَ الله ورسوله شيئًا واحدًا، وجعل شِقَاقَ الله ورسوله [و]

(2)

محادَّة الله ورسوله، وأذى الله ورسوله، ومعصيةَ الله ورسوله، شيئًا واحدًا، ففي ذلك بيانٌ لتلازم الحَقَّيْن، وأن جهةَ الله ورسوله جهةٌ واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاع الرسول فقد أطاع

(1)

"الصارم": (2/ 85).

(2)

سقطت سهوًا من المؤلِّف.

ص: 43

الله؛ لأنه واسطة بين الله وبين الخلق، ليس لأحدٍ منهم طريق غيره، وقد أقامه مُقامَ نفسِه في أمره ونهيه، وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن نفرِّق

(1)

بين الله ورُسُلِه في شئٍ من هذه الأمور.

وأيضًا: فإنه فرَّق بين أذى الله ورسوله، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعلَ هذا قد احتمل بهتانًا وإثمًا مُبِينًا، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعدَّ له العذاب المهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون فيه الجَلْد فيكون من كبائر الإثم، وليس فوقه إلا الكفر والقتل.

وأيضًا: فإنهم

(2)

لعنهم، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ولا يُطرَد من رحمته في الدنيا والآخرة إلا الكافر، فلا يكون محقون الدم، بل مباحه؛ لأن حَقْنَه رحمةٌ عظيمة، يؤيده قوله:{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)} [الأحزاب: 61].

يؤيده: أنَّ سائر من لعنه الله في كتابه؛ إمَّا كافر أو مُباح الدم.

فإن قيل: يَرِد عليك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] مع أنَّ مجرَّد القذف ليس بكفر.

فجوابُه من وجوه:

أحدها: أن هذه الآية نزلت في عائشة رضي الله عنها قاله ابن

(1)

في "الصارم": "يُفَرَّق" والرسم والمعنى يحتمل الضبطين.

(2)

كذا، والأصح:"فإنه" كما في "الصارم".

ص: 44

عباسٍ

(1)

وغيره، ففي قذفها طعنٌ وأذىً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإن زِنى امرأةِ الرَّجلِ يؤذيه. ولهذا ذهب أحمد - في روايةٍ عنه - إلى أن من قذف امرأةً غير محصنةٍ كالأمَةِ والذِّمِّية، ولها زوجٌ أو ولد محصن حُدَّ لقذفها، لما يلحقه من العار بولدها وزوجها المحصَنَيْن، فتكون هذه الآية خاصة بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من يقصد عيبَ النبيِّ بعيبِ أزواجه فهو منافق، فأما من رَمَى امرأةً من المسلمين فهو فاسق، كما قال تعالى، أو يتوب، ويكون الألف واللام في قوله:{يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} ، عهديَّة راجعة إلى معهودٍ وهم أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكلام في قصة الإفك، أو يُقْصَر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهنَّ بالإيمان، وهنَّ أُمهات المؤمنين، وهنَّ أزواجه في الدنيا والآخرة.

وقال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11] فعُلِمَ أن الذي يرمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولّى كِبْر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أُبَيٍّ. فرميهنَّ نفاق مُبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أُوذِيْنَ بعد العلم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأةُ نبيٍّ قطُّ.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في "الصحيحين"

(2)

: "مَنْ يَعْذِرُني مِن

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - وابن مردويه، كما في "الدر المنثور":(5/ 64). وفي سند الحاكم سعيد بن مسعود (هو المروزي) ذكره ابن حبان في "الثقات": (8/ 271)، ووقع فيه "يروي عن يزيد بن مروان"! وهو تحريف عن "يزيد بن هرون".

(2)

البخاري رقم (2637، 4141 وغيرها)، ومسلم رقم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 45

رجلٍ قد بلغني أذاهُ في أهل بيتي فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا

" الحديث.

وفيه: فقال سعد بن مُعاذ: "أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عُنُقَه" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على سعدٍ استيماره في ضرب أعناقهم.

ولا يَرِدُ على ذلك مِسْطح وحسَّان وحَمْنَة، وإن كانوا في أهل الإفك، فإنهم لم يُرْموا بنفاقٍ، ولم يقتل النبي أحدًا في ذلك السبب، بل اخْتُلف في جلدهم، فإنهم لم يقصدوا أذى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ظهر منهم دليل أذاه، بخلاف ابن أُبَيٍّ الذي إنما كان قصده أذاه.

وأيضًا: لم يكن قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواجه في الآخرة، وكان وقوع ذلك منهنَّ ممكنٌ عقلًا، ولذلك توقَّف النبي صلى الله عليه وسلم في القصَّة.

الوجه الثاني: أن الآية عامة، وقد رُويَ من غير وجهٍ أنّ قذف المحصنات من الكبائر

(1)

، ثم قد يقال

(2)

: هي في مشركيِّ العرب من أهل مكة، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله مهاجرةً قذفها المشركون من أهل مكة، فيكون ذلك فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدُّهُنَّ به عن الإيمان، ويقصد ذمَّ المؤمنين لِيُنَفِّر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف.

(1)

جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها في "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبعَ الموبقات

" وعدَّ منها قذف المحصنات. البخاري رقم (2766) ومسلم رقم (89).

(2)

هو قول أبي حمزة الثمالي الكوفي التابعي.

ص: 46

وعلى هذا؛ فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلةِ من سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

وقد يقال: هي عامَّة مُطلقًا؛ ولكن قوله: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23] هو مبنيٌّ للمفعول، فلم يُسَمَّ اللاعِن من هو، فيجوز أن يكون اللاعن غيرُ الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقتٍ، أو يلعن بعضَهم دون بعضٍ، ويلعنُهم بعضُ خَلْقِه في وقتٍ. واللهُ إنَّما يلعن من كان قذفه طعنًا في الدين، وأما لعنةُ خلقِه بعضهم لبعضٍ فقد تكون بمعنى الدعاء عليهم، وقد يكون بمعنى أنهم يُبْعِدونهم عن رحمة الله، ويؤيده أن الرجلَ إذا قذفَ زوجته تلاعَنا، وكذلك قوله:{فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}

(1)

[آل عمران: 61] فمما يُلْعن به القاذف أن يُجْلَد وتُرَد شهادتُه ويُفَسَّق، فإنه عقوبة له، وإقصاءٌ عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنةَ اللهِ تُوجِبُ زوال النصر عنه من كلِّ وجهٍ، وبُعده عن أسباب الرحمة.

يؤيده أنه قال هنا: {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]، ولم يجئ العذاب المُهين في القرآن إلا للكافرين، كقوله:{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}

(2)

[البقرة: 90].

(1)

في "الصارم": (2/ 108) العبارة هكذا: "ويؤيد هذا أن الرجل إذا قَذَف امرأتَه تلاعَنا، وقال الزوج في الخامسة: "لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين" فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يُباهِل من حاجَّه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يُلْعن به القاذف، ومما يُلْعن به

".

(2)

وفي آياتٍ أُخرى كثيرة.

ص: 47

وأما قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 14]؛ فهي فيمن جحد الفرائض واستخفَّ بها، على أنه لم يذكر أنه أعدَّه له. والعذاب إنما أُعِدَّ للكافرين، فإنَّ جهنمَ لهم خُلِقت؛ لأنهم لا بُدَّ لهم من دخولها

(1)

وما هم منها بمُخْرَجين.

وأما أهل الكبائر من المؤمنين فيجوز ألا يدخلوها إذا غُفِر لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بَعْد حين.

الدليل السادس: قوله - سبحانه -: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية [الحجرات: 2].

فوجه الدلالة: أنه - سبحانه - نهاهم عن رفع أصواتهم فوقَ صوتِهِ، وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعضٍ، لأن ذلك قد يُفْضي إلى حُبوط العمل وصاحبه لا يشعر، وما يُفْضي إلى حبوط العمل يجبُ تركُه غايةَ الوجوب، والعملُ يحبطُ بالكفر لقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ولا تحبط الأعمال بغير الكفر، لأن من مات مؤمنًا لا بُدَّ له من دخول الجنة، ولو حبط عملُه كلُّه لم يدخلها، نعم قد يبطل بعضُها بوجود ما يفسده، كالمنِّ والأذى.

وإذ ثبتَ أن رفعَ الصوت والجهر به يُخاف منه أن يكفر صاحبُه وهو

(1)

سها المؤلف في كتابتها، ثم حاول إصلاحها ولم يتبيَّن مراده، فاجتهدت في إصلاحها.

ص: 48

لا يشعُر؛ لأن فيه سوء أدب واستخفاف وهو لا يشعر به؛ فكيف بمن يسبُّه ويستخفُّ به ويؤذيه مع قصده له وتعمُّده لذلك؟! فهو كافر بطريق الأَوْلى.

الدليل السابع: قوله - سبحانه -: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].

فأمر من يخالف أمره أن يحذر الفتنة وهي الرِّدَّة والكفر، لقوله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193].

قال الإمام أحمد

(1)

: "الفتنة الشرك، لعلَّه إذا

(2)

ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شئٌ من الزيغ فيُهْلِكَه" وجعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].

قال

(3)

: فأَتعجَّبُ من قومٍ عرفوا الإسنادَ وصحتَه ويذهبون إلى رأي فلان أو فلان، قال: فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] تدري ما الفتنة؟ الكفر، فيدعون الحديثَ وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي.

وإذا كان المخالف

(4)

لأمره قد حُذِّر من الكفر أو العذاب الأليم، وإفضاؤه إلى الكفر إِنَّما هو لما قد يقترنُ به من استخفافٍ بحقِّه كما

(1)

في رواية الفضل بن زياد.

(2)

في الأصل: "أن إذا" وهو سبق قلم.

(3)

أي الإمام أحمد في رواية أبي طالب أحمد بن حميد المشكاني.

(4)

في الأصل: "المخالفة" والمثبتُ هو الصواب كما في "الصارم": (2/ 117).

ص: 49

فعل إبليس، فكيف بمن عمل ما هو أعظم من ذلك من السبِّ والانتقاص ونحوه؟!

وهذا باب واسعٌ مع أنه بحمد لله مُجْمَعٌ عليه.

الدليل الثامن

(1)

: أنه - سبحانه - قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا

} [الأحزاب: 53]. فحرَّم على الأمَّة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأنه يؤذيه، وجَعَله عظيمًا عند الله، ثم إن من نكح أزواجه أو سرارِيْه عقوبته القتل جزاءً له بما انتهك من حُرمته، فالشَّاتِم له أولى، والدليل على ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه"

(2)

عن أنسٍ أن رجلًا كان يتَّهم بأُمِّ ولد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر عليًّا أن يضربَ عُنُقَه، فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكيٍّ

(3)

يتبرَّد، فقال له: اخرج، فتناول يده فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوب ليس له ذَكَر، فكفَّ عليٌّ، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: إنه مجبوب ما له ذَكَر.

وكذلك لما تزوَّج رسول الله قَيْلَةَ

(4)

بنت قَيْس أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تَقْدَم عليه

(5)

، وقيل: إنه خيَّرها بين

(1)

"الصارم": (2/ 120).

(2)

رقم (2771).

(3)

الرَّكِي: البئر.

(4)

وقيل: اسمها "قُتَيْلَة".

(5)

أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة": (6/ 3245) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما. وقال الحافظ عن سنده في "الإصابة": (4/ 394): "موصول قوي الإسناد".

ص: 50

أن يضرب عليها الحجاب وتكون من أمهات المؤمنين، وبين أن يطلِّقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاحَ، فتزوَّجها عكرمةُ بعد رسول الله، فبلغ أبا بكرٍ فَهَمَّ بقتلهما حتى قال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، فتركها

(1)

.

* * *

(1)

أخرجه ابن جرير في "تفسيره": (10/ 327) عن عامر الشعبي مرسلًا. وانظر "المستدرك": (4/ 38)، و"الإصابة":(4/ 393)، و"تفسير ابن كثير":(3/ 513).

ص: 51