المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصلٌ (1) وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد نُقِل ذلك - مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول

[بدر الدين البعلي]

الفصل: ‌ ‌فصلٌ (1) وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد نُقِل ذلك

‌فصلٌ

(1)

وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد نُقِل ذلك عنهم في قضايا متعدِّدة منتشرة مستفيضة، ولم يُنكرها أحدٌ منهم = فصارت إجماعًا.

قال شيخ الإسلام: واعلم أنَّه لا يمكن ادَّعاء إجماع الصحابة على مسألةٍ فرعيَّةٍ بأبلغَ من هذه الطريق.

فمن ذلك ما ذكره سيفُ بن عُمر التميمي

(2)

قال: رُفِعَ إلى المُهَاجِر

(3)

امرأتان مُغَنِّيَتَان، غنت إحداهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم؛ [فـ]ـقطع يدها وَنزعَ ثناياها، وغنَّت الأخرى بهجاء المسلمين؛ فقطع يدها ونزع ثنيَّتها.

فكتب إليه أبو بكرٍ: بلغني الذي سِرْت به في المرأة التي غنَّت بشَتْم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا ما قد سبقتني فيها لأَمَرْتُك بقَتْلِها؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يُشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدٌّ، أو معاهد فهو محارب غادِر.

وكتب إليه في التي تغنَّت بهجاء المسلمين: أما بعد فإنه بلغني أنك قطعتَ يدَ امرأةٍ تغنَّت بهجاء المسلمين ونزَعْت ثنيَّتَّها، فإن كانت ممن

(1)

"الصارم": (2/ 378).

(2)

في كتاب "الردة والفتوح".

(3)

هو: المهاجر بن أبي أمية المخزومي، أخو أم سلمة أم المؤمنين، شهد بدرًا، وبعثه أبو بكر لقتال المرتدين جهة اليمن. "الإصابة":(3/ 465).

ص: 78

تدعي الإسلام فأدبٌ وتَقْدمه دون المُثلَة، وإن كانـ[ـت] ذِمِّية فلَعَمْري لَمَا صفحت عنه من الشِّرك، أعظم، ولو كنتُ تقدمتُ إليك في مثل هذا لبلغت مكروهك، فاقبل الدَّعَة وإياك والمُثْلَة في الناس، فإنها مأثَم ومَنْفَرة إلا في قِصاصٍ.

وذكر هذه القصة غير سيف

(1)

، وهذا يوافق ما تقدَّم عنه: أنه من شتم النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتله، وليس ذلك

(2)

لأحدٍ بعده، وهذا صريح في وجوب قتل من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلمٍ ومعاهد، وإن كانت امرأةً، وأنه يُقتل بدون استتابةٍ، بخلاف من سبَّ الناس، وأن قتلها

(3)

حدٌّ للأنبياء، كما أن جَلد من سبَّ غيرهم حدٌ له، وإنما لم يأمره بقتْلِها؛ لأنه اجتهد فيها وعمل لها حدًّا، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمعَ عليها حدَّين، ويُحْتمل أنها أسلمت أو تابت فقبِل المُهَاجِر توبتَها قبل كتابِ أبي بكرٍ، وهو محلُّ اجتهادٍ سبق فيه حكمٌ فلم يُغيِّرْه أبو بكرٍ؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.

وروى حَرْبٌ في "مسائله"

(4)

عن ليث عن مجاهد قال: أُتي عمر رضي الله عنه برجلٍ سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقتله ثم قال: من سبَّ الله أو رسولَه أو أحدًا من أنبيائه فاقتلوه.

(1)

كالطبري في "التاريخ": (2/ 305 - 306)، لكنها من طريق سيفٍ أيضًا. وسندها فيه انقطاع مع ضعف سيف بن عمر.

(2)

في الأصل "لذلك"! وهو سبق قلم.

(3)

كذا بالأصل وبعض نسخ الصارم، وفي أخرى:"قتله".

(4)

"مسائل حرب للإمام أحمد" لا تزال مخطوطة لم تطبع بعدُ.

ص: 79

وقال مجاهد عن ابن عباس: أيُّما مسلمٍ سبَّ الله أو رسوله أو أحدًا من الأنبياء، فقد كذَّب برسول الله، وهي رِدَّة، يُستتابُ فإن تابَ وإلا قتل، وأيُّما معاهدٍ سبَّ أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد فاقتلوه.

وروى حَرْب

(1)

- أيضًا - أن عمر قال للنَّبَطيّ الذي كتب له كتابًا حين دخل الشام، وكان قد وقع منه شيءٌ فقال:

(2)

لم أُعْطِك الأمان فتُدْخِل علينا في ديننا

(3)

، لئن عُدْتَ لأضربنَّ عُنُقَك

(4)

.

فهذا عمر رضي الله عنه بمحضرٍ من الصحابة من المهاجرين والأنصار يقول لمن عاهده: إنَّا لم نُعْطك العهد على أن تُدْخِل علينا في ديننا، وحلف لئن عاد ليضربنَّ عُنقَه، فَعُلِمَ بذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن أهل العهد ليس لهم أن يُظهروا الاعتراض علينا في ديننا، وأن ذلك مُبِيْح لدمائهم.

وإن من أعظم الاعتراض سبَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به.

ورُوِيَ عن ابن عمر: أنه مَرَّ براهبٍ، فقيل له: هذا يسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: لو سمعته لقتلْتُه

(5)

.

(1)

لعله في "مسائله" للإمام أحمد.

(2)

هنا ثلاث كلمات لم أتبين وجهها، والكلام يستقيم بدونها.

(3)

العبارة في الأصل: "

فقال:

لم أعطك لتدخل علينا في ديننا، لم أعطك الأمان لتدخل علينا في ديننا

"! وهي قَلِقَة. وما أثبته أوضح، وهو بنحوه في "الصارم".

(4)

وأخرجه - أيضًا - المعافى النهرواني في "الجليس الصالح": (3/ 305 - 307)، وابن عساكر في "تاريخه".

(5)

تقدم تخريجه ص/ 32 - 33.

ص: 80

وذكر هذا الحديث غير واحدٍ، وتقدم حديثُ صَبِيْغ مع عمر

(1)

، وحديث ابن عباسٍ في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة

(2)

.

وبخبر خالد بن الوليد: أنه قتل امرأةً سبَّت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد

(3)

.

وذكر ابن المبارك بسنده أن غَرَفة بن الحارث الكِنْدي - وكانت له صحبة - سمع نصرانيًّا شتم النبي صلى الله عليه وسلم، فضربه فدَقَّ أنْفَه، فرُفِع إلى عَمْرو

(4)

بن العاص، فقال: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال غَرَفة: معاذ الله أن نُعطيهم العهد على سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له عمرو: صَدَقتَ

(5)

.

فهذه أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ رضي الله عنهم.

* * *

(1)

لم يتقدم في هذا "المختصر" شيء وإنما تقدم في "الصارم": (2/ 356) وقال شيخ الإسلام هناك: "رواه الأموي وغيره بإسناد صحيح" اهـ.

والقصة أخرجها الدارمي في "السنن" رقم (146)، والآجري في "الشريعة" رقم (152، 153)، واللالكائي رقم (1136 - 1138)، وابن بطة في "الإبانة" رقم (308، 309) وغيرهم، وهي قصة مشهورة صححها غير واحد من أهل العلم، وانظر "الإصابة":(2/ 198) في ترجمة صَبِيْغ.

(2)

تقدم (ص/ 44 - 45).

(3)

رواه من طريقه الخلال في "الجامع": (2/ 342 - أهل الملل) عن عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن سماك بن الفضل عن رجلٍ من بلقين به.

وأخرجه البيهقي في "الكبرى": (8/ 202 - 203) عن ابن مهدي به. وفي سنده من لم يُسَمَّ. وانظر (ص/ 41 - هامش 4).

(4)

في الأصل: عُمر، وهو سهو. بدليل ما بعدها.

(5)

أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير": (7/ 110)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية":(رقم 2048 - مسندة)، والبيهقي في "الكبرى":(9/ 220)، وصحح البوصيري إسناده (5/ 215).

لكن رواية أبي يعلى فيها: أن غَرَفة قتل النصراني، وبقية المصادر فيها أنه دقّ أنفه.

ص: 81

وأمَّا الاعتبار، فمن وجوه:

أحدها: أن عيب ديننا وشتم نبينا مجاهدة لنا ومحاربة؛ فكان نقضًا للعهد كالمحاربة باليد وأوْلَى.

يُبَين ذلك قوله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(1)

[التوبة: 41]، والجهاد في النفس يكون باللسان كما يكون باليد.

الوجه الثاني: أنا وإن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر، فهو إقرار على ما يُضْمِرونه من العداوة، وأما إظهار السبِّ لله ولرسوله ودينه؛ فهو محاربة تنقض العهدَ.

الوجه الثالث: أنَّ مطلق العهد الذي بيننا وبينهم يقتضي أن يكفُّوا عن إظهار الطعن والشتم، كما يقتضي الإمساك عن سفك الدماء، بل السبّ أعظم من سفك الدماء، لأنا نبذل المال والنفسَ على أن نعزِّر الرسول ونعظَّمه ويعلو الدين

(2)

، وهم يعلمون ذلك من ديننا فإذا خالفوه انتقض عهدُه.

الوجه الرابع: أن العهد الذي عاهدهم عليه عمر رضي الله عنه قد بيَّن فيه ذلك وشَرَطَه عليهم، كما روى ذلك حَرْب بإسنادٍ صحيح عن عبد الرحمن بن غَنْم

(3)

.

(1)

وقع في الأصل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ! ولا توجد آية بهذا النظم، ولعله سبق قلم.

(2)

كذا قرأت العبارة، وهي في "الصارم":(2/ 392): "

ونبذل الأموال في تعزير الرسول وتوقيره ورفع ذكره وإظهار شرفه وعلو قدره

".

(3)

في كتاب عمر رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام.

ص: 82

الوجه الخامس: أن العقد مع أهل الذّمة على أن تكون الدار لنا تجري فيها أحكام الإسلام، وعلى أنهم أهل صَغَارٍ وذِلَّةٍ، على هذا عُوهِدوا وصُولحوا، فإظهار شتم الرسول والطعن في الدين يُنافي كونهم في صَغَارِ وذِلَّةٍ.

الوجه السادس: أن الله فرض علينا تعزير رسوله وتوقيره ونصره ومنعه وإجلاله وتعظيمه، وذلك يُوْجِب صونَ عِرضِه بكلِّ طريقٍ.

الوجه السابع: أن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضٌ علينا؛ لأنه من التعزير، وهو من أعظم الجهاد، وقد قال تعالى:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، بل نصر آحاد المسلمين واجب، فكيف بِنَصْر سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثامن: أن الكفار قد عُوهِدوا على أن لا يُظهروا شيئًا من المنكرات المختصَّة بدينهم، فمتى أظهروا شيئًا منها عوقبوا؛ فكذلك إذا أظهروا سبَّ الرسول استحقوا عقوبة ذلك، وهي القتل.

الوجه التاسع: أنه لا خِلاف بين المسلمين أنهم ممنوعون من إظهار السبَّ، وأنهم يُعاقَبون عليه إذا فعلوه بعد النَّهْي، فَعُلِمَ أنهم لم يُقَرُّوا عليه، وإذا فعلوا ما لم يُقَرُّوا عليه من الجِنايات استحقوا عقوبته بالاتفاق، وسبُّ غيرِ الرسول يوجبُ جَلْدَهم، فكذلك سبُّ الرسول يوجب قتلَهم.

الوجه العاشر: أن القياس الجلي يقتضي أنهم متى خالفوا شيئًا مما عُوهِدُوا عليه انتقض عهدُهم، كما ذهب إليه طائفةٌ من الفقهاء، وإذا لم يفوا بما عُوهِدُوا عليه انفسخَ عقدُهم كما ينفسخ البيع وغيره إذا لم

ص: 83

يفِ أحد المتعاقدين بما شَرَطَه، والحكمة ظاهرة؛ فإنه إنما التزمَ ما التزمَه بشرطِ أن يلتزم الآخر بما التزمه، فإذا لم يلتزم له الآخر صار هذا غير ملتزم، فإن الحكم المعلَّق بشرطٍ لا يثبت عند عدمه باتفاق العقلاء.

إذا تبيَّن ذلك، فإن كان المعقود عليه حقًّا للعاقد، له أن يَبْذله بدون الشرط، لم ينفسخ العقد بفواته، بل له فسخه، كما إذا شرَط رهنًا في البيع.

وإن كان حقًّا لله أو لغيره ممن يتصرَّف له بالولاية؛ لم يَجُز إمضاء العقد، بل ينفسخ بفوات الشرط، أو يجب فسخُه، كما إذا شَرَطَ الزوجةَ حُرة مسلمة فبانت وثنيَّة.

وعقد الذِّمة ليس حقًّا للإمام؛ بل هو حق لله ولعامة المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما شُرِط عليهم فقد قيل: يجب على الإمام فسخ العقد، وفَسْخُه: أن يُلْحِقَه بمأمَنِه ويُخرجه من دار الإسلام، وهذا ضعيف؛ لأن الشرط حقٌّ لله، فينفسخ العقد بفواته من غير فسخٍ، وهنا شروط

(1)

الذمة حق لله.

ولو فُرِض جواز إقرارهم بلا شرط، فإنما ذاك فيما لا ضرر فيه على المسلمين، فأما ما يضرُّ بالمسلمين، فلا يجوز إقرارهم عليه بحال، ولو فُرِض إقرارهم على ما يضرُّ المسلمين في أنفسهم وأموالهم فلا يجوز إقرارهم على إفساد

(2)

دين الله والطعن على كتابه ورسوله.

ومقتضى عقد الذِّمة أن لا يُظهروا سبَّ الرسول، كما أن سلامة

(1)

وقع في الأصل سهوًا: "شر"!

(2)

في الأصل: "فساد" والمثبت من "الصارم".

ص: 84

المبيع من العيوب، وحلول الثمن، وسلامة المرأة والزوج من الموانع، وإسلام الزوج وحُرِّيته = من مُوْجب العقدِ المطلقِ ومقتضاه، فإن موجب العقد هو ما يظهر عُرْفًا وإن لم يُتَلَفَّظ به. والإمساك عن الطعن والسبّ مما يُعْلَم أن المسلمين يقصدونه بعقد الذِّمة، ويطلبونه كما يطلبون الكفَّ عن مقاتلتهم وأَوْلَى، فإنه من أكبر المؤذيات.

فإن قيل

(1)

: أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم، ومنه استحلال السبِّ، فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه.

قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكلِّ طريق، ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوا نُقِضَ عهدهم، وذلك لأنا وإن كنَّا نُقِرُّهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا

(2)

ما يخفونه، فلم نقرّهم على أن يُظْهِروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين، ونحن لا نقول بنَقْض عهد السابّ حتى نسمَعَه أو يشهد به المسلمون، فمتى حصل ذلك كان قد أظهروه

(3)

.

ولو أقررناهم على دينهم لأقْررناهم على هدم المساجد، وإحراق المصاحف، وقتل العلماء والصالحين، فإنهم يدينون بذلك، ولا خِلافَ أنهم لا يُقَرُّون على شيءٍ من ذلك أَلبتةَ.

* * *

(1)

انظر "الصارم": (2/ 448).

(2)

في الأصل: "يخفون"، وهو خطأ.

(3)

كذا، وفي "الصارم":"أظهره وأعلنه". وهو أصح.

ص: 85