المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الأدلة على وجوب قتل الساب] - مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول

[بدر الدين البعلي]

الفصل: ‌[الأدلة على وجوب قتل الساب]

وأما الشافعي؛ فالمنصوص عنه أنه ينتقض العهد به، وأنه يُقتل

(1)

، وأما أصحابه فذكروا فيما إذا ذَكَر اللهَ أو رسولَه أو كتابَه بسوءٍ: وَجْهَين، ومنهم من فرَّق بين أن يكون مشروطًا أو لا، ومنهم من حكى هذه الوجوه أقوالًا، والمنصور في كتب الخلاف عنه: أَن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ينقضُ العهدَ، ويوجبُ القتلَ.

وأما أبو حنيفة وأصحابه؛ فقالوا: لا ينتقض العهد بالسبِّ، ولا يُقتل بذلك لكن يُعَزّر على إظهار المنكرات، ومن أصولهم: أن ما لا قتلَ فيه عندهم، مثل القتل بالمثقَّل، والجِماع في غير القُبُل إذا تكرر، للإمام أن يقتلَ فاعلَه، وله أن يزيد على الحدِّ المقَدَّر إذا رأى المصلحةَ، ويحملوا

(2)

ما جاء عن النبيّ وأصحابه من القتل في مثل هذه الجرائم، على أنه رأى المصلحةَ في ذلك، ويسمونه: القتلَ سياسةً.

وحاصله: أن له أن يُعزِّر بالقتل في الجرائم التي تغلَّظت بالتَّكْرَار، وأفتى أكثرهم بقتل مَن أكثر مِن سبِّ الرسول مِن أهل الذِّمة، وإن أسلمَ، قالوا: يُقتل سياسةً.

[الأدلة على وجوب قتل الساب]

والدليلُ على وجوب قتل السَّابِّ لله أو رسوله أو دينه أو كتابه، ونقض عهده بذلك - إن كان ذِمِّيًّا -: الكتابُ والسنةُ وإجماعُ الصحابة والتابعين والاعتبار.

= إلى الأخرى وجعل المسألتين على روايتين مع وجود الفرق بينهما نصًّا واستدلالًا، أو مع وجود معنى يجوز أن يكون مستندًا للفرق غير جائزٍ" اهـ.

(1)

انظر "الأم": (4/ 208 - 211).

(2)

كذا، وفي أصله:"يحملون".

ص: 35

أما الكتاب، فمواضع

(1)

:

أحدها: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 29] فأمرَ بقتالهم إلى أن يُعطوا الجزية وهم صاغرون، فلا يجوز تركهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية، ومعلومٌ أن إعطاءهم الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، وإذا كان الصَّغَار حالًّا لهم في جميع المدَّة، فمن سبَّ الله ورسوله فليس بصاغرٍ؛ لأنَّ الصاغِرَ: الحقيرُ، وهذا فِعْل متعزِّزٍ مُرَاغِم.

قال أهل اللغة: الصَّغَار: الذُلُّ والضَّيْم.

الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 7 - 12]. نفى سبحانه أن يكون لهم عهد إلا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلِمَ أن العهدَ لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيمًا، ومعلومٌ أنَّ مجاهرتَنا بالوقيعة في ربِّنا ونبيِّنا وكتابِنا ودينِنا يقدح في الاستقامة، كما لو حاربونا، بل ذلك أشدّ علينا إن كنا مؤمنين، فإنه يجب علينا أن نبذلَ دماءَنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العُلْيا، ولا يُجْهَر في ديارنا بشئٍ من أذى الله ورسوله، يوضِّحه قوله:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8] أي: كيف يكون لهم عهدٌ ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرَّحِمَ ولا العهد! فعُلِمَ أن من كانت حالُه أنه إذا ظَهَرَ لم يرقُبْ ما بيننا وبينه من العهد، لم يكن له عهد، ومن جاهَرَنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلًا

(1)

"الصارم": (2/ 32 - 57).

ص: 36

على أنه لو ظَهَر لم يرقُبْ العهدَ، فإنه مع وجود الذِّلَّة يفعل هذا، فكيف يكون مع العِزَّة!؟ وهذا بخلاف من لم يُظْهِر لنا مثل هذا الكلام.

الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12].

وهذه الآية تدل من وجوهٍ:

أحدها: أن مجرَّد نكث الأيمان مقتضٍ للمقاتلة، وذِكْره الطعنَ في الدين تخصيصًا له بأنه من أقوى الأسباب الموجبةِ للقتال، أو ذَكَره على سبيل التوضيح وبيان سبب القِتال، أو لأنه

(1)

أوجبَ القتالَ في هذه الآية بقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، وبقوله:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13]، فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلّا مجرَّد نكث اليمين جاز أن يُؤَمَّن ويُعاهد، فأمّا من طعن في الدين فإنه يتعيَّن قتالُه، وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يَنْدُرُ

(2)

دماءَ من آذى اللهَ ورسولَه وطعن في الدين.

فإن قيل: هذا يفيد أن من طعن في الدين ونكثَ عهدَه يجب قتالُه، أما من طعن في الدين فقط، فمفهوم الآية أنه وحدَه لا يوجِبُ هذا الحكم؛ لأنه عَلَّقَ الحكمَ على صفتين، فلا يجب وجوده عند وجود إحداهما.

قلنا: لا ريبَ أنه لا بُدَّ أن يكون لكلِّ صفةٍ تأثير في الحكم؛ إذ لا يجوز تعليقه بصفةٍ عَدِيمة التأثير، ثم قد تكون كلُّ صفةٍ مستقلة بالتأثير، كما [يقال]: يُقتل زيد لأنه مرتد زانٍ، وقد يكون مجموعُ الجزاء مرتبًا على

(1)

في بعض نسخ "الصارم": "ولأنه" وعليه فالكلام، مستأنَف.

(2)

أي: يُسقطها ويُهدرها.

ص: 37

المجموع، ولكل وصف تأثير في البعض، كقوله:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68] وقد تكون تلك الصِّفات متلازمة كلٌّ منها لو فُرِضَ تجرُّده لكان مؤثِّرًا مستقلًا أو مشتركًا، فيذكر إيضاحًا وبيانًا للموجب، كما يقال:"كفروا بالله وبرسوله"، و"عصى اللهَ ورسولَه"، وقد يكون بعضها مستلزمًا للبعض من غير عكس، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية [آل عمران: 21] وهذه الآية من أيِّ الأقسام فُرِضت كان فيها دلالةٌ

(1)

؛ لأن أقصى ما يقال: إن نقض العهد هو المبيح للقتال، والطعن في الدين مؤكِّد له وموجبٌ له، فنقول: إذا كان الطَّعن يُغَلِّظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه، فأن يوجِب قَتْل من بيننا وبينه ذِمَّة - وهو ملتزم للصَّغَار - أولى.

الوجه الثاني: أن الذِّمِّي إذا سبَّ الرسول أو سبَّ اللهَ أو عابَ الإسلام علانيةً، فقد نكث يمينَه وطعن في ديننا؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يُعاقَب على ذلك ويؤدَّب، فعُلِمَ أنه لم يُعاهَد عليه، فيجب قتله بنصِّ الآية، وهذه دلالة قويَّة حسنة، فإنه قد وُجِد منه نكثُ يمينِه وطعنٌ في الدين. والقرآنُ يُوجِب قتلَ من نكثَ وطعنَ في الدين.

الوجه الثالث: أنه سمَّاهم "أئمة الكفر"؛ لطعنهم في الدين، وثانيًا علَّل ذلك بأنهم لا أيمان لهم، فهو يشمل جميع الناكثين الطاعنين.

وإمامُ الكفر هو الداعي إليه، وإنما صار إمامًا

(2)

في الكفر لأجل

(1)

في الأصل: "دلا" وهو سهوٌ.

(2)

في الأصل "إما" وهو سهوٌ.

ص: 38

الطعن فيه، ودعوته إلى خلافه، وهذا شأن الإمام، فكلُّ طاعن في الدِّين فهو إمامٌ في الكفر، فيجب قتاله لقوله:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} .

الوجه الرابع: أنه قال: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] فجعل همَّهم بإخراج الرسول من المُحضِّضات على قتالهم، وذلك لما فيه من الأذى له. وسبُّه أغلظُ من الهمِّ بإخراجه، لأنه عفى عام الفتح عن الذين همُّوا بإخراجه، ولم يعف عمَّن سبَّه.

الخامس: قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: 14]، فأمر - سبحانه - بقتال النَّاكثين الطاعنين في الدين، فضَمِنَ أنَّا إذا فعلناه عذَّبهم وأخزاهم ونَصَرَنا عليهم، وشفَى صدورَ المؤمنين الذين تأذَّوا من نقضهم، وأذهبَ غيظَ قلوبهم، فدلَّ على أن الناكث الطاعن مستحقٌ لذلك كله، والسَّابُّ للرسول ناكث طاعن فيستحق القتل.

السادس: أن قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14، 15] دليلٌ على أنَّ شفاء الصدور من ألمِ النَّكْثِ والطعنِ، وذهابَ الغيظِ الحاصل [أمرٌ مقصود للشارع]

(1)

، فمن سبَّ الرسول، فإنه يغيظ المؤمنين ويُؤْلمهم أكثر من سَفْك دمائهم وأَخْذ مالهم، فإن هذا يُثير الغضب لله ورسوله

(2)

.

(1)

ما بين الحاصرتين من "الصارم": (2/ 46) ليتم الكلام، إذ بدونها يختلّ المعنى.

(2)

ثم ذكر شيخ الإسلام أن هذا الغيظ لا يذهب إلا بقتل السابِّ وذلك لأربعة أوجه

وذكرها.

ص: 39

الموضع الرابع

(1)

: قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [التوبة: 63]، فإنه يدل على أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مُحَادَّة لله ولرسوله؛ لأنه قال هذه الآية عقيب قوله:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61]

وسبب نزول الآية عِتابه صلى الله عليه وسلم لمن كان يسبُّه من المشركين المنافقين.

الموضع الخامس: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه توجب قتل من آذى الله ورسوله، ونحن لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله، يوضِّح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ لِكَعْبِ بن الأشْرفِ، فإنّه قد آذى الله ورسوله"

(2)

.

* * *

(1)

من الأدلة على وجوب قتل السابِّ.

(2)

سيأتي الحديث ص/ 54، وهو في "الصحيحين".

ص: 40