الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
79-
(1) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وكان عرشه على الماء)) ، رواه مسلم.
80-
(2) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس،
ــ
لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسنة، وقال ابن السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله، اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب. قيل: إن القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، وارجع إلى كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري، ومدارج السالكين للإمام ابن القيم، وشرح الإحياء للعلامة الزبيدي، والجزء السادس من طبقات الشافعية الكبرى للعلامة السبكي، وحجة الله للشيخ ولي الله الدهلوى وغيرها من الكتب الكلامية.
79-
قوله: (كتب الله مقادير الخلائق) جمع مقدار، وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء وكميته كالمكيال والميزان، وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه، وهو الكمية والكيفية أي أمر الله القلم أن يثبت في اللوح المحفوظ ما سيوجد من الخلائق ذاتاً وصفة وفعلاً وخيراً وشراً على ما تعلقت به إرادته الأزلية. قال النووي: قال العلماء المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له – انتهى. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وعرشه على الماء) وفي بعض النسخ وكان عرشه على الماء، أي بزيادة لفظ "كان" وكذا في المصابيح، ووقع في صحيح مسلم وعرشه على الماء بغير لفظ كان، وذكر الحافظ حديث عبد الله هذا نقلاً عن مسلم بلفظ:"وكان عرشه على الماء" فليحرر، والمعنى كان عرشه قبل أن يخلق السموات والأرض على وجه الماء، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم، لكونهما خلقا قبل خلق السماوات والأرض، وقد روى أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعاً: أن الماء خلق قبل العرش. وروى السدى في تفسيره بأسانيد متعددة: أن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء. وأما حديث: أول ما خلق الله القلم. فسيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني من هذا الباب (رواه مسلم) وأخرج أحمد والترمذي أول الحديث أي بدون قوله: وعرشه على الماء.
80-
قوله: (كل شيء بقدر) بفتح الدال أي كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته وتقديره (حتى العجز والكيس) بفتح الكاف روي برفعهما عطفا على "كل" أو على أنه مبتدأ حذف خبره أي حتى العجز
رواه مسلم.
81-
(3) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،
ــ
والكيس كذلك أي كائنان بتقدير الله تعالى، وبجرهما عطفاً على "شيء". قيل: والأوجه أن يكون حتى هنا جارة بمعنى إلى؛ لأن معنى الحديث يقتضي الغاية لأنه أراد بذلك أن اكتساب العباد وأفعالهم وإن كانت معلومة لهم ومرادة منهم فلا تقع مع ذلك منهم إلا بمشيئة الله تعالى، فكلها بتقدير خالقهم حتى الكيس الذي يتوسل صاحبه به إلى البغية، والعجز الذي يتأخر به عنها. قال عياض: يحتمل أن العجز ههنا على ظاهره، وهو عدم القدرة. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته. قال: ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قدرة عجزه، والكيس قد قدر كيسه - انتهى. وفي الحديث إثبات للقدر، وأنه عام في كل شيء، وأن جميع ذلك مقدر في الأزل، معلوم لله تعالى مراد له. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضاً مالك وأحمد (ج2: ص110) والبخاري في خلق أفعال العباد.
81-
قوله: (احتج آدم وموسى) أي تحاجا وتناظرا (عند ربهما) هذه العندية عندية اختصاص وتشريف، لا عندية مكان فيحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين الدنيا والآخرة، فقد اختلف في وقت هذه المحاجة، فقيل: وقعت في زمان موسى فأحي الله له آدم معجزة له فكلمه، أو كشف له عن قبره فتحدثا أو أراه الله روحه كما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء أو أراه الله له في المنام ورؤياء الأنبياء وحي. وقيل كانت تلك المحاجة بعد وفاة موسى فالتقيا في البرزخ أو ما مات موسى فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البر والقابسي (فحج آدم موسى) أي غلب عليه بالحجة بأن ألزمه أن جملة ما صدر عنه لم يكن هو مستقلاً بها متمكناً من تركها بل كان أمرا مقضياً، وما كان كذلك لا يحسن اللوم عليه عقلاً، وأما اللوم شرعاً فكان منتفياً بالضرورة، إذ ما شرع لموسى أن يلوم آدم في تلك الحال، وأيضاً هو في عالم البرزخ وهو غير عالم التكليف ولا يتوجه فيه اللوم شرعاً، وأيضاً لا لوم على تائب معفو عنه (قال موسى) الخ جملة مبنية لمعنى فحج آدم وموسى ومفسره للجملة، وقوله في آخر الحديث "فحج آدم موسى" فذلك للتفصيل تقريراً وتثبيتاً للأنفس على توطين هذا الاعتقاد، ويحتمل أن يقال: أن قوله "فحج" أولاً تحرير للدعوى، وثانياً إثبات لها، فالفاء في الأولى للعطف، وفي الثاني للنتيجة، وهما متغايران في المعنى (أنت آدم) استفهام تقرير (خلقك الله بيده) هي محمولة على ظاهرها فنؤمن بها من غير تكييف وتشبيه وتعطيل ولا تتعرض لتأويلها مع اعتقاد أن الجارحة غير مرادة (ونفخ فيك) خصه بالذكر إكراماً وتشريفاً له، وأنه خلق إبداعاً من غير واسطة أب وأم (من روحه) من زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق، والإضافة للتشريف أي خلق فيك الروح أو نفخ فيك من الروح الذي هو مخلوق
وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالة وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله
ــ
ولا يد فيه لأحد (وأسجد لك ملائكته) أي أمرهم أن يسجدوا لك، والسجود في الأصل التذلل والتواضع مع التطامن، وفي الشرع وضع الجبهة وغيرها من أعضاء السجود على الأرض على قصد العبادة، والمراد هنا المعنى الشرعي، والدليل عليه ما رواه أحمد ومسلم مرفوعاً من حديث أبي هريرة: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار. قيل: كانت هذه السجدة لآدم تحية وسلاماً وإكراماً واحتراماً وإ عظاماً، وهي طاعة لله عزوجل لأنها امتثال لأمره، وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية، ولكنه نسخ في ملتنا. وقد قواه الرازي في تفسيره ورجحه وضعف ما عداه. وقيل: إن المسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وجعل آدم قبلة تفخيماً لشأنه، واللام في لك حينئذ بمعنى إلى. وقيل: المراد به المعنى اللغوي أي التواضع والتذلل لآدم تحية وتعظيماً كسجود إخوة يوسف. قال البغوي: هذا القول أصح، قال ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان انحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام – انتهى. (في جتنه) الخاصة به، والمراد بها جنة الخلد التي هي دار الجزاء في الآخرة، وهي وجودة من قبل آدم، هذا هو الحق (أهبطت الناس) أي كنت سبباً لإهباط الناس وإنزالهم، فإنهم وإن لم يكونوا موجودين لكنهم كانوا على شرف الوجود، فكأنه جعلهم مهبطين منها (بخطيئتك) أي التي صدرت عنك غير لائقة بعلو مقامك، وهي أكله من الشجرة وإن كان نسياناً أو خطأ في الاجتهاد؛ لأن الكمل يعاتبون ويؤاخذون بما لا يؤاخذ به غيرهم، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس فيه ما يخل بالأدب مع الأب لأنه يغتفر في بعض الأحوال ما لا يغتفر في بعض، كحالة الغضب والأسف والاحتجاج والمناظرة، وخصوصاً ممن طبع على حدة الخلق وشدة الغضب، ولذلك لك لم يجترئ على هذا السؤال والاحتجاج من أولاد آدم غير موسى فإنه كان في طبعه شدة وحدة، وهذا من اختلاف الطبائع والأحوال (اصطفاك) أي اختارك (برسالته) بالإفراد لإرادة الجنس، وفي بعض النسخ برسالاته بالجمع لإرادته الأنواع، وليس فيه ما ينفي رسالة آدم لأن كلاً ذكر ما هو الأشرف من صفات صاحبه، وتخصيص الشيء بالذكر لا ينفي ما عداه (وبكلامه) اختص بذلك لأنه لم يسمع كلام الله من غير واسطة أحد في الأرض غيره (وأعطاك الألواح) أي ألواح التوراة (فيها تبيان كل شيء) أي بيان كل شيء مما يحتاج إليه في أمر الدين، وهذا مستمد من قوله:{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} [7: 145] ، (وقربك نجياً) النجي المناجي، يستوي فيه الواحد والجمع، وهو حال من الفاعل أو المفعول أي وكلمك الله من غير واسطة ملك، أو المعنى وخصك بالنجوى (فبكم) مميزة محذوف أي فبكم زماناً (وجدت الله) أي علمته
كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدت فيها {وعصى آدم ربه فغوى} ؟ قال نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله على أن أعمله
ــ
(كتب التوراة) أي أمر بكتب التوراة في الألواح (قبل أن أخلق) بصيغة المجهول (وعصى آدم ربه) أي فعل خلاف ما أمر به ربه (فغوى) أي فخرج بالعصيان من أن يكون راشداً في فعله، والغي ضد الرشد، ويطلق على مجرد الخطأ أيضاً أي أخطأ صواب ما أمر به، وليس المراد أن لفظه بهذا التركيب بل معناه بالعبرية (أفتلومني) أي تجد هذا في التوراة فتلومني (كتبه الله علي) أي في الألواح (أن أعمله) بدل من ضمير كتبه المنصوب. قال التوربشتي: ليس معناه أنه ألزمه إياي وأوجبه علي فلم يكن لي في تناول الشجرة كسب واختيار، وإنما المعنى أن الله حكم قبل كوني بأنه كائن لا محالة، فهل يمكن أن يصدر عني خلاف علم الله، فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الذين يشاهدون سر الله؟ ولا يجوز للعاصي أن يعتذر بمثل هذا وبتمسك بالتقدير لأنه باق في دار التكليف وعالم الأسباب الذي لا يجوز فيه قطع النظر وصرفه عن الوسائط والأسباب، جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وأما آدم فهو خارج عن هذا العالم المشهود وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يبق في لومه سوى الإيذاء والتخجيل، ولأن الاحتجاج بالتقدير يكون على طريقين" الأول للاجتراء على المعاصي ودفع العار عن نفسه والتشجيع على الفواحش، ولا شك أنه وقاحة، والدليل لعدم استحياء العاصي من ربه تبارك وتعالى، وذلك لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. والثاني ما يكون لتسلية النفس ودفع اضطرابها وقلقها الحاصل بسبب ارتكاب الخطيئة، ولا قبح فيه شرعاً ولا عقلاً، فلا بأس به، فمن أذنب وظلم على نفسه فاضطربت نفسه وانزعجت، فجعل يكشف همه ويزيل حزنه بتذكر القدر، فهذا التمسك بالقدر ليس لعدم المبالاة بالمعاصي، بل لتسلية النفس. واحتجاج آدم بالقدر كان من القسم الثاني. وتمسك العصاة بالقدر يكون من القسم الأول غالباً. قال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (ج1:ص189، 190، 191) : اعلم أنه لا عذر لأحد البتة في معصية الله تعالى ومخالفة أمره مع علمه بذلك وتمكنه من الفعل والترك، ولو كان له عذر لما استحق العقوبة واللوم لا في الدنيا ولا في العقبى، فالاعتذار بالقدر غير مقبول ولا يعذر به أحد، بل يزيد في ذنب الجاني ويغضب الرب عليه، ثم إن الاعتذار بالقدر يتضمن تنزيه الجاني نفسه وتنزيه ساحته وهو الظالم الجاهل، والجهل على القدر نسبة الذنب إليه، وتظليمه بلسان الحال أو القال بتحسين العبارة وتلطيفها كما قيل:
…
...
…
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وقال آخر:
…
...
…
...
…
أصبحت منفعلاً لما تختاره
…
مني ففعلي كله طاعات
قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فحج آدم موسى،
ــ
وقال آخر شاكياً متظلماً:
…
...
…
إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
ولخصماًء الله هناك تظلمات وشكايات، ولو فتشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصماً متظلماً شاكياً يقول: لا أقدر أن أقول شيئا وإني في صورة ظالم، ويقول بحرفة وتنفس الصعداء مسكن بن آدم لا قادر ولا معذور، وقال آخر: ابن آدم كرة تحت صولجانات الأقدار يضربها واحد ويردها الآخر، وهل تستطيع الكرة الانتصاف من الصولجان؟ ومن له أدنى فهم وبصيرة يعلم أن هذا كله تظلم وشكاية وعتب، فتباً له ظالماً في صورة مظلوم، وشاكياً والجناية منه، وقد جد في الإعراض وهو ينادي طردوني وأبعدوني، ولي ظهره الباب بل أغلقه على نفسه وأضاع مفاتيحه وكسرها ويقول:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
يأخذ الشفيق حجزته عن النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحهما ويستغيث: ما حيلتي وقد قدموني إلى الحفيرة وقذفوني فيها. والله كم صاح به الناصح: الحذر الحذر إياك إياك، وكم أمسك بثوبه وكم أراه مصارع المقتحمين وهو يأبى إلا الاقتحام:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنصح
ياويله ظهيراً للشيطان على ربه، خصماً لله على نفسه، جبري المعاصي قدري الطاعات، عاجز الرأي مضياع لفرصته، قاعد عن مصالحه معاتب لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجوا به في التهاون في بعض أمره، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال: القدر ساقني إلى ذلك لما قيل منه هذه الحجة ولبادر إلى عقوبته، فإن كان القدر حجة لك أيها الظالم الجاهل في ترك حق ربك، فهلا كان حجة لعبدك وأمتك في ترك بعض حقك؟ بل إذا أساء إليك مسيء وجنى عليك جان واحتج بالقدر لاشتد غضبك عليه وتضاعف جرمه عندك ورأيت حجته داحضة، ثم تحتج على ربك به وتراه عذراً لنفسك، فمن أولى بالظلم والجهل ممن هذه حالة؟ (إلى آخر ما قال) (قبل أن يخلقني بأربعين سنة) قيل المراد بالأربعين سنة ما بين قوله تعالى:{إني جاعل في الأرض خليفة} إلى نفخ الروح فيه، أو هي مدة لبثه طيناً إلى أن نفخت فيه الروح، والأظهر أن ابتداء المدة وقت الكتابة في الألواح وآخرها ابتداء خلق آدم (فحج آدم موسى) تقدم بيان وجه غلبة آدم على موسى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يعذر الله أحداً قط بالقدر، ولو عذره به لكان أولياؤه وأنبياؤه أحق بذلك، وآدم إنما حج موسى لأنه لامه على المصيبة التي أصابت الذرية، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، كما في بعض الروايات، وما أصاب العبد من المصائب فعليه أن يسلم فيها لله تعالى ويعلم أنها مقدرة عليه، والحاصل أنه حصل من موسى ملام على المصيبة التي أصابت الذرية
رواه مسلم.
82-
(4) وعن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك،
ــ
بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار المشقة والبلوى بسبب خطيئة أبيهم، فذكر موسى الخطيئة تنبيهاً على سبب المصيبة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال إن هذه البلية التي أصابت ذريتي بسبب خطيئتي كانت مكتوبة علي بقدره قبل أن أخلق بكذا وكذا سنة. والقدر يحتج به في المصائب والبلايا دون القبائح والمعاصي، وارجع لتوضيح هذا الجواب إلى شفاء العليل لابن القيم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص249، 265، 269، 288) والبخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه بألفاظ مختلفة مختصراً ومطولاً. ولعله لم يعزه المصنف إلى البخاري لكونه رواه مختصراً وإن كان الأحسن العزو مع التنبيه، وفي الباب عن عمر عند أبي داود وأبي عوانة وغيرهما، وجندب بن عبد الله عند النسائي، وأبي سعيد عند البزار.
82-
قوله: (وهو الصادق) الأولى أن تجعل هذه الجملة اعتراضية لا حالية لتعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ذلك فما أحسن موقعه ههنا، ومعناه الصادق في أقواله المتحري للصدق في جميع أفعاله، والمراد أنه الكامل في الصدق، أو الظاهر كونه صادقا بشهادة المعجزات الباهرة، وذكر ذلك تبركاً وتلذذاً وافتخاراً. (المصدوق) في جميع ما أتاه من الوحي، يقال: صدقه زيد راست كفت باوزيد. قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي العاص بن الربيع: ((فصدقني)) ، وقال في حديث أبي هريرة:((صدقك وهو كذوب)) ، وقال علي في حديث الإفك:((سل الجارية تصدقك)) ونظائره كثيرة، وكذا قال السيد جمال الدين. (إن خلق أحدكم) بكسر الهمزة على الحكاية، ويجوز فتحها أي مادة خلق أحدكم أو ما يخلق منه أحدكم وهو الماء (يجمع في بطن أمه أربعين يوماً) أي يتم جمعه في الرحم في هذه المدة، وهذا يقتضي التفرق (نطفة) حال من فاعل يجمع، أي النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في جسم المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دماً في الرحم، فذلك جمعها، كذا فسره ابن مسعود فيما رواه ابن أبي حاتم وغيره، ويجوز أن يريد الجمع مكث النطفة في الرحم أربعين يوماً يتخمر فيه حتى يتهيأ للخلق والتصوير، ثم يخلق بعد الأربعين، كذا في النهاية (ثم يكون عقله) بفتح العين واللام أي دماً غليظاً جامداً (مثل ذلك) إشارة إلى محذوف، أي مثل ذلك الزمان يعني أربعين يوماً أي ثم يبقى ويمكث دماً أربعين يوماً (مضغة) أي قطعة لحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) ويظهر التصوير في هذه الأربعين. قال المظهر: في هذا التحويل مع قدرته على خلقه في لمحة فوائد وعبر، منها أنه لو خلقه لشق على الأم لعدم اعتيادها، وربما تظن علة فجعل أولاً نطفة لتعتاد بها مدة، وهكذا إلى الولادة. ومنها إظهار قدرته ونعمته ليعبدوه ويشكروه حيث قلبهم من تلك الأطوار إلى كونهم إنساناً حسن الصور متحلياً بالعقل والشهامة.
ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات، فيكتب عمله
ــ
ومنها إرشاد الناس وتنبيههم على كمال قدرته على الحشر؛ لأن من قدر على خلق الإنسان من ماء مهين ثم من علقة ثم من مضغة مهيأة لنفخ الروح فيه، يقدر على حشره ونفخ الروح فيه. ومنها تعليم العباد في تدريج الأمور وعدم تعجيلهم فيها، فإنه تعالى مع كمال قدرته وقوته على خلقه دفعة حيث خلقه مدرجاً، فإن الإنسان أولى به التأني في فعله. ومنها تنبيههم وتفهيمهم أصلهم وفرعهم، فلا يغتروا بقوة أبدانهم وأعضائهم وحواسهم، ويعرفوا أنها كلها عطايا وهدايا، بل على وجه العارية موجودة عندهم لينظروا إلى مبدئهم (ثم يبعث الله إليه ملكاً) أي يرسل، أي في الطور الرابع حين يتكامل بنيانه ويتشكل أعضاؤه، والمراد بالبعث والإرسال بهذه الأشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلا فقد صرح في الحديث بأنه مؤكل بالرحم، وأنه يقول: يا رب نطفة يا رب علقة. وقيل: ذلك ملك آخر غير ملك الرحم (بأربع كلمات) أي بكتابتها (بيكتب) أي بين عينيه كما ورد مرفوعاً عن ابن عمر في مسند البزار وفي صحيفته أيضاً كما تدل عليه حديث حذيفة بن أسيد عند مسلم في باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه من كتاب القدر. وورد في رواية أخرى لحذيفة عند مسلم أيضاً أنه إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك – الحديث. وظاهر هذا أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه، وكتابة الملك يكون في أول الأربعين الثانية، وهو مخالف لحديث ابن مسعود هذا. ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يصور ويكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة. وقال النووي: لتصرف الملك أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقله علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذٍ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته وخلقته وصورته، ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكراً أو أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة وقبل انقضاء هذه الأربعين وقبل نفخ الروح، فالمراد بتصويرها وخلق سمعها بعد الأربعين الأولى أي في أول الأربعين الثانية أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجودة في العادة، وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، ثم يكون للملك فيه تصرف آخر وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة حين يكمل له أربعة أشهر- انتهى مختصراً. وأما الاختلاف في وقت الكتابة كما هو ظاهر من ملاحظة الروايات، فقال بعض العلماء في دفعه: إنه يكتب ذلك مرتين: أحدهما في السماء والآخرة في بطن الأم. وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد به ترتيب الأخبار لا ترتيب المخبر عنه في نفسه. وقال بعضهم: قوله: "ثم يبعث الله ملكاً فيكتب عمله
…
" الخ عطف على "يجمع في بطن أمه" لا على "ثم يكون مضغة"، وإنما أخر ذكرها إلى ما بعد ذكر المضغة لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين، فإن ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب وأحسن، والأظهر
وأجله ورزقه وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) ، متفق عليه.
83-
(5) وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد
ــ
هو الأول. (وأجله) أي مدة حياته وانتهاء عمره (وشقي أو سعيد) خبر مبتدأ محذوف، أي ويكتب هو شقي أو سعيد، والظاهر أن يقال: ويكتب سعادته وشقاوته، فعدل إلى الصفة حكاية لعين ما يكتب، أو التقدير: يعلم للملك أن المقضي في الأزل هكذا، حتى يكتب على جبهته مثلاً، ثم الترديد في الحكاية لا في المحكي، وإنما جاءت الحكاية على لفظ الترديد نظراً إلى التوزيع والتقسيم على آحاد المولود، فمنهم شقي وسعيد، والأمر بكتابة الأمور الأربعة لا ينفي كتابة شيء آخر مما قدر له فيه. (ثم ينفخ) على البناء للمجهول، وقيل: إنه معلوم (فيه الروح) على الوجهين أي ثم بعد هذا البعث لا قبله (وإن أحدكم) وفي المصابيح: وإن الرجل أي الشخص (حتى ما يكون) بالنصب بـ"حتى"، وما نافية غير مانعة من العمل، وجوز بعضهم كون حتى ابتدائية فيكون بالرفع. قال ابن الملك: الأوجه أنها عاطفة، ويكون بالرفع عطف على ما قبله (إلا ذراع) تمثيل لغاية قربها (فيسبق عليه الكتاب) أي يغلب عليه، والكتاب بمعنى المكتوب أي المقدر أو التقدير (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) المعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب المقدر في الأزل في اقتضاء الشقاوة فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق (فيعمل بعمل أهل الجنة) بأن يستغفر ويتوب، وفي الحديث تصريح بإثبات القدر، وأن التوبة تهدم الذنوب، وأن من مات على شيء حكم له بذلك من خير أو شر، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجة. قال الحافظ في شرح حديث ابن مسعود في أول القدر: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة. ثم ذكر أحاديثهم.
83-
قوله: (وعن سهل بن سعد) بن مالك بن خالد الأنصاري الساعدي المدني، يكنى أباالعباس، وكان اسمه حزناً، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سهلاً، وهو من مشاهير الصحابة. مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشر سنة. له مائة حديث وثمانية وثمانون حديثاً، اتفقا على ثمانية وعشرون، وانفرد البخاري بأحد عشر. روى عنه جماعة من التابعين، مات سنة (88) وقيل: بعدها وقد جاوز المائة. ويقال: إنه آخر من بقي بالمدينة من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم. (إن العبد) أي عبد من
ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم)) ، متفق عليه.
84-
(6) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار
ــ
عبيد الله (ليعمل عمل أهل النار) أي ظاهراً وصورة أو أولاً أو في نظر الخلق (وإنه من أهل الجنة) أي باطناً ومعنى أو آخراً أو في علم الله، والواو حالية وإن مكسورة بعدها (ويعمل) أي عبد آخر (إنما الأعمال بالخواتيم) أي اعتبار الأعمال بالعواقب والأواخر، وهو جمع خاتمة، وهذا تذييل للكلام السابق مشتمل على معناه لمزيد التقرير، يعني أن العمل السابق ليس بمعتبر، وإنما المعتبر العمل الذي ختم به كما لوح به حديث ابن مسعود حيث قال "فيسبق عليه الكتاب الخ"، وفيه حث على المواظبة بالطاعات ومحافظة الأوقات عن المعاصي خوفاً من أن يكون ذلك آخر عمله، وفيه زجر عن العجب والتفرح بالأعمال فإنه لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة، وفيه أنه لا يجوز الشهادة لأحد بالجنة ولا بالنار، فإن أمور العبد بمشيئة الله وقدره السابق، وفيه أيضاً أن الله يتصرف في ملكه ما يشاء وكيف يشاء. وكل ذلك عدل وصواب، وليس لأحد اعتراض عليه، لأنه مالك والمخلوق مملوك، واعتراض المملوك على المالك قبيح موجب للتعذيب، قال تعالى:{لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} [21: 23]، وفيه حجة قاطعة على القدرية في قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه ويختار لها الخير والشر. وهذه القطعة من الحديث لم يروها مسلم من حديث سهل بل روي معناها من حديث أبي هريرة (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله: "وإنما الأعمال بالخواتيم" ليس عند مسلم، وكذا أخرجه أحمد (ج5: ص332) بغير هذه الزيادة، وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد وابن حبان، وابن عمر والعرس بن عميرة عند البزار، وعمرو بن العاص وأكتم بن أبي الجون عند الطبراني، وأنس عند أحمد، وصححه ابن حبان، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد والنسائي والترمذي، وعلي عند الطبراني، ومعاوية عند ابن حبان.
84-
قوله: (وعن عائشة) هي أم المؤمنين الصديقة بنت أبي بكر الصديق التيمية، تكنى أم عبد الله، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيها خلاف شهير. خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها بمكة في شوال سنة (10) من النبوة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل غير ذلك، وبني بها بالمدينة في شوال سنة (2) من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وبقيت معه تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشر سنة، ولم يتزوج غيرها بكراً. وكانت فقيهة عالمة فصيحة فاضلة كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفة بأيام العرب وأشعارها. روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين. وماتت بالمدينة سنة (57) ليلة الثلاثاًء لسبع عشرة خلت من رمضان، وأمرت أن تدفن ليلاً فدفنت بالبقيع، وصلى عليها أبو هريرة، وكان يومئذٍ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية قال الخزرجي: لها ألفان ومائتان وعشرة أحاديث، اتفقا على مائة وأربعة وسبعين،
فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آباءهم)) ، رواه مسلم.
85-
(7) وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ــ
وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، ومسلم بثمانية وستين. ومناقبها وفضائلها كثيرة جداً، بسط ترجمتها الحافظ في الإصابة (ج4:ص359،361) وابن عبد البر في الاستيعاب. (طوبى لهذا) طوبى فعلى من طاب يطيب طيباً، قلبت الياء واوا للضمة قبلها، واختلفوا في معناه فقيل: هو اسم الجنة، وقيل: اسم شجرة فيها، وقيل: معناه أطيب معيشة له، وقيل: فرح له وقرة عين، وقيل: معناه أصيب خيراً؛ لأن إصابة الخير مستلزمة لطيب العيش، فأطلق اللازم وأراد الملزوم. (عصفور من عصافير الجنة) يعني هو مثلها من حيث أنه لا ذنب عليه، وينزل في الجنة حيث يشاء. قال ابن الملك: شبهته بالعصفور كما هو صغير لكونه خالياً من الذنوب من عدم كونه مكلفاً، (ولم يدركه) أي أوانه بالبلوغ لموته قبل التكليف فضلاً عن عمله. (أو غير ذلك) بفتح الواو وضم الراء وكسر الكاف، هو الصحيح المشهور من الروايات، والتقدير: أتعتقدين ما قلت؟ والحق غير ذلك، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة، فالواو للحال، قاله القاري. وقيل: الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة، و"غير" مرفوع بعامل مضمر تقديره: أقلت هذا؟ ووقع غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بسكون الواو التي لأحد الأمرين أي الواقع هذا أو غير ذلك، ويجوز نصب غير أي أو يكون غير ذلك، وقيل: يجوز أن يكون أو بمعنى بل، أي بل غير ذلك أحسن وأولى وهو التوقف. قال التوربشتي: وكأنه عليه السلام لم يرتض قولها؛ لما فيه من الحكم بالغيب والقطع بإيمان أبوي الصبي أو أحدهما، إذ هو تبع لهما. وفيه إرشاد الأمة إلى التوقف عند الأمور المبهمة، والسكوت عما لا علم لهم به، وحسن الأدب بين يدي علام الغيوب. قلت: الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وقد أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة، ودل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة، فلا معنى للتوقف فيه، وإنما نهى عائشة عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع. (وهم في أصحاب آبائهم) قيل: عين أهل الجنة من أهل النار في الأزل، فعبر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريباً لأفهام العامة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
85-
قوله: (وعن علي) هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، أبوالحسن الهاشمي القرشي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة، كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا تراب، والخبر في ذلك مشهور. وأمه فاطمة بنت أسد
ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ،
ــ
ابن هاشم، أسلمت وماتت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها ونزل في قبرها. وهو أول من أسلم من الصبيان، جمعاً بين الأقوال. وأحد العشرة. وقد اختلف في سنة يوم إسلامه فقيل كان له (15) سنة، وقيل (8) سنة، وقيل (10) سنين، وقيل (13) سنة. صلى القبلتين وشهد بدراً وسائر المشاهد، وأبلى ببدر وأحد والخندق وخيبر البلاء العظيم، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة، ولم يتخلف إلا في تبوك فإنه خلفه في أهله، وفيها قال له:((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)) ، مناقبة وفضائله شهيرة كثيرة جداً، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يرو لأحد من الصحابة من الفضائل ما روى لعلي (1) . وكذا قال النسائي وغير واحد، وفي هذا كفاية. استخلف يوم قتل عثمان، وهو يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة (35) . قال ابن عبد البر: بويع لعلي يوم قتل عثمان، فاجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار إلا نفراً منهم لم يهجهم علي. وقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق، ولم يقوموا مع الباطل. وتخلف عنه معاوية في أهل الشام، فكان منهم في صفين بعد الجمل ما كان، ثم خرجت عليه الخوارج وكفروه بسبب التحكيم، ثم اجتمعوا وشقوا عصى المسلمين وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، فانتدب لهم من بقاياهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي وكان فاتكاً فقتله (بالكوفة) ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت، وقيل: بقيت من رمضان سنة (40) وله من العمر (63) سنة، وهو يومئذٍ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر وأياماً. روى عنه خلائق من الصحابة والتابعين. قال الخزرجي: له خمس مائة حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر. (ما منكم من أحد) من مزيدة لاستغراق النفي (إلا وقد كتب) الواو للحال والاستثناء مفرغ أي ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلا في هذه الحالة، أي إلا وقد قدر مقعده من النار. (مقعده من النار ومقعده من الجنة) أي موضع قعوده، كنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها، والواو المتوسطة بينها بمعنى أو التي تكون للتنويع، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ "أو" وهي قرينة لحمل الواو على معنى أو وهي أوفق بالمقصود (أفلا نتكل على كتابنا) المقدر لنا في الأزل، قيل: الفاء جواب الشرط أي إذا كان الأمر كذلك أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل (وندع العمل) أي نترك السعي في العمل، يعني إذا سبق القضاء لكل أحد منا بالجنة أو النار فأي فائدة في السعي، فإنه لا يرد قضاء الله وقدره (اعلموا فكل) الفاء للسببية، والنوين عوض عن المضاف إليه (ميسر لما خلق له) يعني من خلق للجنة مثلاً يسر عليه عملها البتة، فالتيسر علامة كونه من أهلها، فمن لم ييسر على عملها فليعلم أنه ليس من أهلها بل من أهل النار. قال السندي: نبه صلى الله عليه وسلم على الجواب عن قولهم بأن الله تعالى دبر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها
(1) قال الامام ابن تيمية في المنهاج (ج4:ص253) لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه - ا. هـ. وقال أيضاً (ج4:ص99) : إن في نقل هذا عن أحمد كلاماً - ا. هـ. وكتبه مصححه.
أما من كان أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، قم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} الآية)) . متفق عليه.
ــ
ببعض وجعلها أسباباً ومسبباًت، ومن قدره من أهل الجنة قدر له ما يقربه إليها من الأعمال ووفقه لذلك بأقداره ويمكنه منه ويحرضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدر له أنه من أهل النار قدر له خلاف ذلك وخذله حتى اتبع هواه وترك أمر مولاه، والحاصل أنه جعل الأعمال طريقاً إلى نيل ما قدره له من جنة أو نار، فلا بد من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسر له ذلك المشي، لكل في طريقه ويسهل عليه - انتهى. وقال القاري ملخصاً لكلام الخطابي والتوربشتي والطيبي: لم يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الاتكال وترك العمل بل أمرهم بالتزام ما يجب على العبد من امتثال أمر مولاه عن العبودية آجلاً، وتفويض الأمر إليه بحكم الربوبية آجلاً وأعلمهم بأن ههنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر، باطن وهو حكم الربوبية، وظاهر وهو سمة العبودية، فأمر بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب والرجاء بالظاهر البادي ليستكمل العبد بذلك صفات الإيمان ومراتب الإحسان، يعني أنتم عبيد ولا بد لكم من العبودية فعليكم التزام ما أمرتم واجتناب ما نهيتم من التكاليف الشرعية بمقتضى العبودية، وإياكم والتصرف في أمور الربوبية، ولا تجعلوا الأعمال أسباباً مستقلة للسعادة والشقاوة بل أمارات لهما وعلامات، فكل مهيأ وموفق لأمر قدر ذلك الأمر له من الخير والشر، والحاصل أن الأمر المبهم الذي ورد عليه البيان من هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم هو أنه بين أن القدر في حق العباد واقع على تدبير الربوبية، وذلك لا يبطل تكليفهم العمل بحق العبودية. فكل من الخلق ميسر ما دبر له في الغيب، فيسوقه العمل إلى ما كتب له في الأزل من سعادة وشقاوة، فمعنى العمل التعرض للثواب والعقاب -انتهى. قال الخطابي: ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع التعالج بالطب المأمور به، فإنك تجد الباطن منها على موجبه والظاهر سبباً مخيلاً، وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم على أن الظاهر منهما لا يترك بسبب الباطن - انتهى. وهذا الحديث أصل لأهل السنة أن السعادة والشقاوة بتقدير الله القديم وخلقه، بخلاف القدرية الذين يقولون إن الشر ليس بخلق الله وتقديره، وفيه رد على الجبرية لأن التيسير ضد الجبر، لأن الجبر لا يكون إلا عن كره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا وهو غير كاره (أما من كان) تفصيل لما أجمل قبله (من أهل السعادة) أي في علم الله أو في كتابه أو في آخر أمره وخاتمة عمله (فسييسر) أي يسهل ويوفق ويهيأ (من أهل الشقاوة) . وفي المصابيح بلفظ "الشقوة" بكسر الشين وهو مصدر بمعنى الشقاوة (ثم قرأ) أي النبي صلى الله عليه وسلم استشهادا على أن التيسير منه تعالى:{فأما من أعطى والتقى وصدق بالحسنى} الآية. أي من كان متصفاً بهذا الصفات في علمنا وقدرنا فسنيسره لتلك الأعمال في الخارج، وبهذا التوجيه ينطبق عليه الحديث (متفق عليه) . وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي في الكبرى وابن ماجة وغيرهم مطولاً ومختصراً بألفاظ متقاربة.
86-
(8) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهى، والفرج يصدق ذلك ويكذبه)) ، متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: ((كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك
ــ
86-
قوله: (إن الله كتب) أي أثبت في اللوح المحفوظ. (على ابن آدم) أي هذا الجنس أو كل فرد من أفراده، واستثنى الأنبياء (حظه) أي نصيبه (من الزنا) من بيانية، وما يتصل بها حال من حظه، وقيل: تبعيضية. وقال التوربشتي: أي أثبت عليه ذلك بأن خلق له الحواس التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين بما ركب فيهما من القوة الباصرة تجد لذة النظر، وعلى هذا ليس المعنى أن ألجأه وأجبره عليه، بل ركز في جبلته حب الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد بقوله "كتب" أثبت، أي أثبت فيه الشهوة والميل إلى النساء، وخلق فيه العينين والأذن والقلب والفرج، وهي التي تجد لذة الزنا، وأن يراد به قدر أي قدر في الأزل أن يجري عليه الزنا في الجملة، فإذا قدر في الأزل أدرك ذلك لا محالة (أدرك) أي أصاب (ذلك) أي المكتوب عليه المقدر له أو حظه (لا محالة) بفتح الميم ويضم، أي لابد له ولا احتيال منه، فهو واقع البتة (فزنا العين النظر) إلى ما لا يحل للناظر (وزنا اللسان المنطق) أي الحرام كالمواعدة، وفي بعض النسخ النطق، بضم النون بغير ميم في أوله (والنفس) أي القلب كما في الرواية الآتية، ولعل النفس إذا طلبت تبعها القلب (تمنى) بحذف إحدى التائين (وتشتهي) لعله عدل عن السنن السابق لإفادة التجدد، أي زنا النفس تمنيها واشتهائها الزنا الحقيقي، والتمني أعم من الاشتهاء؛ لأنه قد يكون في الممتنعات دونه (والفرج يصدق ذلك) أي عمل الفرج يصدق ذلك النظر والتمني بأن يقع في الزنا بالوطء. (ويكذبه) بأن يمتنع من ذلك خوفاً من ربه، سمى هذه الأشياء باسم الزنا لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق المسبب على السبب. وقال الطيبي: لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه، ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج لأنه منشأه ومكانه أي يصدقه الفرج بالإتيان بما هو المراد منه ويكذبه بالكف عنه والترك، وقيل: ذلك إشارة إلى ما اشتهته النفس ورأته العين وتكلم به اللسان، يعني إن رآها بالعين واشتهتها النفس وتكلم اللسان بذكرها وعمل بها فعلاً بالفرج، فقد صار الفرج مصدقاً لتلك الأعضاء، وصار الزنا الصغير كبيراً، وإن لم يفعل شيئاً بالفرج فقد كذب الفرج تلك الأعضاء ولم يصر الزنا كبيراً، ويرفع بالاستغفار والوضوء والصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستئذان وفي القدر، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي. (وفي رواية) أخرى (لمسلم) تفرد بها (كتب) بصيغة المجهول (مدرك) بالتنوين ويجوز الإضافة (ذلك) يعني هو أي ابن آدم واصله حظه ونصيبه أو نصيبه المقدر يدركه
لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوي ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) .
87-
(9) وعن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة قالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون به
ــ
ويصيبه (لا محالة) لأنه ما كتبه الله لابد أن يقع. (الاستماع) أي إلى كلام الزانية أو الواسطة أو صوت الأجنبية بشرط الشهوة. (زناها البطش) أي الأخذ واللمس، ويدخل فيها الكتابة إليها ورمي الحصاة إليها ونحوهما. (زناها الخطى) بضم المعجمة، جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يعني زناهما نقل الخطى، أي المشي أو الركوب إلى ما فيه الزنا. (يهوى) من سمع بوزن يرضى، أي يحب ويشتهي، وفي الحديث دليل على أن الزنا ودواعيه مكتوبة مقدرة على العبد غير خارجة عن سابق القدر، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، إلا أنه يلام إذا وقع ما نهي عنه بحجب ذلك عنه وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدرية والمجبرة، ويؤيده قوله:"والنفس تمنى وتشتهي"؛ لأن المشتهى بخلاف الملجأ.
87-
قوله: (وعن عمران بن حصين) مصغراً - ابن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي، يكنى أبانجيد بنون وجيم مصغراً، أسلم أيام خيبر، سكن البصرة إلى أن مات بها سنة (52)، وقيل: سنة (53) كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة وكانت تكلمه حتى اكتوى، وقال ابن سعد: كانت الملائكة تصافحه قبل أن يكتوي، وفي الخلاصة: وكانت الملائكة تسلم عليه. وهو ممن اعتزل الفتنة، كان الحسن البصري يحلف بالله: ما قدمها - أي البصرة - راكب خير من عمران بن حصين، وكذا قال ابن سيرين نحوه. له مائة وثلاثون حديثاً، اتفق على ثمانية وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بتسعة. روى عنه جماعة من التابعين. (من مزينة) بالتصغير، اسم قبيلة. (أرأيت) أي أخبرني من إطلاق السبب على المسبب؛ لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مقررة، أي قد رأيت ذلك فأخبرني به. (ما يعمل الناس) من الخير والشر (اليوم) أي في الدنيا (ويكدحون فيه) أي يسعون في تحصيله بجهد وكد، يقال: كدح في العمل أي جهد نفسه فيه وكد حتى يؤثر فيه. (أشيء) خبر مبتدأ محذوف، أي هو شيء (قضي عليهم) بصيغة المجهول، أي قدر فعله عليهم. (ومضى فيهم) بصيغة المعلوم، أي نفذ في حقهم. (من قدر سبق) أي في الأزل. قال القاري: من بيانية لشيء، ويكون القضاء والقدر شيئاً واحداً، كما قاله بعضهم، وإما تعليلية متعلقة بقضي عليهم لأجل قدر سبق، وإما ابتدائية أي القضاء نشأ وابتدأ من خلق مقدر، فيكون القدر سابقاً على القضاء - انتهى. (أو) كذا في صحيح مسلم ومسند أحمد، ووقع في تفسير ابن جرير ونسخ المصابيح "أم"، قيل: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن أحد الأمرين، فـ"أم" منقطعة و"أو" بمعنى "بل"، أي للإضراب. (فيما يستقبلون به) قال
مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل:{ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها} )) رواه مسلم.
88-
(10) وعن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العنت
ــ
السيد جمال الدين: كذا وقع بصيغة المجهول في أصل سماعنا من صحيح مسلم، وهو الأرجح معنىً أيضاً، لكن وقع في أكثر نسخ المشكاة بصيغة المعروف - انتهى. والمعنى: أخبرنا أن ما يعمله الناس من الخير والشر أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من الأزل، ويجري فيهم في وقت معلوم، أم شيء لم يقض عليهم في الأزل، بل يجري عليهم كل فعل في الوقت الذي يستقبله الرجل ويقصده من غير أن يجري عليه التقدير؟ والحاصل أن ما يفعله الإنسان من الشر والخير أهو مبني على قضاء وقدر سابق، أي مقدر ومقضي سابقاً في الأزل، أم هو أمر مستأنف ليس مبنياً على قدر وقضاء سابق، وشيء أنف لم يقض ولم يقدر عليهم في الأزل، بل هو كائن فيما يستقبلون من الزمان فيه يتوجهون إلى العمل ويقصدون بقدرتهم الحقيقية واختيارهم المستقل من غير سبق تقدير قبل ذلك، فقوله:"فيما يستقبلون" في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو كائن في الزمان الذي يستقبلونه، معطوف على قوله:"شيء قضي عليهم". (مما أتاهم به نبيهم) الباء للتعدية، ولفظ "من" في "مما أتاهم" بيان لما في قوله "ما يعمل الناس"، أو بيان لما في قوله:"ما يستقبلون"، والأول أولى كما قال السيد جمال الدين. (وثبتت الحجة عليهم) بظهور صدق نبيهم بالمعجزات، وفي تفسير ابن جرير: أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأكدت به عليهم الحجة. (فقال) صلى الله عليه وسلم (لا) أي ليس الأمر أنفاً في المستقبل (بل) هو (شيء قضي عليهم) في الأزل، أو المعنى لا تردد فإن الأمر مبني على قدر وقضاء سابق جزماً، وزاد في رواية ابن جرير وغيره:"قال: فلم يعملون إذن؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها". (وتصديق ذلك) إشارة إلى ما ذكر أنه قضي عليهم. {ونفس} بالجر على الحكاية، والمراد بها جميع النفوس، والتنوين للتنكير أو التكثير، وقيل: المراد نفس آدم. {وما سواها} ما مصدرية أو موصولة، ورجحه ابن جرير، ومعنى سواها: أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، وقيل: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها وما فيها من الجواهر والأعراض والمعاني، وغير ذلك. {فألهمها فجورها وتقواها} أي أرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بين لها طريقي الخير والشر، وهداها إلى ما قدر لها في الأزل. قال الواحدي: هذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره. قال القاري: وجه الاستدلال بالآية أن ألهمها بلفظ الماضي يدل على أن ما يعملونه من الخير والشر قدر جرى في الأزل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص438) وابن جرير وغيرهما.
88-
قوله: (وأنا أخاف) وعند الكشمهيني "وإني أخاف"(العنت) بفتحتين - الفساد والإثم والهلاك ودخول
ولا أجد ما أتزوج به النساء، كأنه يستأذنه في الاختصاء، قال: فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((يا أباهريرة جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)) رواه البخاري.
89-
(11) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن
ــ
المشقة على الإنسان واكتساب المأثم والزنا، والمراد هنا: الوقوع في الهلاك بالزنا. (كأنه يستأذنه في الاختصاء) هذا كلام أحد الرواة، وقيل: هو قول الراوي عن أبي هريرة، وليس هذا في البخاري. وعند أبي نعيم "فأذن لي أختص"، والاختصاء - بالمد - هو الشق على الأنثيين وانتزاعهما. (فسكت عني) أي عن جوابي. (ثم قلت مثل ذلك) أي في الرابعة إلحاحاً ومبالغة. (جف القلم) قال التوربشتي: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها. قال الطيبي: هذا من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ يستلزم جفاف القلم عن مداده، والمعنى: أن ما كان وما يكون قدر في الأزل، ونفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافاً لا مداد فيه لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتابة الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به ونكل علمه إليه. (بما أنت لاقٍ) أي جف القلم بالفراغ من كتابة ما هو كائن في حقك، أي قد كتب عليك وقضي ما تلقاه في حياتك، والمقدر لا يتبدل بالأسباب، فلا يجوز ارتكاب الأسباب المحرمة لأجله، نعم إذا شرع الله تعالى سبباً أو أوجبه فالمباشرة به شيء آخر. (فاختص) أمر من الاختصاء (على ذلك) في موضع الحال، يعني إذا علمت أن كل شيء مقدر فاختص حال كون فعلك وتركك واقعاً على ما جف القلم، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، أي اختص على حال استعلائك على العلم بأن كل شيء بقضائه وقدره. (أو ذر) أي إن شئت اختصيت بلا فائدة، وإن شئت تركته، وليس هو من باب التخيير والإذن في الخصاء، بل توبيخ وتهديد، كقوله تعالى:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [18: 29] ، والمعني إن فعلت أو لم تفعل فلابد من نفوذ القدر، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل، فالخصاء وتركه سواء، فإن الذي قدر لابد أن يقع فلا فائدة في الاختصاء، فـ"أو" للتسوية، ووقع في أكثر نسخ المصابيح "فاختصر" بزيادة الراء، بمعنى أن الاختصار على ما ذكرت لك من التقدير والتسليم له، وتركه والإعراض عنه سواء، فإن ما قدر لك فهو لا محالة لاقيك وما لا فلا. (رواه البخاري) في النكاح، وأخرجه أيضاً النسائي.
89-
قوله: (بين إصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات التي نؤمن بها ونعتقد أنها حق من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق
كقلب واحد يصرفه كيف شاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) ، رواه مسلم.
90-
(12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ــ
التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيف مشبه، قال الله تعالى:{ليس كمثله شيء} [42: 11]، وقيل: هذا الحديث من أحاديث الصفات التي تقبل التأويل، فيتأول حسب ما يليق بجلاله الأقدس وكماله الأنفس، فعلى هذا إطلاق الإصبع عليه تعالى مجاز، وهو كما يقال:"فلان في قبضتي"، أي في كفي، لا يراد به أنه حال في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال:"فلان بين إصبعي أقلبه كيف شئت"، أي إنه هين علي قهره والتصرف فيه كيف شئت، ومعنى الحديث: أن تقليب القلوب في قدرته يسير، يعني أنه تعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء، ولا يمتنع عليها منها شيء ولا يفوته ما أراده، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه، فخاطب العرب بما يفهمونه، ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم، وقيل غير ذلك في تأويله، وعندنا التفويض هو المتعين. قال النووي: فإن قيل: فقدرة الله واحدة والإصبعان لتثنية؟ فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة، فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه غير مقصود به التثنية والجمع - انتهى. وقال في المجمع: هو تمثيل عن سرعة تقلبها، وأنه معقود بمشيئة الله، وتخصيص الأصابع كناية عن أجزاء القدرة والبطش؛ لأنه باليد، والأصابع أجزاءها. (كقلب واحد) بالوصف، يعني كما أن أحدكم يقدر على شيء واحد، الله تعالى يقدر على جميع الأشياء دفعة واحدة لا يشغله شأن، ونظيره قوله تعالى:{ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [31: 28] ، وليس المراد أن التصرف في القلب الواحد أسهل بالقياس إليه تعالى، إذ لا صعوبة بالقياس إليه تعالى، بل ذلك راجع إلى العباد وإلى ما عرفوه فيما بينهم. (يصرفه) بالتشديد أي يقلب القلب الواحد أو جنس القلب. وفي بعض نسخ المصابيح بتأنيث الضمير أي القلوب. (كيف يشاء) حال عن تأويل هيناً سهلاً لا يمنعه مانع، أو مصدر أي تقليباً سريعاً سهلاً، وفي بعض نسخ صحيح مسلم "حيث يشاء". (صرف قلوبنا على طاعتك) أي إليها أو ضمن معنى التثبيت. ويؤيده ما ورد "ثبت قلبي على دينك". وفيه إرشاد للأمة وإعلام بأن نفسه القدسية الطاهرة المطهرة إذا كانت مفتقرة إلى اللجوء إليه كان غيره أولى وأحرى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي.
90-
قوله: (ما من مولود) أي من بني آدم، كما في رواية (إلا يولد) قيل: مولود مبتدأ، ويولد خبره، أي ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلى على هذا الأمر. (على الفطرة) الفطر الابتداء والاختراع. والفطرة الحالة والهيئة منه. واختلف السلف في المراد بالفطرة في الحديث على أقوال كثيرة، أشهرها: أن المراد بها الإسلام، وبه جزم البخاري ورجحه كثير من السلف، ويؤيده ما في رواية "الملة"، بدل الفطرة؛ لأن ما صدقهما واحد، وحديث عياض بن حمار مرفوعاً من الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم
…
)) الحديث. وقد رواه غيره.
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة
ــ
فزاد فيه "حنفاء مسلمين"، ويدل عليه استشهاد أبي هريرة بقوله تعالى:{فطرة الله التي فطر الناس عليها} [30: 30] ، فقد أجمع أهل التأويل أن المراد بالفطرة في الآية الإسلام. والحديث سبق لبيان ما هو في نفس الأمر لا لبيان أحكام الدنيا، فلا عبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول:"فأبواه يهودانه" في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين، ومعنى قوله عليه السلام:"طبع كافراً" في حديث موسى والخضر: أي خلق وقدر وجبل أنه لو عاش يصير كافراً، وأن الله علم أنه لو بلغ لكان كافراً، لا أنه كافر في الحال، ولا أنه يجري عليه في الحال أحكام الكفار، وقوله تعالى:{لا تبديل لخلق الله} يؤول بأنه من شأنه أو الغالب فيه أنه لا يبدل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخباراً محضاً لحصول التبديل. وقيل: المراد بالفطرة في الحديث وكذا في الآية ما فطر الله الخلق عليه من الهيئة مستعدة لمعرفة الخالق. ومتهيأة لقبول الدين، ومتمكنة من الهدى، ومتأهلة لقبول الحق والتمييز بين حسن الأمر وقبيحه، فلو ترك المولود على ما فطر عليه من التمكن على الهدى والتأهل لقبول الحق والتهيؤ لقبول الدين في أصل الجبلة، ولم يتعرضه آفة من قبل الأبوين وغيرهما لاستمر على لزومه ولم يفارقه إلى غيره، ولم يختر غير هذا الدين الذي حسنه ظاهر عند ذوي العقول وثابت في النفوس. والفطرة بهذا المعنى لا يتهيأ لأحد تبديلها؛ لأن هذا الاستعداد والتهيؤ لا يتبدل، وإن ذهب ذاهب إلى خلاف مقتضاها كانت بحالها حجة عليه، وليس هذا تبديلاً له بل عدم ظهور أثره بالفعل. وهذا أرجح الأقوال عندي وأولاها. ولا يخالفه لفظ "الملة" ولا حديث عياض بن حمار كما لا يخفى على المتأمل. وإلى هذا القول مال القرطبي في المفهم فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فمادامت باقية على ذلك القبول وعلى تلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام، وهو الدين الحق، وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: "كما تنتج البهيمة
…
"الخ، يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئاً من العيب. لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فيخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع وجهه واضح، وهو الذي رجحه التوربشتي في شرح المصابيح، واختاره الطيبي في شرح المشكاة، والشاة ولي الله الدهلوي في حجة الله، وقال في شرح الموطأ: إنه أصح ما قيل في هذا الحديث. (يهودانه) بتشديد الواو، أي يعلمانه اليهودية ويجعلانه يهودياً إذا كانا من اليهود. وذلك بتقدير الله وقضائه لا بخلقهما، فلا حجة فيه للقدرية. وكذا ينصرانه ويمجسان، والفاء في "فأبواه" إما للتعقيب وهو ظاهر، أو للتسبيب، أي إذا تقرر ذلك فمن تغير كان بسبب أبويه غالباً. (كما تنتج) أي تلد (البهيمة) بالرفع، وقوله: "كما" إما حال من الضمير المنصوب في يهودانه مثلاً، أي يهودان المولود بعد أن خلق على الفطرة مشبهاً بالبهيمة التي جدعت بعد أن خلقت سليمة. أو من الضمير المرفوع في "يولد"، شبه ولادته على الفطرة بودلاة البهيمة السليمة، غير أن السلامة حسية ومعنوية،
بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول:{فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} )) متفق عليه.
91-
(13) وعن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه،
ــ
أو صفة مصدر محذوف، وما مصدرية، أي يولد على الفطرة ولادة مثل نتاج البهيمة، أو يغيرانه تغييراً كتغييرهم البهيمة، وعلى التقديرين فالأفعال الثلاثة - أعني يهودانه وما عطف عليه - تنازعت في "كما"، وتنتج يروى على بناء الفاعل وبناء المفعول، يقال: نتج الناقة ينتجها: إذا تولى نتاجها حتى وضعت فهو ناتج، وهو للبهائم كالقابلة للنساء. والأصل نتجها أهلها ولداً، ولذا يتعدى إلى مفعولين، فإذا بني للمفعول الأول قيل: نتجت ولداً، إذا وضعته وولدته، وإذا بني للمفعول الثاني قيل: نتج الولد، أي وضع وأنتجت البهيمة ولداً أي وضعته وولدته، والجمعاء التي لم يذهب من بدنها شيء، سميت بذلك لاجتماع سلامة أجزائها من نحو جدع وكي، والجدعاء التي قطعت أذنها أو غيرها من الأعضاء، زاد في المصابيح "حتى تكونوا أنتم تجدعونها"، وكذا في رواية البخاري. (بهيمة) بالنصب على أنه مفعول ثانٍ لتنتج، والأول أقيم مقام فاعله، وقيل: إنه منصوب على الحال بتقدير كون تنتج مجهولاً، أي ولدت في حالة كونها بهيمة، أو على أنه مفعول إذا كان معروفاً من نتج إذا ولد. (هل تحسون) أي تدركون وهو بضم التاء وكسر الحاء (فيها) أي في البهيمة الجمعاء، والمراد بها الجنس، والجملة في موضع الحال، أي بهيمة سليمة مقولاً في حقها هذا القول. (ثم يقول) أي أبوهريرة - كما في رواية - استشهاداً بقوله تعالى:{فطرة الله} أي ألزموها (ذلك) أي التوحيد الذي هو معنى الفطرة، وهو {الدين القيم} أي المستقيم الذي لا عوج له ولا ميل إلى تشبيه وتعطيل ولا جبر ولا قدر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والترمذي، وفي معنى الحديث عن جماعة من الصحابة ذكر أحاديثهم الحافظ ابن كثير في تفسيره.
91-
قوله: (قام فينا بخمس كلمات) أي بخمس فصول، والكلمة لغة تطلق على الجملة المركبة المفيدة، أي قام فيما بيننا بتبليغ خمس كلمات، أي بسببه، فالجاران متعلقان بالقيام، وقيل: المعنى قام خطيباً فينا مذكراً بخمس كلمات لنا، فقوله:"فينا" و"بخمس" حالان مترادفان أو متداخلان، ويحتمل أن يكون "فينا" متعلقاً بقام على تضمين معنى خطب، و"بخمس" حال، أي خطب قائماً مذكراً بخمس كلمات، وقيل غير ذلك. (إن الله لا ينام) إذ النوم لاستراحة القوى والحواس، وهي على الله تعالى محال. (ولا ينبغي له أن ينام) أي لا يصح ولا يستقيم ولا يمكن له النوم، فالكلمة الأولى دالة على عدم صدور النوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يلزم من عدم الصدور استحالته، فلذلك ذكرت الكلمة الثانية بعد الأولى. (يخفض القسط ويرفعه) هذه هي الكلمة الثالثة، قيل: أريد بالقسط الميزان، وسمي الميزان قسطاً لأنه يقع به
يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) رواه مسلم.
ــ
العدل في القسمة وغيرها، وهو الموافق لحديث أبي هريرة الآتي:((يرفع الميزان ويخفضه)) ، والمعنى أن الله يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده، كما يرفع الوزان يده ويخفضها عند الوزن، فهو تمثيل وتصوير لما يقدر الله تعالى وينزل، ويحتمل أنه أشار إلى قوله تعالى:{كل يوم هو في شأن} [55: 29] ، أي إنه يحكم بين خلقه بميزان العدل، فأمره كأمر الوزان الذي يزن فيخفض يده ويرفعها، وهذا المعنى أنسب بما قبله، كأنه قيل: كيف كان يجوز عليه النوم وهو الذي يتصرف أبداً في ملكه بميزان العدل، وقيل: أريد بالقسط الرزق؛ لأنه قسط كل مخلوق ونصيبه، وخفضه تقليله ورفعه تكثيره، يخفضه تارة بتقتير الرزق والخذلان بالمعصية، ويرفعه أخرى يتوسيع الرزق والتوفيق للطاعة، ففيه رد على القدرية. (يرفع إليه) أي للعرض عليه، وإن كان هو تعالى أعلم به ليأمر الملائكة بإمضاء ما قضي لفاعله جزاء له على فعله، أو يرفع إلى خزائنه ليحفظ إلى يوم الجزاء. (قبل عمل النهار) أي قبل رفع عمل النهار (وعمل النهار) عطف على عمل الليل (قبل عمل الليل) أي قبل أن يشرع العبد في عمل الليل، أو قبل أن يرفع العمل بالليل، والأول أبلغ؛ لأن الزمن أقصر، ولما فيه من الدلالة على مسارعة الملائكة المؤكلة إلى رفع الأعمال وسرعة عروجهم إلى ما فوق السماوات. (حجابه النور) هذه هي الكلمة الخامسة، وأصل الحجاب هو الستر الحائل بين الرائي والمرئي، والمراد ههنا هو المانع للخلق عن إبصاره في دار الفناء، والكلام في دار البقاء، فلا يرد أن الحديث يدل على امتناع الرؤية في الآخرة، وكذا لا يرد أنه ليس له مانع عن الإدراك فكيف قيل: حجابه النور؟ يريد أن حجابه خلاف الحجب المعهودة، فهو محتجب عن الخلق بأنوار عزه وجلاله وسعة عظمته وكبريائه، وذلك هو الحجاب الذي تدهش دونه العقول وتذهب الأبصار وتتحير البصائر. (لو كشفه) أي رفع ذلك الحجاب وأزاله، هذا هو المتبادر من كشف الحجاب، وقيل: المراد لو أظهره. (سبحات وجهه) بضمتين جمع سبحة - بالضم كغرفة وغرفات، وفسر سبحات الوجه بجلاله وأنواره وبهائه، وقيل: محاسنه؛ لأنك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان الله. (ما انتهى) أي وصل (إليه) الضمير لما (بصره) أي بصر الله تعالى، والمعنى لأحرقت سبحات ذاته كل مخلوق انتهى إلى ذلك المخلوق بصره تعالى، ومعلوم أن بصره محيط لجميع الكائنات، فكيف إذا كشف، فهذا كناية عن هلاك المخلوق أجمع، وقيل: الضمير في "بصره" راجع إلى "ما"، وهو موصول مفعول به لأحرقت، وضمير "إليه" راجع إلى وجهه تعالى، والمراد ما انتهى بصره إلى الله تعالى أي كل من يراه يهلك، فكأنهم راعوا أن الحجاب مانع عن إبصارهم، فعند الرفع ينبغي أن يعتبر إبصارهم وإلا فإبصاره تعالى دائم. (من خلقه) بيان لما في قوله "ما انتهى" والمعنى لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نوراً فتجلى لما وراءه من حقائق الصفات وعظمة الذات لأحرق جلال ذاته ونور وجهه جميع مخلوقاته. (رواه مسلم) في الإيمان وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص395، 405)
92-
(14) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض ويرفع،
وابن ماجه في السنة وابن حبان، قيل: معنى الحديث مسبوك من معنى آية الكرسي، فهو سيد الأحاديث كما أنها سيد الآيات، ذكره الطيبي ثم بينه وأوضحه فارجع إليه.
ــ
92-
قوله: (يد الله) الواجب في هذا اللفظ وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث والتسليم، وترك التصرف فيه للعقل، وهو مذهب السلف، واختلف المأولون في تأويله، فقيل: المراد باليد النعمة، وفسرها بعضهم بالخزائن، وقال: أطلق اليد على الخزائن لتصرفها فيها، والمعنى بالخزائن قوله {كن فيكون} ، ولذلك لا ينتقص أبداً. (ملأى) على زنة فعلى، تأنيث ملآن، قالوا: المراد به لازمه، وهو أنه في غاية من الغنى، وعنده من الرزق ما لا نهاية له في علم الخلائق، فهو كناية عن كثرة نعمته وغزارتها وجزالة عطاياه وعمومها. (لا تغيضها) بفتح الفوقية، وقيل: بالياء، أي لا تنقصها، لازم ومتعدٍ. (سحاء) بفتح المهملتين مثقل ممدود، على زنة فعلاء، لا أفعل لها، كهطلاء، أي دائمة الصب بالعطاء، من سح يسح - بكسر السين في المضارع، ويجوز ضمها - أي سال وانصب متتابعاً غزيراً، وضبط في مسلم "سحاً" منوناً بلفظ المصدر، أي تسح سحاً. (الليل والنهار) منصوبان على أنهما ظرف لسحاء، والمراد به عدم الانقطاع لمادة عطائه كالعين التي لا يغيضها الاستقاء ولا ينقصها الامتياح، وفي الحديث إشارة إلى أنها المعطية عن ظهر غنى؛ لأن الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة وعفو، وإلى جزالة عطاياه؛ لأن السح يستعمل فيما ارتفع عن حد التقاطر إلى حد السيلان، وإلى أنه لا مانع لها؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب من فوق لم يستطع أحد أن يرده، وإلى أنه لا انقطاع لها لوصف السح بالدوام. (أرأيتم) أي أخبروني، وقيل: أعلمتم وأبصرتم؟ (ما أنفق) ما مصدرية، أي إنفاق اليد، وقيل: ما موصولة متضمنة معنى الشرط. (فإنه) أي الإنفاق (لم يغض) بفتح الياء وكسر الغين المعجمة، أي لم ينقص. (ما في يده) موصولة مفعول، وقال الطيبي: يجوز أن تكون ملأى ولا تغيضها وسحاء وأرأيتم على تأويل القول - أي مقول فيها - أخباراً مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة الأخيرة أوصافاً لملأى، وأن يكون "أرأيتم" استئنافاً فيه معنى الترقي، وقال أيضاً: لما قيل ملأى أوهم جواز النقصان، فأزال بقوله:"لا تغيضها"، وربما يمتلأ الشيء ولم يغض، فقيل "سحاء"؛ ليؤذن بالفيضان، وقرنهما بما يدل على الاستمرار من ذكر "الليل والنهار"، ثم أتبعها ما يدل على أن ذلك مقرر غير خاف على كل ذي بصر وبصيرة؛ لقوله "أرأيتم"، فإنه خطاب عام والهمزة للتقرير. (وكان عرشه) حال من ضمير خلق إلى آخر ما قال. (وبيده) وفي رواية "وبيده الأخرى"(الميزان) أي ميزان الأعمال والأرزاق. (يخفض ويرفع) أي يخفض من يشاء ويرفع من يشاء، أو ينقص من الرزق ويقتره على من يشاء، ويزيده ويوسعه على من يشاء بمقتضى قدره الذي هو تفصيل لقضائه السابق، أو يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد
متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((يمين الله ملأى)) ، قال ابن نمير: ملآن سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار.
93-
(15) وعنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين، قال:((الله أعلم بما كانوا عاملين)) .
ــ
المرتفعة إليه، يقللها لمن يشاء بالخذلان ويكثرها لمن يشاء بالتوفيق للطاعة، كما يصنعه الوزان عند الوزن يخفض مرة ويرفع أخرى. وأئمة السنة على وجوب الإيمان بهذا وأشباهه من غير تفسير، بل يجرى على ظاهره، ولا يقال كيف، وقال الخطابي: الميزان هنا مثل، والمراد القسمة بالعدل بين الخلق. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي في التفسير، وأبوداود وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية لمسلم) في الزكاة (يمين الله) معنى هذا اللفظ كما ذكره المأولون في اليد من المجاز، فليتأمل. والوجه مذهب السلف، قيل: خص اليمين لأنها مظنة العطاء، وورد في بعض الأحاديث:((وكلتا يديه يمين)) ، أي مباركة قوية قادرة لا مزية لإحداهما على الأخرى. (قال ابن نمير) بضم النون، هو محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخازني، أبوعبد الرحمن الكوفي، ثقة حافظ فاضل، روى عن خلق كثير، وعنه: البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه. مات سنة (234) . (ملآن) أي روى محمد بن عبد الله بن نمير ملان بالنون وسكون اللام بعدها همزة، وقيل: بفتح اللام بلا همز. قالوا: وهو غلط منه، وصوابه: ملأى بالتأنيث كما في سائر الروايات، ووجهها بعضهم بأن اليمين يذكر ويؤنث كالكف. (الليل والنهار) ظرف لسحاء.
93-
قوله: (عن ذراري المشركين) جمع ذرية، وهي نسل الإنس والجن، ويقع على الصغار والكبار، إما من الذر بمعنى التفريق، أو من الذرء بمعنى الخلق، فتركت الهمزة أو أبدلت، والمراد عن حكم أولادهم إذا ماتوا قبل البلوغ أنهم من أهل النار أو الجنة. (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء، وهو صريح في الأمر بالتوقف فيهم، وتمسك به من قال: هم في مشيئة الله، وقد اختلفوا في حكمهم على أقوال كثيرة، أشهرها التوقف، نسب ذلك إلى الأئمة الثلاثة، وعن أحمد روايتان، ثم اختلفوا في معنى التوقف، فقيل: المراد به عدم العلم أو عدم الحكم بشيء، وقال بعضهم: المراد به التوقف في الحكم الكلي، فبعض أولاد المشركين ناجٍ وبعضهم هالك، والصواب عندي أن جميع أولاد المشركين في الجنة، واستدل لهذا بأشياء، منها: حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وحوله أولاد الناس، وفيه أنه قال الملكان:((وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال - الراوي -: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين)) رواه البخاري في آخر تعبير الرؤيا من صحيحه. ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [17: 15] ، ولا يتوجه على المولود التكليف حتى يبلغ، وهذا متفق عليه، ومنها حديث أنس أخرجه أبويعلى مرفوعاً:((سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم)) ، قال الحافظ: إسناده حسن، قال: وورد تفسير اللاهين بأنه الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار، ومنها ما رواه أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن مريم عن عمتها قالت: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: ((النبي