المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من

سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) رواه مسلم.

212-

(15) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل)) متفق عليه. وسنذكر حديث معاوية ((لا يزال من أمتي)) في باب ثواب هذه الأمة إن شاءالله تعالى.

{الفصل الثاني}

213-

(16) عن كثير بن قيس قال: ((كنت جالسا مع أبي الدرداء

ــ

أن يكون معلوماً؛ لأنه متعدٍ ولازم. (سنة سيئة) أي طريقة غير مرضية لا يشهد لها أصل من أصول الدين يعني بدعة شرعية. (من أوزارهم) جمع في الموضعين باعتبار معنى "من" كما أفرد في "ينقص" باعتبار لفظه. وفي الحديث الحث على البداءة بالخير ليستن به، والتحذير من البداءة بالشر خوف أن يستن به، ووجه المناسبة بالعلم أن استنان السنن المرضية من باب العلم المنتفع به. (رواه مسلم) في الزكاة وفي العلم، وأخرجه أيضاً النسائي في الزكاة مطولاً، والترمذي في العلم، وابن ماجه في السنة مختصراً أي بدون القصة.

212-

قوله: (ظلماً) نصب على التمييز (إلا كان على ابن آدم الأول) صفة لابن، والمراد الأول من القتلة، أي الذي هو قاتل أولاً، لا أول الأولاد. قيل: هو قابيل قتل أخاه هابيل. {إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} [27:5] . وراجع للتفصيل إلى كتب التفسير. (كفل) أي نصيب (من دمها) أي دم النفس (لأنه أول من سن القتل) فهو متبوع في هذا الفعل، وللمتبوع نصيب من فعل تابعه وإن لم يقصد التابع إتباعه في الفعل. (متفق عليه) أخرجه البخاري في خلق آدم، وفي الديات، وفي الاعتصام. ومسلم في الحدود، وأخرجه أيضاً الترمذي في العلم، والنسائي في المحاربة، وابن ماجه في الحدود.

213-

قوله: (عن كثير بن قيس) الشامي، ويقال: قيس بن كثير. والأول أصح، ضعيف من أوساط التابعين. قال في تهذيب التهذيب: روى عن أبي الدرداء في فضل العلم، وعنه داود بن جميل، جاء في أكثر الروايات أنه كثير بن قيس على اختلاف في الإسناد إليه، وتفرد محمد بن يزيد الواسطي في إحدى الروايتين عنه بتسمية قيس بن كثير، وهو وهم. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سميع: أمره ضعيف لم يثبته أبوسعيد يعني دحيماً. وقال الدارقطني: ضعيف. ووقع لابن قانع وهم بحت عجيب في معجم الصحابة فإن الحديث وقع له بدون ذكر أبي الدرداء

ص: 316

في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبالدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء،

ــ

فيه، فذكر كثيراً بسب ذلك في الصحابة فأخطأ-انتهى. (في مسجد دمشق) بكسر الدال وفتح الميم وبكسر، أي الشام (يا أباالدرداء) يقرأ الهمزة بعد حرف النداء ولا يكتب رسماً. (لحديث) أي لأجل تحصيل حديث (بلغني أنك تحدثه) أي ذلك الحديث (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون سمعه إجمالاً، أو أراد أن يسمعه بلا واسطة لإفادة العلم وزيادة الطمأنينة، أو لعلو الإسناد فإنه من الدين. (ماجئت) إلى الشام (لحاجة) أخرى غير أن أسمعك الحديث. (قال) أي أبوالدرداء (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن هذا الحديث هو الحديث المطلوب للرجل أو غيره. ذكره تبشيراً له وترغيباً في مثل ما فعل. (من سلك طريقاً يطلب فيه) أي في ذلك الطريق (علماً) . قال الطيبي: إنما أطلق الطريق والعلم ليشملا في جنسهما، أي طريق كان من مفارقة الأوطان والضرب في البلدان إلى غير ذلك، وأي علم كان من علوم الدين قليلاً كان أو كثيراً. (سلك الله به طريقاً) الضمير المجرور عائد إلى "من" والباء للتعدية، أي جعله سالكاً ووفقه أن يسلك طريق الجنة. وقيل: عائد إلى العلم، والباء للسبية، و"سلك" بمعنى سهل، والعائد إلى من محذوف، والمعنى: سهل الله له بسبب العلم طريقاً، فعلى الأول "سلك" من سلوك، وعلى الثاني من السلك، والمفعول محذوف، كقوله تعالى:{يسلكه عذاباً صعداً} [17:27] . وعلى التقديرين نسبة "سلك" إلى الله تعالى على سبيل المشاكلة، كذا قاله الطيبي. وهو إما كناية عن التوفيق للخيرات في الدنيا، أو عن إدخال الجنة بلا تعب في الآخرة. (وإن الملائكة لتضع أجنحتها) جمع جناح بالفتح، وهو محمول على الحقيقة وإن لم يشاهد، أي تفرشها لتكون وطاء له إذا مشى، أو تكفها عند الطيران وتنزل عند مجالس العلم لسماعه، أو تبسطها له لتحمله عليها وتبلغه حيث يريد من البلاد، ومعناه المعونة في طلب العلم، أو هو مجاز عن التواضع توقيرً لعلمه وتعظيماً لحقه ومحبة للعلم. (رضاً) حال أو مفعول له على معنى إرادة رضاً ليكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل به. (لطالب العلم) متعلق برضا (ليستغفر له) إذا لحقه ذنب، ومجازاة على حسن صنيعه بإلهام من الله تعالى إياهم ذلك، وذلك لعموم نفع العلم، فإن مصالح كل شيء ومنافعه منوطة به، وهو محمول على الحقيقة. (والحيتان) جمع الحوت، قال الطيبي: ذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تنميم لاستيعاب جميع الحيوانات على طريق "الرحمن الرحيم"، كما بيناه في فتوح الغيب، وأما تخصيص الحيتان فللدلالة على أن إنزال المطر ببركتهم حتى أن الحيتان تعيش بسببهم كما ورد:((بهم تمطرون وبهم ترزقون)) .

ص: 317

وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) رواه أحمد والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه، والدارمي. وسماه الترمذي قيس بن كثير.

214-

(17) وعن أبي أمامة الباهلي قال: ((ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ــ

(وإن فضل العالم) والمراد به من غلب عليه الاشتغال بالعلم على عبادته النافلة. (على العابد) المراد به من غلب عبادته على الاشتغال بالعلم. (كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) شبه العابد بالكواكب؛ لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى منه على غيره. وشبه العالم بالقمر الذى يتعدى نوره ويستضيء به وجه الأرض؛ لأن كمال العلم ونوره يتعدى إلى غيره فيستضيء بنوره المتلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو شمس العلم والدين، وإنما قيده بليلة البدر لكمال إضاءة القمر فيها وانمحاء الكواكب في شعاعها. (ورثة الأنبياء) لم يقل ورثة الرسل ليشمل الكل. (وإن الأنبياء لم يورثوا) بالتشديد (ديناراً ولا درهماً) أي شيئاً من الدنيا. وخصا لأنهما أغلب أنواعها. والمراد أنهم ما ورثوا أولادهم وأزواجهم شيئاً من ذلك، بل بقي بعدهم إن بقي شيء معداً لنوائب المسلمين. (وإنما ورثوا) من التوريث (فمن أخذه) أي العلم (أخذ بحظ وافر) أي أخذ حظاً وافراً يعني نصيباً تاماً. والباء زائدة للتأكيد. (رواه أحمد) (ج5:ص196) (والترمذي وأبوداود) في العلم (وابن ماجه) في السنة (والدارمي) في العلم. (وسماه) أي سمى الراوي عن أبي الدرداء (الترمذي) في روايته، وكذا أحمد في طريق له (قيس بن كثير) وهو وهم من أحد الرواة، والصحيح كثير بن قيس. قال المنذري في الترغيب: وقد اختلف في هذا الحديث اختلافاً كثيراً ذكرت بعضه في مختصر السنن وبسطته في غيره- انتهى، فمن شاء الوقوف على ذلك فليرجع إلى مختصر السنن. وسند الترمذي منقطع بين عاصم بن رجاء وقيس بن كثير لعدم ذكر واسطة داود بن جميل بينهما. ورواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب، وكذا أحمد في طريق له متصلاً بذكر الواسطة، وهذا أرجح.

214-

قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة (الباهلي) نسبة إلى باهلة بكسر الهاء، قوم، وأبو أمامة كان سيدهم. (ذكر) على البناء للمفعول (الرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان) أي بوصف الكمال، وهو يحتمل أن يكون تمثيلاً، وأن يكونا موجودين في الخارج قبل زمانه أو في أوانه، ويؤيد الثاني ما ذكر في الفصل الثالث من رواية الحسن مرسلاً قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل أحدهما كان عالماً، الخ (فضل العالم) بالعلم الشرعي مع القيام بفرائض العبودية. (على العابد) أي على المتجرد للعبادة بعد تحصيل قدر الفرض من العلوم. (كفضلي على أدناكم) أي نسبة طرف

ص: 318

إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) رواه الترمذي.

215-

(18) ورواه الدارمي عن مكحول مرسلاً، ولم يذكر ((رجلان)) ، وقال: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم تلا هذه الآية:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} وسرد الحديث إلى آخره.

العالم إلى شرف العابد، كنسبة شرف الرسول إلى شرف أدنى الصحابة. وفيه مبالغة لا تخفى. (وأهل السماوات) تعميم بعد تخصيص. (والأرض) أي أهل الأرض من الإنس والجن وجميع الحيوانات. (حتى النملة) بالنصب على أن "حتى" عاطفة، وبالجر على أنها جارة، وبالرفع على أنها ابتدائية. قال القاري: والأول أصح. (في جحرها) بضم الجيم وسكون الهاء، أي ثقبها. (وحتى الحوت) كما تقدم، وهما غايتان مستوعبتان لدواب البر والبحر، وخصت النملة من دواب البر؛ لأنها أكثر الحيوانات ادخاراً للقوت في جحرها، فهي أحوج إلى بركتهم من غيرها. (ليصلون) أي يدعون بالخير. وفيه تغليب للعقلاء على غيرهم. (على معلم الناس الخير) قيل: أراد بالخير هنا علم الدين وما به نجاة الرجل. وفيه إشارة إلى وجه الأفضلية بأن نفع العلم متعدٍ، ونفع العبادة قاصر. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه أيضاً الطبراني، والضياء، وأخرج البزار من حديث عائشة مختصراً قال: معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر.

215-

قوله: (ورواه الدارمي عن مكحول) كنيته أبوعبد الله أو أبومسلم أو أبوأيوب الشامي الدمشقي. قيل: كان من سبي كابل، وكان معلم الأوزاعي، ثقة فقيه كثير الإرسال من الطبقة الصغرى من التابعين. وروى عنه قال: عتقت بمصر فلم أدع فيها علماً إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام فذكر كذلك. قال الخزرجي: روى عن كثير من الصحابة مرسلاً. مات سنة بضع عشرة ومائة. (مرسلاً) أي حذف الصحابي. (ولم يذكر) أي مكحول (رجلان) مرفوع على الحكاية، والمراد: هو وما بعده من قوله: "أحدهما عابد والآخر عالم" ولذا قال (وقال) أي مكحول رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكاية {إنما يخشى الله} بالنصب {من عباده العلماء} بالرفع. والخشية الخوف مع التعظيم، وقرئ في الشواذ برفع الجلالة ونصب العلماء، أي يعظمهم على التجريد. قيل: هو استشهاد لبيان علة الفضل وحاصله: أن العلم يورث الخشية لكون صاحبه أكثر معرفة بالله وبجلاله وكبريائه، والخشية تنتج التقوى وهو موجب الأكرمية والأفضلية، قال تعالى:{إن أكرمكم عندالله أتقاكم} [13:49] ، وفيه إشارة إلى أن من لم يكن علمه كذلك فهو كالجاهل بل هو الجاهل. (وسرد) أي ذكر وأورد مكحول. (الحديث) أي بقية الحديث السابق إلى آخره.

ص: 319

216-

(19) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً)) رواه الترمذي.

217-

(20) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحق بها))

ــ

216-

قوله: (لكم تبع) بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم، والخطاب لعلماء الصحابة، يعني يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم عني مكارم الأخلاق. (من أقطار الأرض) جمع قطر بالضم أي من أطراف الأرض وجوانبها. (يتفقهون في الدين) أي يطلبون علم الدين، والجملة استئنافية لبيان علة الإتيان، أو حال من الضمير المرفوع في "يأتونكم"، وهو أقرب إلى الذوق، كذا قاله الطيبي. (فاستوصوا بهم خيراً) أي في تعليمهم علوم الدين وأخلاق المهتدين وتحقيقه، اطلبوا الوصية والنصيحة بهم من أنفسكم، فالسين للطلب، والكلام من باب التجريد، وفيه مبالغة حيث أمروا أن يجردوا عن أنفسهم أشخاصاً أخر يطلبون منهم التوصية في حق طلبة العلم ومراعاة أحوالهم. وقيل: الاستيصاء قبول الوصية، أي أوصيكم بهم خيراً فاقبلوا الوصية مني فيهم، وافعلوا بهم خيراً، ولهذا كان جمع من أكابر السلف إذا دخل على أحدهم غريب طالب العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه الترمذي) في العلم، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في السنة، وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده أباهارون العبدي وهو متروك، ومنهم من كذَّبه.

217-

قوله: (الكلمة الحكمة) أي ذات الحكمة المشتملة عليها، جعلت الكلمة نفس الحكمة مبالغة، فهو من باب رجل عدل، وروي "كلمة الحكمة" بالإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروي "الكلمة الحكمة" على طريق الإسناد المجازي فإن الحكيم قائلها، والمراد بها الجملة المفيدة معنى دقيقاً. (ضالة الحكيم) أي مطلوبه، والضالة في الأصل الضائعة من الحيوان وغيره، و"الحكيم" هو المتقن للأمور الذي له فيها غور. (فهو أحق بها) أي بقبولها، يعني أن الحكيم يطلب الحكمة فإذا وجدها فهو أحق باتباعها والعمل بها، أو المعنى: أن الناس متفاوتون في فهم المعاني واستنباط الحقائق المحتجبة، فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك دقائق الآيات والأحاديث على من رزقه، ولا ينازعه كما لا ينازع صاحب الضالة في ضالته إذا وجدها، أو كما أن صاحب الضالة آخذ ضالته ممن وجدها لا يحل له منعها، كذا العالم لا يحل له المنع عن السائل إذا رأى فيه استعداداً لفهمه، ففيه أنه لا يجوز منح غير الحكيم، فإنها ليست ضالته، أو المراد أن كلمة الحكمة ربما يتكلم بها من ليس لها بأهل ثم وقعت إلى أهلها فهو أحق بها من الذي قالها من غير التفات إلى خساسة من تكلم بها، كالضالة إذا وجد صاحبها أخذها من واجدها وإن كان خسيساً ولا ينظر إلى خساسته. ووقع في الترمذي وابن ماجه "ضالة المؤمن" بدل قوله:"ضالة الحكيم"، قال السندهي: أي مطلوبة له بأشد ما يتصور في الطلب كما يطلب المؤمن

ص: 320

رواه الترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث.

218-

(21) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)) رواه الترمذي، وابن ماجه.

ــ

ضالته، وليس المطلوب بهذا الكلام الإخبار، إذ كم مؤمن ليس له طلب للحكمة أصلاً بل المطلوب به الإرشاد كالتعليم. أى اللائق بحال المؤمن أن يكون مطلوبه الكلمة الحكمة، ويحتمل أن يكون إخباراً لحمل "المؤمن" على الكامل في الإيمان، ومعنى قوله:"فحيث وجدها فهو أحق بها" أي ينبغي أن يكون نظر المؤمن إلى القول لا إلى القائل. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في الزهد. (وإبراهيم بن الفضل الراوي) بتخفيف الياء، أي راوي هذا الحديث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة (يضعف) بصيغة المجهول، أي ينسب إلى ضعف الرواية. وفي نسخ الترمذي الحاضرة "ضعيف". (في الحديث) أي في باب نقل الحديث وروايته. قال في التقريب: إبراهيم بن الفضل المخزومي المدني أبوإسحاق، ويقال: إبراهيم بن إسحاق، متروك – انتهى. وقال أبوحاتم والبخاري والنسائي: منكر الحديث. وذكر العقيلي من مناكيره هذا الحديث. والحديث أخرجه ابن عساكر عن علي، والعسكري في الأمثال عن أبي هريرة بلفظ:((كلمة الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها)) .

218-

قوله: (فقيه واحد) إن كان المراد من الفقيه الذي رزق الفهم في الدين، والتفطن لمداركه وموارده، فهو عارف لمكائد الشيطان ولمته، ورزق علم الخواطر وتمييزها، والاطلاع على دسائس النفوس ووساوسها. وإن كان المراد العالم بأحكام الدين وتفاصيلها كما يجوز فكذلك؛ لأنه بعلمها يحذر عن المواقع المحرمة، فلا يستخفها ولا يستحلها، فلا يقع في ورطة الكفر، بخلاف المتعبد الذي ليس فى مرتبته في المعنيين. (أشد على الشيطان) ؛ لأن الفقيه لا يقبل إغواءه، ويأمر الناس بالخير، ويصونهم عن إغوائه. (من ألف عابد) قيل: المراد به الكثرة وذلك لأن غاية همة العابد أن يخلص نفسه من مكائد الشيطان، وقد لا يقدر عليه فيدركه الشيطان من حيث لا يدرى، بخلاف الفقيه فقد يخلص الله تعالى على يديه العباد من مكائد الشيطان. (رواه الترمذي) في العلم (وابن ماجه) في السنة. وأخرجه أيضاً البيهقي كلهم من رواية روح بن جناح، تفرد به عن مجاهد عن ابن عباس، وروح بن جناح ضعيف، اتهمه ابن حبان، فالحديث ضعيف. قال الساجي: هو حديث منكر، وأخرجه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، والدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعاً به في حديث. قال الطبراني: سنده ضعيف، وله شواهد أسانيدها ضعيفة. وقال في المقاصد: لفقيه واحد أشد، الخ. أسانيده ضعيفة لكنه يتقوى بعضها ببعض.

ص: 321

219-

(22) وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب)) رواه ابن ماجه، وروى البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله: ((

مسلم)) ، وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف.

220-

(23) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خصلتان لا يجتمعان في منافق:

ــ

219-

قوله: (طلب العلم فريضة) قال البيهقي في المدخل: أراد - والله تعالى أعلم – العلم الذي لا يسع العاقل البالغ جهله، أو علم ما يطرأ له خاصة فيسأل عنه حتى يعلمه، أو أراد أنه فريضة على كل مسلم حتى يقوم به من فيه كفاية. وقال البيضاوي: المراد من العلم ما لا مندوحة للعبد عن تعلمه، كمعرفة الصانع والعلم بواحدنيته، ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيفية الصلاة، فإن تعلمها فرض عين. (على كل مسلم) أي مكلف ليخرج غير المكلف من الصبي والمجنون، وموضوعه الشخص فيشمل الذكر والأنثى، وقد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث "ومسلمة"، قال السخاوي في المقاصد: وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كانت صحيحة المعنى. (وواضع العلم عند غير أهله) كمن لا يصغى ولا يفهم، أو من يريد غرضاً دنيوياً، أو من لا يتعلمه لله. (كمقلد الخنازير) الخ. هذا يعر بأن كل علم يختص باستعداد وله أهل، فإذا وضعه في غير موضعه فقد ظلم، فمثل معنى الظلم بتقليد أخس الحيوانات بأنفس الجواهر تهجيناً لذلك الوضع وتنفيراً عنه، وتعقيب هذا التمثيل بقوله "طلب العلم فريضة" إعلام بأنه ينبغي لكل أحد طلب ما يليق باستعداده، ويوافق منزلته بعد حصول ما هو واجب من الفرائض العامة، وعلى العالم أن يخص كل طالب بما هو مستعد له. (رواه ابن ماجه) في السنة، وفي سنده حفص بن سليمان وهو ضعيف. (وقال:) أي البيهقي (هذا حديث متنه مشهور) أي على ألسنة الناس. (وإسناده ضعيف) أي وإن كان معناه صحيحاً كما سيأتي عن السيوطي. (كلها ضعيف) قال السخاوي في المقاصد: روي عن أنس بطرق كلها معلولة واهية. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، وبسط الكلام في تخريج الإحياء. وقال أحمد: لا يثبت في هذا الباب شيء. وكذا قال ابن راهوية، وأبوعلي النيسابوري، والحاكم، ومثل به ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح، ولكن قال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه. وقال السيوطي: سئل النووي عن هذا الحديث فقال: إنه ضعيف، أي سنداً وإن كان صحيحاً، أي معنى. وقال تلميذه جمال الدين المزى: هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن وهو كما قال، فإني رأيت له نحو خمسين طريقاً وقد جمعتها في جزء – انتهى.

220-

قوله: (خصلتان لا يجتمعان في منافق) قال الطيبي: ليس المراد أن واحدة منهما قد تحصل في المنافق دون الأخرى، بل هو تخريض للمؤمنين على اتصافه بهما ولاجتناب عن ضدهما، فإن المنافق من يكون عارياً عنهما، وهو من

ص: 322

حسن سمت، ولا فقه في الدين)) رواه الترمذي.

221-

(24) وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) رواه الترمذي، والدارمي.

222-

(25) وعن سخبرة الأزدى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ــ

باب التغليظ. ونحوه قوله: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [41: 6، 7] وليس من المشركين من يزكي، لكنه حث للمؤمن على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين. والمراد بالمنافق إما حقيقي وهو النفاق الاعتقادي، أو مجازي وهو النفاق العملي. (حسن سمت) أي خلق وسيرة. قال الطيبي: هو التزي بزي الصالحين. وقيل: المراد هيئة أهل الخير. (ولا فقه في الدين) عطف على "حسن سمت". قال الطيبي: حسن عطقه على ذلك وهو مثبت؛ لأنه في سياق النفي. قال التوربشتي: حقيقة الفقه في الدين ما وقع في القلب ثم ظهر على اللسان، فأفاد العمل، وأورث الخشية والتقوى. وأما الذي يتدارس أبواباً منه ليتعزز به ويتأكل به، فإنه بمعزل عن الرتبة العظمى؛ لأن الفقه تعلق بلسانه دون قلبه، ولهذا قال علي:"ولكني أخشى عليكم كل منافق عليم اللسان"- انتهى. (رواه الترمذي) في العلم، وفي سنده خلف بن أيوب العامرى، تفرد به عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، فقيه من أهل الرأي، ضعفه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان مرجئاً غالياً، استحب مجانبة حديثه لتعصبه.

221-

قوله: (من خرج) أي من بيته أو بلده (في طلب العلم) الشرعي النافع الذى أراد به وجه الله، وهو الذي يزيد في الخوف من الله، وينقص من الرغبة في الدنيا. (فهو في سبيل الله) أي في حكم من خرج للجهاد. قال الطيبي: "ويؤيده قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية [122:9] ، حض المؤمنين على النفقة في الدين وأمرهم بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى طائفة يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقة الذى هو الجهاد الأكبر. (حتى يرجع) يعني فله أجر من خرج في الجهاد إلى أن يرجع إلى بيته؛ لأنه كالمجاهد في إحياء الدين وإذلال الشيطان وإتعاب النفس. (رواه الترمذي والدارمي)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً الضياء المقدسي في المختارة، وأبو نعيم في الحلية.

222-

قوله: (وعن سخبرة) بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الموحدة، والد عبد الله بن سخبرة (الأزدي) بسكون الزاي، ويقال له: الأسدي نسبة إلى الأزد بن يغوث، وبالسين أفصح، أبوحي من اليمن، صحابي له حديثان. قال الحافظ في التهذيب: جزم البخاري بأنه الأزدى، وقال: ليس حديثه من وجه صحيح، وكذا جزم به ابن أبي خيثمة وابن حبان وغيرهم. وقال في التقريب: سخبرة صحابي في إسناد حديثه ضعف. وعند الترمذي سخبرة وليس

ص: 323

((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) رواه الترمذي، والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد، وأبوداود الراوي يضعف.

223-

(26) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)) رواه الترمذي.

224-

(27) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سئل عن علم علمه ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار))

ــ

بالأزدى. وقال غيره: هو الأزدى – انتهى. (من طلب العلم) أي الشرعي ليعمل به (كان) أي طلبة للعلم (كفارة) هي مما يستر الذنوب ويزيلها، من كفر إذا ستر. (لما مضى) أي من الصغائر، ويمكن أن يكون المعنى: أن طلب العلم وسيلة إلى ما يكفر به ذنوبه كلها من التوبة ورد المظالم وغيرها. (وأبوداود) اسمه نفيع الأعمى، مشهور بكنيته، ويقال له: نافع (الراوى) أي عن عبد الله بن سخبرة (يضعف) في الحديث. قال الحافظ: متروك، وقد كذبه ابن معين، وعبد الله بن سخبرة مجهول. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير.

223-

قوله: (لن يشبع المؤمن من خير) أي علم (حتى يكون منتهاه) أي غايته ونهايته (الجنة) بالنصب على الخبرية، أو الرفع على الاسمية، يعني حتى يموت فيدخل الجنة مع السابقين إن عمل به. قال الطيبي: شبه استلذاذه بالمطعوم؛ لأنه أرغب وأشهى وأكثر إتعاباً لتحصيله. و"حتى" للتدرج في استماع الخير والترقي في استلذاذه والعمل به إلى أن يوصله الجنة؛ لأن سماع الخير سبب العمل، والعمل سبب دخول الجنة ظاهراً. ولما كان قوله:"لن يشبع" فعلاً مضارعاً يكون فيه دلالة على استمرار، تعلق "حتى" به – انتهى. والحديث يدل على أن المؤمن الحريص على طلب العلم يموت على الإيمان. (رواه الترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه.

224-

قوله: (من سئل عن علم) نافع يحتاج إليه السائل في أمر دينه وكان السائل أهلاً لذلك العلم. (ثم كتمه)"ثم" فيه استبعادية؛ لأن تعلم العلم إنما كان لنشر العلم ونفعه الناس، وبكتمه يزول ذلك الغرض، فكان بعيداً ممن هو في صورة العلماء والحكماء. (ألجم يوم القيامة بلجام من نار) أي أدخل في فمه لجام من نار، شبه ما يوضع في فمه من النار بلجام في فم الدابة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحق. وخص اللجام بالذكر تشبيهاً للكاتم بالحيوان الذي سخر ومنع من قصده ما يريد. وفي رواية لابن ماجه:((ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار)) . وظاهره أن المراد حضر في المحشر كذلك، ثم أمره إلى الله بعد ذلك؛ لأنه أمسك فمه عن كلمة الحق وقت الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله، حيث أمسك الله فمه في وقت اشتداد الحاجة للكلام والجواب عند السؤال عن الأعمال، وهذا

ص: 324

رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي.

225-

(28) ورواه ابن ماجه عن أنس.

226-

(29) وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار))

ــ

في العلم ضروري الذي يلزم تعليمه ويتعين عليه، كمن يريد الإسلام أو تعليم الصلاة وقد حضر وقتها، أو فتوى في الحل والحرمة. وأما نوافل العلم فهو مخير في تعليمها. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه (والترمذي) وحسنه، وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه. والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال المنذري في مختصر السنن بعد نقل تحسين الترمذى: وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال، والطريق الذي خرج بها أبوداود طريق حسن.

225-

قوله: (ورواه ابن ماجه عن أنس) أيضاً وفي سنده يوسف بن إبراهيم، قال البخاري: هو صاحب عجائب. وقال ابن حبان: روى عن أنس من حديثه ما لا يحل الرواية عنه- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف. قال المنذرى: وقد روي هذا الحديث أيضاً من رواية ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر بن الخطاب، وابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدرى، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعمرو بن عبسة، وعلي بن طلق، وفي كل منها مقال- انتهى. وبالجملة المتن ثابت، والكلام في خصوص الأسانيد لا يقدح في ثبوته.

226-

قوله: (وعن كعب بن مالك) بن أبي كعب الأنصاري السلمي المدني الشاعر، أحد الثلاثة الذين خلفوا، شهد العقبة الثانية والمشاهد كلها غير بدر وتبوك، وكان أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يهاجون عنه صلى الله عليه وسلم. له ثمانون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. مات سنة (50) وقيل: سنة (51) وهو ابن سبع وسبعين سنة بعد أن عمي. (من طلب العلم) أي لا لله بل (ليجاري به العلماء) أي ليجري معهم في المناظرة والجدل ليظهر على الناس علمه رياء وسمعة. (أو ليماري به السفهاء) أي ليجادل به ضعاف العقول. وقيل: المراد به الجهال. قال الطيبي: المماراة من المرية وهي الشك، فإن كل واحد من المتحاجين يشك فيما يقول صاحبه، ويشككه مما يورد على حجته. أو من المرى وهو مسح الحالب ليستنزل ما به من اللبن، فإن كلا من المناظرين يستخرج ما عند صاحبه. (أو يصرف به) أي يميل بالعلم (وجوه الناس إليه) أي ينوى به تحصيل المال والجاه، وصرف وجوه الناس العوام والطلبة إليه، وجعلهم كالخدم له، أو جعلهم ناظرين إليه إذا تكلم، متعجبين من كلامه إذا تكلم، مجتمعين حوله إذا جلس. (أدخله الله النار) الظاهر أنه إخبار بأنه استحق دخول النار بلا دوام، ثم فضل الله واسع، فإن

ص: 325

رواه الترمذي.

227-

(30) ورواه ابن ماجه عن ابن عمر.

228-

(31) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. يعني ريحها))

ــ

شاء عفا بلا دخول، وقيل: جملة دعائية. (رواه الترمذي) في سنده إسحاق بن يحيى بن طلحة، تفرد به عن ابن كعب عن أبيه. قال الترمذي: ليس بذلك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه – انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم شاهداً والبيهقي.

227-

قوله: (ورواه ابن ماجه عن ابن عمر)، قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف حماد بن عبد الرحمن وأبي كرب الأزدى. وروي في ذم تعلم العلم لغير وجه الله عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص184) وعلي المتقي في الكنز (ج5:ص214، 216) .

228-

قوله: (مما يبتغى به وجه الله) من بيان للعلم أي العلم الذي يطلب به رضا الله تعالى، وهو العلم الديني، فلو طلب الدنيا بعلم الفلسفة والهندسة ونحوهما فهو غير داخل في أهل هذا الوعيد. (لا يتعلمه) حال إما من فاعل "تعلم" أو من مفعوله؛ لأنه تخصص بالوصف، ويجوز أن يكون صفة أخرى لعلماء. (إلا ليصيب) أي لينال ويحصل بذلك العلم. (عرضاً) بفتحتين وإهمال العين، أي متاعاً من الدنيا، والاستثناء من أعم الأوصاف، أي لا يتعلمه لغرض من الأغراض إلا ليصيب به شيئاً من متمتعات الدنيا. وفيه دلالة على أن الوعيد المذكور لمن لا يقصد بالعلم إلا الدنيا، وأما من طلب بعلمه رضا المولى ومع ذلك له ميل ما إلى عرض الدنيا فخارج عن هذا الوعيد، فابتغاء وجه الله يأبى إلا أن يكون متبوعاً ويكون العرض تابعاً. قال الطيبي: وصف العلم بابتغاء وجه الله إما للتفصيل والتمييز، فإن بعضاً من العلوم مما يستعاذ منه، كما ورد "أعوذ بالله من علم لا ينفع"، وإما للمدح. (عرف الجنة) بفتح العين وسكون الراء المهملتين - الرائحة، مبالغة في تحريم الجنة؛ لأن من لا يجد ريح الشيء لا يتناوله قطعاً. وهذا محمول على أنه يستحق أن لا يدخل أولاً ثم أمره إلى الله تعالى كأمر صاحب الذنوب إذا مات على الإيمان. وقيل: بل المراد أنه يكون محروماً من ريح الجنة وإن دخلها. وقيل: بل هذا الحكم مخصوص بيوم القيامة كما هو المذكور في لفظ الحديث، وهو من حين أن يحشر إلى أن يستقر أهل كل دار مقره، وبيانه أن الأخبار سيما العلماء إذا وردوا يوم القيامة يجدون رائحة الجنة قبل أن يدخلوها تقوية لقلوبهم وتسلية لهمومهم على مقدار مراتبهم، وهذا البائس المبتغي للأغراض الفانية يكون في ذلك الوقت كصاحب أمراض حادثة

ص: 326

رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.

229-

(32) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم،

ــ

في الدماغ، مانعة من إدراك الروائح، لا يجد رائحة الجنة. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال صحيح سنده، ثقات رواته على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي.

229-

قوله: (نضر الله) قال في النهاية: يروى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل حسن الوجه والبريق، وأراد حسن خلقه وقدره- انتهى. وقيل: روي مخففاً ومشدداً، والثاني أكثر وأجود، والمراد ألبسه الله النضرة، وهي الحسن وخلوص اللون، أي جملة وزينه، وأوصله الله إلى نضرة الجنة أي نعيمها ونضارتها، ثم قيل: إنه إخبار يعني جعله ذا نضرة، وقيل: دعاء له بالنضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة. (سمع مقالتي) أي حديثي (فحفظها) بالقلب أو الكتابة. (ووعاها) أي داوم على حفظها ولم ينسها. (وأداها) أي أوصلها إلى الناس وعلمها. (فرب حامل فقه) أي علم. وهذا بمنزلة التعليل لما يفهم من الحديث أن التبليغ مطلوب، والمراد بحامل الفقه حافظ الأدلة التي يستنبط منها الفقه. (غير فقيه) أي غير قادر على استنباط الفقه من تلك الأدلة، و"غير" بالجر صفة"حامل"، وقيل بالرفع، فتقديره: هو غير فقيه. يعني لكن يحصل له الثواب لنفعه بالنقل. (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي هو فقيه أيضاً لكنه يحمل الفقه إلى أفقه منه، بأن كان الذي يسمع منه أفقه منه وأقدر على استنباطه، أو إلى من يصير أفقه منه. قال الطيبي: قوله "إلى من هو أفقه منه" صفة لمدخول"رب"، استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدى إلى من هو أفقه منه. (ثلاث) أي ثلاث خصال أو خصال ثلاث. (لا يغل) بكسر الغين وتشديد اللام على المشهور، والياء تحتمل الضم والفتح، فعلى الأول من أغل إذا خان، وعلى الثاني من غل إذا صار ذا حقد وعداوة. (عليهن) أي على تلك الخصال الثلاث. (قلب مسلم) أي كامل و"عليهن" في موضع الحال، أي حال كونه ثابتاً وكائناً عليهن، أي مادام المؤمن على هذه الخصال الثلاث لا يدخل في قلبه خيانة أو حقد يمنعه من تبليغ العلم، فينبغي له الثبات على هذه الخصال حتى لا يمنعه شىء من التبليغ، وبهذا ظهر مناسبة هذه الجملة بما قبلها. (إخلاص العمل لله) أي منها أو إحداها، يعني جعل العمل خالصاً لله لا لغيره من رياء وتحصيل جاه ومال. (والنصيحة) هي إرادة الخير للمنصوح له. (ولزوم جماعتهم) أي موافقة المسلمين في الاعتقاد، والعمل الصالح، والصلاة الجماعة،

ص: 327

فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) رواه الشافعي والبيهقي في المدخل.

230-

(33) ورواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجة، والدارمي، عن زيد بن ثابت. إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكرا ((ثلاث لا يغل عليهن)) إلى آخره.

231-

(34) وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه،

ــ

والجمعة، والعيدين، وطاعة الأمراء المسلمين، وغير ذلك (فإن دعوتهم تحيط) أي تدور. (من ورائهم) قوله:"فإن دعوتهم" في معرض التعليل، والتقدير: ولا يقصرن أحد في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تدور من ورائهم وتحويهم وتحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم. قال ابن حجر: ووجه المناسبة بين قوله: "ثلاث" المستأنف، وما قبله أنه عليه الصلاة والسلام لما حرض سامع سننه على أدائها بين أن هناك خصالاً من شأنه أن ينطوي قلبه عليها، لأن كلاً منها محرض له على ذلك التبليغ. (رواه الشافعي) . قال القارى: ولم يعلم في أي كتاب. قلت: أخرجه في كتاب الرسالة (ص106) في باب الحجة على تثبيت الخبر الواحد، وفي مسنده (ص82) ، (والبيهقي في المدخل) بفتح الميم والخاء، يعني كلاهما عن ابن مسعود.

230-

قوله: (ورواه أحمد والترمذي) وحسنه، ونقل المنذري تحسينه وأقره. (وأبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه والدارمي) ، وأخرجه أيضاً بتمامه النسائي وابن حبان في صحيحه. وقد روي هذا الحديث أي بتمامه عن أبي سعيد الخدري، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وجبير بن مطعم، وأبي الدرداء، وأبي قرصافة جندرة بن خيشنة، وجابر، وأنس، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها، وقال المنذري في الترغيب: بعض أسانيدهم صحيح.

231-

قوله: (نضر الله امرأً) أي خصه بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمة في الآخرة، حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة. (سمع منا شيئاً) وفي رواية ابن ماجه "حديثا" بدل "شيئاً". قال الطيبى: قوله: "شيئا" يعم الأقوال والأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يدل عليه صيغة الجمع في "منا" انتهى. قال القارى: وصح تعلق السمع بالفعل من حيث أنه قد يسمع من الصحابي أنه عليه السلام كان يفعل كذا، مع أن المراد بالسمع هو العلم الذي يشمل القول والفعل والشمائل أيضاً، وإنما خص السمع بالذكر؛ لأن مدار العلم عليه غالباً. (كما سمعه) حال من مفعول "بلغه"، و"ما" مصدرية أو موصولة أي غضاً طرياً من غير تحريف وتغيير من زيادة ونقصان، خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء لم يشرك فيه أحد من الأمة. والحديث

ص: 328

فرب مبلغ أوعى له من سامع)) .رواه الترمذي، وابن ماجه.

232-

(35) ورواه الدارمي عن أبي الدرداء.

233-

(36) وعن ابن عباس - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي.

234، 235- (37، 38) ورواه ابن ماجه عن ابن مسعود وجابر، ولم يذكر ((اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم)) .

ــ

لا ينافي جواز الرواية بالمعنى على ما عليه الجمهور، لأن المثلية تارة يكون بحسب اللفظ والمعنى، وتارة بحسب المعنى، والمدار على المعاني الأصلبة، وعلى الأول يكون تنبيهاً على الوجه الأكمل، ومسألة الرواية بالمعنى مبسوطة في كتب أصول الحديث فعليك أن تراجعها. (فرب مبلغ) بفتح اللام من التبليغ، أي منقول إليه، فحذف الجار والمجرور، كما يقال المشترك ويراد المشترك فيه، و"رب" للتقليل لكنه كثر في الاستعمال للتكثير بحيث غلب حتى صارت كأنها حقيقة فيه، وهي حرف خلافاً للكوفيين في دعوى اسميته. (أوعى) من الوعي وهو الحفظ أي أفطن وأفهم، أو أكثر مراعاة لمعناه وعملاً بمقتضاه، وإعراب هذا الكلام على مذهب الكوفيين أن "رب مبلغ" كلام إضافي مبتدأ، وقوله "أوعى له من سامع" خبره. وأما على مذهب البصريين فإن قوله:"مبلغ" وإن كان مجرورا بالإضافة ولكنه مرفوع على الابتداء محلاً، وقوله "أوعى" صفة له، والخبر محذوف تقديره: يكون أو يوجد، أو نحوهما (من سامع) أي ممن سمعه أولاً وبلغه ثانياً. (رواه الترمذي وابن ماجه) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال:((رحم الله امرأً)) . قال المناوى وإسناده صحيح.

233-

قوله: (اتقو الحديث عني) أي احذروا رواية الحديث عني، والمعنى لا تحدثوا عني (إلا ما علمتم) أنه من حديثي، يعنى إلا ما علمتم صدقه بالظن الغالب لئلا تقعوا في الكذب علي، فالعلم هنا يشمل الظن، فإنهم إذا جوزوا الشهادة به مع أنها أضيق من الرواية اتفاقاً، فلأن تجوز به الرواية أولى، ويؤيده أنه يجوز في الرواية الاعتماد على الخط بخلاف الشهادة عند الجمهور، قاله القاري. (رواه الترمذي) في أول التفسير وحسنه، وفيه سفيان بن وكيع، قال الحافظ: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، لكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه أحمد من وجه آخر. والظاهر أن الترمذي حسنه لكثرة طرقه وشواهده.

234، 235- قوله:(ولم يذكر) أي ابن ماجه (اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم) يعنى والفاء أيضاً من قوله: "فمن" فإنها للتفريع على ما قبله.

ص: 329

236-

(39) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) . وفي رواية: ((من قال في القرآن بغير علم

ــ

236-

قوله: (من قال في القرآن) أي تكلم في لفظه وقراءته أو معناه ومدلوله. (برأيه) أي من تلقاء نفسه من غير تتبع تفسيره في الأحاديث المرفوعة والموقوفة، ومن غير استقراء أقوال الأئمة من أهل اللغة والعربية المطابقة للقواعد الشرعية، بل بحسب ما يقتضيه عقله، وهو مما يتوقف على النقل بأنه لا مجال للعقل فيه كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما يتعلق بالقصص والأحكام، أو بحسب ما يقتضيه ظاهر النقل، وهو مما يتوقف على العقل كالمتشابهات التي أخذ المجسمه بظواهرها، وأعرضوا عن استحالة ذلك في العقول، أو بحسب ما يقتضيه بعض العلوم الإلهية مع عدم معرفته ببقيتها وبالعلوم الشرعية فيما يحتاج لذلك، ولذا قال البيهقي: المراد رأي غلب من غير دليل قام عليه، أما ما يشده برهان فلا محذور فيه، فعلم أن علم التفسير إنما يتلقى من النقل، ومن أقوال الأئمة، ومن المقاييس العربية والقواعد الأصولية المبحوث عنها في علم أصول الفقه أو أصول الدين. وقال النيسابورى ما محصله: لا يجوز أن يراد أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد فسروه واختلفوا فيه على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه منه، ولأنه لا يفيد حينئذٍ دعاءه لابن عباس:((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) ، فالنهي بوجهين أحدهما أن يكون له في الشيء رأى وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول على وفقه ليحتج على تصحيح غرضه، وهذا قد يكون مع علمه أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن يلبس على خصمه، وقد يكون مع جهله بأن يكون الآية محتملة له لكن رجحه لرأيه، ولو لاه لما يترجح ذلك الوجه له، وقد يكون له غرض صحيح، كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي ويستدل بقوله {اذهب إلى فرعون إنه طغى} [24:20] ، ويشير إلى قلبه. والثاني أن يتسارع إلى التفسير بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع في غرائبه ومبهماته وفيما فيه من الحذف والتقديم، فالنقل والسماح لا بد منه في ظاهر التفسير أولاً ليتبقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع للتفهيم والاستنباط، وما عدا هذين الوجهين فلا وجه للمنع فيه مادام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: يحرم الخوض في التفسير لمن لا يعرف اللسان الذي نزل القرآن به، والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، ومن شرح غريب وسبب نزول وناسخ ومنسوخ، وارجع للتفصيل إلى تحفة الأحوذي (ج4:ص65) ، وهذه الرواية تتمة حديث ابن عباس السابق المروي عند الترمذي، أعنى ((اتقوا الحديث عني

)) الخ. وقد حسنه الترمذي. (وفي رواية) أخرى للترمذي وغيره (من قال في القرآن بغير علم) أي بغير دليل يقيني أو ظني نقلي أو عقلي مطابق للشرعي. قال الحافظ ابن كثير: أصح الطرق في التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [44:16] وإذا لم نجد

ص: 330

فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي.

237-

(40) وعن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ))

ــ

التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الأربعة الراشدين، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس. وإذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وغيرهم من التابعين. وقال بعضهم: أقوال التابعين في الفروع ليست بحجة، فكيف تكون حجة في التفسير. يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح. أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك، فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام – انتهى. كلام ابن كثير ملخصاً. (رواه الترمذي) في أول التفسير من طريق محمود بن غيلان، عن بشر بن السري، عن الثوري، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن صحيح. وهكذا رواه النسائي، وابن جرير من طرق عن الثوري. ورواه أبوداود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج1:ص8) ، ولم أجده في سنن أبي داود، ويظهر من مختصر جامع المواريث للمزي، ومن تخريج الإحياء للحافظ العراقي أن الحديث عند أبي داود في كتاب العلم في سننه من رواية ابن العبد. قال العراقي في تخريجه (ج1:ص33) : حديث ((من فسر القرآن برأية فليتبوأ مقعده من النار)) للترمذي من حديث ابن عباس وحسنه، وهو عند أبي داود من رواية ابن العبد، وعند النسائي في الكبرى-انتهى. وابن العبد، هو أبوالحسن علي بن محمد بن العبد، المعروف بابن العبد، أحد من روى السنن عن أبي داود. وقال الزبيدي في شرح الإحياء (ج1:ص257) : أخرجه الترمذى وصححه، وابن الأنباري في المصاحف، والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، كلهم من رواية عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

237-

قوله: (وعن جندب) بضم الجيم، والدال تضم وتفتح، هو ابن عبد الله بن سفيان البجلى ثم العلقي، أبوعبد الله، وقد ينسب إلى جده فيقال: جندب بن سفيان. سكن الكوفة ثم البصرة، روى عنه أهل المصرين، صحابي لكن ليست صحبته القديمة. له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. مات في فتنة ابن الزبير، وذكره البخاري في التاريخ فيمن توفي من الستين إلى السبعين. (من قال في القرآن) أي لفظه أو معناه (برأيه) أي بمجرد عقله ومن تلقاء نفسه من غير معرفة بأصول العلم وفروعه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين واللغة وقواعد العربية. (فأصاب) أي ولو صار مصيباً بحسب الاتفاق. (فقد أخطأ) أي فهو مخطئ بحسب الحكم الشرعي، قال

ص: 331

رواه الترمذي، وأبوداود.

238-

(41) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المراء في القرآن كفر)) رواه أحمد، وأبوداود.

ــ

ابن حجر: أي أخطأ طريق الاستقامة بخوضه في كتاب الله بالتخمين والحدس؛ لتعديه بهذا الخوض مع عدم استجماعه لشروطه فكان آثما به مطلقاً، ولم يعتد بموافقته للصواب؛ لأنها ليست عن قصد ولا تحر بخلاف من كملت فيه آلات التفسير، فإنه مأجور بخوضه فيه وإن أخطأ؛ لأنه لا تعدي منه، كالمجتهد في الأحكام؛ لأنه بذل وسعه في طلب الحق، واضطره الدليل إلى ما رآه، فلم يكن منه تقصير بوجه. قال الماوردى: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره، وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبها الشواهد، ولم يعارض شواهده نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، كما قال تعالى:{لعمله الذين يستنبطونه منهم} [83:4] ، ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتابه تعالى شيئاً، وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق، إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له، ذكره السيوطي. (رواه الترمذي) في أول التفسير (وأبوداود) في العلم، وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى، وابن جرير والبغوي وابن الأنباري وابن عدي والطبراني والبيهقي، كلهم من طريق سهيل بن أبي حزم، تفرد به عن أبي عمران الجوني عن جندب، وقد تكلم في سهيل، أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.

238-

قوله: (المراء في القرآن كفر)"المراء" المجادلة على مذهب الشك والريبة، واختلفوا في بيان المراد منه ههنا فقيل: أراد الشك في كون القرآن كلام الله. وقيل: أراد المجادلة في الآي المتشابهة المؤدية إلى الجحود، فسماه كفراً باسم ما يخاف عاقتبه. وقيل: أراد الشك في القراءة والاختلاف في اللفظ، بأن يقول الرجل على حرف فيقول الآخر ليس هو هكذا، وكلاهما منزل مقروبهما، فإنكار أحدهما قراءة صاحبه يخرجه إلى الكفر؛ لأنه نفى حرفاً أنزل الله على صاحبه. وقيل: هو الجدال في آيات القدر ونحوه مما نازع فيه أهل الأهواء، لا أبواب الحلال والحرام، فإنه قد جرى بين الصحابة ومن بعدهم لإظهار الحق ليتبع لا للغلبية. وقال الطيبي: هو أن يروم تكذيب القرآن بالقرآن ليدفع بعضه ببعض ويطرق إليه قدحاً وطعناً، فينبغي أن يجتهد في التوفيق بين المتخالفين على وجه يوافق عقيدة السلف، فإن لم يتيسر له فليعتقد أنه من سوء فهمه وليكله إلى الله. قلت: لا مانع من الجمع فيحمل الحديث على جميع هذه المعاني. (رواه أحمد وأبوداود) في السنة، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه الطبراني من حديث زيد بن ثابت، ورجاله موثقون، وعن عبد الله بن عمرو، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف جداً.

ص: 332

239-

(42) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤن في القرآن، فقال:((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض. وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد، وابن ماجه.

ــ

239-

قوله: (يتدارؤن) أي يتمارون (في القرآن) بأن يدفع كل قول صاحبه بما يقع له من القول. قال الشاه ولي الله: يحرم التدارؤ بالقرآن وهو أن يستدل واحد بآية فيرده بآية أخرى طلباً لإثبات مذهب نفسه وهدم وضع صاحبه، أو ذهاباً إلى نصرة مذهب بعض الأئمة على مذهب بعض، ولا يكون جامع الهمة على ظهور الصواب، والتدارؤ بالسنة مثل ذلك. قال المظهر: مثاله قول أهل السنة: الخير والشر من الله تعالى. لقوله تعالى: {قل كل من عند الله} [78:4]، ويدفعه القدري بقوله:{ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [79:4] ، فنهوا. فالطريق أن يؤخذ ما أجمعوا عليه ويأول الآية الأخرى، كما نقول: انعقد الإجماع على أن الكل بتقدير الله، وأما قوله:{ما أصابك من سيئة} فخارج عن مسئلة القضاء والقدر، فإن معناه: ما أصابك من هزيمة وتلف مال ومرض فهو جزاء ما عملت من الذنوب، كما قال:{وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيدكم ويعفوا عن كثير} [30:42] . (إنما هلك من كان قبلكم بهذا) بسبب التدارؤ، أو بمثل هذا الإختلاف، و"ضربوا" بيان له يعني فيحرم التدارؤ بالقرآن. (ضربوا كتاب الله) أي جنسه (بعضه ببعض) أي دفعوا بعضه ببعض، وردوا ما لا يوافق مرادهم. وقيل: صرفوا بعضه ببعض عن المعنى المراد منه إلى أهوائهم، من ضرب الدابة إذا أراد صرفها. (وإنما نزل كتاب الله) المراد به الجنس. (فلا تكذبوا بعضه ببعض) بل قولوا: كل ما أنزله الله على رسوله حق. أو بأن تنظروا إلى ظاهر لفظين منه مع عدم النظر إلى القواعد التي تصرف أحدهما عن العمل بنسخه أو بتخصيصه أو تقييده أو تأويله، فإن ذلك يؤدى على قدح في الدين. (فما علمتم منه) أي علماً موافقاً للقواعد (فقولوا) به. (وما جهلتم) أي منه كالمتشابهات وغيرها. (فكِلوه) بكسر الكاف أمر من وكل يكل أي ردوه وفوضوه. (إلى عالمه) وهو الله تعالى، أو من هو أعلم منكم من العلماء، ولا تلقوا معناه من تلقاء أنفسكم. (رواه أحمد) (ج2:ص185) من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. (وابن ماجه) في باب القدر من السنة نحوه من طريق أبي معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، وقد أشار إليه المصنف في الفصل الثاني من باب الإيمان بالقدر بعد ذكر حديث أبي هريرة، وأخرجه أيضاًالبيهقي في شعب الإيمان.

ص: 333

240-

(43) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن، ولكل حد مطلع))

ــ

240-

قوله: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وفي رواية ثلاثة أحرف وفي أخرى عشرة أحرف. وأجيب بأنه أخبر أولاً بالقليل ثم بالكثير. وقوله: "على سبعة أحرف" حال لا صلة "أنزل" أي أنزل القرآن حال كونه مشتملاً على سبعة أحرف، والحرف لغة: طرف كل شيء. وبه سمي حروف الهجاء؛ لأنها أطراف الكلمة. واختلفوا في معنى الحديث على أربعين قولاً، ذكرها السيوطي في الإتقان مع العزو لقائليها، وأكثرها غير مختار، والظاهر عندنا - والله أعلم بمراد كلام نبيه - أن عدد السبعة فيه للتحديد والتعيين، لا للتكثير والتوسعة، والمعنى أن القرآن أنزل على سبعة أوجه، يجوز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات المفرقة في القرآن أو في الكلمة الواحدة منه إلى سبعة، وأما ما يوجد من بعض الكلمات يقرأ على أكثر من سبعة أوجه فهو مما لا يثبت الزيادة. وكان اختلاف هذه الأحرف السبع المقصورة على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من جهات: منها تغيير اللغة وإبدال اللفظ بمرادفه. ومنها الاختلاف في كيفية الأداء والنطق. ومنها زيادة لفظ ونقصه. ثم إن الأحرف السبع المشهورة التي يقرأها الناس اليوم هي حرف واحد من الأحرف السبع المذكورة في الحديث المباحة للتيسير على الناس في أول الأمر، قد أجمع الصحابة في عهد عثمان على ترك الستة منها لفقدان الحاجة إليها، ولرفع الخلاف الذي وقع في الناس بإنكار بعضهم قراءة بعض، وتكفير كل من الفريقين الآخر، واتفقوا على لغة قريش بعد ما جمعه زيد بن ثابت بأمر عثمان، لما لم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام، وهي التي استقر الأمر عليها في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، والمصاحف العثمانية مشتملة عليها جامعة لها، فلا يجوز الآن القراءة بخلافها؛ لما أنه لم ينقل إليها بالتواتر، هذا. وههنا أبحاث طويلة مفيدة ارجع لها إلى عارضة الأحوذي وفتح الباري وتفسير الحافظ ابن جرير. (لكل آية منها) أي من تلك الأحرف السبعة، والجملة الاسمية صفة لسبعة والضمير رابطة. (ظهر وبطن) وفي رواية الطبراني: لكل حرف منها ظهر وبطن. قيل: الظهر ما ظهر معناه لأهل العلم من غير روية، والبطن بخلافه. وقيل: الظهر ما يبينه التفسير أي النقل والرواية، والبطن ما يستكشفه التأويل أي الفهم والدراية. وقيل: الظهر القراءة والتلاوة، والبطن التدبر والفهم. وقيل: الظهر الإيمان به والعمل بمقتضاه، والبطن التفاوت في فهمه. وقال الشاه ولي الله: أكثر ما في القرآن بيان صفات الله تعالى وآياته، والأحكام، والقصص، والاحتجاج على الكفار، والموعظة بالجنة والنار، فالظهر الإحاطة بنفس ما سبق الكلام له، والبطن في آيات الصفات التفكر في آلاء الله والمراقبة، وفي آيات الأحكام الاستنباط بالإيماء والإشارة والفحوى والاقتضاء، وفي القصص معرفة مناط الثواب والمدح أو العذاب والذم، وفي العظة رقة القلب وظهور الخوف والرجاء وأمثال ذلك. (ولكل حد مطلع) وفي رواية الطبراني "ولكل حرف

ص: 334

رواه في شرح السنة.

241-

(44) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة،

ــ

حد، ولكل حد مطلع، فمعنى قوله:"لكل حرف حد" أي نهاية في التلاوة، لا تجوز مخالفتها والتجاوز منها إلى غير المسموع، وكذا نهاية في التفسير فلا يجاوز إلى ما يخالف الكتاب والسنة وما عليه أصحابه صلى الله عليه وسلم. وقال العلقمي: أي ينتهي إلى ما أراد الله من معناه، وقيل: لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. وقوله "ولكل حد مطلع" المراد بالحد الأحكام. والمطلع بشدة الطاء وفتح اللام، مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا أي مأتاه ومصعده منه. والمعنى أن لكل حد من حدود الله، وهي أحكام الدين التي شرع للعباد موضع اطلاع من القرآن، فمن وفق أن يرتقي ذلك المرتقى اطلع منه على ذلك الحد المتعلق بذلك المطلع. وقيل: أي لكل حد وطرف من الظهر والبطن مطلع، أي مصعد، أي موضع يطلع عليه بالترقي إليه، فمطلع الظهر تعلم العربية وتتبع ما تتوقف عليه معرفة الظاهر من أسباب النزول والناسخ وغير ذلك، ومطلع البطن تزكية النفس والرياضة، ويقرب منه قول الشاه ولي الله: أن مطلع كل حد الاستعداد الذي به يحصل، كمعرفة اللسان والآثار، وكلطف الذهن واستقامة الفهم. (رواه) أي البغوى، مصنف المصابيح (في شرح السنة) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. والجملة الأولى جاءت من أحد وعشرين صحابياً، ذكر السيوطي في الإتقان أسماءهم، ومن ثم نص أبوعبيد على أنها متواترة، أي لفظاً. وأما تواترها المعنوي فلا خلاف فيه.

241-

قوله: (العلم) أي العلم الذي هو أصل علوم الدين، واللام للعهد الذهني. (آية محكمة) أي علمها، فالنكرة عام في الإثبات كقوله:{علمت نفس} [14:81]، والمضاف مقدر قبلها. وكذا قوله:"أو سنة قائمة"، والمراد بالمحكمة غير المنسوخة، أو ما لا يحتمل إلا تأويلاً واحداً. وهي إشارة إلى كتاب الله، وخص المحكم بالذكر؛ لأن المحكمات هن أم الكتاب وأصله، ومحفوظة من الاحتمال والاشتباه. (أو سنة قائمة) أي ثابتة إسناداً بأن تكون صحيحة، أو حكماً بأن لا تكون منسوخة، و"أو" للتنويع. (أو فريضة عادلة) قيل: المراد بالفريضة ما يجب العمل به، وبالعادلة المساوية لما يؤخذ من القرآن والسنة في وجوب العمل، فهذا إشارة إلى الإجماع والقياس، والظاهر أن المراد بالعادلة أي في القسم، وبالفريضة كل حكم من أحكام الفرائض يحصل به العدل في قسمة التركات بين الورثة، ففيه حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه، ويدل صنيع أبي داود في سننه أنه اختار هذا المعنى حيث أورد هذا الحديث في الفرائض، وكذا أشار إليه ابن ماجه فإنه ذكر الحديث في باب اجتناب الرأي والقياس من كتاب السنة، فكأنه قصد بذلك الرد على من حمل قوله:

ص: 335

وما كان سوى ذلك فهو فضل)) رواه أبوداود، وابن ماجه.

242-

(45) وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو مختال)) رواه أبوداود.

ــ

"فريضة عادلة" على الأحكام المستنبطة بالرأي والقياس، يعنى أراد إبطال الرأي المصطلح عليه بين الفقهاء، وقيل: بل أراد إبطال الرأي بمعنى الحكم بمجرد الهوى. (وما كان سوى ذلك فهو فضل) يعنى كل علم سوى هذه العلوم الثلاثة وما يتعلق بها مما يتوقف هذه الثلاثة عليه ويستخرج منه، فهو زائد لا ضرورة في معرفته. قال الشاه ولي الله: قوله: "العلم ثلاثة

" الخ. هذا ضبط وتحديد لما يجب عليهم بالكفاية، فيجب معرفة القرآن لفظاً، ومعرفة محكمة بالبحث عن شرح غريبه، وأسباب نزوله، وتوجيه معضله، وناسخه ومنسوخه، فأما المتشابه فحكمه التوقف أو الإرجاع إلى المحكم. والسنة القائمة ما ثبت في العبادات والارتفاقات من الشرائع والسنن مما يشتمل عليه علم الفقه، والقائمة ما لم ينسخ ولم يهجر ولم يشذ راويه وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، والفرضة العادلة الأنصباء للورثة، ويلحق به أبواب القضاء مما سبيله قطع المنازعة بين المسلمين بالعدل، فهذه الثلاثة يحرم خلو البلد عن عالمها لتوقف الدين عليه، وما سوى ذلك من باب الفضل والزيادة- انتهى باختصار. (رواه أبوداود) وسكت عنه (وابن ماجه) ، وأخرجه أيضاً الحاكم، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد تكلم فيه غير واحد، وكان البخاري يقوي أمره وقال: مقارب الحديث، ولم يذكره في الضعفاء، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وقد غمزه البخاري وأبوحاتم.

242-

قوله: (وعن عوف بن مالك الأشجعي) الغطفاني صحابي مشهور، وشهد فتح مكة، ويقال: كانت معه راية أشجع يوم الفتح، ثم سكن دمشق. له سبعة وستون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة. روى عنه جماعة. قال الواقدي: شهد خيبر، ونزل حمص، وبقي إلى خلافة عبد الملك، ومات سنة (73) . (لا يقص) القص التحدث بالقصص والأخبار والمواعظ، أي لا يتكلم بالقصص والمواعظ، وهو نفي أي خبر لا نهي؛ لأنه لو حمل على النهي الصريح لزم أن يكون المختال مأموراً بالاقتصاص. والمعنى: لا يصدر هذا الفعل إلا عن هؤلاء الثلاثة، وقد علم أن الاقتصاص مندوب إليه فيجب تخصيصه بالأمير والمأمور أي المأذون له من الأمير دون المختال، وهذا كما يقال عند رؤية الأمر الخطير: لا يخوض فيه إلا حكيم عارف بكيفية الورود، أو جاهل لا يدري كيف يدخل ويخرج فيهلك، قاله الطيبي. (أو مختال) أي مفتخر متكبر طالب للرئاسة. وفي الحديث الزجر عن الوعظ بغير إذن الإمام؛ لأنه أعرف بمصالح الرعية، فمن رأى فيه حسن العقيدة وصدق الحال يأذن له أن يعظ الناس وإلا فلا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه. وقال المنذري: فيه عباد بن عباد الخواص وفيه مقال. قلت: قد وثقه ابن معين والعجلي والفسوي، والحديث أخرجه

ص: 336

243-

(46) وراواه الدارمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفي روايته ((أو مراء)) بدل ((أو مختال)) .

244-

(47) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشارة على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه)) رواه أبوداود.

245-

(48) وعن معاوية قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات)) رواه أبوداود.

ــ

أيضاً الطبراني في الكبير، وفي روايته "متكلف" بدل "مختال".

243-

قوله: (ورواه الدارمي عن عمرو) الخ، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص23) ، وأخرج البيهقي نحوه عن عمرو بن مالك، وعن كعب بن عياض، والطبراني في الكبير عن عبادة بن الصامت بإسناد حسن. (وفي روايته) أي رواية الدارمي (مراء) يعني يرائي الناس بقوله وعمله، لا يكون وعظه وكلامه حقيقة. (بدل أو مختال) بالخاء المعجمة من الاختيال.

244-

قوله: (من أفتي) على بناء المفعول، قال القاري: يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسئلة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده- انتهى. والحاصل أنه من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم لا على متبعه، وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد، أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه، وفيه زجر عن الإفتاء بغير علم. (ومن أشار على أخيه بأمر) أي أمر أخاه المستشير بأمر (يعلم) المراد بالعلم ما يشمل الظن. (أن الرشد) أي المصلحة (في غيره) أي غير ما أشار إليه. (فقد خانه) أي خان المستشار المستشير. إذ ورد أن المستشار مؤتمن، ومن غشنا فليس منا. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد، والحاكم، وأخرجه ابن ماجه في السنة مقتصراً على الفصل الأول بنحوه.

245-

قوله: (نهى عن الأغلوطات) جمع الأغلوطة بضم الهمزة، أي عن سؤال المسائل التي يغالط به العلماء لإشكال فيها، قيل: المراد بها المسائل التي يقع المسئول عنها في الغلط، ويمتحن بها أذهان الناس. وإنما نهى عنها لوجوه منها: أن فيها إيذاء وإذلالاً للمسؤول عنه، وعجباً وبطراً لنفسه، ومنها: أنها تفتح باب التعمق، وإنما الصواب ما كان عند الصحابة والتابعين أن يوقف على ظاهر السنة، وما هو بمنزلة الظاهر من الإيماء والاقتضاء والفحوى، ولا يمعن جداً، وأن لا يقتحم في الاجتهاد حتى يضطر إليه ويقع الحادثة، فإن الله تعالى يفتح عند ذلك العلم عناية منه بالناس، وأما تهيئته من قبل فمظنة الغلط. (رواه أبوداود) في العلم، وسكت عنه، وفي إسناده عبد الله بن سعد البجلي الدمشقي. قال أبوحاتم: مجهول. وقال ابن حبان في ثقاته: يخطئ، وأخرجه أيضاً أحمد.

ص: 337

246-

(49) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا الفرائض والقرآن، وعلموا الناس، فإني مقبوض)) رواه الترمذي.

247-

(50) وعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء)) رواه الترمذي.

ــ

246-

قوله: (تعلموا الفرائض) قيل: المراد بالفرائض هنا علم الميراث، وعلى هذا بنى الترمذي الكلام في جامعه حيث ذكر هذا الحديث في باب تعليم الفرائض. وقيل: المراد بالفرائض السنن الصادرة منه صلى الله عليه وسلم، المشتملة على الأوامر والنواهي الدالة عليها بقرينة ذكر القرآن، فكأنه قال: تعلموا الكتاب والسنة. وقيل: المراد ما فرض الله على عباده. وقيل: أراد جميع ما يجب معرفته. (وعلموا الناس) المذكور. (فإني مقبوض) أي سأقبض وينقطعان. (رواه الترمذي) من طريق عوف، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. قال الحافظ في الفتح: رواته موثقون، إلا أنه اختلف فيه على عوف الأعرابي اختلافاً كثيراً، فقال الترمذي: إنه مضطرب، والاختلاف عليه أنه جاء عنه من طريق ابن مسعود، وجاء عنه من طريق أبي هريرة، وفي أسانيدها عنه أيضاً اختلاف – انتهى. قلت: أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه. وقد ذكره المصنف في آخر الفصل الثالث، ولفظه عند ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم من حديث أبي هريرة:((تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم، وإنه أول ما ينزع من أمتي)) . وفي سنده حفص بن عمر بن أبي العطاف، قال البخاري: منكر الحديث، وضعفه أيضاً ابن معين، والنسائي، وأبوحاتم وابن حبان.

247-

قوله: (فشخص) أي رفع (ببصره) أو نظر بعينه. (ثم قال) الخ. كأنه صلى الله عليه وسلم لما شخص ببصره إلى السماء وانتظر الوحي فأوحى إليه باقتراب أجله، فقال:((هذا أوان يختلس فيه العلم)) الخ. فيكون المراد بالعلم الوحي (هذا أوان) أي وقت (يختلس فيه) أي يختطف ويسلب بسرعة، وهي صفة "أوان". (العلم) قيل: هو محمول على آخر الزمان حين ينتزع العلم رأساً بقبض العلماء، وعليه بنى ابن ماجه الكلام حيث ذكر حديث زياد بن لبيد، الذي بمعنى حديث أبي الدرداء في الفتن. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً النسائي والحاكم (ج1:ص99، 100) وقال: هذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد (ج6:ص26، 27) والحاكم (ج1:ص99، 100) وصححه من حديث عرف بن مالك الأشجعي، وأحمد (ج4:ص218، 219) وابن ماجه والحاكم (ج1:ص99، 100) من حديث زياد بن لبيد بإسناد فيه انقطاع.

ص: 338

248-

(51) وعن أبي هريرة رواية: ((يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة)) رواه الترمذي، وفي جامعه "قال ابن عيينة: إنه مالك بن أنس"، ومثله عن عبد الرزاق، قال إسحاق بن موسى: وسمعت ابن عيينة أنه قال: هو العمري الزاهد،

ــ

248-

قوله: (رواية) بالنصب على التمييز، وهو كناية عن رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان موقوفاً، وقد صرح ابن عيينة برفعه فقال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في رواية الحميدى، ومسدد، وعبد الرحمن بن بشر عنه عند الحاكم. قال الحاكم: وقد كان ابن عيينة ربما يجعله رواية فذكره بسنده، ثم قال: وليس هذا مما يوهن الحديث، فإن الحميدى هو الحكم في حديثه لمعرفته به وكثرة ملازمته له. (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل) أي المحاذي لأكبادها، يعنى يرحلون ويسافرون في طلب العلم، قال الطيبي: ضرب أكباد الإبل، كناية عن السير السريع؛ لأن من أراد ذلك يركب الإبل، ويضرب على أكبادها بالرجل. (فلا يجدون أحداً) أي في العالم. (أعلم من عالم المدينة) قيل: هذا في زمان الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد ظهرت العلماء الفحول في كل بلدة من بلاد الإسلام أكثر ما كانوا بالمدينة، فلإضافة للجنس، وهذا مخالف لما ذهب إليه ابن عيينة وعبد الرزاق كما سيأتي. وقيل: هو إخبار عن آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وأخرج الطبراني نحوه عن أبي موسى، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفيه مقال. (وفي جامعه) أي وذكر الترمذي تفسيره في جامعه بقوله: قال ابن عيينة) وهو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبومحمد الكوفي ثم المكي. قال الحافظ: ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخره، أي سنة سبع وتسعين ومائة قبل موته بأشهر، وكان ربما دلس لكن عن الثقات. مات في رجب سنة (198) وله إحدى وتسعون سنة. روى عن الإمام مالك وغيره ممن لا يحصون. وروى عنه الشافعي، وعبد الرزاق وأحمد بن حنبل، وابن معين، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم وطوائف كثيرون. (إنه) أي علم المدينة (مالك بن أنس) هو إمام دارالهجرة، صاحب المذهب المشهور، وصاحب الكتاب المؤطا (ومشله) أي مثل قول ابن عيينة في مالك منقول. (عن عبد الرزاق) وهو عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميرى، مولاهم أبوبكر الصنعاني. قال في التقريب: ثقة، حافظ مصنف شهير، عمي في آخره فتغيره، وكان يتشيع، روى عن مالك وابن عيينة والثوري والأوزاعي وخلق. وروى عنه ابن عيينة وأحمد وإسحاق وعلي ويحيى وغيرهم. مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون سنة. (قال إسحاق بن موسى) الخطمي أبوموسى الأنصاري المدني، قاضي نيسابور، وشيخ مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الحافظ: ثقة متقن. مات سنة (244) . (أنه قال: هو) أي المراد في الحديث (العمري) نسبة إلى عمر بن الخطاب (الزاهد) فاختلف النقل عن ابن عيينة في تعيين عالم المدينة، ويمكن أن يكون له قولان في ذلك، أو الأول حكاية لقول

ص: 339

وإسمه عبد العزيز بن عبد الله.

249-

(52) وعنه فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:((إن الله عزوجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))

ــ

التابعين، فإنه قال: كانوا أي التابعون يرون أنه مالك بن أنس. (وإسمه عبد العزيز بن عبد الله) قال في التقريب: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني، ثقة من اتباع التابعين، وهو والد عبد الله الزاهد العمري-انتهى. وكان نبيهاً، بارع الجمال، وثقة النسائي، وابن حبان. كذا فسر الترمذي "العمري الزاهد" بعبد العزيز بن عبد الله، وهو خطأ منه، والصواب أن "العمري الزاهد" هو ابنه عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني. قال ابن حبان: كان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخلياً للعبادة. وقال ابن سعد: كان عابداً ناسكاً عالماً. وقال الزبير: كان أزهد أهل زمانه وأعبدهم. والدليل على ما قلنا من أن اسم "العمري الزاهد" عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله كلام الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص302، 303) فارجع إليه. وقال في التقريب: عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري الزاهد، ثقة، مات سنة (184) وله ست وثمانون. كان ابن عيينة يقول: إنه عالم المدينة – انتهى. هذا، وقد حمل بعضهم الحديث على آخر الزمان فقال: الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به الإخبار عن حال آخر الزمان حين يأرز العلم والدين إلى المدينة كما يظهر من بعض الأحاديث. قال الشيخ عبد الحق الدهلوى: وهذا القول أقرب إلى الصواب. قلت: بل حمله على أول الأمر هو الأقرب كما فهمه أكثر علماء الأمة.

249-

قوله: (فيما أعلم) بضم الميم مضارعاً. الظاهر أنه قول أبي علقمة الراوى عن أبي هريرة يقول: في علمي أن أباهريرة رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي رواه مرفوعاً لا موقوفاً من قوله، وهو وإن لم يجزم برفعه لكن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، ولا مسرح فيه للاجتهاد، إنما هو من شأن النبوة فتعين كونه مرفوعاً. (يبعث) أي يقيض (لهذه الأمة) أي أمة الإجابة، ويحتمل أمة الدعوة. (على رأس كل مائة سنة) أي انتهائه وآخره. قال الطيبي: الرأس مجاز عن آخر السنة، وتسميته رأساً باعتبار أنه مبدأ لسنة أخرى. واختلف في المائة هل تعتبر من المولد النبوي، أو البعثة، أو الهجرة، أو الوفاة؟ قال المناوى: ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد، لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث. (من يجدد) مفعول "يبعث"(لها) أي لهذه الأمة (دينها) المراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة البدع والمحدثات، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب، أو التدريس أو غير ذلك، ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة؛ لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن، وظهور البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد

ص: 340

رواه أبوداود.

250-

(53) وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله،

ــ

الدين، فيأتي الله من الخلق بعوض من السلف إما واحدا أو متعدداً، كذا في مجالس الأبرار. ولا يلزم أن يكون على رأس كل مائة سنة مجدداً واحداً فقط، بل يمكن أن يكون أكثر من واحد،؛ لأن قوله:"من يجدد" يصلح للواحد وما فوقه. قال الحافظ في الفتح: وهو أي حمل الحديث على أكثر من واحد متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها. وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا – انتهى. وارجع للتفصيل إلى عون المعبود شرح أبي داود. (رواه أبوداود) في أول الملاحم من طريقين متصل ومعضل، وسكت عنه المنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم، والبيهقي في المعرفة، وابن عدى في مقدمة الكامل، واتفق الحفاظ على تصحيحه، وممن نص على صحته من المتأخرين الحافظ أبوالفضل العراقي، والحافظ ابن حجر، ومن المتقدمين الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل.

250—قوله (إبراهيم بن عبد الرحمن العذري) بضم العين وسكون الذال المعجمة، منسوب إلى عذرة بن سعد أبي قبيلة من خزاعة. قال في كنز العمال: هو مختلف في صحبته. قال ابن مندة: ذكر في الصحابة ولا يصح-انتهى. وذكره الحافظ في الإصابة (ج1:ص117) في القسم الرابع من الألف، فقال: إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، تابعي، أرسل حديثاً فذكره ابن مندة وغيره في الصحابة. وقال الذهبي في الميزان: تابعى مقل ما علته واهياً، أرسل "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، رواه غير واحد عن معان بن رفاعة عنه، ومعان ليس بعمدة، ولاسيما أتى بواحد ليس يدرى من هو- انتهى. وقال الحافظ في لسان الميزان (ج1:ص77) بعد ذكر كلام الذهبي هذا: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يروي المراسيل، وروى حديثه من طريق حماد بن زيد عن بقية، عن معان عنه. (يحمل) أي يحفظ (هذا العلم) أي علم الكتاب والسنة، يعنى يأخذه ويقوم بإحيائه. (من كل خلف) أي من كل قرن يخلف السلف بفتح اللام، وهو الجماعة الماضية، والخلف كل من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، يقال: خلف صدق وخلف سوء، ومعناهما القرن من الناس، وهو هنا بالفتح، قاله الجزري. (عدوله) بضم العين جمع العدل، أي ثقاته، يعني من كان صاحب الديانة والتقوى. قال الطيبي: و"من" إما تبعيضية مرفوعاً على أنه فاعل "يحمل" و"عدوله" بدل منه، وإما بيانية على طريقة "لقيني منك أسد" جرد من الخلف الصالح، والعدول الثقات وهم هم،

ص: 341

ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) . رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلاً، وسنذكر حديث جابر ((فإنما شفاء العي

ــ

كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [104:3] وعلى التقديرين فيه تفخيم لشأنهم. (ينفون) جملة حالية أو استئنافية. (عنه) أي عن هذا العلم. (تحريف الغالين) أي المبتدعين الذين يتجاوزن في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد فيحرفونه عن جهته، من غلا يغلو ما إذا جاوز الحد. (وانتحال المبطلين) الانتحال ادعاء الشيء لنفسه، كادعاء شعر غيره أو قوله: لنفسه، يعني أن المبطل إذا اتخذ قولاً من علمنا يستدل به على باطله أو اعتزى إليه ما لم يكن منه، نفوا عن هذا العلم قوله، ونزهوه عما ينتحله. (وتأويل الجاهلين) أي معنى القرآن والحديث إلى ما ليس بصواب. والحديث كأنه تفسير لحديث أبي هريرة المتقدم في بعث المجدد. قيل: في قوله: "تحريف الغالين" إشارة إلى التشدد والتعمق، وفي "انتحال المبطلين" إلى الاستحسان وخلط ملة بملة. وفي "تأويل الجاهلين" إلى التهاون وترك المأمور به بتأويل ضعيف. وقال الطيبي في معنى الحديث: أي يحمون الشريعة ومتون الروايات من تحريف غلاة الدين، والأسانيد من القلب والانتحال، والمتشابه من تأويل الزائغين. والنحلة هو التشبه بالباطل-انتهى. وهذا معنى ما ورد من قوله: صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمرالله)) . رواه الشيخان. (رواه) بعده بياض بالأصل، وألحق "البيهقي في كتاب المدخل" كما ترى، وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك، وابن عدى في الكامل، وأبونصر السجزي في الإبانة، وأبونعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخه كلهم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً. قال أبونعيم: وروى عن أسامة بن زيد وأبي هريرة كلها مضطربة غير مستقيمة، وأخرجه ابن عدى، والبيهقي، وابن عساكر عن إبراهيم: ثنا الثقة من أشياخنا. وأخرجه الخطيب وابن عساكر عن أسامة بن زيد، وابن عساكر أيضاً عن أنس. والديلمي عن ابن عمر، والعقيلي في الضعفاء عن أبي أمامة، والبزار والعقيلي أيضاً عن ابن عمر، وأبي هريرة معاً. قال الخطيب: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، وقيل له: إنه كلام موضوع. قال: لا هو صحيح سمعته من غير واحد. كذا في كنز العمال (ج5:ص210) . وقال الحافظ في الإصابة (ج1:ص117، 118) : أورد الحديث أبونعيم ثم قال: هكذا أي مرسلاً رواه الوليد عن معان. ورواه محمد بن سليمان بن أبي كريمة، عن معان، عن أبي عثمان، عن أسامة، ولا يثبت. قلت: ووصل هذا الطريق الخطيب في شرف أصحاب الحديث. وقد أورد ابن عدى هذا الحديث من طرق كثيرة كلها ضعيقة. وقال في بعض المواضع: رواه الثقات عن الوليد، عن معان، عن إبراهيم، قال: حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر- انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص140) بعد ذكر حديث ابن عمر وأبي هريرة من رواية البزار: فيه عمرو بن خالد القرشي، كذبه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ونسبة إلى الوضع هذا، ومن أحب البسط فليرجع إلى التقييد والإيضاح (ص116) للعراقي، والتدريب (ص110) للسيوطي، وشرح الألفية (ص125) للسخاوي. (وسنذكر حديث جابر: فإنما شفاء العي) بكسر العين وتشديد الياء، أي العجز

ص: 342

السؤال)) في باب التيمم إن شاء الله تعالى.

251-

(54) عن الحسن مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة)) رواه الدارمي.

252-

(55) وعنه مرسلاً، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالماً يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل، أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ــ

في العلم والجهل (السؤال) أي عن أهل العلم (في باب التيمم) ؛ لأنه أنسب بهذا الباب.

251-

قوله: (عن الحسن) هو إذا أطلق في علم الحديث فالمراد البصرى، أي الحسن بن أبي الحسن البصرى، واسم أبيه يسار - بالتحتية والمهملة. الأنصاري مولاهم، وأحد أئمة الهدى. قال الحافظ: ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، وكان يرسل كثيراً ويدلس. قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول: حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة يعني أوساط التابعين. مات في رجب سنة (110) وقد قارب التسعين- انتهى. وولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، ورأى عثمان وعلياً بالمدينة، ولم يسمع منهما حديثاً. وقد أرسل عن كثير من الصحابة. قال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً ثقة، مأموناً عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً. ما أرسله فليس بحجة. وقد بسط ترجمته في تهذيب التهذيب (ج2:ص263، 270) . (وهو يطلب العلم) الجملة حال من المفعول في "جاءه"(ليحي به الإسلام) لا لغرض فاسد من المال والجاه. (درجة) وهي درجة النبوة (واحدة) أكد الدرجة بواحدة؛ لأنها تدل على الجنسية وعلى العدد، والذي سبق له الكلام هو العدد، والحاصل أن العلماء المخلصين لم تفتهم إلا درجة الوحي. (رواه الدارمي) وكذا ابن عساكر أي عن الحسن مرسلاً، وأخرجه ابن النجار عنه عن أنس، والطبراني في الأوسط عن ابن عباس، وفيه محمد بن الجعد، وهو متروك. والخطيب عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس، وابن النجار عن أبي الدرداء.

252-

قوله: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين) عن شأنهما وحكمهما (أحدهما كان عالماً) أي غلب علمه على عبادته. (يصلي المكتوبة) أي يكتفي بالعبادة المفروضة. (الخير) أي العلم والعبادة وأمثال ذلك تدريساً، أو تأليفاً، أو غيرهما. (يصوم النهار) أي دائماً أو غالباً. (ويقوم الليل) كله أو بعضه، وقد تعلم فرض علمه. (أيهما أفضل) أي أكثر

ص: 343

((فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلى على أدناكم)) رواه الدارمي.

(56)

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم الرجل الفقيه في الدين، إن احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه)) رواه رزين.

(57)

وعن عكرمة أن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين

ــ

ثواباً (فضل هذا العالم الذي) الخ. أطنب في الجواب حيث لم يقل الأول أو العالم، لتعظيم شأنه وتقريره في ذهن السامع. (كفضلي على أدناكم) وسببه أن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها قاصر، والعلم إما فرض عين أو كفاية، والعبادة الزائدة نافلة، وثواب الفرض أكثر من ثواب النفل. (رواه الدارمى) وأخرج الترمذي نحوه عن أبي أمامة، وقد تقدم في الفصل الثاني.

253-

قوله: (نعم الرجل الفقيه في الدين)"الفقيه" هو المخصوص بالمدح، والجار متعلق به، أي الذي فقه في الدين وعلم من العلوم الشرعية ما ينتفع به وينفع الناس، وليس المراد من يعلم الفروع فقط كما توهم بعضهم. (إن احتيج) بكسر النون وضمها، شرطية مستأنفة لبيان استحقاق المدح أي إن احتاج الناس (إليه) أي إلى فقهه. (نفع) أي غيره. (وإن استغني) على البناء للمفعول. (أغنى نفسه) . قال الطيبى: قوبل "نفع" بأغنى ليعم الفائدة، أي نفع الناس وأغناهم بما يحتاجون إليه، ونفع نفسه وأغناها بما يحتاج إليه من قيام الليل، وتلاوة كتاب الله، وغيرها من العبادات. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: معنى الحديث أن من شأن العلم وما يليق بحاله أن لا يحوج نفسه إلى الخلق طمعاً في صحبتهم واختلاطهم ومنافعهم، ولا ينقطع عنهم مطلقاً بأن لا يفيدهم بالعلم ويحرمهم عنه، بل إن احتاج الناس إليه بأن اضطروا إليه، ولم يكن هناك عالم سواه فيسألوه عن العلم ليفيدهم ويعلمهم، دخل فيهم للإفادة ونفعهم بالعلم لئلا يضلوا، وإن استغني عنه بأن لا يلجئوا ويضطروا إليه، وكان هناك من يكفيهم في التعليم أغنى نفسه ولم يداخلهم ولا يتذلل لهم بل يستغني عنهم، ويشتغل بالعبادة وبالعلم أيضاً بمطالعة الكتاب والسنة والتصنيف ونحوهما. (رواه رزين) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي عن جده عن علي رفعه، وعيسى هذا، قال الدارقطني: إنه متروك. وقال ابن حبان: يروي عن آبائه أشياء موضوعة. ثم ساق له من موضوعاته أحاديث. وقال أبونعيم: روى عن آبائه أحاديث مناكير لا يكتب حديثه، لا شيء.

254-

قوله: (حدث الناس) أي بالآية والحديث والوعظ (كل جمعة) أي في كل أسبوع (مرة) أي في يوم من أيامها، وهذا إرشاد، وقد بين حكمته. (فإن أبيت) أي التحديث مرة وأردت الزيادة. (فمرتين) أي فحدث مرتين.

ص: 344

فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتلمهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك)) رواه البخاري.

ــ

(فإن أكثرت) أي أردت الإكثار. (ولا تمل الناس هذا القرآن) من الإملال، والملل السامة بمعنى واحد. قال الطيبي: إشارة إلى تعظيمه، فرتب وصف التعظيم على الحكم للإشعار بالعلية، أي لا تحقر هذا العظيم الشأن الذي جبلت القلوب على محبته وعدم الشبع منه، أي وإذا كان ذلك الإكثار يوجب الملل عما هذه أوصافه فما بالك بغيره من العلوم التي جبلت النفوس على النفرة من مشاقها ومتاعبها. وقد تقدم حديث ابن مسعود:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا)) . (ولاألفينك) بضم الهمزة وكسر الفاء، أي لا أجدنك. قال الطيبي: هو من باب لا أرينك، أي لا تكن بحيث ألفينك على هذه، وهي أنك (تأتي القوم) حال من المفعول (وهم في حديث من حديثهم) حال من "القوم" أي والحال أنهم مشغولون عنك. (فتقص) أي قصصاً من وعظ أو علم (فتقطع عليهم حديثهم) أي كلامهم الذي هم فيه، والفعلان معطوفان على "تأتي" وهو الظاهر، وقيل: منصوبان على جواب النهي. (فتملهم) منصوب جواباً للنهي، وقيل: مرفوع (ولكن أنصت، فإذا أمروك) وفي البخاري، "فإن أمروك" أي طلبوا منك التحديث (فحدثهم وهم يشتهونه) حال مقيدة، وفيه كراهة التحديث عند من لا يقبل عليه، والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، ويحدث من يشتهي بسماعه؛ لأنه أجدر أن ينتفع به. (وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه)"السجع" بفتح السين وسكون الجيم موالاة الكلام على روي واحد، وقيل: هو الكلام المقفي من غير مراعاة وزن، ولا يرد عليه ما وقع في الأحاديث الصحيحة من الأدعية؛ لأن المراد في قوله:"انظر السجع" المعهود وهو سجع الكهان والمتشدقين المتكلفين في محاوراتهم، لا الذي يقع في فصيح الكلام بلا كلفة، فإن الفواصل القرآنية واردة على هذا، ويؤيده ما قال صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة من هذيل:((أسجع كسجع الكهان؟)) ، والمعنى تأمل السجع المتكلف المانع من الخشوع والضراعة المطلوبة في الدعاء، أو المستكره منه، وهو سجع الكهان فاجتنبه ولا تشغل فكرك به لما ذكر. (فإني عهدت) أي عرفت وعلمت (لا يفعلون ذلك) أي تكلف السجع. (رواه البخاري) في الدعوات، وأخرجه أيضاً البزار في مسنده، والطبراني عن البزار، كذا في الفتح. وفي الباب عن عائشة أخرجه أحمد. قال الهيثمي (ج1:ص191) : رجاله رجال الصحيح. ورواه أبويعلى بنحوه.

ص: 345

255-

(58) وعن واثله بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم فأدركه، كان له كفلان من الأجر، فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر)) رواه الدارمي.

256-

(59) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في

ــ

255-

قوله: (وعن واثلة بن الأسقع) بالقاف بعد السين المهملة، الليثي صحابي مشهور، أسلم قبل تبوك وشهدها، كان من أهل الصفة، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام، وكان يشهد المغازى بدمشق وحمص، مات سنة (85) وقيل: سنة (83) . وهو ابن مائة وخمس سنين. له ستة وخمسون حديثاً، انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر، روى عنه جماعة. (فأدركه) أي حصله. وقيل:"أدركه" أبلغ من "حصله"؛ لأن الإدراك بلوغ أقصى الشيء. (كان له كفلان) أي حظان ونصيبان (من الأجر) أجر مشقة الطلب، وأجر إدراك العلم كالمجتهد المصيب. (كان له كفل من الأجر) أي أجر مشقة الطلب كالمجتهد المخطئ. (رواه الدارمي) وسنده ضعيف جداً، فيه يزيد بن ربيعة الرحبي الدمشقي الصنعاني، قال البخاري: أحاديثه مناكير. وقال النسائي والدارقطني والعقيلي: متروك. وضعفه ابن أبي حاتم وغيره. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. ورواته ثقات، قاله الهيثمي والمنذري. وأخرجه أيضاً أبويعلى، والحاكم في الكنى، والبيهقي في السنن، وابن عساكر.

256-

قوله: (إن مما يلحق المؤمن) الجار والمجرور خبر "إن" مقدم على الاسم، أي كائن مما يلحقه، واسمها "علماً" وما عطف عليه (من عمله) بيان لما (وحسناته) عطف تفسير (بعد موته) ظرف "يلحق"(علمه) بالتخفيف ويجوز التشديد. (ونشره) هو أعم من التعليم فإنه يشمل التأليف ووقف الكتب. (تركه) أي خلفه بعد موته (أو مصحفاً ورثه) من التوريث، أي تركه للورثة ولو ملكاً. قيل: وفي معناه الكتب الدينية، فيكون له ثواب التسبب، هذا وما بعده من قبيل الصدقة الجارية حقيقة أو حكماً، فهذا الحديث كالتفصيل لحديث "انقطع عمله إلا من ثلاث". و"أو" في هذه الجملة وما بعدها للتفصيل والتنويع. (أو مسجداً بناه) وفي معناه المدارس والمعاهد الدينية (أو نهراً) بفتح الهاء ويسكن (في صحته وحياته) أي أخرجها في زمان كمال حاله، ووفور افتقاره إلى ماله، وتمكنه من الانتفاع به. وفيه ترغيب إلى ذلك ليكون أفضل صدقته، كما يدل عليه جوابه صلى الله عليه وسلم لمن قال:((أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح)) . وإلا فكون الصدقة جارية لا يتوقف على ذلك. (رواه ابن ماجه) في السنة بإسناد حسن (والبيهقي في

ص: 346

شعب الإيمان.

257-

(60) وعن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عزوجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم، سهلت له طريق الجنة، ومن سلبت كريمتيه، أثبته عليهما الجنة. وفضل في علم خير من فضل في عبادة. وملاك الدين الورع)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

258-

(61) وعن ابن عباس قال: "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها"

ــ

شعب الإيمان) ، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه مثله إلا أنه قال: أو نهراً كراه، وقال يعني حفره. ولم يذكر المصحف.

257-

قوله: (يقول) حال، والأصل سمعت قوله، فأخر القول وجعل حالاً ليفيد الإبهام والتبيين. (أوحي إلى) أي وحياً خفياً غير متلو. (ومن سلبت) أي أخذت (كريمتيه) أي عينيه الكريمتين عليه، وكل شيء يكرم عليك فهو كريمك وكريمتك. والمعنى أعميته، فالأكمه بطريق الأولى. (أثبته) أي أعطيته من الإثابة (عليهما) أي على الكريمتين يعني جازيته على فقدهما والصبر عليهما. (الجنة) مفعول ثان. (وفضل) أي زيادة (في علم خير من فضل في عبادة) قال الطيبي: يناسب أن يقال التنكير فيه أي في "فضل" الأول للتقليل، وفي الثاني للتكثير. (وملاك الدين) أي أصله وصلاحه. قال الجزري: الملاك بالكسر والفتح، قوام الشيء ونظامه، وما يعتمد عليه فيه، ومنه ملاك الدين. وقال الطيبي: الملاك بالكسر ما به إحكام الشيء وتقويته وإكماله، قال: وكان من حق الظاهر أن يقال: ملاك العلم والعمل، فوضع الدين موضعهما تنبيهاً على أنهما توأمان لا يستقيم مفارقتهما وأنهما لا يكملان بدون الورع. (الورع) بفتحتين، والمراد به التقوى عن المحرمات والشبهات. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) صدر الحديث تقدم من حديث أبي هريرة في الفصل الأول، ومن حديث أبي الدرداء في الفصل الثاني. وقوله:"من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة"، روي معناه عن جماعة من الصحابة: أنس، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وعرباض بن سارية. وقوله "فضل في علم" الخ. أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، والحاكم عن حذيفة، والطبراني في الكبير عن ابن عباس بنحوه، وفيه سوار بن مصعب، ضعيف جداً.

258-

قوله: (تدارس العلم) التدارس أن يقرأ بعض القوم مع بعض شيئاً، أو يعلمهم بعضهم بعضاً، أو يبحثون في مسئلة لتحقيق الحق أو يتذاكرون لتفهم المقصود. (ساعة من الليل) الأبلغ أن يراد بالساعة اللغوية لا العرفية (خير من إحيائها) أي من إحياء الليل بالعبادة. قال الطيبي: شبه الليل بالميت، وأثبت له الإحياء على طريق الإستعارة التخليلية، ثم كنى عنه بصلاة التهجد؛ لأن في قيام الليل كل نفع للقائم فيه، ومن نام فقد فقَدَ نفعاً عظيماً، قال تعالى:{تتجافى جنوبهم عن المضاجع}

ص: 347

رواه الدارمي.

259-

(62) وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده فقال: ((كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم، وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه أو العلم ويعلمون الجاهل، فهم أفضل، وإنما بعثت معلماً. ثم جلس فيهم)) رواه الدارمي.

260-

(63) وعن أبي الدرداء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حد العلم الذي إذا بلغه الرجل

ــ

إلى قوله: {جزاء بما كانوا يعملون} [32: 16-17] فإذا كان ثواب التهجد ما ذكره في هذه الآية، فما ظنك بثواب التدارس الذى الساعة منه أفضل من إحيائها- انتهى مختصراً. (رواه الدارمي) في باب مذاكرة العلم.

259-

قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده) وفي رواية ابن ماجه: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرؤن القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعملون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل على خير

)) الخ. (كلاهما) أي كلا المجلسين يعني أهلهما، أو المراد به المبالغة (على خير) أي ثابتان على عمل خير. (أفضل ما صاحبه) أي أكثر ثواباً (أما هؤلاء) قال الطيبي: تقسيم للمجلسين إما باعتبار القوم أو الجماعة بعد التفريق بينهما باعتبار النظر إلى المجلسين في إفراد الضمير. (ويرغبون إليه) أي يرغبون فيما عند الله من الثواب (فإن شاء أعطاهم) أي مطلوبهم فضلاً. (وإن شاء منعهم) أي إياه عدلاً، إذ لا وجوب عليه تعالى، لكن في ترك هذا فيما بعد تنبيه على أن إعطاء أولئك مطلوبهم كالمتحقق، ففيه إشارة إلى بون بعيد بينهما. (وأما هؤلاء) أي وأمثالهم (فيتعلمون) أولاً (الفقه أو العلم) شك من الراوى (ويعلمون الجاهل) ثانياً. (فهم أفضل) لكونهم جامعين بين العبادتين وهو الكمال والتكميل فيستحقون الفضل. (وإنما بعثت معلماً) أي بتعليم الله لا بالتعلم من الخلق، ولذا اكتفى به، وفيه إشعار بأنهم منه وهو منهم، ومن ثم جلس فيهم. (رواه الدارمي) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، وقد تقدم الكلام فيهما. وأخرجه أيضاً ابن ماجه في السنة من طريق داود بن الزبرقان، عن بكر بن خنيس، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. وداود متروك، وكذبه الأزدى. وبكر بن خنيس، قال الدارقطني: متروك وقال أبوحاتم: صالح، ليس بالقوى. وقال الحافظ: صدوق، له أغلاط. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير كما في الكنز (ج5: ص208) .

260-

قوله: (ما حد العلم) المراد بالحد المقدار لا المعنى المصطلح الحادث، ولذا قال (الذي إذا بلغه الرجل

ص: 348

كان فقيهاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتي أربعين حديثاً في أمر دينها. بعثه الله فقيهاً، وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً)) .

261-

(64) وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون من أجود جوداً؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الله أجود جوداً، ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعد رجل علم علماً فنشره، يأتي يوم القيامة أميراً وحده. أو قال: أمة واحدة)) .

ــ

كان فقيهاً) يعني عالماً في الآخرة، ومعدوداً في زمرة العلماء فيها، ومستحقاً لما وعدوا من الثواب. (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً) قال المناوى: أي نقلها إليهم بطريق التخريج والإسناد - انتهى. وقال النووي: معنى "حفظها" أن ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولا عرف معناها. هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع المسلمين لا بحفظها ما لم ينقل إليهم انتهى. (في أمر دينها) صحاحاً أو حساناً. قيل: أو ضعافاً يعمل بها في الفضائل. قال القاري: هو احتراز عن الأحاديث الأخبارية التي لا تعلق لها بالدين اعتقاداً أو علماً أو عملاً، ومن نوع واحد أو أنواع. (بعثه الله فقيهاً) أي في زمرة العلماء (شافعاً) بنوع من أنواع الشفاعات الخاصة. (وشهيداً) أي حاضراً لأحواله، ومزكياً لأعماله، ومثنياً على أقواله. وحاصل الجواب: أن مقدار العلم الذي إذا بلغه الرجل كان معدوداً في زمرة العلماء. هي معرفة أربعين حديثاً ونقلها إلى المسلمين، وبالنظر إلى هذا الحديث صنف العلماء من السلف والخلف في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، واختلف مقاصدهم في تأليفها وجمعها وترتبيها، وسمى كل واحد منهم كتابة بالأربعين، ذكر في كشف الظنون كتباً كثيرة من الأربعينات مع شروحها، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليه. وسيأتي الكلام على الحديث عند ذكر قول الإمام أحمد.

261-

قوله: (من أجود) من الجودة أي أحسن (جوداً) أي أكثر كرماً، أو من الجود أي من الذي جوده أجود، على حد "نهاره صائم" والجود قال الراغب: هو بذل المقننيات ما لا كان أو علماً. قيل: "من" الاستفهامية مبتدأ و"أجود" خبره و"جوداً" تمييز. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (الله أجود جوداً) هو لمجرد المبالغة فإنه المتفضل بالإيجاد والامداد على جميع البلاد. (ثم أنا أجود بني آدم) الظاهر أنه على الإطلاق، أي أفضلهم وأكرمهم (وأجودهم) أي زمانه (من بعدي) يحتمل البعدية بحسب المرتبة، ويحسب الزمان، والأول أظهر، قاله الطيبي. (رجل علم) بالتخفيف (علماء) أي عظيماً نافعاً في الدين (فنشره) بالتدريس، والتصنيف، والترغيب فيه (أميراً وحده) يعني يجئ يوم القيامة وحده كالأمير الذي معه أتباعه وخدمه في العزة والعظمة. (أو قال أمة واحدة)"أو" للشك من الراوي، والأمة الرجل الجامع للخير، والصنف من الناس، يعني يأتي وحده كالجماعة في العزة والعظمة والشرف، وهو نظير قوله تعالى:{إن إبراهيم كان أمة} [120:16] ، حيث أطلق الأمة على من جمع من صفات الفضل، وسمات الخير، والأخلاق الحميدة ما لا يوجد إلا في

ص: 349

262-

(65) وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها)) روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان، وقال: قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء: هذا متن مشهور فيما بين الناس، وليس له إسناد صحيح.

ــ

جماعة، ومنه قول الشاعر:

1-

ليس من الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

262-

قوله: (منهومان) تثنية منهوم من النهم بفتحتين، الولوع بالشيء وإفراط الشهوة في الطعام، والمنهوم شديد الشهوة، المنكب على الشيء لحيازته، المولع به، يعني حريصان على تحصيل أقصى غايات مطلوبيهما. (لايشبعان) أي لا يقنعان (منهوم في العلم لا يشبع منه) ؛ لأنه في طلب الزيادة دائماً وليس له نهاية (ومنهوم في الدنيا) أي في تحصيل مالها وجاهها (لا يشبع منها) فإنه كالمريض المستسقى. قال بعضهم: ما استكثر أحد من شيء إلا مله، وثقل عليه، إلا العلم والمال فإنه كلما زاد اشتهى. (روى البيهقي الأحاديث الثلاثة في شعب الإيمان) أما حديث أبي الدرداء فأخرجه أيضاً الشيرازى في الألقاب، وابن حبان في الضعفاء، وأبوبكر في الغيلانيات، والسلفي، وابن النجار. وقد روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة: معاذ بن جبل، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد، وعلي، وأبي مسعود، وأبي أمامة، وابن مسعود، وابن عمر، وجابر بن سمرة بروايات متنوعة، ذكر أحاديثهم علي المتقى في كنز العمال (ج5:ص221) ، وأما حديث أنس:((هل تدرون من أجود جوداً؟)) فأخرجه أيضاً أبويعلى، وفيه سويد بن عبد العزيز، وهو متروك الحديث. وأخرجه أيضاً ابن حبان بنحوه، وقال: منكر باطل. وأما حديثه الثاني: ((منهومان لا يشببعان)) . فأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولم أجد له علة. وأقره الذهبي، وأخرج أبوخيثمة في العلم، والطبراني في الأوسط والكبير، والبزار عن ابن عباس بنحوه، وفيه ليث بن سليم، وهو ضعيف. (وقال) أي البيهقي (قال الإمام أحمد في حديث أبي الدرداء) وهو "من حفظ على أمتي" يعني في شأنه. (فيما بين الناس) أي المحدثين وغيرهم (وليس له إسناد صحيح)، وقال النووي: اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه. وقال الحافظ في التلخيص (ص269) : حديث "من حفظ على أمتي أربعين حديثاً" روي عن ثلاثة عشر من الصحابة، أخرجها ابن الجوزي في العلل المتناهية، وبين ضعفها كلها، وأفرد المنذري الكلام عليه في جزء مفرد، وقد لخصت القول فيه في المجلس السادس عشر من الإملاء، ثم جمعت طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة قادحة- انتهى. قال بعضهم: الحكم عليه بالضعف إنما هو بالنظر لكل طريق على حدته، وأما بالنظر إلى مجموع طرقه فحسن لغيره، فيرتقي عن درجة الضعف إلى درجة الحسن، وأيضاً قد اتفقوا على جواز العمل بالضعيف في فضائل الأعمال، فتأمل.

ص: 350

263-

(66) وعن عون قال: قال عبد الله بن مسعود: "منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، أما صاحب العلم فيزداد رضى للرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. ثم قرأ عبد الله {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} قال: وقال: الآخر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} رواه الدارمي.

264-

(67) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أناسا من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن، يقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا. ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشواك،

ــ

263-

قوله: (وعن عون) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبوعبد الله الكوفي، الزاهد من ثقات التابعين، كان من عباد أهل الكوفة وقرائهم. وذكر الدارقطني أن روايته عن ابن مسعود مرسلة، ذكره البخاري فيمن مات بين عشر ومائة إلى عشرين. (ولايستويان) أي في المآل والعاقبة (وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان) أي يستمر فيه. وقيل: يزداد ويتوسع. (ثم قرأ عبد الله) استشهاداً لذم الثاني (ليطغى أن رآه) لأجل أن رآى نفسه (استغنى) عن الناس لكثرة ما عنده من المال. (قال) أي عون (وقال) أي ابن مسعود بعد قراءته ما سبق وهو قوله: {إن الإنسان ليطغى} (الآخر) بالرفع أي الاستشهاد الآخر، وقيل: بالنصب، أي ذكر الاستشهاد الآخر {إنما يخشى الله من عباده العلماء} تقدم معناه، وحاصل الاستشهاد بالآيتين أن الأول موجب لزيادة الطغيان المقتضي ترك الطاعة والعبادة، والثاني سبب لزيادة الخشية المورثة للعمل، فشتان ما بينهما، قإن طالب الدنيا يزداد بعداً من الله لسوء أدبه وجرأته على الله تعالى، وصاحب العلم يزداد قرباً لخشيته ومراعاته أدب الحضرة القدسية. (رواه الدارمي) أي موقوفاً على ابن مسعود من قوله، وقد تقدم أن رواية عون عن ابن مسعود مرسلة فهو منقطع موقوف، وأخرجه الطبراني في الكبير عنه مرفوعاً، وفيه أبوبكر الداهري، وهو ضعيف.

264-

قوله: (إن أناسا) أي جماعة (سيتفقهون في الدين) أي سيدعون الفقه في الدين، كذا قاله الطيبي. أو يطلبون الفقه ويحصلونه. (ويقرؤن القرآن) أي بالقراءات أو بتفسير الآيات، ويأتون الأمراء لا لحاجة ضرورية بل لإظهار الفضيلة والطمع لما في أيديهم من المال والجاه. (يقولون) أي لدفع الاعتراض (فنصيب) أي نأخذ (ونعتزلهم) أي نبعد عنهم (بديننا) بأن لا نشاركهم في إثم يرتكبونه. (ولا يكون ذلك) أي قال صلى الله عليه وسلم: لا يتحقق ذلك. وهو الإصابة من الدنيا والإعتزال عن الناس بالدين أي حصول الدنيا لهم وسلامة دينهم مع مخالطتهم إياهم؛ لأن المتقرب إليهم لا يأمن المداهنة، وطلب مرضاتهم، وتحسين حالهم القبيح. (كما لا يجتنى) على بناء المفعول، أي لا يؤخذ من "جنى الثمرة

ص: 351

كذلك لا يجتنى من قربهم إلا. قال محمد بن الصباح كأنه يعنى الخطايا)) رواه ابن ماجه.

265-

(68) وعن عبد الله بن مسعود قال: "لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا

ــ

واجتناه"، و"القتاد" شجر ذو شوك لا يكون له ثمر سوى الشوك، ينبت بنجد وتهامة، وفي المثل "دون ذلك خرط القتادة"، فنبه بهذا التمثيل على أن قرب الأمراء لا يفيد سوى المضرة الدينية أصلاً، وهذا إما مبني على أن ما قدر له من الدنيا فهو آت لا محالة سواء أتى باب الأمراء أم لا، فحينئذٍ ما بقى في إتيان أبوابهم فائدة إلا المضرة المحضة، أو على أن النفع الدنيوى الحاصل بصحبتهم بالنظر إلى الضرر الديني كلا شيء، فما بقي إلا الضرر. (كذلك لا يجتنى) أي لا يحصل (من قربهم إلا) وقع كلامه صلى الله عليه وسلم بلا ذكر المستثنى لكمال ظهوره. (قال محمد بن الصباح) شيخ ابن ماجه صاحب السنن في رواية هذا الحديث (كأنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (يعني) أي يريد النبي صلى الله عليه وسلم بالمستثنى المقدر بعد "إلا" (الخطايا) وهي مضرة الدارين. ومحمد بن الصباح هذا، هو ابن سفيان بن أبي سفيان الجرجرائي أبوجعفر التاجر، شيخ أبي داود، وابن ماجه. قال الحافظ: صدوق. وقال أبوحاتم: صالح الحديث. مات سنة (240) ، وليس هو محمد بن الصباح الدولابي أبا جعفر الحافظ البغدادي البزار صاحب السنن، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود. (رواه ابن ماجه) في السنة. قال: حدثنا محمد بن الصباح: أنبانا الوليد بن مسلم، عن يحيى بن عبد الرحمن الكندى، عن عبيد الله بن أبي بردة، عن ابن عباس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، وعبيد الله بن أبي بردة، لا يعرف- انتهى. قلت: عبيد الله هذا هو ابن المغيرة بن أبي بردة الكناني، وقد ينسب إلى جده كما وقع في سند ابن ماجه. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7:ص49) : التي في عدة نسخ من سنن ابن ماجه في الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه، عبيد الله بن أبي بردة، وقد رواه الطبراني من الوجه الذي أخرجه منه ابن ماجه فقال: عن عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة، به أخرجه الضياء في المختارة. ومقتضاه أن يكون عبيد الله عنده ثقة-انتهى. وقال في التقريب: إنه مقبول. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث: رواته ثقات- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً ابن عساكر بنحوه كما في الكنز (ج5:ص213) .

265-

قوله: (لو أن أهل العلم) أي الشرعى (صانوا العلم) أي حفظوه من المهانة بحفظ أنفسهم عن المذلة، ومصاحبة أهل الدنيا طمعاً لما لهم من المال والجاه. (ووضعوه عند أهله) أي أهل العلم الذين يعرفون قدر العلم. (لسادو به) أي فاقوا بالسيادة بسبب الصيانة والوضع عند أهله. (أهل زمانهم) وذلك لأن العلم رفيع القدر، يرفع قدر من يرفعه، ويصونه عن الابتذال في غير المحال. قال الزهري: العلم ذكر لا يحبه إلا ذكور الرجال، أي الذين يحبون معالي الأمور، ويتنزهون عن سفاسفها. (ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا) بأن خصوهم به، أو ترددوا إليهم به

ص: 352

لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: من جعل الهموم هماً واحداً هو آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا، ولم يبال الله في أي أوديتها هلك)) رواه ابن ماجه.

266-

(69) ورواه البيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عمر من قوله:"من جعل الهموم" إلى آخره.

267-

(70) وعن الأعمش، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله)) رواه الدارمي مرسلاً.

ــ

(لينالوا به دنياهم) لا لأجل الدين بالنصيحة والشفاعة وغيرهما. (فهانوا) أي أهل العلم ذلوا قدراً، فإنهم أهانوا رفيعا فأهانهم الله. (عليهم) أي ذلوا مستثقلين على أهل الدنيا. (نبيكم) هذا الخطاب توبيخ للمخاطبين، حيث خالفوا أمر نبيهم. فخولف بين العبارتين افتناناً. (من جعل الهموم هماً واحداً) أي من جعل همه واحداً موضع الهموم التي للناس، أو من كان له هموم متعددة فتركها، وجعل موضعها الهم الواحد. (هم آخرته) بدل من هما، وهو هم الدين. (كفاه الله هم دنياه) المشتمل على الهموم، يعني كفاه هم دنيا أيضاً. (ومن تشعبت به الهموم) أي تفرق فيه الهموم، أو فرقته الهموم، والباء على الأول بمعنى في، وعلى الثاني للتعدية، وإن جعلت للمصاحبة - أي مصحوبة معه- كان صحيحاً. (أحوال الدنيا) بدل من الهموم قلت قوله:"أحوال الدنيا" كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي عند ابن ماجه "في أحوال الدنيا". (لم يبال الله) كناية عن عدم الكفاية والعون، مثل ما يحصل للأول. (في أي أوديتها) أي أودية الدنيا، أو أودية الهموم. (هلك) يعني لا يكفي هم دنيا ولا هم أخراه. (رواه ابن ماجه) في السنة عن ابن مسعود الحديث بتمامه، وأخرجه أيضاً ابن عساكر كما في الكنز (ج5:ص243) . قال في الزوائد إسناد الحديث ضعيف، فيه نهشل بن سعيد، قيل: إنه يروي المناكير، وقيل بل الموضوعات، وله شاهد من حديث ابن عمر، صححه الحاكم، انتهى.

266-

قوله: (ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر من قوله) أي مبتدأ من قوله: (من جعل الهموم) يعني ورى المرفوع لا الموقوف. وأخرجه الحاكم أيضاً (ج4:ص328، 329) وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: أبوعقيل يحيى بن المتوكل ضعفوه.

267-

قوله: (آفة العلم النسيان) أي بعد حصوله، فيه تنبيه على الاجتناب عن مباشرة الأسباب التي توجب النسيان، من اقتراف الذنوب، وارتكاب الخطايا، وتشعب الهموم، ومشاغل النفس والدنيا، والإعراض عن استحضاره. (وإضاعته أن تحدث به غير أهله) بأن لا يفهمه، أو لايعمل به من أرباب الدنيا. (رواه الدارمي مرسلاً) أي معضلاً. وكذا أخرجه عنه ابن أبي شبية، أي مرفوعاً معضلاً، وأخرج صدره فقط عن ابن مسعود موقوفاً، قال

ص: 353

268-

(71) وعن سفيان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب: "من أرباب العلم"؟ قال: "الذين يعملون بما يعلمون"، قال:"فما أخرج العلم من قلوب العلماء"؟ قال: "الطمع"، رواه الدارمي.

ــ

السيد: المراد بالإرسال المعنى اللغوى الذي هو الانقطاع؛ لأن الأعمش لم يسمع من أحد من الصحابة.

268-

قوله: (عن سفيان) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أبوعبد الله من كبار أتباع التابعين، وإمام المسلمين، وحجة الله على خلقه، جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه، والحديث، والزهد، والعبادة، والورع، والثقة، وإليه المنتهى في علم الحديث وغيره من العلوم. أجمع الناس على دينه، وزهده، وورعه، وثقته، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وأحد أقطاب الاسلام وأركان الدين. سمع خلقاً كثيراً، وروى عنه الأوزاعي، ومالك، وابن جريج، وخلق كثير سواهم، حتى قيل: روى عنه عشرون ألفاً، يبلغ حديثه ثلثين ألفاً. وقال في التقريب: إنه ثقة، حافظ، فقيه؟ عابد، إمام، حجة. ولد سنة (97) ، ومات بالبصرة سنة (161) وله أربع وستون. (قال لكعب) هو كعب بن ماتع الحميرى، أو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، جمع الحبر-بكسر الحاءوفتحها - بمعنى العالم والصالح، ويضاف إليه إما لكثرة كتابته، أو معناه ملجأ العلماء. وقال الطيبي: الإضافة كما في زيد الخيل. وهو من آل ذي رعين، وقيل: من ذى الكلاع. أدرك الجاهلية، ولم يره صلى الله عليه وسلم وأسلم في زمن عمر، وكان من أهل الكتاب. قال الحافظ: ثقة، من كبار التابعين، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، ومات في حمص، في خلافة عثمان سنة (32) ، وقد بلغ مائة وأربع سنين. وخص عمر كعباً بذلك السؤال؛ لأنه كان ممن علم التوراة وغيرها، وأحاط بالعلم الأول. (من أرباب العلم) أي من هم أصحابه عندكم أو في كتابكم؟ قال الطيبي: أي من ملك العلم ورسخ فيه، واستحق أن يسمى بهذا الاسم. (الذين يعملون بما يعلمون) قال الطيبى: وهم الذين سماهم الله الحكماء في قوله: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} [269:2] ؛ لأن الحكيم من علم دقائق الأشياء وأتقنها برصانة العلم، فعلم منه أن العالم ما لم يعمل لم يكن من أرباب العلم، بل كان كمثل الحمار يحمل أسفاراً. (فما أخرج العلم) أي نوره وهيبته وبركته، (من قلوب العلماء) أي العاملين، لما تقدم أن غير العاملين ليسوا بعلماء. (قال: الطمع) أي في الدنيا؛ لأنه يؤدي إلى الرياء والسمعة، والعلم والعمل بدون الإخلاص لا يوصلان السالك إلى مقام الاختصاص، فمفهومه أن الورع يدخل العلم في قلوب العلماء. وقال الطيبي: الفاء أي في قوله: فما أخرج، جزاء شرط محذوف، والتعريف في العلم للعهد الخارجي، وهو ما يعلم من قوله:"أرباب العلم" أي إذا كان أرباب العلم من جمع بين العلم والعمل، فلم ترك العالم العمل، وما الذي دعاه إلى ترك العمل لينعزل عن هذا الاسم؟ قال: الطمع في الدنيا والرغبة فيها. (رواه الدارمي) أي موقوفاً من قول كعب، وهو معضل أيضاً فإن سفيان الثوري بينه وبين عمر مفاوز.

ص: 354

269-

(72) وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، قال:((سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر. فقال: لا تسألوني عن الشر، وسلوني عن الخير، يقولها ثلاثاً، ثم قال: ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء)) . رواه الدارمي.

270-

(73) وعن أبي الدرداء قال: "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه". رواه الدارمي.

ــ

269-

قوله: (عن الأحوص بن حكيم) بن عمير العنسى الحمصى، رأى أنساً وعبد الله بن بسر، ضعيف الحفظ، من صغار التابعين، قاله الحافظ وضعفه أيضاً النسائى، وابن معين، وابن المديني، (عن أبيه) حكيم بن عمير بن الأحوص، قال أبوحاتم: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق يهم، من الثالثة، أي من أوساط التابعين (عن الشر) أي فقط يعني عن أشر الناس، كما يدل عليه الجواب. (لا تسألوني) بتخفيف النون، فإن لا ناهية. (عن الشر) أي فحسب، قال ابن حجر: لأنى رؤف رحيم، نبي الرحمة. فالمراد النهي عن لازم ذلك من إيهام غلبة مظاهر الجلال فيه على مظاهر الجمال، وإلا فالسؤال عن الشر ليجتنب واجب كفاية أو عيناً، فكيف ينهى عنه. (وسلوني عن الخير) إما منفرداً أو منضماً بالسؤال عن الشر. (يقولها ثلاثاً) قال الطيبي: حال من فاعل قال، والضمير المؤنث راجع إلى الجملة، أعني لا تسألوني الخ، أو إلى الجملة القريبة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (إن شر الشر) أي أعظمه (شرار العلماء) الخ. المراد بشرار العلماء من لا يعملون بعلمهم ولا ينتفع به غيرهم، كما يدل عليه أثر ابي الدرداء. قال الطيبي: وإنما كانوا شر الشر وخير الخير؛ لأنهم سبب لصلاح العالم وفساده، وإليهم تنتمى أمور الدين والدنيا، وبهم الحل والعقد. (رواه الدارمي) أي مرسلاً من طريق بقية عن الأحوص عن أبيه، وبقية مدلس، رواه عن الأحوص بالعنعنة، والأحوص ضعيف كما تقدم. وأخرج البزار وأبونعيم في الحلبة نحوه عن معاذ بن جبل، وفيه الخليل بن مرة وهو ضعيف.

270-

قوله: (إن من أشر الناس) قال الطيبي: من زائدة وعالم خبر إن، وقيل: من تبعيضية، والتقدير: إن بعض أشرارهم. (لا ينتفع) بصيغة المعلوم، أي هو (بعلمه) بأن تعلم علماً شرعياً وما عمل به، فإنه شر من الجاهل، وعذابه أشد من عقابه، روى الطبراني وابن عساكر والبيهقي عن أبي هريرة:"أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"، وقيل بصيغة المجهول، أي لا ينتفع الناس بعامه لأجل كتمه عنهم، وعدم نشره بالتعليم والتدريس، أو التصنيف، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويؤيد هذا الاحتمال حديث أبي هريرة الاتى"مثل علم لا ينتفع به" الخ. (رواه الدارمي) أي موقوفاً، قال الالباني: وإسناده ضعيف. رجاله ثقات غير ابن القاسم بن قيس فلم أعرفه، ورواه الطبراني في الصغير وابن عبد البر في الجامع عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه وسنده ضعيف جداً.

ص: 355

271-

(74) وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الاسلام؟ قال: قلت: لا؛ قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي.

272-

(75) وعن الحسن، قال:"العلم علمان، فعلم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم". رواه الدارمي.

ــ

271-

قوله: (عن زياد بن حدير) بضم الحاء وفتح الدال المهملتين، بعدها تحتية ساكنة، بعدها راء، أبومغيرة الأسدى، روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، والعلاء الحضرمي، قال في التقريب: ثقة، عابد من كبار التابعين وثقة أبوحاتم، والدارقطني، وابن حبان. (مايهدم الإسلام) أي يزيل عزته. (زلة العالم) أي عثرته بتقصير منه (وجدال المنافق) الذي يظهر السنة ويبطن البدعة. (بالكتاب) أي القرآن، وإنما خص لأن الجدال به أقبح يؤدى إلى الكفر، وذلك لإفساده الدين. (وحكم الأئمة المضلين) أي على وفق أهوائهم وإكراههم الناس عليه، فالعلماء الزائغون عن الحق، والمنافقون المجادلون المبتدعون، وأمراء الجور هم الذين يضعفون أركان الإسلام ويعطلونها بأعمالهم. قال الطيبي: المراد بهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمسة في قوله: عليه السلام: "بنى الإسلام على خمس" الحديث. وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائغة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين، وإنما قدمت زلة العالم؛ لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين، كما جاء "زلة العالِم زلة العالَم". (رواه الدارمي) أي موقوفاً، وأخرجه أيضاً ابن المبارك، وجعفر الفريابي في صفة المنافق، ونصر المقدسي في الحجة، وابن النجار وآدم بن أبي إياس وابن عبد البر في العلم، وروي في "الخوف على الأمة من زلة العالم وجدال المنافق" وغير ذلك أحاديث عن جماعة من الصحابة، ذكرها الهيثمى في مجمع الزوائد (ج1:ص186، 187) مع الكلام عليها، وعلي المتقى في كنزل العمال (ج5:ص212، 232، 233) .

272-

قوله: (العلم) أي الشرعي (علمان) أي نوعان. (فعلم) الفاء تفصيلية أي فنوع منه. (في القلب) المراد بعلم في القلب. ما ظهر أثره ونوره في القلب بأن يعمل به ويجري على مقتضاه، ويظهر السنة ويبطل البدعة. (فذاك العلم النافع) المذكور المطلوب في الأدعية المأثورة. (وعلم على اللسان) أي ونوع آخر من العلم جارٍ على اللسان، ظاهر عليه فقط، لم يظهر أثره ونوره في القلب، ولا أورث العمل، (فذاك حجة الله عزوجل على ابن آدم) فيقول له يوم القيامة: ماذا عملت فيما تعلمت؟ وهو الذي استعاذ منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أعوذبك من علم لا ينفع)) . (رواه الدارمي) أي موقوفاً، وأخرجه الخطيب في تاريخه، عن الحسن، عن جابر مرفوعاً بإسناد حسن، وأبونعيم في الحلية، والديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً، وأخرجه ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن عبد البر في كتاب

ص: 356

273-

(76) وعن أبي هريرة، قال:((حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين، فأما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم - يعني مجرى الطعام)) رواه البخارى.

274-

(77) وعن عبد الله قال: "يا أيهاالناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم،

ــ

العلم عن الحسن مرسلاً بإسناد صحيح، وأخرجه البيهقي عن الفضيل بن عياض من قوله: غير مرفوع.

273-

قوله: (وعائين) بكسر الواو والمد، تثنية وعاء أي ظرفين، أطلق المحل وأراد الحال، أي نوعين من العلم، ومراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعائين. (فأما أحدهما) أي أحد ما في الوعائين من نوعي العلم (فبثثته) أي أظهرته ونشرته (فيكم) ليس هذا اللفظ في البخاري، قال الحافظ: زاد الإسماعيلي وقال القسطلاني: زاد الأصلي "في الناس"، (قطع هذا البلعوم) بضم الباء، كنى بذلك عن القتل، وفي وراية الإسماعيلي "لقطع هذا" يعني رأسه. (يعني مجرى الطعام) أي في الحلق، وهو المري، وأراد بالوعاء الذي لم يبثه، ما كتمه من أخبار الفتن والملاحم، وتغير الأحوال في آخر الزمان، وما أخبر به الرسول الله صلى الله عليه وسلم، من فساد الدين على يدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبوهريرة يقول: لوشئت أن أسميهم بأسمائهم، أو المراد الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور، وأحوالهم، وزمنهم، وقد كان أبوهريرة يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفاً على نفسه منهم، كقوله أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهراً وباطناً، وذلك الباطل إنما حاصله الانحلال من الدين، قال: وإنما أراد أبوهريرة بقوله: "قطع" أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه بفعلهم وتضليله لسعيهم. ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها؛ لما ذكر هو من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره قد نفى أبوهريرة بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك؟ وأبوهريرة لم يكشف مستوره فيما نعلم، فمن أين علم الذي كتمه؟ فمن ادعى ذلك فعليه البيان. (رواه البخاري) في العلم، قال القسطلاني: زاد في رواية ابن عساكر، والأصيلي، وأبي الوقت، وأبي ذر، والمستملى قال أبوعبد الله: يعني البخاري "البلعوم" مجرى الطعام، وعلىهذا لا يخفى ما في المشكاة، إذ يفهم منه أن قوله: يعني "مجرى الطعام" من أحد رواة الحديث، ولا يفهم منه أنه للبخاري.

274-

قوله: (وعن عبد الله) إذا أطلق فهو ابن مسعود. (قال يا أيهاالناس) الخ تعريضاً بالرجل القائل: "يحئ دخان يوم القيامة" وإنكاراً عليه، يعني لا تتكلفوا فيما لا تعلمون. (من علم شيئاً) من علوم الدين فسأله عنه من هو متأهل لفهم جوابه. (فليقل به) أي بذلك الشيء المعلوم. (ومن لم يعلم فليقل) أي في الجواب (الله أعلم) أي أكثر علماً. وقال ابن

ص: 357

فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} متفق عليه.

275-

(78) وعن ابن سيرين قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" رواه مسلم.

276-

(79) وعن حذيفة، قال: يا معشر القراء

ــ

حجر: "أعلم" بمعنى عالم لاستحالة المشاركة، قال القاري: المشاركة الاستقلالية هي المستحيلة. (فإن من العلم) أي من آدابه الواجب رعابتها على من نسب للعلم، أوالتقدير "فإن من جملة العلم"، وهو خبر إن واسمه قوله:"أن تقول" الخ قاله القاري، والثاني هو الظاهر، والمعنى أن تمييز المعلوم من المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لما اشتهر من أن "لا أدرى" نصف العلم، ولأن القول فيما لا يعمل قسم من التكلف. (أن تقول لما لا تعلم) أي لأجله أو عنه (قال الله تعالى لنبيه) وهو أعلم الخلق {قل ما أسألكم عليه} أي على التبليغ {من أجر} أي آخذه منكم {وما أنا من المتكلفين} أي من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإستسقاء، وفي تفسير الروم والدخان، ومسلم في التوبة، وأخرحه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي في التفسير.

275-

قوله: (وعن ابن سيرين) هو محمد بن سيرين، يكنى أبابكر، مولى أنس بن مالك، من أكابر التابعين، قال المصنف: كان فقيهاً عالماً، زاهداً، عابداً، ورعاً، محدثاً، من مشاهير التابعين وجلتهم، وقال الحافظ: إنه ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى. مات سنة (110) وهو ابن سبع وسبعين سنة. قال القاري: وهو غير منصرف للعلمية والمزيدتين على مذهب أبى علي في اعتبار مجرد الزائدتين. (إن هذا العلم دين) اللام للعهد، يعني أن علم الإسناد من الدين، وقيل: المراد به، علم الكتاب والسنة، وهما أصول الدين، ويؤيد المعنى الأول ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عقب ذلك عن ابن سيرين أيضاً، قال: لم يكن يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (فانظروا) أي فاعلموا وتحققوا (عمن تأخذون دينكم) تنبيه وحث على رعاية الوثوق والديانة، والحفظ، والورع، والسنة، حتى لا يؤخذ من كل من يروي، و"عن" متعلق بتأخذون على تضمين معنى تروون. (رواه مسلم) في مقدمه صحيحه موقوفاً من قول ابن سيرين، وكذا الدارمي، وأخرجه الحاكم في تاريخه، وابن عدى في الكامل مرفوعاً عن أنس، وكذا أخرجه مرفوعاً أبونصر السجزي في الإبانة، والديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة، لكن المرفوع ضعيف، والصحيح أنه قول ابن سيرين.

276-

قوله: (يامعشر القراء) أي الذين يحفظون القرآن قاله الطيبي: وقال الحافظ: المراد بهم العلماء بالقرآن،

ص: 358

استقيموا، فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً)) رواه البخاري.

277-

(80) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من جب الحزن، قالوا: يا رسول الله، وما جب الحزن؟ قال: وادٍ في جهنم، يتعوذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة، قيل: يا رسول الله، ومن يدخلها؟ قال: القراء

ــ

والسنة العباد. (استقيموا) أي على جادة الشريعة، أي اسلكوا طريق الاستقامة، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركاً. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة، قال الحافظ: هو المعتمد، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنياً للمفعول، والمعنى على الأول: اسلكوا طريق الاستقامة؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة، تسبقوا إلى كل خير؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً. وعلى الثاني: أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يميناً وشمالاً، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقاً بعيداً) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يميناً وشمالاً) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالاً بعيداً) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [6: 153] ، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً أبونعيم في المستخرج، وابن أبي شيبة، وابن عساكر بنحوه.

277-

قوله: (من جب الحزن)"الجب" بضم الجيم وتشديد الموحدة، البئر التي لم تطو، و"الحزن" بفتحتين أو بضم فسكون ضد الفرح، أي من بئر فيها الحزن لا غير، قال الطيبي: جب الحزن علم والإضافة كما في دار الإسلام، أي دار فيها السلامة من كل حزن وآفة. (قال وادٍ) أي هو وادٍ عميق يشبه البئر من كمال عمقه. (يتعوذ منه) أي من شدة عذابه. (جهنم) أي سائر أودية جهنم. قيل: ينبغي أن يراد بجهنم ما أعد فيها لتعذيب العصاة من المسلمين، لا الكفرة والمنافقين. قال الطيبي: التعوذ من جهنم هنا كالنطق منها في قوله تعالى: {وتقول هل من مزيد} [50: 30]، وكالتميز والتغيظ:{تكاد تميز من الغيظ} [67: 8] ، والظاهر أن يجري ذلك على المتعارف؛ لأنه تعالى قادر على كل شيء. (كل يوم) يحتمل النهار والوقت. (أربع مائة مرة) هذا لفظ ابن ماجه، وفي رواية الترمذي ((مائة مرة)) ، ولامنافاة؛ لأن القليل لا ينافي الكثير، وهو يحتمل التحديد والتكثير. (ومن يدخلها) أي تلك البقعة المسماة بجب الحزن، وهو عطف على محذوف، أي ذلك شيء عظيم هائل. فمن الذي يستحقها؟ ومن الذي يدخل فيها؟ (القراء) جمع قارئ، والمراد العلماء

ص: 359

المراؤون بأعمالهم)) . رواه الترمذي، وكذا ابن ماجه، وزاد فيه:((وإن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء)) قال المحاربي: يعني الجورة.

278-

(81) وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى،

ــ

بالكتاب والسنة، العباد النساك. (المراؤون) من الرياء (بأعمالهم) السماعون بأقوالهم. (رواه الترمذي) في الزهد، وقال:"غريب" انتهى. وفيه سيف بن عمار، وهو ضعيف الحديث، وفيه أيضاً أبومعان البصري، وهو مجهول. (وكذا) رواه (ابن ماجه) في السنة، وفي سنده أيضاً ما في سند الترمذي. (وإن من أبغض القراء) قيل: أي من القرائين المذكورين، وهم المراؤون، قرائين مخصوصين، وهم (الذين يزورون الأمراء) طمعاً في مالهم وجاههم، لا لحاجة دينية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لضرورة دنيوية تلجئهم بهم، كدفع شرهم وإيذائهم ونحو ذلك. (قال المحاربي) أحد رواة الحديث، وهو بضم الميم وبالحاء المهملة، وبالراء المكسورة، وبالباء الموحدة، نسبة إلى محارب، وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، أبومحمد الكوفي، روى عن الأعمش، ويحيى بن سعيد، وعنه أحمد بن حنبل، وثقه النسائي وابن معين والبزار والدارقطني، وقال الحافظ: لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد. مات سنة (195) . (يعني الجورة) كالظلمة لفظاً ومعناً، جمع جائر؛ لأنه لا حرج في زيارة الأمير العادل، المتمسك بالكتاب والسنة. والحديث أخرجه أيضاً الطبراني بنحوه إلا أنه قال:((يلقى فيه الغرارون، قيل: يا رسول الله، وما الغرارون؟ قال: المراؤون بأعمالهم في الدنيا)) ، وأخرجه العقيلي في الضعفاء، والعسكري في المواعظ عن علي، وفيه عبد الله بن حكيم أبوبكر الداهري ليس بشيء.

278-

قوله: (يوشك أن يأتي على الناس زمان) أي فاسد لفساد أهله، قال الطيبي: أتى متعدٍ إلى مفعول واحد بلا واسطة، فعدي بـ"على" ليشعر بأن الزمان عليهم حينئذٍ بعد أن كان لهم. (لا يبقى من الإسلام) أي من شعائره. (إلا اسمه) أي إلا ما يصح إطلاق اسم الإسلام عليه كلفظ الصلاة والزكاة والحج، أو إلا العلم به، وأما العمل به فلا. (ولا يبقى من القرآن) أي من آدابه وعلومه (إلا رسمه) أي أثره الظاهر من قراءة لفظه، وكتابة خطه، بطريق الرسم والعادة لا على جهة تحصيل العلم والعبادة، وقيل: المراد برسم القرآن تجويد الحروف وإتقان الألفاظ، وتحسين الألحان فيه من غير التفكر في معانيه، والامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه. (مساجدهم عامرة) أي بالأبنية المرتفعة، والجدران المنقشة، والقناديل والبسط. (وهي خراب من الهدى) المراد بكون مساجدهم عامرة، عمارة بنائها الظاهر، وبكونها

ص: 360

علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.

279-

(82) وعن زياد بن لبيد قال: ((ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: ذاك عند أوان ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟)) رواه أحمد، وابن ماجه،

ــ

خراباً من الهدى، تركهم إياها عاطلة من الصلاة والجماعة، وإقامة الأذان فيها، والعلم والذكر، وإنما عبر عنها بالهدى لأنها سبب هداية الشخص، وقيل: التقدير من آثارها الهداية أو أهلها. (أديم السماء) أي وجهها. (من عندهم تخرج الفتنة) أي للناس. (وفيهم تعود) أي مضرتها وعاقبتها السوء، وفي مثلها في قوله تعالى:{أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] ، يعني يستقر عود ضررهم فيهم، ويتمكن منهم. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) ، وأخرجه أيضاً ابن عدي في الكامل، وأخرجه الحاكم في تاريخه بنحوه عن ابن عمر، والديلمي عن معاذ وأبي هريرة، وأخرجه العسكري في المواعظ عن علي موقوفاً من قوله.

279-

قوله: (وعن زياد بن لبيد) بفتح لام وكسر موحدة، ابن ثعلبة، يكنى أباعبد الله الأنصاري الخزرجي، خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأقام معه حتى هاجر، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، وشهد العقبة وبدراً والمشاهد، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عامله على حضر موت، وكان له بلاء حسن في قتال أهل الردة، وكان من فقهاء الصحابة. روى عنه عوف بن مالك، وسالم بن أبي الجعد، وجبير بن نفير، قال البخاري: ولا أرى سالماً سمع منه، مات في أول خلافة معاوية. (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً) أي هائلاً (فقال: ذاك) أي الشيء المخوف يقع (عند أوان ذهاب العلم) أي وقت اندراسه. (وكيف يذهب العلم؟) الواو للعطف، أي متى يقع ذلك المهول؟ وكيف يذهب العلم؟ (ونحن نقرأ القرآن

) الخ يعني والحال أن القرآن مستمر بين الناس إلى يوم القيامة، فمع وجوده كيف يذهب العلم؟ (ثكلتك أمك) أي فقدتك، وأصله الدعاء بالموت، ثم يستعمل في التعجب. (زياد) أي يا زياد (إن كنت) إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، أي إن الشأن كنت أنا (لأراك) بضم الهمزة، أي لأظنك، وبفتحها أي لأعلمك. (من أفقه رجل بالمدينة) ثاني مفعولي أراك، ومن زائدة في الإثبات، أي على مذهب الأخفش، أو متعلقة بمحذوف أي كائناً، قاله الطيبي: وأضاف أفعل التفضيل إلى النكرة المفردة؛ لأن المراد به الاستغراق. (أو ليس) أي أتقول هذا وليس (لا يعملون بشيء مما فيهما) الجملة حال من فاعل يقرؤون، أي يقرؤون غير عاملين، يعني ومن لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء، بل هو بمنزلة الحمار يحمل أسفاراً. (رواه أحمد) (ج4:ص16، 218) . (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص100) كلهم من

ص: 361

وروى الترمذي عنه نحوه.

280-

(83) وكذا الدارمي عن أبي أمامة.

281-

(84) وعن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تعلموا العلم وعلموه الناس، تعلموا الفرائض وعلموها الناس، تعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، والعلم سينقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان أحداً يفصل بينهما)) رواه الدارمي والدارقطني.

ــ

طريق سالم بن أبي الجعد عن زياد. وسند الحديث صحيح، رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قال البخاري في التاريخ الصغير: لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد، وتبعه على ذلك الذهبي في الكاشف، وقال: ليس لزياد عند المصنف - أي ابن ماجه - سوى هذا الحديث، وليس له شيء في بقية الكتب. (وروى الترمذي عنه) أي عن زياد (نحوه) أي نحو هذا اللفظ، وهو معناه، وهذا وهم من المصنف؛ لأن الترمذي روى هذا الحديث عن أبي الدرداء، لا عن زياد، ولأنه ليس لزياد شيء في الكتب الستة غير ابن ماجه.

280-

قوله: (وكذا الدارمي) أي رواه بمعناه لكن (عن أبي أمامة) لا عن زياد. وأخرج عن أبي أمامة أيضاً أحمد والطبراني وأبوالشيخ في تفسيره، وابن مردويه كما في الكنز (ج5:ص208) .

281-

قوله: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن ابن مسعود كان وحده، أو خصه بالخطاب وعم الحكم بقوله:(تعلموا العلم) أي الشرعي، أو الجمع للتعظيم. (تعلموا الفرائض) أي علم الفرائض خصوصاً، سواءً أريد بها فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (علموها الناس) كذا في بعض النسخ موافقاً لرواية الدارقطني، ووقع في بعض النسخ "وعلموه الناس"، وكذا عند الدارمي، أي علموا هذا العلم، فالضمير إلى المضاف المقدر. (فإني امرؤ مقبوض) لكوني امرأ مثلكم، فلا أعيش أبداً، فاغتنموا فرصة حياتي. (والعلم سينقبض) من الانقباض، أي بعدي بقبض أهله، وفي بعض النسخ "سيُقبض" مجهول مجرد. (حتى يختلف) يجوز أن يتعلق بكل من الفعلين السابقين. (في فريضة) من فرائض الإسلام أو فرائض الإرث. (لا يجدان أحداً يفصل بينهما) لقلة العلم أو لكثرة الفتن. (رواه الدارمي والدارقطني) ص (459) ، وسياق الحديث للدارمي، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي ولم يسق لفظه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال الحافظ: رواته موثقون إلا أنه اختلف فيه اختلافاً كثيراً

الخ، وقال الترمذي: إنه مضطرب، وقد تقدم بيان شيء من هذا الاختلاف عند تخريج حديث أبي هريرة:((تعلموا الفرائض)) في الفصل الثاني، وأخرج نحوه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري من طريق عطية، وهو ضعيف.

ص: 362

282-

(85) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل علم لا ينتفع به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله)) رواه أحمد والدارمي.

ــ

282-

قوله: (مثل علم لا ينتفع منه) أي بالعمل والتعليم، ولو كان العلم في نفسه نافعاً. (كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله) أي لا على نفسه ولا على غيره في الجهاد وسائر وجوه الخير. قال الطيبي: التشبيه في عدم النفع والانتفاع والإنفاق منهما، لا في أمر آخر، وكيف لا والعلم يزيد بالإنفاق والكنز ينقص، والعلم باقٍ والكنز فانٍ. (رواه أحمد والدارمي) ، وأخرجه أيضاً البزار، ورجاله موثقون، قاله الهيثمي. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط بنحوه، وفي إسناده ابن لهيعة، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر، والقضاعي عن ابن مسعود.

بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الأول من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجزء الثاني - إن شاء الله تعالى -، وأوله: كتاب الطهارة.

ص: 363