المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟))

تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) رواه مسلم، والحديثان المرويان عن أبي هريرة قال: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) ، والآخر:((الكبرياء ردائي)) سنذكرهما في بابي الرياء والكبر إن شاء الله تعالى.

{الفصل الثاني}

29-

(28) عن معاذ قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: لقد سألت عن أمر عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله

ــ

(تهدم ما كان قبلها) أي من الخطايا المتعلقة بحق الله لا التبعات، وتكفر الكبائر التي بين العبد ومولاه لا المظالم بين العباد وحقوق الآدميين (وأن الحج) أي المبرور (يهدم ما كان قبله) الحكم فيه كالذي قبله، قيل: وعليه الإجماع، وإنما حملوا الحديث في الحج والهجرة على ما عدا حقوق العباد والمظالم لما عرفوا ذلك من أصول الدين فردوا المجمل إلى المفصل، وعليه اتفاق الشارحين، وقد تكلم الطيبي في الحديث كلاماً حسناً بحسب ما تقتضيه البلاغة، وهو كالتعقب على الشارحين، إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى شرحه للمشكاة (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضاً في مسنده (ج4: ص204، 205) .

قوله: (والحديثان المرويان عن أبي هريرة) أي المذكوران هنا في المصابيح (قال الله تعالى

) الخ بيان للحديث (سنذكرهما في بابي الرياء والكبر) لف ونشر مرتب، أي لأن الحديثين أنسب بالبابين من هذا الباب.

(الفصل الثاني) أي المعبر به عن قوله من الحسان في المصابيح.

29-

قوله: (عن معاذ) أي ابن جبل (أخبرني بعمل) التنوين للتعظيم أو للتنويع، أي بعمل عظيم أو معتبر في الشرع (يدخلني) من الإدخال، وهو بالرفع صفة العمل، وإسناد العمل إلى الإدخال مجازاً، وبالجزم على أنه جزاء شرط محذوف هو صفة العمل، أي أخبرني بعمل إن عملته يدخلني الجنة، أو لأنه جواب الأمر؛ لأنه ترتب على فعل العمل المترتب على الإخبار، فترتبه على الإخبار إشارة إلى سرعة الامتثال بعد الاطلاع على حقيقة الحال، وعطف (يباعدني من النار) على يدخلني الجنة يفيد أن مراده دخول الجنة من غير سابقة عذاب (عن أمر عظيم) أي مستعظم الحصول لصعوبته على النفوس إلا من سهل الله عليه (وإنه ليسير) أي فعله سهل (على من يسره الله تعالى عليه) فيه إشارة إلى أن التوفيق كله بيد الله عز وجل (تعبد الله) خبر بمعنى الأمر، وهو خبر مبتدأ محذوف على تقدير أن المصدرية، واستعمال الفعل موضع المصدر مجاز، أي هو ذلك العمل أن تعبد الله، وقد تقدم معنى العبادة وبيان الحكمة في

ص: 98

ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ، ثم قال: ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟

ــ

عطف عدم الإشراك على العبادة (ألا أدلك على أبواب الخير) أي الطرق الموصلة به، والمراد بها النوافل، يدل عليه قوله:((صلاة الرجل في جوف الليل)) لئلا يلزم التكرار؛ لأنه قد تقدم ذكر الصلاة وغيرها من الفرائض، وجعل هذه الأشياء أبواب الخير لأن الصوم شديد على النفس وكذا إخراج المال في الصدقة وكذا الصلاة في جوف الليل، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير؛ لأن المشقة في دخول الدار تكون بفتح الدار المغلق (الصوم جُنَّة) بضم الجيم: الترس والوقاية، أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات والمعاصي المؤدية إلى النار في الآخرة، كالمجن الذي يقي صاحبه عند القتال من الضرب، فالشبع مجلبة للآثام منقصة للإيمان، فإنه يوقع الإنسان في مداحض فيزيغ عن الحق ويغلب عليه الكسل، فيمنعه من وظائف العبادات ويكثر المواد الفضول فيه فيكثر غضبه وشهوته ويزيد حرصه، فيوقعه في طلب ما زاد على حاجته فيوقعه في المحارم (تطفئ الخطيئة) من الإطفاء يعني تذهبها وتمحو أثرها، أي إذا كانت متعلقة بحق الله، وإذا كانت من حقوق العباد فتدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضاً من مظلمته، ونزل في الحديث الخطيئة منْزلة النار المؤدية هي إليها على الاستعارة المكنية، ثم أثبت لها على الاستعارة التخييلية ما يلازم النار من الإطفاء (وصلاة الرجل في جوف الليل) مبتدأ حذف خبره، أي هي مما لا يكننه كنهها، أو هي مما نزلت فيها الآية المذكورة، أو هي من أبواب الخير، أو هي شعار الصالحين، والأظهر بل المتعين أن يقدر خبره كذلك، أي أنها تطفئ الخطيئة أيضاً كالصدقة، يدل عليه ما أخرجه أحمد من رواية عروة بن النَزال عن معاذ قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك

فذكر الحديث، وفيه ((إن الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطيئة)) ، (ثم تلا) يعني قرأ هاتين الآيتين عند ذكره فضل صلاة الليل ليبين بذلك فضل صلاة الليل (تتجافى جنوبهم) أي تتباعد (يدعون ربهم) بالصلاة والذكر والقراءة والدعاء، ويدخل في عموم لفظ الآية من صلى بين العشائين ومن انتظر صلاة العشاء فلم يقم حتى يصليها لا سيما مع حاجته إلى النوم ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، ومن نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع بالصلاة مطلقاً، وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر وقام إلى أداء صلاة الصبح لا سيما مع غلبة النوم عليه (حتى بلغ يعملون) بقية الآية:{خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [سورة السجدة](ألا أدلك برأس الأمر) أي مخبراً بأصله، والمراد بالأمر الدين الذي بعث به (وعموده) بفتح أوله أي ما يقوم به الدين ويعتمد عليه (وذروة سنامه) بكسر الذال وهو الأشهر وبضمها، وحكى

ص: 99

قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم

ــ

فتحها: أعلى الشيء والجمع ذرى بالضم، والسنام بفتح السين ما ارتفع من ظهر الجمل قريب عنقه يقال له بالفارسية "كوهان شتر"، (رأس الأمر الإسلام) قد جاء تفسير الإسلام في رواية أخرى بالشهادتين، ففي رواية أحمد من طريق شهر بن حوشب عن ابن غنم عن معاذ أن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، قال القاري: وهو من باب التشبيه المقلوب، إذ المقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر؛ ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنْزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه (وعموده الصلاة) أي ما يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده هي الصلاة، وفي الرواية المشار إليها ((وأن قوام هذا الأمر إقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) ، (وذروة سنامه الجهاد) فيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره، وهو يدل على أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، قال التوربشتي: المراد بالإسلام كلمتا الشهادة، وبالأمر أمر الدين يعني ما لم يقر العبد بكلمتي الشهادة لم لكن له من الدين شيء أصلاً، وإذا أقر بهما حصل له أصل الدين إلا أنه ليس له عمود، فإذا صلى وداوم على الصلاة قوي دينه ولكن لم يكن له رفعة وكمال، فإذا جاهد حصل لدينه رفعة (بملاك ذلك كله) الملاك بكسر الميم وفتحها لغة، والرواية الكسر: ما به إحكام الشيء وتقويته، أي بما به يملك الإنسان ذلك كله بحيث يسهل عليه جميع ما ذكر من تلك العبادات (فأخذ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلسانه) الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (كف) الرواية بفتح الفاء المشدد أي امنع (هذا) إشارة إلى اللسان، وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام به، وتعديته بعلى للتضمين أو بمعنى عن، وإيراد اسم الإشارة لمزيد التعيين أو للتحقير، وهو مفعول كف، والمعنى: لا تتكلم بما لا يعنيك، فإن من كثر من كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ولكثرة الكلام مفاسد يطول إحصاءها وارجع لذلك إلى الإحياء (لمؤاخذون) بالهمزة ويبدل، أي هل يؤاخذنا ويعاقبنا أو يحاسبنا ربنا (بما نتكلم به) أي بجميعه، إذ لا يخفى على معاذ المؤاخذة ببعض الكلام (ثكلتك أمك) بكسر الكاف أي فقدتك، وهو دعاء عليه بالموت ظاهراً، ولا يراد وقوعه بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة (وهل يكب) بفتح الياء وضم الكاف وتشديد الباء، من كبه إذا صرعه على وجهه، بخلاف أكب فإن معناه سقط على وجهه، وهو من النوادر، وهو عطف على مقدر، أي هل تظن غير ما قلت، وهل يكب (على وجوههم أو على مناخرهم) شك من الراوي، والمناخر جمع منخر بفتح الميم وكسر الخاء وفتحها ثقب الأنف

ص: 100

إلا حصائد ألسنتهم؟)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

30-

(29) وعن أبي أمامة

ــ

والمراد هنا الأنف، والاستفهام للنفي، خصهما بالكب لأنهما أول الأعضاء سقوطاً (إلا حصائد ألسنتهم) جمع حصيدة، فعيلة بمعنى مفعولة من حصد إذا قطع الزرع، وهذا إضافة اسم المفعول إلى فاعله، أي محصودات الألسنة، شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسناً وقبيحاً، والمعنى: لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر والشرك والقول على الله بغير علم وشهادة الزور والسحر والقذف والشتم والكذب والغيبة والنميمة والبهتان ونحوها، وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون معيناً عليها، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا جربت لم تجد أحداً حفظ اللسان عن السوء ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادراً (رواه أحمد) في مسنده (ج5: ص231) ، (والترمذي) في الإيمان (وابن ماجه) في الفتن، وأخرجه أيضاً النسائي، كلهم من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح، قال ابن رجب في شرح الأربعين: وفيما قاله نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام وأبووائل بالكوفة، ومازال الأئمة كأحمد وغيره يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا، وقد قال أبوحاتم الرازي في سماع أبي وائل من أبي الدرداء: قد أدركه وكان بالكوفة وأبوالدرداء بالشام يعني أنه لم يصح له سماع منه، وقد حكى أبوزرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا في سماع أبي وائل من عمر أو نفوه فسماعه من معاذ أبعد، والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصراً (ج5: ص248) ، قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. قلت: رواية شهر عن معاذ مرسلة يقيناً، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، قد خرجه الإمام أحمد (ج5: ص245) من رواية شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وخرجه الإمام أحمد أيضاً (ج5: ص237) من رواية عروة بن النَزال بن عروة وميمون بن أبي شبيب كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروة ولا ميمون عن معاذ، وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة – انتهى.

30-

قوله: (وعن أبي أمامة) بضم الهمزة، اسمه صدي – بالتصغير - ابن عجلان بن وهب الباهلي، غلبت عليه كنيته، سكن مصر ثم انتقل منها إلى حمص فسكنها ومات بها، وكان من المكثرين في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر حديثه عند الشاميين، قال له صلى الله عليه وسلم:((أنت مني وأنا منك)) ، ذكره الحافظ في الإصابة (ج2: ص172) ، له مائتا حديث وخمسون حديثاً، روى له البخاري خمسة أحاديث، ومسلم ثلاثة، روى عنه خلق كثير، مات سنة (81) .

ص: 101

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) ، رواه أبوداود.

31-

(30) ورواه الترمذي عن معاذ بن أنس مع تقديم وتأخير، وفيه:((فقد استكمل إيمانه)) .

ــ

وقيل: سنة (86) وهو ابن (91) سنة، وقيل: ابن (106) سنة، وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول بعضهم. (من أحب لله) أي لأجله ولوجهه لا لحظ نفسه (وأبغض لله) أي لكفره وعصيانه لا لإيذائه له (وأعطى لله) أي لثوابه ورضاه لا لميل نفسه وريائه (ومنع لله) أي لأمر الله فلا يصرف الزكاة عن كافر لخسته ولا عن هاشمي لشرفه بل لمنع الله لهما منها، وكذلك سائر الأعمال، فسكت لله وتكلم لله، واختلط بالناس لله واعتزل عن الخلق لله، كقوله تعالى حاكياً:{إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [6: 162] ، وإنما خص الأفعال الأربعة لأنها حظوظ نفسانية، إذ قلما يمحضها الإنسان لله، فإذا محضها مع صعوبة تمحيضها كان تمحيض غيرها بالطريق الأولى، ولذا أشار إلى استكمال الدين بتمحيضها بقوله (فقد استكمل الإيمان) بالنصب أي أكمله، وقيل بالرفع، أي تكمل إيمانه. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عليه، وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبوعبد الرحمن الشامي، قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد – انتهى. وأخرجه أيضاً الضياء المقدسي، قال العزيزي: بإسناد ضعيف، والطبراني في الأوسط، وفي إسناده صدقة بن عبد الله السمين، ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما، وقال أبوحاتم: محله الصدق، كذا في مجمع الزوائد.

31-

قوله: (ورواه الترمذي) أي في آخر أبواب الزهد (عن معاذ بن أنس) الجهني حليف الأنصار، قال ابن يونس: صحابي كان بمصر والشام، قد ذكر فيهما، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وله رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار، روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده، وهو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، قال الخزرجي: له ثلاثون حديثاً، وروى البغوي في معجمه من طريقه ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان. (مع تقديم وتأخير) ولفظه:((من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله)) ، (وفيه) أي في حديث الترمذي أو في مروي معاذ (فقد استكمل إيمانه) أي بالإضافة، قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث منكر، قال شيخنا في شرح الترمذي: لم يظهر لي وجه كون هذا الحديث منكراً – انتهى. ويمكن أن يقال: إن الترمذي أراد بقوله منكر أنه غريب من حديث معاذ بن أنس، فقد تفرد بروايته عنه ابنه سهل، فهو غريب من جهة هذا الطريق، والمنكر يطلق على معنيين: أحدهما ما خالف فيه الضعيف القوي، والثاني ما تفرد به الضعيف من دون اشتراط المخالفة، وهاهنا قد انفرد بروايته سهل بن معاذ عن أبيه، وقد ضعفه ابن معين، وقال أبوحاتم الرازي: لا يحتج به، ووقع في بعض نسخ الترمذي:"حديث حسن"، بدل قوله "منكر" فليحرر، ولعل الترمذي حسنه مع أن في سنده أبامرحوم عبد الرحيم بن ميمون، وضعفه ابن معين وتكلم فيه غير واحد، وسهل بن معاذ قد عرفت حاله؛ لأن أبامرحوم هذا قد قال فيه

ص: 102

32-

(31) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله)) رواه أبوداود.

33-

(32) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس

ــ

النسائي: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ: صدوق، وسهل بن معاذ وثقه ابن حبان، وقال الحافظ: لا بأس به، إلا في رواية زبان عنه، وفي الاستيعاب وتهذيب التهذيب: هو لين الحديث إلا أن أحاديثه حسان في الفضائل والرغائب، ولأن له شاهدين، أحدهما حديث أبي أمامة، والثاني حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد والبزار بلفظ: ((من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله

)) الحديث، ورجاله ثقات، وحديث معاذ أخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه أحمد بعين لفظ الترمذي من روايتين، من رواية عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه (ج3: ص440) ، وهي طريق الترمذي، والأخرى من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل عن أبيه معاذ (ج3: ص438) .

32-

قوله: (أفضل الأعمال) أي من أفضل أعمال الإيمان (الحب في الله) أي لوجهه وفي سبيله لا لغرض آخر كميل قلب وإحسان، ومن لازم الحب في الله حب أولياءه وأصفياءه، ومن شرط محبتهم اقتفاء آثارهم وطاعتهم. (والبغض في الله) أي لأمر يسوغ له البغض كالفسق والظلم والكفر والعصيان. قال ابن رسلان: فيه دليل على أنه يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء يحبهم في الله، بيانه أنك إذا أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله، فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاصٍ لله وممقوت عند الله، فمن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان وصفان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهو مطرد في الحب والبغض في العادات – انتهى. (رواه أبوداود) قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد الكوفي، ولا يحتج بحديثه، وقد أخرج له مسلم متابعة، وفيه أيضاً رجل مجهول – انتهى. وأخرجه أحمد مطولاً وفيه أيضاً رجل لم يسم، وللحديث شواهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الكبير، ومن حديث البراء بن عازب أخرجه أحمد والبيهقي، ومن حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني في الصغير، وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر الحديث.

33-

قوله: (والمؤمن من أمنه الناس)) الخ كعلمه أي ائتمنوه يعني جعلوه أميناً عليها وصاروا منه على أمن؛ لكونه مجرباً مختبراً في حفظها وعدم الخيانة فيها، يقال: أمنت زيداً على هذا الأمر وأتمنته أي جعلته أميناً وصرت منه على أمن، يعني المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس على إذهاب مالهم وقتلهم ومد اليد على نسائهم، والمقصود أن الكمال في الإيمان لا يتحقق بدون هذا، ولا يكون المرء بدون هذا الوصف مؤمناً كاملاً لا أنه

ص: 103

على دمائهم وأموالهم)) ، رواه الترمذي والنسائي.

34-

(33) وزاد البيهقي في شعب الإيمان برواية فضالة: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) .

35-

(34) وعن أنس قال: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

إذا تحقق هذا الوصف تحقق الكمال في الإيمان، وإن كان مع ترك الصلاة ونحوها، لجواز عموم المحمول من الموضوع، قاله السندهي. قال الطيبي: وفي ترتب من سلم على المسلم ومن أمنه على المؤمن رعاية للمطابقة لغة – انتهى. وقال القاري: حاصل الفقرتين إنما هو التنبيه على تصحيح اشتقاق الاسمين، فمن زعم أنه متصف به ينبغي أن يطالب نفسه بما هو مشتق منه، فإن لم يوجد فيه فهو كمن زعم أنه كريم ولا كرم له – انتهى. قال المناوي: وذكر المسلم والمؤمن بمعنى واحد تأكيد أو تقرير. (رواه الترمذي) وقال: حسن صحيح، (والنسائي) كلاهما في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم وابن حبان.

34-

(برواية فضالة) بفتح الفاء أي ابن عبيد الأنصاري الأوسي، كنيته أبومحمد، أسلم قديماً، أول مشاهده أحد ثم شهد ما بعدها وبايع تحت الشجرة وشهد فتح مصر والشام قبلها ثم سكن الشام وولي الغزو، وولاه معاوية قضاء دمشق بعد أبي الدرداء، وكان ذلك بمشورة من أبي الدرداء، قال ابن حبان: مات في خلافة معاوية، وكان معاوية ممن حمل سريره، وكان معاوية استخلفه على دمشق في سفرة سافرها، أرّخ المدائني وغيره وفاته سنة (53)، قال الخزرجي: له خمسون حديثاً انفرد مسلم بحديثين. روى عنه جماعة. (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) يعني المجاهد ليس من قاتل الكفار فقط، بل المجاهد من جاهد نفسه وحملها وأكرهها على طاعة الله تعالى؛ لأن نفس الرجل أشد عداوة من الكفار؛ لأن الكفار أبعد منه، ولا يتفق التلاحق والتقاتل معهم إلا حيناً بعد حين، وأما نفسه فأبداً يلازمه ويمنعه من الخير والطاعة، ولا شك أن القتال مع العدو الذي يلزم الرجل أهم من القتال مع العدو الذي هو بعيد منه. قال الطيبي: اللام في قوله (المجاهد) للجنس أي المجاهد الحقيقي الذي ينبغي أن يسمى مجاهداً من جاهد نفسه، وكان مجاهدته مع غيره بالنسبة إليه كلا مجاهدته، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم ((فذلك الرباط)) ، (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) قال القاري: أي ترك الصغائر والكبائر، وقيل: الذنب أعم من الخطيئة؛ لأنه يكون عن عمد بخلاف الخطيئة – انتهى. قال الطيبي: الحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة بلا مانع، ويتخلص عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها في اكتساب الأخلاق الذميمة والأفعال الشنيعة، فهي في الحقيقة التحرز عن ذلك، والمهاجر الحقيقي من يتحاشا عنها – انتهى. وحديث فضالة هذا أخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج6: ص21، 22) ، والحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الكبير.

35-

قوله: (قلما خطبنا) ما مصدرية أي قل خطبة خطبنا، ويجوز أن تكون كافة، وهو يستعمل في النفي ويدل

ص: 104