الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الثاني}
58-
(10) عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات.
ــ
58-
قوله: (صفوان) بفتح الصاد وسكون الفاء (ابن عسال) بالمهملة وتشديد الثانية، المرادي الجملى، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة، وسكن الكوفة. له عشرون حديثاً، روى عنه ابن مسعود مع جلالته وزر بن حبيش وعبد الله بن سلمة المرادي وغيرهم. (قال يهودي لصاحبه) أي من اليهود (اذهب بنا) الباء للمصاحبة أو التعدية (لا تقل نبي) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو نبي. وهو مقولة القول كما في قوله تعالى:{يقال له إبراهيم} [21:60] أي هو إبراهيم. (إنه) بكسر الهمزة استئناف، فيه معني التعليل أي لأنه (لو سمعك) أي سمع قولك "إلى هذا النبي" (لكان له أربع أعين) قال التوربشتي: أي يسر بقولك "هذا النبي" سروراً يمد الباصرة فيزداد به نوراً على نور، كذي عينين أصبح يبصر بأربع، فإن الفرح يمد الباصرة، كما أن الهم والحزن يخل بها، ولذا يقال لمن أحاطت به الهموم: أظلمت عليه الدنيا. وبذلك شهد التنزيل: {وابيضت عيناه من الحزن} - انتهى. قال السندهي: هو كناية عن زيادة الفرح وفرط السرور، إذ الفرح يوجب قوة الأعضاء، وتضاعف القوى يشبه تضاعف الأعضاء الحاملة لها. (فسألاه) أي امتحاناً (عن تسع آيات بينات) أي واضحات، والآية العلامة الظاهرة تستعمل في المحسوسات كعلامة الطريق، والمعقولات كالحكم الواضح والمسألة الواضحة، والمراد في الحديث إما المعجزات التسع كما هو المراد في قوله تعالى:{أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات} [27:11] ، وبقية التسع هي العصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنون ونقص من الثمرات. وعلى هذا فالجواب في الحديث متروك، ترك ذكره الراوي استغناءً بما في القرآن أو بغيره، وقوله:((لا تشركوا..الخ)) كلام مستأنف ذكره عقب الجواب، وإما الأحكام العامة الشاملة للملل كلها كما جوز ذلك في قوله تعالى:{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} [17:101] الخ. وعلى هذا فالمذكور في الحديث هو الجواب، لكن زيد فيه ذكر "وعليكم خاصة يهود" استئنافاً لزيادة الإفادة، ولذا غير السياق وذهب المظهر والنور التوربشتي من شراح المصابيح إلى أن الآيات المذكورة في قوله تعالى:{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} هي الأحكام التي تعبّد بها قوم موسى، وهي التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب عنها لا المعجزات، وقالا: إن هذا الحديث من أظهر الدلائل على ذلك، فإنه رواه الترمذي في سننه وقال: وفي رواية فسألاه عن قول الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فعلم أن الحديث وإن كان في جواب اليهود بين فإنه مشتمل على بيان الآية. وقال ابن كثير في تفسيره: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات
…
} الآية، يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات، وهي الدلائل القاطعة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود
ــ
على صحة نبوته وصدقة فيما أخبره به عمن أرسله إلى فرعون، وهي العصا واليد والسنون والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، آيات مفصلات. قال ابن عباس: فهذه الآيات التسع هي المرادة هنا، وهي المعنية في قوله تعالى: {وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جانٌّ ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى لا تخف
…
- إلى قوله -: في تسع آيات إلى فرعون وقومه، إنهم كانوا قوما فاسقين} [27:10-12] فذكر هاتين الآيتين العصا واليد، وبين الآيات الباقية في سورة الأعراف وفصلها، وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة، منها ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً، وأما الحديث الذي رواه أحمد وفيه: حتى نسأله عن هذه الآية {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات}
…
الحديث، فهو حديث مشكل، وعبد الله بن سلمة (يعني راوي هذا الحديث عن صفوان) في حفظه شيء، وقد تكلموا فيه، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات، فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة، فإن له بعض ما ينكر- انتهى مختصراً. (ولا تمشوا ببريء) بهمزة وإدغام، أي بمتبرئ من الإثم، والباء للتعدية، أي لا تسعوا ولا تتكلموا بسوء فيمن ليس له ذنب (إلى ذي سلطان) أي صاحب سلطنة وقوة وحكم وغلبة وشوكة (ليقتله) يعني كي لا يقتله مثلاً. (ولا تسحروا) بفتح الحاء المهملة، فإن بعض أنواعها كفر وبعضها فسق. (ولا تأكلوا الربا) أي لا تعاملوا بالربا ولا تأخذوه. (ولا تقذفوا) بكسر الذال (محصنة) بفتح الصاد وكسرها، أي لا ترموا بالزنا عفيفة. قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهي محصنة ومحصنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة بالفتح لا غير. (ولا تولوا) بضم التاء واللام، من ولى يولي تولية إذا أدبر، أي ولا تولوا أدباركم، ويجوز أن تكون بفتح التاء واللام من التولي وهو الإعراض والإدبار، أصله تتولوا فحذف إحدى التائين. (للفرار) أي لأجله. وفي بعض النسخ الفرار بلا لام العلة منصوباً على أنه مفعول له، قاله القاري. (يوم الزحف) أي يوم لقاء العدو في الحرب، والزحف الجيش يزحفون إلى العدو، أي يمشون (وعليكم) ظرف وقع خبراً مقدماً (خاصة) منوناً حال والمستتر في الظرف عائد إلى المبتدأ أي مخصوصين بهذه العاشرة، أو حال كون عدم الاعتداء مختصا بكم دون غيركم من الملل أو تمييز، والخاصة ضد العامة (اليهود) نصب على التخصيص والتفسير أي أعني اليهود، ويجوز أن تكون خاصة بمعنى خصوصاً، ويكون اليهود
أن لا تعتدوا في السبت)) ، قال فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي. قال فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا: إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود، رواه الترمذي وأبوداود والنسائي.
59-
(11) وعن أنس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال
ــ
معمولاً لفعله المحذوف، أي أخص اليهود خصوصاً. (ألا تعتدوا) بتأويل المصدر في محل الرفع على أنه مبتدأ من الاعتداء (في السبت) أي لا تتجاوزوا أمر الله في تعظيم السبت، بأن لا تصيدوا السمك فيه، وقيل "عليكم" اسم فعل بمعنى خذوا، و"أن لا تعتدوا" مفعوله أي الزموا ترك الاعتداء. (نشهد أنك نبي) إذ هذا العلم من الأمي معجزة، لكن نشهد أنك نبي إلى العرب (أن تتبعوني) بتشديد التاء، وقيل بالتخفيف أي من أن تقبلوا نبوتي وتتبعوني في الأحكام الشرعية (دعا أن لا يزال من ذريته نبي) أي فنحن ننتظر ذلك النبي لنتبعه. وهذا منهم تكذيب لقولهم نشهد أنك نبي، وأنهم ما قالوا عن صدق اعتقاد ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعى ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم، فالقول بأنه نبي يستلزم صدقه فيه، وانتظار نبي آخر ينافيه، فانظر إلى تناقضهم وكذبهم، قاله السندهي. وقال الطيبي: يعني دعا داود عليه السلام أن لا ينقطع النبوة عن ذريته إلى يوم القيامة، فيكون دعاءه مستجاباً البتة؛ لأنه لا يرد الله تعالى دعاء نبي، فإذا كان كذلك فيكون نبي في ذريته ويتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة، فإن تركنا دينهم واتبعناك لقتلنا اليهود إذا ظهر لهم نبي وقوة، وهذا كذب منهم وافتراء على داود عليه السلام؛ لأنه لم يدع بهذا الدعاء، ولا يجوز لأحد أن يعتقد في داود عليه السلام هذا الدعاء؛ لأنه قرأ في التوراة والزبور بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين وأنه ينسخ به جميع الأديان والكتب، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. ولئن سلم فعيسى من ذرية داود وهو نبي باقٍ إلى يوم الدين، ظهرت المعجزات على يده أيضاً فلم يصدقوه، فعلم أن التكذيب عادة لهم، وعذرهم هذا كذب وافتراء. والحديث يدل على جواز تقبيل اليد والرجل، ويأتي الكلام عليه في باب المصافحة والمعانقة (رواه الترمذي) في آخر الاستئذان والأدب وفي تفسير سورة بني إسرائيل، وقال: حديث حسن صحيح. (وأبو داود) لم أجده في سننه. وقال الحافظ في الدراية: رواه الأربعة إلا أبا داود. وهذا يدل على أن أبا داود لم يخرجه في سننه، ويدل عليه أيضاً أنه لم يعز هذا الحديث أحد لأبي داود (والنسائي) في المحاربة، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج4 ص239،240) ، وابن ماجة في الأدب مختصراً، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً الطيالسي، وأبونعيم، والبيهقي، والطبراني، وابن جرير وغيرهم.
59-
قوله: (ثلاث) خصال (من أصل الإيمان) أي أساسه وقاعدته، أحداًها أو منها (الكف عمن قال
لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار)) ، رواه أبو داود.
ــ
لا إله إلا الله) أي وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال كلمتي الشهادة وجب الامتناع عن التعرض بنفسه وماله (لا تكفره) بالتاء نهى وبالنون نفي، وكلاهما مروي وهو بيان للكف ولذا قطعه عنه، والتكفير والإكفار نسبة أحد إلى الكفر (بذنب) أي سوى الكفر ولو كبيرة، وفيه رد على الخوارج لأنهم يكفرون من يصدر منه ذنب (ولا تخرجه) بوجهين (من الإسلام بعمل) ولو كبيرة سوى الكفر، خلافاً للمعتزلة في إخراج صاحب الكبيرة إلى منزلة بين المنزلتين (والجهاد ماضٍ) أي الخصلة الثانية اعتقاد كون الجهاد ماضياً أو ثانيتها الجهاد أو الجهاد من أصل الإيمان، وماضٍ خبر مبتدأ محذوف أي هو ماضٍ ونافذ وجارٍ ومستمر (مذ) وفي نسخة منذ (بعثني الله) أي من ابتدأ زمان بعثني الله إلى المدينة أو بالجهاد (إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة) أي عيسى أو المهدي (الدجال) مفعول له. قال القاري: وبعد قتل الدجال لا يكون الجهاد باقياً، أما على يأجوج ومأجوج فلعدم القدرة عليهم. وعند ذلك لا وجوب عليهم بنص آية الأنفال، وأما بعد إهلاك الله إياهم لا يبقى على وجه الأرض كافر ما دام عيسى عليه الصلاة والسلام حياً في الأرض، وأما على من كفر من المسلمين بعد عيسى عليه الصلاة والسلام فلموت المسلمين كلهم عن قريب بريح طيبة، وبقاء الكفار إلى قيام الساعة، وتجيء هذه الحكاية في ذكر الدجال (لا يبطله) بضم أوله (جور جائر ولا عدل عادل) أي لا يسقط الجهاد كون الإمام ظالماً أو عادلاً. وفيه رد على المنافقين وبعض الكفرة، فإنهم زعموا أن دولة الإسلام تنقرض بعد أيام قلائل، كأنه قيل الجهاد ماضٍ، أي أعلام دولته منشورة، وأولياء أمته منصورة، وأعداء ملته مقهورة إلى يوم الدين. وقال المظهر: يعني لا يجوز ترك الجهاد بأن يكون الإمام ظالماً بل يجب عليهم موافقته، ولا بأن يكون الإمام عادلاً بحيث يحصل سكون المسلمين وتقويتهم، فلا يخافون من الكفار ولا يحتاجون إلى الغنائم؛ لأن القصد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، فاحتيج لهذا نفياً إلى هذا التوهم، وإن كان من شأن عدل العادل أنه لا يتوهم فيه إبطال الجهاد بل تقويته. فعلى هذا يكون النفي بمعنى النهى. قال الطيب: ويمكن أن يجرى على ظاهر الإخبار كما هو عليه، ويكون تأكيداً للجملة السابقة، أي لا يبطله أحد إلى خروج الدجال. (والإيمان بالأقدار) أي الخصلة الثالثة، أو الإيمان بالأقدار من أصل الإيمان، يعني بأن جميع ما يجري في العالم هو من قضاء الله وقدره. وفيه رد على المعتزلة لإثباتهم للعباد القدرة المستقلة (رواه أبوداود) في الجهاد، وسكت عليه هو والمنذري، لكن في سنده يزيد بن أبي نشبة - بضم النون وسكون الشين المعجمة -، وهو مجهول، كما في التقريب. واعلم أن بعض العلماء قد أجاز العمل والاحتجاج بكل ما سكت عنه أبوداود؛ لما روي عنه أنه قال: ما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر
فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قال: وذكرت فيه الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. قال النووي في التقريب وابن الصلاح في مقدمته بعد نقل كلام أبي داود هذا: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والضعيف والحسن ولا ضعفه، عرفنا أنه من الحسن عند أبي داود. زاد ابن الصلاح: وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج في حد الحسن-انتهى. والحق عندي أن لا يعتمد على مجرد سكوت أبي داود، وأن لا يطلق القول بجواز الاحتجاج والعمل بما سكت عنه، لما يجري في كلامه المتقدم من احتمالات تضعف بل تبطل المذهب المذكور:
(1)
مثل أن يتكلم على وهن إسناد مثلاً في مقام، فإذا عاد لم يبينه اكتفاءً بما تقدم، ويكون كأنه قد بينه.
(2)
ومثل أن يكون سكوته هنا لوجود شاهد أو متابع، أو يكون ذلك لكونه من صحيح حديث المختلط أو المدلس، أو لكونه في الفضائل.
(3)
ومثل ما أشار إليه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري من أنه قد يقع البيان في بعض النسخ دون بعض، ولا سيما رواية أبي الحسن بن العبد، فإن فيها من كلام أبي داود شيئاً زائداً على رواية أبي على اللؤلؤي. قال السخاوي في شرح ألفية العراقي (ص29) وسبقه ابن كثير وقال: الروايات عن أبي داود لكتابه كثيرة جداً، ويوجد في بعضها من الكلام بل والأحاديث ما ليس في الأخرى، قال: وأبي عبيد الآجري عنه أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل، ومن ذلك أحاديث ورجال قد ذكرها في سننه. قال السخاوي: فينبغي عدم المبادرة لنسبة السكوت إلا بعد جمع الروايات واعتماد ما اتفقت عليه لما تقدم -انتهى.
(4)
ومثل ما يشير إليه حصره التبيين في الوهن الشديد حيث قال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض - انتهى. إذ مفهومه أن غير الشديد لا يبينه.
(5)
ومثل أن الصلاحية في كلامه أعم من أن تكون للاحتجاج أو للاستشهاد، فما ارتقى إلى درجة الصحة أو الحسن فهو بالمعنى الأول، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد، وقد التزم بيانه.
(6)
ومثل أن تكون الصلاحية على ظاهرها في الاحتجاج، ولا ينافيه وجود الضعيف؛ لأنه يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من آراء الرجال. قال العراقي في ألفيته:
كان أبو داود أقوى ما وجد
…
يرويه والضعيف (1) حيث لا يجد
في الباب غيره فذاك عنده
…
من رأي أقوى قاله ابن منده
(7)
ومثل أن يكون استعمال "أصح" في كلام أبي داود المتقدم بالمعنى اللغوي، بل استعمله كذلك غير واحد، منهم الترمذي، فإنه يورد الحديث من جهة الضعيف ثم من جهة غيره. ويقول عقب الثاني: إنه أصح من حديث فلان الضعيف، وصنيع أبي داود يقتضيه لما في المسكوت عليه من الضعيف بالاستقراء، كما في حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سمع المنادي فلم يمنع من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر؟ قال: حزن أو مرض - لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) . فان أباداود رواه وسكت عليه. وقد قال المنذري في مختصره: في إسناده أبوجناب يحيى بن أبي حية الكلبي، وهو ضعيف. وقد يكون هو ضعيفاً عند أبي داود نفسه،
(1) أي من قبل سوء حفظ رواية ونحو ذلك كالمجهول عينا أو حالا لا مطلق الضعف الذي يشمل ما كان رواية منهما بالكذب، قاله السخاوي.
كما يؤخذ من كلام العماد بن كثير. (8) ومثل ما ذكره ابن الصلاح في مقدمته (ص18) بعد نقل كلام أبي داود الذي قدمناه: فعلى هذا ما وجدنا في كتابه مذكوراً مطلقاً، وليس في واحد من الصحيحين، ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفناه بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به على ما سبق
…
الخ. قال العلامة الأمير اليماني في تلقيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار في مصطلح الآثار - بعد نقل كلام أبي داود المتقدم عن ابن الصلاح ما لفظه: فإن قلت: أجاز ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الحفاظ العمل بما سكت عنه أبوداود لأجل هذا الكلام المروي عنه وأمثاله، قلت: قال الحافظ ابن حجر: إن قول أبي داود "وما فيه وهن شديد بيّنته" يفهم منه أن الذي يكون فيه وهن غير شديد لا يبيّنه، ومن هنا تبين لك أن جميع ما سكت عنه أبوداود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام، منها: ما هو صحيح أو على شرط الصحة. ومنها: ما هو من قبيل الحسن لذاته. ومنها: ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً. وفيه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً، وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال. وكذا قال ابن عبد البر: كل ما سكت عليه أبوداود فهو صحيح عنه، لاسيما إن كان لم يذكر في الباب غيره، ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد فيما نقله ابن المنذر وغيره أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره. ثم ذكر الحافظ قولاً عن الإمام أحمد أصرح مما تقدم في تقديم الحديث الضعيف على الرأي، ثم قال: فهذا نحو مما يحكى عن أبي داود، ولا عجب فإنه من تلامذة الإمام أحمد، فغير مستنكر أن يقول بقوله، بل حكى النجم الطوخي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال: اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقاً لشرط أبي داود. ومن هنا يظهر لك طريق من يحتج بكل ما سكت عنه أبوداود، فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عليها، مثل ابن لهيعة وصالح مولى التوأمة وعبد الله بن محمد بن عقيل وموسى بن وردان وسلمة بن الفضل ودلهم بن صالح وغيرهم، فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه في الاحتجاج بهم، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع يعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه، لاسيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه فإنه ينحط إلى قبيل المنكر، وقد يخرج أحاديث من هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث ابن وجيه وصدقة الدقيقي وعمرو بن واقد العمري ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني وأبي حيان الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم في المتروكين، وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة، وأحاديث المدلسين بالعنعنة، والأحاديث التي فيها أبهمت أسماؤهم فلا يتجه الحكم بأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود؛ لأن سكوته تارة اكتفاءً بما تقدم من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابة، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لظهور شدة ضعف ذلك الراوي، أو لاتفاق الأئمة على طرح روايته كأبي حدير
60-
(12) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان
ــ
ويحي بن العلاء وغيرهما، وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه، وهو الأكثر، فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي، وإن كانت روايته عنه أشهر. ثم عدّ أمثلة من أحاديث السنن تؤيد ما قاله، ثم قال: والصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا من أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه. والمعتمد أن مجرد سكوته لا يدل على ذلك، فكيف يقلده فيه، هذا جميعه إن حملنا قوله "وما لم أقل فيه بشيء فهو صالح" على أن مراده صالحة للحجة، وهو الظاهر. وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاحية للحجية وللاستشهاد والمتابعة فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف. ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي سكت عليها وهي ضعيفة هل منها إفراد أو لا، إن وجد فيها إفراد تعين الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقا - انتهى. وقال النووي: إلا أن يظهر في بعضها أمر يقدح في الصحة أو الحسن وجب ترك ذلك، أو كما قال. ولفظ الحافظ ابن حجر نقلاً عن النووي أنه قال: في سنن أبي داود أحاديث ظاهرها الضعف لم يبيّنها مع أنه متفق على ضعفها، فلا بد من تأويل كلامه. قال: والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم ينبّه عليه ولم ينص على صحته أو حسنه من يعتمد عليه فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد عليه أو رأي العارف في سنده ما يقتضي الضعف، ولا جابر له حكم بضعفه، ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود. قال الأمير اليماني: وهو الحق، لكن خالف ذلك في مواضع كثيرة في شرح المهذب وفي غيره من تصانيفه، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها، فلا يغتر بذلك، انتهى كلام الأمير اليماني في تلقيح الأفكار. هذا وقد اعتنى الحافظ المنذري في مختصره بنقد الأحاديث المذكورة في سنن أبي داود بيّن ضعف كثير مما سكت عنه، فيكون ذلك خارجاً عما يجوز العمل به، وما سكتا عليه جميعاً فلا شك أنه صالح للاحتجاج إلا في مواضع يسيرة قد نبهت على بعضها في هذا الشرح، ومنها حديث أنس هذا، فقد سكتا عنه جميعاً مع أن فيه يزيد بن أبي نشبة، وهو مجهول.
60-
قوله: (إذا زنى) أي أخذ وشرع في الزنا (العبد) أي المؤمن (خرج منه الإيمان) حمله بعضهم على ظاهرة وقال: يسلب الإيمان حال تلبس الرجل بالزنا، فإذا فارقه وتاب عاد إليه. وقيل: المراد نور الإيمان وكماله. وقد تقدم أن الإيمان اسم لمجموع الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح. ونور الإيمان وكماله هي الأعمال الصالحة واجتناب المناهي، فإذا زنى ذهب منه نوره وبقي صاحبه في الظلمة. وقيل: معناه خرج منه أعظم شعب الإيمان، وهو الحياء من الله تعالى. أو يصير كأنه خرج، إذ لا يمنع إيمانه عن ذلك كما لا يمنع من خرج منه الإيمان. وقال التوربشتي: هذا من باب الزجر والتهديد، وهو كقول القائل لمن اشتهر بالرجولية والمروءة ثم فعل ما ينافي شيمته: عدم عند الرجولية والمروءة، تعييراً أو تنكيراً لينتهي عما صنع، واعتباراً وزجراً للسامعين لطفا بهم، وتنبيهاً على أن