الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه مسلم.
160-
(21) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)) . متفق عليه. وسنذكر حديث أبي هريرة: ((ذروني ما تركتكم)) ، في كتاب المناسك، وحديثي معاوية وجابر:((لا يزال من أمتي، ولا يزال طائفة من أمتي)) ، في باب ثواب هذه الأمة، إن شاءالله تعالى.
{الفصل الثاني}
161-
(22) عن ربيعة الجرشي قال:
ــ
كتاب الاعتصام (ص3-17) وأجاد وأحسن، فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) في الإيمان، وأخرجه أيضاً ابن ماجه في الفتن، وأخرج نحوه الترمذي، وابن ماجه عن ابن مسعود، ومسلم عن ابن عمر، وأحمد عن سعد بن أبي وقاص، وابن ماجه عن أنس، والطبراني في الكبير عن سلمان، وسهل بن سعد، وابن عباس.
160-
قوله: (إن الإيمان ليأرز) بكسر الراء الأكثر، ويروى بالفتح، وحكى بالضم، أي يأوي وينضم، وينقبض ويلتجئ (إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي ثقبها، وهو بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، والمراد أن أهل الإيمان يفرون بإيمانهم إلى المدينة وقاية بها عليه، أو لأنها وطنه الذي ظهر وقوي بها، وهذا إخبار عن آخر الزمان حين يقل الإسلام وينضم إلى المدينة فيبقى فيها. قال الطيبي: شبه الإيمان وفرار الناس من آفات المخالفين والتجاءهم إلى المدينة، بانضمام الحية وانقباضها في جحرها، ولعل هذه الدابة أشد فراراً وانضماماً من غيرها فشبه بها بمجرد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف - انتهى. قال صاحب اللمعات: الظاهر أنه إخبار عن زمان خروج الدجال كما يدل عليه الأحاديث - انتهى. وحمله عياض، والقرطبي، والنووى، والحافظ، وغيرهم على جميع الأزمنة، والأول أظهر. والمراد بالمدينة هي وجوانبها وحواليها ليشمل مكة، فيوافق رواية الحجاز الآتية في الفصل الثاني. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضل المدينة من الحج، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه في الحج (وسنذكر) الخ. هذا اعتذار متضمن لاعتراض فتأمل. (حديث أبي هريرة ذروني ما تركتكم) أي إلى آخره (في كتاب المناسك) متعلق بقوله: سنذكر (وحديثي معاوية) عطف على حديث أبي هريرة (وجابر) عطف على معاوية (لا يزال من أمتي) أي أحدهما أوله هذا (و) وفي بعض النسخ: والآخر (لا يزال طائفة من أمتي) كلاهما (في باب ثواب هذه الأمة) لكنه لم يف بما وعد، فلم يذكر هناك حديث جابر.
161-
قوله: (عن ربيعة الجرشي) بضم الجيم وفتح الراء المهملة بعدها معجمة، نسبة إلى جرش كزفر، مخلاف
أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك. قال: فنامت عيني، وسمعت أذناي، وعقل قلبي. قال: فقيل لي: سيد بنى داراً، فصنع فيها مأدبة وأرسل داعياً، فمن أجاب الداعي، دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، وسخط عليه السيد. قال: فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة)) .
ــ
باليمن، وهو ربيعة بن عمرو، ويقال: ابن الحارث، ويقال: ابن الغاز بمعجمة وزاى، أبوالغاز الدمشقي، وهو جد هشام ابن الغاز بن ربيعة، مختلف في صحبته، ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عن الواقدى، قال: ربيعة الجرشي قد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث. وقال البخاري في تاريخه: له صحبة، وذكره في الصحابة المصنف، وابن حبان، وابن مندة، وأبونعيم، والباوردي، والبغوي، وابن سعد، وغيرهم، وقال أبوحاتم: ليست له صحبة، وذكره أبوزرعة الدمشقي في التابعين. وقال الدارقطني: في صحبته نظر. وقال الصورى في حاشية الطبقات: لا أعلم له صحبة. واتفقوا على أنه قتل بمرج راهط مع الضحاك بن قيس سنة (64) وكان فقيهاً، وثقه الدارقطني في الجرح والتعديل، ووثقه أيضاً غيره (أتى) بصيغة المجهول (نبي الله صلى الله عليه وسلم) أي أتاه آتٍ. (فقيل له) أي للنبي (لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك) قال المظهر: أي أتى ملك إليه وقال له ذلك، ومعناه: لا تنظر بعينك إلى شيء، ولا تصغ بأذنك إلى شيء، ولا تجر شيئاً في قلبك، أي كن حاضراً حضوراً تاماً لتفهم هذا المثل. (قال: فنامت عيني) بالإفراد، وفي بعض النسخ "عيناى" بالتثنية" موافقاً لما في الدارمي (وسمعت أذناي وعقل قلبي) يعنى فأجابه بأني قد فعلت ذلك. قيل الأوامر الثلاثة واردة على الجوارح ظاهراً، وهي في الحقيقة له صلى الله عليه وسلم بأن يحمع بين هذه الخلال الثلاث: نوم العين، وحضور السمع والقلب، وعلى هذا جوابه بقوله: "فنامت" أي امتثلت لما أمرت به. وقيل: المراد بالأمر به الإخبار عنه، أي أنت نائم، سامع، داع؛ لأن الملك إنما جاءه وهو نائم، فقال له ذلك، وقيل: الأمر للاستمرار في الكل (فقيل لي) أي بطريق المثل من جهة الملك (سيد) خبر مبتدأ محذوف يعني "هو" وقوله: (بنى داراً) صفته، أي مثل سيد بنى داراً، ويجوز أن يكون مبتدأ و"بنى" خبره والتنوين للتعظيم، أو سوغه كونه فاعلاً معنى، قاله القاري (ورضي عنه السيد) بسبب الإجابة واللام للعهد (ومن لم يجب الداعي) تكبراً وعناداً، أو جهلاً واستبعاداً (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم، أو الملك. والأول أظهر، والتقدير: إن أردت بيان هذا المثل (فالله السيد، ومحمد الداعي، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة) فإن قلت: كيف شبه في حديث جابر السابق الجنة بالدار، وفي هذا الحديث الإسلام بالدار وجعل الجنة مأدبة؟ أجيب بأنه لما كان الإسلام سبباً لدخولها اكتفى في ذلك بالمسبب عن السبب، ولما كانت الدعوة إلى الجنة لا تتم إلا بالدعوة إلى الإسلام استقام
رواه الدارمي.
162-
(23) وعن أبي رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي،
ــ
وضع كل منهما مقام الآخر، ولما كان نعيم الجنة وبهجتها هو المطلوب الأصلي جعل الجنة نفس المأدبة مبالغة فيها، كذا حققه الطيبي (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وسند جيد، قاله الحافظ.
162-
قوله: (وعن أبي رافع) مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلف في اسمه فقيل: أسلم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: إبراهيم، وقيل غير ذلك. والأول هو الأشهر، غلبت عليه كنيته، كان قبطياً، وكان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام عباس أعتقه. وكان إسلامه قبل بدر ولم يشهدها، وشهد أحداً وما بعدها. له ثمانية وستون حديثاً، انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة. روى عنه خلق كثير، مات في أول خلافة علي على الصحيح. (لا ألفين) بصيغة المتكلم المؤكدة بالنون الثقيلة، من ألفيت الشيء أي وجدته. (أحدكم) ظاهره نهي النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عن أن يجدهم على هذه الحالة، والمراد نهيهم عن أن يكونوا على هذه الحالة، فإنهم إذا كانوا عليها بجدهم صلى الله عليه وسلم كذلك، من باب إطلاق المسبب (متكئاً) حال أو مفعول ثان (على أريكته) أي سريره المزين بالحلل والأثواب في قبة أو بيت كما للعروس، يعني الذي لزم البيت، وقعد عن طلب العلم. قيل: المراد بهذه الصفة الترفه والدعة كما هو عادة المتكبر القليل الاهتمام بأمر الدين (يأتيه) حال أخرى من المفعول، ويكون النهي منصباً على المجموع، أي لا ألفين أحدكم والحال أنه متكئ ويأتيه الأمر فيقول: لا أدري، إلخ (الأمر) أي الشأن فيعم الأمر والنهي فوافق البيان بقوله: مما أمرت به أو نهيت عنه. (من أمرى) بيان الأمر، وقيل: اللام زائدة في "الأمر" ومعناه أمر من أمرى، أي شأن من شئون ديني (مما أمرت به أو نهيت عنه) بدل من أمري (ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ما موصولة مبتدأ خبره "اتبعناه" يعني الذي وجدناه في القرآن اتبعناه، وما وجدناه في غيره لا نتبعه، أي وهذا الأمر الذي أمر به صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه ليس في كتاب الله فلا نتبعه، ويحتمل أن تكون "ما" نافية، والجملة كالتأكيد لقوله:"لا أدري" وجملة "اتبعناه" حال أي وقد اتبعنا كتاب الله فلا نتبع غيره، والمقصود النهي عن الإعراض عن حديثه صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعرض عنه معرض عن القرآن، فالحديث حجة شرعية كالقرآن. قال السندي: وقول بعض أهل الأصول: لا يجوز الزيادة على الكتاب بخبر، في الصورة أشبه شيء بهذا المنهي عنه، وإن كان معناه لا يجوز تقييد إطلاق الكتاب بخبر الآحاد، فالاحتراز عن إطلاق ذلك اللفظ أحسن وأولى، انتهى. والحديث دليل من دلائل النبوة، وعلم من أعلامها، فقد وقع ما أخبر به كما لا يخفى على أهل الهند سيما أهل الفنجاب من باكستان. (رواه أحمد) رجاله رجال الحسن (وأبوداود) في السنة (والترمذي) في العلم، وقال "حسن".
وابن ماجه، والبيهقي في دلائل النبوة.
163-
(24) وعن المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
(وابن ماجه) في السنة (والبيهقي في دلائل النبوة) وأخرجه أيضاً الحاكم.
163-
قوله: (وعن المقدام) بكسر ميم (بن معد يكرب) بفتح الكاف وكسر الراء، وأما الباء فيجوز كسرها مع التنوين على الإضافة، ويجوز فتحه على البناء، كذا في تهذيب الأسماء. قال القاري: والثاني هو الصحيح من النسخ، وهو المقدام بن معديكرب بن عمرو بن يزيد بن معديكرب الكندي يكنى أباكريمة، وقيل: كنيته أبويحيى، صحابي مشهور، نزل الشام، وحديثه فيهم. مات سنة (47) على الصحيح، وله (91) سنة. روي له أربعون حديثاً، انفرد له البخاري بحديث، روى عنه خلق (ألا أني أوتيت) أي آتاني الله (القرآن، ومثله معه) أي أعطيت القرآن ومثل القرآن حال كونه منضماً معه. قال البيهقي: هذا الحديث يحتمل وجهين: أحدهما أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أوتي من الظاهر المتلو، والثاني أن معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي مثله من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن يعني أوتيت القرآن، وأحكاماً، ومواعظ، وأمثلاً، تماثل القرآن في كونها واجبة القبول، أو في المقدار (ألا) قال الطيبي: في تكرير كلمة التنبيه توبيخ وتقريع نشأ من غضب عظيم على من ترك السنة والعمل بالحديث استغناء بالكتاب، فكيف بمن رجح الرأي على الحديث؟ انتهى (يوشك) بكسر الشين مضارع أوشك أي يقرب (شبعان) بالضم من غيرتنوين كناية عن البلادة وسو الفهم الناشئ من الشبع وكثرة الأكل، أو من الحماقة اللازمة للتنعم والغرور بالمال والجاه (على أريكته) أي متكئاً أو جالساً عليها، وفيه تأكيد لحماقة القائل وبطره، وسوء أدبه. قال الأبهرى: المتكئ القاعدة المتقوى على وطاء متمكناً، والعامة لا تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمداً على أحد شقيه -انتهى. (يقول) أي لأصحابه في رد الحديث حيث لا يوافق هواه، وهو خبر "يوشك"(عليكم بهذا القرآن) أي الزموه واعملوا به، ولا تلتفتوا إلى غيره (فما وجدتم فيه) أي في القرآن (من حلال) بيان لـ"ما"(فأحلوه) أي اعتقدوه حلاله، أو احكموا بأنه حلال، واستعملوه (فحرموه) أي اعتقدوه حراماً واجتنبوه. قال الخطابي: يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له ذكر في القرآن على ما ذهب إليه الخوارج، فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا. (وان ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي وأحل، وهذا ابتداء الكلام من
كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يتسغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)) ..
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم، والواو للحال، وفيه التفات، أي الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير القرآن (كما حرم الله) أي وأحل، أي في القرآن. وفي ابن ماجه: ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله. قال السندي: "وإن ما حرم" عطف على مقدر، أي ألا إن ما في القرآن حق، وإن ما حرم
…
الخ. مثل ما حرم الله، أي في القرآن، وإلا فما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين ما حرم الله، فإن التحريم يضاف إلى الرسول باعتبار التبليغ وإلا هو في الحقيقة لله. والمراد أنه مثله في وجوب الطاعة ولزوم العمل به- انتهى. (ألا لا يحل لكم) شروع في بيان ما ثبت بالسنة، ولم يوجد له ذكر في الكتاب على سبيل التمثيل لا التحديد (الحمار الأهلي) التخصيص بالصفة لنفي عموم الحكم؛ لأن البري حلال (ولا كل ذي ناب من السباع) أي سباع الوحوش كالأسد والذئب (ولا لقطة) بضم اللام وفتح القاف، مما يلتقط مما ضاع من شخص بسقوط أو غفلة (معاهد) أي كافر بينه وبين المسلمين عهد بأمان في تجارة، أو رسالة، وفي معناه الذمي. (إلا أن يستغني عنها صاحبها) أي يتركها لمن أخذها استغناء عنها، وهذا تخصيص بالإضافة، ويثبت الحكم في لقطة المسلم بطريق الأولى، وقيل: وجه التخصيص الاهتمام بشأن المعاهد لعهده؛ لأن النفس ربما تتساهل في لقطته لكونه كافراً، ولأنه بعيد عن المسامحة، بخلاف المسلم (ومن نزول بقوم) أي من استضاف قوماً (فعليهم أن يقروه) بفتح الياء وضم الراء، أي يضيفوه من قريت الضيف قرى إذا أحسنت إليه. وفيه دليل على وجوب القرى، وإليه ذهب أحمد، وحمله الأئمة الثلاثة على الندب (فإن لم يقروه فله) أي فللنازل (أن يعقبهم) من الإعقاب بأن يتبعهم ويجازيهم من صنيعه. يقال: أعقبه بطاعته إذا جازاه، وروي بالتشديد (مثل قراه) بالكسر والقصر لا غير. قال الجزرى في النهاية: أي فله أن يأخذ منهم عوضاً عما حرموه من القرى، يقال: عقبهم مشدداً ومخففاً، وأعقبهم، وإذا أخذ منهم عقبى وعقبة، وهو أن يأخذ عنهم بدلاً عما فاته -انتهى. وفيه تأكيد لوجوب القرى، فإنه يدل على إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب. وأجاب القائلون بندب الإضافة عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن الأمر بأخذ مقدار القرى من مال المنزول به كان من جملة العقوبات التي نسخت بوجوب الزكاة، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجابوا أيضاً بأنه محمول على المضطر، فإنه يجب إطعامه إجماعاً. ورد بأن لا دليل على هذا الحمل ولا دعت إليه حاجة، فلا يلتفت إليه. وأجابوا أيضاً بأنه كان في أول الإسلام ثم صار منسوخاً. وأجابوا أيضاً بأنه محمول على من مر بأهل الذمة الذين شرط علهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين. ورد بأن هذا الحمل ضعيف بل باطل؛ لأنه إنما صار هذا في زمن عمر بن الخطاب. والراجح عندي ما ذهب إليه أحمد لحديث المقدام وغيره مما يدل على وجوب الضيافة، وهو مخصص لحديث حرمة الأمول إلا بطيبة
رواه أبوداود، وروى الدارمي نحوه، وكذا ابن ماجة إلى قوله: كما حرم الله.
164-
(25) وعن العرباض بن سارية، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟ ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر، وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب
ــ
الأنفس، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في باب الضيافة إن شاءالله. (رواه أبوداود) في الأطعمة مختصراً، وفي السنة بهذا اللفظ إلا أنه ليس فيه قوله: وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله (وروى الدارمي نحوه) أي بالمعنى (وكذا) روى نحوه (ابن ماجه) في السنة لكن (إلى قوله: كما حرم الله) وأخرج أيضاً نحوه مختصراً الترمذي في العلم، وقال: حسن غريب. والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وأحمد (ج4:ص131) مطولاً بلفظ أبي داود.
164-
قوله: (وعن العرباض) بكسر أوله وسكون الراء بعدها موحدة وبعد الألف معجمة (بن سارية) السلمى يكنى أبا نجيح، صحابي مشهور من أهل الصفة، سكن الشام ومات بها سنة (75) وهو ممن نزل فيه قوله تعالى:{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [92:9] الخ. روى عنه من الصحابة أبورهم وأبوأمامة، وروى عنه جماعة من تابعي أهل الشام، له أحد وثلاثون حديثاً. وقال البرقي: بضعة عشر حديثاً. (قام) أي خطيباً أو خطب (أيحسب) بكسر السين وفتحها أي أيظن (متكئاً) حال (يظن) بدل من "يحسب" بدل الفعل من الفعل للبيان والتفسير، قاله الأشرف. قال الطيبي: ويجوز أن يكون التكرار للتأكيد كما في قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا "إلى قوله:" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [188:3](ألا) للتنبيه (وإني) الواو للحال، قال الطيبي: الواو ههنا بمنزلة الواو في "وإن ما" في الحديث السابق؛ لأن الهمزة للإنكار أي همزة "أيحسب" والمعنى: أيحسب أحدكم أن الله تعالى حصر المحرمات في القرآن والحال أني قد حرمت، فأقحم حرف التنبيه المتضمن للإنكار بين الحال وعاملها، كما أقحم حرف الإنكار بين المبتدأ والخبر في قوله:{أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [39: 19] ، جاءت الهمزة مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط وبين الخبر، ذكره الزجاج (عن أشياء) متعلق بالنهي فحسب، ومتعلق الأمر والموعظة محذوف، أي بأشياء (إنها) أي الأشياء المأمورة والمنهية عنها على لساني بالوحي الغير المتلو (لمثل القرآن) أي في المقدار (أو أكثر) أي بل أكثر. قال القاري: وقد يستشكل هذا بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [89:16] بناءً على بأنه على عمومه، أي فيما يحتاج إليه في الدين. ويجاب بأن نسبة هذا إليه صلى الله عليه وسلم إنما هو لكونه الذي استنبطه واستخراجه من القرآن، ولذا قال الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ثم أخرج ما يؤيده وهو قوله: صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه)) . (لم يحل لكم) من الإحلال (أهل الكتاب
إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم)) . رواه أبوداود، وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، قد تكلم فيه.
165-
(26) وعنه، قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأن هذه موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة،
ــ
يعني أهل الذمة الذين قبلوا الجزية (إلا بإذن) وفي بعض النسخ المصححة "إلا بإذنهم" أي إلا أن يأذنوا لكم بالطوع والرغبة (ولا أكل ثمارهم) أي بالقهر من بساتينهم فضلاً عن بقية أموالهم. (إذا أعطوكم الذي عليهم) أي من الجزية وما عاهدوا عليه والتزموه. (رواه) . قال القاري: كذا أي بياض في أصل المشكاة بعد قوله: "رواه" وسببه تقدم في الخطبة، فألحقه ميرك شاه في هذا المحل، وقال: رواه أبوداود وفي إسناده أشعث بن شعبة المصيصي تكلم فيه- انتهى. قلت: أخرج الحديث أبوداود في كتاب الخراج، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده أشعث بن شعبة المصيصي، وفيه مقال - انتهى. وفي التهذيب (ج1: ص354) قال أبوزرعة: لين، وذكره ابن حبان في الثقات. قال الحفاظ: وفي سؤالات الأحمرى عن أبي داود: أشعث بن شعبة ثقة. وقال في التقريب: هو مقبول. والمصيصي بكسر الميم والمهملة المشددة، نسبة إلى المصيصة مدينة على ساحل البحر، كذا في لب اللباب. وفي القاموس: والمصيصة كسفينة بلد بالشام ولا تشدد.
165-
قوله: (صلى بنا) أي إماماً لنا (بوجهه) تأكيد (فوعظنا) بفتح الظاء (بليغة) أي تامة في الإنذار من المبالغة، أي بالغ فيها بالإنذار والتخويف، لا من البلاغة المفسرة بوجازة اللفظ وكثرة المعنى مع البيان، لعدم المناسبة بالمقام (ذرفت) بفتح الراء. أي دمعت (منها) أي من موعظته (العيون) أي سالت دموع العيون، وفي إسناد "الذرف" إلى "العيون" مع أن السائل دموعها مبالغة، والمقصود أنها أثرت فيهم ظاهراً وباطناً. (ووجلت) بكسر الجيم أي خافت (منها القلوب) لتأثيرها في النفوس واستيلاء سلطان الخشية على القلوب (فقال رجل) وفي رواية لأحمد "قلنا" وفي رواية للحاكم "فقلنا"(كأن) بالتشديد (موعظة مودع) اسم فاعل من ودع، أي المبالغة تدل على أنك تودعنا، فإن المودع عند الوداع لا يترك شيئاً مما يهم المودع بفتح الدال، ويفتقر إليه إلا ويورده، ويستقصي فيه (فأوصنا) أي إذا كان الأمر كذلك فمرنا بما فيه كمال صلاحنا (أوصيكم بتقوى الله) هذا من جوامع الكلم؛ لأن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها وهي وصية الله للأولين والآخرين. (والسمع والطاعة) أي وبقبول قول من يلي أمركم من المسلمين وطاعته ما لم يأمر بمعصية عادلاً كان أو جائراً، وإلا فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في
وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،
ــ
معصية الخالق (وإن كان عبداً حبشياً) أي ولوكان الأمير الذى ولاه الخليفة عليكم أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن إطاعته مخافة إثارة الحروب وتهييج الفتن وظهور الفساد في الأرض، وفي رواية الحاكم: وإن أمر عليكم عبد حبشي. وفيه دليل على أن الكلام في الأمير الذي ولاه الخليفة لا في الخليفة حتى يرد أنه كيف يكون الخليفة عبداً حبشيا، ويشهد لذلك حديث على عند الحاكم:((وإن أمرت قريش فيكم عبداً حبشياً مجدعاً فاسمعوا له وأطيعوا)) . إسناده جيد، على أن المحل محل المبالغة في لزوم الطاعة، ففرض الخليفة عبدا حبشيا لإفادة المبالغة يحتمل. وقيل: هو محمول على المتغلب المتسلط فإنه تصح خلافته تسلطاً وتغلباً. (فإنه من يعش) بالجزم (منكم بعدي) الخ. هذا بمنزلة التعليل للوصية بما تقدم. أي السمع والطاعة مما يدفع الخلاف الشديد فهو خير، قال الطيبي: الفاء في "فإنه" للسببية جعل ما بعدها سبباً لما قبلها، يعني من قبل وصيتي والتزم تقوى الله، وقبل طاعة من ولي عليه، ولم يهيج الفتن أمن بعدي ما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعب الآراء، ووقوع الفتن والحروب، وظهور البدع والأهواء (بسنتي) أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً (وسنة الخلفاء) ؛ لأنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنتي في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله (الراشدين) أي الذين أوتوا الرشد والسداد في مقاصدهم الصحيحة. (المهديين) أي الذين هداهم الله إلى الحق، والمعنى: الزموا طريقتهم، وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته صلى الله عليه وسلم، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها، وعملاً بها في كل شيء، وعلى كل حال، فالإضافة إليهم إما لاشتهارها في زمانهم وعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها. قال التوربشتي في شرح المصابيح: المعنيون بهذا القول هو الخلفاء الأربعة؛ لأنه قال في حديث آخر: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وقد انتهت الثلاثون بخلافة علي، وليس معنى هذا القول نفي الخلافة عن غيرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)) وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والشهادة لهم بالتفوق فيما يمتازون به عن غيرهم من الإصابة في العلم، وحسن السيرة، واستقامة الأحوال، ولهذا وصفهم بالراشدين، وهم الذين أوتوا رشدهم في مقاصدهم الصحيحة، وهدوا إلى الأقوم والأصلح في أقوالهم وأفعالهم. وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأمرين: أحدهما علم أنه لا يخطئون فيما يستخرجونه من سنته باجتهادهم، والثاني أنه صلى الله عليه وسلم علم أن بعضاً من سننه لا يشتهر بزمانه، وإن علم الأفراد من أصحابه ثم يشتهر في زمانهم فيضاف إليهم، فربما يستدرع أحد من رد تلك السنن بإضافتها إليهم فأطلق القول باتباع سنتهم سداً لهذا الباب -انتهى مختصراً. وقيل: الحديث عام في كل خليفة راشد لا يخص الخلفاء الراشدين الأربعة، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فليس المراد في الحديث بسنة الخلفاء الراشدين، إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها. وقال الشوكاني في مجموعة فتاواه التي سماها ولده بالفتح الرباني في الجواب عن معنى هذا الحديث: المراد بالسنة الطريقة، فكأنه قال: الزموا
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) . رواه أحمد، وأبوداود،
ــ
طريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين، وقد كانت طريقهم هي نفس طريقته، فإنهم أشد الناس حرصاً عليها، وعملاً بها في كل شيء، وعلى كل حال، وكانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها، وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأى عند عدم الدليل هو أيضاً من سنته لما دل عليه حديث معاذ لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بما تقضى؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي. قال: الحمدلله الذي وفق رسول رسوله)) . أو كما قال. وهذا الحديث وإن تكلم فيه بعض أهل العلم بما هو معروف فالحق أنه من قسم الحسن لغيره، وهو معمول به، فإن قلت: إذا كان ما عملوا فيه بالرأي هو من سنته لم يبق لقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين" ثمرة. قلت: ثمرته أن من الناس من لم يدرك زمنه صلى الله عليه وسلم وأدرك زمن الخلفاء الراشدين، أو أدرك زمنه وزمن الخلفاء، ولكنه حدث أمر لم يحدث في زمنه، ففعله الخلفاء، فأشار بهذا الإرشاد إلى سنة الخلفاء إلى دفع ما عساه يتردد في بعض النفوس من الشك، ويختلج فيها من الظنون، فأقل فوائد الحديث أن ما يصدر عنهم من الرأي وإن كان من سنته كما مر ولكنه أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل. وبالجملة فكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم ينسب الفعل أو الترك إليه وإلى أصحابه في حياته مع أنه لا فائدة لنسبته إلى غيره مع نسبته إليه؛ لأنه محل القدوة ومكان الأسوة -انتهى. وقيل المعنى في ذكر سنة الخلفاء مع سنته: أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو على تلك السنة، وأنه لايحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد، فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية، إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون له ناسخ؛ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره (تمسكوا بها) أي بالسنة (وعضوا) بفتح العين (عليها) أي على السنة (بالنواجذ) بالذال المعجمة، وهي الأضراس جمع ناجذة أراد به الجد في لزوم السنة، كفعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعض عليه منعاً من أن ينتزع، أو الصبر على ما يصيب من التعب في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه ولا يرد أن يظهره. (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله:(وكل بدعة ضلالة) والمراد بالبدعة ما أحدث في الدين ما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. فالبدع الشرعية كلها مذمومة؛ لأنها موجبة للضلال والغواية، وارجع إلى الاعتصام (ج1:ص147، 167) وشرع الأربعين لابن رجب (ص185-193) (رواه أحمد) (ج4:ص126، 127) (وأبوداود) في السنة
والترمذي، وابن ماجه، إلا أنهما لم يذكرا الصلاة.
166-
(27) وعن عبد الله بن مسعود قال: ((خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} الآية)) .رواه أحمد، والنسائي، والدارمي.
ــ
(والترمذي) في العلم. وقال: حديث حسن صحيح (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، وليس له علة. (إلا أنهما) أي الترمذي وابن ماجه (لم يذكرا الصلاة) أي لم يوردا أول الحديث، وهو قول العرباض:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، بل قالا: وعظنا، كما في المصابيح.
166-
قوله: {خط لنا) أي خط لأجلنا تقريباً وتفهيماً وتعليماً لنا؛ لأن التصوير والتمثيل إنما يسلك ويصار إليه لإبراز المعاني المحتجبة، ورفع الأستار عن الرموز المكنونة؛ لتظهر في صورة المشاهد المحسوس، فيساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه. (خطاً) أي مستوياً مستقيماً (هذا سبيل الله) أي هذا الدين القويم والصراط المستقيم، وهما الاعتقاد الحق والعمل الصالح، وهذا الخط لما كان مثالاً سماه سبيل الله، كذا قاله ابن الملك. قال القاري: والأظهر أن المشار إليه بهذا هو الخط المستوي، والتقدير هذا مثل سبيل الله، أو هذا سبيل الله مثلاً. وقيل: تشبيه بليغ معكوس، أي سبيل الله الذي هو عليه وأصحابه مثل الخط في كونه علىغاية الاستقامة. (ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله) أي خطوطاً منحرفة عن يمين الخط المستوى وعن شماله. (وقال: هذه) أي الخطوط (سبل) أي سبل للشيطان. (على كل سبيل) أي رأسه (منها) أي من السبل (شيطان) من الشياطين، (يدعو) ذلك الشياطين الناس (إليه) أي سبيل من السبل، وفيه إشارة إلى أن سبيل الله وسط وقصد، ليس فيه تفريط ولا إفراط، وسبل أهل البدع منحرفة عن الاستقامة وفيها تقصير وغلو. (وقرأ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأن هذا} بالفتح والتشديد على تقدير أتل عليهم، وقيل: على تقدير لام التعليل المتعلقة باتبعوه، أي اتبعوه لأنه مستقيم، و"هذا" إشارة إلى ما ذكر في الآيتين قبله من الأوامر والنواهي، وقيل: الإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة أي سورة الأنعام، فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. (صراطي) أي ديني وهو خبر "أن". (مستقيماً) حال مؤكدة والعامل فيها اسم الإشارة. (الآية) بعدها {ولا تتبعوا السبل} أي سبل الشياطين المنحرفة الزائغة من طرق الشرك والبدعة والضلالة. {فتفرق بكم} بحذف إحدى التائين منصوب بإضمار "أن" بعد الفاء في جواب النهي. {عن سبيله} [153:6] . إشارة إلى أنه لا يمكن اجتماع سبيل الحق مع السبل الباطلة، وفيه أن أصحاب سبيل الحق والصراط المستقيم هي الفرقة الناجية، وأصحاب السبل المنحرفة هي الفرق الغير الناجية. (رواه أحمد والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً الحاكم وقال: صحيح. وعبد ابن حميد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وله شاهد من حديث جابر عند أحمد، وابن ماجه، والبزار.
167-
(28) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) . رواه في شرح السنة، وقال النووى في أربعينه: هذا حديث صحيح، رويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح.
ــ
167-
قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) أي ميل نفسه (تبعاً لما جئت به) هذا محمول على نفي أصل الإيمان، أي حتى يكون تابعاً مقتدياً لما جئت به من الدين والشرع عن الاعتقاد، لا عن الإكراه وخوف السيف كالمنافقين. وقيل: المراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون في متابعة الشرع وموافقته له كموافقته لمألوفاته، فيستمر على الطاعة من غيركلفة وكراهية، وذلك عند ذهاب كدر النفس، وبقاء صفوتها، وهذه حالة نادرة إلا في المحفوظين من أوليائه. وقيل في معناه: حتى يحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه، أي يقدم الشرع على هواه. (رواه) أي البغوى (في شرح السنة) بإسناده. (وقال النووى) بالقصر. قال القاري: ويجوز المد، نسبة إلى نوى قرية من أعمال دمشق، وهو أبوزكريا محي الدين يحيى بن شرف الحزامي - بكسر الحاء المهملة وبالزاى-، نسبة إلى حزام أحد أجداده. ولد في أوائل المحرم سنة (631) . كان عالماً فاضلاً متورعاً، فقيهاً محدثاً ثبتاً حجة، له تصانيف كثيرة مشهورة، وتأليفات عجيبة مفيدة، في الفقه مثل الروضة، وفي الحديث مثل الرياض والأذكار، وفي شرحه مثل شرح مسلم، وغير ذلك من معرفة علوم الحديث واللغة، سمع من المشائخ الكبار، ومنه خلق كثير، وأجاز رواية شرح مسلم والأذكار لجميع المسلمين، نشأ بقريته نوى، وحفظ الختمة، وقدم دمشق سنة (650) وله تسع عشرة سنة، فتفقه وبرع، وكان خشن العيش، قانعاً بالقوت، تاركاً للشهوات، صاحب عبادة وخوف، وكان قوالاً بالحق، كبير الشأن، كثير السهر، مكباً على العلم والعمل، مات في رجب سنة (676) وعاش (45) سنة، وقد بسط ترجمته الذهبي في تذكرة الحفاظ (ج4: ص259، 264) ، فمن شاء فليرجع إليه. (في أربعينه) أي الأربعين حديثاً الذي صنفه. (هذا حديث صحيح، رويناه) بصيغة المجهول (في كتاب الحجة بإسناد صحيح) أي رواه لنا صاحب كتاب الحجة، وهو الشيخ أبوالفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وكتابه هذا، هو "كتاب الحجة على تاركى سلوك طريق المحجة"، يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. والحديث أخرجه أيضاً الحافظ أبونعيم في كتاب الأربعين، والطبراني، وأبوبكر بن عاصم الأصبهاني، والحكيم الترمذي، وأبونصر السجزى في الإبانة وقال: حسن غريب. والخطيب، ونسبه الشيخ الألباني للحسن بن سفيان، وابن عساكر، قال: أخرجاه في أربعينهما. وقد تعقب الحافظ ابن رجب على النووي في تصحيح الحديث، فقال: تصحيح الحديث بعيد جداً من وجوه، ثم ذكرها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى شرحه لأربعين النووى (ص282) .
168-
(29) وعن بلال بن الحارث المنزنى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحي سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) رواه الترمذي.
169-
ورواه ابن ماجه عن كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه،
ــ
168-
قوله: (وعن بلال بن الحارث المزنى) بضم الميم وفتح الزاى، نسبة إلى مزينة، يكنى أبا عبد الرحمن، من أهل المدينة، كان أول من قدم من مزينة على النبي صلى الله عليه وسلم في رجال من مزينة في رجب سنة (5) من الهجرة، أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم العقيق، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، وكان يسكن وراء المدينة، ثم تحول إلى البصرة. له ثمانية أحاديث. مات سنة (60) وله (80) سنة. (من أحيى سنة) أي أظهرها وأشاعها بالقول والعمل. قال المظهر: السنة ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام الدين، وهي قد تكون فرضاً كزكاة الفطر، وغير فرض كصلاة العيدين، وقراءة الناس القرآن في غير الصلاة، وما أشبه ذلك، وإحيائها أن يعمل بها ويحرض الناس عليها. (من سنتي) النظر يقتضي أن يقال: من سنني، بلفظ الجمع، لكن الرواية بالإفراد، فيحمل المفرد على الجنس الشائع في الافراد. (قد أميتت بعدي) أي تركت عن العمل بها. استعير الإماتة لما يقابل الإحياء، من الترك ومنع الناس عن إقامتها، كما استعير الإحياء للعمل بها وحث الناس عليها. (من غير أن ينقص) على بناء الفاعل، وضميره لإعطاء مثل أجر العاملين لمن أحياها. (من أجورهم)"من" للتبعيض أي من أجور من عمل بها، فأفرد أولاً رعاية للفظه، وجمع ثانياً لمعناه. (شيئاً) مفعول به أو مفعول مطلق؛ لأنه حصل له باعتبار الإحياء والدلالة والحث، وللعاملين باعتبار الفعل، فلم يتواردا على محل واحد حتى يتوهم أن حصول أحدهما ينقص الآخر (بدعة ضلالة) بالإضافة، ويجوز أن ينصب نعتاً ومنعوتاً، وقيد البدعة بالضلالة لإخراج البدعة الغير الشرعية، أو هي صفة كاشفة للبدعة (لا يرضاها الله ورسوله) صفة كاشفة لقوله:"بدعة"، وصفت بهذا تقبيحاً للبدعة، وإلا فكل بدعة كذلك بالمعنى الذي ذكرناه، وهو ما لا أصل له في الشرع، يدل عليه (كان عليه من الإثم) أي الوزر، وليست لفظة "من الإثم" في الترمذي، وهي في جميع نسخ المشكاة. (لاينقص ذلك) أي ذلك الإثم (من أوزارهم) وفي الترمذي "من أوزار الناس"(شيئاً) مفعول به لا غير. (رواه الترمذي) في العلم يعني عن بلال.
169-
قوله: (ورواه ابن ماجه) في السنة (عن كثير بن عبد الله بن عمرو) بن عوف المزني المدني، قال الحافظ: ضعيف، ومنهم من نسبه إلى الكذب. وقال المنذري: متروك واهٍ، وقال أبوداودد والشافعي: هو أحد الكذابين. وقال أحمد: منكر الحديث، ليس بشيء، (عن أبيه) عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني، ذكره ابن
عن جده.
170-
(31) وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية
ــ
حبان في الثقات، وقال في التقريب: مقبول، من الطبقة الوسطى من التابعين. (عن جده) أي عن جد كثير، وهو عمرو ابن عوف بن زيد بن ملحة أبوعبد الله المزني أحد البكائين، كان قديم الإسلام، شهد بدراً، وروى ابن سعد عنه أن أول غزوة شهدها الأبواء. وقال الواقدي: استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على حرم المدينة. مات في ولاية معاوية. وأعلم أنه يظهر من كلام المصنف أن هذا الحديث روي عن صحابيين أحدهما بلال بن الحارث المزني، أخرج عنه الترمذي بإسناده، والثاني عمرو بن عوف المزني جد كثير بن عبد الله، وأخرج عنه ابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده. والبغوى أيضاً عزى هذا الحديث لبلال بن الحارث، وهذا وهم منهما؛ لأن الحديث رواه الترمذي وابن ماجه كلاهما من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: ((اعلم، قال: أعلم يا رسول الله، قال: إنه من أحيى
…
)) الخ، فهو موجه إلى بلال، وليس من روايته، وهذا السياق للترمذي، ولفظ ابن ماجه عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أحيى
…
)) الخ. فالحديث من مسانيد عمرو بن عوف، لا من مسانيد بلال بن الحارث، فان لبلال هذا ثمانية أحاديث، روى أربعة منها أصحاب السنن الأربعة ومالك، وليس هذا الحديث منها كما يظهر من ذخائر المواريث للشيخ عبد الغني النابلسي، ويدل أيضاً على ما قلنا من أن الحديث عند الترمذي من مسند عمرو بن عوف، أن النابلسي ذكره في مسند عمرو بن عوف، وعزاه للترمذي وابن ماجه كليهما. والحديث قد حسنه الترمذي واعترض عليه؛ لأن في سنده كثير بن عبد الله وقد ضعفوه جداً، بل رماه بعضهم بالكذب، وأجيب عنه بأن تحسينه توثيق للراوي، وذهاب منه إلى أنه لم يرض الكلام فيه، كيف وهو من علماء هذا الشأن، فيعتمد على تحسينه وتصحيحه، وقد احتج بطريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، ابن خزيمه في صحيحه كما ذكره المنذري في الترغيب، وقيل: حسنه الترمذي لشواهده، فإنه قد يحسن الحديث الضعيف ويصححه لشواهده.
170-
قوله: (إلى الحجاز) هو اسم مكة فالمدينة وحواليهما من البلاد، وسميت حجازاً لأنها حجزت أي منعت وفصلت بين بلاد نجد والغور، قيل: التوفيق بينه وبين ما سبق من حديث أبي هريرة في آخر الفصل الأول على كون الدين والإيمان مترافين: أنه يأرز أولاً إلى الحجاز أجمع ثم إلى المدينة. وفي حديث ابن عمر عند مسلم: وهو أي الإسلام يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها. (وليعقلن) عطف على "ليأرز" أو على "إن" ومعمولها، أي ليتحصن، يقال: عقل الوعل أي امتنع بالجبال العوالي (من الحجاز) أي بمكان منه، أو مكاناً منه (معقل الأروية)
من رأس الجبل. إن الدين بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)) رواه الترمذي.
171-
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل،
ــ
بضم الهمزة وتكسر، وبكسر الواو وتشديد الياء، أنثى الوعول، وهي تيوس الجبل، وهي تعتصم في أعلى الجبال، ولذلك يقال للوعل: الأعصم. والمعقل بكسر القاف، مصدر بمعنى العقل، ويجوز أن يكون إسم مكان أي كاتخاذ الأروية. (من رأس الجبل) حصناً. قال القاري: وخص الأروية دون الوعل؛ لأنها أقدر من الذكر على التمكن من الجبال الوعرة والمعنى: أن الدين في آخر الزمان عند ظهور الفتن واستيلاء الكفرة والظلمة على بلاد أهل الإسلام يعود إلى الحجاز كما بدأ. وقيل: المعنى أن الدين سيعقل ويعتصم في الحجاز، ويجتمع فيه عند ما يكون غريباً فيعود إلى الحجاز كما بدأ منه، ويكون عزيزاً قوياً فيه كالأروية في شناخيب الجبال، ثم يمتد وينتشر منه ثانية. (غريباً) أي كالغريب، أو حال (سيعود) أي غريباً (وهم الذين يصلحون) الخ. أي يعتنون بإصلاح ما أفسد الناس من السنة، ويعملون بها، ويظهرونها بقدر طاقتهم. (رواه الترمذي) في الإيمان من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده، وقال: حديث حسن. وفيه ما تقدم انتقادا وجواباً. وارجع إلى المشكاة طبعة دمشق بتعليق الشيخ الألباني (ج1: ص60) .
171-
قوله: (ليأتين) من الإتيان وهو المجيء بسهولة، وعدى بعلى لمعنى الغلبة المؤدية إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى:: {ماتذر من شيء أتت عليه} [42:51] . (على أمتي) قالوا: المراد أمة الإجابة وهم أهل القبلة، فإن اسم الأمة مضافاً إليه صلى الله عليه وسلم يتبادر منه أمة الإجابة. (كما أتي) وفي جامع الترمذي "ما أتى" أي بغير الكاف، فما موصولة، وهي مع صلتها فاعل "ليأتين"، أي ليفعلن أمتي ما فعل بنو إسرائيل من القبائح. وأما توجيه ما وقع ههنا فقال القاري: فاعل "ليأتين" مقدر يدل عليه سياق الكلام، والكاف منصوب عند الجمهور على المصدر، أي ليأتين على أمتي زمان إتياناً مثل الإتيان على بني إسرائيل. وجوز أن يكون الكاف فاعلاً، أي ليأتين على أمتي مثل ما أتى على بني إسرائيل. (حذو النعل بالنعل) حذو النعل استعارة في التساوى، وهو منصوب على المصدر، أي يحذونهم حذواً مثل حذو النعل بالنعل، يوافقونهم مثل موافقة النعل للنعل، ويعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر النعل الأخرى، والحذو التقدير والقطع. فإن قيل: قد وقع فيما مضى قبل الأنبياء، وتحريف الكتب، قلت: لعل ما وقع في أيام بني أمية من قتل علماء التابعين مثل سعيد بن المسيب ونحوه من هذا القبيل، فعلماء أمته كأنبيائهم، كيف وقد قتلوا فلذة كبدة الرسول صلى الله عليه وسلم k والولد من أبيه كما قيل، وما اشتهر فيما مضى من تحاريف الباطنية، وفي هذا الزمان من بعض أهل البدع لا يقصر من تحريفهم، قاله محمد طاهر
حتى إن كان منهم أتى أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة،
ــ
الفتني. (حتى إن كان)"حتى" ابتدائية والواقع بعده جملة شرطية، و"إن" بمعنى لو، ولذا قرن جوابها باللام، وقيل:"إن" هذه مخففة من المثقلة، أي حتى إنه (من أتى أمه) إتيانها كناية عن الزنا، والمراد من الأم موطؤة الأب (من يصنع ذلك) أي الإتيان (وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة)، وفي حديث أنس عند ابن ماجه: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وفي حديث أبي أمامه، وأبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأنس عند الطبراني، وحديث عوف بن مالك عند ابن ماجه، وحديث أنس عند أبي يعلى ما يدل على أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار، وواحدة في الجنة، وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو (على الشك) اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك. ولا تخالف بين هذه الروايات، فإنه يجمع بينها بأنه يمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك، ثم أعلم بزيادة فرقة، إما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبى صلى الله عليه وسلم أولاً ثم أعلم بها في وقت آخر، وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر بذلك عليه السلام، وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث، والله أعلم بحقيقة الأمر. و"الملة" في الأصل ما شرع الله لعباده على ألسنة الأنبياء ليتوصلوا به إلى القرب من حضرته تعالى، ويستعمل في جملة الشرائع دون آحادها، ثم إنها اتسعت فاستعملت في الملل الباطلة، فقيل: الكفر ملة واحدة، لأن طريقة أهل الكفر، وكذا طريقة كل فرقة من أهل الأهواء والبدع كالملة الحقيقية في التدين بما تدينوا به، فسميت باسمها مجازاً. (وتفترق أمتي) أي أمة الإجابة، فيكون الملل الثلاث والسبعون منحصرة في أهل قبلتنا، وإن كانت بدعة بعض هذه الملل مكفرة ومخرجة عن الإسلام، هذا هو المتبادر من إضافة اسم الأمة إليه صلى الله عليه وسلم، ويؤيد اعتبار الواقع؛ لأن كل فرقة منهم تدعى الشريعة، وأنها على صوابها، وأنها المتبعة لها، وتتمسك بأدلتها، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها، وتناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها، وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها، لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره، ويؤيده أيضاً أن افتراق أمة محمد شبه بافتراق اليهود والنصارى، ومن المعلوم أن افتراق بني إسرائيل وقع حال كونهم من أمة موسى وعيسى، أي شمول لفظ اليهود والنصارى، إياهم. (على ثلاث وسبعين ملة) أي يفترقون ثلاثاً وسبعين فرقة تتدين كل واحدة منها بخلاف ما تتدين به الأخرى. وفيه إشارة بل تصريح لتلك المطابقة مع زيادة هؤلاء في إرتكاب البدع بدرجة، وليس المراد بالافتراق في الحديث مطلق الافتراق حتى يدخل فيه ما وقع من الاختلاف في مسائل الفروع في زمان الخلفاء الراشدين، ثم في سائر الصحابة، ثم في التابعين، ثم في الأئمة المجتهدين، بل المراد به الافتراق المقيد، وهو التفرق الذي
صاروا به شيعاً وأحزاباً وفرقاً وجماعات، بعضهم فارق البعض، ليسوا على تألف، ولا تعاضد، ولا تناصر، بل على ضد ذلك من الهجران، والقطيعة، والعداوة، والبغضاء، والتضليل، والتكفير، والتفسيق، وهذه الفرقة المشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعدواة والبغضاء إنما هي بسبب الابتداع في الشرع، والخروج عن السنة، لابسبب أمر دنيوى، ولا بسبب معصية ليسبت ببدعة. قيل: والمراد بالابتداع المذكور الابتداع في الأصول والعقائد لا الفروع والعمليات. قال العلقمي: قال شيخنا: ألف الإمام أبومنصور عبد القاهر بن طاهر التميمي فى شرح هذا الحديث كتاباً قال فيه: قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام، وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد، وفي تقدير الخير والشر، وفي شروط النبوة والرسالة، وفي موالاة الصحابة، وما جرى مجرى هذه الأبواب؛ لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم، بخلاف النوع الأول، فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف، وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر، وجابر، وأنس ونحوهم، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئاً فشيئاً إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة، والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية –انتهى. وقال الشاطبي في الاعتصام: القول بأن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها ما هو مما ينظر فيه، فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص، وهو رأي أبي بكر الطرطوشي، أفلا ترى إلى قوله تعالى:{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه} [7:3] الآية. و"ما" في قوله: "ما تشابه" لا تعطي خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها، بل الصيغة تشمل ذلك كله، فالتخصيص تحكم، وكذلك قوله تعالى:{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} [159:6] ، فجعل ذلك التفريق في الدين، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها من الأقوال والأعمال. وقوله:{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [153:6] فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، وأشار بلفظ "هذا" إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية، ولم يخص ذلك بالعقائد. قال: نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر ههنا، وهو أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشرعية، لا في جزئي من الجزئيات، إذا الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية؛ لأن الكليات تقتضي عدداً من الجزئيات غير قليل، ويدخل شذوذها في أبواب كثيرة من الأصول والفروع. قال: ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً. وأما الجزئي فبخلاف ذلك – انتهى. كلامه مختصراً. وقد بسط قبل ذلك الكلام (ج1:ص141، 159) في ذكر أسباب افتراق هذه الفرق من جماعة المسلمين وخلافهم للفرقة الناجية وابتداعهم الذي صاروا لأجله فرقاً وأحزاباً وجماعات متعادين، متباغضين، متدابرين، متقاطعين فعليك أن ترجع إليه. ثم إن العلماء اختلفوا في معنى عدد الفرق
المذكورة في الحديث فقيل: هو للتكثير لا للتحديد، فإن الفرق المذمومة تزيد على المئات بالنظر إلى تفرقهم في الأصول والفروع. وقيل: معنى الحديث أن الفرق المذمومة لا بد أن تبلغ هذا العدد، أي لا ينقص عدد الفرق الغير الناجية من هذا المقدار، فلا بأس لو زاد على ذلك. والحاصل أن العدد المذكور ليس لنفي الزائد. وقيل: هو محمول على التحديد، فإن المراد بالتفرق تفرقهم في أصول الدين، والفرق المبتدعة مع شعبها وفروعها لا تزيد على هذا العدد بالنظر إلى ذلك. ثم اختلف أصحاب هذا القول في تعيين هذه الفرق، فعينها كثير من العلماء، لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد، فمنهم من عد أصولها ثمانية. فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: المعتزلة القائلون: بأن العباد خالقوا أعمالهم، وبنفي الرؤية، وبوجوب الثواب والعقاب، وهم عشرون فرقة. والشيعة، وهم ثنتان وعشرون فرقة. والخوارج، وهم عشرون فرقة. والمرجئة، وهم خمس فرق. والنجارية الموافقة لأهل السنة في خلق الأفعال، والمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام، وهم ثلاث فرق. والجبرية القائلة بسلب الاختيار عن العباد، فرقة واحدة. والمشبهة الذين يشبهون الحق بالخلق فرقة أيضاً. فالجميع اثنتان وسبعون فرقة. فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثاً وسبعين فرقة. وقد وصف صاحب المواقف هذه الفرق وفروعها وشعبها وما انفردت به من الآراء بأخصر ما كتب في هذا الموضوع، فارجع إليه. وقد عد الشاطبي أسماء أصول هذه الفرق وفروعها، ثم قال: وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح، لا على القطع بأنه المراد، إذ ليس على ذلك دليل شرعي، ولا دل العقل أيضاً على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان كما أنه لا دليل اختصاص تلك البدع بالعقائد، ومنهم من قال: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، قال يوسف بن أسباط: ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشر فرقة، فتلك ثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون هي الناجية. وقال الشهرستاني بعد ما ذكر ضابطاً في مسائل الخلاف، وحصرها في أربع قواعد هي الأصول الكبار ما لفظه: وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض، كبار الفرق الإسلامية أربع القدرية، الصفاتية، الخوارج، الشيعة، ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعون فرقة. ومنهم من قال: أصول الفرق الضالة ست: الحرورية، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والرافضة، والجبرية، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة فصارت إلى اثنتين وسبعين فرقة، وهذا التقديران نحو من الأول يرد عليهما من الإشكال ما ورد على الأول، فالأولى أن لا تعين هذه الفرق الضالة المخالفة للفرقة الناجية في أصول الدين وقواعده، فإنه لا بأس لو لم نحط بأسماءها وآرائها تفصيلاً. ويقال: لا بد أن تبلغ هذه الفرق العدد المذكور في الحديث؛ لأن الزمان باق، والتكليف قائم، والخطرات متوقعه، والبدع قد نشأت إلى الآن، ولا تزال تحدث وتكثر مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة. وإلى عدم التعيين مال أبوبكر الطرطوشي. قال الشاطبي: وهو أصح في النظر؛ لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل، والعقل لا يقتضيه. وإن سلمنا أن الدليل قائم له على ذلك فلا ينبغي التعيين لوجوه ثلاثة فذكرها، ثم قال: فمن هنا لا ينبغي للراسخ
كلهم في النار إلا ملة واحدة،
ــ
في العلم أن يقول: هؤلاء الفرقهم بنو فلان وبنو فلان، وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا في موطنين: أحدهما حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق، ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم، ثم ذكر الأحاديث التي وردت في تعيين أهل القدر وذمهم، وقد تقدم بعضها في باب الإيمان بالقدر. قال: والموطن الثاني الذي يجوز فيه التعيين حيث تكون الفرقة تدعوا إلى ضلالتها وتزينها في قلوب العوام، ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم. قال: ولما تبين أنهم أي الفرق المذكورة في الحديث لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها، وهي على قسمين: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية، فأما العلامات الإجمالية فثلاثة: أحدها الفرقة أي التي تكون سبباً للتخرب، ومستلزماً للعداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة. والثانية اتباع المتشابه من القرآن، وترك المحكم. والثالثة اتباع الهوى وتقديمه على الأدلة الشرعية، والاعتماد على الرأى، وتحكيم العقل. ثم ذكر ما يعرف به هذه الخواص والعلامات، ومن يرجع إليه في معرفتها، ثم قال: وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة، وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجد منبهاً عليها، ومشاراً إليها، ولولا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع، مدلول عليه بالدليل الشرعي، قال: فأنت ترى أن حديث افتراق الأمة لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور. والله أعلم. وإنما نبه عليها في الجملة لتحذر مظانها، وعين في الحديث، المحتاج إليه منها، وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف، وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة؛ لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها، وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة، كما قال: أشد الفرق فتنة على الأمة. (كلهم في النار) أي يستحقون الدخول في النار من أجل اختلاف العقائد، فمن أفضى به بدعته إلى الكفر يدخل فيها ألبتة دخولها مؤبداً، ومن لم يكن كذلك فهو ممن يستحق النار إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله. (إلا ملة واحدة) بالنصب أي إلا أهل ملة واحدة، أي فلا يدخلون النار من جهة اختلاف العقائد. وقيل: المعنى يدخل أصحاب الملل الضالة النار بسب بدعهم، ثم يخرجون منها برحمة الله، ويدخلون الجنة إلا أهل ملة واحدة، فلا يدخلون النار أصلاً، بل يدخلون الجنة أولاً، وهم المتمسكون بالكتاب والسنة، الموافقون لجماعة الصحابة، المجتنبون عن الابتداع في الاعتقاد، والعمل والقول اجتناباً كلياً، وإن كان صدر من أحد منهم ذنب غير بدعة، عفا الله عنه برحمته، أو يكون سكرات الموت، أو شدائد القبر، أو أهوال المحشر كفارة له، فيدخل الجنة ابتداء. قال الشاطبي: قوله: "كلها في النار" وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة، أو ذنباً عظيماً لما تقرر في الأصول أن ما يتوعد عليه الشر فخصوصيته كبيرة، إذ لم يقل "كلها في النار" إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسبه عن السواد الأعظم وعن جماعته، وليس ذلك إلا
قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) .
ــ
للبدعة المفرقة، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا؟ وإذ قلنا: إنه غير أبدي هل هو نافذ أم في المشيئة؟ أما المطلب الأول فينبئ على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة، والخلاف في الخوارج وغيرهم من السبائية، والغرابية، والجناحية، ونحوهم المخالفين في العقائد موجود. فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأييد التحريم على القاعدة "أن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه"، وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل على مذهب أهل السنة أمرين: أحدهما نفوذ الوعيد من غير غفران، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث، وقوله هنا:"كلها في النار" أي مستقرة ثابتة فيها. والثاني أن يكون مقيداً بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار، وإنما حمل قوله:"كلها في النار" على معنى هي ممن يستحق النار. كما قيل في قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها} [93:4] ، أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه، فإن عفا عنه فله العفو إن شاءالله، لقوله تعالى:{إن الله يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [48:4]، فكما أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله -انتهى مختصراً. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح حديث معاوية. وقوله:"ملة واحدة" نص في أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرق أيضاً لم يقل: إلا واحدة. ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق؛ لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [59:4] إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة. وقوله:"في شيء" نكرة في سياق الشرط، فهي صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد، فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقاً، قاله الشاطبي (قالوا من هي) أي تلك الملة أي أهلها الناجية. (ما أنا عليه وأصحابي) أي هي ما أنا عليه وأصحابي، فسر أهل تلك الملة الواحدة بذلك؛ لأن تعريف أهل الملة حاصل بتعريف ملتهم، وقيل: التقدير أهلها من كان على ما أنا عليه وأصحابي من الاعتقاد والقول والعمل. والمراد بهم المهتدون المتمسكون بسنته وسنة الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال. قال الشاطبي: أصل الجواب أن يقال: أنا وأصحابي، ومن عمل مثل عملنا، أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بما أتى، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ، والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى؛ لأنهم لما سألوه عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال: ما أنا عليه وأصحابي. ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق، وذكر أن فيها فرقة ناجية كان السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة؛ لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها، فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل، فلو سألوا ما وصفها أو عملها؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ
والمعنى، فلما فهم عليه السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك، وتقول: لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم، أتى به جواباً عن سؤالهم حرصاً منه عليه السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه، ويمكن أن يقال: إن ما سألوا عنه لا يتعين، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر، إذ قد كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير، ومن شأن هذا السؤال التعيين، وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه وأصحابه، وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم، وهو بالنسبة إلى السائل معين؛ لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك؛ لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود، والله أعلم. قال: ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم من الفرق إلا واحدة، وإنما تعرض لعدها خاصة، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها، وإنما وقع ذلك كذلك، ولم يكن الأمر بالعكس لأمور أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف، والأحق بالذكر، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذ عينت الواحدة، وأيضاً لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها؛ لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي بدع، والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضداً ولا خلافاً، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق، والثاني أن ذلك أوجز؛ لأنه إذا ذكرت الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناجٍ، وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق الغير الناجية، فإنه يقتضي شرحاً كثيراً، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد؛ لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعاً لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها. والثالث أن ذلك أحرى بالستر، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"ما أنا عليه وأصحابي"، يعني أن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه السلام، وأوصاف أصحابه، وكان ذلك معلوماً عندهم غير خفي، فاكتفى به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان. وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن، وأثنى عليهم متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متبع للقرآن، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله، وهو معنى "ما أنا عليه وأصحابي"، فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشيء عنهما، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى "وهي الجماعة"؛ لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف، انتهى. قلت: وهو معنى ما جاء في حديث أبي أمامة عند الطبراني: ((كلهم في النار إلا السواد الأعظم)) . وأصرح من ذلك ما رواه الطبراني أيضاً عن أبي الدرداء، وواثلة، وأنس بلفظ:((كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم. قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي)) . فالمراد "بالجماعة" و"السواد الأعظم" و"ما أنا عليه وأصحابي" شيء واحد، ولا شك أنهم أهل السنة والجماعة. قال الشيخ الجيلاني في الغنية: وأما الفرقة الناجية فهي أهل السنة والجماعة. قال: وأهل السنة لا اسم لهم إلا اسم
رواه الترمذي.
ــ
واحد، وهو أصحاب الحديث. وقال الشاه ولي الله الدهلوي: الفرقة الناجية هم الآخذون في العقيدة والعمل جميعاً بما ظهر من الكتاب والسنة، وجرى عليه جمهور الصحابة والتابعين، وإن اختلفوا فيما بينهم فيما لم يشتهر فيه نص، ولا ظهر من الصحابة اتفاق عليه، استدلالاً منهم ببعض ما هنالك، أو تفسيراً لمجمله، وغير الناجية كل فرقة اتتحلت عقيدة خلاف عقيدة السلف، أو عملاً دون أعمالهم -انتهى. وقال ابن حزم في الفصل (ج2: ص113) : وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق، ومن عداهم فأهل البدعة، فإنهم الصحابة وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين، ثم أصحاب الحديث، ومن تبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها -انتهى. قال الشاطبي: ثم إن في تعريف الفرقة الناجية المذكورة في الحديث نظراً، وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سني ومبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة، قال: فتعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب، ومع ذلك فلا بد من النظر فيه، ثم بسط الكلام في ذلك أشد البسط فارجع إليه. (رواه الترمذي) في الإيمان وحسنه، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد ضعفه الدارقطني وغيره. وقال الحافظ: ضعيف في حفظه، ووثقه يحيى القطان، وقال البخاري: هو مقارب الحديث. والظاهر أن الترمذي حسنه لشواهده، فمنها حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، وأقر المنذري تصحيح الترمذي، وقال الحاكم (ج1:ص128) : صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ومنها حديث أنس أخرجه أحمد (ج3:ص120) وابن ماجه. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات، ورواه أبويعلى في مسنده مطولاً من طريقين في أحدهما أبومعشر نجيح، وفيه ضعف، وفي الآخر يزيد الرقاشي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج6:ص226) : ضعفه الجمهور، وفيه توثيق لين، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الصغير مختصراً. قال الهيثمي (ج1:ص189) : وفيه عبد الله بن سفيان، قال العقيلي: لا يتابع على حديث. هذا، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، ومنها حديث عوف بن مالك، أخرجه ابن ماجه، قال البوصيري: في سنده مقال، وراشد بن سعد، قال فيه أبوحاتم: صدوق، وعباد بن يوسف، لم يخرج له سوى ابن ماجه، وليس له عنده سوى هذا الحديث. وقال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات - انتهى. كلام البوصيري. قلت: راشد بن سعد الحمصي ثقة، وثقه ابن معين، وأبوحاتم، والعجلي، ويعقوب بن شيبه، والنسائي، وابن سعد. وقال أحمد: لا بأس به. وقال يحيى بن سعد: هو أحب إلي من مكحول. وقال الدارقطني: لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك. وعباد بن يوسف الكرايبسي، قال عثمان بن محمد: حدثنا إبراهيم بن العلاء: ثنا عباد بن يوسف صاحب الكرابيس ثقة. قال في التقريب: مقبول. فالحديث لا يتحط عن درجة الحسن، بل هو صحيح، وأخرجه الحاكم (ج4:ص430) من طريق آخر، وقال صحيح علىشرط الشيخين، وسكت عليه الذهبي. ومنها حديث معاوية بن أبي سفيان، وسيأتي الكلام فيه.
172-
(33) وفي رواية أحمد، وأبي داود، عن معاوية: ((ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة،
ــ
ومنها حديث أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبوغالب، وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير، قاله الهيثمي (ج 6:ص258، 259) . ومنها حديث أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، أخرجه الطبراني أيضاً، وفي إسناده كثير بن ودان، وهو ضعيف جداً، قاله الهيثمي (ج6: ص259) ، ومنها حديث عمرو بن عوف، عزاه الهيثمي (ج6: ص260) للطبراني، وقال: فيه كثير بن عبد الله، وهو ضعيف، وقد حسن الترمذي له حديثاً، وبقية رجاله ثقات. ومنها حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه البزار. قال الهيثمي (ج6:ص259) : وفيه موسى بن عبيدة الربذى، وهو ضعيف. ومنها حديث ابن عمر، أخرجه أبويعلى، وفي سنده ليث بن أبي سليم، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، قاله الهيثمي (ج6:ص259) ومنها حديث ابن مسعود، وحديث علي موقوفها عليهما، وذكرهما الشاطبي في الاعتصام (ج2:ص211) وقال: لا أضمن عهدة صحتهما، وذكر على المنقي في الكنز (ج1:ص96) حديثاً مرفوعاً عن علي، وعزاه لابن النجار، وقد ظهر بما ذكرنا من الكلام في أحاديث هؤلاء الصحابة أن بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وتحصل منه أن حديث افتراق الأمة صحيح من غير شك، فلا يعبأ بقول ابن حزم في الفصل (ج3:ص138) : إن هذا الحديث لا يصح عن طريق الإسناد. وأيضاً نفي الصحة لا يلزم منه ثبوت الضعف أو الوضع، فيمكن أن يراد به نفي الصحة مع ثبوت الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف، وكذا لا يدل قول المجد صاحب القاموس في آخر سفر السعادة: أنه لم يثبت فيه شيء على ثبوت العدم أو الضعف، لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحسن، وعلى التنزل فيقدم تصحيح الترمذي والحاكم ومن وافقهما على قول ابن حزم والمجد.
172-
قوله: (وفي رواية أحمد) بن حنبل في مسنده (ج4:ص104)(وأبي داود عن معاوية) أي بعد قول "وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين" ومعاوية هذا، هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبوعبد الرحمن الأموى. أسلم يوم الفتح، وقيل: قبل ذلك، وكتب الوحي، وقيل: لم يكتب من الوحي شيئاً إنما كتب له كتبه، تولى الشام بعد أخيه يزيد في زمن عمر، ولم يزل بها متولياً حاكماً إلى أن مات، وذلك أربعون سنة، منها في أيام عمر أربع سنين أو نحوه، ومدة خلافة عثمان، وخلافة علي وابنه الحسن، وذلك تمام عشرين سنة، ثم استوثق الأمر بتسليم الحسن بن علي إليه في سنة (41) ودام له عشرين سنة، في رجب بدمشق، وله (48) سنة. قال الذهبي: ولي الشام عشرين سنة، وملك عشرين سنة. وكان حليماً كريماً سائساً عاقلاً، خليقاً للإمارة، كامل السودد، ذا دهاء ورأي ومكر، كأنما خلق للملك. له مائة وثلاثون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة، وروى عنه أبوذر وابن عباس من الصحابة، وجماعة من التابعين. مات في رجب سنة (60) وقد قارب الثمانين. (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة) . قال السندهي في حاشية ابن ماجه: قيل: إن أريد الخلود في النار فهو خلاف الإجماع، فإن المؤمنين لا يخلدون في النار، وإن أريد مجرد الدخول فيها فهو مشترك بين الفرق، إذ ما من فرقة إلا بعضهم عصاة، والقول بأن معصية
وهي الجماعة، وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله.
ــ
الفرقة الناجية مطلقاً مغفورة بعيد، أجيب بأن المراد أنهم في النار لأجل اختلاف العقائد، فمعنى "وواحدة في الجنة" أنهم لا يدخلون النار لأجل اختلاف العقائد، أو المراد بكونهم في النار طول مكثهم فيها، وبكونهم في الجنة أن لا يطول مكثهم في النار، وعبر عنه بكونهم في الجنة ترغيباً في تصحيح العقائد، وأنه يلزم أن لا يعفى عن البدعة الاعتقادية كما لا يعفى عن الشرك، إذ لو تحقق العفو عن البدعة. فإن قيل: لا يلزم دخول كل الفرقة المبتدعة في النار فضلاً عن طول مكثهم، إذ هو مخالف لقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء} [48:4] أجيب بأن المراد أنهم يتعرضون لما يدخلهم النار من العقائد الرديئة، ويستحقون ذلك. ويحتمل أن المراد أن الغالب في تلك الفرق دخول النار، فيندفع الإشكال من أصله -انتهى. (وهي الجماعة) أي الموافقون لجماعة الصحابة الآخذون بعقائدهم، المتمسكون بطريقتهم، وهم أهل السنة والجماعة، أي أصحاب الحديث الذين اجتمعوا على اتباع آثاره صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال، واتفقوا على الأخذ بتعامل الصحابة وأجماعهم، ولم يبتدعوا بالتحريف والتغيير، ولم يبدلوا بالآراء الفاسدة. (وأنه سيخرج) أي سيظهر (في أمتي أقوام) أي جماعات (تتجارى) بالتائين أي تدخل وتجري وتسري (بهم) أي في مفاصلهم وعروقهم. (تلك الأهواء) جمع هوى البدع التي كانت السبب في الافتراق، وضعت موضعها وضعاً للسبب موضع المسبب؛ لأن هوى الرجل هو الذي يحمله على الابتداع في العقيدة والقول والعمل. (كما يتجارى الكلب) بفتحتين داء يعرض للإنسان من عض الكلب الكلب أي المكلوب، وهو داء يصيب الكلب فيصيبه شبه الجنون فلا يعض أحداً إلا كلب، ويعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاً، كذا في النهاية. (بصاحبه) أي مع صاحبه إلى جميع أعضائه أي مثل جرى الكلب في العروق، شبه حال الزاغين من أهل البدع في استيلاء تلك الأهواء عليهم، وفي سراية تلك الضلالة منهم إلى الغير بدعوتهم إليها، ثم تنفرهم من العلم وامتناعهم من قبوله حتى يهلكوا جهلاً، بحال صاحب الكلب وسريان تلك العلة في عروقه ومفاصله شبه الجنون، ثم تعديته إلى الغير فلا يعض المجنون أحداً إلا كلب أي جن، ويعرض له أعراض رديئة تشبه الماليخوليا مهلكة غالباً، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشاً، قاله الطبي. وفي هذا التشبيه فوائد: منها التحذير من مقاربة تلك الأهواء ومقاربة أصحابها، وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع في الكلب، ثم إذا عض ذلك الكلب أحداً صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته، وإما أن يثبت في قلبه شكاً يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر، هذا بخلاف سائر المعاصي، فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالباً إلا مع طول الصحبة والأنس به، والاعتياد لحضور معصيته، وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم، ومكالمتهم، وكلام مكالمهم، وأغلظوا في ذلك، قاله الشاطبي وبسط الكلام في شرح رواية معاوية أيضاً،
173-
(34) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار)) رواه الترمذي.
ــ
فعليك أن ترجع إلى كتابه الاعتصام (ج2:ص243، 231) وحديث معاوية هذا، أخرجه أبوداود في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص128) ، وقال بعد ذكره طرق حديث أبي هريرة: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث.
173-
قوله: (إن الله لا يجمع أمتي) أي أمة الإجابة (أو قال: أمة محمد) شك من الراوي (على ضلالة) أي لا يجتمعون على ضلالة غير الكفر، وقيل: على خطأ في الاجتهاد. وقيل: على كفر ومعصية، وهذا قبل مجيء الريح اللينة. قيل: فيه دليل على أن إجماع المسلمين حق، والمراد إجماع العلماء المجتهدين من أهل السنة والجماعة، ولا عبرة بإجماع العوام؛ لأنه لا يكون عن علم، ووجه الاستدلال به أن عمومه ينفي وجود الضلالة، والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه، فيكون ما أجمعوا عليه حقاً، وعندنا في دلالة هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث على حقية الإجماع الشرعي ثم على حجيته نظر؛ لأن الاستدلال به على ذلك موقوف على أن المراد بالضلالة، الخطأ في الاجتهاد، وكون الخطأ المظنون ضلالة ممنوع، والظاهر أن المراد به الكفر والمعصية. (ويد الله علىالجماعة) قال الجزرى: أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله، ووقايته فوقهم، وهم بعيد عن الخوف والأذى فأقيموا بين ظهرانيهم - انتهى. وقال الفتنى في المجمع: أي سكينته ورحمته مع المتفقين، وهم بعيد من الخوف والأذى والاضطراب، فإذا تفرقوا زال السكينة، وأوقع بأسهم بينهم، وفسد الأحوال. (ومن شذ) بصيغة المعلوم أي انفرد عن الجماعة وخرج عنها (شذ) بصيغة المجهول، وحكي بصيغة المعلوم أيضاً (في النار) كذا عند الحاكم، والحكيم الترمذي، وابن جرير، ووقع في جامع الترمذي "إلى النار"، يعني انفرد عن أصحابه الذين هم أهل الجنة وألقى في النار، وقال الطيبي: أي فقد شذ فيما يدخله النار أو في أمر النار، والشذوذ المنهي عنه شرعاً هو الشذوذ الذي يشق به صاحبه عصا الإسلام، ويثير به الفتن المنهي عن إثارتها، كشذوذ الخوارج والرافضة وأمثالهم مما يظهر آناً فآناً لا الشذوذ في أحكام الاجتهاد. (رواه الترمذي) في أوائل الفتن، وفي سنده سليمان بن سفيان التيمي، وهو ضعيف. قال البخاري: إنه منكر الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له شواهد ذكرها الحافظ في التلخيص، والحاكم في المستدرك، تدل على أن للحديث أصلاً.
تنبيه: اعلم أن المراد بالاجماع الذي احتجوا على حجيته بهذا الحديث وأمثاله هو الإجماع الشرعي المصطلح عند الأصوليين، وهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على أمر ديني. واختلفوا في وقوعه وحجيته، والذي ندين الله به في هذا هو أن إجماع الصحابة حق وحجة، وإليه الإشارة بقوله:"ما أنا عليه وأصحابي"، وأما إجماع مجتهدى الأمة قاطبة بعد عصر الصحابة في عصر من الأعصار أي الإجماع الكلي
174-
(35) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)) . رواه ابن ماجه من حديث أنس.
ــ
فلا تصح دعواه عندنا، فإنه متعذر بل ممتنع لعدم إمكان العلم به. ولذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وأما الإجماع الجزئي فخارج عن البحث، وارجع للتفصيل إلى كتب الأصول للمذاهب الأربعة، وإرشاد الفحول للعلامة الشوكاني، وروضة الناظر مع شرحها نزهة الخواطر لابن قدامة المقدسي.
174-
قوله: (اتبعوا السواد)"السواد" في اللغة العدد الكثير، وسواد الناس عامتهم (الأعظم) أي جملة الناس، ومعظمهم الذين يجتمعون على طاعة الإمام أي السلطان الأعظم، وسلوك النهج المستقيم. وقيل: المراد "بالسواد الأعظم" من كان على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الحديث، وهم الطائفة المنصورون، الظاهرون على الحق، المعظمون عند الله، المذكورون في قوله:((لاتزال طائفة من أمتي)) الحديث. قال في الأزهار: اتبعوا السواد الأعظم يدل على أن أعاظم الناس العلماء وإن قل عددهم، ولم يقل: الأكثر.؛ لأن العوام والجهال أكثر عددا (فإنه) الضمير للشأن (من شذ) أي نفر عن السواد الأعظم بخروجه على الإمام الذي اجتمع على طاعته معظم الناس، أو انفرد عن الجماعة الحقة الناجية، الكائنة على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم. (رواه ابن ماجه من حديث أنس) كذا في جميع طبعات الهند من المشكاة. قال الشيخ الألباني قوله:"رواه ابن ماجه من حديث أنس"، كذا في الأصل أي النسخة المطبوعة في الهند، وفي جميع النسخ أي المخطوطة الثلاث، وهي نسخة حاكم قطر، ونسخة مكتبة دمشق، ونسخة حلب، بياض. ويظهر أن المؤلف تعمد تركه؛ لأنه لم يجد من أخرجه كما أشار إليه في مقدمة الكتاب، وكذلك لم أجده في شيء من كتب السنة المعروفة حتى الأمالي والفوائد والأجزاء التي مررت عليها وهي تبلغ المئات، ولا أورده السيوطي في الجامع الكبير. وأما قول القاري: بعده بياض، وألحق ميرك شاه "ابن ماجه" ففي هذا الإلحاق نظر؛ لأن ابن ماجه وإن رواه عن أنس فهو بلفظ:((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) . وكذا ابن بطة في "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية"(ق145/2) وسنده ضعيف جداً، ومن ذلك يتبين أن ما في الأصل كأنه إضافة نقلاً عن ميرك شاه – انتهى. قلت: قال البوصيرى في زوائد ابن ماجه: في إسناد حديث أنس، أو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق، في كلها نظر، قاله شيخنا في تخريج أحاديث البيضاوي- انتهى. قلت أخرج الحاكم (ج1:ص115) وابن جرير كما في الكنز (ج1:ص53) وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (ص128) بغير سند عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، وقال: يدالله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)) . قال الحاكم: لو حفظ خالد بن يزيد القرني هذا الحديث لحكمنا له بالصحة، ثم بسط الاختلاف في سنده ومتنه، وعلى ذلك فكان ينبغي أن يلحق "الحاكم في المستدرك".
175-
(36) وعن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) رواه الترمذي.
176-
(37) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد)) رواه
…
ــ
175-
قوله: (يا بني) تصغير ابن لطفاً ومرحمة وشفقة. (أن تصبح وتمسي) أي تدخل في وقت الصباح والمساء، والمراد جميع الليل والنهار (وليس في قلبك) الجملة حال من الفاعل، تنازع فيه الفعلان أي وليس كائناً في قلبك (غش) بكسر الغين، وضد النصح الذي هو إراداة الخير للمنصوح له (لأحد) هو عام للمؤمن والكافر، فإن نصيحة الكافر أن يجتهد في إيمانه، ويسعى في خلاصة من ورطة الهلاك باليد واللسان. وبالتألف بما يقدر عليه من المال، قاله الطيبي. (فافعل) أي نصحيتك (وذلك) أي خلو القلب من الغش (من سنتي) أي طريقتي. قال الطيبي: قوله: "فافعل" جزاء كناية عما سبق في الشرط من المعنى إن فعلت ما نصحتك به فقد أتيت بأمر عظيم، ولهذا أشار بقوله "وذلك" للإشعار بأنه رفيع المنزلة، بعيد التناول (ومن أحب سنتي) الخ. كذا وقع في المشكاة من الإحباب في الموضع الثلاثة، وكذا في المصابيح، ووقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا "ومن أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة"، من الإحياء في المواضع الثلاثة، وهذا يدل على اختلاف نسخ الترمذي في هذا اللفظ، ويؤيد كونه من الإحباب ما ذكره في الكنز عزواً إلى السجزي في الإبانة بلفظ:((من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة)) . ومن أحب سنتي أي فعمل بها (فقد أحبني) أي حياً كاملاً؛ لأن محبة الآثار علامة محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي) أي معية متقاربة لا معية متحدة في الدرجة (في الجنة) فإن المرء مع من أحب. (رواه الترمذي) في العلم، وقال: في الحديث قصة طويلة، هذا حديث حسن غريب. وأخرجه أيضاً السجزى كما في الكنز (ج1:ص47) .
176-
قوله: (عند فساد أمتي) أي عند غلبة البدعة والجهل والفسق فيهم (فله أجر مائة شهيد) لما يلحقه من المشقة بالعمل بها وبإحيائها وتركهم لها، كالشهيد المقاتل مع الكفار لإحياء الدين بل أكثر. قال الطيبي: لم يقل إفسادهم لأنه أبلغ، كأن ذواتهم قد فسدت فلا يصدر منهم صلاح، ولا ينجع الوعظ فيهم، لا سيما إذا ظهر ذلك في العلماء منهم والمقتفين آثارهم، فإذن المجاهدة معهم أصعب وأشق من المجاهدة مع الكفار، ولذلك ضوعف أجر من جاهدهم على من جاهد الكفار أضعافاً كثيرة (رواه) بعده بياض في الأصل، والحديث أخرجه البيهقي في الزهد، وابن عدى في الكامل عن ابن عباس من رواية الحسن بن قتيبة الخزاعي المدائني. قال ابن عدى: أرجو أنه
177-
(38) وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال: ((إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولوكان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
ــ
لا بأس به. قال الحافظ: بل هو هالك. قال الدارقطني في رواية البرقاني: متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. وقال الأزدي: واهي الحديث. وقال العقيلي: كثير الوهم. كذا في لسان الميزان (ج2: ص246) قال المنذري: ورواه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد لا بأس به إلا أنه قال: "فله أجر شهيد"، ومن طريق الطبراني رواه أبونعيم في الحلية (ج8: ص200) وفيه عبد العزيز بن رواد، وفيه ضعف، ومحمود بن صالح العذري، قال الهيثمي (ج1: ص172) : ولم أجد من ترجمه.
177-
قوله: (إنا نسمع أحاديث) أي حكايات ومواعظ (من يهود) قال الأبهرى: غير منصرف للعلمية والتأنيث؛ لأنه يجرى مجرى القبيلة. وقيل: الأولى أن يقال: للعلمية ووزن الفعل؛ لأن أسماء القبائل التي ليست فيها تأنيث لفظي، يجوز صرفها حملاً على الحي، وعدم صرفها حملاً على القبيلة، ويهود لا يجوز فيها إلا عدم الصرف. (تعجبنا) بضم التاء وكسر الجيم أي تحسن عندنا، وتميل قلوبنا إليها. (أفترى) أي أتحسن لنا استماعها "فترى" يعني فتأذن. (أمتهوكون) أي متحيرون في الإسلام، لا تعرفون دينكم حتى تأخذوه من غير كتابكم ونبيكم (أنتم) للتأكيد (كما تهوكت اليهود والنصارى) أي كتحيرهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهوائهم ورهبانهم وأحبارهم. (لقد جئتكم بها) أي بالملة الحنيفية بقرينة الكلام (بيضاء) أي واضحة، حال من ضمير "بها". (نقية) صفة "بيضا" أي ظاهرة صافية خالصة، خالية عن الشرك والشبهة. وقيل: المراد بها أنها مصونة عن التبديل والتحريف والإصرار والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة، وأشار بذلك إلى أنه أتى بالأعلى والأفضل، واستبدال الأدنى بالأعلى مظنة التحير. وقال الطيبي:"بيضاء نقيه" حالاًن مترادفان من الضمير المفسر بالملة - انتهى. وإنما أنكر عليهم؛ لأن طلبهم يشعر بأنهم اعتقدوا نقصان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم. (ولو كان موسى حياً) الخ. أي إذا كانت هذه حالة موسى فيكف بكم؟ وأنتم تطلبون من هؤلاء المحرفين ما تنتفعون به. (ما وسعه) أي ما جاز له (إلا اتباعي) في الأقوال والأفعال فكيف يجوز لكم أن تطلبوا فائدة من قومه مع وجودي. (رواه أحمد)(ج3:ص387)(والبيهقي في شعب الإيمان) ، وفي سنده مجالد بن سعيد الهمداني، وفيه مقال. قال الحافظ: ليس بالقوى، وقد تغير في آخر عمره، إلا أن الحديث قد جاء عن غير مجالد، فتأيد به، فقد روي نحو عن ابن عباس عند أحمد وابن ماجه، وعن جابر عند ابن حبان، وعن عبد الله بن ثابت عند أحمد وابن سعد والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان.
178-
(39) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أكل طيباً، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اليوم لكثير في الناس. قال: وسيكون في قرون بعدي)) رواه الترمذي.
179-
(40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به
ــ
178-
قوله: (من أكل طيباً) أي حلالاً يعني من كان قوته حلالاً (وعمل في سنة) أي في موافقة سنة، يعني يكون متمسكاً في كل عمل بسنة، أي بحديث جاء في ذلك العمل. قال الطيبي:"سنة" نكرة وضعت موضع المعرفة لإرادة استغراق الجنس بحسب إفراده كما في قوله تعالى: ((ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [27:31] . وقد أكل الحلال لأنه مورث للعمل الصالح، كما قال تعالى: {كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} [23: 51] . (وأمن الناس بوائقه) البائقة الداهية، وهي المحنة العظيمة، والمراد هنا الشرور كالظلم والغش والإيذاء. (دخل الجنة) أي استحق دخولها دخولاً أولياً أي مع السابقين، أو بغير عذاب، وإلا فمن فم يعمل بالسنة ومات مسلماً يدخلها وإن عذب. (إن هذا) أي الرجل الموصوف المذكور (اليوم) ظرف مقدم لخبر "إن"(لكثير في الناس) بحمد الله، فما حال المستقبل؟ (وسيكون) أي هم كثيرون اليوم، وسيوجد من يكون بهذه الصفة (في قرون بعدي) قال التوربشتي: يحتمل أن الرجل قال ذلك حمداً لله تعالى وتحديثاً بنعمته، أي لا استفهاماً عن المستقبل، فقال"سيكون" في قرون بعدي، ليوقفه على أن ذلك غير مختص بالقرن الأول أي بهذا القرن. ويحتمل أنه فهم من قوله:"من أكل طيبا" الخ. التحريض على الخصال المذكورة، والزجر عن أضدادها، ووجد الناس يتدينون بذلك ويحرضون عليه، فخاف أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على خلاف ذلك في مستقبل الأمر منهم، فأحب أن يستكشف عنه، فقال هذا القول، فعرف صلى الله عليه وسلم منه ذلك، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله:"وسيكون في قرون بعدي" باختصر الكلام اعتماداً على فهم السامع، وتهويلاً للأمر المحذور عنه - انتهى. وقال صاحب اللمعات: معناه لا ينقطع الخيرعن أمتي قطعاً وإن تفاوتت الحال قلة وكثرة، فتنكير "قرون" للتقليل، ويحتمل التكثير لكثرته في نفسه، ويشبه أن يكون المراد القرون الموسومة بخير القرون، ولكن هذه الصفات ليست مخصوصة بهم- انتهى. (رواه الترمذي) في آخر الزهد، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، أي ابن موسى، عن هلال بن مقلاص، عن أبي بشر، عن أبي وائل، وعن أبي سعيد- انتهى. وأبوبشر هذا مجهول، قاله الحافظ في التقريب. والحديث أخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
179-
قوله: (إنكم) أيها الصحابة (في زمان) أي متصف بعزة الإسلام وأمن أهله. (من ترك منكم) أي فيه، وهو الرابط لجملة الشرط بموصوفها وهو "زمان"، (عشر ما أمربه) أي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ
هلك، ثم يأتي زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا)) رواه الترمذي.
180-
(41) وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ماضربوه لك إلا جدلاً
ــ
لا يجوز صرف هذا القول إلى عموم المأمورات؛ لأنه عرف من أصل الشرع أن أحداً من المسلمين لا يعذر فيما يهمل من الفرض الذي تعلق بخاصة نفسه، وإن كثر أهل الظلم وقل أهل الحق، هكذا قال التوربشتي وغيره. قيل: لعل هذا غير مناسب لباب التمسك بالكتاب والسنة، فلأنسب أن يحمل على أمور الندب من السنن والنوافل، وفيه بحث لأن الأمر بالمعروف لا يعرف إلا منهما، وأيضاً الهلاك لا يترتب على ترك الندب مطلقاً فضلاً عن عشره، قاله القاري. (هلك) أي وقع في الهلاك لظهور الحق، ومشاهدة المعجزات، ومظاهرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعزة الإسلام، وكثرة أنصاره بحيث لو تكلم شخص بالحق نصروه، وخذلوا من نازع، فالترك يكون تقصيراً منكم، فلا يعذر أحد منكم في التهاون، والأمر على ذلك (ثم يأتي زمان) يضعف فيه الإسلام، ويكثر الظلمة والفساق، وتشيع الفتن، ويتوارى الحق، ويقل أنصاره فيعذر المسلمون فيما أهملوه من هذا الباب لعدم القدرة. (من عمل منهم) أي من أهل ذلك الزمان (بعشر ما أمر به نجا) ؛ لأنه المقدور، {ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [285:2] . (رواه الترمذي) في أواخر الفتن، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن ابن عيينة- انتهى. ونعيم بن حماد هذا صدوق يخطيء كثيراً، كما في التقريب. وفي معنى الحديث روي عن أي ذر أخرج حديثه أحمد.
180-
قوله: (إلا أوتوا الجدل) أي أعطوه، وهو حال "وقد" مقدرة، والمستثنى منه أعم الأحوال، وذو الحال فاعل "ما ضل" لا الضمير المستتر الذي في خبر كان كما توهمه الطيبي، فإنه فاسد معنى، وإن كان الضمير المذكور راجعاً إلى فاعل "ما ضل" فليفهم، قاله السندي. والمعنى: ما كان وقوعهم في الضلالة إلا بسبب الجدال، وهو الخصام بالباطل، وضرب الحق به، وضرب الحق بعضه ببعض بإيداء التعارض والتدافع والتنافي بينهما، لا المناظرة لطلب الصواب مع التفويض إلى الله عند العجز عن معرفة الكنه. (ثم قرأ) أي توضيحاً لما ذكر بذكر مثال له، لا للاستدلال به على الخصم المذكور، فإنه لا يدل عليه. (ماضربوه) أي هذا المثل (لك إلا جدلاً) أي إلا لمخاصمتك، ولإيذائك بالباطل، لا لطلب الحق، فإن قلت: قريش ما كانوا على الهدى، فلا يصلح ذكرهم مثالاً. قلت: نزل تمكنهم منه بواسطة البراهين الساطعة منزلة كونهم عليه، فحيث دفعوا بعد ذلك الحق بالباطل، وقرروا الباطل بقولهم: آلهتنا خير أم هو؟ يريدون أنهم يعبدون الملائكة وهم خير من عيسى، وقد عبدوه النصارى، فحيث صح لهم عبادته صح لنا عبادتهم بالأولى، فصاروا مثالاً لما فيه الكلام. وقيل الأصح في معنى الآية أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه جادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98:21] لآلهتنا أي الأصنام خير عندك أم عيسى؟
بل هم قوم خصمون} )) روه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
181-
(42) وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} )) .
ــ
فإن كان في النار فلتكن آلهتنا معه، والجواب عن هذه الشبه بوجهين: الأول: أن "ما" لغير ذوي العقول فالإشكال نشأ عن الجهل بالعربية. والثاني: أن عيسى والملائكة خصوا عن هذا بقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} [101:21] . (بل هم) أي الكفار (قوم خصمون) أي كثير الخصومة. (رواه أحمد)(ج5:ص252، 256) ، (والترمذي) في تفسير سورة الزخرف، وقال: حديث حسن صحيح، (وابن ماجه) في السنة، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2: ص248) وصححه، ووافقه الذهبي وابن جرير والطبراني والبيهقي وغيرهم.
181-
قوله (لا تشددوا على أنفسكم) أي بالأعمال الشاقة كصوم الدهر، وإحياء الليل كله، واعتزال النساء لئلا تضعفوا عن العبادة، وأداء الحقوق والفرائض. (فيشدد الله عليكم) بالنصب جواب النهي، أي يفرضها عليكم فتقعوا في الشدة، أو بأن يفوت عليكم بعض ما وجب عليكم بسبب ضعفكم من تحمل المشاق، وقيل: المعنى لا تشددوا على أنفسكم بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين فيشدد الله عليكم، فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم، فتضعفوا عن القيام بحقه، وتملوا وتكسلوا، وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله. (فإن قوماً) أي من بني إسرائيل (شددوا على أنفسهم) بالعبادات الشاقة، والرياضات الصعبة، والمجاهدات التامة (فشددالله عليهم) بإتمامها والقيام بحقوقها. (فتلك) إشارة إلى ما في الذهن من تصور جماعة باقية من ذلك المشددين (بقاياهم) أي بقايا قوم شددوا على أنفسهم (في الصوامع) جمع صومعة بفتح الصاد والميم، وهي موضع عبادة الرهبان من النصارى. (والديار) جمع الدير بفتح الدال، وهو الكنيسة وهي معبد اليهود. (رهبانية) منصوب بفعل يفسره ما بعده، أي ابتدعوا رهبانية (ابتدعوها) أي أحدثوها من عند أنفسهم من غير أن تفرض عليهم أو تسن، والرهبانية بفتح الراء، وهي المبالغة في العبادة والرياضة، والإنقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان، وهو المبالغ في الخوف من الرهب، كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان جمع راهب، كركبان وراكب، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الإمتناع من المطعم، والمشرب والمنكح والملبس، وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا {ما كتبناها عليهم} أي ما فرضنا تلك الرهبانية عليهم وهي صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقررة لكونها مبتدعة من عند أنفسهم، والاقتصار على هذا يدل على
رواه أبوداود.
182-
(43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
ــ
أن الاستثناء فيما بعده، وهو قوله:{إلا ابتغاء رضوان الله} اسثناء منقطع، أي ما شرعناها لهم أصلاً، ولكنهم التزموها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله. {فما رعوها حق رعايتها} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، والثاني عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله تعالى، فكأن تركه وعدم رعايته حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وقيل:{فما رعوها حق رعايتها} أي فلم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وما قاموا حق القيام بها بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى، وضموا إليها التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا، وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وهم المرادون بقوله:{فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} أي الذي يستحقونه بالإيمان بعيسى وبمحمد {وكثير منهم فاسقون} [27:57] أي خارجون عن الإيمان بما أمروا به، وهم الذين كفروا بعيسى، وكذبوا محمداً وخالفوه. وقيل: الاستثناء متصل أي ما شرعناها لهم بشيء من الأشياء إلا لقصد رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرع لهم الترهب على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم، وتركوا ما نسخ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك اتباعاً للهوى لا اتباعاً للمشروع، ولذلك سمى ابتداعاً؛ لأنهم أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به، وإذا كانت العبادة مشروعة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها، وصارت بدعة، فيكون ترهب النصارى صحيحاً قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع، وهو عين البدعة، كذا حققه الشاطبي، وقد بسط الكلام في تفسير هذه الآية، من أحب الوقوف عليه رجع إلى كتابه الإعتصام. (رواه أبوداود) مطولاً في باب الحسد من كتاب الأدب، وسكت عليه هو والمنذري، وفيه سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، قال ابن القيم في كتاب الصلاة (ص475) : هو شبه المجهول، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: هو مقبول. والحديث أخرجه أيضاً أبويعلى في مسنده، وفيه أيضاً سعيد بن عبد الرحمن المذكور.
182-
قوله: (نزل القرآن) أي بطريق الإجمال (على خمسة أوجه) من وجوه الكلام (حلال) بالجزء، وهو بدل بعد العطف قبل الربط (ومتشابه) كالحروف المقطعة وأمثالها. (وأمثال) يعني قصص الأمم الماضية كقوم نوح وصالح وغيرهما. وقيل: الأظهر أن الأمثال مثل قوله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت}
فأحلوا الحلال، وحرموا الحرام، واعملوا بالمحكم، وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال)) . هذا لفظ المصابيح. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" ولفظه:((فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعواالمحكم)) .
183-
(44) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعه، وأمر بين غيه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فكله إلى الله عزوجل)) رواه أحمد.
ــ
[41:29]، ولذلك عقبه تعالى بقوله:{وتلك الأمثال نضربها للناس} [43:29] . (فأحلوا) بكسر الحاء أمر من الإحلال (الحلال) أي اعتقدوا حليته (وحرموا الحرام) أي اعتقدوا حرمته واجتنبوه (واعملوا بالمحكم) من الأمر والنهي (وآمنوا بالمتشابه) من غير أن تتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ومن غير اشتغال بكيفيته. (هذا) أي المذكور من الحديث المروي (لفظ المصابح، وروى البيهقي) أي معناه، وحذف هذا للعلم به (في شعب الإيمان، ولفظه) أي لفظ البيهقي (فاعملوا بالحلال) الخ. فيه نوع اعتراض من المصنف على صاحب المصابيح. وأخرج الحاكم (ج2:ص290، 289) عن ابن مسعود مرفوعاً بسند منقطع: ((كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)) .
183-
قوله: (الأمر) واحد الأمور، أي الشأن والحال في الأعمال التكليفية (ثلاثة) أي ثلاثة أنواع (امر) أي منها أمر، أو أحدها أمر (بين رشده) أي ظاهر صوابه، كأصول العبادات مثل وجوب الصلاة والزكاة، وكأصول العقائد من التوحيد والنبوة والمعاد (وأمر بين غيه) أي ضلالته كقتل النفس والزنا (وأمر اختلف فيه) بصيغة المجهول، أي اختلف الناس فيه من تلقاء أنفسهم من غير أن يبين الله ورسوله حكمه (فكله) أمر من وكل يكل (إلى الله عزوجل) أي فوض أمره إلى الله تعالى يعني ما علمت كونه حقا وصوابا بالنص فاعمل به، وما علمت بطلانه بالنص فاجتنبه، ومالم يثبت حكمه بالشرع فلا تقل فيه شيئاً، وفوض أمره إلى الله، مثل متشابهات القرآن، وأمور القيامة. قال الطيبي: قوله: "اختلف فيه" يحتمل أن يكون معناه اشتبه وخفى حكمه، ويحتمل أن يراد به اختلاف العلماء، أي والأدلة. وقيل: الأولى أن يفسر هذا الحديث بما ورد في آخر الفصل الثالث من حديث أبي ثعبلة الخشين. (رواه أحمد) . قال العلامة الألباني: لم أجد أحد عزاه إليه، وما أظنه في مسنده، وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير (ج1/323/2) لابن منيع، واسمه أحمد أيضاً بهذا اللفظ، وللطبراني في الكبير بلفظ "فكله إلى علمه"، قلت: وفي أوله عنده (ج3/97/2) أن عيسى بن مريم عليه السلام قال "إنما الأمور ثلاثة
…
وكذا أورده الهيثمي