الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- 3 -
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
حامداً ومصلياً ومسلماً
اعلم أن الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله قد قرر في المبحث السابع من كتابه "حجة الله البالغة" باعتبار فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة والاستنباط منهما والعمل بهما، مدرستين مستقلتين للتفكير: أهل الحديث، وأهل الرأي. فذكر في إحداهما فقهاء أهل الحديث من مؤلفي الصحاح الستة وغيرهم مع الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، كمجتهدي الأمة - ونسب رئاسة المدرسة الأولى إلى إبراهيم النخعي وأبي حنيفة وأصحابه. ثم قارن بين أصول استدلال المدرستين وطرق الاستنباط والتخريج لهما. وعلاوة على شرحه الأحاديث فيه شرحاً فقهياً، أرسخ قواعد حرية التفكير وسعة النظر باختياره طريقة المدرسة الثانية في شرحه لموطأ الإمام مالك، وترجمته "المسوى والمصفى" لتبقى الأمة المسلمة متحدة عملاً مع اختلافها فكراً ونظراً، متمشية على منهاج السلف الأول.
ثم روج الشاه ولي الله رحمه الله تدريس الصحاح الستة على طريقة أهل الحديث بجنب التأليف والتصنيف؛ لأن موضوع تلك الكتب جمع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة حيث يهتدى بها في جميع نواحي الحياة البشرية قاطبة. ثم من أعظم أوصافها وخصائصها أنها تحمل في طيها سعة النظر، وليس في جمع وتدوين أحاديثها ولا في تبويبها ولا في طرق الاستدلال والاستنباط منها تحديد واقتصار.
فيورد أصحابها كل ما روي من الأحاديث والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين، سواء كان دليلاً لطائفة أو عليها، لا يتعلق لهم بذلك غرض، فيعملون في ثبوت تلك المرويات والاحتجاج بها حرية التفكير والبحث التي تورث الذهن استعداد النقد المثمر البناء.
ولعل هذا هو السبب الأكبر في اختياره مسلك الفقهاء المحدثين أساساً لتوحيد صفوف الفرق المسلمة فكرياً وعملياً، وجعله موضوعاً لبعض مؤلفاته.
ولعله قد شعر بأنه قد ساد على العالم الإسلامي بعد القرن العاشر من الهجري عامة؛ إما الفقه الجامد أو القاصر، أو التصوف المتخشن المفضي إلى الإلحاد، وإن كان هناك شيء في المدارس باسم علوم الحديث فهو تابع للفقه المعاصر، ولم يكن يتعرض للروايات إلا في مجالس الوعظ والقصص بغض النظر عن رطبها ويابسها وصحيحها وسقيمها، أو لتأييد المذاهب الفقهية مهما كانت درجتها في الصحة والثبوت.
ولتحقيق أهداف الفقهاء المحدثين بدأ الشيخ ولي الله رحمه الله حركة تجديد عهد المحدثين، وسقى هذا النبت حفيده الشيخ إسماعيل الشيهد (م 1246هـ) ، ثم ترعرع بعده وأثمر هذا الشجر عند طبقة من المحققين الذين استفادوا منه، أعني بهم المحدث الكبير شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي (م 1320هـ) ، التلميذ الخاص للشاه محمد إسحاق (م 1262هـ) ، والسيد أباالطيب محمد صديق حسن خان (م 1307هـ) ، التلميذ الممتاز والمجاز للشاه محمد يعقوب (م 1282هـ) ، ابن بنت الشاه عبد العزير رحمه الله.
- 4 -
فالمحدث الدهلوي السيد نذير حسين رحمه الله نشر هذه الحركة المقدسة تدريساً، والسيد النواب رحمه الله قد أسهم فيها بتأليف الكتب الكثيرة والتزامه بطبع المؤلفات النافعة النادرة الوجود على حسابه الخاص وتوزيعها في العالم الإسلامي، {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} .
وألف السيد صديق حسن خان رحمه الله على أساس خطة التفكير الفقهي للشاه ولي الله رحمه الله في سنة 1278هـ شرحاً لبلوغ المرام باللغة الفارسية باسم "مسك الختام"، وفي سنة 1294هـ "عون الباري" شرح تجريد صحيح البخاري للشرجي، وفي سنة 1299هـ "السراج الوهاج" شرح تلخيص الصحيح لمسلم للمنذري. هذا بجنب طبعه لاستفادة أهل العلم وأصحاب التحقيق "نيل الأوطار" سنة 1297هـ، وفتح الباري سنة 1300هـ بالمطبعة الأميرية ببولاق (مصر) بمبالغ باهضة مع عنايته واهتمامه بترجمة كتب الصحاح الستة مع موطأ الإمام مالك وطبعها؛ ليستنير عامة الناس من أنوار علوم السنة رأساً وبدون واسطة.
ومن تلامذة المحدث الدهلوي العلامة الشيخ أبوالطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (م1329هـ) ألف "عون المعبود" شرح سنن أبي داود، والشيخ أبوالعلي محمد عبد الرحمن المباركفوري (م1352هـ) شرح الجامع للترمذي باسم "تحفة الأحوذي"، والشيخ محمد أبوالحسن السيالكوتي شرح صحيح البخاري باللغة الأردية في 30 مجلداً، وسماه فيض الباري، والشيخ عبد الأول الغزنوي الأمرتسري (م 1331هـ) بن محمد (1) بن العارف بالله الشيخ عبد الله الغزنوي - رحمهم الله تعالى - ترجم مشكاة المصابيح وعلق عليها وطبعها.
ومن مفاخر علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية أنه باهتمامهم فحسب طبع أول مرة عدة من كتب الحديث القيمة، أمثال: السنن للنسائي، والسنن للدارقطني، والتلخيص الحبير، وغيرها، وإنها لحقيقة ثابتة أن تلك المطبوعات هي التي يستفيد بها أصحاب التدريس والإفتاء وأهل التحقيق، فلله الحمد على ذلك.
وعلى كل حال فقد استمرت نهضة تجديد وإحياء السنة بكل قوتها وحيويتها بفضل مساعي جماعة أهل الحديث الهندية وجهودها العلمية والعملية، واستنارت بأشعة هذا النور العظيم أرجاء العالم الإسلامي النائية، واعترف عديد من أهل العلم والتحقيق في العالم الإسلامي في العهد الحاضر بسبق علماء أهل الحديث في الهند في ميدان نشر علوم السنة وطبع كتبها. فالشيخ العلامة رشيد رضا المغفور له يقدّر ويحسن جهودهم بما نصه: "ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر
…
" (مقدمة مفتاح كنوز السنة) .
ويمدحهم محقق آخر من مصر الشيخ عبد العزيز الخولي: "
…
ولا يوجد في الشعوب الإسلامية من وفى الحديث قسطه من العناية في هذا العصر مثل إخواننا مسلمي الهند، أولئك الذين وجد بينهم حفاظ للحديث، ودارسون لها على نحو ما كانت تدرس في القرن الثالث، حرية في الفهم، ونظر في الأسانيد، كما طبعوا كثيراً من كتبها النفيسة التي كادت تذهب بها يد الإهمال، وتقضي عليها غير الزمان....، وإن أساس تلك النهضة في البلاد الهندية أفذاذ أجلاء تمخضت بهم العصور الحديثة، وانتهجوا في تحصيل العلوم نهج السلف، فنبه شأنهم وعلا أمرهم وذاع صيتهم،
(1) المعلق على تفسير "جامع البيان" وناشر "المسوى والمصفى" الأول.
- 5 -
فكان لها الأثر الصالح والسبق الواضح، ومن أشهر هؤلاء الأعلام ولي الله الدهلوي صاحب التصانيف، أشهرها "حجة الله البالغة"، والسيد صديق حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف الكثيرة، ومن حسناته (يعني السيد حسن خان) طبع فتح الباري ونيل الأوطار وتفسير الحافظ ابن كثير
…
، طبعت هذه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر، فكانت من أنجح وسائل إحياء السنة
…
، وفي الهند الآن طائفة تهتدي بالسنة في كل أمور الدين، ولا تقلد أحداً من الفقهاء ولا المتكلمين وهي طائفة المحدثين".
…
(مفتاح السنة ص169) .
ومحقق آخر الشيخ محمد منير الدمشقي يبدي رأيه عن حركة إحياء السنة هذه بما يأتي: "وهي نهضة عظيمة، أثرت على باقي البلاد الإسلامية، فاقتدى بها غالب البلاد الإسلامية في طبع كتب الحديث والتفسير". (أنموذج من الأعمال الخيرية ص (468) .
ويكتب عن "السيد صديق حسن خان": "كم له من أيادٍ بيضاء في خدمة العلم والعلماء، وإن جحد فضله الحاسدون وضعفاء العقول المتصنعون". (أنموذج ص388) .
هذه هي حكاية ما أنجزه علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية من الأعمال الذهبية في سبيل إحياء السنة وتجديد نهضة الشاه ولي الله رحمه الله باختصار، ولو سلك مسلكه واختار منهجه العلماء المنتسبون إلى أسرته أيضاً لكان الوضع الديني لبلادنا مختلفاً تماماً عن الوضع الحالي.
وقد حدث - مع الأسف الشديد - أن طائفة من علماء أسرته قد ترك منهج تدريسه، وترويج علوم الحديث لبعض مصالحها الخاصة بعد وفاته بمدة لا تطول، ولا شك أن تلك الطائفة قد ساهمت في نشر الدين بجهود لا تنكر قيمتها، ولكنهم لم يرضوا بإعطاء علوم الحديث حظها من عنايتهم، فإنهم جعلوا نصب أعينهم عند الاشتغال بعلم الحديث مقاصد خاصة، مثل بعض سلفهم من المؤلفين وشراح الحديث، ودرسوا هذه الكتب التي أساسها على الاجتهاد، على طريقة أصحاب الرأي، معرضين عن منهج الشاه ولي الله رحمه الله، وزينت تلك الكتب بحواشٍ مفيدة ولكن غلبت عليهم العصبية الطائفية في شرح وتطبيق بعض الأحاديث وتعيين درجتها من الصحة والضعف.
ويبذل قصارى الجهد في إبعاد الطالب عن تأثير ما ورد في المواضع المختلف فيها من الكتاب، والتعليق يكون مخالفاً للمتن، والحديث المعارض للمذهب في نظر المحشي أو المدرس يعرض للتأويل والتوجيه، ولكن الذي حظي بالموافقة لمذهبهم يقبل من غير أن ينظر إلى مرتبته من الصحة والضعف، والغرض من هذا التكلف أن لا يتسع طلبة الحديث فكراً وصدراً بل ينحصروا في حصار خاص، ويتقيدوا بقالب معين، وإذا انبعث فيهم شعور بالنقد والتحقيق فلا يكون إيجابياً ومنتجاً بل سلبياً وجارحاً.
ولو طالع أحد حواشي وتعليقات من هو في الطبقة العليا من فقهاء الهند على كتب الحديث على سبيل المثال، لوجد لما ادعيناه في السطور الأولى أسساً ثابتة فيها، أعني بها حواشي الشيخ أحمد علي السهارنبوري (م1297هـ) على صحيح البخاري، والجامع للترمذي ومشكاة المصابيح، وحواشي الشيخ عبد الغني المجددي (م 1296هـ) ، والشيخ محمد التهانوي على سنن ابن ماجه وسنن النسائي، وحاشية النواب محمد قطب الدين الدهلوي (م 1289هـ) باللغة الأردية على مشكاة المصابيح.
- 6 -
واستمر على هذا المنهاج في التأليف والتدريس من جاء بعدهم عامة إلا من شاء الله منهم، ولا يخفى أن هذا الوضع قد يشوش أذهان طلاب الحديث، حيث يكون التعليق مخالفاً للمتن، ولذا شعرنا بحاجة إلى حواشي وتعليقات على كتب الأحاديث المتداولة بين المدارس الدينية في بلادنا تحل تلك المشكلة ولا تشوش بنفسها ذهن الطالب، بل تؤيد اتجاه أئمة الحديث وتوضحه، وروعي فيها المعايير المحايدة للمحدثين في الجرح والتعديل والبحث والتمحيص، ولوحظ فيها الأصول الفقهية للشاه ولي الله رحمه الله، واحترم فيها جميع السلف من المحدثين والفقهاء، بدون فرق بين مذهب ومذهب.
وتقع مسؤولية هذا العمل الجليل على عواتق علماء أهل الحديث في شبه القارة الهندية، وقد اعتنوا به شيئاً ما، فحواشي سنن ابن ماجه (1312هـ) ، وسنن أبي داود (1318هـ) للشيخ محمد بن نور الدين الهزاروي التلميذ الراشد للشيخ العلامة حسين بن محسن اليماني البهوبالي (م 1327هـ) طبعت في أصح المطابع بلكنؤ، وحاشية سنن النسائي للشيخ أبي عبد الرحمن محمد البنجابي (م 1315هـ) ، والشيخ أبي يحيى محمد الشاهجهانفوري (م1338هـ) تلميذي المحدث الدهلوي السيد نذير حسين، طبعت في المطبع الأنصاري بدلهي سنة 1315هـ، ويندرج تحتها تنقيح الرواة حاشية على المشكاة للشيخ السيد أحمد حسن الدهلوي (م1328هـ) تلميذ شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي رحمهم الله، ولكن جمعية أهل الحديث في شبه القارة الهندية قد تعرضت فيما بعد لحوادث - ليس هذا محل تفصيلها -، فتوقف هذا العمل الجليل من جرائها لفترة طويلة، ولكن كل فرد من أفرادها مازال يشعر بالحاجة إليه.
ــ
والغرض من إطالة هذه الحكاية الممتعة للمسامع إزاحة الستار عما يكمن وراء الحوار، والمحادثات والمقترحات التي كانت تمتد إلى ساعات طويلة بيني وبين صديقي المغفور له الحافظ محمد زكريا، وقد لقيته إبان الحرب العالمية الثانية - كما أذكر - حينما كنت مقيماً ببلدة فيروزبور (البنجاب الشرقي) للتدريس والخطابة، وقد كثرت اللقاءات، ووحدة الذوق والفكر دائماً يحدونا إلى اللقاء والمحادثة، وأكبر همنا كان التخطيط لإحياء نهضة سلفنا - عمل نشر علوم الحديث - من جديد.
ــ
وعلى بعد 30 ميلاً من المدينة الصناعية لائل بور (البنجاب الغربي) وفي ناحيتها الغربية الجنوبية تقع قرية تسمى "جهوك دادو طور"، يسكنها العالم الرباني الشيخ محمد الباقر، تلميذ المحدث الحافظ عبد المنان الوزير آبادي (م 1334هـ) ، والمستفيض من علوم ومعارف الشيخ عبد الجبار الغزنوي (م1332هـ) - رحمهما الله وغفر لهما -، وصديقنا المرحوم الحافظ محمد زكريا كان أكبر أولاده، وقد ولد في نفس القرية سنة 1332هـ غالباً -، غيب القرآن وتعلم اللغة الأردية في بيته، وقرأ مبادئ اللغة العربية في قرية قريبة من مديرية شيخوبورة، وأقام مدة يسيرة بمدرسة تقوية الإسلام أمرتسر - البنجاب -، ثم ارتحل إلى كوجرانواله وتتلمذ على الشيخ العلامة الحافظ محمد - حفظه الله ونفع بعلومه -، والشيخ محمد إسماعيل رحمه الله، وقرأ عليهما الصحاح الستة وغيرها من كتب الحديث والعلوم، وحصل منهما الشهادة والإجازة، وبما أنه كان يميل إلى الكتابة والتأليف ونشر الكتب - وهذا هو وجه الرابطة بيني وبينه لأني أيضاً كنت أميل إليه من بدء شعوري - فترجم رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"والوابل الصيب" لابن القيم - رحمهما الله - إلى اللغة الأردية، وطبعها على رغبتي ومشورتي، ثم
- 7 -
شرح "زرادي" بالأردية، وسماه "الهادي"، وكذلك طبع مقالتي الوجيزة "الإمام الشوكاني" في سنة 1364هـ، وعلاوة عليها ترجم رسالة للرازي "عصمة الأنبياء"، وشرح كتاب "أبواب الصرف" للشيخ الحافظ محمد اللكهوي، ولم يطبعا بعد.
ولكن واحسرتاه! هذا الشاب الطويل القامة النحيف الجسم، المليء بالعلم والذوق السليم كان مصاباً بمرض المعدة، وازداد مرضه تدريجاً حتى قضى على حياته، وتوفاه الأجل المحتوم في آخر شوال سنة 1368هـ، الموافق أغسطس سنة 1949م - إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد توفي والده الشيخ محمد الباقر أيضاً.
وبعد انقسام شبه القارة إلى الدولتين: الهند والباكستان عام 1366هـ الموافق لعام 1947م هاجرت من فيروزبور الهند إلى باكستان، ولقاء صديقنا هناك كان أمراً طبيعياً، وشعرنا بأنه قد حان موعد تعبير الأحلام التي كنا نحلم بها - وكانت المقترحات والمشورات والمشاريع السابقة مواضيع لقاءنا -، فقررنا إحياء مشروع سلفنا بتحشية وطبع كتب الحديث وما يتعلق بها، وأن نبدأ العمل بمشكاة المصابيح، وطلب مني التعليق عليه فاعتذرت بعدم استعدادي له، وعرضت عليه اسم فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري - حفظه الله وبارك في حياته ونفع بعلومه -، فوافق عليه والتمس هو من الشيخ الرحماني المباركفوري - حفظه الله - بالقيام لهذه الخدمة الجليلة الشأن، فقبل الشيخ اقتراحنا بكل بشاشة وفرح، ولكن قدر مدة تكميل العمل بأربع سنوات على الأقل، وبدأ العمل في 1367هـ الموافق 1947م.
ــ
وكنت قد انتقلت ذاك الوقت على طلب مخدومنا الشيخ العلام السيد محمد داود الغزنوي رحمه الله إلى مدرسته تقوية الإسلام في لاهور؛ لأقوم بخدمة التدريس فيها، ونزل الصديق الحافظ محمد زكريا لطباعة بعض الكتب لاهور، وأقام عندي عدة شهور، وشعرنا بأنه لا ينبغي الانتظار لتكميل حاشية المشكاة، بل لابد من بدء عمل آخر، فقررنا طبع سيرة المحدث الدهلوي السيد نذير حسين رحمه الله "الحياة بعد المماة" طباعة ممتازة أنيقة.
وبما أنه كان لا يوجد في ذاك الوقت سنن أبي داود في المكاتب فصممنا على طبعه بتعليق جديد، وبدأت بتأليف "فيض الودود" تعليق سنن أبي داود على إلحاحه، واعتنى هو لتسيير العمل بمساعدة مالية، وفي أثنائه غادر هو لاهور إلى بيته واشتد مرضه، وبعد أيام جاء نعي وفاته المؤلم، اهتز له كل من كان يعرفه، وخاصة كاتب هذه السطور، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} .
ــ
ومكتبتي التي ضاعت بفيروز بور قد أسستها من جديد بلاهور - باسم المكتبة السلفية، وعمل تأليف فيض الودود تعليق سنن أبي داود، وإن لم يتعدّ على جزئين فقط، ولكن لم تمض فترة إلا أن قيض الله سبحانه وتعالى أسباباً لا نتوقعها لتأليف وطبع كتاب عظيم "التعليقات السلفية على سنن النسائي" في غضون أربع سنوات تحت إشراف وعناية المكتبة السلفية، {وهذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} .
وبعد سنة فصاعداً قد علمنا بأن فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني قد أرسى قواعد شرح جليل لمشكاة المصابيح بدل تعليق بسيط عليه، وأكمل الجزء الأول منه وأرسله إلينا للطبع، وإنها لحقيقة أننا ما كنا مستعدين له في ذاك الوقت؛ لأن جمعية قرية صغيرة ما كانت تستطيع أن تتحمل نفقات الطبع الباهضة، ثم الموانع والمشاكل في كل مرحلة حالت دون
- 8 -
طبعه، ولكن الله تعالى بفضله وكرمه أزال جميع الموانع، ووفق عبداً ضعيفاً من عباده أن يوفي بما عهد به صديقه، وذلك من ثمرات إخلاص المغفور له، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
وهل يخفى على أحد الحاجة إلى شرح مفصل للمشكاة؟ ولا شك في أن شرح شيخ مؤلف المشكاة العلامة حسين بن محمد الطيبي (م743هـ)"الكاشف عن حقائق السنن" يعدّ من أحسن الشروح له، لكنه لم يطبع بعد، ويتبعه مرتبة المرقاة لملا علي بن سلطان محمد القارئ (م1014هـ) ، واللمعات للشيخ عبد الحق الدهلوي (م1052هـ) ، وهما شرحان جيدان من حيث جمع المواد المتعلقة بإيضاح المطالب وغيره، ولكن التزم فيهما تمثيل مدرسة خاصة في الفقهيات، ثم إنهما لا يشفيان غليل الباحث في باب تخريج ونقد الأحاديث مع أن الحاجة إليه شديدة في شرح المشكاة خاصة بالفصل الثالث منه. ونظراً إلى ذلك فقد حبذنا عمل فضيلة الشيخ عبيد الله الرحماني بكل سرور وانشراح، فإن الله تعالى قد هيأ أسباباً لملأ فراغ كبير في هذا الباب.
ونحمد الله على إحسانه وكرمه أن مرعاة المفاتيح يعدّ شرحاً عديم النظير غير مسبوق به بما يمتاز به من الأوصاف والخصائص، يحتوي بما في الشروع السابقة ويذكرنا القرن العاشر في باب التحقيق مصداقاً لـ"كم ترك الأول للآخر".
وإن هذا الكتاب لا يفي بحاجة المرقاة واللمعات فحسب، بل يغني عن كثير من الكتب في باب تخريج الأحاديث وتنقيحها - إن شاء الله -، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفق الشارح لتكميل هذا العمل، وينعم عليه بحسن القبول والإفادة العامة.
والحاجة إلى تعليق على المشكاة التي لمسناها لغرض خاص باقية حتى الآن، ولا ندري من يوفق له ومتى؟ والحاشية شبه الشرح للمشكاة "تنقيح الرواة في تخريج أحاديث المشكاة" التي مر ذكرها فوق قد طبع نصفها الأول قبل مدة طويلة، وقد عثرنا على أوراق نصفها الأخير هذه الأيام، ولكنها في حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها، بل شيء من آخرها مخروم ويحتاج إلى كتابتها من جديد، ومن أماني المشرفين على المكتبة السلفية بلاهور طبعها ونشرها في أقرب فرصة.
ولا نزال نلمس الحاجة إلى مشكاة مترجمة تحتوي على مقتضى القديم والحديث مع ترجمتها الموثوق بها، وقد استكمل ترجمة نصفها الأول الشيخ محمد إسماعيل على اقتراح كاتب هذه السطور، ستكون هذه المشكاة المترجمة عديمة النظير إن شاء الله.
ولا يخفى على أحد أن إشاعة ونشر تفسير القرآن الكريم في ضوء الأحاديث والآثار وعلوم الحديث خالصة من واجبات جماعة أهل الحديث التي تمتاز بها، وقد أدى هذا الواجب أسلافها في الماضي القريب بأحسن وجه، وإن العصر الذي نعيش فيه مليء بالمخاطر، والحاجة ماسة إلى دفع مهاجمات ومهاترات المنكرين لحجية الحديث والمتخبطين في ملتويات التأويل والتوجيه، وعمل أصحاب الحديث وأنصاره أضعف بكثير وأبطأ بإزاء دعاية تلك القوى المعارضة، فهل من سبيل لمقاومة هذا السيل العارم، فهل ينظرون في سبيل مقاومة هذا الاتجاه الزائف؟
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
(أبوالطيب محمد عطاء الله حنيف - كان الله له) .