المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(1) باب الكبائر وعلامات النفاق ‌ ‌{الفصل الأول} 49- (1) عن عبد الله - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: ‌ ‌(1) باب الكبائر وعلامات النفاق ‌ ‌{الفصل الأول} 49- (1) عن عبد الله

(1) باب الكبائر وعلامات النفاق

{الفصل الأول}

49-

(1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب

ــ

(باب الكبائر) جمع كبيرة، اعلم أنه ذهب الجمهور من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى أن من الذنوب كبائر ومنها صغائر، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب كقوله تعالى:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [4:31]، وقوله تعالى:{والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} [53:32] وغير ذلك من الآيات، والسنة الصحيحة كالأحاديث التي دلت على انقسام المعاصي إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة الثابتة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح:((ما لم يغش كبيرة)) . وشذت طائفة فقالت: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ثم اختلف الجمهور في ضبط الكبيرة اختلافاً كثيراً، فقيل كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل ما وجبت فيه الحدود في الدنيا أو توجه إليها الوعيد بالنار في الآخرة، ومراد قائله: ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقيل الأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعاراً دون الكبائر المنصوص عليها. والراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب في الآخرة أو ختم بالغضب أو اللعنة أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه أو وصف فاعلها بالفسق فهو كبيرة. وذهب جماعة إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها كبيرة لا ضابط لها. قال الواحدى: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفاء أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم. هذا، وارجع للتفصيل إلى شرح مسلم للنووي في باب الكبائر من كتاب الإيمان، والفتح (ج5: ص526) في شرح باب عقوق الوالدين من الكبائر من أبواب الأدب، وفي شرح باب رمى المحصنات من كتاب المحاربين (ج6: ص383) والزواجر للهيتمي، والإحياء للغزالي (وعلامات النفاق) تخصيص بعد تعميم.

49-

قوله: (عن عبد الله بن مسعود) بن غافل بن حبيب الهذلي، يكنى أباعبد الرحمن، أسلم قديماً في أول الإسلام قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل عمر بزمان، وقيل: كان سادساً في الإسلام، ثم ضمه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من خواصه، وكان يعرف في الصحابة بصاحب النعلين والسواك والسواد والطهور، هاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها، وصح عنه أنه قال: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة. وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في سمته ودله وهديه، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد حسن جيد. كان من كبار العلماء من الصحابة شهد فتوح الشام وولي القضاة بالكوفة وبيت مالها لعمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم صار إلى المدينة فمات بها

ص: 121

أكبر عند الله؟ قال: ((أن تدعو لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) .

ــ

سنة (32) ودفن بالبقيع، وله بضع وستون سنة. مناقبه وفضائله كثيرة جداً، بسط ترجمته الحافظ في الإصابة (ج2 ص370، 368) وابن عبد البر في الاستيعاب. روى ثمان مائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً، اتفقا على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين. روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (أي الذنب أكبر) وفي رواية أعظم (أن تدعو) أي تجعل كما في رواية وكقوله تعالى:{لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} [2:22](نداً) بكسر النون أي شريكا ونظيراً، والند في اللغة: المثل المناوي: أي المماثل المخالف المضاد المعادي، من ند ندوداً إذا نفرا، وناددت الرجل أي خالفته، خص بالمخالف في الأفعال والأحكام المماثل في الذات والصفات، كما خص المساوي للمماثل في القدر والشكل فيما يشارك في القدر والمساحة، والشبه فيما يشارك في الكيفية، والمثل عام في جميع ذلك، والضد أحد المتقابلين لا يمكن اجتماعها (وهو خلقك) أي وغيره لا يستطيع خلق شيء، فوجود الخلق يدل على الخالق، واستقامة الخلق تدل على توحيده، إذ لو كان المدبر اثنين لم يكن على الاستقامة. والجملة حال من الله أو من فاعل " أن تدعو"، أي والحال أنه انفرد بخلقك ولم يخلقك غيره، ولم يقدر على أن يدفع السوء والمكاره منك غيره، بل لله عليك الأنعام بما لا تقدر على عده. وفي الخطاب إشارة إلى أن الشرك من العالم بحقيقة التوحيد أقبح منه من غيره، (قال ثم أي) استفهام بالتنوين بدل من المضاف إليه لكن يحذف التنوين وقفاً بمعنى: أي شيء من الذنوب أكبر بعد الشرك، فثم لتراخي الرتبة (أن تقتل ولدك) أي الذي هو أحب الأشياء عند الإنسان عادة، ثم الحامل على قتله خوف أن يأكل معك، وهو في نفسه من أخس الأشياء، فإذا قارن القتل سيما قتل الولد سيما من العالم بحقيقة الأمر كما يدل عليه الخطاب زاد قبحاً على قبح. (خشية) منصوب على أنه مفعول له (أن يطعم) بنصب أوله (معك) بخلا مع الوجداًن أو إيثاراً لنفسه عليه عند الفقد، ولا اعتبار بمفهومه لأنه خرج مخرج الغالب لأنهم كانوا يقتلونهم لأجل ذلك، وهو معنى قوله:{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [17:31] أي فقر. (أن تزاني حليلة جارك) الحليلة بالحاء المهملة، وهي زوجته من حل يحل بالكسر، لأنها تحل له، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، أو من حل يحل بالضم حلولاً؛ لأنها تحل معه في فراش واحد. قال النووي: ومعنى "تزاني" أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش، وهو مع امرأة الجار أشد قبحاً وأعظم جرماً؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منهما على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح - انتهى. والحاصل أن هذه الذنوب أي الإشراك بالله والقتل

ص: 122

فأنزل الله تصديقها ((والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون - الآية)) متفق عليه.

50-

(2) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق

الوالدين،

ــ

والزنا في ذاتها قبائح أي قبائح، وقد قارنها من الأحوال ما جعلها في القبح بحيث لا يحيطها الوصف. وقال القاري: حاصل القيود من الند والولد والجار كمال تقبيح هذه الأصناف من هذه الأنواع لا أنها قيود احترازية. (فأنزل الله تصديقها) أي تصديق هذه المسألة أو الأحكام، ونصبه على أنه مفعول له أي أنزل الله هذه الآية تصديقاً لها {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} هذا من جملة الأخبار عن المبتدأ المتقدم وهو "عباد الرحمن"{ولا يقتلون النفس التي حرم الله} أي قتلها (إلا بالحق) كالرجم والردة والقصاص، والمعنى: لا يقتلون نفس غير الحربي بوجه من الوجوه إلا بالحق، فهو استثناء مفرغ (الآية) وهي بتمامها في سورة الفرقان. فإن قلت: القتل والزنا في الآية مطلقان، وفي الحديث مقيدان. قلت: لأنها بالقيد أعظم وأفحش، ولا ما نع من الاستدلال لذلك بالآية. وقال القاري: في كون هذه الآية مصدقة للحديث دليل واضح لما تقدم من أن المقصود من الحديث إنما هو بيان مطلق الزنا والقتل، وأن ذكر الولد والخشية وحليلة الجار لبيان زيادة الفحش والتشنيع والتفضيح أو رعاية لحال السائل لا للتقييد، وإلا لم تكن الآية الدالة على أكبرية القتل والزنا لا بقيد مطابقة للحديث حتى تصدقه، بل كان الحديث مقيداً لها. والحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة والفرقان وفي الأدب وفي المحاربة وفي التوحيد، ومسلم في الإيمان، والترمذي في تفسير سورة الفرقان، والنسائي في المحاربة. واعلم أنه لم يقع في كثير من النسخ المطبوعة في الهند، وفي النسخة التي طبعت على حاشية المرقاة عزو الحديث لأحد من مخرجيه من أئمة الحديث. والظاهر أنه سقط لفظ " متفق عليه" من تلك النسخ أو لم يكن موجوداً في أصولها، والصواب وجود هذه اللفظة لوقوعها في النسخ المخطوطة التي ذكرها الشيخ أبوبكر زهير شاويش في مقدمته، ولما أنها ضبطها القاري في شرحه للمشكاة، وكانت عنده عدة نسخ مصححة مقروءة مسموعة معتمدة، أخذ من مجموعها أصلاً وصححه منها، وضبط في شرحه على ما ذكره في أول الشرح.

50-

قوله: (الكبائر) المراد به أكبر الكبائر لما في رواية عند أحمد: من أكبر الكبائر، ولحديث عبد الله بن أنيس عند الترمذي بسند حسن مرفوعاً قال: من أكبر الكبائر

فذكر منها: اليمين الغموس، ولحديث ابن مسعود المتقدم، فإنه جعل فيه الشرك بالله أكبر الذنوب، ولحديث أنس عند البخاري في الديات وفيه: أكبر الكبائر

الحديث. (الإشراك بالله) أي اتخاذ إله غير الله، المراد به مطلق الكفر، وتخصيص الشرك بالذكر لغلبته في الوجود لاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهاً على غيره من أصناف الكفر (وعقوق الوالدين) بضم العين المهملة أي عصيان أمرهما وترك

ص: 123

وقتل النفس. واليمين الغموس)) ، رواه البخاري.

51-

(3) وفي رواية أنس ((وشهادة الزور)) بدل اليمين الغموس، متفق عليه.

52-

(4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات،

ــ

خدمتها، مشتق من العق وهو الشق والقطع، والمراد به: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في الشرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد. وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلاً وتركاً، واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين. ثم اقترانه بالإشراك لما بينهما من المناسبة، إذ في كل قطع حقوق السبب في الإيجاد والإمداد، وإن كان ذلك لله حقيقة وللوالدين صورة، ونظيره قوله تعالى:{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} [4:36] . وقوله: {أن أشكر لي ولوالديك} [14:31] . (وقتل النفس) أي بغير حق (واليمين الغموس) أي الكاذبة، بفتح الغين المعجمة وضم الميم الخفيفة، وهو الحلف على ماضٍ متعمداً للكذب، بأن يقول: والله ما فعلت كذا أو فعلت كذا، وهو يعلم أنه ما فعله، أو أنه فعله، أو أن يحلف كاذباً متعمداً ليذهب مال غيره، سمي غموساً لأنه يغمس أي يدخل صاحبه في الإثم ثم في النار. وقيل في الكفارة بناءً على مذهب الشافعية (رواه البخاري) في الإيمان والنذور وفي الديات وفي استتابة المعاندين والمرتدين، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في التفسير، والنسائي في المحاربة.

51-

قوله: (وفي رواية أنس) خبر مقدم، والمبتدأ قوله (وشهادة الزور) بضم الزاي أي الكذب، وسمي زوراً لميلانه عن جهة الحق. قال الحافظ: ضابط الزور وصف الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل، وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل ومنه "لابس ثوبي زور"، ومنه تسمية الشعر الموصول زوراً. (بدل اليمين الغموس) منصوب على الظرفية، وعامله معنى الفعل الذي في "وفي رواية أنس"، "واليمين" بالرفع حكاية، وبالجر عملاً بالإضافة. قيل: ولعل اختلاف أنس لابن عمرو لاختلاف المجلس، أو نيسان كل منهما، والله أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الشهادات والأدب والديات، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً الترمذي، والنسائي.

52-

قوله: (اجتنبوا السبع) أي احذروا فعلها وابعدوا عنها (الموبقات) بموحدة مكسورة وقاف، أي المهلكات جمع موبقة. سميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب، والمراد بها الكبائر، كما ثبت في روايات وأحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في شرح باب رمي المحصنات، وفي أواخر المحاربين. والتنصيص على عدد لا ينفي غيره وإلا فهي إلى السبعين أقرب، روي ذلك عن ابن عباس، وهو محمول على المبالغة بالنسبة إلى من اقتصر على سبع. وقيل في الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع أنه علم أولاً

ص: 124

قالوا: يارسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) ،

متفق عليه.

53-

(5) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) .

ــ

بالمذكورات ثم علم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل أو من وقعت له واقعة، ونحو ذلك. (الشرك بالله) أي جعل أحد شريكا لله تعالى، قال المناوي: أكبر الكبائر وأعظمها: الشرك ثم القتل ظلماً، وما عدا ذلك يحتمل أنه في مرتبة واحدة، فإن الواو لا تقتضي الترتيب، ويقال في كل واحدة: إنها من أكبر الكبائر - انتهى. بزيادة يسيرة. (والسحر) بكسر السين وسكون الحاء المهملتين، وهو أمر خارق للعادة صادر عن نفس شريرة، والذي عليه الجمهور أن له حقيقة تؤثر بحيث تغير المزاج. قال النووى: عمل السحر حرام، ومنه ما يكون كفراً ومنه ما لا يكون كفراً بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، وفي حكم السحر ومتعلقاته اختلاف كثير وتفاصيل ومباحث ارجع لها إلى تفسير الفخر الرازي، وأحكام القرآن للجصاص الرازي، والفتح للحافظ. (إلا بالحق) أي بفعل موجب للقتل شرعاً. (وأكل الربا) أي تناوله بأي وجه كان (وأكل مال اليتيم) أي بغير حق (والتولي) بكسر اللام أي الإدبار للفرار (يوم الزحف) أي يوم القتال في الجهاد، و"الزحف" بفتح الزاي وسكون الحاء اسم للجماعة التي يزحفون إلى العدو أي يمشون إليهم بمشقة، من زحف الصبي إذا دب على إسته. وقيل: سمي به لكثرته وثقل حركته كأنه يزحف. وقيل: اسم لجيش الكفار سموا بذلك لكثرة زحفهم على المسلمين، سموا بالمصدر للمبالغة. وإنما يكون التولي كبيرة إذا لم يزد عدد الكفار على مثلى المسلمين إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة. (وقذف المحصنات) أي الحرائر العفيفات، يعني رميهن بالزنا، جمع محصنة بفتح الصاد أي التي أحصنها الله من الزنا، وبكسر الصاد أي التي حفظت فرجها من الزنا (المؤمنات) احتراز عن قذف الكافرات، فإن قذفهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر ولا يوجب الحد، وفي قذف الأمة المسلمة التعزير دون الحد، وإذا كان المقذوف رجلاً يكون القذف أيضاً من الكبائر، ويجب الحد أيضاً، فتخصيصهن لمراعاة الآية والعادة (الغافلات) عن الفواحش وما قذفن به، كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا، وأما غير الغافلات عن الفواحش فلا يحرم قذفهن إن كن معلنات. قال القاري: والغافلات مؤخر عن المؤمنات في الحديث عكس الآية على ما في النسخ المصححة، ووقع في شرح ابن حجر بالعكس وفق الآية (متفق عليه) . وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي.

53-

قوله: (لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الواو للحال، وظاهره دليل على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن كما قالت الخوارج والمعتزلة، خلافاً لأهل السنة فأوله بوجوه جمعاً بينه وبين الدلائل من الكتاب والسنة.

ص: 125

ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم وإياكم)) ،

ــ

الصحيحة التي تدل على أن أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم المؤمنون ناقصوا الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة. فمن الوجوه التي أول أهل الحق الحديث بها أن المراد المؤمن الكامل في إيمانه. ومنها أن معني نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله؛ لأن الإيمان مشتق من الأمن. ومنها أن المراد بالمؤمن المطيع لله، يقال: آمن له، إذا انقاد وأطاع. ومنها أنه محمول على الزجر والوعيد للتنفير عنه. ومنها أنه محمول على الإنذار لمرتكب هذه الكبائر بسوء عاقبة الأمر، إذ مرتكبها لا يؤمن عليه أن يقع في الكفر الذي هو ضد الإيمان. ومنها أن المراد أن الإيمان إذ زنى الرجل خرج منه، وكان فوق رأسه مثل الظلة، فإذا انقطع رجع إليه. ومنها أن معنى مؤمن مستحي من الله؛ لأن الحياء شعبة من الإيمان، فلو استحى منه واعتقد أنه ناظر لم يرتكب هذا الفعل الشنيع، قاله الطيبي. ومنها أن صيغ الأفعال وإن كانت واردة على طريق الإخبار فالمراد منها النهي، ويشهد له أنه روي " لا يزن" بحذف الياء " ولا يشرب" بكسر الباء. ومنها أنه محمول على من فعله مستحلاً مع عمله بتحريمه. ومنها أن معنى نفي كونه مؤمنا: أنه شابه الكافر في عمله، وموقع التشبيه أنه مثله في جواز قتاله في تلك الحالة ليكف عن المعصية، ولو أدى إلى قتله، فإنه لو قتل في تلك الحالة يكون دمه هدراً، فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة. ومنها أن معناه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة. ومنها أن معنى " وهو مؤمن" أي مصدق بالعقاب عليه، إذ لو كان معه تصديق بالعقاب ما وقع في الذنب. وارجع لمزيد البسط والتوضيح إلى الفتح في أول الحدود. (ولاينتهب) انتهب ونهب إذا أغار على أحد وأخذ ماله قهراً (نهبة) بالضم. المال الذي ينهب جهراً قهراً ظلماً لغيره، فهو مفعول به، وبالفتح مصدر (يرفع الناس) صفة "نهبة"(إليه) أي إلى الناهب (فيها) أي لسببها ولأجلها أو في حال فعلها أو أخذها (أبصارهم) أي تعجباً من جرأته أو خوفاً من سطوته، أي يتضرعون لديه ولا يقدرون على دفعه، أو هو كناية عن عدم التستر بذلك فيكون صفة لازمة للنهب بخلاف السرقة فإنه يكون خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجرأة وعدم المبالات، ولم يذكر الفاعل في الشرب وما بعده ففيه كما قال ابن مالك: حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: لا يشرب الشارب

الخ، كقوله تعالى:{ولا يحسبن الذين قتلوا} [3:168] في قراءة هشام أي حاسب - انتهى. ولا يرجع الضمير إلى الزاني لئلا يختص به، بل هو عام في كل من شرب وكذا في الباقي، ويجوز أن يكون في كل منهما ضمير مستتر يعود إلى مؤمن (ولا يغل أحدكم) الغلول الخيانة أو الخيانة في الغنيمة، والغل الحقد، ومضارع الأول بالضم، وهو المراد، والثاني بالكسر (حين يغل) أي يسرق شيئاً من غنيمة أو يخون في أمانة (فإياكم إياكم) نصبه على التحذير،

ص: 126

متفق عليه.

54-

(6) وفي رواية ابن عباس: ((ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن)) . قال عكرمة: قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه، وقال أبوعبد الله: لا يكون هذا مؤمناً تاماً، ولا يكون له نور الإيمان، هذا لفظ البخاري.

ــ

والتكرير للتوكيد والمبالغة، أي أحذركم من فعل هذه الأشياء المذكورة. (متفق عليه) إلا قوله:((ولا يغل)) فإنه من إفراد مسلم، والحديث أخرجه البخاري في المطاعم والأشربة والحدود والمحاربين، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أيضاً الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد.

54-

(وفي رواية ابن عباس) أي في حديثه زيادة، وحديث ابن عباس هذا، أخرجه البخاري في المحاربين وفي الحدود (ولا يقتل) أي القاتل مؤمناً بغير حق (قال عكرمة) بكسر أوله وسكون الكاف وكسر الراء المهملة، هو عكرمة أبوعبد الله المدني مولى ابن عباس، أصله بربري، وهو أحد الأئمة الأعلام وأحد فقهاء مكة وتابعيها. قال في التقريب: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، من أوساط التابعين، مات بالمدينة سنة (107) وقيل غير ذلك، وله ثمانون سنة، روى عنه خلق كثير. وبسط ترجمته الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7: ص263،273) من أحب البسط والتفصيل رجع إليه. (كيف ينزع) بضم الياء وفتح الزاي المعجمة (الإيمان منه) عند ارتكابه هذه الكبائر (قال: هكذا) أي تفسيره (وشبك) أو قال هكذا وفعل التشبيك، يعني جمع بين قوله "هكذا" وفعل التشبيك (ثم أخرجها) تعبير للأمر المعنوي بالمدرك الحسي تقريباً للفهم (فإن تاب) أي رجع المرتكب عن ذلك وأقلع (عاد إليه) الايمان، قيل: أي كماله ونوره، وجاء مثل ما قاله ابن عباس مرفوعاً، فقد أخرج أبوداود، والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة:((إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)) . وعند الحاكم عنه أيضاً مرفوعاً: ((من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان قميصه عن رأسه)) . وأخرج الطبري عن ابن عباس مرفوعاً: ((من زنى نزع الله منه نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرد إليه رده)) ، (وقال أبوعبد الله) أي الإمام البخاري في تأويل الحديث:(لايكون هذا مؤمناً تاماً) أي كامل الإيمان (ولايكون له نور الإيمان) أي كماله، بل يقع في إيمانه نقصان أي نقصان، والحاصل أن الإيمان: تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. ونوره أي كماله الأعمال الصالحة واجتناب المنهيات، فإذا أخلَّ بالعمل أو ارتكب معصية مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة ذهب نوره، وزال كماله، وبقي صاحبه في الظلمة. (هذا لفظ البخاري) أي هذا التأويل الذي ذكرناه نقلاً عن البخاري هو عن لفظ البخاري لا معناه. لكن لم نجد هذا القول في النسخ الموجودة الحاضرة عندنا من صحيحه، ولعله

ص: 127

55-

(7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث - زاد مسلم: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) ثم اتفقا - إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)) .

ــ

في نسخة أخرى منه، أو في تصنيف آخر له، والله أعلم. قال ميرك: في قول المصنف " وفي رواية" وقوله: "وقال" وكذا في قوله: "وهذا لفظ البخاري" سماجة لا تخفى - انتهى. فتأمل.

55-

قوله: (آية المنافق) الآية العلامة، واللام للجنس، وكان القياس جمع المبتدأ الذي هو" الآية" ليطابق الخير الذي هو (ثلاث) أي خصال، وأجيب بأن الثلاث اسم جمع، ولفظه مفرد على أن التقدير: آية المنافق معدودة بالثلاث. وقال الحافظ: الإفراد على إرادة الجنس، أي كل واحد منها آية. وقد روى أبوعوانه في صحيحه بلفظ ((علامات المنافق)) ، وأجيب أيضاً بأنه مفرد مضاف فيعم، كأنه قال: آياته ثلاث. والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، ويقال النفاق الأكبر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتفاوت مراتبه، ويقال له: النفاق الأصغر، وهو ترك المحافظة على أمور الدين سراً، ومراعاتها علناً، وهو نفاق دون نفاق. (وإن صام وصلى) أي وإن عمل أعمال المسلمين من الصوم والصلاة وغيرهما من العبادات، وهذا الشرط اعتراض وارد للمبالغة لا يستدعى الجواب. (وزعم) أي ادعى (أنه مسلم) أي كامل (ثم اتفقا) أي البخاري ومسلم (إذا حدث) في كل شيء (كذب) بالتخفيف أي أخبر عنه بخلاف ما هو به قاصداً للكذب. (وإذا وعد) أي بالخير في المستقبل؛ لأن الشر يستحب إخلافه، بل قد يجيب. وقال العلقمي: الوعد يستعمل في الخير والشر، يقال: وعدته خيراً ووعدته شراً. فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشر: الإبعاد والوعيد. قال الشاعر:

وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إبعادي ومنجز موعدي

(أخلف) أي لم يف بوعده، والاسم منه الخلف، ووجه المغايرة بين هذه وما قبلها: أن الإخلاف الذي هو لازم الوعد قد يكون بالفعل، وهو غير لازم التحديث الذي هو الكذب الذي لا يكون فعلاً. وخلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد، أما لو كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم يوجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي. فخلف الوعد إن كان مقصوداً حال الوعد أثم فاعله، وإلا فإن كان بلا عذر كره له ذلك أو بعذر فلا كراهة. وفي الطبراني من حديث سلمان يشهد له حيث قال:((إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف)) ، وكذا قال في باقي الخصال. وإسناده لا بأس به، ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود، والترمذي من حديث زيد بن أرقم بلفظ:((إذا وعد الرجل أخاه، ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه)) ، (وإذا أؤتمن) بصيغة المجهول، أي جعل أميناً على شيء (خان) بأن تصرف فيه على خلاف الشرع. وإنما خص هذه الثلاث بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبنى النفاق من مخالفة السر العلن، فالكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به، والأمانة حقها أن تؤدى إلى

ص: 128

56-

(8) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر،

ــ

أهلها، فالخيانة مخالفة لها، والخلاف في الوعد ظاهر، ولذا صرح بأخلف، قاله الطيبي. فإن قلت إذا وجدت هذه الخصال في مسلم فهل يكون منافقاً؟ أجيب بأنها خصال نفاق، لا نفاق، فهو على سبيل المجاز، أي صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. أو المراد الاعتياد، ولذا قيد هذا بإذا المقتصية للتكرار، يعني أن المتصف بذلك هو من اجتمعت فيه هذه الخصال، واعتادها وصارت له ديدناً وعادة، واستمر عليها حتى رسخت فيه، بحيث لم يبق للصدق فيه مذهب، ولا للأمانة ممكن، ومن كان كذلك فهو بالحري أن يسمى منافقاً، فإنه لا يوجد على هذه الصفة إلا من طبع على قلبه وختم على سمعه وبصره، فأما المؤمن المقترن بتلك الخصال فإنه إن فعلها مرة تركها أخرى، وإن أسر عليها زماناً أقلع عنها زماناً آخر، وإن وجدت فيه خلة عدمت منه أخرى، فمجموع الخصال الخمس على وجه الاعتياد لا يوجد في غير المنافق بنفاق الكفر. أو المراد الإنذار والتحذير من أن يعتاد هذه الخصال فتفضي به إلى النفاق الحقيقي، أي نفاق الاعتقاد والكفر. أو المراد بالنفاق هو النفاق العملي لا النفاق الإيماني أي الاعتقادي، وهذا ارتضاه القرطبي، وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، وقيل: إنها للعهد إما منافقي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما منافق خاص شخص بعينه. وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول منافق، وإنما يشير إشارة. قال الحافظ: تمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه، وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: الأمر كما قال الحافظ من أن أحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي، وقد نقل الترمذي هذا القول عن أهل العلم مطلقاً - انتهى. والحديث أخرجه البخاري في الإيمان والوصايا والشهادات والأدب، ومسلم، والترمذي، والنسائي في الإيمان.

56-

قوله: (أربع) أي خصال أربع، أو أربع من الخصال مبتدأ، خبره (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) أي في هذه الخصال فقط لا في غيرها، أو شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، أو المراد اجتمعن فيه على وجه الاعتياد والاستمرار والرسوخ كما تقدم، وقيل وصفه بالخلوص، يؤيد قول من قال: إن المراد النفاق العملي لا الإيماني، أو النفاق العرفي لا الشرعي؛ لأن الخلوص بهذين المعنيين لا يستلزم الكفر الملقي في الدرك الأسفل من النار. (حتى يدعها) أي يتركها (وإذا حدث كذب) قيل: ومن حدث عن عيش له سلف فبالغ فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً للكذب. (وإذا عاهد غدر) أي نقض العهد ابتدأ وترك الوفاء لما عاهد عليه

ص: 129

وإذا خاصم فجر)) ، متفق عليه.

57-

(9) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة)) ، رواه مسلم.

ــ

(وإذا خاصم فجر) أي في خصومته، أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: أصل الفجور الميل عن القصد. وقال القاري: أي شتم ورمى بالأشياء القبيحة. فإن قيل: ظاهر الحديث المتقدم يقتضي الحصر في ثلاث، فكيف جاء في هذا الحديث أربع، أجاب القرطبي باحتمال أنه استجد له صلى الله عليه وسلم من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأجيب أيضاً بأن في رواية لمسلم ما يدل على عدم الحصر، فإن لفظها:((من علامة المنافق ثلاث)) ، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت وبعضها في وقت آخر. وقيل: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، وقد تحصل من الحديثين خمس خصال، الثلاثة السابقة في الأول، والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم. ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إما في الماليات وهو ما إذا أؤتمن، وإما في غيرها، وهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء، فهو إما مؤكد باليمين فهو إذا عاهد، أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدث، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث؛ لأن الغدر بالعهد منطوٍ تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث، كذا في شرح القسطلاني (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبوداود.

57-

قوله: (كالشاة العائرة) أي المترددة (بين الغنمين) أي قطيعين وثلثين من الغنم لا تدري أيهما تتبع، فإن الغنم اسم جنس يقع على الواحد والجمع. وقال السندهي: الغنم جمع، ففي الحديث تثنية الجمع بتأويله بالجماعة. نقل السيوطي عن الزمخشري أنه قال في المفصل: قد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفرقتين، ومنه هذا الحديث - انتهى. والعائرة هي التي تطلب الفحل فتردد بين قطيعين ولا تستقر مع أحداًهما، والمنافق مع المؤمنين بظاهره ومع المشركين بباطنه، تبعاً لهواه وغرضه الفاسد، وميلاً إلى ما يتبعه من شهواته، فصار بمنزلة تلك الشاة، وبذلك وصفهم الله تعالى في قوله:{مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [4:143]، قال الطيبي: وخص الشاة العائرة بالذكر إيماءً بمعنى سلب الرجولية عن المنافقين من طلب الفحل للضراب (تعير) بفتح أوله، أي تردد وتذهب، من عار الفرس عياراً انفلت وذهب هنا وهنا من مرجه (إلى هذه) أي القطيعة (مرة وإلى هذه) أي القطيعة الأخرى (مرة) أخرى ليضربها فحلها، فلا ثبات لها على حالة واحدة، وإنما هي أسير شهوتها (رواه مسلم) في صفات المنافقين قبل صفة القيامة من أواخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، وزاد:((لا تدري أيهما تتبع)) .

ص: 130