الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب الاعتصام بالكتاب والسنة
{الفصل الأول}
140-
(1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق عليه.
141-
(2) وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما بعد،
ــ
(باب الاعتصام بالكتاب والسنة) الاعتصام افتعال من العصمة وهي المنع، والعاصم المانع الحامي، والاعتصام الاستمساك بالشيء، والمراد بالكتاب القرآن المتعبد بتلاوته، وبالسنة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، وما هم بفعله، والسنة في أصل اللغة الطريقة. قيل: هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} [103:3] ؛ لأن المراد بحبل الله الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة.
140-
قوله: (من أحدث في أمرنا هذا) أي في شأننا وطريقنا، فالأمر واحد الأمور، أطلق على الدين من حيث أنه طريقه وشأنه الذي يتعلق به، أو في ما أمرنا به بالوحي المتعبد بتلاوته، أو بالوحي الذي ليس بقرآن، فالأمر واحد الأوامر، أطلق على المأمور به، والمراد الشرع والدين كما وقع في بعض الروايات: من أحدث في ديننا. قيل: عبر عن الدين بالأمر تنبيهاً على أن هذا الدين هو أمرنا الذي نهتم له ونشتغل به، بحيث لا يخلو عنه شيء من أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا. (فهو رد) أي مردود من إطلاق المصدر على اسم المفعول، مثل خلق ومخلوق، ونسخ ومنسوخ. وكأنه قال: فهو باطل غير معتد به. ومعنى الحديث: أن من أحدث في الإسلام رأياً لم يكن له من الكتاب والسنة سند ظاهر أو خفي، ملفوظ أومستنبط، فهو مردود عليه، والمراد أن ذلك الأمر واجب الرد، يجب على الناس رده، ولا يجوز لأحد اتباعه والتقليد فيه. وقيل: يحتمل أن ضمير "فهو" لمن، أي فذلك الشخص مردود مطرود. والحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وقاعدة مهمة من قواعده، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات. قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به. وفي رواية لمسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. أي ليس هو في ديننا وشرعنا، ولم يأذن به الله ورسوله، يعني من عمل عملاً خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع فهو مردود. قال الحافظ: قوله: "من عمل" أعم من قوله: " من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية، وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفي أن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها. وارجع للتفصيل إلى شرح الأربعين النووية لابن رجب. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلح، ومسلم في الأقضية، وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه في السنة.
141-
قوله: (أما بعد) هاتان الكلمتان يقال لهما فصل الخطاب، وأكثر استعمالهم بعد تقدم قصة، أو حمد لله وصلاة
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) .
…
رواه مسلم.
142-
(3) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام
ــ
على النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله:"بعد" مبني على الضم بحذف المضاف إليه، أي بعد ما تقدم من الحمد والصلاة، والمفهوم منهما أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أثناء خطبته أو موعظته (فإن خير الحديث) الفاء لما في "أما" من معنى الشرط، أي مهما يكن من شيء بعدما ذكر فإن خير الحديث أي الكلام (وخير الهدى) بالنصب، عطفاً على اسم إن، وروي بالرفع عطفاً على محل "إن" واسمه. و"الهدى" بفتح الهاء وسكون الدال، السيرة، ولا يكاد يطلق إلا على طريقة حسنة، ولذلك حسن إضافة الخير إليه، والشر إلى الأمور، واللام في "الهدى" للاستغراق؛ لأن أفعل التفضيل لا يضاف إلا إلى متعدد، ولأنه لو لم يكن للاستغراق لم يفد المعنى المقصود، وهو تفضيل دينه وسنته على سائر الأديان والسنن. وروي "الهدى" بضم الهاء وفتح الدال، ومعناه الدلالة والإرشاد، أي أحسن الدلالة دلالة محمد صلى الله عليه وسلم وإرشاده (وشر الأمور) بالنصب، وقيل بالرفع (محدثاتها) بفتح الدال، جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث من الاعتقاد والقول والفعل، وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل في الشرع فليس ببدعة شرعاً كتفسير القرآن وكتابة الحديث، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال سبق يسمى بدعة لغة، سواء كان محموداً أو مذموماً، وكذا القول في المحدثة، ولذا قال (وكل بدعة) بالرفع، وقيل: بالنصب (ضلالة) أي كل بدعة شرعية ضلالة، أي توصف بذلك لإضلالها. وعند النسائي من حديث جابر: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ويأتي مزيد الكلام في شرح حديث العرباض بن سارية في الفصل الثاني. (رواه مسلم) في حديث طويل في خطبة الجمعة، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجة في السنة.
142-
قوله: (أبغض الناس) هو أفعل التفضيل من المفعول على الشذوذ، واللام في "الناس" للعهد، والمراد منه عصاة المسلمين (ثلاثة) أي أشخاص، أحدهم أو منهم (ملحد في الحرم) أي ظالم أو عاص فيه، والإلحاد الميل عن الصواب، والعدول عن القصد. قال الحافظ: وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، فإن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق والقصد، وهو مشكل، فتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة. وقال القسطلاني: أجيب بأن الإلحاد في العرف مستعمل في الخارج عن الدين، فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها. (ومبتغ) أي طالب (في الإسلام) يعني أن ما محاه الإسلام وأمر بتركه من أمور الجاهلية يريد هو
سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه)) . رواه البخاري.
143-
(4) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) . رواه البخاري.
ــ
إحداثه وإشاعته، فيدخل فيه أحداًث البدعة، وبهذا المعنى أورده البغوى في الاعتصام بالكتاب والسنة. (سنة الجاهلية) اسم جنس يعم جميع ما كان عليه أهل الجاهلية من النياحة، والميسر، والطيرة، والكهانة، وقتل الأولاد، وجزاء شخص بجناية من هو من قبيلته. وإطلاق السنة على فعل الجاهلية على أصل اللغة. (مطلب) بالتنوين (دم امرىء) بالنصب، وقيل بإضافة (مطلب) إلى ”دم" وهو بتشديد الطاء من الاطلاب أصله مطتلب على مفتعل، فأبدلت التاء طاء وأدغمت، أي متكلف في الطلب، مبالغ ومجتهد فيه. (ليهريق دمه) بضم الياء وفتح الهاء ويجوز إسكانها من هراق الماء إذا صبه، والأصل أراق، قلبت الهمزة هاء وفيه لغة أخرى، وهى أهراق، بفتح الهمزة سكون الهاء، وخص الإهراق أي الصب؛ لأنه الغالب في القتل، وإلا فالمدار على إزهاق الروح ولو بخنق ونحوه، وخص هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحاً من الإلحاد، وكونه في الحرم، وإحداث البدعة في الإسلام، وكونها من أمر الجاهلية، وقتل النفس لا لغرض من الأغراض، بل لمطلق كونه قتلاً، وإليه الإشارة بقوله: "ليهريق دمه" ويزيد القبح في الأول باعتبار المحل، وفيه الثاني باعتبار الفاعل، وفي الثالث باعتبار الفعل، وفي كل من لفظي المطلب والمبتغي مبالغة، وذلك أن هذا الوعيد إذا ترتب على الطالب والمتمني فكيف للمباشر. (رواه البخاري) في الديات، والحديث من إفراده.
143-
قوله: (كل أمتي يدخلون الجنة) يحتمل أن يراد بالأمة أمة الدعوة، أي كلهم يدخلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، فالآبى هو الكافر، ويحتمل أن يراد بها أمة الإجابة، فالآبى هو العاصي، استثناه تغليظاً وزجراً عن المعاصي. (إلا من أبى) أي امتنع عن قبول ما جئت به (قيل: ومن أبى) وفي البخاري: قالوا: ومن يأبى؟ أي بلفظ المضارع، وهذه عطف على محذوف، عطف جملة على جملة، أي عرفنا الذين يدخلون الجنة. ومن الذى يأبى؟ أي والذى أبى لا نعرفه، وحق الجواب اختصاراً أن يقول "من عصاني" فقط، فعدل إلى ما ذكره تنبيهاً به على أنهم ما عرفوا ذاك ولا هذا، أو التقدير: من أطاعنى، وتمسك بالكتاب والسنة، دخل الجنة، ومن اتبع هواه، وضل عن الطريق المستقيم، وزل عن الصواب، فقد دخل النار. فوضع "أبى" موضعه وضعا للسبب موضع المسبب، ويعضد هذا التاويل إيراد البغوي هذا الحديث في الاعتصام بالكتاب والسنة، والتصريح بذكر الطاعة، فإن المطيع هو الذى يعتصم بالكتاب والسنة، ويجتنب عن الأهواء والبدع. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه؛ لأنه أخرجه البخاري في صحيحه، وهو من إفراده، وروى أحمد والحاكم عن أبي هريرة رفعه: لتدخلن الجنة إلا من أبى، وشرد على الله شراد البعير. وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن
144-
(5) وعن جابر قال: ((جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، فاضربوا له مثلاً، قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة. فقالوا: أوِّلوها له يفقهها. قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. فقالوا: الدار الجنة،
ــ
أبى أمامة عند الحاكم والطبراني، وسنده جيد.
144-
قوله: (وعن جابر قال: جاءت ملائكة) أي جماعة منهم، وهذه حكاية سمعها جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فحكاها فحديث جابر هذا مرفوع لما في رواية الترمذي عن جابر قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال. إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي
…
)) الخ. لا يستشكل اقتصاره على ذكر اثنين من الملائكة جبريل وميكائيل في رواية الترمذي هذه؛ لأنه يحتمل أنه كان مع كل منهما غيره، واقتصر في رواية الترمذي على من باشر الكلام منهم ابتداءً وجواباً. (إن لصاحبكم هذا) أي لمحمد، والمخاطب بعض الملائكة (مثلاً) أي صفة عجيبة الشأن (فأضربوا له) أي بينوا له. (إنه نائم) أي فلا يسمع، فلا يفيد ضرب المثل شيئاً. (إن العين نائمة والقلب يقظان) غير منصرف، وقيل منصرف لمجيء فعلانة. أي فلا يفوته شيء مما تقولون، فإن المدار على المدارك الباطنية دون الحواس الظاهرية. وقيل: هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال:"رجل يقظ" إذا كان ذكي القلب. قال البيضاوي: هذه مناظرة جرت بينهم بياناً وتحقيقاً لما أن النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس الظاهرة واستراحة الأبداًن، بل ربما يقوى إدراكها عند ضعفها. (مثله كمثل رجل بني داراً) قال القاري: يعني قصته كهذه القصة عن آخرها، لا أن حاله كحال هذا الرجل، فإنه في مقابلة الداعي لا الباني، اللهم إلا أن يقدر مضاف، ويقال: كمثل داعي رجل بني داراً -انتهى. وقال الكرماني: ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب مع قطع النظر عن مطابقة المفردات عن الطرفين - انتهى. وقد وقع في رواية الترمذي، وكذا في حديث ابن مسعود عند الترمذي وأحمد وابن خزيمه ما يدل على المطابقة المذكورة. (مأدبة) بفتح الميم وسكون الهمزة وضم الدال وتفتح، وبعدها موحدة، طعام عام يدعى الناس إليه كالوليمة (وبعث داعياً) يدعو الناس إليها. (أوِّلوها) بكسر الواو المشددة، أي فسروا هذه الحكاية التمثيلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أول تأويلاً، إذا فسر بما يؤل إليه الشيء (يفقهها) بالجزم جواب الأمر، أي يفهمها (وقال بعضهم: إن العين) أي عينه (نائمة والقلب) أي قلبه (يقظان) أي فيدرك البيان، وكرروا هذا لتنبيه السامعين إلى هذه المنقبة العظيمة، وهي نوم العين ويقظة القلب (فقالوا: الدار) أي الممثل بها (الجنة) وفي رواية الترمذي
والداعي محمد، فمن أطاع محمد فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس)) . رواه البخاري
145-
(6) وعن أنس قال: ((جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا
ــ
فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام، والطعام الجنة، ومحمد الداعي، فمن اتبعه كان في الجنة. (فمن أطاع) الفاء للسبية أي لما كان هو الداعي فمن أطاع (محمد فقد أطاع الله) أي لأنه رسول صاحب المأدبة، فمن أجابة ودخل في دعوته أكل من المأدبة. وهو كناية عن دخول الجنة، وفي رواية الترمذي: وأنت يا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (ومحمد فرق بين الناس) روى مشدداً على صيغة الفعل الماضي، ومخففاً أي بسكون الراء والتنوين على المصدر، وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر، والصالح والطالح، إذ به تميزت الأعمال والعمال، وهذا كالتذييل للكلام السابق؛ لأنه مستمل على معناه ومؤكد له، وفي تمثيل الملائكة إيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحث لهم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة. (رواه البخاري) في الاعتصام، وأخرجه أيضاً الترمذي في الأمثال من غير طريق البخاري، وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد والترمذي وصححه، وابن خزيمه، وعن ربيعة الجرشي عند الدارمي والطبراني بسند جيد، وسيأتي في الفصل الثاني.
145-
قوله: (ثلاثة رهط) بسكون الهاء، وهي العصابة دون العشرة، وقيل: دون الأربعين. اسم جمع لا واحد له من لفظه، والمراد ثلاثة أنفس، وهم علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، كما في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق. وقيل: المقداد بدل عبد الله بن عمرو. (يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم) أي في البيت وفي السر، والمراد معرفة قدر عادة وظائفه في كل يوم وليلة حتى يفعلوا ذلك. (فلما أخبروا) على صيغة المجهول أي أخبرتها (بها) أي بعبادته (كأنهم تقالّوها) بتشديد اللام المضمومة، تفاعل من القلة أي عدوها قليلة لما في نفوسهم أنها أكثر مما أخبروا به بكثير. (أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم) أي بيننا وبينه بون بعيد، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم مأمون الخاتمة، واثق بقوله تعالى:{ليغفرالله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [2:48] . (وقد غفر الله له) أي فمن لم يعلم بحصول ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة عسى أن يحصل بخلاف من حصل له، لكن بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بلازم، فأشار إلى هذا بأنه أشد خشية، وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية (فقال أحدهم أما أنا)
فأصلى الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبداً، ولا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) .
ــ
أي أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خص بالمغفرة العامة فلا عليه أن لا يكثر العبادة، وأما أنا فلست مثله (فأصلي الليل) الظاهر أنه وما بعده عزم على ما ذكر، ويحتمل الإخبار عن ذلك. (أبداً) قيد لليل لا لقوله:"أصلى" أي طول الليل (أنا أصوم النهار أبداً) كذا وقع في بعض النسخ بتأكيد الصيام بقوله: "أبداً"، والظاهر أنه خطأ وقد استغنى عنه بقوله:(ولا أفطر) وفي البخاري: أصوم الدهر ولا أفطر. قال الحافظ: لم يؤكد الصيام أي بالتأييد؛ لأنه لا بد له من فطر الليالي وكذا أيام العيد. (أنا أعتزل النساء) أي أجتنبهن (فلا أتزوج) أي منهن أحداً (أبداً) فإنهن والاشتغال بهن يمنع الشخص عن العبادة، ويوقعه في طلب الدنيا، والحرص على تحصيلها في العادة. (فجأ النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) وقد علم ذلك بأن جاء إلى أهله فأخبروه، وإما بالوحي. (فقال أنتم) أي أأنتم؟ فحذفت همزة الاستفهام التي للإنكار (الذين قلتم كذا وكذا) كنابة عما تقدم. (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، حرف تنبيه واستفتاح بمنزلة "ألا"(إني لأخشاكم) أي إني لأعلم به، وبما هو أعز لديه، وأكرم عنده، فلوكان ما استاثرتموه من الإفراط في الرياضة أحسن مما أنا عليه من الاعتدال في الأمور لما أعرضت عنه. (لله) مفعول به "لأخشاكم" وأفعل لا يعمل في الظاهرة إلا في الظرف. قال ابن المنير: إن هؤلاء بنوا على أن الخوف الباعث على العبادة ينحصر في خوف العقوبة، فلما علموا أنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ظنوا أن لا خوف، وحملوا قلة العبادة على ذلك، فرد عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك، وبيّن أن خوف الإجلال أعظم من الإكثار المحقق الانقطاع؛ لأن الدائم وإن قل أكثر من الكثير إذا انقطع – انتهى. وقال المظهر: إن قلة وظائف النبي صلى الله عليه وسلم كانت رحمة للأمة وشفقة عليهم لئلا يتضرروا؛ فإن لأنفسهم عليهم حقاً. ولأزواجهم حقاً. (لكني أصوم) استدراك عن محذوف دل عليه السياق، أي أنا وأنتم بالنسبة إلى العبودية سواء، لكن أنا أعمل كذا. وقيل: المعنى أنا أخشاكم لله، فينبغي على زعمكم أو في الحقيقة أن أقوم في الرياضة إلى أقصى مداه، لكن أقتصد وأتوسط فيها، فأصوم في وقت (وأفطر) أي في آخر (وأصلى) بعض الليل (وأرقد) أي أنام في بعضه. (وأتزوج النساء) ولا أزهد فيهن، وكمال الرجل أن يقوم بحقهن مع القيام بحقوق الله تعالى، والتوكل عليه، والتفويض إليه، وهذا كله ليقتدي بي الأمة. (فمن رغب عن سنتي) المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض والواجب، أي أعرض عن طريقتي وتركها (فليس مني) أي ليس على ملتي إذا كان غير معتقد لها، والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتداً. وكذا إذا كان الإعراض تنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وأما إن كان ذلك بضرب من التأويل كالورع لقيام شبهة في ذلك الوقت، أو عجزاً عن القيام بذلك، أو لمقصود صحيح فيعذر صاحبه
متفق عليه.
146-
(7) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية))
ــ
فيه. ومعنى "فليس مني" أي ليس علىطريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذي ابتدعوا التشديد كما سيأتي، وقد عابهم الله بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس، وتكثير النسل. (متفق عليه) أخرجاه في النكاح، واللفظ للبخاري إلا قوله:"أصوم النهار أبداً" وأخرجه أيضاً النسائي في النكاح، وأما ما ذكره الرافعي واشتهر على الألسنة بلفظ "النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فلم أجده مع الاستقراء التام والتتبع البالغ. والله أعلم.
146-
قوله: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً) الظاهر أن الشيء المرخص فيه ما ذكر في حديث أنس من النوم بالليل والأكل بالنهار أي الإفطار في بعض الأيام في غير رمضان، والتزوج بالنساء، وفي حديث عائشة عند مسلم من غسل الجنابة بعد طلوع الفجر في رمضان. (فرخص) أي للناس (فيه) أي في ذلك الصنع أو من أجله (فتنزه) أي تباعد وتحرز (عنه) أي عن ذلك الصنع (قوم) لم يعرف الحافظ القوم بأعيانهم. وقيل الظاهر أنهم هم المذكورون فيما تقدم. (فبلغ ذلك) أي تنزههم (فخطب) أي أراد أن يخطب، ويمكن أن يكون قوله: (فحمد الله
…
) إلخ تفسيراً لما قبله (ثم قال) أي في أثناء خطبته (ما بال أقوام) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، أي ما حالهم؟ (يتنزهون) صفة وقع موقع الحال (أصنعه) حال من الشيء، و"أل" فيه للعهد الذكري السابق في قوله:"شيئاً" وقيل: اللام في الشيء للجنس، و"أصنعه" صفته. (فوالله إني لأعلمهم بالله) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئاً من المباحات وهم يحترزون عنه، فإن احترزوا لخوف عذاب الله، فأنا أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز عنه. (وأشدهم له خشية) إشارة إلى القوة العملية، وقوله:"أعلمهم بالله" إشارة إلى القوة العلمية، أي إنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وأن فعلي خلاف ذلك. وليس كما توهموا إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها، فمهما فعله صلى الله عليه وسلم من عزيمة ورخصة فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجلد في العمل قياماً بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط. وفي الحديث ذم التعمق والتنزه عن المباح شكاً في إباحته، وفيه الحث على الإقتداء به صلى الله عليه وسلم وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، فإن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت
متفق عليه.
147-
(8) وعن رافع بن خديج قال: ((قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يؤبرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً. فتركوه، فنقصت. قال: فذكروا ذلك له. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتك بشيء من أمر دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي،
ــ
أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذٍ مرجوحاً كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموماً إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل، واللفظ للبخاري في الأدب. وأخرجه أيضاً النسائي في عمل اليوم والليلة.
147-
قوله: (وعن رافع بن خديج) بفتح معجمة، وكسر دال مهملة، وبجيم، ابن رافع بن عدى الأوسي الحارثي الأنصاري، يكنى أباعبد الله، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، ثم الخندق، ورده النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ لأنه استصغره، وأجازه يوم أحد فشهد أحداً، والخندق، وأكثر المشاهد، وأصابه يوم أحد سهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أشهد لك يوم القيامة، وانتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان فمات في أول سنة (73) بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: مات سنة (74) له ثمانية وسبعون حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه خلق. (وهم) أي أهل المدينة (يؤبرون النخل) بضم الياء وتشديد الباء المكسورة، من التأبير، وروى يأبرون بفتح الياء وتخفيف الباء المكسورة وضمها، من نصر وضرب. والأبر، والإبار، والتأبير: إدخال شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق بإذن الله، وتأتي بثمرة أجود مما لم يؤبر، وكانوا يفعلونه على العادة المستمرة في الجاهلية. (ما تصنعون) "ما" استفهامية (كنا نصنعه) أي هذا دأبنا وعادتنا. (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً) أي تتعبون فيما لا ينفع. وفي حديث طلحة عند مسلم: ما أظن يغنى ذلك شيئاً (فتركوه) أي التأبير (فنقصت) أي النخل ثمارها، أو انتقصت ثمارها، فإن النقص متعد ولازم (فذكروا) أي أصحاب النخل (ذلك) أي النقص (إنما أنا بشر) أي فليس لي اطلاع على المغيبات، وإنما ذلك شيء قلته بحسب الظن، يعني أني لاحظت إذ ذلك الأمر الحقيقي، وهو أن كل شيء بقدرته تعالى، وأنها هي المؤثرة في الأشياء حقيقة، ولم ألتفت إلى أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن ستر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها مقارنة لها ومغطاة لها، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من مراعاة الأسباب. (إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم) أضاف الدين إليهم؛ لأن المراد: إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم فخذوه، كقوله تعالى:: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [7:59](فخذوا به) أي افعلوه فإني إنما نطقت به عن الوحي. (بشيء) من أمور الدنيا ومعايشها (من رأي) أي من غير تشريع، فأما ما قاله باجتهاد صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع
فإنما أنا بشر)) . رواه مسلم.
148 -
(9) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء. فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم، فنجوا.
ــ
المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث "قال عكرمة أو نحو هذا" فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققاً، قاله النووى. (فإنما أنا بشر) جزاء للشرط على تأويل "وإذا أمرتكم بشيء من رأيي وأخطئي فلا تستبعدوه، "فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب" كما في رواية طلحة عند أحمد: والظن يخطئ ويصيب. وفي حديث طلحة عند مسلم: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به. وفي حديث عائشة وأنس عند مسلم أيضاً: أنتم أعلم بأمور دنياكم. قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراًً، وإنما كان ظناً كما بيّنه. قالوا: ورأية صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممه بالآخرة ومعارفها، وعدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية. (رواه مسلم) في الفضائل، وله شاهد من حديث طلحة عند أحمد ومسلم وابن ماجه، ومن حديث عائشة عند مسلم، وابن ماجه.
148-
قوله: (إنما مثلي) المثل الصفة العجيبة الشأن، يوردها البليغ على سبيل التشبيه لإرادة التقريب والتفهيم (أتى قوماً) أي لينذرهم بقرب عدوهم (بعيني) للتأكيد، ودفع المجاز، وهو بالتثنية وتشديد الياء الأخيرة (إني أنا النذير العريان) بضم العين وسكون الراء بعدها تحتية، من التعري، قيل: الأصل فيه أن رجلاً لقى جيشا فسلبوه وأسروه، فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش فسلبوني، فرأوه عرياناً فتحققوا صدقه؛ لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا صدقه بهذه القرائن، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به مثلاً بذلك لما أبداه من الخوارق والمعجزات الدالة على صدقة تقريباً لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه. وقيل: المراد المنذر الذي تجرد عن ثوبه، وأخذ يرفعه ويديره حول رأسه إعلاماً لقومه بالغارة. وكان من عادتهم أن الرجل، إذا رأى الغارة فجأتهم، وأراد إنذار قومه يتعرى من ثيابه، ويشير بها ليعلم أن قد فجأهم أمر مهم، ثم صار مثلاً لكل ما يخاف مفاجأته. (فالنجاء النجاء) بالمد والهمز فيهما، وبالقصر فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية تخفيفاً، مصدر نجا إذا أسرع، نصب على الإغراء أي الطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب، إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش، أو على المصدر أي أنجوا النجاء، وهو الإسراع، كرر للتأكيد (فأطاعه) الإطاعة تتضمن التصديق فيحسن مقابلته بقوله:"كذبت". (فأدلجوا) من الإدلاج بهمزة قطع، أي ساروا أول الليل أو كله (على مهلهم) بفتح الميم والهاء ويسكن، أي بالسكينة والتأني
وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم. فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)) . متفق عليه.
149-
(10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم
ــ
(وكذبت) التكذيب يستتبع العصيان. (فأصبحوا مكانهم) أي دخلوا وقت الصباح في مكانهم (فصبحهم الجيش) أي أتاهم صباحاً للغارة، هذا أصله ثم كثر استعماله حتى استعمل في من طرق بغتة في أي وقت كان. (واجتاحهم) بالجيم في الأولى، والمهملة في الثانية، أي استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشئوم التكذيب. (فذلك مثل من أطاعني
…
) إلخ، قيل: هذا من التشبيهات المفروقة، شبه ذاته صلى الله عليه وسلم بالرجل، وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب، بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه، بمن صدق الرجل في إنذاره وكذبه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الرقاق، وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل.
149-
قوله: (استوقد) أي أوقد، وزيدت السين للتأكيد. (أضاءت) الإضافة فرط الإنارة (ماحولها) هذه رواية مسلم، والضمير للنار، و"أضاءت" متعدية أي أضاءت النار جوانب تلك النار، وفي رواية البخاري "ماحوله" فالضمير للمستوقد، ويجوز أن تكون أضاءت غير متعدية فيسند الفعل إلى "ما" على تأويل: أضاءت الأماكن التي حول النار أو حول المستوقد. قال القاري: ما ظهر لي وجه عدول صاحب المشكاة إلى رواية مسلم عن رواية البخاري مع كونها أصح، ومع ثبوت موافقتها للفظ القرآن الأفصح، ودلالتها على المقصود بالطريق الأوضح، مع قوله: في آخر الحديث: هذه رواية البخاري - انتهى. (جعل) أي شرع (الفراش) بفتح الفاء وتخفيف الراء دوبية طير تتساقط في النار، يقال في الفارسية: بروانة. (وهذه الدواب) قيل: عطف تفسير للفراش، وأنثه نظر لخبره أو لكون الفراش اسم جنس. وقال ابن الملك: إشارة إلى غير الفراش (التي تقع في النار) أي عادتها إلقاء نفسها في النار، كالبرغش والجندب ونحوهما. (يقعن) أي الفراش والدواب (وجعل) المستوقد (يحجز هن) بضم الجيم، أي يمنعهن من الوقوع فيها. وفي البخاري "يزعهن" بالتحتانية والزاي وضم المهملة أي يدفعهن (ويغلبنه) أي على الوقوع فيها. (فيتقحمن فيها) أي يدخلن فيها بشدة ومزاحمة، من التقحم، وهو الإقدام والوقوع في أمر شاق من غير روية وتثبت، وفي البخاري "فيتقحمن" من الاقتحام. (فأنا) الفاء فصيحة، أي إذا صح هذا التمثيل بأنى كالمستوقد وأنتم كالفراش فيما ذكر فأنا (آخذ) اسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، ويروى بصيغة المضارع من المتكلم، والأول أشهر وهما صحيحان. (بحجزكم) بضم الحاء وفتح الجيم، جمع الحجزة، وهي
عن النار، وأنتم تقحمون فيها)) . هذه رواية البخاري، ولمسلم نحوها، وقال في آخرها: قال: ((فذلك مثلى ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)) . متفق عليه.
ــ
معقد الإزار ومن السراويل موضع التكة، وخص ذلك بالذكر؛ لأن أخذ الوسط أقوى وأوثق من الأخذ بأحد الطرفين في التبعيد. (عن النار) وضع المسبب موضع السبب؛ لأن المراد أنه يمنعهم من الوقوع في المعاصي التي تكون سبباً لولوج النار. (وأنتم تقحمون) من باب التفعل بحذف إحدى التائين، وفي نسخة صحيحة "تقتحمون" من باب الافتعال، (هذه) أي هذه الألفاظ أو ما ذكر من أول الحديث إلى هنا، والتأنيث باعتبار الخبر، وفي نسخة "هذا" أي هذا اللفظ. (رواية البخاري) أي في باب الانتهاء عن المعاصي من الرقاق، (ولمسلم نحوها) أي نحو رواية البخاري معنى. (وقال) أي مسلم (في آخرها) أي في آخر روايته (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فذلك) أي المثل لمذكور (مثلي ومثلكم أنا آخذ) روي بالوجهين (هلم عن النار) أي أسرعوا إلي وأبعدوا أنفسكم عن النار، وهو في محل النصب على الحال، أي آخذ بحجزكم وأمنعكم قائلاً هلم. (فتغلبوني) النون مشددة، إذ أصله "تغلبونني" فأدغم نون الجمع في نون الوقاية، والفاء للسببية والتقدير: أنا آخذ بحجزكم لأخلصكم من النار، فجعلتم الغلبة مسببة عن الأخذ. (تقحمون فيها) حال من فاعل تغلبوني، وقيل: بدل مما قبله. وفي مسلم "وتقحمون" أي بزيادة الواو. قال النووى: مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم، بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه، وضعف تمييزه، فكلاهما حريص على هلاك نفسه، ساع في ذلك لجهله - انتهى. وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [229:2] . وذلك أن حدود الله محارمه ونواهيه، كما في الحديث الصحيح: ألا إن حمى الله محارمه، ورأس المحارم حب الدنيا وزينتها، واستيفاء لذاتها وشهواتها، فشبه صلى الله عليه وسلم إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبه فشو ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان، وتعديهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومنعه إياهم عن ذلك بأخذ حجزهم، بالفراش التي يقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعهن عن الاقتحام، كما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاستضاءة والاستدفاء وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سبباً لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واجتنابها ما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لترديهم، كذا في الفتح. (متفق عليه) فيه أنه مستغنى عنه بما سبق، فإيراده لمجرد التأكيد، على أن المراد بالاتفاق هنا يحسب المعنى في الأكثر. وأخرجه أيضاً الترمذي، وصححه، وأخرج أحمد ومسلم نحوه عن جابر.
150-
(11) وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء. فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا،
ــ
150-
قوله: (والعلم) عطف على "الهدى" من عطف المدلول على الدليل؛ لأن الهدى هو الدلالة الموصلة إلى المقصد، والعلم هو المدلول، وهو صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعية. (كمثل الغيث) أي المطر، واختار اسم الغيث ليؤذن باضطرار الخلق إليه إذ جاءهم على فترة من الرسل، وضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيى البلد الميت والعلم يحيى القلب الميت. (أصاب) صفة للغيث على أن اللام لتعريف الجنس ومدخوله كالنكرة فيوصف بالجملة كما في قوله:{كمثل الحمار يحمل أسفارا} [5:62] ويجوز أن يكون حالاً منه (أرضاً) أي هي محل الانتفاع، وهذا القيد متروك ههنا اعتماداً على فهمه من التفصيل، وبقرينه ذكر ضده في مقابل هذا القسم وهو قوله: وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان
…
الخ؛ لأن قوله: "وأصاب منها طائفة أخرى" معطوف على جملة "أصاب أرضاً" وهذا ظاهر، وعلى هذا فضمير "منها" في "وأصاب منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام، لا الأرض المذكورة أولاً في قوله: أصاب أرضاً، فصار الحاصل أنه قسم الأرض بالنسبة إلى المطر إلى قسمين لا إلى ثلاثة كما توهمه كثير من الفضلاء، فظهر انطباق المثل بالمثل له، واندفع إيراد أن المذكور في المثل ثلاثة أقسام وفي الممثل له قسمان، كما لا يخفى، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض الذي هو محل الانتفاع أيضاً إلى قسمين: قسم ينتفع بنتائج مائه النازل فيه وثمراته لا بعين ذلك الماء، وقسم ينتفع بعين مائه، تنبيهاً على أن الذي ينتفع بعلمه الواصل إليه قسمان من الناس: قسم ينتفع بثمرات علمه ونتائجه كأهل الاجتهاد والاستخراج والاستنباط، وقسم ينتفع بعين علمه ذلك كأهل الحفظ والرواية، والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم شبه ما أعطاه الله من أنواع العلوم بالوحي الجلي أو الخفي بالماء النازل من السماء في التطهير، وكمال التنظيف، والنزول من العلو إلى السفل، ثم قسم الأرض بالنظر إلى ذلك الماء قسمين: قسماً هو محل الانتفاع، وقسماً لا انتفاع فيه، وكذا قسم الناس بالنظر إلى العلم قسمين على هذا الوجه، إلا أنه قسم القسم الأول من الأرض إلى قسمين، واكتفى به في قسمة القسم الأول من الناس إلى قسمين لوضوح الأمر، وعلى هذا فأصل المثل تام بلا تقدير في الكلام. قاله السندهي، (فكانت منها طائفة طيبة قبلت)"منها" صفة "طائفة" قدمت علبها فصارت حالاً، و"طيبة " مرفوع على أنها صفة طائفة، و"قبلت" منصوبة بخبر كانت. (الكلأ) بفتح الكاف واللام، آخره مهموز مقصور، النبات رطباً ويابساً، والكلا مقصور بغير الهمزة مختص بالرطب منه، فالكلأ بالهمز أنسب ليكن عطف الأخص على الأعم. (والعشب) بضم العين، وهو مختص بالرطب من النبات. (وكانت منها) أي من الأرض التي هي محل الانتفاع (أجادب) جمع جدب، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء ولا تنبت الكلأ (فنفع الله بها) أي بالأجادب (وسقوا) أي دوابهم (وزرعوا) أيما يصلح للزرع،
وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) . متفق عليه.
151 -
(12) وعن عائشة قالت: ((تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات}
ــ
وهذه رواية البخاري، هذه رواية البخاري، ولمسلم: رعوا من الرعى، وكذا للنسائي. (وأصاب) أي الغيث (منها) الجملة عطف على "أصاب أرضاً" وضمير "منها" لمطلق الأرض المفهوم من الكلام لا للأرض المذكورة أولاً في قوله: أصاب أرضاً (إنما هي) أي تلك الطائفة (قيعان) بكسر القاف جمع قاع، وهي الأرض المستوية الملساء (فذلك) أي المذكور من الأنواع (مثل من فقه) بضم القاف وكسرها، والمشهور الضم، إذا فهم وأدرك الكلام (فعلم وعلم) الأول بكسر اللام مخففة، والثاني بتشديدها، وهذا مثل الأرض التي هي محل الانتفاع. فأهل الاجتهاد منهم كالأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ، وأهل الحفظ والرواية الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد والاستخراج كالأجادب التي أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا، وسقوا وزرعوا (ومثل من لم يرفع بذلك) أي بما بعثنى الله به (رأساً) أي للتكبر، ولم يلتفت إليه من غاية تكبره، وهذا مثل الأرض التي ليست محل الانتفاع لعدم إمساك الماء وعدم إنبات الكلأ. (ولم يقبل هدى الله) بضم الهاء وفتح الدال (الذى أرسلت به) قال الطيبي: عطف تفسيرى. وفي الحديث إشارة إلى أن الاستعدادات ليست بمكتسبة بل هي مواهب ربانية، وكمالها أن تستفيض من مشكاة النبوة فلا خير في من يشتغل بغير الكتاب والسنة، وأن الفقيه من علم وعلم. (متفق عليه) أخرجه البخارى، في العلم، ومسلم في فضائل النبي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4:ص399) والنسائي في العلم.
151-
قوله: (هو الذى أنزل عليك الكتاب) أي القرآن (منه) أي بعضه (آيات محكمات) وبعد {هن} أي تلك الآيات المحكمات {أم الكتاب} أي أصله الذى يعول عليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال والحرام، ويرجع إليه غيره، فإن وافقه يقبل، وإلا فيحكم يبطلان ما فهمنا منه {وأخر} أي آيات أخر {متشابهات} [7:3] . قال الحافظ في الفتح: قيل المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه، وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه. وقيل: المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور، وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخر غير هذه نحو العشر ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب. وذكر أبومنصور البغدادى: أن
وقرأ إلى {وما يذكر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني: أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. قال: ودلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله:{أحكمت آياته} [1:11] ولا قوله: {كتاباً متشابهاً مثاني} [23:39] ؛ لأن المراد بالإحكام في قوله: "أحكمت" الإتقان في النظم، وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضاً في حسن السياق والنظم أيضاً، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه، وحاصل الجواب: أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين - انتهى. وقال العلامة القنوجى البوفالي في فتح البيان (ج1:ص6) أخذاً من فتح القدير (ج1:ص284، 287) للعلامة الشوكاني بعد ذكر الأقوال المختلفة في معنى المحكم والمتشابه ما نصه: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا يظهر دلالته، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن الاختلاف الذى قدمناه ليس كما ينبغى، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. ثم بين ذلك مفصلاً من شاء الوقوف عليه رجع إليه، ثم قال: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه، فواتح السور فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع، ما معنى الم، المر، طس، طسم، ونحوها.؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ العربية التي لا توجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استاثر الله بعلمه كالروح وما في قوله:{إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام} إلى آخر الآية [34:31] ، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمرآخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب، أو عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور الجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التى تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبيّن راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول، المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب - انتهى. (وقرأ إلى: ومايذكر إلا أولو الألباب) والتتمة {فأما الذين في قلوبهم زيغ} أي ميل عن الحق إلى الباطل {فيتبعون ما تشابه منه} أي يبحثون عنه، ويتعلقون به، لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة {ابتغاء الفتنة} أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم، والتلبس عليهم، وإفساد ذوات بينهم، لا تحرياً للحق {وابتغاء تأويله} أي تفسيره على الوجه الذي
فإذا رأيت)) ، وعند مسلم:((رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم)) . متفق عليه.
152-
(13) وعن عبد الله بن عمرو قال: ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، قال: فسمع أصوت رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم
ــ
يشتهونه، ويوافق مذاهبهم الفاسدة {وما يعلم تأويله إلا الله} أي والحال أنه ما يعلم تأويله أي ما هو الحق، أو حقيقته إلا الله {والراسخون في العلم} مبتدأ، أي الثابتون في علم الدين، الكاملون فيه {يقولون} خبر {آمنا به} أي بالمتشابه به، ووكلنا علمه إلى عالمه {كل} أي من المتشابه والمحكم {من عند ربنا} أي نزل من عنده وهو حق وصواب {ومايذكر إلا أولو الألباب} [7:3] أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. وحكمة وقوع المتشابه فيه إعلام للعقول بقصورها لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتسلم من العجب والغرور والتكبر والتعزز. (فإذا رأيت) بفتح التاء، على الخطاب العام أي أيها الرأي. ولهذا جمعه في "فاحذروهم" وحكى بالكسر على أنها خطاب لعائشة بياناً لشرفها وغزارة علمها، وإن كان الخطاب عاماً. (وعند مسلم رأيتم) أي بدل "رأيت" وهو يؤيد الأول (فأولئك) بفتح الكاف وقيل بالكسر (الذين سماهم الله) بأهل الزيغ أو زائغين بقوله:{في قلوبهم زيغ} (فاحذورهم) أي لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحق لهم الإهانة. وقيل: أمر بالحذر منهم احترازاً عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود التحذير من الإصغاء إليهم. قال النووى: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة. فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطف في ذلك فلا بأس عليه، وجوابه واجب. وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب صبيغ بن عسل حين كان يتبع المتشابه - انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في التفسير، ومسلم في القدر، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في التفسير، وأبوداود، وابن ماجه في السنة.
152-
قوله: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالتشديد، أي أتيته في الهاجرة أي الظهيرة. قال المظهر: التهجير السير في الهاجرة، وهي شدة الحر، ولعل خروجه في هذا الوقت ليدركه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الحجرة فلا يفوته شيء من أقواله وأفعاله (فسمع) أي النبي صلى الله عليه وسلم من حجرته (اختلفا) صفة "رجلين" أي تنازعا واختصما (في آية) أي في معنى آية متشابه، ويحتمل أن يكون اختلافهما في لفظهما اختلاف قراءة. (يعرف) على بناء المجهول (في وجهه الغضب) الجملة حالية من فاعل "خرج"، وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لفنسه، وإنما كان يغضب لله فضغب ههنا زجراً عن المراء في القرآن (إنما هلك من كان قبلكم)
باختلافهم في الكتاب)) . رواه مسلم.
153-
(14) وعن سعيد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته))
ــ
من اليهود والنصارى (باختلافهم في الكتاب) أي المنزل على نبيهم، وإنما كان الاختلاف سبباً للهلاك؛ لأنه من أمارات التردد في أمر المبعوث به، وإساءة الأدب بين يديه. قال النووى: المقصود من الحديث التحذير عن اختلاف يؤدي إلى الكفر والبدعة كاختلاف اليهود والنصارى، وذلك مثل الاختلاف في نفس القرآن، أو فى معنى منه لا يسوغ الاجتهاد فيه، أو فيما يوقع في شك وشبهة، أو فتنة وخصومة، أو شحناء، ونحو ذلك. وأما الاختلاف لإظهار الصواب، وإيضاح الخطاء، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل فليس منهياً عنه، بل هو مأمور به، وقد أجمع المسلمون عليه من عهد الصحابة إلى الآن -انتهى كلام النووى مختصراً. (رواه مسلم) في القدر، وأخرجه أيضاً النسائي، وأخرج البخاري عن ابن مسعود نحوه في الأشخاص وفي فضائل القرآن.
153-
قوله: (وعن سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف، واسم أبي وقاص، مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة، يكنى سعد أبا إسحاق الزهرى القرشي المدني، أسلم قديماً وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان سابع سبعة في الإسلام، وروي عنه أنه قال: كنت ثالث الإسلام. وأول من رمى بسهم في سبيل الله، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وهو أحد العشرة المبشرة وآخرهم موتاً. وأحد ستة الشورى، وفارس الإسلام، ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وجمع له النبي صلى الله عليه وسلم أبويه، وحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وكوف الكوفة وطرد الأعاجم، وافتتح مدائن فارس، وهاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مجاب الدعوة، مشهوراً بذلك، تخاف دعوته، وترجى لاشتهار إجابتها. له مائتا حديث وخمسة عشر حديثاً، اتفقا عليها، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة. وحمل على رقاب الرجال إلى المدينة. ودفن بالبقيع سنة (55) وقيل (56) وقيل (57) وله بضع وسبعون سنة. (في المسلمين) أي في حقهم وجهتهم (جرماً) تمييز أي ذنباً وظلماً، والمعنى: أن أعظم من أجرم من المسلمين جرماً كائنا في حق المسلمين، فقوله:"في المسلمين" حال عن "جرماً" مقدمة عليه (من سأل) أي نبيه (لم يحرم) صفة لشيء. (على الناس) هذا لفظ مسلم في رواية، وفي رواية أخرى له "على المسلمين"(فحرم) بصيغة المجهول من التحريم (من أجل مسألته) أي لأجل سؤاله. قال الخطابي، والتيمي: هذا الحديث في حق من سأل تكلفاً وعبثاً، أو تعنتاً في ما لا حاجة له به إليه، فأما من سأل لضرورة فيما يحتاج إليه من أمر الدين، بأن وقعت له نازلة فسأل عنها فلا إثم عليه، ولا عتب، كسؤال عمر وغيره من الصحابة في أمر الخمر حتى حرمت بعد ما كانت حلالاً؛ لأن الحاجة دعت إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال مما يحتاج إليه لقوله:{فاسئلوا أهل الذكر} [7:21] فكل من الأمر
متفق عليه.
154-
(15) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)) رواه مسلم.
155-
(16) وعنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤن التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم،
ــ
بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى، وإنما كان هذا أعظم جرماً؛ لأن سراية هذا الضرر عمت المسلمين إلى انقراض العالم، فالقتل وإن كان من أكبر الكبائر فإنه يتعدى إلى القاتل أو إلى عاقتله، ولكن جرم من حرم ما سأل لأجل مسألته، فإنه تعدى إلى سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جرم ينتهى في معنى العموم إلى هذا الحد. ويؤخذ منه أن من عمل شيئاً أضر به غيره كان آثماً، وأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك (متفق عليه) أخرجه البخارى في الاعتصام، ومسلم في الفضائل، وأخرجه أيضاً أبوداود في السنة، ولفظ "في المسلمين" ليس للبخاري، وكذا لفظ "على الناس".
154-
قوله: (يكون في آخر الزمان) أي آخر زمان هذه الأمة (دجالون) من الدجل وهو تلبيس الباطل بما يشبه الحق، يقال: دجل إذا موَّه ولبس، أي مزورون وملبسون وخداعون، يقولون للناس: نحن علماء ومشائخ، ندعوكم إلى الدين وهم كاذبون في ذلك، ويتحدثون بأكاذيب، ويبتدعون أحكاماً باطلة، وإعتقادات فاسدة، فاحذروهم. ويجوز أن تحمل "الأحاديث" على المشهور عند المحدثين ليكون المراد بها الموضوعات. (فإياكم) أي أبعدوا أنفسكم عنهم (وإياهم) أي أبعدوهم عنكم (لا يضلونكم) استئناف، جواب لقائل لم نبعدهم؟ لئلا يضلوكم، فحذف الجار والناصب، فعاد الفعل إلى الرفع كذا ذكره بعضهم. وقال الطيبي: كأنه قيل: ماذا يكون بعد الحذر؟ فأجيب لا يضلونكم - انتهى. وقيل: هو خبر في معنى النهي مبالغة فيكون تأكيداً للأمر بالحذر. (ولايفتنونكم) أي لا يوقعونكم في الفتنة (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد.
155-
قوله: (كان أهل الكتاب) أي اليهود (بالعبرانية) بكسر العين (ويفسرونها) أي يترجمونها (لا تصدقوا) أي فيما لم يتبين لكم صدقة، لاحتمال أن يكون كذباً، وهو الظاهر من أحوالهم (أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى (ولا تكذبوهم) أي فيما حدثوا من التوراة والإنجيل، ولم يتبين لكم كذبه لاحتمال أن يكون صدقاً وحقاً وإن كان نادرا؛ لأن الكذوب قد يصدق، كذا في المرقاة. وقيل: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، أي إذا
وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا} الآية)) . رواه البخاري.
156-
(17) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم.
157-
(18) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من نبى بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون
ــ
كان ما يخبرونكم به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقاً فتكذبوه، أو كذباً فتصدقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه. {وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} من القرآن (الآية) تمامها:(وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى} أي من التوراة والإنجيل، وهذا محل الشاهد يعني إن كان ما تحدثونه حقاً آمنا به؛ لأنا آمنا بجميع الرسل، وما أنزل إليهم من الله تعالى، وإن لم يكن حقاً فلا نؤمن به ولا نصدقه أبداً {وما أوتي النبيون من ربهم} تعميم بعد تخصيص {لا نفرق بين أحد منهم} أي في الإيمان بهم وبكتبهم {ونحن له} أي لله أو لما أنزل {مسلمون} [136:2] أي مطيعون أو منقادون. قال البغوي في شرح السنة: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف فيما يشكل من الأمور فلا يقضي فيه بجواز ولا بطلان، وعلى هذا كان السلف. (رواه البخاري) في تفسير البقرة، والاعتصام، والتوحيد.
156-
قوله: (كفى بالمرء) هو مفعول "كفى" والباء زائدة، و"كذباً" تمييز، و"أن يحدث" فاعل "كفى"(كذباً) الخ. يعني لو لم يكن للمرء كذب إلا تحديثه بكل ما سمع من غير تبيّنه أنه صدق أم كذب يكفيه وحسبه من الكذب؛ لأن جميع ما يسمع الرجل لا يكون صدقاً بل يكون بعضه كذباً، وهذا زجر عن التحديث بشيء لم يعلم صدقه، بل يلزم أن يبحث في كل ما سمع من الحكايات والأخبار، خاصة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن علم صدقه يتحدث به، ولذا أورد هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنة. (رواه مسلم) في مقدمة صحيحه، وأخرجه أيضاً أبوداود في الأدب، والحاكم، وأخرج أيضاً الحاكم نحوه عن أبي أمامة.
157-
قوله: (ما من نبي) زيادة "من" لاستغراق النفي، وهو يحمل على الغالب؛ لأنه جاء في حديث: أن نبياً يجيئ يوم القيامة ولم يتبعه من أمته إلا واحد (بعثه الله في أمته) كذا وقع في أكثر النسخ بالهاء بعد التاء، وكذا وقع في بعض نسخ المصابيح. قيل: والصواب ما وقع في بعض نسخ المشكاة والمصابيح "في أمة" بغير هاء موافقاً لما في صحيح مسلم (قبلي) قيل: على رواية "أمته" بالهاء يتعلق "قبلي" ببعث، أو يكون حالاً من "أمته" وعلى رواية "أمة" يكون "قبلي" صفة لأمة. (حواريون) بتشديد الياء، جمع حواري أي ناصرون. قال الطيبي: حواري الرجل صفوته وخالصته الذي أخلص ونقى من كل عيب، من الحوار بفتحتين وهو شدة البياض. وقيل: الحواري القصار بلغة النبط. وكان أصحاب عيسى
وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) رواه مسلم.
158-
(19) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة،
ــ
قصارين يقصرون الثياب، أي يحورونها ويبيضونها، فلما صاروا أنصاره غلب عليهم الاسم، ثم استعير لكل من ينصر نبياً ويتبع هداه تشبيها بأولئك؛ لأنهم خلصان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (وأصحاب) عطف تفسيري، أو الأصحاب غير الحواريين أعم منهم (سنته) أي بهديه وسيرته (ويقتدون بأمره) أي يتبعونه في أمره ونهيه. (ثم إنها) الضمير للقصة (تخلف) بضم اللام، أي تحدث (خلوف) بضم الخاء، جمع خلف بسكون اللام مع فتح الخاء كعدل وعدول، وهو الردى من الأعقاب، أو ولد السوء. والخلف بفتحتين يجمع على أخلاف كسلف وأسلاف، وهو الصالح من الأعقاب والأولاد. والمعنى أنه يجيء من بعد أولئك السلف الصالح أناس لا خير فيهم، ولا خلاق لهم في أمور الديانات. (فمن جاهدهم) جزاء شرط محذوف، أي إذا تقرر ذلك فمن حاربهم وأنكر عليهم إلخ (فهو مؤمن) قال الطيبي: التنكير للتنويع، فالأول دل على كمال الإيمان، والثالث على نقصانه. والمتوسط على القصد فيه. وفي "حبة خردل" على نفيه بالكلية. (ومن جاهدهم بقلبه) أي أنكر عليهم بقلبه بأن يكره ويغضب عليهم، ولو قدر لحاربهم باليد أو باللسان (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هي اسم "ليس" و"من" الإيمان" صفته قدمت فصارت حالاً منها، و"وراء ذلك" خبره. ثم ذهب المظهر إلى أن الإشارة بذلك إلى الإيمان في المرتبة الثالثة. قال الطيبي: ويحتمل أن يشار إلى المذكور كله من مراتب الايمان، أي ليس وراء ما ذكرت من مراتب الإيمان مرتبط قط؛ لأن من لم ينكر بالقلب رضى بالمنكر، والرضا بالمنكر كفر، فتكون هذه الجملة المصدرة بليس معطوفة على الجملة قبلها بكمالها. قال القاري: والأول هو الظاهر، أي وراء الجهاد بالقلب. (رواه مسلم) في الإيمان.
158-
قوله: (من دعا إلى هدى) أي دعا غيره إلى ما يهتدي به من الأعمال الصالحة (كان له) أي للداعي (لا ينقص) بضم القاف (ذلك) إشارة إلى مصدر "كان" وقيل: الأظهر أنه راجع إلى "الأجر"(من أجورهم شيئاً) هو مفعول به لينقص، أي لا ينقص شيئاً من أجورهم، أو مفعول مطلق أي شيئاً من النقص. وهذا دفع لما يتوهم أن أجر الداعي إنما يكون مثلاً بالتنقيص من أجر التابع، وبضم أجر التابع إلى أجر الداعي. (إلى ضلالة) أي إلى فعل إثم
كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)) رواه مسلم.
159-
(20) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء))
ــ
(من آثامهم) ضمير الجمع في "أجورهم" و"آثامهم" يعود "من" باعتبار المعنى. قال القاضي: أفعال العباد وإن لم تكن موجبة للثواب والعقاب إلا أن عادة الله جرت بربطها بها ارتباط المسببات بأسبابها، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره يترتب أيضاً على ما هو مسبب عن فعله، كالإشارة إليه، والحث عليه. ولما كانت الجهة التي استوجب بها المسبب الأجر غير الجهة التي استوجب بها المباشر، لم ينقص من أجره شيئاً - انتهى. واختلفوا في أنه إذا تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به فهل ينقطع إثم دلالته بتوبته أو لا؟ والظاهر هو الأول؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها، والله أعلم. (رواه مسلم) في العلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في العلم، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجة في السنة.
159-
قوله: (بدأ) روي بالهمزة، أي ابتدأ، وروى بدونها، أي ظهر، والأول هو الأشهر على الألسنة، ويؤيده المقابلة بالعود، فإن العود يقابل بالابتداء. وقال النووى: ضبطناه بالهمزة، ومن الابتداء. والروايتان بالفعل المبني للمعلوم، المسند إلى فاعله، واستشكل بعضهم كونه بالهمزة من البدأ بمعنى الابتداء؛ لأن بدأ المهموز متعد، ولذلك رجح ضبطه بالقصر من البدو بمعنى الظهور (الإسلام غريبا) أي في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر، يعني كان الإسلام في أوله كالغريب الوحيد الذي لا أهل له؛ لقلة المسلمين يومئذٍ، وقلة من يعمل بالإسلام. وأصل الغريب البعيد عن الوطن (وسيعود كما بدأ) أي وسيلحقه النقص والاختلال لفساد الناس، وظهور الفتن والبدع، واندراس رسوم السنة، وعدم القيام بواجبات الإيمان حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضاً كما بدأ (فطوبى) أي فرحة وقرة عين، أو سرور وغبطة، أو الجنة، أو شجرة فيها (للغرباء) فسرهم صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عوف عند الترمذي: بأنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس بعده من سنته، كما سيأتي، وفي حديث ابن مسعود عند ابن ماجه: بالنزاع من القبائل، وهو جمع نزيع ونازع، وهو الغريب الذي أنزع عن أهله وعشيرته الذين يخرجون عن الأوطان لإقامة سنن الإسلام، وقد جاء عن بعض السلف أنهم أهل الحديث، قاله السندهي. وفيه تنبيه على أن نصرة الإسلام، والقيام بأمره يصير محتاجاً إلى التغرب عن الأوطان، والصبر على مشاق الغربة كما كان في أول الأمر. قال الطيبي: أما أن يستعار الإسلام للمسلمين والغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وأما أن يجرى الإسلام على الحقيقة فالكلام على التشبيه، والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعلى هذا "غريباً" إما حال أي بدأ الإسلام مشابهاً للغريب، أو مفعولاً مطلقاً أي ظهور الغرباء فريداً وحيداً، لا مأوى له حتى تبوأ دار الإيمان، أي طيبة، ثم أتم الله نوره في المشارق والمغارب فيعود آخر الأمر وحيداً شريداً إلى طيبة كما بدأ. هذا، وقد أطال الشاطبي الكلام في بيان معنى الحديث في مقدمة