الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الثالث}
184-
(45) عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاذة والقاصية والناحية، وإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة)) رواه أحمد.
185-
(46) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فارق الجماعة شبراً فقد خلع
ــ
في المجمع (1/158) من رواية الطبراني فقط، وقال:"ورجاله موثقون"، وفيه نظر فإنه من رواية أبي المقدام، واسمه هشام بن زياد، وهو متروك، كما قال الحافظ في التقريب. ومن طريقه رواه الهروي في ذم الكلام (ق/60/2) .
184-
قوله: (ذئب الإنسان) الذئب مستعار للمفسد والمهلك (كذئب الغنم) أي في العداوة والإهلاك. (يأخذ الشاذة) قال الطيبي: صفة للذئب؛ لأنه بمنزلة النكرة {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [5:62]، ويجوز أن يكون حالاً منه والعامل معنى التشبيه- انتهى. وقيل: إنه استئناف مبين، والمعنى: يأخذ غالباً أو بالسهولة من غير تدارك، وهو تمثيل مثل حال مفارقة الجماعة والسواد الأعظم، وانقطاعه عنهم، واعتزاله عن صحبتهم، ثم تسلط الشيطان عليه وإغوائه، بحالة شاة قاصية شاذة من قطيع الغنم، ثم افتراس الذئب إياها بسبب انقطاعها. والشاذة بتشديد الذال المعجمة، هي النافرة التي لم تؤنس بأخواتها ولم تختلط بهن. (والقاصية) أي التي قصدت البعد عنهن لأجل المرعى مثلاً لا للتنفر. (والناحية) أي التي غفل عنها، وبقيت في جانب منها، فإن الناحية هي التي صارت في ناحية من الأرض عن أخواتها لغفلتها. (وإياكم والشعاب) بكسر الشين، جمع الشعب بالكسر أيضاً، وهو الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف منه، ولذلك قيل: شعبت الشيء إذا جمعته، وشعبته إذا فرقته، فهو من الأضداد، والمراد المنعطفات في الأودية؛ لأنها محل السباع والهوام وقطاع الطريق وأماكن الجن، ولما فرغ من التمثيل أكده بقوله:"وإياكم"، وعقبه بقوله:(وعليكم بالجماعة والعامة) تقريراً بعد تقرير، وقد تقدم معنى الجماعة، والمراد منها في شرح حديث ابن عمر في الفصل الثاني، وقيل في معنى هذه الجملة: وعليكم بمخالطة عامة المسلمين، وإياكم ومفارقتهم، والعزلة عنهم، واختيار الجبال والشعاب البعيدة عن العمران. (رواه أحمد) (ج5:ص233، 234) وفيه: يأخذ الشاة القاصية والناحية. وزاد في رواية: والمسجد. بعد قوله: والعامة. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وابن السجزي في الإبانة، كما في الكنز (ج1:ص52) وفي آخره: ((فعليكم بالجماعة والألفة والعامة والمساجد، وإياكم والشعاب)) .
185-
قوله: (من فارق الجماعة) المراد بالجماعة الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين من السلف الصالحين، المتمسكين بعرى الإسلام. (شبراً) بكسر الشين، ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر ممتدين، والمعنى: من فارق ما عليه الجماعة يترك السنة، واتباع البدعة، ونزع اليد عن الطاعة، ولو كان بشيء يسير يقدر في الشاهد بقدر شبر (فقد خلع) أي نزع
ربقة الإسلام من عنقه)) رواه أحمد، وأبوداود.
186-
(47) وعن مالك بن أنس مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله))
ــ
(ربقة الإسلام) الربقة بالكسر في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام، يعني ما يشد المسلم به نفسه من عرى الاسلام، أي حدوده وأحكامه، وأوامره ونواهيه. وقال الطيبي: استعيرت الربقة لانقياد الرجل واستسلامه لأحكام الشرع، وخلعها ارتداده، وخروجه عن طاعة الله وطاعة رسوله. وقال الخطابي: يقول من خرج عن طاعة إمام الجماعة أو فارقهم في الأمر المجتمع عليه فقد ضل وهلك، وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها، فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع - انتهى. وقيل: المعنى فقد نبذ عهد الله وأخفر ذمته التي لزمت أعناق العباد لزوم الربقة. قلت: الحديث قد استدل به على حجية الإجماع، وفيه نظر؛ فإنه ليس فيه إلا المنع من مفارقة الجماعة، فأين هذا من محل النزاع، وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية، فتأمل. (رواه أحمد) (ج5:ص180) ، (وأبوداود) في السنة، وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص127) ، وفي معنى الحديث عن حذيفة أخرج حديثه النسائي، وعن الحارث بن الحارث الأشعري أخرج حديثه الترمذي وصححه، وابن خزيمه وابن حبان في صحيحهما، والحاكم (ج1:ص127) وقال: صحيح على شرط الشيخين، وعن أبي هريرة أخرج حديثه مسلم في صحيحه، والنسائي في المجتبى بلفظ:((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، مات ميتة جاهلية)) . وعن ابن عباس عند الشيخين، وعن ابن عمر ومعاوية عند الحاكم.
186-
قوله: (عن مالك بن أنس) إمام دار الهجرة صاحب المذهب (مرسلاً) المرسل على ما هو المشهور عند أهل الحديث هو: قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعله. لكن المشهور في الفقة وأصوله أن قول من دون التابعي أيضاً يسمى مرسلاً سواء كان منقطعاً أو معضلاً. وبه قطع الخطيب، قال: إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الإستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا محمول على قول الخطيب، فإن الإمام مالكاً من أتباع التابعين، والأولى أن يقول معلقاً أو معضلاً مكان قوله:"مرسلاً"، فإن الحديث في المؤطا هكذا: مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم أمرين
…
)) الخ. قال الزرقاني: مر أن بلاغه صحيح كما قال ابن عيينة، وقد أخرجه ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده (تركت فيكم) أي تارك فيكم بعدي (أمرين) أي شيئين كما في حديث أبي هريرة عند الحاكم. (ماتمسكتم) أي مدة تمسككم، وفى نسخة الزرقاني للمؤطا "ما مسكتم" بفتح الميم والسين الخفيفة من المسك، أي أخذتم وتعلقتم واعتصمتم (بهما) أي بالأمرين معاً. (كتاب الله وسنة رسوله) أي حديث رسوله، وهما منصوبان على البدلية، أو بتقدير أعنى، وقيل: بالرفع على الخبرية
رواه في المؤطا.
187-
(48) وعن غضيف بن الحارث الثمالي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة))
ــ
بتقدير "هما"، وفي المؤطا "سنة نبيه"، قال الزرقاني: فإنما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن مسك بهما، واعتصم بحبلهما، وهما العرفان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إليهما معلوم من الدين ضرورة، لكن القرآن يحصل العلم القطعي. وفي السنة تفصيل معروف - انتهى. ثم في العدول عن "سنتي" مبالغة في زيادة شرفه، والحث على التمسك بسنته بذكره السبب في ذلك، وهو خلافته عن الله وقيامه برسالته، وأن ماجاء به ليس إلا من تلك الرسالة لا من تلقاء نفسه. (رواه) أي مالك، وفيه أنه يصير التقدير: رواه مالك عن مالك (في المؤطا) فكان حق المصنف أن يقول هكذا في المؤطا. والحديث ذكره مالك بلاغاً في باب النهي عن القول في القدر من كتاب الجامع، وهو من بلاغات الإمام كما عرفت وقد تقدم بيان حكمها في كلام سفيان وابن عبد البر وابن فرحون والسيوطي. ثم المؤطا بالهمزة في آخره، وقيل: بالألف، بمعنى الممهد، المنقح، المسهل، المهيأ لغة. وهذا الحديث أخرجه الحاكم (ج1:ص93) عن أبي هريرة مرفوعاً: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض)) . وأخرج الحاكم أيضاً (ج1:ص93) والبيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ((يا أيهاالناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه)) .
187-
قوله: (وعن غضيف) بالضاد المعجمة مصغراً، ويقال: غطيف بالطاء المهملة بدل الضاد المعجمة، والأول أثبت وأصح، (بن الحارث الثمالي) بضم الثاء المثلثة، وتخفيف الميم، نسبة إلى ثمالة بطن من الأزد، ويكنى أبا أسماء، حمصي، مختلف في صحبته، فذكره الحافظ في القسم الأول من حرف الغين من الإصابة، والمصنف والسكوني في الصحابة، وكذا البخاري، وابن أبي حاتم، والترمذي، والخليفة، وابن أبي يخيثمة، والطبراني، وآخرون، وذكره جماعة كابن سعد، والدارقطني، والعجلى، وغيرهم في ثقات التابعين، ومنهم من فرق بين غضيف بن الحرث فأثبت صحبته، وغطيف بن الحارث فقال: إنه تابعي. قال الحافظ في التقريب: وهو أشبه، مات سنة بضع وستين. (ما أحدث قوم بدعة) شرعية (إلا رفع مثلها) أي مقدارها في الكمية، أو الكيفية والمرتبة. سمى أحد الضدين مثلاً للآخر؛ لأن كل واحد منهما أقرب خطوراً بالبال عند ذكر الآخر، وأسرع ثبوتاً عند ارتفاع الآخر، فكأن بينهما تناسب ما، وإذا كان إحداث البدعة رافعاً للسنة ومغيراً لها كانت إقامة السنة قامعة للبدعة وماحية لها. (فتمسك) جواب شرط محذوف، أي إذا عرفت ذلك فتمسك (بسنة) أي صغيرة أو قليلة (خير من إحداث بدعة) شرعية، وإن كانت مستحسنة
رواه أحمد.
188-
(49) وعن حسان قال: ((ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة)) .
ــ
عند الناس، فبالأول يزيد النور ويحصل الأجر، وبالثاني تشيع الظلمة ويحصل الوزر، ومن المعلوم أن الشيء الذي يورث الأجر خير من الشيء الذي يورث الوزر، وهو من قبيل "العسل أحلى من المر"، وعلى حد {أى الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً} ، فالتقدير: التمسك بسنة فيه خير عظيم وببدعة لا خير فيه أصلاً. وقيل: معنى قوله: "إلا رفع مثلها من السنة" أنه بحدوث البدعة يبطل العمل بسنة، ففيه التحذير عن ارتكاب البدع. (رواه أحمد) (ج4:ص105) من طريق أبي بكر بن عبد الله، عن حبيب بن عبيد الله الرحبي، عن غضيف، قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أباأسماء: إنا قد جمعنا الناس على أمرين. قال: ما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر. فقال: إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال:؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة)) - انتهى. ولعل قوله: فتمسك بسنة، الخ. من قول غضيف موقوف عليه، مدرج في الحديث. وقد أخرجه أيضاً البزار، والطبراني في الكبير، وفي سندهما أبوبكر بن عبد الله، أي ابن أبي مريم الغساني، قال الحافظ أبوعبد الله، وابن معين، وأبوحاتم، وأبوزرعة، وغيرهم: ضعيف. وقال الهيثمي (ج1:ص188) : منكر الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف، وكان قد سرق بيته فاختلط. وصدر المنذري حديث غضيف هذا بلفظة "روي"، وهو دليل لكونه ضعيفاً بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين، كما صرح بذلك في مقدمة ترغيبه. وقال العزيزى: إسناده ضعيف، وفي الباب عن أبي هريرة عند الرافعي، وابن مسعود عند الديلمي، وابن عباس عند الطبراني في الكبير.
188-
قوله: (وعن حسان) غير منصرف على أنه فعلان، وقد ينصرف على أنه فعال، وهو ابن عطية كما صرح بذلك ابن بطة (ق114/2) والهروى (ق98/2) في روايتهما، والشاطبي في الاعتصام (85/1) وليس هو حسان بن ثابت الصحابي الشاعر كما وهم القاري وابن عطية، وهذا هو حسان بن عطية المحاربي مولاهم أبوبكر الشامي الدمشقي من ثقات التابعين، قال الحافظ في التقريب: ثقة فقيه عابد، من الرابعة، مات بعد العشرين ومائة. وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته: ذكره البخاري في الأوسط في فصل من مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة، وقال: كان من أفاضل أهل زمانه. (قال) أي حسان (ما ابتدع قوم بدعة) شرعية (مثلها) أي في العدد أو القدر (ثم لا يعيدها) أي الله تلك السنة (إليهم إلى يوم القيامة) ، وذلك أن السنة كانت متأصلة مستقرة في مكانها، فلما أزيلت عنه لم يمكن إعادتها
رواه الدارمي.
189-
(50) وعن إبراهيم بن ميسرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً.
190-
(51) وعن ابن عباس، قال:((من تعلم كتاب الله ثم اتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب)) . وفي رواية، قال: من اقتدى بكتاب الله
ــ
كما كانت أبداً، فمثلها كمثل شجرة ضربت عروقها في تخوم الأرض فلإذا قلعت لم يمكن إعادتها كما كانت. (رواه الدارمي) أي من قول حسان في باب اتباع السنة، قال: أخبرنا أبوالمغيرة، ثنا الأوزعي عن حسان، قال: ما ابتدع، الخ. وهذا سند صحيح، قال الشيخ الألباني: وقد روي من قول أبي هريرة، أخرجه أبوالعباس الأصم في حديثه.
189-
قوله: (وعن إبراهيم بن ميسرة) بميم مفتوحة وياء ساكنة وسين مهملة مفتوحة وبراء، الطائفي، نزيل مكة، ثبت، حافظ، من صغار التابعين. قال ابن المديني: له نحو ستين حديثاً أو أكثر. قال البخاري: مات قريباَ من سنة اثنتين وثلاثين ومائة. (من وقر) بالتشديد أي عظم أو نصر (صاحب بدعة) سواء كان داعياً لها أم لا، (فقد أعان على هدم الإسلام) ؛ لأن المبتدع مخالف للسنة، ومعاون مخالف الشيء معاون لهدمه، وكان من حق الظاهر أن يقال: من وقر المبتدع فقد استخف السنة. فوضع موضعه "فقد أعان على هدم الإسلام"؛ ليؤذن بأن مستخف السنة مستخف للإسلام، ومستخفه هادم لبنيانه، وهو من باب التغليظ، فإذا كان حال الموقر هكذا فما حال المبتدع، وفيه أن من وقر صاحب سنة كان الحكم بخلافه. (رواه البيهقي) الخ. واعتضد هذا المرسل بما روى الطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية عن معاذ بن جبل مرفوعاً نحوه، وفيه بقية، وهو ضعيف، قاله الهيثمي (ج1:ص188) وبما روى الطبراني في الكبير عن عبد الله بن بسر، قال العزيزى: هو حديث ضعيف.
190-
قوله: (وعن ابن عباس قال) أي موقوفا (من تعلم كتاب الله) نظراً أو حفظاً أو علماً بمعناه، (ثم اتبع ما فيه) من الأمر والنهي (هداه الله من الضلالة) ضمن "هدى" معنى أمن فعداه بمن إلى المفعول الثاني، أي أمنه الله من ارتكاب المعاصي، والانحراف عن الطريق المستقيم، قال القاري كذا قاله الطيبي. والأظهر أن معناه من اتبع القرآن ثبته الله على الهداية، ووقاه من الوقوع في الضلالة ما دام يعيش، (ووقاه) أي حفظه (سوء الحساب) أي مناقشته المؤدية إلى السوء، قال الطيبي: هو عبارة عن كونه من أصحاب اليمين، فكما أنه أمن في الدنيا من الضلال كذلك يأمن في الآخرة من العذاب. وفيه أن سعادة الدارين منوطة بمتابعة كتاب الله، ومتابعة موقوفة على معرفة سنة رسوله ومتابعة، فهما متلازمتان شرعاً لا ينفك أحدهما عن الآخر. (وفي رواية قال) أي ابن عباس (من اقتدى بكتاب الله)
لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} رواه رزين.
191-
(52) وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبتى الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داع يدعوا، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك
ــ
في جميع أموره وشؤونه وأحواله. (لا يضل) أي لا يقع في الضلالة (ولا يشقى) أي لا يتعب ولا يعذب. (ثم تلا هذه الآية) أي استشهاداً لما قاله (فمن اتبع هداى) أي ما يهدى به، أو أريد به المصدر مبالغة، وهو القرآن بقرينة الإضاءة، أي الهداية المخصوصة بي، المنسوبة إلي، وفي معناه الهداية النبوية، والسنة المصطفوية، ولذا قال في المعالم: أي الكتاب والسنة. (رواه رزين) وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك (ج2:ص381) قال: ((من قرأ القرآن، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله عزوجل قال: ((من اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} )) [123:20] قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقره الذهبي في التلخيص، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه أبوشيبة، وهو ضعيف جداً، قاله الهيثمي (ج1: ص169) .
191-
قوله: (ضرب الله مثلاً) أي بيّن مثلاً، وذلك لإخراج المعقول في صورة المحسوس تقريباً للمعقول. (صراطاً مستقيماً) بيان للمثل، قال القاري: هو بدل من "مثلاً" لا على إهدام المبدل كما في قولك: زيد رأيت غلامه رجلاً صالحاً. (وعن جنبتي الصراط) بفتح الجيم وسكون النون، أي جانبيه وطرفيه. (سوران) بالضم تثنية سور، أي جدران وأصله حائط يطوف بالمدينة، والجملة حال عن "صراطا". (فيهما أبواب) الجملة صفة "سوران"(مفتحة) من التفتيح (ستور) جمع الستر بالكسر (مرخاة) أي مرسلة ومسبلة. (وعند رأس الصراط أي عليه، (ولا تعوجوا) بتشديد الجيم من الإعواجاج، وفي بعض النسخ بتشديد الواو على حذف إحدى التائين فهو تأكيد لما قبله، أي لا تميلوا إلى الأطراف، قال الطيبي: عطف على "استقيموا" على الطرد والعكس؛ لأن مفهوم كل منهما يقرر منطوق الآخر، وبالعكس (وفوق ذلك) عطف على "وعند رأس الصراط" والمشار إليه بذلك الصراط أو الداعي. (كلما هم عبد) أي قصد وأراد (أن يفتح شيئاً) أي قدراً يسيراً. (من تلك الأبواب) أي ستورها (قال) أي الداعي، وهو جواب "كلما"(ويحك) زجر له عن تلك الهمة، وهي كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، ثم استعمل هنا لمجرد الزجر عما هم به من
لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. ثم فسره فأخبر: أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن)) رواه رزين.
192-
(53) ورواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن النواس بن سمعان، وكذا الترمذي عنه إلا أنه ذكر أخصر منه.
193-
(54) وعن ابن مسعود قال: "من كان مستناً، فيستن بمن قد مات، فإن الحي
ــ
الفتح. (لا تفتحه) أي شيئاً من تلك الأبواب أي ستورها (تلجه) أي تدخله من الولوج، يعني لا تقدر أن تملك نفسك وتمسكها عن الدخول بعد الفتح. (ثم فسره) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الصراط هو الإسلام) وهو طريق مستقيم، والمطلوب من العبد الاستقامة عليه أي امتثال جميع أحكامه. (وأن الأبواب المفتحة محارم الله) أي المعاصي التي حرمها الله على الناس، فإنها أبواب للخروج من كمال الإسلام والاستقامة، والدخول في العذاب والملامة. (وأن الستور المرخاة حدود الله) قيل: الحد الفاصل بين العبد ومحارم الله والمانع له من ارتكابها، كما قال الله تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} [229:2] ، وهي عبارة عن أحكامه، وقيل: المراد من الستور الأمور المستورة الغير المبينة من الدين المسماة بالشبهة المعبر عنها بحول الحمى. (وأن الداعي من فوقه) أي من فوق الداعي الأول. (هو واعظ الله في قلب كل مؤمن) هو لمة الملك في قلب المؤمن، والهم لمة الشيطان. (رواه رزين) أي عن ابن مسعود.
192-
قوله: (ورواه أحمد) الخ. (ج4:ص182، 183) من طريقين في أحدهما بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس، لكن صرح بسماعه من بحير بن سعد‘ وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1:ص73) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة. ووافقه الذهبي. (عن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بفتح السين المهملة، وقيل بكسرها وسكون الميم، وبالعين المهملة، العامري الكلابي، سكن الشام، صحابي، ولأبيه أيضاً صحبة. روي له سبعة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بثلاثة. (وكذا الترمذى عنه) أي روى عن النواس في الأمثال، وحسنه (إلا أنه) أي الترمذي (ذكر أخصر منه) أي من هذا الحديث، أو أخصر مما ذكر غيره.
193-
قوله: (مستناً) بتشديد النون، أي مقتدياً بسنة أحد وطريقته. (فليستن بمن قد مات) أي على الإسلام، أو العلم والعمل، وعلم حاله وكماله على وجه الاستقامة. أخرج الكلام مخرج الشرط والجزاء تنبيهاً به على الاجتهاد، وتحري طريق الثواب بنفسه بالاستنباط من معاني نصوص الكتاب والسنة، فإن لم يتمكن منه فليقتد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم اتبعوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم على ما شاهدوا من أقواله وأفعاله وأحواله وتقريره، فالاستنان بهم متعين. وكأن ابن
لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)) رواه رزين.
194-
(55) وعن جابر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة، فقال: يار سول الله صلى الله عليه وسلم هذه نسخة من التوراة،
ــ
مسعود يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة باقتفاء آرائهم، والاهتداء بهديهم، قال القاري: خص أمواتهم؛ لأنه علم استقامتهم على الدين واستدامتهم على اليقين بخلاف من بقي منهم حياً، فإنه يمكن منهم الافتنان ووقوع المعصية، بل الردة والكفر؛ لأن العبرة بالخاتمة، وهذا تواضع منه في حقه لكمال خوفه على نفسه، وإلا فهو ممن يقتدي به حياً وميتاً-انتهى. وقال صاحب اللمعات: أراد "بمن مات" الصحابة جميعاً، وبالحي أهل زمانه غير الصحابة. (لا تؤمن عليه الفتنة) أي الابتلاء في الدين. (أولئك) إشارة إلى من مات، أفرد الضمير في "مات" نظراً إلى اللفظ وقال "أولئك" نظراً إلى المعنى. (كانوا أفضل هذه الأمة) أي أمة الإجابة، وهم خير أمة، فكانوا أفضل الأمم، و"هذه" إشارة إلى ما في الذهن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى انقراض العال. م (أبرها قلوباً) أي أطوعها وأحسنها وأخلصها (وأعمقها علماً) أي أكثرها غوراً من جهة العلم، وأدقها فهماً (وأقلها تكلفاً) أي تصنعاً في العمل، وكذا في العلم والقراءة والطعام واللباس وغير ذلك. (اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه) فإنهم نقله أقواله وحملة أحواله إلى من بعدهم، وأيضاً جاهدوا في الله حق الجهاد، وأظهروا الدين، يعني لما جعلهم الله تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واصطفاهم واختصهم من بين الخلائق بهذه الفضيلة، علم أنهم أفضل الناس وخيار الخلق ممن بعدهم تلميحاً إلى قوله تعالى:{وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} [26:48] ، (فاعرفوا لهم فضلهم) أي على غيرهم (واتبعوهم) بتشديد التاء، أي كونوا متبعين لهم حال كونكم ماشين (على أثرهم) بفتحتين وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، أي عقبهم في العمل والعلم. (وتمسكوا) أي خذوا واعملوا (بما استطعتم) فيه إشارة إلى عجز المتأخرين عن المتابعة الكاملة لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. (وسيرهم) بكسر السين وفتح الياء جمع السيرة. (فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) ؛ لأنهم اتبعوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم على ما شاهدوا من الأقوال والأحوال والأفعال. قال الطيبي: في قوله: "فاعرفوا لهم" قد أجمل ههنا ثم فصل بقوله "فضلهم"، كما في قوله تعالى:{رب اشرح لي صدري} [25:20] ، والمراد من العرفان ما يلازمه من متابعتهم ومحبتهم والتخلق بأخلاقهم، فإن قوله:"واتبعوهم" عطف على "اعرفوا" على سبيل البيان، وقوله "على أثرهم" حال مؤكدة من فاعل "اتبعوا" نحو قوله:{ثم وليتم مدبرين} [25:9] . (رواه رزين) وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
194-
قوله: (بنسخة من التوراة) أي بشيء نسخ ونقل منها (هذه نسخة من التوراة) أي فهل تأذن لنا أن
فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال أبوبكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني)) رواه الدارمي.
195-
(56) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً.
ــ
نطالع فيها لنطلع على ما فيها من أخبار الأمم وشرائع موسى؟ (فسكت) من كمال حلمه (فجعل يقرأ) أي شرع عمر يقرأ النسخة ظناً منه أن السكوت علامة الرضا والإذن. (يتغير) أي من أثر الغضب (ثكلتك) أي فقدتك (الثواكل) جمع ثاكل وثاكلة، أي من الأمهات والبنات والأخوات، وأصله دعاء للموت، لكنه مما يجري على ألسنتهم ولا يراد بها الدعاء، كتربت يمينه. (ما ترى)"ما" نافية بتقدير الاستفهام. (ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)"ما" هذا موصولة أو موصوفة. (أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله) غضب الله توطئه لذكر غضب رسوله إيذاناً بأن غضبه غضبة، وإيماء إلى أن التعوذ إنما هو من غضب الله حقيقة، وإنما يتعوذ من غضب رسوله؛ لأنه سبب لغضبه تعالى. (رضينا بالله رباً) الخ. قاله أعتذاراً عما صدر عنه، وجمع الضمير إرشاداً للسامعين، أو إيماء إلى أنه مع الحاضرين مقام الرضا طلباً للرضا اجتناباً عن الغضب (لو بدا) بالألف دون الهمزة أي ظهر (لكم موسى) على سبيل الفرض، والتقدير (فاتبعتموه وتركتموني) لم يقتصر على الاتباع؛ لأنه بمجرده لا محذور فيه، إنما المحذور في اتباع يؤدي إلى الترك. (لضللتم) بفتح اللام وكسرها من ضرب وسمع (عن سواء السبيل) فكيف مع وجودي وعدم ظهور موسى تتبعون كتابه المنسوخ. (ولو كان) أي موسى (حياً) أي في الدنيا (وأدرك نبوتي) أي زمانها (لاتبعني) ؛ لأن دينه صار منسوخاً في زماني، ولأخذ الميثاق منه ومن سائر الأنبياء على ذلك، وفي الحديث نهي بليغ عن العدول من الكتاب والسنة إلى غيرهما. (رواه الدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، وعن عبد الله بن ثابت الأنصاري أخرجه ابن سعد، وأحمد، والحاكم في الكنى، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي الدرداء أخرجه الطبراني في الكبير، وعن عبد الله بن الحارث أخرجه البيهقي في الشعب.
195-
قوله: (كلامي لا ينسخ كلام الله) النسخ في اللغة الرافع والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، ونسخت
الريح الأثر. وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل كقولهم: نسخت الكتاب. فأما النسخ في الشرع فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير، وحده: أن يرفع بخطاب متراخ حكم ثبت بخطاب متقدم. وهو في الحقيقة بيان؛ لانتهاء الحكم الشرعي المطلق، وهذا عند المتأخرين، وأما السلف فمرادهم بالنسخ رفع الحكم بجملته تارة كما هو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى أنهم ليسمون الاستثناء، والشرط، والصفة نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ولذلك كثر إطلاق النسخ في كلامهم. ثم ههنا خمس صور: الأولى نسخ القرآن بالقرآن، والثانية نسخ السنة المتواترة بمثلها، والآحاد بالآحاد، ولا اختلاف فيهما؛ لأن ذلك متماثل، فجاز أن يرفع بعضه بعضاً، والثالثة نسخ السنة بالقرآن كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس، وتحريم المباشرة ليالي رمضان، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف بالقرآن، وهو كان ثابتاً بالسنة، وفيها خلاف، والجواز هو ما عليه الجمهور، وللشافعي في ذلك قولان، وصحح عامة الشافعية الجواز، وهو الأصح عندنا؛ لأنه لا وجه للمنع قط، ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع، بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع، فمن ذلك قوله تعالى:{قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [144:2] . فنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالقرآن، وكان ذلك ثابتاً بالسنة، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان بقوله تعالى:{فالآن باشروهن} [187:2]، ونسخ صوم عاشوراء بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [185:2]، ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى:{إنما الخمر والميسر} الآية [90:5] . ونسخ جواز تأخير الصلاة إلى انجلاء القتال بما ورد في القرآن من صلاة الخوف، ونحو ذلك مما يكثر تعداده. والرابعة نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وفيها أيضاً خلاف، فالمشهور عن أحمد منعه، واختاره أبويعلى من الحنابلة، وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، والظاهرية وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى:{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [106:2]، قالوا: في الآية حصر الناسخ في كونه خيراً من المنسوخ أو مثله، والسنة لا تساوي القرآن فضلاً عن أن تكون خيراً منه، فلا تكون ناسخة له. وقيل: يجوز ذلك وهو رواية عن أحمد، واختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وأكثر الحنفية والمالكية وغيرهم، وهو الذي نصره ابن الحاجب، وحكاه عن الجمهور، وهو الأرجح عندنا؛ لأن السنة شرع من الله عزوجل، كما أن الكتاب شرع منه سبحانه، وقد قال:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [7:59] ، وأمر سبحانه بإتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتاً على حد ثبوت الكتاب العزيز، حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره، وليس في العقل ما يمنع من ذلك، فإن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي غير نظم القرآن، وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله: ولا وصية لوارث. وهذا يدل على وقوع نسخ القرآن بالسنة شرعاً. وأما قوله: {ما ننسخ من آية} الخ. فليس فيه إلا أن ما يجعله الله منسوخاً من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه، أو بما هو مثله للمكلفين، وما آتانا على لسان رسوله فهو كما آتانا منه، كما قال سبحانه:{إن هو إلا وحي يوحى} [4:53} وكما قال: {قل ما يكون لي أن أبدله
196-
(57) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحاديثنا ينسخ بعضها بعضاً كنسخ القرآن)) .
ــ
من تلقاء نفسي} [15:10]، وقيل: المراد نأت بخير منها في الحكم ومصلحته. والسنة تساوي القرآن في ذلك، إذ المصلحة الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن إما في عظم الأجر بناء على نسخ الأخف بالأثقل أو في تخفيف التكليف بناءً على نسخ الأثقل بالأخف، وأيضاً فإن الآية على التقديم والتأخير. والتقدير: ما ننسخ من آية نأت منها بخير، فلا يكون فيه دلالة على محل النزاع أصلاً. وقال في المستصفى: ليس المراد من قوله تعالى: {نأت بخير منها} نأت بقرآن آخر خيراً منها؛ لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيراً من بعض، قال: بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه، أو أجزل ثواباً، هذا كلامه. وعليه فلا دليل للمنع في هذه الآية. واستدل المانعون أيضاً بحديث جابر هذا، قالوا: هو نص في المسألة، وأجيب عنه بعدة وجوه: الأول أنه ضعيف جداً بل موضوع. فإن في سنده محمد بن داود القنطري، روى عن جبرون بن واقد الإفريقي، عن ابن عيينة، وعن أبي الزبير. قال الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن داود: وحدث بحديثين باطلين، ذكرهما ابن عدي في ترجمة جبرون، وقال تفرد بهما محمد. وقال الذهبي في ترجمة جبرون: متهم، فإنه روى بقلة حياء عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً: كلام الله-الحديث، وعنه محمد بن داود أن مخلد بن حسين حدثه عن هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة مرفوعاً: أبوبكر وعمر خير الأولين-الحديث، تفرد بهما القنطري، وهما موضوعان- انتهى. والثاني على تسليم صحته أنه ليس نصاً في محل النزاع، بل هو ظاهر؛ لأن لفظه عام، ودلالة العام ظاهرة لا قاطعة، فيحمل على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن فيبقى التواتر لا دليل على المنع فيه من ذلك. والثالث أن المراد بكلامي ههنا ما أقوله اجتهاداً ورأياً. والرابع أن المراد نسخ تلاوة الكتاب وألفاظه لا حكمه. وقيل: إنه منسوخ. قال صاحب اللمعات: ولو حمل قوله: "كنسخ القرآن" في الحديث الآتي على معنى نسخ الأحاديث القرآن بإضافة المصدر إلى المفعول لكان ناسخاً لهذا الحديث-انتهى. والصورة الخامسة للنسخ هو نسخ القرآن والسنة المتواترة بأخبار الآحاد، وفيه أيضاً اختلاف فالأكثر على أنه غير جائز شرعاً، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، واحتجوا بأن الثابت قطعاً لا ينسخه مظنون، وقال قوم من أهل الظاهر، ومن ابن حزم بجواز ذلك، وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز بعده. ودليل القائلين بالجواز أن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعاً لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان دليله قطعياً، فالمنسوخ إنما هو الظني لا ذلك القطعي. ذكر هذا الطوفي وأطال في بيانه، ومال إلى جواز نسخ الكتاب ومتواتر السنة بخبر الواحد. وتفاصيل مذاهب الكل مع دلائلها مذكورة في كتب أصول الفقه، فارجع إليها خصوصاً إلى إرشاد الفحول للشوكاني، وروضة الناظر للمقدسي، والإحكام لأصول الأحكام لابن حزم، والمستصفى للغزالى.
196-
قوله: (إن أحاديثنا) أي بشرط صحتها (ينسخ بعضها بعضاً) أي بشرط معرفة التاريخ (كنسخ القرآن) ،
197-
(58) وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها،
ــ
أي كما ينسخ بعض آياته بعضاً. وهذا مما لا اختلاف فيه، وارجع للتفصيل إلى كتاب الاعتبار للحازمي. والحديث أخرجه أيضاً الديلمي، وهو حديث ضعيف جداً؛ لأن في سنده محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه. ومحمد بن الحارث هذا، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الفلاس: يروى عن ابن البيلماني أحاديث منكرة، متروك الحديث. وقال أبوحاتم: ضعيف. ومحمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، ضعفوه. قال النسائي وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف. وقال ابن حبان: حدث عن أبيه بنسخة شبيهاً بمأتي حديث كلها موضوعة. وأبوه عبد الرحمن بن البيلماني لينه أبوحاتم. وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
197-
قوله: (وعن أبي ثعلبة الخشني) بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية بعدها نون، نسبة إلى خشين بطن من قضاعة. صحابي مشهور، معروف بكنيته، اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، ذكره الحافظ في الإصابة، وفي التهذيب والتقريب، وهو من بايع تحت الشجرة، ولم يقاتل مع علي ولا مع معاوية، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه فأسلموا، ونزل بالشام. له أربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد مسلم بواحد. مات وهو ساجد سنة (75)، وقيل: قبل ذلك بكثير في أول خلافة معاوية بعد الأربعين. (إن الله فرض فرائض) جمع فريضة بمعنى مفروضة، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أي أوجب أحكامها مقدرة مقطوعة، سواء كان مما أوجب الله في كتابه أو لسان رسوله. (فلا تضيعوها) بتركها رأساً، أو بترك شروطها وأركانها. (وحرم حرمات) أي محرمات من المعاصي (فلا تنتهكوها) أي لا تقربوها فضلاً عن أن تتناولوها. وقال في الصحاح: انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل. وقيل: الانتهاك خرق محارم الشرع. (وحد حدوداً فلا تعتدوها) أصل الحد المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام. والمعروف في اصطلاح الفقهاء من أسماء الحدود ثلاثة أشياء: أحدها المحارم والمعاصي، ومنه قوله تعالى:{تلك حدود الله فلا تقربوها} [187:2] . والثاني العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة، كما يقال: حد الزنا، وحد السرقة، وحد شرب الخمر. والثالث جملة ما أذن في فعله سواء كان على طريق الوجوب، أو الندب أو الإباحة، ومنه قوله تعالى:{تلك حدود الله فلا تعتدوها} [229:2] ، واعتداء الحدود هو تجاوز ذلك إلى ارتكاب ما نهي عنه؛ لأنه ليس ما وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه، ولهذا مدح الله الحافظين لحدود الله وذم من ر يعرف حد الحلال من الحرام، واختلفوا في معنى قوله:((وحد حدوداً فلا تعتدوها)) فحمله بعضهم على العقوبات الزاجرة عن المحرمات المقدرة، وقال في معناه: حد أي بين وعين حدوداً في المعاصي من القتل والزنا والسرقة، فلا تعتدوها أي لا تتجاوزا عن الحد لا بالزيادة ولا بالنقصان ولا بالترك رأساً. وحمله ابن رجب على المعني الثالث، قال: الوقوف
وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) ، روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني.
ــ
عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلى ما نهي عنه، وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضاً أو ندباً أو مباحاً. وحينئذٍ فلا تكرار في هذا الحديث. وقال القاري: هذه الجملة كالتقرير والتأكيد للقسمين المتقدمين. (وسكت عن أشياء) أي ترك ذكر أشياء أي حكمها من الحرمة والحل والوجوب، وهو محمول على ما انتفى فيه دلالة النص على الحكم بجميع وجوهها المعتبرة، فيستدل حينئذٍ بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم أو تحليل، على أنه معفو عنه لا حرج على فاعله ولا على تاركه. (فلا تبحثوا عنها) هذا يحتمل اختصاص النهي بزمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سبباً لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، ويحتمل أن يكون النهي عاماً، فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوجب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول العافية وترك البحث عنه والسؤال خير. وهذا هو الراجح. وليس المراد من البحث المنهي عنه ما يفعله المجتهدون في معرفة الأحكام الشرعية من البحث عن دخول الشيء في دلالات النصوص الصحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح، فإنه حق يتعين فعله على المجتهد، وبالجملة فالحديث يقتضي أن الأصل في الأشياء الإباحة والحل. وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك. وهذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة، قال ابن رجب: وله علتان؛ أحدهما أن مكحولا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة، كذلك قال أبوشهر الدمشقي، وأبونعيم الحافظ وغيرهما. والثانية أنه اختلف في رفعه ووقفه، ورواه بعضهم عن مكحول عن قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر، وقد حسنه النووي أي في أربعينه، وكذلك حسن قبله أبوبكر السمعاني في أماليه- انتهى. وأخرجه أيضاً إسحق بن راهويه، والطبراني في الكبير، وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في السنن، وروى معناه مرفوعاً من حديث أبي الدرداء، أخرجه البزار في مسنده والحاكم. قال البزار: إسناده صالح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ومن حديث سلمان الفارسي، أخرجه الترمذي في اللباس، وابن ماجه في الأطعمة، وسنده ضعيف، وأيضاً اختلف في رفعه ووقفه، وإرساله ووصله، والراجح وقفه. ومن حديث ابن عمر، أخرجه ابن عدى، وضعف إسناده. ومن حديث ابن عباس، أخرجه أبوداود في الأطعمة لكنه موقوف.