الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه أبوداود والترمذي.
{الفصل الثالث}
113-
(35) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عزوجل فرغ إلى كل عبد
ــ
الوائدة: القابلة الدافنة لها، والموؤدة أمها الموؤدة لها فحذف الصلة - انتهى. ملخصًا مختصراً. قلت: لابد من هذا التأويل ليصح كون الموؤدة في النار ولئلا يلزم التعارض، وأجيب أيضاً بأن الحديث ورد في قضية خاصة، وهي أن ابني مليكة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن أم لهما كانت تئد فقال صلى الله عليه وسلم الحديث. أخرجه أحمد والنسائي، فأما الوائدة أي الأم فلأنها كافرة، وأما الموؤدة أي البنت المدفونة فلاحتمال كونها بالغة كافرة أو غير بالغة لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها من أهل النار بقضاء الله وقدره في الأزل إما بوحي أو غيره وحينئذٍ فـ (ال) في "الموؤدة" ليست للاستغراق بل لعهد، فلا يجوز الحكم على أطفال المشركين بأنهم من أهل النار بحديث ابن مسعود هذا؛ لأن هذه واقعة عين في شخص معين، فلا يجوز إجراءه على عمومه في جميع الموؤدين وحمله على العموم مع الاحتمال المذكور، والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل ههنا على خصوص السبب دفعاً للمعارضة بينه وبين الأحاديث الدالة على كون أولاد المشركين من أهل الجنة، ولا يخفى على هذا وجه المناسبة بين الحديث والباب. (رواه أبوداود) في السنة وسكت عنه هو والمنذري، وقال العزيزي: إسناده صحيح. وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبراني في الكبير، والهيثم بن كليب في مسنده، وابن عدى ويحيى بن صاعد في مسنده، وأخرجه أحمد (ج3:ص478) والنسائي عن سلمة بن يزيد الجعفي مطولاً بذكر السبب كما أشرنا إليه، وقد روى أحمد عن خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها قالت: قلت: ((يارسول الله صلى الله عليه وسلم من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة)) ، كذا ذكره ابن كثير في تفسيره (والترمذي) كذا في نسخة وهي خطأ من النساخ جزما.
113-
قوله: (عن أبي الدرداء) هو عويمر بن زيد، وقيل ابن عامر بن قيس الأنصاري الخزرجي، مشهور بكنيته وباسمه جميعاً، واختلف في اسمه فقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبه، أسلم يوم بدر وشهد أحداً وأبلى فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: نعم الفارس عويمر. وقال: هو حكيم أمتي. كان عابداً فقيهاً عالماً حكيماً، سكن الشام، ومات بدمشق سنة (32) . وقال الخزرجي: له مائة وتسعة وسبعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية أحاديث. جمع القرآن، وولى قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب. وله فضائل جمة ومناقب كثيرة جداً. (فرغ إلى كل عبد) فرغ يستعمل باللام، واستعماله بإلى هنا لتضمين معنى الانتهاء أو يكون حالاً بتقدير منتهياً، والمعنى انتهى تقديره في الأزل من تلك الأمور الخمسة إلى تدبير هذا العبد بإيدائها، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيقال "هداه إلى
من خلقه من خمس: من أجله وعمله ومضجعه وأثره ورزقه)) رواه أحمد.
114-
(36) وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه لم يسئل عنه)) رواه ابن ماجه.
115-
(37) وعن ابن الديلمي قال:
ــ
كذا ولكذا" وقوله: (من خلقه) صلة "فرغ" أي من خلقة العبد وما يختص به وما لابد منه من الأجل والعمل وغيرهما، وقوله: (من خمس) بدل منه بإعادة الجار. قال الطيبي: والوجه أن الخلق بمعنى المخلوق، و"من" فيه بيانية، و"من" في "خمس" متعلق بفرغ، وقيل من تبعيضية أي فرغ إلى كل عبد كائن من مخلوقه من خمس (من أجله) بفتحتين أي مدة عمره، ومن بيانية للخمس أو بدل بإعادة الجار (وعمله) أي خيره وشره (ومضجعه) أي سكونه وقراره، والظاهر أن المراد به مكان موته ومحل قبره (وأثره) أي حركته واضطراره أو أثر مشيه في الأرض أو ما يحصل له من الثواب والعقاب (ورزقه) أي حلاله وحرامه، كثيره وقليله. (رواه أحمد) (ج5:ص197) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط، والبزار. قال الهيثمي (ج7:ص195) : وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. وأخرج نحوه الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، وابن عساكر عن أنس.
114-
قوله: (من تكلم في شيء من القدر) قيل "في شيء" ولم يقل " في القدر" ليفيد المبالغة في القلة وفي النهي عنه، أي من تكلم بشيء يسير منه يسئل عنه يوم القيامة، فكيف بالكثير منه (سئل عنه) سؤال تهديد ووعيد، ويحتمل أن يراد به مطلق السؤال. وقال القاري: أي كسائر الأقوال والأفعال، وجوزي كل ما يستحقه (لم يسأل عنه) بأن يقال: له "لم تركت التكلم فيه؟) فصار ترك التكلم فيه خيراً من التكلم فيه، فالشخص إذا آمن بالقدر ولم يبحث عنه لا يرد عليه سؤال الاعتراض بعدم التفحص، فإنه غير مأمور به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما تقدم على طريق الإنكار: بهذا أمرتم؟ أي بالتنازع بالبحث في القدر. وقال أيضاً: إذا ذكر القدر فأمسكوا. أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً، فالمقصود من الحديث الزجر والمنع من التكلم في القدر والخوض فيه لعدم الفائدة فيه سوى السؤال والمناقشة يوم القيامة. (رواه ابن ماجه) في السنة، قال في الزوائد: إسناد هذا الحديث ضعيف لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان التيمي، قال فيه ابن معين والبخاري وابن حبان: منكر الحديث. زاد ابن حبان "لا يجوز الاحتجاج به". ويحيى بن عبد الله بن أبي مليكة، قال ابن حبان في الثقات: يعتبر بحديثه إذا روى عنه غير يحيى بن عثمان – انتهى. قلت: حديث عائشة هذا وإن كان ضعيفاً لكنه تأيد بالأحاديث التي تدل على منع الخوض في القدر والبحث عنه.
115-
قوله: (عن ابن الديلمي) بفتح الدال منسوب إلى الديلم، وهو الجبل المعروف بين الناس، وابن الديلمي
أتيت أبي بن كعب فقلت له: قد وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عزوجل عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك
ــ
هذا هو أبوبسر عبد الله بن فيروز الديلمي أخو الضحاك بن فيروز، كان يسكن بيت المقدس، ثقة من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة. وأبوه فيروز صحابي معروف، وقال المصنف في أسماء رجال المشكاة: ابن الديلمي هو الضحاك بن فيروز تابعي حديثه في المصريين، روى عن أبيه – انتهى. والراجح عندنا أن المراد بابن الديلمي ههنا هو عبد الله بن فيروز لا أخوه الضحاك؛ لأنه ليس للضحاك رواية عن أبي بن كعب، والله أعلم. (أتيت أبي ابن كعب) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري المدني سيد القراء، شهد بدراً وما بعدها والعقبة الثانية، كناه النبي صلى الله عليه وسلم أبا المنذر وعمر أبا الطفيل، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار وعمر سيد المسلمين، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الفقهاء الستة الذين كانوا يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أقرأ الصحابة لكتاب الله، كان عمر يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، وله مناقب جمة. روي له مائة وأربعة وستون حديثاً، اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بسبعة، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. واختلف في سنة موته اختلافاً كثيراً قيل/: سنة (19) وقيل (20) وقيل (22) وقيل (30) وقيل (32) وقيل (33)(قد وقع في نفسي شيء من القدر) أي حزازة واضطراب عظيم من جهة أمر القضاء والقدر باعتبار العقل أريد منك الخلاص منه، وقيل:"شي من القدر" أي لأجل القول بالقدر يريد أنه وقع في نفسه من الشبه لأجل القول بالقدر، أوالمراد بالقدر هو القول بنفي القدر الذي هو مذهب القدرية. (فحدثني) أي بحديث (لعل الله أن يذهبه) دخول "أن" في خبر لعل للتشبيه بعسى (فقال: لو أن الله عزوجل عذاب أهل سمواته) من الملائكة (وأهل أرضه) من الأنبياء والأولياء وغيرهم (عذبهم وهو غير ظالم لهم) الواو للحال، إرشاد عظيم وبيان شاف لإزالة ما طلب منه؛ لأنه هدم قاعدة الحسن والقبح العقليين؛ لأنه مالك الأرض والسماوات وما فيهن، فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ولا يتصور في تصرفه ظلم؛ لأنه تصرف في ملك الغير ولا ملك لغيره أصلاً ثم عطف عليه (ولو رحمهم) إلخ إيذاناً بأن النجاة من العذاب إنما هي برحمته وفضله لا بالأعمال الصالحة، فالرحمة خير منها فلو شاء أن يصيب برحمته الأولين والآخرين فله ذلك ولا يخرج ذلك عن حكمة (مثل أحد) بضمتين، جبل عظيم قرب المدينة (ذهباً) تمييز (في سبيل الله) أي مرضاته (ما قبله الله) أي ذلك الإنفاق أو مثل ذلك الجبل (منك) وهو تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملأ السماوات والأرض كان كذلك، وفيه إشارة
حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن لصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك)) ، رواه أحمد وأبوداود وابن ماجة.
ــ
إلى أنه لا قبول لعمل المبتدع عند الله تعالى أو هو مبنى على القول بكفر منكره (وتعلم) تخصيص بعد تعميم أن ما أصابك من النعمة والبلية أو الطاعة والمعصية مما قدره الله لك أو عليك (لم يكن ليخطئك) أي يتجاوز عنك فلا يصيبك، بل لا بد من إصابته، والحيل غير نافعة في دفعه، وعنوان لم يكن ليخطئك يدل على أنه محال أن يخطئك، والوجه في دلالته أن "لم يكن" يدل على المضي و"ليخطئك" يدل على الاستقبال بواسطة الصيغة سيما مع "أن" المقدرة فيدل على أنه ما كان قبل الإصابة في الأزمنة الماضية قابلاً لأن يخطئك في المستقبل بواسطة تقدير الله تعالى وقضاءه في الأزل، بذلك قاله السندهي. (ولو مت) بضم الميم من مات يموت وبكسرها من مات يميت (على غير هذا) أي على اعتقاد غير هذا الذي ذكرت لك من الإيمان بالقدر (قال) أي ابن الديلمي (فقال مثل ذلك) أي مثل جواب أبي في سؤالي (ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك) فالحديث من طرق هؤلاء الثلاثة صار موقوفاً. (ثم أتيت زيد بن ثابت) أفضل كتبة الوحي وأفرض الصحابة، وهو زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري الخزرجي، أو سعيد ويقال أو خارجة المدني كاتب الوحي، استصغر يوم بدر، قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن أحد عشر سنة، وأول مشاهده الخندق، جمع القرآن وكتبه في عهد الصديق ونقله من المصحف في زمن عثمان، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم كتاب يهود فتعلمه في نصف شهر فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأه. قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنين: الفرائض والقرآن. وقال مسروق: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة فسماه فيهم، وقال مسروق: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. وقال أبوهريرة يوم مات زيد: مات اليوم حبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفاً. وفضائله كثيرة، له إثنان وتسعون حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بواحد. روى عنه خلق كثير، مات بالمدينة سنة (45) وقيل سنة (48) وقيل سنة (51) وقيل سنة (55) . (فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك) فصار الحديث من طريقه مرفوعاً. قال الطيبي: في سؤاله من الصحابة واحداً بعد واحد واتفاقهم في الجواب من غير تغيير ثم انتهاء الجواب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، دليل على الإجماع المستند إلى النص الجلي، فمن خالف ذلك فقد كابر الحق الصريح (رواه أحمد) في مسنده (ج5:ص182) (وأبوداود وابن ماجة) في السنة كلهم من طريق أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي، وأبوسنان هذا قال
116-
(38) وعن نافع أن رجلاً أتي ابن عمر فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((يكون في أمتي أو في هذه الأمة خسف ومسخ أو قذف في أهل القدر)) ، رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة.
ــ
المنذري: وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه الإمام أحمد وغيره وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير وغيرهما.
116-
قوله: (وعن نافع) كنيته أبوعبد الله المدني، مولى ابن عمر أصابه في بعض مغازيه، ثقة ثبت فقيه من أوساط التابعين. قال المصنف: هو من المشهورين بالحديث ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم ويجمع حديثهم ويعمل به، معظم حديث ابن عمر دائر عليه. قال مالك: كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره. وقال عبد الله بن عمر: لقد من الله تعالى علينا بنافع. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. روى عنه خلائق، مات سنة (117) أو بعد ذلك. (يقرأ عليك السلام) بفتح الياء والراء وفي نسخة يقريء أي بضم الياء وكسر الراء، قال في القاموس: قرأ عليه السلام أبلغه كأقرأه ولا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوباً. (فقال) أي ابن عمر (إنه) أي الشأن وتفسيره الخبر وهو قوله: (بلغني أنه قد أحدث) أي ابتدع في الدين ماليس منه من التكذيب بالقدر (فإن كان قد أحدث) أي ما ذكر (فلا تقرئه مني السلام) قال الطيبي: كناية عن عدم قبول السلام. قال القاري: والأظهر أن مراده أن لا تبلغه مني السلام أورده فإنه ببدعته لا يستحق جواب السلام، ولوكان من أهل الإسلام. وقال ابن حجر: لاتقرئه مني السلام؛ لأنا أمرنا بمهاجرة أهل البدع، ومن ثم قال العلماء: لا يجب رد سلام الفاسق والمبتدع بل لا يسن زجرا ً لهما، ومن ثم جاز هجرهم لذلك (يكون في أمتي أو في هذه الأمة) أي أمة الإجابة و"أو" للشك (خسف) أي ذهاب في عمق الأرض (ومسخ) وفي نسخة "أومسخ" وكذا في جامع الترمذي، أي تغير الصورة (أو قذف) أي رمى بالحجارة من جهة السماء كقول لوط، و"أو" للتنويع لا للشك (في أهل القدر) بدل بعض من قوله:"في أمتي" بإعادة الجار، وفي سنن ابن ماجة "وذلك في أهل القدر"(رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة) أخرجه الترمذي في القدر، وابن ماجة في الفتن كلاهما من طريق أبي عاصم عن حيوة بن شريح عن أبي صخر عن نافع بالسياق المذكور، ولم أجد الحديث في سنن أبي داود بهذا اللفظ نعم أخرج هو في السنة عن أحمد بن حنبل عن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب عن أبي صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه عبد الله بن عمر بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه سيكون في أمتي أقوام
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
ــ
يكذبون القدر. قال المزي في الأطراف: هو في رواية ابن الأعرابي وأبي بكر بن داسة. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2:ص90) والحاكم (ج1:ص84) بهذا اللفظ، ورواه أحمد أيضاً (ج2:ص108) بنحو الرواية المتقدمة في الفصل الثاني وفي (ج2:ص137، 136) بنحو الرواية التي نحن في شرحها (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب) اعلم أن الغرابة لا تنافي الصحة فيجوز اجتماع الغرابة والصحة في حديث واحد من غير إشكال، وكذا لا شبهة في جواز اجتماع الغرابة والحسن كما أسلفنا، أما اجتماع الحسن والصحة فقد استشكلوه بأن الحسن قاصر عن الصحيح كما هو ظاهر من تعريفهما عند الجمهور، ففي الجمع بينهما في حديث واحد نفي ذلك القصور وإثباته. وأجيب عنه بوجوه منها: أن ذلك راجع إلى الإسناد فإذا روى الحديث بإسنادين، أحدهما إسناد حسن، والآخر صحيح استقام أن يقال فيه إنه حديث حسن صحيح، أي إنه حسن بالنسبة إلى إسناد، صحيح بالنسبة إلى إسناد آخر، وفيه أنه لا يصح في الآحاديث التي يقول فيها حسن صحيح مع أنه ليس له إلا مخرج واحد، وفي كلام الترمذي في مواضع يقول: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ومنها أن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا إذا اقتصر على قوله:"حسن" فالقصور يأتيه بسبب الاقتصار على ذكره لا من حيث حقيقته وذاته، وبيانه وتوضيحه أن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواة، ولتلك الصفات درجات بعضها فوق بعض كالتيقظ والحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا كالحفظ مع الصدق فيصح أن يقال في هذا إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا وهي الصدق مثلاً، صحيح باعتبار الصفة العليا وهي الحفظ والإتقان، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً، ويؤيده ورود قولهم هذا حديث حسن في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين ومنها أن المراد بقول الترمذي "حديث حسن صحيح" ماشابه الصحة والحسن، فهو إذن دون الصحيح، وشرح بيانه أن الجمع بين الحسن والصحة في حديث واحد رتبة متوسطة بين الصحيح والحسن، فالمقبول ثلاث مراتب: الصحيح أعلاها، والحسن أدناها، والثالثة ما يتشرب من كل منهما، فإن كل ما فيه شبه من شيئين ولم يتمحض لأحدهما اختص برتبة مفردة، كقولهم للمز وهو ما فيه حلاوة وحموضة: هذا حلو حامض. أي مز، فعلى هذا يكون ما يقول فيه "حسن صحيح" أعلى رتبة عنده من الحسن، ويكون حكمه بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن، وفيه أنه تحكم لا دليل عليه وهو بعيد من فهمهم معنى كلام الترمذي. وفيه أيضاً أنه يقتضي إثبات قسم ثالث، ولا قائل به فهو خرق لإجماعهم. وفيه أيضاً أنه يلزم عليه أن لا يكون في كلام الترمذي حديث صحيح إلا قليلاً لقلة اقتصاره على قوله:"هذا حديث صحيح"، مع أن الذي يعبر فيه بالصحة والحسن أكثره موجود في الصحيحين. ومنها أنه يريد الترمذي بقوله:"حسن صحيح" في هذه الصورة الخاصة الترادف، فيكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول للتأكيد له كما يقال: حديث صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك.
وفيه أن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد؛ لأن الأصل عدم التأكيد، لكن يندفع ذلك عند وجود القرينة الدالة على ذلك، وقد وجد في عبارة غير واحد كالدارقطني "هذا حديث صحيح ثابت"، ومنها أنه يجوز أن يريد الترمذي حقيقتهما الاصطلاحية في إسناد واحد لكن باعتبار حالين وزمانين، فيجوز أن يكون سمع هذا الحديث من رجل مرة في حال كونه مستوراً أو مشهوراً بالصدق والأمانة ثم ارتقى وارتفع حاله إلى درجة العدالة فسمعه منه مرة أخرى فأخبر بالوصفين، وقد روي عن غير واحد أنه سمع الحديث الواحد على شيخ واحد غير مرة. ومنها أنه يحتمل أن يكون الترمذي أدى اجتهاده إلى حسنه وأدى اجتهاد غيره إلى صحته أو بالعكس فهو باعتبار مذهبين. ومنها أن المراد حسن لذاته صحيح لغيره يعني أنه في أعلى درجات الحسن وأدنى درجات الصحة، ومنها أنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحاً عند قوم وحسناً عند قوم آخرين يقال فيه ذلك، وفيه أنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول حسن وصحيح. وفيه أيضاً أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره. وفيه أيضاً أنه يتوقف على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين، فإن كان في بعضها مالا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته قدح في الجواب. ومنها أن الحديث الذي يقول فيه الترمذي "حسن صحيح" إن وقع التفرد والغرابة في سنده فهو محمول على التردد الحاصل من المجتهد في الرواة هل اجتمعت فيهم صفة الصحة أو الحسن؟ فتردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد أن يتردد ولا يصفه بأحد الوصفين جزماً، فيقال فيه "حسن" باعتبار وصفه عند قوم "صحيح" باعتبار وصفه عند قوم، غاية ما فيه أنه حذف فيه حرف التردد، وكان حقه أن يقول:"حسن أو صحيح" وهذا كما يحذف حرف العطف من التعداد، وعلى هذا فما قيل فيه حسن صحيح دون ما قيل فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد. ومنها أنه يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم، فيجوز أن يكون قوله: حسن أي باعتبار إسناده، صحيح أي باعتبار حكمه؛ لأنه من قبيل المقبول، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة، وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح، بل يسمي الكل صحيحا، لكن يرد عليه أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد. ومنها أنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة رواية عن درجة الصحة المصطلحة، صحيح على طريقة من لا يفرق، ويرد عليه ما أوردناه سابقاً. ومنها أنه أراد بالحسن معناه اللغوي، وهو ما تميل إليه النفس وتستحسنه ولا يأباه القلب، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدده. وفيه أن حمل الألفاظ الاصطلاحية على معانيها المصطلحة واجب، ولا يجوز ترك الاصطلاح من غيرموجب. وفيه أيضاً أنه يلزم أن يطلق لفظ الحسن على الحديث الضعيف، ولم يقل به أحد إلى الآن. ومنها أن المراد حسن باعتبار إسناده، صحيح أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال أصح ما ورد كذا، وإن كان حسناً أو ضعيفاً فالمراد أرجحه أو أقله ضعفاً. هذا تلخيص ما في قوت المغتذي حاشية جامع الترمذي في هذا المبحث.
117-
(39) وعن علي قال: سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هما في النار. قال: فلما رأى الكراهة في وجهها، قال: رأيت مكانهما لأبغضتهما. قالت: يارسول الله صلى الله عليه وسلم فولدي منك؟ قال: في الجنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}
ــ
117-
قوله: (سألت خديجة) هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية، كانت تحت أبي هالة بن زراره ثم تزوجها عتيق بن عائذ ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها يومئذٍ من العمر أربعون سنة، وللنبي صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون سنة، ولم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم قبلها امرأة ولا نكح عليها حتى ماتت. وهي أول من آمن من كافة الناس من ذكرهم وأنثاهم، وقيل: هي أول من آمن من النساء. وكانت تدعى قبل البعثة "الطاهرة"، وجميع أولاده منها غير إبراهيم فإنه من مارية القبطية. وماتت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين وقيل: بثلاث وكان قد مضى من النبوة عشر سنين، وكان لها من العمر خمس وستون سنة، وكانت مدة مقامها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، ودفنت بالحجون. ومناقبها جمة، وفضائلها كثيرة جداً، بسط ترجمتها ابن عبد البر في الاستيعاب، والحافظ في الإصابة. (عن ولدين) أي عن شأنهما وأنهما في الجنة أو النار؟ (فلما رأى) النبي صلى الله عليه وسلم (الكراهة) أي أثرها من الكآبة والحزن (قال) أي تسلية لها (لو رأيت مكانهما) وهو جهنم (لأبغضتهما) أي لو أبصرت منزلتهما في الحقارة والبعد من رحمة الله وعلمت بغض الله إياهما لأبغضتهما وتبرأت منهما تبرأ إبراهيم عن أبيه. (فولدي منك) المراد بأولادها منه صلى الله عليه وسلم القاسم وعبد الله، وقيل: الطيب والطاهر أيضاً، وقيل: هما لقبان لعبد ال، له وهو قول الأكثر (إن المؤمنين وأولادهم في الجنة) هذا لا خلاف فيه يعتد به (وإن المشركين وأولادهم في النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {واللذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} [سورة الطور:22] . قوله: {والذين آمنوا} مرفوع على أنه مبتدأ والخبر الجملة من قوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} والذي بينهما اعتراض. قال البغوي: اختلفوا في تفسير الآية، فقال قوم: معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم أي بأيمانهم الاستقلالي، والصغار بإيمان آبائهم، أي بإيمانهم التبعي، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين، {ألحقنا بهم ذريتهم} المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغو بأعمالهم درجات آباءهم تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال آخرون: معناها {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم} البالغون {بإيمان ألحقنا ذريتهم} الصغار الذين
رواه أحمد.
118-
(40) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط عن ظهره كل نسمة
ــ
لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم، وهو رواية العوفى عن ابن عباس رضي الله عنهما أخبر الله عزوجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئاً، فذلك قوله:{وما ألتناهم} أي ما نقصناهم يعني الآباء {من عملهم من شيء} ـ انتهى. ولا ريب أن هذا الإلحاق لكرامة آبائهم ومزيد سرورهم وتكميل نعيمهم وغبطتهم في الجنة وإلا فينغص عليهم كل نعيم، وهذا المعنى مفقود في الكفار. قال القارى: وظاهر الآية أن الذين آمنوا أعم من الآباء والأمهات. ولعل أولاد خديجة في النار؛ لأنها حال موتهم لم تكن مؤمنة، فلا ينافي قول العلماء: الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين ـ انتهى. قلت: حديث على هذا بظاهره يدل على أن أولاد المشركين في النار خلافاً لمن قال إنهم من أهل الجنة، ولمن قال بالتوقف فيهم بمعنى عدم العلم أو عدم الحكم فيهم بشيء، وقد تقدم أن الراجح فيهم قول من ذهب إلى أنهم في الجنة. وأجيب عن هذا الحديث بأن المراد بأولاد المشركين فيه أولادهم الكبار وكذا أولاد خديجة، والنزاع إنما هو في الصغار دون الكبار. والظاهر أن يقال: إن حديث على هذا لا يقاوم الأحاديث الدالة على كونهم من أهل الجنة، وهى حديث سمرة بن جندب في الرؤيا عند البخاري، وحديث خنساء بنت معاوية الصريمية عن عمتها عند أحمد، وحديث أنس عند أبي يعلى، فتقدم هذه الأحاديث على حديث علي، والله أعلم. (رواه أحمد) عزوه لأحمد خطأ وإنما رواه ابنه عبد الله في زيادات مسند أبيه (ج1:ص134) . وإليه عزاه الهيثمى في مجمع الزوائد (ج7:ص217) وقال: وفيه محمد بن عثمان ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي في الميزان (ج3:ص101) في ابن عثمان: لا يدرى من هو؟ فتشت عنه في أماكن، وله خبر منكر فذكر هذا الحديث. وقال الحافظ في اللسان (ج5:ص279) بعد ذكر كلام الذهبي وسياق الحديث: قلت والذي يظهر لي أنه هو الواسطى المتقدم، هذا. وقال في (ج5:ص278) بعد ذكر كلام الذهبي: محمد بن عثمان الواسطي عن ثابت البناني، قال الأزدي: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات فقال: روي عنه أبوعوانة ـ انتهى. وفيه أن الراوي عنه ههنا هو محمد بن فضيل لا أبوعوانة، والمروى عنه زاذان لا ثابت البناني، فالظاهر أنه غير الواسطى، والله أعلم. وذكر الحافظ في التعجيل (ج5:ص372) في ترجمة محمد بن عثمان عن زاذان: كلام الذهبي السابق ثم قال: قال شيخنا الهيثمي: ذكره ابن حبان في الثقات وأغفله الحسينى، قلت: وذكره الأزدى في الضعفاء ـ انتهى. والحديث رواه الطبراني وأبويعلى عن خديجة كما في مجمع الزوائد (ج7:ص217، 218) وسنده منقطع.
118ـ قوله: (فسقط) أي خرج (كل نسمة) بفتح النون والسين المهملة أي ذي روح، وقيل: كل ذى نفس،
هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عين كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أى رب مَن هؤلاء؟ قال ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: أي رب من هذا؟ قال: داود، فقال: أي رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطأ آدم وخطأت ذريته)) ، رواه الترمذي.
ــ
مأخوذة من النسيم (هو خالقها من ذريته) الجملة صفة نسمة، ذكرها ليتعلق بها قوله:" إلى يوم القيامة" و"من" بيانية، وفيه دليل على أن إخراج الذرية كان حقيقياً (وبيصاً) أي بريقاً ولمعاناً (من نور) في ذكره إشارة إلى الفطرة السليمة، وفي قوله:"بين عيني كل إنسان" إيذان بأن الذرية كانت على صورة الإنسان على مقدار الذر (قال: ذريتك) أي هم ذريتك (فأعجبه) أي سره قال داود) قيل تخصيص التعجب من وبيص داود إظهار لكرامته ومدح له، فلا يلزم تفضيله على سائر الأنبياء؛ لأن المفضول قد يكون له مزية بل مزايا ليست في الفاضل، ولعل وجه الملائمة بينهم اشتراك نسبة الخلافة. (كم جعلت عمره) كم مفعول لما بعده، وقدم لما له الصدر أي كم سنة جعلت عمره (زده من عمري) أي من جملة الألف، و "من عمري" صفة "أربعين" قدمت فعادت حالاً وقوله:(أربعين سنة) مفعول ثان لقوله: "زده" كقوله تعالى: {رب زدني علما} . (إلا أربعين) أي سنة (أولم يبق من عمري) بهمزة الاستفهام الإنكاري المنصب على نفي البقاء فيقيد إثباته، وقدمت على الواو لصدارتها، والواو استئنافية لمجرد الربط بين ما قبلها وما بعدها. (أولم تعطها) أي أتقول ذلك ولم تعطها أي الأربعين (فحجه آدم) أي ذلك؛ لأنه كان في عالم الذر فلم يستحضره حالة مجئي ملك الموت له، قاله ابن حجر. وقيل: حج بحكم الجبلة التي فطر عليها الإنسان من الحرص على المال والعمر في زمان الشيب وكبر السن. (فجحدت ذريته) ؛ لأن الولد سر لأبيه (ونسى آدم) إشارة إلى أن الجحد كان نسياناً أيضاً إذ لا يجوز جحده عنادا (فأكل من الشجرة فنسيت ذريته) وفي رواية الترمذي "ونسى آدم فنسيت ذريته" أي بدون قوله: "فأكل من الشجرة"(وخطأ آدم) قال القاري: بفتح الطاء أي في اجتهاده من جهة التعيين والتخصيص، والظاهر أنه بكسر الطاء من باب سمع أي أذنب وعصى، لقوله تعالى:: {وعصى آدم ربه} [121:20] . وفي الحديث إشارة إلى أن ابن آدم مجبول من أصل خلقته على الجحد والنسيان والخطأ إلا من عصمه الله. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم..} الآية [172:7] وقال: حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه
119-
(41) وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي)) ، رواه أحمد.
120-
(42) وعن أبي نضرة
ــ
أيضاً الحاكم في مستدركه (ج2:ص586، 585) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وابن أبي حاتم في تفسيره. هذا، وقد أخرج الترمذي حديث أبي هريرة هذا في آخر كتاب التفسير من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبرى، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث من باب السلام، وبين الروايتين مخالفة ظاهرة ويأتي هناك وجه الجمع بينهما إن شاءالله تعالى.
119-
قوله: (حين خلقه) قال الطيبي: ظرف لقوله: (فضرب) ولا يمنع الفاء من العمل؛ لأنه ظرف على أن الفاء السبية أيضاً غير مانعة لعمل ما بعدها في ما قبلها. وقال السيد جمال الدين: ويحتمل أن يكون ظرفاً لقوله: "خلق الله" والمقصود الإشارة إلى عدم العلم بزمان خلقه –انتهى. (ذرية بيضاء) أي نورانية (كأنهم الذر) بفتح الذال المعجمة، وهي صغار النمل، والتشبيه في الهيئة، وقيل: أي الأبيض بدليل مقابلة الآتي (كأنهم الحمم) بضم الحاء جمع حممة، وهي الفحم (فقال للذي في يمينه) أي في جهة يمين آدم من ذرية المؤمنين بعد إخراجهم من كتفه اليمنى، وقال ابن حجر: أي الذي في كتفه اليمنى بدليل "في كتفه اليسرى" الآتي فيكون باعتبار ما كان –انتهى. والمعنى يعني قال تعالى لآدم لأجل الذي في يمينه وعن قبلهم وفي حقهم. و"الذي" صفة لفريق، نحو قوله تعالى: {كالذي خاضوا) (إلى الجنة) خبر مبتدأ محذوف أي هؤلاء أصيرهم أو أوصلهم إلى الجنة، (ولا أبالي) حال من الضمير المستكن في الخبر، أي والحال أني لا أبالي بأحد، كيف وأنا الفعال لما يريد، والخلق كلهم لي عبيد، فتصرفت فيهم كيف شئت. (وقال للذي في كتفه اليسرى) كذا في أكثر النسخ، وهذا باعتبار ما كان، وفي أصل السيد جمال الدين "كفه اليسرى" أي بفتح الكاف وتشديد الفاء، وكذا وقع في مسند أحمد (ج6:ص441) والظاهر أن ضمير "يمينه" و"كفه" إلى آدم، والمراد جهتاه، ونسخة "كتفه" صريحة في هذا المعنى، والحديث دليل على سبق القضاء على وفق علمه الأزلي، فإن القضاء نتيجة علمه تعالى. (رواه أحمد) (ج6:ص441) . وأخرجه أيضاً البزار والطبراني، قال الهيثمي (ج7:ص185) : ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني بعد ذكره: إن عني رجالاً غير رجال أحمد فقد يكونون كما ذكر، وإلا فرجاله ليسوا رجال الصحيح بل هم ثقات فقط-انتهى. فتأمل.
120-
قوله: (وعن أبي نضرة) بنون ومعجمة ساكنة، اسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي العوقي البصري،
أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبوعبد الله، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عزوجل فبض بيمينه قبضة، وأخرى باليد الأخرى، وقال: هذه لهذه، وهذه لهذه، ولا أبالي. ولا أدري في أي القبضتين أنا؟)) رواه أحمد.
ــ
مشهور بكنيته، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة (108) أو (109) . (أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبوعبد الله) جهالة الصحابي لا تضر في الخبر حيث كلهم عدول، قال النووي في التقريب: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به –انتهى. وارجع إلى التدريب (204) والمراد بالعدالة في قولهم "الصحابة كلهم عدول" هو التجنب عن تعمد الكذب في الرواية وانحراف فيها بارتكاب ما يوجب عدم قبولها، كما صرح بذلك الشاه عبد العزيز الدهلوي في بعض إفادته. قال السخاوي في فتح المغيث: قال ابن الأنباري: ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك 0انتهى. وارجع إلى ظفر الأماني في مختصر الجرجاني (ص312، 311)(يعودونه) من العبادة (وهو يبكي) جملة حالية (ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ من شاربك) أي بعضه يعني قصه (ثم أقره) بفتح الهمزة وكسر القاف وتشديد الراء، أي دم عليه (حتى تلقاني) أي على الحوض أو غيره، قال القاري: و "حتى" تحتمل الغاية والعلة. قال الطيبي: الهمزة للإنكار، دخلت على النفي فأفادت التقرير والتعجب أي كيف تبكي؟ وقد تقرر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدك بأنك تلقاه لا محالة، ومن لقيه راضياً عنه مثلك لا خوف عليه قال: بلى) أي أخبرني بذلك (قبض) أي بعض الذرية (بيمينه قبضة) أي واحدة (وأخرى) أي وقبض قبضة أخرى لبعض الذرية (باليد الأخرى) لم يقل بيساره أدباً، ولذا ورد في حديث آخر: وكلتا يديه يمين (وقال هذه) أي القبضة التي قبضها باليمين يعني من فيها أو هذه المقبوضة. (لهذه) أي للجنة (وهذه لهذه) أي للنار (ولا أبالي) أي في الحالتين (ولا أدري في أي القبضتين أنا) حاصل الجواب أني أخاف من عدم الاحتفال والاكتراث في قوله: "ولا أبالي"، كذا قاله الطيبي. يعني غلب علي الخوف بالنظر إلى عظمته وجلاله بحيث منعني من النظر والتأمل في رحمته وجماله، فإنه تعالى لذاته وعدم مبالاته، له أن يفعل ما يريد، ولا يجب عليه شيء للعبيد، وأيضاً لغلبة الخوف قد ينسى البشارة والرجاء بها مع أن البشارة مقيدة بالثبات والدوام والإقامة على طريق السنة والاستقامة، وهو أمر دقيق وبالخوف حقيق. قال الطيبي: وفي الحديث إشارة إلى أن قص الشارب من السنن المؤكدة، والمداومة عليه موصلة إلى قرب دار النعيم في جوار سيد المرسلين، فيعلم أن من ترك سنة أي سنة، فقد حرم خيراً كثيراً فكيف المواظبة على ترك سائرها. (رواه أحمد) (ج4:ص176، 177)
121-
(43) وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال:{ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}
ــ
و (ج5:ص68) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7:ص186) : رجاله رجال الصحيح. وفي معني الحديث عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى عند أحمد والحاكم، وعن أنس عند أبي يعلى، وعن أبي موسى وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ بن جبل وآخرين، ذكرهم أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد مع الكلام عليها.
121-
قوله: (أخذ الله الميثاق) يعني العهد أي أراد أخذه بدليل قوله: "فأخرج"، (بنعمان) كسلمان موضع بقرب عرفة بين مكة والطائف، قال الراوي (يعني عرفة) أي بقرب عرفة وبجوارها. (ذرأها) أي خلقها إلى يوم القيامة (فنثرهم) أي بثهم وفرقهم ونشرهم (بين يديه) أي قدام آدم (كالذر) أي مشبهين بالنمل في صغر الصورة. (ثم كلمهم قبلاً) بضمتين وهو حال، أي كلمهم عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب ولا أن يأمر أحداً من ملائكته (قال) استئناف بيان، وقيل بدل "من كلمهم". (ألست بربكم قالوا بلى) أنت ربنا، والصحيح أن جوابهم بقول "بلى" كان بالنطق وهم أحياء، عقلاء. (شهدنا) هذا من تتمة المقول، أي شهدنا على أنفسنا بذلك وأقررنا بوحدانيتك. (أن تقولوا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا أي احتجاجا أو لئلا تقولوا (يوم القيامة) ظرف "أن تقولوا"(إنا كنا عن هذا) أي الميثاق أو الإقرار بالربوبية (غافلين) أي جاهلين لا نعرفه ولا نبهنا عليه. (إنما أشرك آباؤنا من قبل) أي من قبل ظهورنا ووجودنا أو من قبل إشراكنا (وكنا ذرية من بعدهم) أي فاقتدينا بهم، فاللوم عليهم لا علينا (أفتهلكنا) أي أتعلم ذلك فتعذبنا (بما فعل المبطلون) من آبائنا بتأسيس الشرك، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس. هذا، وقد تقدم في شرح حديث عمر في الفصل الثاني أن المعتزلة قالوا: لا يجوز تفسير هذه الآية بحديث عمر. وفي معناه حديث ابن عباس هذا، قال التوربشتي: لايحتمل حديث ابن عباس من التأويل ما يحتمله حديث عمر، ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم: حديث ابن عباس هذا من الآحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب. وإنما هربوا من القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر الحديث، لمكان قوله: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. فقالوا إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذٍ فلما زال عنا علمنا بالضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ، وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق والعصمة، وحرمناهما
رواه أحمد.
122-
(44) وعن أبي كعب في قول الله عزوجل: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} قال: جمعهم فجعلهم أزواجاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا،
ــ
من بعد، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول. فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول وآتاهم وأباءهم من البصائر؛ لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا إناكنا عن هذا غافلين.؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب. قال الطيبي: وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا، فيقال لهم: كذبتهم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة. وأما قولهم حرمنا من التوفيق والعصمة من بعد ذلك، فجوابه: أن هذا مشترك الإلزام إذلهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة، والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد، ومن أقدم على هذا فقد خالف طريقة السلف الصالحين؛ لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلونه سنة – انتهى. وقال القطب الشيرازي ما حاصله: أن الله سبحانه وتعالى كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما المقالى الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقاً آخر أزلياً، فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية من ظهره ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج فيما لا يزال من أصلاب بني آدم الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم ما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي –انتهى. (رواه أحمد) (ج1:ص272) . وقال الهيثمي (ج7:ص189) : رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضاً النسائي في كتاب التفسير من سننه الكبرى، وابن جرير، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه – انتهى. وقد روي هذا الحديث موقوفاً على ابن عباس، قال ابن كثير: وهذا أي كونه موقوفاً على ابن عباس أكثر وأثبت – انتهى. لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه ولا مجال، فإنه لا سبيل إليه إلا السماع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو عند ابن جرير، وحديث أبي أمامة عند الطبراني وابن مردويه، وأثر أبي بن كعب الآتي بعده.
122-
قوله: (في قول الله عزوجل) أي في تفسير قوله تعالى: (قال) أي أبي (جمعهم) أي الله بعد أن أخرجهم (أزواجاً) أي ذكوراً وإناثاً أو أصنافاً وهو الأظهر، وفسر الأصناف بقوله الآتي: فرأى الغني والفقير (ثم صورهم) أي على صورهم التي يكونون عليها بعد (فاستنطقهم) أي خلق فيهم العقل وطلب منهم النطق (فتكلموا)
ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا بلى، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، إعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري، ولا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك. فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم، فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، خصوا بميثاق آخر في الرسالة والنبوة،
ــ
سيأتي. (أشهدهم على أنفسهم) أي على ذواتهم أو قال لهم أشهدوا على أنفسكم (ألست بربكم) إما استئناف بيان وإما التقدير: أشهدهم بقوله: ألست بربكم. أي استشهدهم بهذا (قالوا بلى) أي شهدنا (فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع) أي زيادة على شهادتكم على أنفسكم (أن تقولوا) أي لئلا تقولوا (إعلموا) أي تحققوا الآن قبل مجيء ذلك الزمان وتبين الأمر بالعيان (إني) بكسر الهمزة استئناف أي إني مع هذا البيان (وأنزل عليكم كتبي) بواسطة رسلي فيها تبيان كل شيء مما يتعلق بعهدي وميثاقي (فأقروا بذلك) أي بجميع ما ذكر (ورفع) بالبناء للمجهول (عليهم) أي أشرف عليهم من مقام عال (ينظر إليهم) حال أو مفعول له بتقدير أن (فرأى) أي آدم منهم (الغني) صورة ومعنى باعتبار الآثار اللائحة (والفقير) يداً وقلباً. (وحسن الصورة) الظاهرة والباطنة (ودون ذلك) أي في الحسن أو غير ما ذكر (للولا سويت) أي لم ما سويت؟ (بين عبادك) والقصد به أن يبين له حكمته (إني أحببت أن أشكر) بصيغة المجهول، قال ابن حجر المكي: إن الغني يرى عظيم نعمة الغنى، والفقير يرى عظيم نعمة المعافاة من كدر الدنيا ونكدها وتعبها الذي لا حاصل له غير طول الحساب وترادف المحن وتوالي العذاب، وحسن الصورة يرى ما منحه من ذلك الجمال الظاهر الدال على الجمال الباطن غالباً، وغيره يرى أن عدم الجمال أدفع للفتنة وأسلم من المحنة، فكل هؤلاء يرون مزيد تلك النعم عليهم فيشكرون عليها، ولو تساووا في وصف واحد لم يتيقظوا لذلك. (ورأى) أي آدم (الأنبياء فيهم) أي حال كونهم مندرجين في جملتهم (مثل السرج) بضمتين جمع سراج بكسر المهملة (عليهم النور) أي يغلب عليهم النور كأنه بيان لوجه شبههم بالسرج (خصوا) بصيغة المجهول (بميثاق آخر) بعدما دخلوا في ميثاق العوام للاهتمام التام بمرامهم عليهم الصلاة والسلام، فقوله:" خصوا "إستئناف أو صفة للأنبياء (في الرسالة والنبوة) أي في شأنهما والقيام بحقهما بماشاءالله أو بما
وهو قوله: تبارك وتعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} إلى قوله: {عيسى بن مريم} كان في تلك الأرواح فأرسله إلى مريم عليها السلام، فحدث عن أبي أنه دخل من فيها)) ، رواه أحمد.
123-
(45) وعن أبي الدرداء قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ما يكون، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه)) .
ــ
(وهو قوله: تبارك وتعالى أي هذا الميثاق هو المراد بقوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} الآية من أوائل سورة الأحزاب، قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصاً على أن يصدق بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً وأن ينصحوا لقومهم وأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته وإلى الدين القيم، وأن يبلغوا رسالات ربهم، وذلك حين أخرجوا من صلب آدم كالذر - انتهى. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدقاً لما معكم لتؤمنون به ولتنصرنه
…
} الآية [81:3] . (كان) أي عيسى (في تلك الأرواح) أي أرواح الذرية (فأرسله) أي روحه، وهو يذكر ويؤنث أي مع جبريل (فحدث) بصيغة المجهول أي روى (أنه) أي الروح (دخل من فيها) أي من فمها إلى جوفها ثم رحمها. (رواه أحمد) كلا، بل رواه ابنه عبد الله في زوائد مسند أبيه (ج5:ص135) . قال الهيثمي (ج7:ص25) بعد ذكر الحديث: رواه عبد الله بن أحمد عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي وهو مستور وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه في تفاسيرهم، وهو وإن كان موقوفاً على أبي بن كعب من قوله:، لكنه مرفوع حكما فإنه لا سبيل إليه إلاالسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
123-
قوله: (نتذاكر) أيمع بعضنا بحضرته وهو يسمع (مايكون) ما موصولة أي الذي يحدث من الحوادث أهو شيء مقضي مفروغ منه. فتوجد تلك الحوادث على طبقه أو شيء يوجد أنفاً من غير سبق قضاء. (زال عن مكانه) أي الذي هو فيه وانتقل إلى غيره (فصدقوه) أي لإمكانه، وفي المسند "فصدقوا" أي بغير الضمير المنصوب قال العزيزي: أي اعتقدوا أن ذلك غير خارج عن دائرة الإمكان (تغير عن خلقه) بضم اللام وتسكن، أي خلقه، الأصلي بالكلي (فلا تصدقوا به) أي بالخبر عنه بذلك فإنه غير ممكن عادة (فإنه) أي الرجل، والمراد به الجنس (يصير) في كل ما يريد أن يفعله (إلى ما جبل عليه) من الأخلاق يعني الأمر على ما قدر وسبق حتى العجز والكيس، فإذا سمعتم بأن الكيس صار بليداً أو بالعكس فلا تصدقوا به. ضرب زوال الجبل مثلاً تقريب. فإن هذا ممكن، وزوال الخلق المقدر عما كان في القدر غير ممكن. وقال المناوي: يعني وإن فرط منه على الندور خلاف ما يقتضيه طبعه فما هو
رواه أحمد.
124-
(4) وعن أم سلمة، قالت:((يارسول الله لا يزال يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت. قال: ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته)) ، رواه ابن ماجة.
ــ
إلا كطيف منام أو برق لمع، وما دام فكما لا يقدر الإنسان أن يصير سواد الشعر بياضاً فكذا لا يقدر على تغير طبعه، أي الذي خلق عليه. وقدر له في الأزل. وقال القاري: التبديل الأصلي الذاتي غير ممكن كما أشار إليه الحديث، وأما التبديل الوصفي أي تبديل الأخلاق عن مقتضى العادة وتعديلها على سنن الاستقامة والعبادة فهو ممكن، بل العبد مأمور به ويسمى تهذيب النفس وتحسن الأخلاق. قال الله تعالى:{قد أفلح من زكاها} وفي الحديث: حسنوا أخلاقكم. وارجع إلى فيض القدير (ج1:ص381) للمناوي، وإلى الإحياء للغزالي، فإنه قد استوفى الكلام في ذلك (رواه أحمد (ج6:ص443) من رواية الزهري أن أبا الدرداء قال: بينما
…
الخ. قال الهيثمي (ج7:ص196) : رجاله رجال الصحيح، إلا أن الزهري لم يدرك أبا الدرداء –انتهى. وقال السخاوي: حديث منقطع. وكان مقتضى دأب المصنف أن يقول: روى الأحاديث الخمسة أحمد.
124-
قوله: (وعن أم سلمة) بفتح اللام، هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة بن عبد الله سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، وماتت سنة (62) وقيل سنة (61) وقيل: قبل ذلك، والأول أصح، ودفنت بالبقيع، قيل: وكان عمرها (84) سنة. قال الذهبي: هي آخر أمهات المؤمنين وفاة، لها ثلاث مائة وثمانية وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بمثلها، روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. (يصيبك) أي يحصل لك (وجع) فتح الجيم أي ألم (من الشاة) أي من أجل أثر الشاة (المسمومة التي أكلت) في خيبر (ما أصابني شيء منها) أي من تلك الشاة، أو من تلك الأكلة (ألا وهو) أي ذلك الشيء من الألم (وآدم في طينته) أي ما تم خلقه، وهو كناية عن تقدم التقدير الأزلي، وإلا فالتقدير سابق على وجود طينة آدم، قال الطيبي: هذا مثل للتقدير السابق لا تعيين، فإن كون آدم في طينته أيضاً مقدر قبله – انتهى. والطينة القطعة من الطين والخلقة والجبلة. وقضية الشاة تأتي في باب المعجزات إن شاءالله تعالى. (رواه ابن ماجه) في باب السحر من آخر أبواب الطب، وفي سنده أبوبكر العنسي وهو ضعيف.