المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(2) كتاب العلم ‌ ‌{الفصل الأول} 198- (1) عن عبد الله بن عمرو - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ١

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

الفصل: ‌ ‌(2) كتاب العلم ‌ ‌{الفصل الأول} 198- (1) عن عبد الله بن عمرو

(2) كتاب العلم

{الفصل الأول}

198-

(1) عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج،

ــ

(كتاب العلم) أي بيان ما يتعلق بالعلم من فضله وفضل تعلمه وتعليمه، وبيان ما هو علم شرعاً، وبيان فرضه ونفله. وغير ذلك من متعلقات العلم، لا بيان ماهية وحقيقته؛ لأن النظر في الماهيات ليس من فن الكتاب، وقدمه على سائر الكتب التي بعده؛ لأن مدار تلك الكتب كلها على العلم، وإنما لم يقدم على كتاب الإيمان ومتعلقاته من القدر وعذاب البرزح والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، وضده من الكفر وغيره من الكبائر المخلة بالإيمان؛ لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها، وينبغي للطالب أن يطالع "تذكرة السامع والمتعلم" لابن جماعة، المتوفى سنة (733) و"جامع بيان العلم" لابن عبد البر، المتوفى سنة (462) و"إحياء العلوم" للغزالي، المتوفى سنة (505) وغير ذلك من كتب هذا الفن.

198-

قوله: (بلغوا عني ولو آية) أي ولو كانت آية قصيرة من القرآن، والقرآن مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الجائي به من عند الله، ويفهم منه تبليغ الحديث بالطريق الأولى، فإن القرآن مع انتشاره وكثرة حملته وتكفل الله بحفظه لما أمرنا بتبليغه فالحديث أولى. وقيل: المراد بالآية هنا الكلام المفيد، نحو من سكت نجا، أي بلغوا عني أحاديث ولو قليلة، وحرض على تبليغ الأحاديث دون القرآن؛ لأنه تعالى تكفل بحفظه، ولأن الطبائع مائلة إلى تعلمه، أو هو داخل فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغهما. وقوله "بلغوا" مشعر باتصال سنده؛ لأن البلوغ انتهاء الشيء إلى غايته وبأدائه من غير تغيير (وحدثوا عن بني إسرائيل) بما وقع لهم من الأعاجيب وإن استحال مثلها في هذه الأمة، كنزول النار من السماء لأكل القربان مما لا تعلمون كذبه، أي مما لا يخالف القرآن والحديث ولا يعارضهما. (ولاحرج) أي لا ضيق عليكم بالتحديث بقصصهم كحكاية قتل أنفسهم في توبتهم من عبادة العجل، أو تفصيل القصص المذكورة في القرآن مما فيه عبرة. وأما النهي عن اشتغال بما جاء منهم، فمحمول على كتب التوراة والعمل بالأحكام لنسخها، أو النهي كان في صدر الإسلام لعدم تقرر الأحكام حينئذٍ فربما يعمل بما حدث عنهم من الأحكام، فلما تقررت الأحكام الإسلامية لم يحصل ذلك المحذور. أو أن قوله:"حدثوا" أولاً صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدمه وأن الأمر للإباحة بقوله "ولا حرج" أي في ترك التحديث عنهم، فأباح لهم الحديث عنهم للاتعاظ، ورفع الحرج عنهم في تركه بخلاف التحديث عنه صلى الله عليه وسلم، فإنهم مأمورورن بالتبليغ عنه. فلهذا قال: بلغوا عني. وقيل: معنى قوله: "لاحرج" أي لا تضيق

ص: 301

ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) رواه البخاري.

199، 200– (2، 3) وعن سمرة بن جندب،

ــ

صدوركم بما تسمعونه منهم من الأعاجيب، فإن ذلك وقع لهم كثيراً. وقيل: المراد جواز التحديث عنهم بأي صيغة وقعت من انقطاع أو بلاغ، أي ليس المقصود من قوله:"لا حرج" إباحة الكذب في أخبارهم، ورفع الإثم عن نقل الكذب عنهم، بل ترخيص في الحديث عنهم على البلاغ وإن لم يتحقق ذلك بنقل الإسناد؛ لتعذره بطول المدة بخلاف الأحكام المحمدية، فإن الأصل فيها التحديث بالاتصال. (ومن كذب علي) أي نسب الكلام كاذباً إليه سواء كان عليه أو له، وهو عام في كل كذب مطلق في كل نوع منه من الأحكام وغيرها كالترغيب والترهيب، ولا مفهوم لقوله "علي"؛ لأنه لا يتصور أن يكذب له؛ لأنه عليه السلام نهى عن مطلق الكذب فلا حجة فيه لمن جوز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب. (متعمداً) نصب على الحال وليس حالاً مؤكدة؛ لأن الكذب قد يكون من غير تعمد، وفيه تنبيه علىعدم دخول النار فيه. (فليتبوأ مقعده من النار) أي فليتخذ لنفسه منزلاً في النار، يقال: تبوأ الدار إذا اتخذها مسكناً. والأمر بمعنى الخبر لما في حديث على عند مسلم: ((من يكذب علي يلج النار)) ، وعند ابن ماجه:((الكذب علي يولج النار)) . وفي حديث ابن عمر عند أحمد: ((بنى له بيت في النار)) . وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة، ولذا قيل: الأمر فيه للتهكم والتهديد إذ هو أبلغ في التشديد. والمعنى: هذا جزاؤه، وقد يعفى وقد يتوب. والفرق بين الكذب عليه صلى الله عليه وسلم والكذب على غيره أن الأول كبيرة بالاتفاق بخلاف الثاني، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحداً، أو طول إقامتهما سواء، فقد دل هذا الحديث على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها؛ لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطيعة قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين. (رواه البخاري) أي مجموع الحديث في أخبار بني إسرائيل، وكذا أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأما قوله:((من كذب على متعمداً)) ، الخ. فقد روي عن مائة من الصحابة على ما قال الحافظ: أنه ورد عن ثلاثين نفساً منهم بأسانيد صحاح وحسان، وعن نحو من خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، مع أن فيها ما هو مطلق في ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه أنه متواتر لفظاً ومعنى.

199، 200- قوله:(وعن سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم (بن جندب) بضم الجيم والدال وبفتح، ابن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور، كان من الحفاظ المكثرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكن البصرة، وكان زياد يستخلفه عليها ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر، فلما مات زياد استخلفه على البصرة فأقره معاوية عليها عاماً أو نحوه، ثم عزله، وكان شديداً على الحرورية، فهم ومن قاربهم يطعنون عليه، وكان الحسن، وابن سيرين، وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه، وقال ابن سيرين: في رسالة سمره إلى بنيه علم كثير. وقال أيضاً: كان عظيم الأمانة، صدوق الحديث، يحب الإسلام وأهله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرض غلمان الأنصار في كل عام، فمر به غلام فأجازه

ص: 302

والمغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين)) رواه مسلم.

201-

(4) وعن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً

ــ

في البعث، وعرض عليه سمرة من بعده فرده، فقال سمرة: قد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه في البعث. قال ابن عبد البر: مات بالبصرة في خلافة معاوية سنة (58) . سقط في قدر مملوءة ماء حاراً، كان يتعالج بالقعود عليها من كزاز شديد أصابه، فسقط في القدر الحارة فمات، فكان ذلك تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولأبي هريرة وثالث معها يعني أبامحذورة:((آخركم موتاً في النار)) . وقد جاء في سبب موته غير ما ذكر. وقيل: مات سنة (59) أو أول سنة (60) بالكوفة، وقيل بالبصرة، له مائة حديث وثلاثة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة، روى عنه جماعة. (والمغيرة بن شعبة) بن مسعود بن معتب الثقفي أبوعيسى أو أبومحمد، أسلم زمن الخندق، وشهد الحديبية وما بعدها، كان يقال له مغيرة الرأي، وشهد اليمامة وفتوح الشام والقادسية. قال الشعبي والزهري: كان من دهاة العرب، وقال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة فلو أن مدينة لها سبعة أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها، كان عاقلاً أديباً فطناً لبيباً داهياً. قال ابن عبد البر: ولاه عمر البصرة فلما شهد عليه عند عمر، عزله ثم ولاه الكوفة، وأقره عثمان عليها ثم عزله، ثم اعتزل الفتنة، ثم حضر الحكمين، ولاه معاوية الكوفة. مات سنة (50) على الصحيح. له مائة وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، روى عنه جماعة. (من حدث عني بحديث) أي ولو بواحد (يرى) بضم أوله من الإراءة أشهر من فتحه من الرأي، وكلاهما بمعنى يظن، أو الثاني بمعنى يعلم، والمراد العلم بالمعنى الأعم يقينياً أو ظنياً، وقيد بذلك لأنه لا يأثم إلا برواية ما يعلمه أو يظنه كذباً، وأما ما يعلمه أو لايظنه كذلك فلا إثم عليه في روايته وإن ظنه غيره كذباً أو علمه. وقيل: الأقرب أن الحديث يدل مفهوماً على أن غير الظان لا يعد من جملة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم، وأما أنه لا يأثم فلا، فليتأمل. (فهو أحد الكاذبين) المشهور روايته بصيغة الجمع باعتبار كثرة النقله، أي فهو واحد من جملة الواضعين الحديث، والمقصود أن الرواية مع العلم بوضع الحديث كوضعه. قالوا: وهذا إذا لم يبين وضعه، وقد جاء بصيغة التثنية باعتبار المفتري والناقل عنه، والمراد أن الراوي له يشارك الواضع في الإثم؛ لأنه يعينه ويشاركه بسبب إشاعته، فهو كمن أعان ظالماً على ظلمه. قال الطيبي: فهو كقولهم: القلم أحد اللسانين، والجد أحد الأبوين. كأنه يشير إلى ترجيح التثنية بكثرة وقوعها في أمثاله، فهو المتبادر إلى الأفهام. (رواه مسلم) في أول صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه في السنة، وأخرجه الترمذي عن المغيرة بن شعبة وحده، وفي الباب عن علي أخرج حديثه ابن ماجه في السنة.

201-

قوله: (وعن معاوية) أي ابن أبي سفيان، وقد تقدم ترجمته. (من يرد الله به خيراً) تنكيره للتكثير والتعظيم،

ص: 303

يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)) متفق عليه.

202 – (5) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة،

ــ

أي خيراً كثيراً عظيماً. (يفقه في الدين) بتشديد القاف وسكون الهاء؛ لأن الموصول متضمن معنى الشرط، أي يجعله عالماً بالشريعة. والفقه في الأصل الفهم، يقال: فقه الرجل – بالكسر - إذا فهم وعلم، وفقه – بالضم - إذا صار فقيهاً عالماً، وجعله العرف خاصاً بعلم الأحكام الشرعية العملية، وحمله على أصل اللغة أولى ليشمل فهم كل علم من علوم الدين، ويلائم تنكير"خيراً"، والفقه في الدين الذي أريد بمن يعطه الخير، هو العلم الذي يورث الخشية في القلب، ويظهر أثره في الجوارح، ويترتب عليه الإنذار، كما يشير إليه قوله تعالى:{فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الآية [122:9] . (وإنما أنا قاسم) أى للعلم (والله يعطى) أي الفهم في العلم، هو من باب قصر القلب إن اعتقد السامع أنه معط لا قاسم، أي ما أنا إلا قاسم لا معطٍ، ومن قصر الإفراد إن اعتقد أنه قاسم ومعطٍ أيضاً، أي لا شركة في الوصفين أي بل أنا قاسم فقط. ولما كان فقه الصحابة متفاوتاً لتفاوت الأفهام أعلم بقوله: إنما أنا قاسم، الخ. أن هذا التفاوت ليس مني، وإنما الذي هو مني القسمة بينكم، يعني تبليغ الوحي إليكم من غير تخصيص بأحد، والتفاوت في أفهامهم من الله تعالى؛ لأنه هو المعطي، يعطي الناس على قدر ما تعلقت به إرادته في الأزل، لأن {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [4:62] . وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمع آخر منهم أو ممن أتى بعدهم فيستنبط منه مسائل كثيرة، وقيل: أراد به قسمة المال، لكن سياق الكلام يدل على الأول، وظاهره يدل على الثاني؛ لأن القسمة حقيقية تكون في الأموال، ولذا أخرجه مسلم في قسم الصدقات، والبخاري في الخمس أيضاً، ووجه المناسبة بما قبله أنه صلى الله عليه وسلم خص بعضهم بزيادة مال لمقتض، فتعرض بعض من خفي عليه المقتضى بأن هذه قسمة فيها تخصيص لناس، فعرض صلى الله عليه وسلم بأنه من أريد به الخير يفهم في أمور الدين، لا يخفى عليه المقتضى، ولا يتعرض لما ليس على وفق خاطره، إذ الأمر كله لله، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي يزيد وينقص، والنبي صلى الله عليه وسلم قاسم وليس بمعط، حتى ينسب إليه الزيادة والنقصان. والحصر إضافي رد لمن توهم أنه المعطي، والأظهر أنه لا منع من الجمع بين الوجهين. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وروى نحوه عن ابن عباس عند أحمد والترمذي. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه، وأبي يعلى، والطبراني، وعن ابن مسعود عند البزار، والطبراني في الكبير، وعن ابن عمر عند ابن أبي عاصم في كتاب العلم.

202-

قوله: (الناس معادن) المعدن المستقر، من عدنت البلد إذا توطنته، ومنه معدن لمستقر الجواهر، و"معادن" خبر المبتدأ، ولا يصح حمله إلا بأحد الوجهين: إما على التشبيه، كقولك زيد أسد. وحينئذٍ يكون (كمعادن الذهب والفضة) بدلاً منه أي الناس كمعادن الذهب والفضة، وإما على أن المعادن مجاز عن التفاوت، فالمعنى: أن الناس متفاوتون في النسب بالشرف والضعة، مثل تفاوت المعادن في الذهب والفضة وما دونهما، يدل عليه قوله: عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: ((فعن معادن العرب تسألوني)) . أي أصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها، وإنما جعلت معادن

ص: 304

خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .رواه مسلم.

203-

(6) وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه

ــ

لما فيها من الاستعدات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنها غير قابلة له. أو شبههم بالمعادن؛ لأنهم أوعية للشرف والعلوم والحكم، كما أن المعادن أوعية للجواهر النفيسة والفلزات المنتفع به. (خيارهم) جمع خير أو أريد به أفضل التفضيل، تقول في الواحد خير وأخير (في الجاهلية خيارهم في الإسلام) جملة مبنية، أي من كان من خيار القبائل في الجاهلية وكان يستعد لقبول المآثر وجميل الصفات والتفوق في الأقران لكنه كان في ظلمة الكفر والجهل مغموراً مستوراً، كما يكون الذهب والفضة في المعدن ممزوجاً مخلوطاً في التراب، كان في الإسلام كذلك، وفاق بتلك الاستعدادات والمآثر والصفات على أقرانه في الدين، وتنور بنور العلم والإيمان، وخلص في سبكة المجاهدة في العبادة كما يسبك الذهب والفضة. (إذا فقهوا) بكسر القاف أي فهموا، وبالضم أي صاروا فقهاء علماء بعلم الشريعة. والرواية بالضم وهو المناسب هنا. وهذا القيد يفيد أن الإسلام يرفع اعتبار التفاوت المعتبر في الجاهلية، فإن التفاوت في الإسلام بحسب الأحساب أي مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وفي الجاهلية بحسب الأنساب. ولا يعتبر هذا الثاني إلا بالأول، فإذا تحلى الرجل بالعلم والحكمة استجلب شرف النسب الأصلي، فيجتمع شرف النسب والحسب، ففيه دليل على أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل، فالعلم والحكمة والحكمة يرفع كل من لم يرفع. (رواه مسلم) في الفضائل، لكن ليس فيه" كمعادن الذهب والفضة" والظاهر من كلام المصنف أن حديث أبي هريرة هذا من إفراد مسلم، وليس كذلك فإنه متفق عليه، أخرجه البخاري في ترجمة يوسف من كتاب الأنبياء، وليس فيه أيضاً "كمعادن الذهب والفضة"، نعم أخرجه أحمد بهذا اللفظ وزاد:((والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ايتلف، وما تناكر منها اختلف)) .

203-

قوله: (لا حسد) هو تمنى زوال نعمة الغير سواء حصل له أم لا. والمراد به الغبطة وهي: تمني الرجل حصول مثلها له من غير أن يتمنى زوالها عن الغير، وأطلق الحسد عليه مجازاً، والدليل على ذلك ما زاد أبوهريرة في هذا الحديث عند البخاري "فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتى فلان فعملت مثل ما يعمل" فكأنه قال في حديث ابن مسعود هذا: لا غبطة أعظم أو أفضل أو محمودة إلا في هذين الأمرين. وقال التوربشتى: الظاهر أن المراد بالحسد صدق الرغبة وشدة الحرص، ولما كان هذان السببان هما الداعيين إلى الحسد كنى عنهما بالحسد- انتهى. والمقصود أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة، وإنما تنبغي في الأمور الجليلة الدقيقة كالجود والعلم مع العمل. (إلا في اثنين) أي في شأن اثنين، وفي بعض النسخ "اثنتين" بالتأنيث، أي خصلتين اثنتين. (رجل) روى مجرورا على البدل من"اثنين" وهو أوثق الروايات، وعلى نسخة "اثنتين" بالتأنيث، يقدر "خصلة رجل" وروي أيضاً "رجل" مرفوعاً على أنه مبتدأ. (آتاه الله) بالمد أي أعطاه (مالاً) أي مالاً كثيراً. (فسلطه) عبر بالتسليط لدلالته على الغلبة وقهر النفس المجبولة على الشح البالع.

ص: 305

على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) متفق عليه.

204-

(7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))

ــ

(على هلكته) بفتحين أي إهلاكه يعني إنفاقه، وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقى منه شيئاً، وكمله بقوله (في الحق) أي في الطاعات ليزيل عنه إبهام الإسراف المذموم كما يقال: لا سرف في الخير. (الحكمة) اختلفوا في تفسيرها، فقيل: القرآن لأن اللام للعهد، وقيل: الإصابة من غير النبوة. (يقضي بها) أي يعمل بها ويحكم، والمراد أنه لا ينبغي أن يتمنى كونه كذى نعمة إلا أن تكون تلك النعمة مقربة إلى الله (ويعلمها) أي غيره (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عمر عند الشيخين، وعن أبي هريرة عند البخار والنسائي.

204-

قوله: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) أي أعماله بدليل الاستثناء، والمراد فائدة عمله؛ لانقطاع عمله، يعني لا يصل إليه أجر وثواب من شيء من عمله (إلا من ثلاثة) أي ثلاثة أشياء، فإن فائدتها لا تنقطع، قال السندهي: قوله: "انقطع عنه عمله" أي ثواب عمله، ولما كان هذا بمنزلة" انقطع الثواب من كل أعماله" تعلق به قوله:"إلا من ثلاثة" أي ثلاثة أعمال. وقيل: بل الاستثناء متعلق بالمفهوم، أي ينقطع ابن آدم من كل عمل إلا من ثلاثة أعمال. والحاصل: أن الاستثناء في الظاهر مشكل، وبأحد الوجهين المذكورين يندفع الإشكال – انتهى. وقال الأبهرى:"من" زائدة، والتنوين عوض عن الأعمال، وقيل: بل الضمير في "عنه" زائد ومعناه: إذا مات الإنسان انقطع عن أعماله إلا من ثلاثة أعمال. وقال الطيبي: الاستثناء متصل تقديره: ينقطع عنه ثواب أعماله من كل شيء كالصلاة والزكاة، ولا ينقطع ثواب أعماله من هذه الثلاثة، يعني أن الإنسان إذا مات لا يكتب له بعده ثواب أعماله؛ لأنه جزاء العمل، وهو ينقطع بموته إلا فعلاً دائم الخير مستمر النفع، مثل وقف أو تصنيف أو تعليم أو ولد صالح، وجعل الولد الصالح من جنس العمل؛ لأنه هو السبب في وجوده وسبب صلاحه بإرشاد إلى الهدى. وفائدة التقييد بالولد مع أن غيره لو دعا لنفعه، تحريض للولد على الدعاء وأنه كالواجب عليه – انتهى. مختصراً. (إلا من صدقة) الخ. بدل من قوله:"إلا من ثلاثة" وفي التكرير مزيد تقرير واعتناء بشأنه، وفي رواية أبي داود والنسائي "من صدقة" أي بدون لفظ "إلا" وفي رواية الترمذي "إلا من ثلاث صدقة" أي بغير لفظ "إلا" و"من" الجارة، فصدقة بالجر بدل من ثلاث (جارية) أي غير منقطعة كالوقف أو ما يديم للولي إجراءها عنه، وإليه يميل ترجمة النسائي وأبي داود بلفظ "باب الصدقة عن الميت"، وفي الأزهار: قال أكثرهم هي الوقف وشبهه مما يدوم نفعه. (أو علم ينتفع به) هو ما خلفه من تعليم أو تصنيف ورواية، وقال بعضهم: حمله على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدة وأبقى على ممر الزمان، المراد به العلم الشرعي. (أو ولد صالح يدعوا له) قال ابن الملك: قيد الولد بالصالح؛ لأن الأجر

ص: 306

رواه مسلم.

205-

(8) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر

ــ

لا يحصل من غيره، وإنما ذكر دعاءه تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: للوالد ثواب من عمل الولد الصالح سواء دعاء لأبيه أم لا. قال الشيخ ولي الدين: إنما أجرى على هؤلاء الثلاثة الثواب بعد موتهم لوجود ثمرة أعمالهم بعد موتهم كما كانت موجودة في حياتهم. وقال عياض: معنى الحديث أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها من اكتسابه الولد وبثة العلم عند من حمله عنه، أو إيداعه تأليفاً بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة. بقيت له أجورها ما بقيت ووجدت، ولا تنافي بين هذا الحصر وبين قوله صلى الله عليه وسلم:((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)) ؛ لأنه داخل في باب "علم ينتفع به" فإن وضع السنن وتأسيسها من باب التعليم المنتفع به، وكذا لا تنافي بينه وبين قوله:((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة)) ؛ لأن الحصر في حديث أبي هريرة يدل على أن الثواب بانضمام الغير يجري، كأنه قيل: ينقطع عمله المنضم إلى عمل الغير إلا عن ثلاث، والمرابطة ليست بداخلة فيها فلا يخل بالحصر. وقيل: المرابطة داخلة في الصدقة الجارية؛ لأن القصد في المرابطة نصرة المسلمين ودفع أعداء الدين، أو المجاهدة مع الكفار ودعوتهم إلى الإسلام لينتفعوا به في الدارين، ونية المؤمن خير من عمله، فلا يبعد أن يدخل تحت جنس "الصدقة الجارية" كحفر البئر وبناء الرباط. (رواه مسلم) في الوصايا، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، والترمذى في الأحكام، وأبوداود والنسائي كلاهما في الوصايا، وأخرج ابن ماجه معناه عن أبي قتادة وأبي هريرة في السنة.

205-

قوله: (كربة) ولو حقيرة، وهي بضم الكاف، الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وهو غم يأخذ بالنفس، وتنفيس الكربة أن يخفف عنه منها ويلطفها، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه، يدل على هذا الفرق حديث كعب بن عجرة عند الطبراني، فإنه جمع فيه بينهما، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، وقيل:"نفس" ههنا بمعنى فرج، أي رفع وأزال. قال الطيبي: كأنه فتح مداخل الأنفاس، فهو مأخوذ من "أنت في نفس" أي سعة، كأن من كان في كربة سد عنه مداخل الأنفاس، فإذا فرج عنه فتحت، وهذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى. (من كرب الدنيا) الفانية المنقضية، و"من" تبعيضية أو ابتدائية. (نفس الله عنه كربة) أي عظيمة (من كرب يوم القيامة) أي الباقية الدائمة، فلا يرد أنه تعالى قال:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [160:6] فإنه أعم من أن يكون في الكمية أو الكيفية. (ومن يسر على معسر) أي سهل على فقير، يعني من كان له دين على فقير فسهل عليه بإمهال، أو بترك بعضه أو كله

ص: 307

يسرالله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله

ــ

(يسرالله عليه في الدنيا والآخرة) أي في الدارين أو في أمورهما. (ومن ستر مسلماً) أي بثوب، أو بترك التعرض لكشف حاله بعد أن رآه يرتكب ذنباً. لكن الستر المندوب هو الستر على ذوي الهيئات ممن لا يعرف بالأذى والفساد، وأما المعروف به، أو المتلبس بالمعصية بعد فيجب إنكارها ورفع الأمر إلى الولاة إن لم يقدر على منعه. وأما جرح الرواة والشهود وأمناء الصدقات فواجب. (ستره الله) أي عورته أو عيوبه، ويجوز إرادة ظاهره وإرادة ستر ذنبه جميعاً. (والآخرة) يعني ستره عن أهل الموقف، أو ترك المحاسبة عليه وترك ذكرها. (والله في عون العبد) الواو للاستئناف، وهو تذييل للكلام السابق. (ما كان العبد) أي ما دام العبد مشغولاً (في عون أخيه) أي المسلم بأي وجه كان يجلب نفع أو دفع ضر. (ومن سلك طريقاً) حقيقياً حسياًً وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء أو معنوياً مثل حفظ العلم ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له، ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم. (يلتمس) حال أو صفة (سهل الله به) أي بذلك السلوك، والباء للسببية (طريقاً إلى الجنة) أي يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه وبيسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو بيسرالله إذا قصد بطلبه وجه الله، الانتفاع به والعمل بمقتضاه، فيكون سبباً لهدايته ولدخول الجنة بذلك، وقد بيسرالله لطالب العلم علوماً أخر ينتفع بها، وتكون موصلة له إلى الجنة، أو يسهل له طريق الجنة الحسي يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال فبيسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به. (في بيت من بيوت الله) هو شامل لجميع ما يبنى لله تقرباً إليه من المساجد والمدارس والربط. (ويتدارسونه) قيل: شامل لجميع ما يتعلق بالقرآن من التعلم والتعليم والتفسير والاستكشاف عن دقائق معانيه. (السكينة) قيل في معنى السكينة أشياء، المختار منها أنها شيء من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة، قاله النووي. (وغشيتهم الرحمة) أي علتهم وغطتهم وسترتهم (وحفتهم الملائكة) أي ملائكة الرحمة والبركة أحدقوا وأحاطوا بهم تعظيماً لصنيعهم، أو طافوا بهم وداروا حولهم إلى سماء الدنيا يستمعون القرآن ودراستهم. (وذكرهم الله فيمن عنده) أي الملأ الأعلى والطبقة الأولى من الملائكة، وذكره تعالى للمباهاة بهم. (ومن بطأ به عمله) بتشديد الطاء، من التبطئة ضد التعجيل كالإبطاء، والباء للتعدية أي من أخره عن بلوغ درجة السعادة عمله السيء في الآخرة، أو تفريطه في العمل الصالح

ص: 308

لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم.

206-

(9) وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن،

ــ

في الدنيا (لم يسرع به نسبه) من الإسراع، أي لم يقدمه نسبه، أي لم ينفعه في الآخرة شرف نسبه، فإن العمل الصالح هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب. (رواه مسلم) في الذكر والتوبة. وأخرجه أيضاً الترمذي في الحدود، وفي البر والصلة، وفي العلم، وفي أواخر القراءة مختصراً ومطولاً، وأبوداود في الأدب والعلم، والنسائي وابن ماجه في السنة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.

206-

قوله: (يقضى عليه) قيل: هو صفة للناس؛ لأنه نكرة في المعنى، أي يحاسب ويسئل من أفعاله، قيل: ويستفاد منه أنه أول المقضى عليهم لا مطلقاً. (يوم القيامة) أي ثلاثة (رجل استشهد) على بناء المفعول أي قتل في سبيل الله (فأتي به) أي بالرجل للحساب. (فعرفه) بالتشديد، أي ذكره تعالى (نعمته) على صيغة المفرد ههنا والباقيتان على صيغة الجمع، ولعل الفرق اعتبار الإفراد في الأولى، والكثرة في الأخيرتين، كذا ذكره الطيبي. ولعل المراد بالكثرة أصناف العلوم والأموال، وهذا التعريف للتبكيت وإلزام المنعم عليه ولذلك أتبعه بقوله (فعرفها) بالتخفيف أي فاعترف بها وتذكرها فكأنه من الهول والشدة نسيها وذهل عنها. (فما عملت فيها) أي في مقابلتها شكراً لها (قال) أي الرجل (قاتلت فيك) أي جاهدت في جهتك خالصة لك، كذا ذكره الطيبي. أي حاربت لأجلك، ففي تعليلية. (كذبت) أي في دعوى الإخلاص (لأن يقال جريء) أي لأن يقال في حقك أنك أو هو جريء أي شجاع. (فقد قيل) أي ذلك القول في شأنك، فحصل مقصودك وغرضك. (ثم أمر به) أي قيل لخزنة جهنم: ألقوه في النار. (فسحب) أي جر. (ورجل تعلم العلم) الشرعي (وعلمه) الناس (وقرأ القرآن) تخصيص بعد تعميم، أو المراد به مجرد تلاوة القرآن، يعني التعلم والتعليم لم يمنعاه عن الاشتغال بالقرآن. (فأتى به) إلى محضر الحساب. (فما عملت فيها) أي هل صرفتها في مرضاتي أم في غيرها؟ (تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن) أي صرفت نعمتي التي أنعمت بها علي في الاشتغال بالعلم والعمل والقراءة

ص: 309

قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاءه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل. ثم أمر به فسحب به على وجهه ثم ألقي في النار)) رواه مسلم.

207-

(10) وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً

ــ

ابتغاء لوجهك، وشكراً لنعمتك. (تعلمت العلم ليقال: إنك عالم) ولعله لم يقل "وعملت العلم ليقال إنك معلم" للاختصار، واكتفاء بالمقايسة. (فقد قيل) لك عالم وقارئ، فمالك عندنا أجر. (ورجل وسع الله عليه) أي كثر ماله (وأعطاه) عطف بيان (من أصناف المال كله) كالنقود، والمتاع، والعقار، والمواشي. (فما عملت فيها) أي في مقابلة النعم، أو في الأموال. (ما تركت من سبيل) "من" زائدة تأكيداً لاستغراق النفي. (قال: كذبت) أي في قولك "لك"(هو جواد) أي سخي كريم. والحديث دليل على وجوب الإخلاص في الأعمال، وهو كما قال تعالى:{وما أمرو إلا ليعبدوالله مخلصين له الدين} [5:98] ، وأن العمومات الواردة في فضل الجهاد، وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه الخيرات، كل ذلك محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصاً. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضاً النسائي. قال المنذري: ورواه الترمذي، وحسنه ابن حبان في صحيحه كلاهما بلفظ واحد.

207-

قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حجة الوداع. (إن الله لا يقبض العلم) أي علم الكتاب والسنة (انتزاعاً) مفعول مطلق عن معنى يقبض، نحو قعد جلوساً. وقوله (ينتزعه من العباد) جملة مستأنفة لبيان القبض انتزاعاً، أي يرفعه عن قلوبهم. وقيل: صفة لانتزاعاً. والظاهر أن ضميره للعلم لا للانتزاع، فلا يصلح أن يكون صفة للانتزاع لعدم العائد، فليتأمل. أو هو مفعول مطلق مقدم، والجملة حالية، أي لا يقبض العلم حال كون العلم ينتزعه انتزاعاً من العباد، أو حال من العلم بمعنى منتزعاً أي لا يقبض العلم حال كونه منتزعاً ينتزعه من العباد. (ولكن يقبض العلم) أي يرفعه (بقبض العلماء) أي بموتهم وقبض أرواحهم. (حتى) ابتدائية دخلت على الجملة (إذا لم يبق) الله (عالماً) وفي رواية "لم يترك عالماً" ولفظه "حتى" تدل على أن ذلك واقع بالتدريج كما أن "إذا" تدل على أنه واقع لا محالة. (رؤساء) ضبط في مسلم بوجهين: أحدهما بضم الهمزة والتنوين جمع رأس، أي سادة كبراء عظماء، والثاني رؤساء جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول

ص: 310

جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه.

208-

(11) وعن شقيق قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر الناس في كل خميس. فقال له رجل: يا أباعبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا في كل يوم. قال: ((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإن أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا))

ــ

أشهر (جهالاً) جمع جاهل، وهو صفة "رؤساء" وهذا يكون عند انقراض العالم مطلقاً. (فأفتوا) أي أجابوا وحكموا. قال العيني: لا يختص هذا بالمفتين، بل عام للقضاة الجاهلين، إذا لحكم بالشيء مستلزم للفتوى به (بغير علم) وفي رواية "برأيهم" وفي الحديث الحث على العلم والتحذير عن ترئيس الجهلة وذم من يقدم على الإفتاء بغير علم. (فضلوا) أي صاروا ضالين بالفتوى بغير علم (وأضلوا) أي صاروا مضلين لغيرهم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الاعتصام، ومسلم في العلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي في العلم، وابن ماجه في السنة.

208-

قوله: (وعن شقيق) هو ابن سلمة يكنى أباوائل الأسدي، ثقة حجة، مخضرم، روى عن خلق من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وابن مسعود وكان خصيصاً به، من أكابر أصحابه، وهو كثير الحديث. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. (يذكر الناس) بالتشديد، أي يعظهم (في كل خميس) احتمل عمل ابن مسعود مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول. (فقال له رجل) قال الحافظ: هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق البخاري في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. (يا أبا عبد الرحمن) هو كنية ابن مسعود (لوددت) أي أحببت أو تمنيت. (أنك ذكرتنا في كل يوم) قاله استحلاءً للذكر لما وجد من بركته ونوره. (قال) أي ابن مسعود (أما) بمعنى "ألا" للتنية (إنه) بكسر الهمزة والضمير للشأن (يمنعنى من ذلك) أي من التذكير كل يوم (أنى أكره) بفتح الهمزة فاعل "يمنعني" أي كراهتي (أن أمِلَّكُم) بضم الهمزة وكسر الميم وتشديد اللام المفتوحة، أي أكره إملالكم يعني إيقاعكم في الملالة والضجر، (وإني) بكسر الهمزة عطف على "إنه" أو حال (أتخولكم) من التخول وهو التعهد وحسن الرعاية. (كما كان) الخ. الكاف للتشبيه، و"ما" مصدرية. (يتخولنا) أي يتعهدنا. والمعنى: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ويتحرى منها ما كان مظنة القبول، ولا يفعل ذلك في كل يوم لئلا نمل ونسأم. (مخالفة السآمة) بالنصب مفعول له، أي لأجل مخافة السآمة من الموعظة. (علينا) متعلق بالسآمة على تضمين معنى المشقة، أي مخافة المشقة علينا، أو بتقدير الصفة، أي مخافة السآمة الطارئة علينا، أو الحال أي مخافة السآمة حال كونها طارئة علينا، أو بمحذوف أي مخافة السآمة شفقة علينا. وفي الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت المقصود. واستنبط البخاري منه التعهد والتخول بالعلم

ص: 311

متفق عليه.

209-

(12) وعن أنس قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً)) رواه البخاري.

210-

(13) وعن أبي مسعود الأنصاري قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه

ــ

والاقتصاد فيه كيلا ينفر الطلبة، وأخذ من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس أو من استنباطه ذلك من الحديث الذي رواه، جواز أن يجعل الشيخ لأهل العلم يوماً معلوماً أو أياماً معلومة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم، وفي الدعوات، ومسلم في التوبة. وأخرجه أيضاً الترمذي في أواخر الاستئذان.

209-

قوله: (إذا تكلم بكلمة) المراد بها ما يشمل الجملة والجمل. وجزاء الجملة (أعادها ثلاثاً) أي ثلاث مرات. قال البدر الدماميني: لا يصح أن يكون "أعاد" مع بقائه على ظاهره عاملاً في "ثلاثاً" ضرورة أنه يستلزم قول تلك الكلمة أربع مرات، فإن الإعادة ثلاثاً إنما تتحقق بها، إذا المرة الأولى لا إعادة فيها، فإما أن تضمن معنى "قال" ويصح عملها في "ثلاثاً" بالمعنى المضمن، أو يبقى "أعاد" على معناه ويجعل العامل محذوفاً، أي أعادها فقالها ثلاثاً، فلم تقع الإعادة إلا مرتين- انتهى. والمراد أنه كان يكرر الكلام ثلاثاً إذا اقتضى المقام ذلك لصعوبة المعنى، أو غرابته أو كثرة السامعين لا دائماً، فإن تكرير الكلام من غير حاجة لتكريره ليس من البلاغة، فيحمل الحديث على المواضع المحتاجة إلى الإعادة لا على العادة، وإلا لما كان لذكر عدد الثلاث في بعض المواضع كثير فائدة، مع أنهم يذكرون في الأمور المهمة أنه قالها ثلاثاً كما لا يخفى. فإن قلت: عنوان هذا الكلام يفيد الاعتياد. قلت: لو سلم يمكن أن يقال: كان عادته الإعادة في كلمة مهمة لا في كل كلمة، على أن تنكير كلمة للتعظيم، وفيه دليل على أنه ينبغي للمعلم أن يكرر الكلام في المواضع المهمة المحتاجة إلى الاهتمام، وكذا إذا كان المستفيد لا يحفظ من مرة. (حتى تفهم) أي لكي تعقل تلك الكلمة. (عنه) أي فهماً قوياً راسخاً في النفس. (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم) أي فأراد السلام عليهم (سلم عليهم ثلاثاً) أحدها للاستئذان، والثاني عند الدخول، والثالث عند الوداع، وكل سنة، وقيل: المعنى أن القوم إذ كانوا كثيرين بحيث لا يبلغهم سلام واحد، فإذا دخل عليهم سلم ثلاثاً أي في الجوانب الثلاث، وقيل: هديه في التسليم الثاني والثالث إن ظن أن الأول لم يحصل به الإسماع، كما سلم لما انتهى إلى المنزل سعد بن عبادة ثلاثاً، فلما لم يجبه أحد رجع. (رواه البخاري) في العلم، وفي الاستئذان، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الاستئذان، وفي المناقب، والحاكم في المستدرك (ج4:ص273) ، ووهم في استدراكه.

210-

قوله: (وعن أبي مسعود الأنصاري) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أبومسعود الأنصاري البدري الصحابي الجليل، مشهور بكنيته، اتفقوا على أنه شهد العقبة وأحداً وما بعدها، ونزل الكوفة من أصحاب علي، واختلفوا

ص: 312

أبدع بي فاحملني. فقال: ما عندي. فقال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله)) رواه مسلم.

211-

(14) وعن جرير قال:

ــ

في شهوده بدراً فقال الأكثر: نزل ماء ببدر فنسب إليه، وجزم البخاري بأنه شهد غزوة بدر، واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام ومسلم في الكنى: شهد بدراً. وقال ابن البرقي: لم يذكره ابن إسحاق في البدريين. وورد في عدة أحاديث أنه شهدها. قلت: القول ما قال البخاري؛ لما يدل عليه الأحاديث الصحيحة. وروي له مائة وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة. روى عنه ابنه بشير وخلق سواه. مات بعد الأربعين بالكوفة، وقيل: بالمدينة. (أبدع بي) على بناء المفعول، يقال: أبدعت الراحلة إذا انقطعت عن السير مكلال. جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه إبداعاً عنها، أي إنشاء أمر خارج عما أعتيد منها. ويقال: أبدع بالرجل إذا كلت ركابه أو عطبت وبقي منقطعاً به. ولما حول للمفعول صار الظرف نائبه كسير بعمرو. (فاحملني) بهمزة الوصل أي أركبني واجعلني محمولاً على دابة غيرها. (فقال) صلى الله عليه وسلم (ما عندي) أي لا أجد ما أحملك عليه. (من دل) أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة (على خير) أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب. (فله) أي فللدال (مثل أجر فاعله) أي من غير أن ينقص من أجره شيء، قاله القاري. وقال المناوي: فله مثل أجر فاعله أي لإعانته عليه. وهذا إذا حصل ذلك الخير وإلا فله ثواب دلالته. قال النووي: المراد أن له ثواباً بذلك كما أن لفاعله ثواباً. ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء – انتهى. وذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث ونحوه إنما هو بغير تضعيف. وقال القرطبي: إنه مثله سواء في القدر والتضعيف؛ لأن الثواب على الأعمال إنما هو تفضل من الله، يهبه لم يشاء وعلى أي شيء صدر منه خصوصاً إذا صحت النية التي هي أصل الأعمال في طاعته عجز عن فعلها لمانع منع منها. فلا بُعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر والفاعل أو يزيد عليه، قال: وهذا جارٍ في كل ماورد مما يشبه ذلك الحديث، كذا في السراج المنير. (رواه مسلم) في الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في العلم، وأبوداود في الأدب، وورد معناه عن ابن مسعود عند ابن حبان في صحيحه والبزارة، وعن أنس عند الترمذي والبزار وابن أبي الدنيا، وعن بريدة بن الحصيب عند أحمد والضياء، وعن سهل بن سعد عند الطبراني في الكبير والأوسط.

211-

قوله: (وعن جرير) بن عبد الله بن جابر البجلي القسري أبوعمرو أو أبوعبد الله اليماني، أسلم سنة عشر، وبسط له النبي صلى الله عليه وسلم ثوباً، ووجهه إلى ذي الخلصة فهدمها. روى الشيخان وغيرهما عنه، قال: ماحجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم. وشهد فتح المدائن، وكان على ميمنة الناس يوم القادسية، ويلقب بيوسف هذه الأمة. وقال عبد الملك بن عمير: رأيت جرير بن عبد الله وكأن وجهه شقة قمر. له مائة حديث، اتفقا على ثمانية

ص: 313

((كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال:{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيباًْْ} والآية التي في الحشر: {اتقوالله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} تصدق رجل من ديناره،

ــ

وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. مات سنة (51)، وقيل: بعدها، روى عنه خلق كثير. (كنا في صدر النهار) أي أوله (عراة) جمع عار، أي يغلب عليهم العري، حال كونهم (مجتابى) بالجيم الساكنة وبعد الألف باء موحدة، من الاجتياب. (النمار) بكسر النون جمع نمرة بالفتح، وهي كساء مخطط من صوف، أي لابسي النمار قد خرقوها في رؤسهم وقوروا وسطها، والجوب القطع. (أو العباء) بفتح العين كساء معروف و"أو" للشك من الراوي. (عامتهم) أي أكثرهم أو غالبهم. (بل كلهم من مضر) قال السندهي: إضراب إلى التحقيق، ففيه أن قوله "عامتهم" كان عن عدم التحقيق، واحتمال أن يكون البعض من غير مضر أول الوهلة. (فتعمر) أي تغير (وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي وظهر عليه آثار الحزن. (من الفاقة) أي الفقر الشديد، و"من" بيان "لما". (فدخل) أي بيته، لعله لاحتمال أن يجد في البيت ما يدفع به فاقتهم، فعله ما وجد فخرج، أو دخل لتجديد الطهارة، والله أعلم. (فأمر بلالاً) أي بالأذان (فصلى) أي إحدى الصلوات المكتوبة بدليل الأذان والإقامة، والظاهر أنها الظهر لقوله "في صدر النهار". (فقال: يا أيهاالناس اتقوا ربكم) الخ. سبب قراءة هذه الآية وهي أول النساء أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم؛ ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة. (إلى آخر الآية) وتمامها {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام} [1:4]{إن الله كان عليكم رقيباً} بيان لآخر الآية. (والآية التي في الحشر) بالنصب عطفاً من حيث المعنى على قوله: {ياأيها الناس اتقوا} على تأويل "قال" بقرأ. أي قرأ هذه الآية والآية التي في سورة الحشر، قاله الطيبي. وأولها {ياأيها الذين آمنوا} وبعده {اتقوالله ولتنظر نفس} نكرة تفيد العموم، أي كل نفس، كقوله تعالى:{علمت نفس} [5:82] أي لتتفكر وتتأمل النفوس. {ما قدمت} أي أى شيء من العبادات والخيرات أرسلته إلى الآخرة {لغد} أي لنفع غد من الزمان، وهو يوم القيامة، وتمامها {واتقوالله، إن الله خبير بما تعملون} [18:59] . (تصدق رجل من ديناره) بفتح القاف صيغة ماضٍ بمعنى الأمر، ذكر بصيغة الإخبار مبالغة فكأنه أمره وامتثل به فأخبر عنه به، وبه اندفع قول الطيبي: لوحمل "تصدق" على الماضي لم يساعده قوله: "ولو بشق تمرة"؛ لأن ذلك لو كان إخباراً معنى، وأما إذا كان أمراً معنى فلا. قلت: قال الطيبي: لعل الظاهر "ليتصدق رجل" ولام الأمر للغائب محذوف والقاف ساكنة، وجوزه ابن الأنبارى،

ص: 314

من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام

ــ

ونقل عن بعض أهل اللغة أن "نبك" في "قفا نبك" مجزوم على تأويل الأمر، أي فلنبك واحتج بقوله تعالى:{ذرهم يأكلوا} [3:15] أي فليأكلوا، ولو حمل "تصدق" على الفعل الماضي لم يساعده قوله: ولو بشق تمرة، إذا المعنى ليتصدق رجل ولو بشق تمرة، وكذا قوله:"فجاء رجل" الخ.؛ لأنه بيان لامتثال أمره عليه السلام عقيب الحث على الصدقة، ولمن يجريه على الإخبار وجه لكن فيه تعسف غير خاف- انتهى. قال الأبهرى: ويأبى عن الحمل على حذف اللام عدم حرف المضارعة- انتهى. فيتعين حمله على أنه خبر لفظاً وأمر معنى، وإتيان الإخبار بمعنى الإنشاء كثير في الكلام ليس فيه تكلف فضلاً عن تعسف. قال الطيبي: و"رجل" نكرة وضعت موضع الجمع المعرف لإفادة الاستغراق في الإفراد وإن لم تكن في سياق النفي كشجرة في قوله: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [27:31] ، فإن "شجرة" وقعت موضع الأشجار. ومن ثم كرر في الحديث مراراً بلا عطف، أي ليتصدق رجل من ديناره، ورجل من درهمه، وهلم جرا، و"من" في "من دينار" إما تبعيضية أي ليتصدق مما عنده من هذا الجنس، وإما ابتدائية متعلقة بالفعل، فالإضافة بمعنى اللام، أي ليتصدق بما هو مختص به وهو مفتقر إليه. (حتى قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم ليتصدق كل رجل منكم. (ولو بشق تمرة. قال) أي الراوى وهو جرير (بصرة) بالضم أي ربطة من الدراهم لا من الدنانير على الظاهر. (تعجز عنها) أي عن حمل الصرة لثقلها لكثرة ما فيها. (ثم تتابع الناس) أي توالوا في إعطاء الصدقات. (كومين) الكوم بالضم العظيم من كل شيء، والكوم بالفتح المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي: الفتح هنا أولى؛ لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (من طعام) الظاهر أنه هنا حبوب، ولعل الاقتصار عليه من غير ذكر النقود لغلبته. (يتهلل) أي يستنير فرحاً وسروراً. (مذهبة) بضم الميم وسكون الذال المعجمة وفتح الهاء بعده موحدة أي فضة مذهبة أي مموهة بالذهب، ومعناه ظهور البشر في وجهه صلى الله عليه وسلم حتى استنار وأشرق من السرور، والمذهبة أيضاً صحيفة منقشة بالذهب، أو ورقه من القرطاس مطلية بالذهب، يصف حسنه وتلألؤه. (من سن في الإسلام سنة حسنة) أي أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين، أو صار باعثاً وسبباً لترويج أمر ثابت في الشرع (فله أجرها) أي أجر السنة أي ثواب العمل بها والإضافة لأدنى ملابسة، فإن السنة سبب ثبوت الأجر فجازت الإضافة. (من بعده) أي من بعد ما سن (من غير أن ينقص) على البناء للمفعول، وجوز

ص: 315