الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
(الفصل الثالث)
عليه الاستثناء أي ما وعظنا (إلا قال) أي فيها، ولعل الحصر غالبي (لا إيمان لمن لا أمانة له) فإن المؤمن من أمنه الخلق على أنفسهم وأموالهم، فمن خان وجار فليس بمؤمن، أراد نفي الكمال دون الحقيقة، قاله المناوي. وقال القاري: انتفى كمال الإيمان بانتفاء الأمانة؛ لأنه يؤدي إلى استباحة الأموال والأعراض والأبضاع والنفوس، وهذه فواحش تنقص الإيمان وتقهقره إلى أن لا يبقى منه إلا أقله بل ربما أدت إلى الكفر، ومن ثم قيل: المعاصي بريد الكفر – انتهى. (ولا دين لمن لا عهد له) المراد به الزجر والردع ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة، والمعنى أن من جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق ثم غدر من غير عذر شرعي فدينه ناقص، قال الطيبي: وفي هذا الحديث إشكال، وهو أنه قد سبق أن الدين والإيمان الإسلام أسماء مترادفة، فلم فرق بينها وخص كل واحد منها بمعنى؟ والجواب: أنها وإن اختلفت لفظاً فقد اتفقا هاهنا معنى، فإن الأمانة ومراعاتها إما مع الله تعالى فهي ما كلف به من الطاعة وسمي أمانة لأنه لازم الوجود كما أن الأمانة لازم الأداء، قال الله تعالى:{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} [34: 72] ، وإما مع الخلق فظاهر، ولأن العهد وتوثيقه إما مع الله تعالى فاثنان العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بربوبيته قبل الأجساد، مصداقه قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم
…
} الآية [7: 172] ، والثاني ما أخذه عند هبوط آدم – عليه الصلاة والسلام – إلى الدنيا من متابعة هدى من الاعتصام بكتاب ينْزله ورسول يبعثه، مصداقه قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى
…
} [2: 38]، وإما مع الخلق وحينئذٍ فمرجع الأمانة والعهد إلى طاعة الله بأداء حقوقه وحقوق العباد كأنه قال: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانة الله بعد حملها، وهي التكاليف من الأوامر والنواهي، ويشهد له قوله تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين – إلى قوله – دين القيمة} [98: 5]، والتكرير المعنوي توكيد وتقرير – انتهى. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وكذا رواه في السنن الكبرى (ج6: ص288) قال القاري: وكذا رواه محي السنة أي صاحب المصابيح في شرح السنة بإسناده – انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً أحمد في المسند (ج3: ص135، 154، 210، 251) ، وفي السنة (ص97) ، وابن حبان وأبويعلى والبزار والطبراني في الأوسط والضياء في المختارة، قال العزيزي: إسناده قوي، وقال الهيثمي: فيه أبوهلال وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره – انتهى. وللحديث شاهدان من حديث أبي أمامة عند الطبراني في الكبير ومن حديث ابن مسعود ذكرهما الهيثمي، وقال الشيخ الألباني: رواه الضياء في الأحاديث المختارة (ق234/2) من طريقين عن أنس أحد إسناديه حسن وله شواهد.
قوله (الفصل الثالث) المراد به الأحاديث الملحقة بالباب ألحقها صاحب المشكاة غير مقيدة بأن تكون مما أخرجها الشيخان أو غيرهما من أصحاب السنن، ولا بأن تكون عن صحابي أو تابعي.
36-
(35) عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) رواه مسلم.
37-
(36) وعن عثمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة،
ــ
36-
قوله: (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) هذا ما يتكرر كثيراً، وقد اختلف في المنصوبين بعد سمعت، فالجمهور على أن الأول مفعول، وجملة يقول حال، أي سمعت كلامه؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بين هذا المحذوف بالحال المذكور فهي حال مبينة لا يجوز حذفها، واختار الفارسي أن ما بعد سمعت إن كان مما يسمع كسمعت القرآن تعدت إلى مفعول واحد، وإلا كما هنا تعدت إلى مفعولين، فجملة يقول على هذا مفعول ثانٍ (من شهد أن لا إله إلا الله
…
) الخ، أي صادقاً من قلبه كما في حديث أنس في قصة معاذ، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث هناك (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص318) ، والترمذي في الإيمان.
37-
قوله: (وعن عثمان) أي ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي المدني، يكنى أباعبد الله وأباعمرو، أمير المؤمنين ومجهز جيش العسرة ومشتري بئر رومة، وأحد العشرة، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راضٍ، ولد بعد الفيل بست سنين، أسلم في أول الإسلام على يدي أبي بكر قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ولم يشهد بدراً لتخلفه على تمريض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم فيها بسهم، ولم يشهد بالحديبية بيعة الرضوان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى مكة في أمر الصلح، فلما كانت البيعة ضرب النبي صلى الله عليه وسلم يده على يده وقال: هذه لعثمان، وسمي ذا النورين لجمعه بين بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، قال ابن عمر: كنا نقول على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبوبكر ثم عمر ثم عثمان، وقال ابن سيرين: كان يحيي الليل كله بركعة، ومناقبه وفضائله كثيرة شهيرة جداً، بويع له بالخلافة بعد دفن عمر بثلاثة أيام، وذلك غرة المحرم سنة (24) ، وقتل مظلوماً في ذي الحجة سنة (35) وهو ابن (82) سنة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا أياماً، له مائة وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، روى عنه خلق. قال عبد الله بن سلام: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة لا يغلق إلى يوم القيامة، وترجمته مستوفاة في تاريخ دمشق (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) هذه الكلمة علم لكلمتي الشهادة، ولذا اقتصر عليها، قال النووي: في قوله (وهو يعلم) إشارة إلى الرد على غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله ((غير شاك فيهما)) ، وهذا يؤيد ما قلنا، قال القاضي: وقد يحتج به أيضاً من يرى أن مجرد
رواه مسلم.
38-
(37) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثنتان موجبتان، قال رجل: يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال: من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) ، رواه مسلم.
39-
(38) وعن أبي هريرة قال: ((كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا أبوبكر وعمر – رضي الله عنهما – في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا
ــ
معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع أحداًهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادة بلسانه إذا لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ، إذ قد ورد مفسراً في الحديث الآخر:((من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) ، وقد جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة، في ألفاظها اختلاف ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: 65، 69) .
38-
قوله: (وعن جابر) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي السلمي أبوعبد الله، شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى، قال ابن عبد البر: ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، وذكر البخاري أنه شهد بدراً وكان ينقل لأصحابه الماء يومئذٍ ثم شهد بعدها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة غزوة، ذكر ذلك الحاكم أبوأحمد، وكان من المكثرين الحفاظ للسنن، وكف بصره في آخر عمره، روي عنه أنه قال: استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة البعير خمساً وعشرين مرة، وقال هشام بن عروة: رأيت لجابر بن عبد الله حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، توفي بالمدينة سنة (73) ، وقيل (74) ، وقيل (77) ، وقيل (78)، ويقال: مات وهو ابن (94) سنة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول. له ألف وخمسمائة حديث وأربعون حديثاً، اتفقا على ثمانية وخمسين حديثاً، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين (ثنتان) صفة مبتدأ محذوف أي خصلتان (موجبتان) يقال: أوجب الرجل إذا عمل ما يجب به الجنة أو النار، ويقال للحسنة والسيئة موجبة، فالوجوب عند أهل السنة بالوعد أو الوعيد، وعند المعتزلة بالعمل (ما الموجبتان) السبباًن، فإن الموجب الحقيقي هو الله تعالى (من مات يشرك بالله
…
) الخ فالموت على الشرك سبب لدخول النار وخلودها، والموت على التوحيد سبب لدخول الجنة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (ج3: ص345، 374، 391) ، وأخرج الطبراني في الكبير نحوه عن عمارة بن رويبة، وفيه محمد بن أبان وهو ضعيف.
39-
قوله: (كنا قعوداً) أي ذوي قعود أو قاعدين (في نفر) أي مع جماعة من الصحابة (من بين أظهرنا)
فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، والربيع الجدول، قال: فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبوهريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أباهريرة!
ــ
أظهر زائدة للتأكيد أي من بيننا (فأبطأ علينا) أي مكث وتوقف عنا كثيراً (أن يقتطع) بصيغة المجهول (دوننا) حال من الضمير المستتر في يقتطع، أي خشينا أن يصاب بمكروه من عدو أو غيره متجاوزاً عنا وبعيداً منا (وفزعنا) بكسر الزاي أي اضطربنا. قال عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، قال فتصح هنا هذه المعاني الثلاثة أي ذعرنا لاحتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا؟ ويدل على الوجهين الآخرين قوله: فكنت أول من فزع – انتهى. وقال الطيبي: عطف أحد المترادفين على الآخر لإرادة الاستمرار كما في قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا} [54: 9] ، أي كذبوه تكذيباً غب تكذيب – انتهى. (فقمنا) للتجسس والتحفص (فخرجت) أي من المجلس (أتيت حائطاً) أي بستاناً له حيطان أي جدران (لبني النجار) تخصيص بعد تعميم أو بدل بعض (فدرت به) أي بحول الحائط (فإذا ربيع) إذا للمفاجأة أي فاجأ عدم وجودي للباب روية نهر صغير (يدخل في جوف حائط) أي في جوف جداًر من جدران ذلك الحائط، مبتدأ أو مستمد ذلك النهر (من بئر) مؤنثة مهموزة يجوز تخفيف همزها (خارجة) روي على ثلاثة أوجه: أحدها بالتنوين في بئر وفي خارجة على أن خارجة صفة لبئر، والثاني بئر خارجة بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة، وهي هاء الضمير للحائط أي البئر في موضع خارج عن الحائط، والثالث من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث، وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر، قال النووي: هكذا ضبطناه بالتنوين في بئر وخارجة، وكذا نقله ابن الصلاح – انتهى. وقيل: البئر هنا البستان، سمي بما فيها من الآبار، يقولون: بئر بضاعة، وبئر أريس، وبئر خارجة، وهي بساتين. (والربيع الجدول) تفسير من بعض الرواة (فاحتفزت) بالزاي المعجمة أي تضاممت ليسعني المدخل (فقال: أبوهريرة؟) أي فقال النبي صلى الله عليه وسلم أأنت أبوهريرة؟ خبر مبتدأ محذوف، والاستفهام إما للتقرير وهو الظاهر، وإما للتعجب لاستغرابه أنه من أين دخل عليه والطرق مسدودة (ما شأنك) أي ما حالك وما سبب مأتاك واضطرابك؟ (وهؤلاء الناس ورائي) أي ينتظرون علم ما وقع لك (فقال: يا أباهريرة) يقرأ بالهمز ولا يكتب، قاله
وأعطاني نعليه، فقال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيك من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أباهريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بين ثدي فخررت لإستي
ــ
القاري. (وأعطاني نعليه) الجملة حال (فقال) تأكيد للأول (اذهب بنعلي هاتين) قال الطيبي: لعل فائدة النعلين أن يبلغ مع الشاهد فيصدقوه وإن كان خبره مقبولاً بغير هذا، وتخصيصهما بالإرسال إما لأنه لم يكن عنده غيرهما، وإما للإشارة إلى أن بعثته وقدومه لم يكن إلا تبشيراً وتسهيلاً على الأمة رافعاً للآصار التي كانت في الأمم السالفة، وإما للإشارة إلى الثبات بالقدم والاستقامة بعد الإقرار لقوله – عليه الصلاة والسلام:((قل آمنت بالله ثم استقم)) – انتهى. وقال النووي: أما إعطاءه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيداً وإن كان خبره مقبولاً بغير هذا (مستيقناً بها) أي بمضمون هذه الكلمة (فبشره بالجنة) معناه أخبر أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة وإلا فأبوهريرة لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند القدرة، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع، بل لا بد منهما، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب (فكان أول من لقيت عمر) منصوب على أنه خبر كان، وقيل: مرفوع على الاسمية وأول بالعكس، قيل: وهو أولى لأنه وصف وهو بالخبرية أحرى (بعثني بهما من لقيت) بصيغة المتكلم أي بعثني بهما حال كوني قائلاً أو مبلغاً أو مأموراً بأن من لقيت يشهد
…
الخ (فضرب عمر بين ثديي) تثنية يدي بفتح الثاء، هو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، أي في صدري، قال القاري: لابد هنا من تقدير يدل عليه السياق من السباق واللحاق، يعني فقال عمر: ارجع قصداً للمراجعة بناءً على رأيه الموافق للصواب، فأبيت وامتنعت عن حكمه امتثالاً لظاهر أمره – عليه السلام – المقدم على أمر كل آمر، فضرب عمر بيده في صدري، فإنه يبعد كل البعد ضربه ابتداءً من غير باعث – انتهى. (فخررت) بفتح الراء (لأستي) بهمزة وصل، وهو اسم من أسماء الدبر، أي سقطت على مقعدي من شدة ضربه لي، قال النووي: أما دفع عمر – رضي الله عنه – فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، قال القاضي عياض وغيره من العلماء: وليس فعل عمر ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً عليه ورداً لأمره، إذ ليس فيما بعث به أباهريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراًهم، فرأى عمر أن كتم هذا عنهم أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى، فلما عرضه على
فقال: ارجع يا أباهريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر وإذا هو على أثري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أباهريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لإستي فقال: ارجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أباهريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم)) رواه مسلم.
40-
(39) وعن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم صوبه فيه - انتهى. (فأجهشت بالبكاء) من الإجهاش، وروي جهشت - بكسر الهاء وغير همز - وهما صحيحان، وكلاهما بصيغة الفاعل، والجهش كالإجهاش أن يفزع الإنسان إلى إنسان ويلجأ إليه وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد، كما يفزع الصبي إلى أمه (وركبني عمر) أي تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة، قاله النووي، وقال القاري: أي أثقلني عدو عمر من بعيد خوفاً واستشعاراً منه، كما يقال: ركبته الديون أي أثقلته يعني تبعني عمر (على أثري) فيه لغتان فصيحتان مشهورتان: فتحهما وهو الأصح، وكسر الهمزة وسكون الثاء أي عقبي (بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم تقديره أنت مفدى بأبي، وقيل: فعل أي فديتك بأبي، وحذف هذا المقدر تخفيفاً لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب به (بشره بالجنة) بصيغة الماضي أي من لقيه بشره بالجنة (يتكل الناس عليها) أي على هذه البشارة الإجمالية (فخلهم) أي اتركهم بغير البشارة (يعملون) حال، فإن العوام إذا بشروا يتركون الاجتهاد في العمل بخلاف الخواص فإنهم إذا بشروا يزيدون في العمل (رواه مسلم) كان المناسب لدأبه أن يقول: روى الأحاديث الأربعة مسلم.
40-
قوله: (مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله) أي وأن محمداً رسول الله، قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعاً - انتهى. قال الطيبي: مفاتيح الجنة مبتدأ، وشهادة خبره، وليس بينهما مطابقة من حيث الجمع والإفراد، فهو من قبيل قول الشاعر: ومعي جياعاً. جعل الناقة الضامرة من الجوع كأن كل جزء من معاها معي واحد من شدة الجوع، وكذا جعلت الشهادة المستتبعة للأعمال الصالحة التي هي كأسنان المفاتيح كل جزء منها منْزلة مفتاح واحد - انتهى. قال القاري: والأظهر أن المراد بالشهادة الجنس، فشهادة كل أحد مفتاح لدخوله الجنة إما ابتداءً أو انتهاءً، والأعمال إنما هي لرفع الدرجات، أو لأن الشهادة لما كانت مفتاح أبواب
رواه أحمد.
41-
(40) وعن عثمان رضي الله عنه قال: إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس، قال عثمان: وكنت منهم، فبينا أنا جالس مر علي عمر وسلم، فلم أشعر به فاشتكى عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما ثم أقبلا حتى سلما عليّ جميعاً، فقال أبوبكر: ما حملك أن لا ترد على أخيك عمر سلامه؟ قلت: ما فعلت، فقال عمر: بلى والله لقد فعلت، قال: قلت: والله ما شعرت أنك مررت ولا سلمت، قال أبوبكر: صدق عثمان، قد شغلك عن ذلك أمر، فقلت أجل، قال: ما هو؟ قلت: توفى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن نسأله
ــ
الجنة فكأنها مفاتيح - انتهى. وفيه استعارة لأن الكفر لما منع من دخول الجنة شبه بالغلق المانع، ولما كان الإسلام سبب دخولها شبه بالمفاتيح بجامع أن كلاً سبب للدخول ثم حذف أداة التشبيه وقلب زيادة في تحقيق معنى المشبه والمبالغة فيه (رواه أحمد) (ج5: ص242) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ، ورواية شهر عن معاذ مرسلة، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة، وهذا منها، قال الهيثمي: وأخرجه البزار أيضاً، وفيه من الكلام ما في رواية أحمد.
41-
قوله: (حين توفي) بضم التاء والواو ماضٍ مجهول (حزنوا) بكسر الزاي (عليه) أي على موته وفقدان حضرته (يوسوس) قال القاري: أي يقع في الوسوسة بأن يقع في نفسه انقضاء هذا الدين وانطفاء نور الشريعة بموته عليه الصلاة والسلام، وخطور هذا بالنفوس الكاملة مهلك لها حتى يتغير حاله ويختلط كلامه ويدهش في أمره ويختل عقله ويجيء أحوال بقيتهم في آخر الكتاب من أن بعضهم أقعد وأسكت وبعضهم أنكر موته عليه الصلاة والسلام وأظهر الله فضل الصديق بثبات قدم صدقه - انتهى. قال الطيبي: الوسوسة حديث النفس وهو لازم، يقال: وسوس الرجل إذا أصيب في عقله وتكلم بغير نظام، ووسوس الرجل أي أصابته الوساوس فهو موسوس، ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس جمعه وساوس (وكنت منهم) أي من البعض الذي كاد أن يوسوس من شدة الحزن (فلم أشعر به) أي بمروره وسلامه لشدة ما أصابني من الذهول لذلك الهول، فعند أحمد في مسنده: فلم أشعر أنه مر ولا سلم (والله ما شعرت) بفتح العين ويضم أي ما علمت ولا فطنت (فقال أبوبكر) أي لعمر (صدق عثمان) في اعتذاره بعدم شعوره، وقال لي على وجه الالتفات (قد شغلك عن ذلك أمر) أي ألهاك عن الشعور أمر عظيم (توفى الله تعالى نبيه)
عن نجاة هذا الأمر ، قال أبوبكر: قد سألته عن ذلك، فقمت إليه وقلت له: بأبي أنت وأمي أنت أحق بها، قال أبوبكر: قلت يا رسول الله ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمي فردها فهي له نجاة،
ــ
أي قبض روحه (عن نجاة هذا الأمر) بفتح النون مصدر بمعنى الخلاص. قال الطيبي: يجوز أن يراد بالأمر ما عليه المؤمنون من الدين، أي نسأله عما نتخلص به من النار، وهو مختص بهذا الدين، وأن يراد ما عليه الناس من غرور الشيطان وحب الدنيا والتهالك فيها والركون إلى شهواتها وركوب المعاصي وتبعاتها، أي نسأله عن نجاة هذا الأمر الهائل - انتهى. كلام الطيبي. وتعقبه الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات بما محصله: أن في الوجه الأول نظراً فإن عثمان قد روى هو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فكيف يقول: إنه توفي صلى الله عليه وسلم قبل أن نسأله عما نتخلص به من النار في الدين؟ ومن البعيد كل البعد أن يخفى على عثمان هذا العلم الذي هو من أول فرائض دين الإسلام، اللهم إلا أن يقال: إنه نسيه من شدة الحزن وذهل عنه من عظم المصيبة، والظاهر بل الصواب أنه أراد بقوله من نجاة هذا الأمر: النجاة من وسوسة الشيطان وحديثه كما يشير إليه سياق الحديث وسباقه، ورواية محمد بن جبير في هذه القصة صريحة في ذلك، وقد أخرج أبويعلى في مسنده عن محمد بن جبير أن عمر مر على عثمان وهو جالس في المسجد، فسلم عليه فلم يرد عليه، فدخل على أبي بكر فاشتكى ذلك إليه فقال: مررت على عثمان فسلمت عليه فلم يرد عليّ، فقال: أين هو؟ قال: هو في المسجد قاعد، فانطلقا إليه فقال له أبوبكر رضي الله عنه: ما منعك أن ترد على أخيك حين سلم عليك؟ قال: والله ما شعرت أنه مر بي وأنا أحدث نفسي ولم أشعر أنه سلم، فقال أبوبكر: فماذا تحدث نفسك؟ قال: خلا بي الشيطان فجعل يلقي في نفسي أشياء ما أحب أني تكلمت بها وأن لي ما على الأرض، قلت في نفسي حين ألقى الشيطان ذلك في نفسي: يا ليتني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا، فقال أبوبكر: فإني والله لقد اشتكيت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينجيكم من ذلك أن تقولوا مثل الذي أمرت به عمي عند الموت فلم يفعل)) ، قال البوصيري في الزوائد العشرة: سنده حسن كذا في جمع الجوامع للسيوطي - انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص8) بعد ذكره: رواه أبويعلى، وعند أحمد طرف منه وفي إسناده أبوالحويرث عبد الرحمن بن معاوية، وثقه ابن حبان والأكثر على تضعيفه - انتهى. (أنت أحق بها) أي بالمسألة والسبق بها والبحث عنها فإنك إلى كل خير أسبق (من قبل مني) أي بطوع ورغبة من غير نفاق وريبة (على عمي) أبي طالب (فهي) أي فهذه الكلمة وهي كلمة الشهادة (له نجاة) إما في بداية أو نهاية. قال الطيبي: كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: النجاة في الكلمة التي عرضتها على مثل أبي طالب، وهو الذي عاش في الكفر سنين ونيف على السبعين، ولم يصدر عنه
رواه أحمد.
42-
(41) وعن المقداد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز وذل ذليل،
ــ
كلمة التوحيد، ولو قالها مرة كان لي حجة عند الله باستخلاصه ونجاة له من عذابه وعقابه، فكيف بالمؤمن المسلم وهي مخلوطة بلحمه ودمه، فلو صرح - صلوات الله عليه - بها في كلامه لم يفخم هذا التفخيم، وهذا الحديث رواه الصحابي عن الصحابي يعني عثمان عن أبي بكر (رواه أحمد) (ج1: ص6) عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة أنه سمع عثمان بن عفان يحدث: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وعن يعقوب عن أبيه عن صالح عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار غير متهم أنه سمع عثمان بن عفان
…
الحديث، وفيه رجل لم يسم كما ترى، وقول الزهري "رجل من أهل الثقة وغير متهم" تعديل على الإبهام، وفيه اختلاف، وعند الجمهور لا يقبل حتى يسمي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد بعد ذكر الحديث من مسند أحمد بسنده الأول: رواه أحمد والطبراني في الأوسط باختصار وأبويعلى بتمامه والبزار نحوه، وفيه رجل لم يسم، ولكن الزهري وثقه وأبهمه - انتهى.
42-
قوله: (وعن المقداد) بكسر الميم، هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة البهراني الكندي حلفاً، أبوالأسود أو أبوعمرو، المعروف بالمقداد بن الأسود نسبة إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف الزهري؛ لأنه كان تبناه وحالفه في الجاهلية، فقيل: المقداد بن الأسود، كان من الفضلاء النجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان سادساً في الإسلام وهاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها، وكان فارساً يوم بدر حتى إنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرني الله بحب أربعة
…
فذكر منهم المقداد، ومناقبه كثيرة، شهد فتح مصر، ومات في أرضه بالجرف على ثلاثة أميال من المدينة فحمل إليها ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان سنة (33) وهو ابن (70) سنة، له اثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بثلاثة، روى عنه جماعة (لا يبقى على ظهر الأرض) أي على وجهها من جزيرة العرب وما قرب منها، وقيل: هو محمول على العموم (بيت مدر ولا وبر) أي المدن والقرى والبوادي، وهو من وبر الإبل أي شعرها لأنهم كانوا يتخذون منه ومن نحوه خيامهم غالباً، والمدر جمع مدرة وهي قطعة الطين اليابس واللبنة والطين العلك أي اللزج الذي لا يخالطه رمل (كلمة الإسلام) هي مفعول أدخل، والضمير المنصوب فيه ظرف وقوله (بعز عزيز) حال أي أدخل الله تعالى كلمة الإسلام في البيت متلبسة بعز شخص عزيز، أي يعزه الله بها حيث قبلها من غير سبي وقتال (وذل) بضم الذال (ذليل) أي أو يذله الله بها حيث أباها بذل سبي أو قتال حتى ينقادون لها طوعاً أو كرهاً، أو يذعن لها ببذل الجزية، والحديث مقتبس من قوله تعالى:{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [61: 9] ، ثم فسر العز والذل بقوله إما يعزهم
إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها، قلت: فيكون الدين كله لله)) رواه أحمد.
43-
(42) وعن وهب بن منبه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن
ــ
الله أو يذلهم (فيدينون لها) بفتح الياء أي فيطيعون وينقادون لها، من دان الناس أي ذلوا وأطاعوا (قلت) القائل المقداد، والظاهر أنه قال في غير حضرته صلى الله عليه وسلم بل عند روايته (فيكون الدين كله لله)، قال الطيبي: أي إذا كان الأمر كذلك فتكون الغلبة لدين الله طوعاً أو كرهاً - انتهى. وقيل: في آخر الزمان، أي حين ينْزل عيسى عليه السلام من السماء ويقتل الدجال، لا يبقى على وجه الأرض محل الكفر، بل جميع الخلائق يصيرون مسلمين إما بالطوع والرغبة ظاهراً وباطناً، وإما بالإكراه والجبر، وإذا كان كذلك فيكون الدين كله لله، يشير إليه ما رواه مسلم عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله عزوجل: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
…
} الآية، أن ذلك تام. قال: إن سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث ريحاً طيبة فيتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)) ، ويدل له حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم:((وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)) (رواه أحمد)(ج6: ص103) بسند صحيح، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج4: ص430، 431) ، والطبراني في الكبير والبيهقي، وأخرج أحمد (ج4: ص103) ، والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي عن تميم الداري مرفوعاً:((ليبغلن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)) ، وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية.
43-
قوله: (وعن وهب بن منبه) بضم الميم وفتح النون وتشديد الباء الموحدة وكسرها، هو وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني أبوعبد الله الأنباري، من ثقات أوساط التابعين، قال مسلم بن خالد: لبث وهب أربعين سنة لم يرقد على فراشه، له في البخاري حديث واحد، رواه في كتاب العلم، مات سنة (114) ، وقيل غير ذلك، وقيل: إن يوسف بن عمر ضربه حتى مات. (قيل له: أليس) كأن القائل أشار إلى ما ذكر ابن إسحاق في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل العلاء بن الحضرمي قال له: ((إذا سئلت عن مفتاح الجنة فقل: مفتاحها لا إله إلا الله)) ، وروي عن معاذ بن جبل نحوه، أخرجه البيهقي في الشعب وزاد:"لكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"، وهذه الزيادة نظير ما أجاب به وهب، قال الحافظ: فيحتمل أن تكون مدرجة في حديث معاذ. (لا إله إلا الله) في محل الرفع على أنه اسم ليس، وخبره (مفتاح الجنة) ، وقيل بالعكس، وقدم لشرفه (قال: بلى، ولكن) أي أقول بموجب ذلك، وإنها مفتاحها كما تقدم في الحديث السابق، ولكن لا يغتر أحد بذلك ويظن أنه بمجرد تلفظه بتلك الكلمة
ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك)) ، رواه البخاري في ترجمة باب.
44-
(43) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه
ــ
التي هي المفتاح يفتح له الجنة حتى يدخلها مع الناجين وإن لم يعمل عملهم؛ لأنه وإن أتى بالمفتاح غير نافع له؛ لأنه (ليس مفتاح إلا وله أسنان) أي عادة هي الفاتحة (فإن جئت بمفتاح له أسنان) المراد بالأسنان: الأعمال الصالحة المنجية المتضمنة لترك الأعمال السيئة، وشبهها بأسنان المفتاح من حيث الاستعانة بها في فتح المغلقات وتيسير المستصعبات (فتح لك) أي أولاً (وإلا) بأن جئت بمفتاح لا أسنان له (لم يفتح لك) أي فتحاً تاماً أو في أول الأمر، وهذا بالنسبة إلى الغالب، وإلا فالحق أن أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى، ولا بد من هذا التأويل ليستقيم على مذهب أهل السنة، وقيل: معنى قول وهب "إن جئت بمفتاح له أسنان" جياد، فهو من باب حذف النعت إذا دل عليه السياق؛ لأن مسمى المفتاح لا يعقل إلا بالأسنان وإلا فهو عود أو حديدة، هذا، وفي ذكر المصنف قول ابن وهب إشارة إلى أنه اختار في معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنة وحرمة النار على مجرد الشهادتين قول من قال من العلماء: إن كلمة الشهادتين سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار، لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي اجتناب الكبائر، قال الحسن للفرزدق: إن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة، وروي عنه أنه قال: هذا العمود فأين الطنب؟ يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وقيل للحسن: إن ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (رواه البخاري في ترجمة باب) من عادته أن يذكر بعد الباب حديثاً معلقاً مرفوعاً أو موقوفاً على صحابي أو تابعي بغير إسناد، فيه بيان ما يشتمل عليه أحاديث الباب ويضيف إليه الباب، وأثر وهب هذا ذكره البخاري في أول كتاب الجنائز تعليقاً، ووصله في التاريخ الكبير، وأبونعيم في الحلية، وقول المصنف "رواه البخاري" سهو منه، فإنه لم يروه البخاري في صحيحه، لا في ترجمة باب ولا في غيرها، بل ذكره معلقاً، ولا يقال في مثل هذا "رواه" بل يقال:"ذكره".
44-
قوله: (إذا أحسن أحدكم إسلامه) أي أجاد وأخلص، كقوله تعالى:{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن} [2: 113] قاله الطيبي، ووقع في مسند إسحاق بن راهويه:((إذا حسن إسلام أحدكم)) ، وكأنه رواه بالمعنى؛ لأنه من لازمه، والمعنى: صار إسلامه حسناً باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل، وقد تقدم، والخطاب للحاضرين، والحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق؛ لأن حكمه صلى الله عليه وسلم على الواحد حكم على الجماعة، ويدخل فيه النساء والعبيد لكن النِزاع فيه كيفية
فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى لقي الله)) متفق عليه.
45-
(44) وعن أبي أمامة أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال: ((إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن.
ــ
التناول أهي حقيقة عرفية أو شرعية أو مجاز. (فكل حسنة يعملها) مبتدأ خبره (تكتب له بعشر أمثالها) فضلاً من الله ورحمة، حال كونها منتهية (إلى سبع مائة ضعف) بكسر الضاد أي مثل، قال الأزهري: والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على المثلين بل جائز في كلام العرب أن تقول: هذا ضعفه، أي مثلاًه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فأولئك لهم جزاء الضعف بما علموا} [34: 37] لم يرد مثلاً ولا مثلين ولكن أراد بالضعف الأضعاف، فأقل الضعف محصور وهو المثل، وأكثره غير محصور. قال الطيبي:"إلى" لانتهاء الغاية، فيكون ما بين العشرة إلى سبع مائة درجات، بحسب الأعمال والأشخاص والأحوال - انتهى. وقد أخذ بعضهم فيما حكاه الماوردي بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبع مائة، ورد بقوله تعالى:{والله يضاعف لمن يشاء} [2: 261]، قال الحافظ: والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبع مائة، وهو الذي قاله البيضاوي، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس عند المصنف أي البخاري في الرقاق، ولفظه:((كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)) - انتهى. فالمراد بسبع مائة: الكثرة (تكتب بمثلها) من غير زيادة، والباء للمقابلة، قال القاري: أي كمية فضلاً منه تعالى ورحمة، وإن كانت السيئات تتفاوت كيفية باختلاف الزمان والمكان وأشخاص الإنسان ومراتب العصيان (حتى لقي الله) إي إلى أن يلقى الله يوم القيامة فيجازيه أو يعفو عنه، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري:((والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)) . والعدول إلى الماضي لتحقق وقوعه، كقول تعالى:{أتى أمر الله} [16: 1] ، ولا يبعد تعلق "حتى" بالجملتين، وإرادة اللقي بمعنى الموت، قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد بلفظ: ((إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر عنه كل سيئة زلفها
…
)) الخ، والحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان؛ لأن الحسن تتفاوت درجاته - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي.
45-
قوله: (ما الإيمان) أي علامته (قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك) أي أحزنك ذنبك، قال الطيبي: يعني إذا صدرت منك طاعة وفرحت بها مستيقناً أنك تثاب عليها، إذا أصابتك معصية حزنت عليها، فذلك علامة الإيمان بالله واليوم والآخر (فأنت مؤمن) أي كامل الإيمان. قال المناوي: لفرحك بما يرضى الله وحزنك بما يغضبه، وفي
قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قال: إذا حاك في نفسك شيء فدعه)) رواه أحمد.
46-
(45) وعن عمرو بن عبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر
ــ
الحزن عليها إشعار بالندم الذي هو أعظم أركان التوبة (فما الإثم) أي ما علامته إذا لم يكن نص صريح أو نقل صحيح واشتبه أمره والتبس حكمه (إذا حاك في نفسك شيء) أي تردد ولم يطمئن به قلبك وأثر فيه تأثيراً يديم تنفيراً (فدعه) أي اتركه، وهو كقوله:((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، وهذا بالنسبة إلى أرباب البواطن الصافية والقلوب الزاكية لا العوام الذين قلوبهم مظلمة بالمعاصي، فإنهم ربما يحسبون الإثم براً والبر إثماً (رواه أحمد) (ج5: ص251، 252، 256) ، وفي سنده يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس، وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أن فيه يحيى بن أبي كثير، وهو مدلس وإن كان من رجال الصحيح - انتهى. وأخرجه أيضاً ابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة كذا في الجامع الصغير، وأخرج أحمد والبزار والطبراني في الكبير عن أبي موسى نحوه.
46-
قوله: (عن عمرو بن عبسة) بعين مهملة وموحدة وسين مهملة مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، كنيته أبونجيح، كان أخاً أبي ذر لأمه، أسلم قديماً بمكة، قال ابن سعد: يقولون: إنه رابع أو خامس في الإسلام، ثم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها، قال أبونعيم: كان قبل أن يسلم يعتزل عبادة الأصنام ويراها باطلاً وضلالاً، وكان يرعى فتظله غمامة، روى عنه ابن مسعود مع تقدمه وأبوأمامة الباهلي وسهل بن سعد، له ثمانية وأربعون حديثاً، انفرد له مسلم بحديث يأتي في باب أوقات النهي، قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص6) وتهذيب التهذيب (ج8: ص69) : كانت وفاته في أواخر خلافة عثمان، فإني ما وجدت له ذكراً في الفتنة ولا في خلافة معاوية. (من معك على هذا الأمر) أي من يوافقك على ما أنت عليه من أمر الدين (قال: حر وعبد) قال القاري: أي كل حر وعبد، يعني مأمور بالموافقة، وقيل: أبوبكر وزيد، وقيل: أبوبكر وبلال، ويؤيده ما في إحدى روايات مسلم: ومعه يومئذٍ أبوبكر وبلال، ولعل علياً لم يذكر لصغره، وكذا خديجة لسترها وعدم ظهورها - انتهى. قلت: وكذا وقع في رواية لعمرو بن عبسة عند أحمد: ومعه أبوبكر وبلال، وفي أخرى عنده: من تابعك على أمرك هذا؟ قال: حر وعبد، يعني أبابكر وبلالاً (ما الإسلام) أي علامته أو شعبه أو كماله (طيب الكلام وإطعام الطعام) ذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها، وفيهما إشارة إلى الحث على مكارم الأخلاق وبذل الإحسان ولو بحلاوة اللسان. (ما الإيمان) أي ثمرته ونتيجته، أو خصاله وشعبه (قال) محصل خصال الإيمان أو ثمرة الإيمان (الصبر) أي على
والسماحة. قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك. قال: قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه. قال: قلت: أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر)) .
ــ
الطاعة وعن المعصية وفي المعصية (والسماحة) أي السخاوة بالزهد في الدنيا والإحسان والكرم للفقراء، وقال الطيبي: فسر الإيمان بالصبر والسماحة لأن الأول يدل على ترك المنهيات، والثاني يدل على فعل المأمورات، كما فسره الحسن البصري بقوله: الصبر عن معصية الله، والسماحة على أداء فرائض الله، ثم جمع هاتين الخصلتين بالخلق الحسن، بناءً على ما قالت الصديقة:((كان خلقه القرآن)) ، أي يأتمر بما أمره الله، وينتهي عما نهى الله عنه، ويجوز أن يحملا على الإطلاق، ويكون قوله ((خلق حسن)) بعد ذكرهما كالتفسير له؛ لأن الصبر على أذى الناس والسماحة بالموجود يجمعهما الخلق الحسن - انتهى. (أي الإسلام أفضل) أي أيّ ذوي الإسلام وأهله أكثر ثواباً (أي الإيمان) أي أخلاقه أو خصاله أو شعبه (خلق حسن) بضم اللام وتسكن، وهو صفة جامعة للخصال السنية والشمائل البهية، والخلق: ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس بسهولة من غير سبق روية، وتنقسم إلى فضيلة وهي الوسط، ورذيلة وهي الأطراف. (أي الصلاة أفضل) أي أركانها أو كيفياتها (قال: طول القنوت) أي القيام أو القراءة أو الخشوع، والأول أظهر. واختلف العلماء في أن طول القيام أفضل أو كثرة السجود، ويأتي الكلام فيه في الصلاة (أي الهجرة) أي أفرادها (أفضل) فإن الهجرة أنواع، إلى الحبشة عند إيذاء الكفارة للصحابة، ومن مكة إلى المدينة، وفي معناه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهجرة القبائل لتعلم المسائل من النبي صلى الله عليه وسلم، والهجرة عما نهى الله عنه (أن تهجر ما كره ربك) فهذا النوع هو الأفضل؛ لأنه الأعم الأشمل (فأي الجهاد أفضل) أي أنواعه أو أهله، وهو الظاهر (من عقر) بصيغة المجهول (جواده) أي قتل فرسه (وأهريق دمه) بضم الهمزة وسكون الهاء، أي صب وسكب، يقال: أراق يريق، وهراق يهريق، بقلب الهمزة هاء، وأهراق يهريق بزيادتها، كما زيدت السين في استطاع، والهاء في مضارع الأول محركة وفي مضارع الثاني ساكنة، كذا قاله صاحب الفائق. وإنما كان هذا الجهاد أفضل لجمعه بين الإنفاق في سبيل الله، والشهادة في مرضاة الله (جوف الليل الآخر) صفة جوف أي النصف الأخير من الليل، وقيل: المراد به وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت الذي ورد فيه النُزول الإلهي، وفي رواية لأحمد (ج4: ص187) : ((جوف الليل الآخر أجوبه دعوة)) ، وروى الترمذي عن عمرو بن عبسة مرفوعاً: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في
رواه أحمد.
47-
(46) وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً، ويصلي الخمس، ويصوم رمضان، غفر له، قلت: أفلا أبشرهم يا رسول الله؟ قال: دعهم يعملوا)) رواه أحمد.
48-
(47) وعنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: وأن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك،
ــ
جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تلك الساعة فكن. (رواه أحمد) (ج4: ص385) ، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وفي إسنادهما شهر بن حوشب، وقد وثق على ضعف فيه، وأخرجه الطبراني في الكبير مختصراً من حديث أبي موسى ورجاله موثوقون.
47-
قوله: (من لقي الله) أي مات (لا يشرك به شيئاً) أي حال كونه غير مشرك (ويصلي الخمس، ويصوم رمضان) ترك ذكر الزكاة والحج لأنهما مختصان بالأغنياء، وخص الصلاة والصوم بالذكر لكونهما أفضل وأشهر وأعم (غفر له) أي غفر الله ذنوبه الصغائر والكبائر التي بينه وبين الله تعالى إن شاء، وأما حقوق العباد فيمكن أن يرضيهم الله تعالى من فضله (يعملوا) مجزوم على جواب الأمر، أي يجتهدوا في زيادة العبادة من السنن والنوافل، ولا يتكلوا على الشهادة والفرائض (رواه أحمد) (ج5: ص232) بسند صحيح.
48-
قوله: (عن أفضل الإيمان) أي عن شعبه ومراتبه وأحواله أو خصال أهله (أن تحب) أي كل ما تحبه (لله) لا لغرض سواه (وتبغض) أي مبغوضك (لله) لا لطبع وهوى (وتعمل) من الإعمال بمعنى الاستعمال والإشغال (لسانك في ذكر الله) بأن لا يزال رطباً به بشرط الحضور. (وماذا يا رسول الله) أي وماذا أصنع بعد ذلك؟ "وماذا" إما منصوب بأصنع، أو مرفوع، أي أيّ شيء أصنعه؟ فعلى الأول مقول قال (وأن تحب) يكون منصوباً، وعلى الثاني مرفوعاً، والواو للعطف على مقدر، والتقدير: أن تستقيم على ما قلنا وأن تحب (للناس) يحتمل التعميم ويحتمل التخصيص بالمؤمنين (ما تحب لنفسك) أي تحب لهم من الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية مثل الذي تحب لنفسك، والمراد أن تحب أن يحصل لهم مثل ما حصل لك لا عينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أنك تحب أن ما عندك ينتقل إليهم، أو أنه بذاته يكون عندهم، إذ الجسم الواحد لا يكون في
رواه أحمد.
ــ
مكانين؛ لأن قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، وهذا في عوام الناس، أما أهل الخصوص فلا يكمل إيمان أحدهم إلا إذا أحب أن يكون كل مسلم فوقه، ولذا قال الفضيل بن عياض لابن عيينة: إنك لا تكون ناصحاً أتم النصح للناس إلا إذا كنت تحب أن كل مسلم يكون فوقك. وقال العلقمى: فإن قيل: ظاهر الحديث طلب المساواة، وكل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره. يجاب بأن المراد الحث على التواضح، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره ليرى عليه مزية. ويستفاد ذلك من قوله تعالى:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} [28: 83] ، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة - انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص247) من طريقين، في أحداًهما رشدين، وفي الأخرى ابن لهيعة، وكلاهما يرويان عن زبان، والثلاثة مضعّفون، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير، وفي سنده أيضاً ابن لهيعة.