الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطبعاً الذي يعنيه الرسول صلى الله عليه وسلم وقاضي المدينة ليس الذي يصل إلى درجة الخمر المسكرة، لأن أي مسكر حرام في الشريعة الإسلامية، كثر أو قل. روي أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها: نجعل التمر في الكوز، فنطبخه نبيذاً، فنشربه، فقالت عائشة:"اشربي ولا تشربي مسكراً"(1)، وقالت عائشة: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب (2) فألقيه في إناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
(1) عبد الرزاق: المصنف (9/208) .
(2)
وورود كلمة زبيب في هذا الأثر يدل على وجود الزبيب في المدينة.
(3)
أبو داود: السنن (2/299) .
47-
ويزعم بودلي بأن محمداً رسول لا نبي
.
ويعلل هذا بقوله: "وكلمة نبي تعني ناصحاً أو هادياً - وإن كان محمد ينعت بها أحياناً - إلا أن رسول الله هي الصفة الصحيحة التي ينعت بها، فهي التي تعني صاحب الرسالة"(4) .
إن هذه الفتوى البودلية لا تستند إلى تفسير صحيح لصفة النبوة. فمعروف أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. ومحمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، فعندما قال البراء بن عازب رضي الله عنه:"ورسولك الذي أرسلت"، رد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم مصححاً، فقال:"ونبيك الذي أرسلت"(5) .
(4) الرسول، ص 75.
(5)
رواه البخاري في صحيحه برقم (247) ، ومسلم برقم (2710) .
قال ابن الأثير كما نقل عنه ابن منظور: (1)"إنما رد عليه ليختلف اللفظان، ويجمع له الثناء بين معنى النبوة والرسالة، ويكون تقديراً للنعمة في الحالين، وتعظيماً للمنة على الوجهين، والرسول أخص من النبي، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً".
والنبوة هي الإخبار عن الله تعالى، وتلك كانت وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام، الذين منهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم هو ما أخبره الله به بواسطة الوحي ليبلغه إلى الناس الذين أرسل إليهم، ليهديهم به إلى الطريق الصحيح الذي يريده الله لهم. فمحمد بهذه الصفة نبي ورسول، وكلتا الصفتين صحيحة، وليس كما يزعم بودلي " أنه رسول لا نبي وأن الصفة الصحيحة هي رسول ". نعم من معاني كلمة النبي " الطريق "(2) ، والأنبياء " طرق الهدى"، فهم يهدون الناس إلى الطرق الصحيحة (3) .
لقد وردت كلمة نبي صفة لمحمد صلى الله عليه وسلم في تسع وثلاثين آية من القرآن (4) . فهل هذا العدد ما يمكن أن نطلق عليه عبارة بودلي: "وإن كان محمد ينعت بها [أي صفة النبوة] أحياناً". وهل يجوز لبشر أن يعقب على كلمات الله؟! (لا تعقيب لكلماته) ، وهل إذا وردت كلمة الرسول صفة لمحمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما وردت كلمة النبي صفة له، يجوز لنا وصف الصفة الأكثر وروداً بأنها
(1) لسان العرب (1/163) ، حرف النون والباء والهمزة.
(2)
المرجع نفسه.
(3)
المرجع نفسه (15/303) ، حرف النون والباء والياء.
(4)
انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، إعداد محمد فؤاد عبد الباقي.
الصفة الصحيحة؟! إضافة إلى هذا وردت صفة النبي لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة وثلاثين مرة في كتب السنة، وفيها التصريح بأنه نبي قبل الرسالة (1) .
(1) انظر: فنسنك: مفتاح كنوز السنة، كلمة النبي، ص 494.
48-
يذكر بودلي (2) أن حسان بن ثابت قال شعراً لاذعاً في حديث الإفك يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها.
إن الذي تذكره المصادر أن حساناً كان ممن خاض في حديث الإفك الذي يلوكه المنافقون (3) ، والراجح أنه كان ممن جلد حد القذف (4) . ولم نقف على شعره اللاذع الذي يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى عائشة رضي الله عنها. فالذي تذكره المصادر هو شعره الذي رواه ابن إسحاق (5) ، وقال إنه كان يعرض فيه بصفوان بن المعطل وبمن أسلم من العرب المضريين، ونصه:
أمسى الجلابيبُ (6) قد عَزُّوا وقد كَثُروا
…
وابنُ الفُرَيْعَةِ (7) أمسى بيضةَ (8) البَلَدِ
قد ثُكِلَتْ (9) أُمُّه مَنْ كنتُ صاحبَه
…
أو كان منتشباً في بُرْثُنِ (10) الأَسَدِ
(2) الرسول، ص 199.
(3)
البخاري (فتح الباري 8/ 345-346)(رقم 4757)، وفيه أنه خاض فيه؛ الترمذي (3181) ؛ عبد الرزاق: المصنف (5/19) ؛ أحمد (6/35) ، بإسناد ابن إسحاق؛ ابن هشام (3/418) ، من حديث ابن إسحاق الذي رواه عنه أصحاب السنن، ولم يصرح فيه بالسماع، ولكن يكفي صحة رواية البخاري لمتنه.
(4)
انظر المصادر نفسها، وابن حجر: الفتح (18/78) .
(5)
ابن هشام (3/421ـ422) ، بدون إسناد.
(6)
الجلابيب: الغرباء.
(7)
ابن الفريعة: يعني نفسه، والفريعة أمه.
(8)
بيضة البلد: تعني العظيم في قومه أو الذليل الذي ليس معه أحد.
(9)
ثكلت: فقدت.
(10)
البرثن: جمعه براثن، بمنزلة الأصابع للناس، وقيل بمنزلة الأظافر.
ما لقتيلي الذي أغدو فآخُذُه
…
مِنْ دية فيه يُعْطَاها ولا قَوَدِ (1)
ما البحرُ حين تَهُبُّ الريحُ شاميةً
…
فَيَغْطئِلُّ (2) ويَرْمي العِبْر (3) بالزبِد
يوماً بأغلبَ مني حين تُبْصِرُني
…
مِلْغَيْظَ أَفْري (4) كفَرْي العارض (5) البِرِد (6)
أمَّا قريْشٌ فإني لن أسالمهم
…
حتى يُنيبوا (7) من الغيَّاتِ (8) للرشَد
ويَتْرُكوا اللاتَ والعُزَّى بِمَعْزِلةٍ
…
ويسجدوا كلُّهم للواحد الصَّمَد
ويشهدوا أنَّ ما قالَ الرسولُ لهم
…
حقٌّ ويُوفوا بعهد الله والوُكَدِ (9)
قال ابن إسحاق (10) : "فاعترضه صفوان بن المعطل، فضربه بالسيف، ثم قال: كما حدثني يعقوب بن عتبة:
تَلَقَّ ذُبابَ السيف عني فإنني
…
غلامٌ إذا هوجيت لست بشاعر
وقال ابن إسحاق (11) : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن
(1) القود: قتل النفس بالنفس.
(2)
يَغْطَئِلُّ: يموج ويتحرك.
(3)
العبر: جانب البحر.
(4)
ملغيظ أفري: أقطع من الغيظ.
(5)
العارض: السحاب.
(6)
البرد: الذي فيه برد.
(7)
ينيبوا: يرجعوا.
(8)
الغيات: جمع غي، وهو خلاف الرشد.
(9)
الوكد: توكيد العهد.
(10)
ابن هشام (3/422) ، بإسناد منقطع.
(11)
المصدر نفسه (3/422- 423) ، بإسناد منقطع، ورواه من هذا الطريق الطبري في التاريخ (2/618-619) ، والبيهقي في الدلائل (4/74-75) ، ولكن وصله موسى بن عقبة في مغازيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وسنده صحيح، كما قال ابن حجر في "تعجيل المنفعة"، ص128، وأورده الهيثمي في المجمع (9/234-236)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
ثابت بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل، حين ضرب حساناً، فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى قومه دار بني الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال له: ما هذا؟ قال: أما أُعَجِّبُك ضرب حسان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله، قال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله، قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: يا رسول الله: آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربتُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: أحسِنْ يا حسان، أَتَشَوَّهْت (1) على قومي، أن هداهم الله للإسلام، ثم قال:"أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله".
وقال ابن إسحاق (2) : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حساناً عوضاً عن تلك الضربة بيرحاء، وهي قصر بني حُديلة. اليوم بالمدينة، وكانت مالاً لأبي طلحة ابن سهل، تصدق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأعطاه سيرين، أمة قبطية، أخت مارية رضي الله عنها، فولدت له عبد الرحمن.
إن المتأمِّلَ لشعر حسانَ الذي ذكرناه وخبر المصالحة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بين حسان وصفوان، ومنح الرسول صلى الله عليه وسلم سيرين وبيرحاء لحسان، يدل على أن حساناً لم يقل شعراً لاذعاً في حديث الإفك يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة
(1) أتشوهت: أقبحت ذلك من فعلهم حين سميتهم بالجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله ورسوله؟
(2)
ابن هشام (3/423-424) ، وإسناده منقطع.
رضي الله عنها، وإنما خاض مع من خاض بالكلام العادي في أمر الإفك بما يفيد تصديقه لافتراء المنافقين، وقد تاب مع من تاب من المؤمنين الذين غرر بهم المنافقون، ولذا كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها بعد الإفك موقفاً متسامحاً، وهو موقف لا يريده بودلي ومشايخه، بل هناك من العلماء من قال بعدم خوض حسان في حديث الإفك بما يسيء إلى عائشة رضي الله عنها (1)، واستدلوا ببيته الشعري:
فإن كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتمُ
…
فلا رَفَعَتْ سوطي إليَّ أناملي
ويبدو لنا أن سبب ضرب صفوان لحسان بالسيف هو تعريضه به في غير هذه الأبيات، وحفز صفوان لهذا الفعل أمر آخر هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بلغه قول حسان:"أمسى الجلابيب"، قال: من لي بأصحاب البساط؟ يعني حساناً وأصحاباً له كانوا يجلسون على بساط لحسان في أجمة فارع (2) . فقال حسان يوماً وهو جالس مع أصحابه يرى كثرة مَنْ يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب يُسْلمون؛ فقال صفوان بن المعطل: أنا لك يا رسول الله منهم، فخرج إليهم واخترط سيفه، فلما رأوه مقبلاً عرفوا في وجهه الشر، ففروا وتبددوا. وأدرك حساناً داخلاً بيته، فضربه.." (3) القصة.
(1) انظر: ابن حجر، الفتح (18/87/90) شرح الحديث رقم 4750، ونسب إنكار وقوع الحدّ بالذين قذفوا عائشة إلى الماوردي، ولم يوافق ابن حجر الماوردي فيما ذهب إليه.
(2)
أجمة فارع: الشجر الكثير الملتف العالي.
(3)
نور الدين علي بن محمد السمهودي: الوفا بأخبار دار المصطفى، ط4، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404هـ/1984م (3/962ـ963) ، من رواية عقبة عن العطاف بن خالد.
والسؤال هنا: لماذا يشير بودلي إلى الشعر اللاذع الذي قاله حسان في حديث الإفك كما يزعم، ولم يشر إلى الشعر الذي يبرئ عائشة رضي الله عنها مما نسب إليها من الإفك؟
لقد غرر المنافقون بحسان وحمنة ومسطح رضي الله عنهم: الثلاثة الذين أقيم عليهم حد القذف، فقالوا ما قالوا، ولكنهم أيقنوا بخطئهم عندما نزل القرآن مبينا الحقيقة في أمر الإفك، وتابوا، وقال حسان شعراً يدل على توبته واعتذاره عن خطئه. ومما رواه ابن هشام (1) عنه في حق عائشة رضي الله عنها:
حَصَانٌ (2) رزانٌ (3) ما تُزَنُّ (4) بريبة
…
وتصبح غَرْثى (5) من لحوم الغوافل (6)
عقيلة (7) حيٍّ من لؤي بن غالب
…
كرام المساعي (8) مجدهُم غيرُ زائل
مهذبة (9) قد طيَّب الله خيمها (10)
…
وطَهَّرها من كل سوء وباطل
(1) السيرة النبوية (3/424ـ425) ، بدون إسناد.
(2)
حصان: عفيفة.
(3)
رزان: عاقلة أو رزينة أو ملازمة لموضعها لا تنصرف عنه كثيراً.
(4)
تزن: ترمى وتتهم.
(5)
غرثى: جائعة.
(6)
الغوافل: جمع غافلة، وهي الغافلة عن الإثم.
(7)
عقيلة: كريمة.
(8)
المساعي: جمع مسعاة، وهي ما يسعى فيه من طلب المجد والمكارم.
(9)
مهذبة: صافية مخلصة.
(10)
الخيم: الطبيعة.
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم
…
فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي (11)
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
…
لآل رسول الله زَيْنِ المحافل
له رُتبٌ (1) عالٍ على الناس كَلّهم
…
تقاصرُ عنه سورة (2) المتطاول
فإن الذي قد قيل ليس بلائط (3)
…
ولكنه قول امرئ بي ماحل (4)
والبيت الأول "حصان.. " من رواية البخاري (5) ، وللعلماء تفصيل حول رواية الأبيات الشعرية المذكورة (6) . وأوردوا أبياتاً أخرى بهذا الشأن من رواية الحاكم من غير طريق ابن إسحاق، وهي:
حليلةُ خيرِ الخلقِ ديناً ومنصباً
…
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
رأيتُك وليغفر لك الله حرةً
…
من المحصنات غير ذات الغوائل (7)
وعندما وصل حسان إلى أرذل العمر وذهب بصره، كان يدخل على عائشة رضي الله عنها، بإذنها، وتكره من يسبه عندها، وتعتذر له بأنه كان ينافح عن رسول الله وآل بيته، وتذكر الناس بقول حسان:
فإن أبي ووالدتي وعِرْضي
…
لعِرْض محمد منكم وقاء (8)
(1) رتب: من رواه بضم الراء فهو جمع رتبة وهي المنزلة، ومن رواه بفتح الراء فهو الموضع المشرف من الأرض، فاستعاره هنا للشرف والمجد.
(2)
السورة: بفتح السين: الوثبة، وبضمها: المنزلة.
(3)
بلائط: بلاصق.
(4)
الماحل: النمام.
(5)
مع الفتح (18/95/شرح الحديث رقم 4756) .
(6)
انظر ابن حجر: الفتح (18/95/شرح الحديث رقم 4756) .
(7)
ابن حجر: الفتح (18/95ـ96) .
(8)
البخاري / الفتح (16/4/رقم 4141)، ابن حجر: الفتح (18/95ـ96) .