الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به المستشرقون والمتفيهقون، وهو من رواية ابن أبي شيبة وغيره، ولفظه:"ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ"، وهو أثر موضوع كما حققه الشيخ الألباني (1) .
واستدل بعض العلماء بعبارات وردت في بعض أحداث السيرة النبوية، فسروها على غير حقيقتها، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف الكتابة والقراءة في أواخر سني عمره. ولما لم يُثر بودلي هذه المسألة، فقد آثرنا عدم الخوض فيها. ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الكتابات التي ردت عليهم، من ذلك كتاب الأستاذ علي شواخ إسحاق:"ماذا حول أمية الرسول صلى الله عليه وسلم" وكتاب الدكتور قحطان عبد الرحمن بن علي: "الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر".
أما الأدلة النقلية والعقلية التي تدحض مزاعم بودلي ومن دار في فلكه المتعلقة ببشرية القرآن الكريم فقد ذكرناها في بحثنا الآخر الموسوم بـ" افتراءات المستشرق هنري لامنس على السيرة النبوية".
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، (1/518) رقم 343، طبعة مكتبة المعارف - الرياض 1412?.
2-
الزعم بأن زيد بن حارثة كان نصرانياً وقبيحاً، تأثر به محمد:
يقول بودلي (2) : "وكان زيد بن حارثة نصرانياً، اختطفه قريب لخديجة في غارة على الشام.. وكان زيد شديد السمرة، قبيح الشكل..".
(2) الرسول - حياة محمد، ص 50، ولفظه ص 59:" فلما رأى زيد في مبادئ محمد نفس السمو الديني الذي في المسيحية، أعلن إيمانه وتصديقه لما جاء به الرجل الذي حرره ".
في هذا النص عدة مزاعم أو أخطاء تابع فيها بودلي غيره من المستشرقين استناداً إلى روايات لا تثبت أمام الحقائق التاريخية المقبولة. فهل كان زيد نصرانياً كما يزعم بودلي؟
لقد تبنى فرضية نصرانية زيد مستشرقون آخرون من قبل ومن بعد بودلي، أشهرهم كايتاني (1) ، شيخ المستشرق الفرنسي المشهور هنري لامنس، الذي تبنى فرضية شيخه، ليزعم أن محمداً تأثر بزيد، أي أخذ عنه مبادئ النصرانية ليضيفها إلى مصادره المكونة لإسلامه (2)، والراجح عندي أن بودلي أخذ هذه الفرضية عن شيخه لامنس في كتابه:"جمهور مكة التجارية"، لأنه من بين مراجعه التي ذكرها.
ولمزيد من الأدلة على دوران فرضية نصرانية زيد في كتابات المستشرقين، اقرأ مادة زيد بن حارثة في دائرة المعارف الإسلامية - النسخة الإنجليزية القديمة (3) - بقلم المستشرق ف. قاكا.
وما يمكننا قوله باختصار شديد هو أنه لم تَرِدْ رواية قوية أو ضعيفة في مصادر تاريخنا الإسلامي الموثوقة تشير من قريب أو بعيد إلى أن زيداً كان نصرانياً (4) . ولا يعدو الأمر كونه فرضية استنتجها المستشرقون من الشواهد
(1) حوليات الإسلام (p Annali)، نقلا عن هنري لامنس: النصارى في مكة قبيل الهجرة، بحث منشور في مجلة المشرق البيروتية التنصيرية، السنة 35 (عام 1937م) ، وهو من أواخر ما كتب، لأنه توفي عام 1937م.
(2)
انظر: د. مهدي رزق الله أحمد: افتراءات المستشرق لامنس على السيرة النبوية.
(3)
ج4/ ص 1194.
(4)
انظر: جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي (ت 597?) : صفة الصفوة، ج1، تحقيق محمود فاخوري، ود. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة، بيروت، ص378.
التي تشير إلى وجود نصارى من قبيلة كلب التي ينتمي إليها والد زيد، ومن قبيلة طيئ التي تنتمي إليها والدة زيد (1) .
وهل اختطف زيداً قريب لخديجة في غارة على الشام؟
المعروف في مصادر التاريخ الإسلامي الموثوقة أن سعدى بنت ثعلبة بن عامر، والدة زيد بن حارثة بن شرحبيل بن عبد العزى بن امرئ القيس، زارت قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على منازل بني معن، رهط سعدى، فاحتملوا زيداً وهو يومئذ غلام يافع، فوافوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له (2) .
وهكذا تظهر لنا منهجية بودلي في التعامل مع حقائق تاريخنا الإسلامي والجهل أو التزييف واضحة في هذه المسألة، مما يغني عن الإطالة.
وهل كان زيد شديد السمرة قبيح الوجه كما يزعم بودلي؟!
تذكر مصادرنا الحديثية والتاريخية المعتمدة أنه لم يكن كما وصفه بودلي. فقد قال أبو داود (3) : وسمعت أحمد بن صالح يقول: كان أسامة بن زيد أسود شديد السواد مثل القار، وكان زيد والده أبيض من القطن. وفي رواية: كان
(1) انظر في هذا: الأب لويس شيخو اليسوعي: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، القسم الأول في تاريخ النصرانية وقبائلها في عهد الجاهلية، طبع مطبعة الآباء المرسلين اليسوعيين في بيروت، 1912م، ص 130ـ151.
(2)
انظر في هذا المصادر الآتية: ابن حجر: الإصابة (1/563/رقم 2890) ؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى (4/40) ؛ ابن عبد البر: الاستيعاب (1/544)، ابن كثير: البداية والنهاية (/448/ التركي) .
(3)
السنن، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (2/280 /ح2268 /كتاب الطلاق / باب: في القافة) .
أسامة أسود وكان زيد أبيض (1) .
وروى البخاري ومسلم (2) ، من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تريْ إلى مُجزَّز نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال:"إن هذه الأقدام بعضها من بعض". وفي رواية: ".. ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل عليَّ فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض"(3) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة، لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لكونه كافًّا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق من طريق ابن سيرين أن أم أسامة، وهي أم أيمن مولاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سوداء، فلهذا جاء أسامة أسود. وقد وقع في الصحيح عن ابن شهاب أن أم أيمن كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن الفيل، فصارت لعبد المطلب، فوهبها
(1) برقم 2267، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/428) .
(2)
البخاري مع الفتح (25/187/رقم 6770/كتاب الفرائض /باب القائف) ، ومسلم (2/1081) رقم (1459) .
(3)
المصدر نفسه (25/188/رقم 6771/ك. الفرائض/ب. القائف) .
لعبد الله، وتزوجت قبل زيد عبيد الحبشي، فولدت له أيمن، فكنيت به.. قال القاضي عياض: لو صح أن أم أيمن كانت سوداء لم ينكروا سواد ابنها أسامة، لأن السوداء قد تلد من الأبيض أسود. قلت - أي ابن حجر -: يحتمل أنها كانت صافية، فجاء أسامة شديد السواد، فوقع الإنكار لذلك (1) .
قلت: فما دام قد ثبت أن أم أيمن كانت من أصل حبشي، فهذا يعني عدم استبعاد أن يكون سواد بشرة أحد أجدادها من جهة الأم أو الأب مثل سواد الحفيد أسامة. وهذا أمر ملاحظ ومعروف جداً في إفريقية، وبخاصة في المناطق التي اختلطت فيها أعراق العرب بأعراق الزنوج أو الحاميين الأفارقة، مثلما في السودان. وهذا من بدهيات علم الوراثة أو الجينات. وبذلك لا حجة لمن يستنكر شدة سواد بشرة أسامة.
إن الذي يهمنا من هذا كله أن زيداً لم يكن شديد السمرة قبيح الوجه كما يزعم بودلي وغيره، بل الذي كان شديد السمرة ابنه أسامة رضي الله عنه، لأن أم أسامة رضي الله عنه كانت حبشية. ويبدو أن بودلي اعتمد على أساتذته المستشرقين الذين اعتمدوا على رواية الواقدي عند ابن سعد (2)، حيث يقول:"وكان زيد رجلاً قصيراً آدم شديد الأدمة، في أنفه فطس". وربما أخذ هؤلاء رواية الواقدي بطريق غير مباشر، وبخاصة من ابن عبد البر (3) .
(1) وعن مسألة سواد أسامة وبياض والده وأمه انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء (2/498) و (2/507) ابن عساكر، التهذيب (2/401) ،.
(2)
الطبقات الكبرى (3/44) .
(3)
انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب (1/57) .
والواقدي لا يحتج به، فهو "متروك مع سعة علمه" كما يقول ابن حجر في التقريب (1) . ومن العيب المنهجي الواضح الاحتجاج بالروايات الضعيفة جداً مع وجود الروايات الصحيحة.
ولو افترضنا جدلاً أن زيداً كان كما وصف بودلي وغيره استناداً إلى رواية الواقدي، فإن في هذا دليلاً من الأدلة الكثيرة على عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحبه هو وابنه أسامة وهما بهذا الشكل. فقد عرف زيد بأنه حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ابنه أسامة.
روى البخاري (2) ومسلم (3) وغيرهما (4) أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أمَّر أسامة على الجيش الذي أمر بتجهيزه في مرض وفاته، طعن بعض الناس في إمارته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل [يعني عندما أمره على سرية مؤتة] ، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده".
وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عمه حمزة، وقدمه في الإمرة على ابن عمه جعفر في سرية مؤتة (5) .
(1) تقريب التهذيب، ص 498.
(2)
البخاري مع الفتح (14/234/ك. مناقب الصحابة/ب. مناقب زيد بن حارثة/3730) ، وانظر أحاديث البخاري الأخرى في هذا المعنى، مثل: 3731، 3732، 3734، 3735، 3737.
(3)
صحيحه (4/1884/ك. فضائل الصحابة /ب. فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضي الله عنهما 2426) .
(4)
انظر في هذا مثلاً: ابن سعد (3/23ـ44) ، من حديث ابن إسحاق، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد "يا زيد أنت مولاي، ومني وإلي وأحب القوم إلي".
(5)
انظر: ابن كثير البداية (6/449) ، والتفسير (6/377ـ379، 419ـ426) .