الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال بعض الناس: ولي سعيد قضاء الكوفة، ومات سنة ثلاث وتلاثمائة.
وهذا لا يصح، فإن سعيدًا ولد قبل موت أبيه، ومات قبل موت أخيه عبد الله بدهر، لأن إبراهيم الحربي عزى عبد الله بأخيه سعيد.
وأما الحسن ومحمد قال ابن الجوزي: فلم نعرف من أخبارهما شيئا.
وأما زينب فكبرت وتزوجت.
وله بنت اسمها فاطمة، إن صح ذلك.
ذكر المحنة
مازال السلمون على قانون السلف، من أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله غير مخلوق، حتى نبغت المعتزلة والجهمية، فقالوا بخلق القرآن، متسترين بذلك في دولة الرشيد.
فروى أحمد بن إبراهيم الدورقي عن محمد بن نوح: أن هارون الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث يقول: القرآن مخلوق، لله على إن أظفرني به لأقتلنه. قال الدورقي: وكان بشر متواريا أيام الرشيد فلما مات ظهر بشر ودعا إلى الضلالة.
قلت: ثم إن المأمون نظر في الكلام، وباحث المعتزلة، وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها، كما سقناه.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: حُمل أبي ومحمد بن نوح مقيدين، فصرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأَحول أبي، فقال: يا أبا عبد الله: إن عرِضتَ على السيف تجيب؟ قال: لا. ثم سيّرا، فسمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة ورحلنا- منها، وذلك في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا، فقال للجمال: على رِسْلِك، ثم
قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتل ههنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى. قال أبي: فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة، يعمل الشعر في البادية، يقال له جابر بن عامر، يُذْكَر بخير.
وروى أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وان عشت عشت حميدًا، فقوي قلبي.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: صرنا إلى أذنة (1)، ورحلنا منها في جوف الليل، ليفتح لنا بابها، فإذا رجل قد دخل، فقال: البشرى! قد مات الرجل، يعني المأمون، قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه.
وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: تبينت الإجابة في دعوتين: دعوت الله أن لا يجمع بينى وبين والمأمون، ودعوته أن لا أرى المتوكل، فلم أر المأمون، مات بالبذندون (2)، وهو نهر الروم، وأحمد محبوس بالرقة، حتى بويع المعتصم بالروم، ورجع فرد أحمد إلى بغداد، وأما المتوكل فإنه لما أحضر أحمد دار الخلافة ليحدث ولده، قعد له المتوكل في خوخة، حتى نظر إلى أحمد ولم يره أحمد.
قال صالح: لما صدر أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس رُدا في أقيادهما، فلما صارا إلى الرقة حملا في سفينة، فلما وصلا إلى عانات توفي محمد،
(1) أذنة، بفتحات: بلد قرب المصيصة، بنيت سنة 141 بأمر صالح بن علي بن عبد الله بن عباس.
(2)
البذندون: بفتح الباء والذال المعجمة وسكون النون بعدها دال مهملة: في ياقوت أنها "قرية بينها وبين طرسوس يوم، من بلاد الثغر، مات بها المأمون فنقل إلى طرسوس". فلعلها سميت باسم نهر بجوارها.
فأطلق عنه قيده، وصلى عليه أبي.
وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ما رأيت أحدًا على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، إنك رجل يقْتَدَى بك، قدَّمَت الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله واثبت لأمر الله، أو نحو هذا، فمات وصليت عليه ودفنته، أظنه قال: بعانة (1).
قال لي صالح: وصار أبي إلي بغداد مقيدًا، فمكث بالياسرية أيامًا، ثم حُبس في دار اكتريت عند دار عمارة، ثم نقل بعد ذلك إلى حتس العامة في درب الموصلية، فقال أبي: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد، فلما كان في رمضان سنة تسع عشرة حِّولْت إلى دار إسحاق بن إبراهيم.
وأما حنبل بن إسحاق فقال: حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد في إصطبل لمحمد بن إبراهيم أخو إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبس ضيق، ومرض في رمضان، فحبس في ذلك الحبس قليلا، ثم حوّل إلى سجن العامة، فمكث في السجن نحوًا من ثلاثين شهرًا، فكنا نأتيه، وقرأ عليَّ كتاب الإرجاء وغيره في الحبس، فرأيته يصلي بأهل الحبس وعليه القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم.
رجعنا إلى ما حكاه صالح بن أحمد عن أبيه لما حُوِّل إلى دار إسحاق ابن إبراهيم: فكان يوجه إلي كل يوم برجلين، أحدهما يقال له أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجام، فلا يزالان يناظراني، حتى إذا أرادا
(1) عانة: سبق قبل أسطر تسميتها (عانات) ففى معجم البلدان: (عانة) بلد مشهور بين الرقة وهيت، يعد في أعمال الجزيرة، وجاء في الشعر عانات، كأنه جمع بما حوله.
الانصراف دُعي بقيد فزيد في قيودي. قال: فصار في رجله أربعة أقياد. قال أبي: فلما كان في اليوم الثالث دخل علي أحد الرجلين فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: علم الله مخلوق، فقلت له: كفرت (1)، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت له: إن هذا قد كفر، فلما كان في الليلة الرابعة وجه، يعني المعتصم، ببُغَا الذي كان يقال له الكبير، إلى إسحاق فأمره بحملي إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضربا بعد ضرب، وأن يقتلك في موضع لا تُرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله عز وجل:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أفيكون مجعولا إلا مخلوقا؟ فقلت: قد قال الله تعالى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} أفخلقهم؟ قال: فسكت، فلما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان أخرجت، وجيء بدابة فَحُملتُ عليها وعليَّ الأقياد، ما معى أحد يمسكني، فكدت غير مرةٍ أن أخرَّ عَلى وجهي لثقل القيود، فجيء بي إلى دار المعتصم، فأُدخلت حجرة وأُدخلت إلى بيت، وأقفل الباب عليّ وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج، فأردت أن أتمسح للصلاة، فمددت يدي، فإذا أنا بإناء فيه ماء وطست موضوع، فتوضأت وصليت، فلما كان من الغد أخرجت تكتى من سراويلي وشددت بها الأقياد أحملها، وعطفت سراويلي، فجاء رسول المعتصم فقال: أجب، فأخذ بيدي وأدخلني عليه والتكة في يدي أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالس وابن أبي دُؤاد حاضر، وقد جمع خلقاً كثيرًا من أصحابه، فقال لي
(1) هنا بهامش الأصل ما نصه: "إنما كفره لأنه إذا كان علم الله مخلوقاً لزم أن يكون في الأزل بغير علم حتى خلقه. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً". وهذا حق بديهي معلوم من الدين بالضرورة.
يعني المعتصم: ادْنُه، ادْنُه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال لي: اجلس فجلست، وقد أثقلتنى الأقياد، فمكثت قليلاً، ثم قلت: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: تكلم، فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله (1)؟ فسكت هنيهةً، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباسٍ يقول: "لما قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الإيمان؟ فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم (2) "، قال: أبي قال، يعني المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك.
ثم قال: يا عبد الرحمن بن إسحاق، ألم آمرك برفع المحنة؟! فقلت: الله أكبر، إن في هذا لفرجًا للمسلمين، ثم قال لهم: ناظروه، وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ قلت له: ما تقول في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} والقرآن أليس هو شيء؟ فقلت: قال الله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فدمرت إلا ما أراد الله؟ فقال بعضهم {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أفيكون محدثٌ إلا مخلوقًا؟ فقلت: قال الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} فالذكر هو القرآن، ويلك! ليس فيها ألف ولام.
وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين أن الله عز وجل خلق الذكر فقلت: هذا خطأ، حدثنا غير واحد "إن الله كتب الذكر". واحتجوا بحديث ابن مسعود "ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يقع على القرآن، فقال بعضهم: حديث حبَّاب "يا هنتاه، تقرب إلى الله بما
(1) انظر لإثبات ألف "ما" مع حرف الجر، ما قلناه في شرح الحديث الآتي في المسند 317.
(2)
سيأتي الحديث في المسند 2020.
استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشئ أحب إليه من كلامه" فقلت هكذا هو.
قال صالح بن أحمد: فجعل أحمد بن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضالّ مبتدع! فيقول: كلموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصم: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به، فيقول ابن أبي دؤاد: أنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسول الله؟ فقلت له: كما تأولت تأويلاتٍ فأنت أعلم، وما تأولت ما يحبس عليه وما يقيد عليه.
وقال حنبل: قال أبو عبد الله: ولقد احتجوا عليّ بشئ ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالتهم، وجعلوا يدعون بقول الخصم وكذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن، بقوله {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} فذمّ إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكر عندكم؟! فقالوا: شبّه يا أمير المؤمنين، شبه يا أمير المؤمنين!
وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي: حدثني بعض أصحابنا أن ابن أبي دؤاد أقبل على أحمد يكلمه، فلم يلتفت إليه، حتى قال المعتصم: يا أحمد، ألا تكلم أبا عبد الله؟ فقال أحمد: لست أعرفه من أهل العلم فأكلمه!.
وقال صالح بن أحمد: وجعل ابن أبي دؤاد يقول: يا أمير المؤمنين، لئن أجابك لهو أحبُّ إلي من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار، فيعدَّ من ذلك ما شاء الله أن يعد، فقال المعتصم: والله لئن أجابني لأطلقنَّ عنه بيدي ولأركبنَّ إليه بجندي ولأطأن عقبه.
ثم قال: يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، وإني لأشفق عليك
كشفقتي على هرون ابني، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله.
فلما طال المجلس ضجر وقال: قوموا، وحبسني، يعني عنده، وعبد الرحمن بن إسحاق يكلمني، فقال المعتصم: ويحك أجبني، فقال: ما أعرفك! ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن بن إسحاق: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والجهاد والحج معك، قال: فيقول: والله إنه لعالم، وإنه لفقيه، وما يسوؤني أن يكون معي يردَّ عني أهل الملل. ثم قال لي: ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟ قلت: قد سمعت باسمه، قال: كان مؤدبي، وكان في ذلك الوضع جالسًا، وأشار إلى ناحية من الدار، فسألته عن القرآن، فخالفنى، فأمرت به فوطىء وسحب!
ثم قال: يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، قلت: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله، فطال المجلس وقام، ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه.
فلما كان بعد المغرب وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي دؤاد، يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معى، حتى إذا كان وقت الإفطار جيء بالطعام، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل، ووجّه إليّ المعتصم ابن أبي دؤاد في بعض الليل، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟ فأرد عليه نحوًا مما كنت أرد، فقال ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في السبعة، يحيى بن معين وغيره (1)، فمحوته، ولقد ساءني أَخذهم إياك، ثم يقول: إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضربًا بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، ويقول: إن أجابني جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي، وانصرف.
(1) قال ابن الجوزي 324: " قلت: السبعة. يحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأحمد الدورقي، والقواريري، وسعدويه، وسجادة، وأحمد بن حنبل. وقيل: خلف المخزومى".
فلما أصبح جاء رسوله، فأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه، فقال لهم: ناظروه وكلموه، فجعلوا يناظروني فأرد عليهم، فإذا جاؤوا بشئ من الكلام مما ليس في الكتاب والسنة قلت: ما أدري ما هذا؟! قال: يقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجهت له الحجة علينا ثبت، وإذا كلمناه بشئ يقول لا أدري ما هذا، فقال: ناظروه.
فقال رجل: يا أحمد أراك تذكر الحديث وتنتحله، قلت: ما تقول في {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ؟ قال: خص الله بها المؤمنين، قلت: ما تقول إن كان قاتلا أو عبدًا؟ فسكت، وانما احتججت عليهم بهذا لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن، حيث قال لي أراك تنتحل الحديث احتججت بالقرآن، يعني فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزوال، فلما ضجر قال لهم: قوموا، وخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحاق، فلم يزل يكلمني، ثم قال أبي: فقام ودخل، ورددت إلى الموضع.
قال: فلما كان في الليلة الثالثة قلت: خليق أن يحدث غداً من أمري شيء، فقلت لبعض من كان معي، الموكل بي: ارتد لي خيطًا، فجاءني بخيط، فشددت به الأقياد ورددت التكة إلى سراويلي، مخافة أن يحدث من أمري شيء فأتعرّى، فلما كان من الغد في اليوم الثالث وجَّه إليَّ، فأدخلت، فإذا الدار غاصة، فجعلمت أدخل من موضع إلى موضع، وقوم معهم السيوف، وقوم معهم السياط، وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء، فلما انتهيت إليه، قال: اقعد، ثم قال: ناظروه، كلموه، فجعلوا يناظروني، ويتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأردّ عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم، فجعل بعض من على رأسه قائم يومئ إلي بيده، فلما طال المجلس نحاني ثم خلا بهم، ثم نحاهم وردني إلى عنده، فقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتى أطلق عنك بيدي، فرددت عنه نحوًا مما كنت أرد، فقال لي: عليك وذكر اللعن، وقال: خذوه واسحبوه وخلَّعوه، قال: فسحبت ثم خُلَّعت.
قال: وقد كان صار إلي شعرٌ من شعر النبي طن صلى الله عليه وسلم في كم قميصي، فوجه إلي إسحاق بن إبراهيم: ماهذا المصرور في كم قميصك؟ قلت: شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه على، فقال لهم، يعنى المعتصم: لا تخرقوه، فُنزع القميص عني، قال: فظننت أنه إنما دُرئ عن القميص الخرق بسبب الشعر الذي كان فيه، قال: وجلس المعتصم على كرسي، ثم قال: العقابين والسياط! فجيء بالعقابين، فمدت يداي، قال بعض من حضر خلفي: خذ نايَ الخشبتين بيديك وشدّ عليهما، فلم أفهم ما قال، فتخلعت يداي.
وقال محمد بن إبراهيم البوشنجى: ذكروا أن المعتصم لَايَن في أمر أحمد لما علق في العقابين، ورأى ثبوته وتصميمه وصلابته في أمره، حتى أغراه ابن أبي دؤاد، فقال له: إن تركته قيل إنك تركت مذهب المأمون وسخطت قوله، فهاجه ذلك على ضربه.
قال صالح: قال أبي. لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم وقال: ائتوني بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شد، قطع الله يدك! ثم يتنحى ويقوم الآخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد، قطع الله يدك! فلما ضربت تسعة عشر سوطًا قام إلي، يعني المعتصم: وقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق، قال: فجعل عُجيف ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاءكلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك، الخليفة على رأسك قائم! وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله! وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائم، وأنت في الشمس قائم! فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به، فرجع وجلس، وقال للجلاد: تقدم وأوجع، قطع الله يدك! ثم قام الثانية، فجعل يقول: ويحك يا أحمد، أجبني، فجعلوا يقبلون على ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائم! وجعل عبد الرحمن يقول: من صنع من
أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟ وجعل المعتصم يقول: ويحك، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئًا من كتاب الله، فيرجع، وقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد، قطع الله يدك! قال أبي: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلقت عنى، فقال لي رجل ممن حضر: إنا كببناك على وجهكِ، وطرحنا على ظهرك باريةً ودُسْناك! قال أبي: فما شعرت بذلك، وأتوني بسوِيق فقالوا لي: اشرب وتقيأ، فقلت: لا أفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت صلاة الظهر، فتقدم ابن سماعة فصلى، فلما انفتل من الصلاة قال لي: صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ فقلت: قد صلى عمروجرحه يثعبُ دمًا.
قال صالح: ثم خُلي عنه فصار إلى منزله، وكان مكثه في السجن، منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب وخُلي عنه، ثمانيةً وعشرين شهرًا. ولقد أخبرني أحد الرجلين اللذْين كانا معه، قال: يا ابن أخي، رحمة الله علي أبي عبد الله، والله ما رأيت أحدًا يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله، أنت صائم، وأنت في موضع تَقيَّة (1)، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب: ناولنى، فناوله قدحًا فيه ماء وثلجَ، فأخذه ونظر إليه
(1) التقية إنما يجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، وهؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة. أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى ويثبتون، وفى سبيل الله ما يلقون. ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية. وقد أتي المسلمون من ضعف علمائهم في مواقف الحق، لا يصدعون بما يؤمرون، يجاملون في دينهم وفى الحق، لا يجاملون الملوك والحكام فقط، بل يجاملون كل من طلبوا منه نفعَا، أو خافوا ضراً في الحقير والجليل من أمر الدنيا. وكل أمر الدنيا حقير.
فكان من ضعف المسلمين بضعف علمائهم ما نرى. ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين، فيما كتب إلى أبي رحمه الله، من خطاب سياسي عظيم، في=
هنَّيةً، ثم ردَّه ولم يشرب! فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول!
قال صالح: كنت التمس واحتال أن أوصل إليه طعامًا أو رغيفاً في تلك الأيام، فلم أقدر. وأخبرني رجل حضره: أنه تفقده في هذه الأيام الثلاثة وهم يناظرونه، فما لحن في كلمة، قال: وما ظننت أن أحداً يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه.
وقال حنبل. سمعت أبا عبد الله يقول: ذهب عقلي مرارًا، فكان إذا رفع عني الضرب رجعت إلي نفسي، وان استرخيت وسقطت رفع الضرب، أصابني ذلك مرارًا، ورأيته، يعني المعتصم، قاعدًا في الشمس بغير مظلة، فسمعته وقد أوقفت يقول لابن أبي دؤاد: لقد ارتكبت في أمر هذا الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه! فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد، فقد كان أراد تخليتي بغير ضرب فلم يدعه ولا إسحق بن إبراهيم، وعزم حينئذ على ضربي.
قال حنبل: وبلغني أن المعتصم قال لابن أبي دؤاد بعد ما ضرب أبو عبد الله: كم ضرب؟ فقال ابن أبي دؤاد: نيفًا وثلاثين، أو أربعةً وثلاثين سوطًا.
وقال أبو عبد الله: قال لي إنسان ممن كان ثم: ألقينا على صدرك بارية وأكببناك على وجهك ودسناك.
قال أبو الفضل عبيد الله الزهري: قال المروذيّ: قلت وأحمد بين الهنبارين: يا أستاذ، قال الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال: يا مروذي، اخرج انظر، فخرجت إلى رحبة دار الخليفة، فرأيت خلقًا لا يحصيهم إلا الله تعالى،
= جمادى الأولى سنة 1337، قال:"كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك، ولست أدري وقد فهموا منها ما فهموا، كيف يقولون بوجوب الجهاد، وهو إتلاف للنفس والمال؟! وكيف يفهمون تعرضه صلى الله عليه وسلم لصنوف البلاء والإيذاء!؟ ولماذا يؤمنون بكرامة الشهداء والصابرين في البأساء والضراء على الله"؟!
والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: أي شيء تعملون؟ قالوا: ننتظر ما يقول أحمد فنكتبه، فدخل إلى أحمد فأخبره، فقال يا مروذيّ، أضِل هؤلاء كلهم!؟.
قلت: هذه حكاية منقطعة لا تصح (1).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي قال: لما حمل أحمد ليضرب، جاؤوا إلى بشر بن الحرث، فقالوا: قد حمل أحمد بن حنبل، وحملت السياط، وقد وجب عليك أن تتكلم، فقال تريدون منّى مقام الأنبياء؟! ليس ذا عندي! حفظ الله أحمد بين يديه ومن خلفه!!.
وقال الحسن بن محمد بن عثمان الفسويّ: حدثني داود بن عرفة حدثنا ميمون بن الأصبغ قال: كنت ببغداد، فسمعت ضجةً، فقلت: ما هذا؟ قالوا: أحمد يمتحن، فأخذت مالاً له خطر، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس، فأدخلوني، وإذا بالسيوف قد جرّدت وبالرماح قد ركزت، وبالتراس (2) قد صففت، وبالسياط قد طرحت، فألبسوني قباءً أَسود ومنطقةً وسيفًا، ووقفوني حيث أسمع الكلام، فأتى أمير المؤمنين فجلس على كرسي، وأتي بأحمد بن حنبل، فقال له: وقرابتي من رسول الله لأضربنك بالسياط، أو تقول كما أقول (3)، ثم التفت إلى جلاد، فقال: خذه
(1) هكذا قال الذهبى. ونقلها ابن الجوزي أيضا 329 - 330 ثم قال: "هذا رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى فبذلها، كما هانت على بلال نفسه. وقد روينا عن سعيد بن المسيب: أنه كانت نفسه عليه في الله تعالى أهون من نفس ذباب. وإنما تهون أنفسهم عليهم لتلمحهم العواقب، فعيون البصائر ناظرة إلى المآل. لا إلى الحال، وشدة ابتلاء أحمد دليل على قوة دينه، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يبتلى المرء على حسب دينه فسبحان من أيده وبصره وقواه ونصره".
(2)
"التراس" بكسر التاء: جمع "ترس" بضمها وهو الذي يتوقى به من السلاح وهو معروف، ويجمع أيضاً على "أتراس" و "تروس".
(3)
هنا بهامش الأصل ما نصه: "هذه الحكاية باطلة". ولا أدرى لماذا؟!.
إليك، فأخذه، فلما ضرب سوطًا قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، فضربه تسعةً وعشرين سوطًا، وكانت تكةُ أحمد حاشية ثوب، فانقطعت فنزل السراويل إلى عانته، فقلت: الساعة ينهتك، فرمى بطرفه إلى السماء وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بقي السراويل لم ينزل، فدخلت عليه بعد سبعة أيام، فقلت: يا أبا عبد الله، رأيتك وقد انحل سراويلك فرفعت رأسك أو طرفك نحو السماء، فما قلت؟ قال: قلت: اللهم إنى أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي ستراً.
وقال جعفر بن أحمد بن فارس الأصبهاني: حدثنا أحمد بن أبي عبيد الله قال: قال أحمد بن الفرج: حضرت أحمد بن حنبل لما ضُرب، فتقدم أبو الدنّ، فضربه بضعة عشر سوطًا، فأقبل الدم من أكتافه، وكان عليه سراويل، فانقطع خيطه فنزل السراويل، فلحظته وقد حرك شفتيه، فعاد السراويل كما كان، فسألته عن ذلك؟ فقال: قلت إلهي وسيدي، وقفتني هذا الموقف فتهتكني على رؤوس الخلائق.
هذه حكاية لا تصح ولقد ساق فيها أبو نعيم الحافظ من الخرافات والكذب ما يستحى من ذكره.
وأضعف منها ما رواه أبو نعيم في الحلية: حدثنا الحسين بن محمد حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القاضى حدثني أبوعبد الله الجوهري حدثني يوسف بن يعقوب سمعت عليّ بن محمد القرشي قال: لما قدم أحمد ليضرب وجرّد وبقي في سراويله، فبينا هو يضرب انحل سراويله، فجعل! يحرك شفتيه بشئ، فرأيت يدين خرجتا من تحته وهو يضرب، فشدَّتا
السراويل، فلما فرغوا من الضرب قلنا له: ماكنت تقول؟ قال قلت: يا من لا يعلم العرشُ منه أين هو إلا هو، إن كنتُ على حق فلا تُبْد عورتي.
قلت: هذه مكذوبة ذكرتها للمعرفة، ذكرها البيهقى وما جسر على تضعيفها! ثم روى بعدها حكايةً في المحنة عن أبي مسعود البجلي إجازة عن ابن جهضم، وهو كذوب، عن النجار عن ابن أبي العوّام الرياحي، فيها من الركاكة والخبط ما لا يروج إلا على الجَّهال، وفيها أن مئزره اضطرب فحرك شفتيه، في استتم الدعاء حتى رأيت كفّا من ذهب قد خرجت من تحت مئزره بقدرة الله! فصاحت العامة.
وقال محمد بن أبي سمينة: سمعت شَابَاص التائب يقول: لقد ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطًا، لو ضربته فيلاً لهدّتْه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: قال إبراهيم بن الحرث العبادي (1): قال أبو محمد الطُّفاوي لأحمد: يا أبا عبد الله، أخبرني عما صنعوا بك؟ قال لما: ضربت جاء ذاك الطويلُ اللحية، يعني عُجيفًا، فضربنِى بقائم سيفه، فقلت: جاء الفرج، يضرب عنقي وأستريح، فقال ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه ودمه في رقبتي، قال ابن أبي دؤاد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنه إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذوه إماماً، وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه الساعة، فإن مات خارجًا عن منزلك شك الناس في أمره.
قال ابن أبي حاتم: وسمعت أبا زُرْعة يقول: دعا المعتصم بعمّ أحمد ابن حنبل، ثم قال- للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم، وهو أحمد بن حنَبل، قال:
(1) في ابن الجوزي 339: "من ولد عبادة بن الصامت". وإبراهيم هذا من كبار أصحاب الإمام أحمد، قال الخلال:"كان أبو عبد الله- يعنى أحمد- يعظم قدره ويرفعه". وهو من شيوخ أبي داود وأبي بكر الأثرم. له ترجمة في التهذيب 1: 113.
فانظروا إليه، أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم. ولولا أنه فعل ذلك لكنت أخافُ أن يقع شيء لا يقام له، قال: فلما قال قد سلمته إليكم صحيح البدن، هدأ الناس وسكنوا.
قال صالح: صارأبي إلى المنزل، ووجّه إليه من السّحَر مَن يُبصر الضربَ والجراحات ويعالجُ منها، فنظر إليه، فقال لنا: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضربًا أشدَّ من هذا، لقد جُر عليه من خلفه ومن قُدَّامه، ثم أدخلً ميلاً في بعض تلك الجراحات، وقال: لم ينقَبْ، فجعل يأتيه ويعالجه، وكان قد أصاب وجهَه غير ضربة، ثم مكث يعالجه إلى ما شاء الله، ثمِ قال: إن ها هنا شيئًا أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة فجعل يُعَلِق اللحمَ بها ويقْطعه بسكين، وهو صابر يحمد الله، فبرأ ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بيَّناً في ظهره إلى أن توفي.
وسمعت أبي يقول: والله لقد أعطيتُ المجهود من نفسي، ووددت أني أبخو من هذا الأمركفافًا لا على ولا لي.
ودخلت على أَبي يومًا، فقلت له: بلغني أن رجلاً جاء إلى فَضْل الأنماطي فقال له: اجعْلني في حل إذْ لم أقم بنصرتك، فقال فضل: لاجعلت أحدًا في حل، فتبسم أبي وسكت، فلما كان بعد أيام قال: مررت بهذه الآية {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني أبو النضْر حدثنا ابن فَضَالة المبارك حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأم بين يدي رب العالمين نودوا: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إياي، ثم جعل يقول: وما على رجل ألا يعذب الله بسببه أحدًا!.
وقال حنبل بن إسحق: لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله خلع عليه مبطنةً وقميصًا وطيلسانا وخفا وقلنسوة، فبينا نحن على باب الدار والناس في
الميدان والدروب وغيرها وأُغلقت الأسواق، إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار أبي إسحق المعتصم، وعليه تلك الثياب، وابن أبي دؤاد عن يمينه، وإسحق بن إبراهيم، يعني نائب بغداد، عن يساره، فلما صار في دهليز المعتصم قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي دؤاد: اكشفوا رأسه، فكشفوه، يعني من الطيلسان فقط، وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس، فقال لهم إسحق: خذوا به ها هنا، يريد دجلة، فذهب به إلى الزورق، وحمل إلى دار إسحق فأقام عنده إلى أن صليت الظهر، وبعث إلى أبي وإلى جيراننا ومشايخ المحالّ، فجمعوا وأدخلوا عليه، فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يعرفه، والا فليعرفه، فقال ابن سماعة حين دخل للجماعة: هذا أحمد بن حنبل، فإن أمير المؤمنين ناظر في أمره، وقد خلى سبيله، وها هو ذا، فأخرج على دابة لإسحق بن إبراهيم عند غروب الشمس، فصار إلى منزله ومعه السلطان والناس، وهو منحني، فلما ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم، فوقعت يديّ على موضع الضرب، فصاح، فنحيت يدي، فنزل متوكئًا عليّ، وأغلق الباب، ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه، لا يقدر يتحرك إلا بجهد، وخلع ما كان خلع عليه فأمر به فبيع، وأخذ ثمنه فتصدق به.
وكان المعتصم أمر إسحق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره، وذلك أنه نزل فيما حكى لنا عند الإياس منه. وبلغنا أن المعتصم ندم وأسقط في يده حتى صلح فكان صاحب الخبر إسحق يأتينا كل يوم يتعرف خبره، حتى صح، وبقيت إبهاماه متخلعتين، تضربان عليه في البرد، حتى يسخن له الماء، ولما أردنا علاجه خفنا أن يدسّ ابن أبي دؤاد سما إلى المعالج، فعملنا الدواء والمرهم في منزلنا.
وسمعته يقول: كل من ذكرني في حلّ إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحق، يعني المعتصم، في حلّ، ورأيت الله تعالى يقول: {وَلْيَعْفُوا