المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في فضل جامعة وترجمة رجال إسنادنا إليه - مسند أحمد - ت شاكر - ط دار الحديث - جـ ١

[أحمد بن حنبل]

الفصل: ‌فصل في فضل جامعة وترجمة رجال إسنادنا إليه

الفرج بن الجوزي: فيه موضوع. قال أبو العباس: ولا خلاف بين القولين عند التحقيق، فإن لفظ "الموضوع" قد يراد به المختلق المصنوع الذى يتعمد صاحبه الكذب، وهذا مما لا يعلم أن في المسند منه شيئاً، بل شرط المسند أقوى من شرط أبي داود في سننه، وقد روى أبو داود في سننه عن رجال أعرض عنهم في المسند قال: ولهذا كان الإمام أحمد في المسند لا يروي عمن يعرف أنه يكذب، مثل محمد بن سعيد المصلوب ونحوه، ولكن يروي عمن يضعَّف لسوء حفظه، فإن هذا يكتب حديثه. ويُعتضد به ويُعتبر به، قال: ويراد بالوضوع ما يعلم انتفاء خبره، وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب، بل أخطأ فيه، وهذا الضرب في المسند منه، بل وفى سنن أبي داود والنسائي، وفى صحيح مسلم والبخاري أيضاً ألفاظ في بعض الأحاديث من هذا الباب، لكن قد بيَّن البخاري حالها في نفس الصحيح: قلت: ولهذا الكلام تتمة تذكر في المسند الأحمد.

‌فصل في فضل جامعة وترجمة رجال إسنادنا إليه

أما الإمام أحمد: فهو إمام المسلمين، وأزهد الأئمة، وشيخ الإسلام، وأفضل الأعلام في عصره، وشيخ السنة، وصاحب المنَّة على الأمة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله ابن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذُهل ابن ثعلبة بن عُكابَةَ بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هِنْب بن أفْصى بن دُعْمِيّ بن جَدِيلة بن أَسَد بن ربيعة بن نِزَار بن معدّ ابن عدنان.

وقد غلط قوم فجعلوه من ولد ذُهل بن شيبان، وإنما هو من ولد شيبان

ص: 40

ابن ذُهل بن ثعلبة. وذهل بن ثعلبة هو عم ذهل بن شيبان.

وقد اجتمع أحمد والنبي صلى الله عليه وسلم في نزار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مُضريّ من ولد مُضر بن نزار، وأحمد بن حنبل ربيعيّ، من ولد ربيعة بن نزار، فهو أخو مضر بن نزار.

وكانت أم أحمد شيبانية أيضاً، واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني، من بني عامر، كان أبوه نزل بهم وتزوج بها. وكان عبد الملك بن سوادة بن هند الشيباني من وجوه بني عامر. وكان ينزل بها قبائل العرب فيضيفهم.

وولد أَحمد رضي الله عنه في العشرين من ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة ببغداد، وجيء به من مرو إلى بغداد.

وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي: إنه ولد بمرو ثم حمل إلى بغداد وهو رضيع.

وكان أبوه في زي الغزاة، وأصله من البصرة، وتوفي أبوه وله ثلاثون سنة، وأحمد طفل.

قال الإمام أحمد: لم أر جدي ولا أبي. فنشأ ببغداد وعرف فضله وهو غلام في الكتاب، فسمع من هشيم، وإبراهيم بن سعد، وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان، وعباد بن عباد، وهذه الطبقة. وسمع بالعراق والحجاز والشام واليمن.

روى عنه البخاري، وروى عن واحد عنه في صحيحه، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، [وأبو حاتم الرازيان]، وعبد الله وأخوه صالح ابناه، وخلق كثير، آخرهم أبو القاسم البغوي.

ص: 41

وأول طلبه الحديث سنة تسع وسبعين، وله ست عشر سنة. رحمة الله تعالى. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبا زرعة يقول: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، قيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت على الأبواب.

وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة أفقههم أحمد، ثم قال: لست أعلم في الإسلام مثله.

وقال ابن المديني: إن الله تعالى أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الردة، وبأحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يوم المحنة.

وقال يحيى بن معين: والله ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد بن حنبل، ليس في شرق ولا في غرب مثله.

وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: ما خلفت ببغداد أفقه ولا أورع ولا أعلم من أحمد.

وقال الحافظ الذهبي، ومن خطه نقلت: انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع، وأجمعوا على أنه ثقة حجة إمام.

وقال أيضا فيه: عالم العصر، وزاهد الوقت، ومحدث الدنيا، ومفتي العراق، وعلم السنة، وباذل نفسه في المحنة، وقل أن ترى العيون مثله، كان رأساً في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقل رزين، وصدق متين، وإخلاص مكين، وخشية ومراقبة العزيز العليم، وذكاء وفطنة، وحفظ وفهم، وسعة علم هو أجل من أن يمدح بكلمي، وأن أفوه بذكره بفمي.

قال: وكان ربعة من الرجال أسمر. وقيل: كان طويلا، يخضب بالحناء، وفي لحيته شعر أسود، ويلبس ثيابا غليظة، ويتزر ويعتم. تعلوه سكينة ووقار وخشية، رضي الله عنه.

ص: 42

قال: وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر أو حادي [عشر]، ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين. وله سبع وسبعون وعشر ليال.

وشيعه أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، حزروا بثماني مائة ألف نفس، فالله تعالى أعلم.

وأما ابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فهو الإمام الحجة، الحافظ العمدة، الذهلي الشيباني البغدادي. أحد الأعلام.

ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين. وطلب الحديث في حداثته، بل قبل ذلك. وكان أخوه صالح بن أحمد القاضي أسن منه.

وأكبر شيخ له يحيى بن عبدون من أصحاب شعبة.

روى عن قتيبة بن سعيد بالإجازة، وشيوخه يزيدون على الأربعمائة، كما تقدم. وروى عن أبيه المسند، والتفسير، والزهد، والتاريخ، والعلل، والسنة، والمسائل، وغير ذلك.

روى عنه أبو الإمام أحمد، وأبو عبد الرحمن النسائي، وابن أبي حاتم، وابن صاعد، وأبو عَوَانة ودعلج، وأبو بكر النجاد، وأبو القاسم البغوي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو علي بن الصواف، والقاضي المحاملي، وأبو الحسن أحمد بن محمد اللُنباني (1) وأبو بكر الشافعي، وأبو بكر القطيعي، وجماعة كثيرة.

وجمع وصنف، ورتب مسند أبيه وهذبه بعض التهذيب، وزاد فيه أحاديث كثيرة عن مشايخه.

(1) بضم اللام وسكون النون وبعدها باء موحدة نسبة إلى "لنبان" وهي محلة بأصبهان، كما في المشتبه للذهبي 452 - 453 ومعجم البلدان 7 - 338.

ص: 43

قال عباس الدُوري: كنت يوما عند أحمد بن حنبل. فدخل ابنه عبد الله، فقال: يا عباس، إن أبا عبد الرحمن قد وعى علما كثيرا.

وقال أبو زرعة: قال لي أحمد: ابني عبد الله محظوظ من علم الحديث، لا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ.

وقال ابن عدي. نبل عبد الله بأبيه، وله في نفسه محل من العلم، أحيا علم أبيه بمسنده الذي قرأه أبوه عليه خصوصا، قبل أن يقرأه على غيره، ولم يكتب عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه.

وقال بدر البغدادي: عبد الله بن أحمد جهبذ بن جهبذ.

وقال الخطيب البغدادي: كان ثقة ثبتا فهما.

وقال الذهبي: له من التصانيف كتاب السنة مجلد، وكتاب الجمل والوقعة مجلد، وكتاب سؤالاته أباه، وغير ذلك.

قال: ولو أنه حرر ترتيب المسند وقربه وهذبه لأتى بأسنى المقاصد، فلعل الله تبارك وتعالى أن يقيض لهذا الديوان السامي من يخدمه ويبوب عليه، ويتكلم على رجاله، ويرتب هيئته ووضعه، فإنه محتو على أكثر الحديث النبوي، وقل أن يثبت حديث إلا وهو فيه. قال: وأما الحسان فما استوعبت فيه. بل عامتها إن شاء الله تعالى فيه. وأما الغرائب وما فيه لين فروى من ذلك الأشهر، وترك الأكثر مما هو مأثور في السنن الأربعة، ومعجم الطبراني الأكبر، والأوسط، ومسندي أبي يعلى، ومسند البزار، ومسند بقي بن مخلد، وأمثال ذلك.

قال: ومن سعد مسند الإمام أحمد [أنه] قل أن تجد فيه خبرا ساقطا.

قلت: أما ترتيب هذا المسند، فقد أقام الله تعالى لترتيبه شيخنا خاتمة

ص: 44

الحفاظ الإمام الصالح الورع، أبا بكر محمد بن عبد الله بن المحب الصامت، رحمه الله تعالى، فرتبه على معجم الصحابة، ورتب الرواة كذلك، كترتيب كتاب الأطراف، تعب فيه تعباً كثيراً.

ثم إن شيخنا الإمام مؤرخ الإسلام، وحافظ الشام عماد الدين أبا الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، رحمه الله تعالى، أخذ هذا الكتاب المرتب من مؤلفه، وأضاف إليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى الموصلي، وأجهد نفسه كثيراً وتعب فيه تعباً عظيماً، فجاء لا نظير له في العالم، وأكمله إلا بعض مسند أبي هريرة، فإنه مات قبل أن يكمله، فإنه عوجل بكف بصره، وقال لي رحمه الله تعالى: لا زلت أكب فيه في الليل والسراج ينونص حتى ذهب بصري معه، ولعل الله يقيض له من يكمله، مع أنه سهل، فإن معجم الطبراني الكبير لم يكن فيه شيء من مسند أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد بلغني أن بعض فضلاء الحنابلة بدمشق اليوم رتبه على ترتيب صحيح البخاري، وهو الشيخ الإمام الصالح العالم أبو الحسن علي بن زكنون الحنبلي، جزاه الله تعالى خيراً، وأعانه على إكماله في خير، فإنه أنفع كتاب في الحديث، ولا سيما أنه عزا أحاديثه.

وأما رجال المسند: فما لم يكن في تهذيب الكمال، أفرده المحدث الحافظ شمس الدين محمد بن علي بن الحسين الحسيني، بإفادة شيخنا الحافظ أبي بكر محمد بن المحب فيما قصر، وما فاته فإني استدركته وأضفته إليه في كتاب سميته (المقصد الأحمد، في رجال مسند أحمد) وقد تَلف بعضه في الفتنة، فكتبته بعد ذلك مختصراً.

ولما مرض عبد الله رحمه الله تعالى مَرَض الوفاة، وقيل له: أين تحب أن

ص: 45

تُدْفَن؟ فقال: صحَّ عندي أن بالقطيعة نبياً مدفوناً، فلأن أكون في جوار نبي أحبُّ إليَّ من أن أكون في جوار أبي.

وتوفي رحمه الله تعالى يوم الأحد لتسع بقينَ من جمادى الآخرة، سنة تسعين ومائتين، عن سبع وسبعين سنة، كعمر أبيه، رحمه الله تعالى.

وأما القطيعي الرواي عنه، فقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي عنه: هو المحدِّث العالم المفيد الصدوق، مسند بغداد، أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمَدان، واسم حمدان، أحمد بن مالك بن شبيب بن عبد الله، البغدادي المالكي نسباً، الحنبلي مذهباً، سكن قَطِيعةَ الدقيق فنسب إليها.

ولد في المحرّم سنة أربع وسبعين ومائتين، وسمع، وهو مميز باعتناء أبيه، من محمد بن يونس الكدَيمي، وإبراهيم الحربي، وإسحق بن الحسن الحربي، وبشر بن موسى الأسدي، وعبد الله بن الإمام أحمد، وإدريس الحداد، وأبي يعلى الموصلي، وجماعة، وارتحل إلى البصرة والكوفة والموصل وواسط، وكتب وجمع، مع الصدق والدين والخبر والسنة.

حدَّث عنه الحاكمُ فأكثر، والدارقطني، وابنُ شاهين، وابن رَزْقَوَيْه، وابنُ أبي الفوراس، والقاضي الباقلاني، وأبو بكر البرقاني، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو علي بن المُذْهِبُ، وخلق، آخرُهمْ موتاً أبو محمد الجوهريّ، بقي إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة.

وكان مكثراً عن ابن الإمام أحمد، سمع منه المسندَ، والزهد، والفضائل، والتاريخ، والمسائل.

قال محمد بن الحسين بن بُكَير: سمعت القَطيعي يقول: كان عبد الله

ص: 46

ابن أحمد يجيئنا فيقرأ عليه عمُّ أبي، أبو عبد الله بن الجصَّاص، فيقعدني عبد الله في حجره، حتى يقال له: يؤلمك؟ فيقول: إني أحبه.

وقال أبو عبد الرحمن السُلَمي: سألت الدارقطني عن القَطيعي؟ فقال: ثقة زاهد قديم، سمعت أنه مجاب الدعوة.

وقال البَرقاني: ليَّنتُه عند أبي عبد الله الحاكم فأنكر عليّ، وحسن حاله، وقال: كان شيخي.

وقال الحاكم أيضاً: هو ثقة مأمون.

وقال الخطيب البغدادي: لم نر أحداً ترك الاحتجاج به.

قلت: توفي رحمه الله تعالى لسبع بقينَ من ذي الحجة سنة ثمان وستين وثلاثمائة ببغداد.

وقد اجتمع في عصره أربعة كلٌّ منهم "أحمد بن جعفر بنِ حمدان": هو رحمه الله تعالى، والثاني أحمد بن جعفر بن حمدان الدِّينوري، يروي عن عبد الله بن محمد سنان، رَوى عنه علي بن القاسم بن شاذان الرازي وغيره. والثالت أحمد بن جعفر بن حمدان بن عيسى بن زريق أبو بكر السَّقطي البصري، حدث عن عبد الله بن أحمد الدَّوْرَقي وعنه أبو نعيم الأصبهاني. والرابع أحمد بن جعفر بن حمدان الطرسوسي، يروي عن عبد الله بن جابر الطرسوسي وغيره، حدث عنه عبد الرحمن بن أبي نصر الدمشقي وغيره، ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق.

وأما الرواي عن القَطيعي وهو بن المُذهِب، فقال الحافظ الذهبي: هو المحدث العالم الواعظ المُعمَّر أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن أحمد بن وهب بن شبل بن فروة، التميمي البغدادي، ابنُ المُذْهِب.

ص: 47

ولد سنة خمس وخمسين، وسمع المسنَد وهو ابن عشر من القَطيعي، وسمع منه عدة أجزاء عالية، ومن محمد بن المظفَّر، وعلي بن لؤلؤ الورّاق، وأبي محمد بن ماسي، وأبى بكر الوراق، وأبي بكر بن شاذان، وابن شاهين، والدارقطني، وعدة. طلب بنفسه وكَتب وتنبَّه. وكان عنده الزهد أيضاً للإمام أحمد عن القَطيعي، وروى فضائل الصحابة أيضاً لأحمد وزياداته، وغيرُه أتقن منه وأعرف وأمثَلُ.

روى عنه أبو بكر الخطيب كثيراً، وأبو الفضل بن خَيْرُون، وابن مَاكُولَا الأمير، وأبو الحسين بن الطيوري، وابن الحُصين، وغيرهم.

قال الخطيب: كان يروي عن القطيعي المسند بأسره، وكان سماعه صحيحاً إلا في أجزاء منه، فإنه ألحق اسمه.

قال: وكان يروي الزهد ولم يكن به أصلٌ، إنما النسخة بخطه، وليس محلَّ الحجة، قال الذهبي عقيب هذا: لكنه في نفسه صدوق، ما هو بمتهم.

ثم قال الخطيب: وحدث بحديث عن القطيعي عن أبي شعيب الحَرّاني ما كان عنده. قال الذهبي: لعله وهم.

قال الخطيب: وكان يسألني عن أسماء جماعة فيلحق في أسمائهم أنسابَهم موصولةً، فأنهاه فلا ينتهي، قال الذهبي: هذا ترخُّص لا يسوغ.

وقال ابن نُقْطَة: ليت الخطيب نبَّه في أي مسند تلك الأجزاء التي استثنى، ولو فعل ذلك لأفاد.

قال: وقد ذكرنا أن مسنديْ فَضَالة بن عُبيد وعوف بن مالك لم يكونا في نسخة ابن المذهب، وكذلك أحاديث من مسند جابر سقطت، وقد

ص: 48

رواها الحَرّاني عن القطيعي، ثم قال: ولو كان ممن يلحق اسمه لألحق ما ذكرناه أيضاً. قال: والعجب من الخطيب يرد قولَه فعلُه، فقد يروي عنه من الزهد في مصنفاته!.

قلت: وقد وُجد بخط الحافظ المِزّيّ رحمه الله تعالى، أن ابن المذهب فاته على القَطيعي من المسند حديثُ فَضَالة بن عُبيد وعوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما، وهما من مسند الشاميين رضي الله عنهم، قال: فإن ذلك ليس عند ابن المذهب.

وقال الحافظ الذهبي: قال أبو الفضل بن خيرون، وناهيك به فضلاً وعلماً: سمعت من ابن المذهب جميعَ ما عنده، وقال: توفي في تاسع عشر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وأربعمائة.

وأما ابن الحُصَين رحمه الله تعالى، فقال الحافظ الذهبي: هو الصدر العالم الكبير المرتَضى مسنَد العراق، أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن العباس بن الحُصَين الشيباني البغدادي الكاتب، خال الوزير العادل عون الدين بن هُبيْرة.

قال: ولدتُ في رابع ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وسمع المسندَ كاملاً من ابن المذهب في أواخر سنة ست وسبع وثلاثين وأربعمائة، وسمع منه أيضاً الغَيْلانيَّات وهي أحد عشر جزءاً، ومن أبي محمد الحسين ابن المقتدر، وأبي القاسم التَّنُوخي، وأبي الطيب الطبري، وآخرين، وأملى مجالس بانتقاء ابن ناصرٍ له. قرأ عليه المسند.

وسمعه منه حفّاظ العصر وأئمته، منهم أبو الفضل بن ناصر، قرأه عليه مراراً، وأبو طاهر السّلَفِي وأبو العلاء الهَمْداني، وأبو القاسم بن عساكر،

ص: 49

وأخوه الصائن، وأبو موسى المديني، وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وقاضي القضاة أبو سعيد بن أبي عصرون، والإمام أبو الفرج بن الجوزي، وشيخ الشيوخ أبو أحمد بن سُكَينة، وعبد الله بن أبي المجد الحربي، وأبو العباس المندائي، ولاحق بن حَيْدرة ، والحسين بن أبي نصر الفارض، وعمر بن جُرَيرة (1)، ومبارك بن مختار، والقاضي عبيد الله بن محمد الساوي، وأبو محمد بن الخشاب النحوي، وأبو محمد بن شدقيني، وعلي ابن محمد الخوي الواعِظ، وعبد الله بن أحمد العمري، وأبو علي حنبل بن عبد الله الرصافي، وروى عنه خلق، منهم أبو حفص عمر بن طَبَرْزَدَ.

قال أبو سعد السمعاني: ثقة دين صحيحُ السماع، واسمع الرواية، تَفَرَّد وازدحَموا عليه. وممن أخذ عنه مَعمر بن الفاخر، وابن عساكر، وعدة. وكانوا يصفونه بالسداد والأمانة والخيرية.

وقال ابن الجوزي: كان ثقة.

ومات في رابع عشر شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب حربٍ، قريباً من بشر الحافي رحمهما الله تعالى.

وأما حنبل رحمه الله تعالى. فهو المسند المعمِر الصالح الخير مسنُد العراق، أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سَعادة الواسطي البغدادي الرَّصافي المُكَبِّر.

(1) هكذا بالأصل والذي في المشتبه للذهبي 106 أن "جريرة" بالتصغير: لقب عمر بن محمد القطان. وذكر أنه مات سنة 600.

ص: 50

وُلد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، ولما ولد بادر والده إلى شيخ الإسلام عبد القادر الكيلاني فأعلمه أنه وُلد له ولدٌ ذَكر، فقال له: سم ابنك حنبلاً وأسمعه المسند، فإنه يُعَمَّر ويُحتاج إليه. قال الذهبي: فكانت هذه من كرامات الشيخ رحمه الله تعالى.

فسمَّعه أبوه وعُمْره اثنتا عشرة سنة جميعَ المسند من ابن الحُصَين بقراءة نحوي [عصره] أبي محمد بن الخشاب، في شهر رجب وشعبان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، قراءةً بليغةً محررة، ما حُفظ عليه فيها لحنةٌ، وكان والده عبداً صالحاً، قد وقف نفسه على السعي في مصالح المسلمين، والمشي في حوائجهم، ويحرض على تجهيز موتى الطرق، ويُعين الملهوف.

ثم قال الحافظ المجوّد أبو الطاهر بن الأنماطي فيما قرأتُ بخطه: تتبعت سماعَ حنبل للمسند من عدة نسخ وأثباتٍ، وخطوط أئمة أثباتٍ، إلى أن شاهدت بها أصول سماعه لجميع المسند، سوى أجزاء من أول مسند ابنِ عباس، شاهدت بها نقلَ سماعه بخطّ من يؤثق به، وسمعت منه جميع المسند ببغداد، في نيف وعشرين مجلساً، ثم أخذتُ أرغبه في السفر إلى الشأم، وقلت له: يحصل لك من الدنيا شيء، وتقبلُ عليك وجوه الناس، فقال: دعني، فوالله ما أُسافر من أجلهم، ولا لما يحصل منهم، إنما أسافر خدمةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أروي أحادثه في بلدٍ لا ترْوَى. قال: ولما علم الله تعالى نيته الصالحة، أقبل بوجوه الناس عليه، وحرَّك الهممَ للسماع عليه، فاجتمع عليه جماعةٌ ما اجتمعوا بمجلس بدمشق.

ص: 51

قلت: [وذلك] في مجالس، آخرها في صفر سنة ثلاث وستمائة.

قال: فحدث بالمسند بالبلدة مرة، وبالجامع المظفرَّى أخرى، وازدحم عليه الخلقُ وسمع منه السلطانُ الملكُ المعظَّم وأقاربهُ، وأبو عمر الزاهد، وسائر المقادسة، وحدّث عنه الكبار بالمسند، كالشيخ الفقيه ببعلبك، وقاضي الحنفية شمس الدين عبد الله بن عطاء، والشيخ تقي الدين بن أبي اليسر، والشيخ شمس الدين بن قدامة، والشيخ شمس الدين أبي الغنائم بن غلان، والشيخ أبي العباس بن شيبان، والشيخ فخر الدين بن البخاري، والمرأة الصالحة زينب بنت مَكّي.

وأما من حدث عنه ببعض المسند فعدد كثير، كالكمال عبد الرحيم بن عبد الملك، وأبي بكر بن محمد الهروي، وابن البخاري، وابن خليل، وابن الدَّبِيثي، وخطيب مراد، والشيخ الضياء، وأبي علي البكري، ويعقوب بن المعتمد، وعبد الوهاب بن محمد.

ورجع إلى وطنه، فمر على حلب، فحدَّث المسند بها، ثم بالموصل، فحدَّث بالمسند بها أيضاً، وبإِرْبِلَ، ودخل إلى بغداد بخير كثير.

فتوفي بالرصافة في نصف المحرم سنة أربع وستمائة، عن نحو ثلاث وتسعين سنة، رحمه الله تعالى.

وأما ابن البخاري رحمه الله تعالى: فهو الشيخ الإمام العالم المحدّث، الفقيه الصالح، الثقة الأمين، علي فخر الدين أبو الحسن بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، السعدي المقدسي الحنبلي، الشهير بابن البخاري، لأن أباه شمس الدين أحمد توجه إلى بخارى وتفقه بها.

ص: 52

ولد الشيخ فخر الدين في آخر يوم من سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وأجازه في سنة ست وتسعين خلق، وكتبوا له بالإجازة من خراسان، وفارس وأصبهان، وبغداد، ومصر والشام، وغير ذلك.

ذكره شيخنا الحافظ تقي الدين أبو المعالي محمد بن رافع السلامي في ذيله على تاريخ بغداد، ومن خطه نقلت، فقال:

أبو الحسن بن أبي العباس الصالحي، الملقب فخر الدين بن شمس الدين الحنبلي، المعروف بابن البخاري.

سمع من أبي حفص عمربن محمد بن طَبَرْزَد، وحنبل بن عبد الله الرصافي، وزيد بن الحسن الكندي، والخضر بن كامل بن سالم بن سُبيع، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن البنّاء. والقاضي أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الحَرَسْتَاني، وداود بن أحمد بن مُلَاعب، وأبي الفتوح محمد بن علي بن الجلاجلي، ومحمد بن عمرون البكري، وأبي المحاسن محمد بن كامل بن أسد التنوخي، وأبي الحرم مكي بن ريان الماكسيني، وعبد المجيد بن زهير الحربي، وأبي المعالي محمد بن وهب بن الزنف، وأبي الحسين غالب بن عبد الخالق الحنفي، وأبي مسعود عبد الجليل بن مَنْدويه الأجهاني، وأبي العباس هبة الله بن أحمد الكعفي، وأبي المعالي أسعد، وأبي محمد عبد الوهاب بن المنجا التنوخي، وأبي القاسم أحمد بن عبد الله العطار، وأبي الفضل أحمد بن محمد بن سيدهم، وأبي محمد هبة الله بن الخضر بن طاوس، وأبي المجد محمد بن الحسين القزويني، وأبي عمر محمد، وأبي محمد عبد الله، ابني أحمد بن قدامة، وست الكتبة نعمة بنت الطراح، وأم الفضل زينب بنت إبراهيم القيسية.

وببغداد من أبي الفضل عبد السلام بن عبد الله الدَّاهري، وأبي حفص عمر بن كرم الدينوري، وغيرهم.

ص: 53

وبيت المقدس من الحسن بن أحمد الأوقي، وعمر بن بدر بن سعيد الموصلي. وبمصر من أبي البركات عبد القوي بن الحباب، والحسين بن يحيى بن أبي الرواد. وبالقاهرة من مرتضى بن العفيف.

وبالإسكندرية من ظافر بن طاهر بن شحم، وجعفر بن علي الهمداني، والحسين بن يوسف الشاطبي، وعبد الوهاب بن رواح، وعبد الرحمن بن مكي سبط السلفي. وبحلب من يوسف بن خليل، وعمربن سعيد بن مخمش.

وأجاز له من أصبهان أبو المكارم أحمد بن محمد اللبان، وأبو جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني، وغيرهما.

ومن بغداد أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ويوسف بن المبارك الخفاف، وهبة الله بن السبط، وعبد الله بن دَهبل بن كارة، والمبارك ابن العطوش، وضياء بن الخرَيف، وعبد الرحمن بن أبي ياسر من ملاح الشط، في آخرين. ومن دمشق بركات الخشوعي.

وحدَّثَ، سمع منه الحفاظ سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، سمع عليه الحافظ رشيد الدين علي بن يحيى العطار، وسمع منه المنذري عبد العظيم، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وأبو محمد الحارثي، وأبو الحجاج المِزِّي، وأبو محمد الحلبي، والبرزالي، وأبو الحسن بن علي بن العطار، والشيخ تقي الدين بن تيمية، وأبو الحسن علي بن حسن الأموري، وصالح بن مختار الأسنوي، وأبو محمد عبد العزيز البغدادي، وأبو عمر نصر الله، وابنا عمّي وهب وهمام ابني مُنَبه، وابن عمِّي الآخر شافع بن محمد، وأبو الفضل عبد الأحد بن سعد الله بن نجيح الحراني، وأبو إسحق إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الحق الحنفي، وعبد الكريم بن عبد النور الحلبي، وأحمد بن يعقوب بن أحمد الصابوني، ووالده، وقاضي القضاة عز الدين

ص: 54

محمد بن سليمان بن حمزة، والقاضي شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن النقيب.

قال: فذكره الفرضي في معجمه، ونقلته من خطه فقال: نزيل سفح قاسِيُون، كان شيخاً عالماً، فقيهاً زاهداً، عابداً مسنداً، مكثراً وقوراً، صبوراً على قراءة الحديث، مكرماً للطلبة؛ ملازماً لبيته، مواظباً على العبادة، وكان من بيت العلم والحديث، والرواية والتحديث، وكان مسند عصره، ورحلة الدنيا في زمانه، قد ألحق الأصاغر بالأكابر، والأحفاد بالأجداد، قد حدَّث نحواً من ستين سنة، وتفرد بالرواية عن شيوخ كثيرة، سماعاً وإجازة. انتهى، أي كلام الفرضي.

ثم قال شيخنا ابن رافع: وخرج له الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهري معجماً، وحدَّث به مراراً، وحفظ المقنِع، وعرضه على مصنفه الشيخ موفق الدين بن قدامة سنة ست عشرة وستمائة، وتفقه واشتغل، وكان فاضلاً صالحاً، كامل العقل متين الديانة، مكرماً لأهل الحديث، يحفظ كثيراً من الأحاديث، والنوادر، والملح والطرف، وتفرد بأكثر مسموعاته وإجازاته، وهو آخر من حدث عن ابن طبرزد بالسماع. انتهى ما نقلته من خط شيخنا ابن رافع.

قلت: وقد قريء عليه المسند مرات، آخرها في سنة تسع وثمانين وستمائة، سمعه منه جماعات، بقراءة الإمام كمال الدين أحمد بن أحمد ابن محمد بن الشريشي منهم شيختنا أم محمد ست العرب بنت محمد ابنة حاضرة في الرابعة، وآخرهم شيخنا صلاح الدين محمد بن أحمد المدكور، وسمع منه غير ذلك جميع مشيخته التي خرجها الظاهري، وكتاب الشمائل للترمذي، وسمع منه غير ذلك.

ولا زال يحدِّث حتى توفي يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الآخر ستة تسعين

ص: 55

وستمائة، بجبل قاسيون، ودفن من يومه بسفحه، بظاهر دمشق، عند قبر والده رحمهما الله تعالى.

وأما شيخنا صلاح الدين رحمه الله تعالى: فهو الشيخ الصالح الصدوق الديّن الخيّر، المسند، رحلة الآفاق، ومسند الدنيا على الإطلاق، أبو عبد الله، ويقال أبو عمر، محمد بن الشيخ العالم الصالح الأصيل تقي الدين أبي العباس أحمد، بن الشيخ العالم عز الدين أبي إسحق إبراهيم، بن الشيخ الجليل الصالح شرف الدين أبي محمد عبد الله، بن شيخ الإسلام أبى عمر محمد بن أحمد بن قُدَامة بن نصر الله المقدسي الحنبلي.

فإنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وستمائة وربما كُتب سنة أربع، وهو غلط، واعتني به من الصغر، فأسمعوه الكثير من الشيخ فخر الدين بن البخاري، وسمع أيضاً من الشيخ تقي الدين إبراهيم بن فضل الواسطي، وأخيه محمد، وشمس الدين محمد بن الكمال عبد الرحيم بن عبد الواحد المقدسي، والشيخ تقي الدين أحمد بن مؤمن الصوري، وعيسي بن أبي محمد المَغَازي، والعز إسماعيل بن الفراء وغيرهم، وخرَّج له الشيخ صدر الدين سليمان الياسوفي مشيخة عن شيوخ السماع، قرأتها عليه، وأجاز له النجم أبو الفتح يوسف بن المجاور، وعبد الرحمن بن الزمن، وزينب بنت مكي، وزينب بنت العلم، وغيرهم، وحدث بأكثر مسموعاته.

وكان رحمه الله عبداً خاشعاً ناسكاً، من بيت الرواية والعلم والصلاح، حدث هو وأخوه وأبوه وجده وجد أبيه وجد جده، رحمهم الله تعالى، سريع الدمعة إذا قريء عليه الحديث، حسن الإصغاء إلى السماع.

أمَّ بمدرسة أبي جده أبي عمر بالسفح أكثرَ من ستين سنة، وأسمَعَ

ص: 56

الحديث نحو خمسين سنة، سمع منه الأئمة والحفاظ وغيرهم.

صحبتُه وترددتُ إليه من سنة سبعين وسبعمائة، أسمع عليه الحديث، فلم أترك شيئاً من مسموعاته فيما علمت إلا قرأته أو سمعته عليه، وقرأتُ عليه أيضاً كثيراً من مروياته بالإجازة، وانتقيت عليه أحاديث من المعجم الكبير للطبراني فقرأتها عليه.

وكان أولاً عسراً في الإسماع، ثم إنه صار متصدياً للإسماع ليلاً ونهاراً، لا يردُّ من يقصده للسماع في وقت من الأوقات، ومتِّع بسمعه وبصره وعقله إلى أن توفي.

أخذت عنه المسند كاملاً بقراءتي وقراءة غيري في نحو سبع سنين، وسببه أن نسخةَ أصل سماعه كانت بخط الحافظ الضياء رحمه الله تعالى، فوُجد بعضها، وكان شيخنا الحافظ الكبير شمس الدين أبو بكر بن المحب يحرّضنا على سماع المسند منه، ويقول: لا تشكُّوا في أنه سمعه كاملاً على ابن البخاري، فبادروا إلى سماعه كاملاً، فكنا نقرؤه من نسخة وقف الباذرائية، لوضوحها، وكان بعضُ المحدثين قد احتاط عليها، ولا يعطي منها شيئاً إلا بعد تعب كثير، فطالت المدة لذلك.

وسمعه أيضاً كاملاً الشيخ صدر الدين سليمان الياسوفي، والشيخ بدر الدين محمد بن مكتوم، والشيخ شهاب الدين أحمد بن شيخنا عماد الدين ابن الحسباني، والشيخ شهاب الدين أحمد بن الشيخ علاء حجي، والمحدث شمس الدين محمد بن محمود بن إسحق الحلبي، والشيخ الإمام ناصر الدين محمد بن عشائر الحلبي، والشيخ جمال الدين محمد بن ظهيرة المكي، وصاحبنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن ميمون البلوي الأندلسي، والفقيه الفاضل شمس الدين محمد بن عثمان بن سعد بن السقّا المالكي وغيرهم. وسمع بعضه عليه جماعة كثيرون.

ص: 57

ولم يظهر سماعه بالمجلد الثاني من مسند أبي هريرة، ولا بمسند عبد الله ابن عمرو بن العاص، وفي آخره مسند أبي رمثة نحو ثلاثة أوراق. ولا بمسند الكوفيين، ومسند ابن مسعود، ومسند ابن عمر، ومسند الشاميين، ومسند المكيين، والمدنيين، لعدم وقوفنا على ذلك من نسخة الحافظ الضياء، فكنا نقرأ عليه ذلك إجازة، إن لم يكن سماعاً.

فظهر قبل موته مجلدان من ذلك بخط الحافظ الضياء، وفيهما أصل سماعه فقال لنا الحافظ ابنُ المحبّ: ألم أقل لكم إنه سمع جميعَ المسند؟!.

ثم بعد وفاة الشيخ صلاح الدين ظهر تتمة المسند بخط الحافظ الضياء، وظهر سماعه، فسرّ طلبة الحديث بذلك، فقلنا لشيخنا الحافظ أبي بكر بن المحب: هل في الإخبار نقول "إجازةً إن لم يكن سماعا ثم ظهر سماعه"؟ فقال: لا يحتاج، هكذا وقع في سنن ابن ماجة لأبي زرعة طاهر بن الحافظ أبي طاهر محمد المقدسي، فأفتى المعتبرون من الحافظ أنه لا يحتاج.

ومن العجب أن مثل هذا الشيخ يروي مثل المسند الجليل، الذي لم يكن على وجه الأرض حديث أعلى منه، ولم يكن في همة حكام الزمان ولا رؤسائهم أن يجمعوا على إسماعه جماعةً من الشباب والصبيان والصغار، لينتفع الناس به كما انتفع من قبلهم بمن مضى، حتى وصل إلينا بهذا العلو، ولكن قصرتِ الهمم، وتغيرت الأحوال، وقرب الزمان، فلذلك لا أعلم بوجه الأرض من يروي هذا المسندَ العظيم، عن هذا الشيخ الجليل غيري، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وإني إن سموت ببعض علم

وإن قالوا: فلان حاز فضلَا

وإن علَّيتُ إسناداً فقولوا:

لعمر أبيك ما نسب المعلَّى

ص: 58

توفي شيخنا صلاح الدين الإمام المذكور يوم السبت رابع عشر شوال سنة ثمانين وسبعمائة بمنزله، بدير الحنابلة بالسفح، ودفن يوم الأحد بروضة جده الشيخ أبى عمر من سفح قاسيون، ونزل الحديث بموته درجة.

ومن طرف الحديث، وظرف أهل التحديث، ما ذَكرته في كتابي (البداية في علوم الرواية) في نوع السابق واللاحق، أن الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري روى عن ابن البخاري، وذكره في معجم شيوخه، وتوفي سنة ست وخمسين وستمائة، وروى عن ابن البخاري شيخنا صلاحُ الدين المذكور، وتوفي سنة ثمانين وسبعمائة، وبين وفاتيهما مائة وأربع وعشرون سنة.

ص: 59

وأنشد المصنف رحمه الله تعالى لنفسه في التاريخ المذكور:

حديثُ النبيِّ المصطفى خير مسند

وسنتهُ الغراء أرفعُ مسندِ

فطوبى لمن أضحى الحديث شعارَه

وبُشرى لمن أمسى بالأخيار يقتدي

ويا فَوزَ من بات النبيُّ سميره

ومن نوره في ظلمة الجهل يهتدي

وإن كتابَ المسند البحر للرضىَ

فتى حنبل للدين آيةُ مُسنِدِ

حَوى من حديث المصطفى كل جوهر

وجمَّع فيه كلّ درٍّ منضَّدِ

فما من صحيح كالبخاريّ جامعاً

ولا مسندٍ يُلفي كمسند أحمد

إمامُ هدى للناس أفضل مُقتدى

شديدٍ كبيرٍ للخلائق مُرشد

هو الصابر الأوّاه في مِحَنٍ دَهَتْ

له الِمنة العظمى على كل مهتدي

ويكفيه مدحُ الشافعي وثناؤُه

فسبحانَ من قد خصه بالتفرّدِ

لقد طاف في الأقطار شرقاً ومغرباً

وجابَ الفيافي فَدْفداً بعد فدفد

فأشياخُه فيه زُهاء ثلاثةٍ

مئينَ، سوى ما لابنه فيه مسندِ

ونحو ثمان من مئينَ صحابةٍ

حواه كما حققتُ هذا بمسند

فأبرز هذا البحر من سَبع مايةٍ

ألوفاً أحاديثاً بغير تأوُّد

فجاء إماماً حجةً يُقتدى به

إذا اختلفوا في سنة فبه اقْتد

وأعلى حديثٍ في الزمان مصحَّح

بعدل رضًى عن مسند بعد مسند

وإني بحول الله أرويه عالياً

تماماً، وفي الدنيا بذاك تَفَرُّدي

سماعاً لبعض ثم بعض قراءةً

على شيخي الخير الصلاح محمد

عن ابن البخاري عن رواية حنبل

فعن هبة الله الرئيس المسوَّد

عن الحسن بن المذهِب انقل عن أحمد بـ

نِ حمدان عن حبر إمام مسدَّد

ص: 60

وذلك عبد الله نجلُ ابن حنبل

وذا عن أبيه شيخ الاسلام أحمد

فبيني وبين الشيخ سبعة أنفسٍ

عدول إذا ما رمْتهم بتعدد

أجزت لكل العسامعين وقارئٍ

رواية ما أروي بغير تردد

ومالي من نظم ونثر وكل ما

جمعتُ وما صنفتُ في كل مقصد

فيا قارئًا هذا الكتاب وسامعًا

ألا فاشكر الرحمنَ ربك واحمد

لتوفيقه أن كان في يوم ختمه

بذا الحرم الزاكي الشريف الممجد

وحاديَ عشر الشهر ليلةَ مولد الب

بي فأسعِدْ يومَ عيد ومولد

عليه صلاة الله ثم سلامه

وآلٍ له والصحب أفضلِ من هُدي

إلهىَ يا ألله يا خيرَ راحم

وأعظمَ مأمولَ وأكرمَ مسعِد

أنلنا من الغفران والعفو سؤلنا

وبالخير فاختم يا إلهي وسيدي

وأبق لنا السلطانَ الاشرف واحْفظن

وسخَر له مُلْكَ البلاد وخلد

ووفقه للخيرات وانصر جيوشَه

وهنئه بالملك الشريف وأِيدّ

وأصلح ولاةَ السلمين جميعَهم

ووفقهم سُبْلَ الرشاد وسدد

إلهي وارحم كل من هو حاضر

ومن غاب أيضًا فاعف [عنه] وأسعد

وما كان من حاجاتنا فاقضه لنا

وخطناَ: وجُدْ وانصر وسلمْ وأيد

وقد قاله العبدُ الفقير محمدٌ

فَتى الجَزري السائل العفوَ في غد

ص: 61

تم المصعد الأحمد بحمد الله وعونه وتوفيقه، على يد معلقه لنفسه الفقير إلى الله تعالى العلي، عبد المنعم بن على بن مفلح الحنبلي، عفا الله عنهم بمنه وكرمه، في الرابع والعشرين من ذى القعدة الحرام، من شهور سنة خمس وتسعين وثمان مائة، أحسن الله تقضيها في خير وعافية، بمحمد وآله، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا دائمًا.

ثم في آخره مانصه:

عن خط المصنف ما صورته:

الحمد لله وسلامه على عباده الذين اصطفى.

وبعد: فقد قرأ علي الشيخ الإمام العالم المحدّث، المخرج المفيد، تقي الدين، شرف المحدثين، أوحد الناقلين، أبوِ الفضل محمد بن محمد بن فهر الهاشمي المكي، نفع الله بفوائده، جميع مسند الإمام المعظم المبجل، أزهد الأئمة، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، رحمه الله تعالى ورضي عنه، وسمعه بقراءته جم غفير، وخلق كثير منهم أولاده أبو بكر وعمر وأم هانئ وأم البنين، وحضر ابنهُ عثمان من أول حديث حذيفة بن اليمَاني إلى آخر مسند الأنصار، وجميعَ مسند أنس بن مالك الأنصاري، وجميع مسند أبي هريرة، ومسند عبد الله بن مسعود، ومسند عبد الله بن عمر، ومسند بني هاشم، ومسند ابن عباس، ومسند البصريين، في آخر الثانية، حسبما ضبطه أبوه له، وأخبرني به، صحّ في مجالس، آخرها يوم الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ثمان وِعشرين وثماني مئة بالمسجد الحرام، وقد أجزت لهم رواية ذلك عني وجميع ما يجوز لي روايته بشرطه، وكذلك لمن سمعه

ص: 62

معهم، أو بعضه، أوحضره أو بعضَه، ويَتَلفظ بذلك، إجازة معينٍ لمعينٍ.

قاله وكتبه محمد بن محمد بن محمد بن الجزري، عفا الله عنهم، حامدًا ومصليًا، في التاريخ المذكور، بالمسجد الحرام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وسمع أيضاً هو وأولاده المذكورون جميع هذا الجزء المسمى: (المصعد الأحمد في ختم مسند أحمد) بقراءته، وجميعَ القصيدة الدالية التى هي من نظمي، بقراءة شهاب الدين يوسف بن الحسين الحَصْكفي، المقرئ بالحرم الشريف، وصح ذلك في التاريخ المذكور بالحرم الشريف، وأجزتهم أجمعين، كتبه محمد الجزري لطف الله به. انهى صورة خط الحافظ العلامة ابن الجزري.

ص: 63