الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تمهيد]
تمهيد التوازن والاعتدال ظاهرة كونية وحقيقة شرعية لا مراء في ذلك.
أما التوازن الكوني فيقول سبحانه:. . {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3](1) .
وأما التوازن الشرعي، أي في أحكام الله وتشريعاته، فيقول الحق تعالى:. . {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153](2) .
ومن لوازم الاستقامة التوازن.
ودين الإسلام دين وسط معتدل في كل أحكامه وتشريعاته: العقدية، والعبادية، والخلقية، والمعاملات، والعلاقات.
ففي الحديث: «إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه» (3) .
ونجد الإسلام يحث على التزام المنهج الوسط المتزن في أدلة كثيرة عامة وخاصة.
فمن النصوص العامة الداعية إلى التوسط:
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77](4) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم هدياً قاصداً، عليكم هديا قاصداً، عليكم هدياً قاصداً» (5) أي طريقا معتدلاً.
وقوله: «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين
(1) الملك: 3.
(2)
الأنعام 153.
(3)
رواه البخاري في صحيحه، ك: الصوم - الباب 51. وهو من كلام سلمان الفارسي وصدقه الرسول صلى الله عليه وسلم.
(4)
المائدة: 77.
(5)
رواه الإمام أحمد في المسند: 5 / 350، والحاكم: 1 / 312، وصححه وأقره الذهبي. قال الهيثمي: ورجال أحمد موثقون (مجمع الزوائد 1 / 62) .
جزءاً من النبوة» (1) .
ومدحت الأمة المسلمة بالوسطية، فقال عز من قائل:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143](2) .
ومن النصوص الخاصة بموضوع البحث:
ما جاء في الحث على الاقتصاد في المعيشة.
كحديث: «ما عال من اقتصد» (3) .
أي ما افتقر من أنفق قصداً ولم يتجاوز إلى الإسراف، أو ما جار ولا جاوز الحد (4) .
وحديث: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» (5) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في النفقة: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67](6) .
وحديث: «كلوا واشربوا وتصدقوا ما لم يخالطه إسراف ولا مخيلة» (7) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في الأكل والشرب. . .
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31](8) .
ما جاء في النهي عن الإسراف في استعمال الماء.
(1) رواه الترمذي في سننه، ك: البر والصلة - الباب 66، وقال: حديث حسن غريب.
(2)
البقرة: 143.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند: 1 / 447. وقد ضعف الشيخ أحمد شاكر سنده (انظر: المسند بتحقيقه 6 / 134، دار المعارف بمصر) .
(4)
انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 5 / 550.
(5)
رواه الإمام أحمد في المسند: 5 / 194. قال المناوي في فيض القدير 6 / 20: وسنده لا بأس به.
(6)
الفرقان: 67.
(7)
رواه الإمام أحمد في المسند: 2 / 181. قال المنذري في الترغيب والترهيب: 3 / 142: ورواته ثقات يحتج بهم في الصحيح.
(8)
الأعراف: 31.
كحديث: «لا تسرف وإن كنت على نهر جار» (1) .
ما جاء في النهي عن إضاعة المال.
كقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5](2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «. . . وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (3) .
كل ذلك ونظائره يؤكد حقيقة (وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه في كل أحكامه وتشريعاته) .
وبذلك تستقيم حياة الإنسان الطبيعية والتكليفية، فلا تضطرب ولا تصاب بالكلل والملل!! . فالمقصود من الطاعات هو استقامة النفس ودفع اعوجاجها لا الإحصاء فإنه متعذر. . .!! (4) .
وذلك ما يتلاءم مع العقول المستقيمة.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
" خير الأمة النمط الأوسط، يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي "(5) .
ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه (ت 32 هـ) : " حسن التقدير في المعيشة أفضل من نصف الكسب "(6) .
(1) رواه الإمام أحمد في المسند: 2 / 221 وابن ماجه في السنن، ك: الطهارة - الباب 48، وفيه ضعف (ينظر: مشكاة المصابيح: ح / 427 الحاشية رقم (3) . ".
(2)
النساء: 5.
(3)
رواه البخاري في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة، ك: الاستقراض - الباب 19.
(4)
حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 54 راجعه محمد شريف سكر. دار إحياء العلوم / بيروت.
(5)
عيون الأخبار - لابن قتيبة - المجلد الأول 3 / 326.
(6)
المرجع نفسه ص331.
وقد جاء في أمثال العرب: " لا تكن حلوا فتسترط ولا مراً فتلفظ "(1) وقولهم: " خير الأمور أوساطها "(2) .
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ويقول الآخر:
كن في أمورك كلها متوسطا
…
عدلا بلا نقص ولا رجحان
نعم إن الإسلام دين التوازن والوسطية، ودين الاعتدال والاستقامة، وذلك ما يتفق مع الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فإن أخذ الإنسان بهذا المنهج استقام أوده، وانتظمت حياته.
وإن عدل عنه يمنة أو يسرة عصفت به الأهواء في كل واد، واختل - من ثم - نظام حياته.
والمال - وهو عصب الحياة وقوام الأبدان - لا بد أن يتعامل معه الإنسان بالمنهج نفسه دون إفراط أو تفريط ولا إسراف ولا تقتير، ليكون مصدر سعادة للإنسان، ووسيلة خير للوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة، فإن هو حاد عنه صار المال عليه وبالاً وبيلاً (3) .
إذا عرف ذلك فإن اكتساب الحلال الطيب وإنفاقه في المباحات بطريقة معتدلة أمر جائز لا غبار عليه، كما أشرنا في المقدمة، بل إن التوسع في ذلك مما يجوز شرعا ما لم يصل إلى حد السرف، لما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن
(1) المرجع نفسه: 328.
(2)
مجتمع الأمثال للميداني: 1 / 430.
(3)
ينظر في هذا: السياسة الاقتصادية الإسلامية لترشيد الاستهلاك الفردي للسلع والخدمات. للدكتور بيلي إبراهيم العليمي - بحث في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. العدد 24 - رجب. شعبان. رمضان 1415هـ - ص179 فما بعدها.
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» (1) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ت 23 هـ) : " إذا وسّع عليكم فأوسعوا "(2) وقد كان كثير من السلف على هذا المنهج، ولم يتحرجوا إلا عن الشبهات.
(1) رواه مسلم في صحيحه، ك: الإيمان - ح / 147.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، ك: الصلاة - الباب 9.